الاثنين، 28 مارس 2016

تحرير التعليم .. دعوة «باولو فريري» للقضاء على «التعليم البنكي»






تتردد كل مرة  الصيحة المعيارية للمعلم البرازيلي الأشهر باولو فريري (Paulo Freire ): لايوجد تعليم محايد ، بل تعليم يقهر، أو آخر يحرر. فقبل 16 عاماً ، وفي شهر مايو ، رحل فريري الذي وضع قضية التربية والتعليم في العالم الثالث على طاولة النقاش العالمي، حين نادى بالأخذ بالتعليم النقدي (الإشكالي) بدلاً عن ذلك الذي يزيد في تبعية الشعوب.
يقول «باولو فريري»: «إن قرار تعليم الشعب القراءة والكتاب هو نفسه قرار سياسي. ومهما يحدث فإنه يجب علينا أن نحذر من التلميحات التي تقال بذكاء أحياناً وخبث أحياناً لإقناعنا بأن تعليم القراءة والكتابة عمل فني محض ولا يجوز خلطه بالسياسة. ذلك أن تعليم القراءة والكتابة لا يمكن أن يكون عملاً حياديًا. فكل ضرب من التعليم يقتضي بطبيعته أن يكون له قصد سياسي».
لعل أهم ما يميز هذه النظرية أنها جاءت تعبيرًا عن أوضاع المجتمعات في العالم الثالث وقدمت تفسيرًا لما يعانونه من (الفقر والتبعية والقهر والجهل) ومن ثم استهدفت تمكين شعوب العالم الثالث من تجاوز  التخلف عن طريق التربية التي تنظر إلى التحرير وليس التبعية فهذه النظرية جعلت من «التحرير التربوي» وسيلة لتحرير المجتمع من مشاكله الاجتماعية.

من رحم المعاناة
ولد باولو فريري سنة 1921م في مدينة رصيفي في البرازيل. وهي في ذلك الوقت من أبشع مراكز الفقر في العالم الثالث. تتركز فيها خصائص النموذج البرازيلي في التنمية ومشكلاته، فهي مركز صناعي هام، وموطن حركة عمالية قوية، ومسرح اضطرابات ومصادمات دامية بين الجماهير والسلطات الدكتاتورية الحاكمة. وهو ينتمي إلى أسرة متوسطة الحال، أوقعتها الأزمة الاقتصادية في الفقر، مما جعله يعاني الجوع، ويقسم على أن يكرس حياته لمحاربة الفقر والقهر السائدين في مجتمعه. حصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة رصيفي سنة 1959م، وعمل فيها أستاذًا لتاريخ وفلسفة التربية ،حتى وفاته في الثاني من مايو عام 1997م.
نسج باولو فريري فلسفته التربوية من خيوط متنوعة: من الدراسة النظرية التي تأثرت بكتابات الثوار والراديكاليين ومن الممارسة العملية في تدريس التربية والعمل في مشروعات تعليم الكبار ومحو الأمية لمدة تزيد على خمسة عشر عامًا في المناطق الحضرية والريفية في البرازيل. ومن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة السائدة بين الجماهير، انخفاض مستوى الوعي، وسيادة الجهل. ومن الأوضاع السياسية  سيطرة الدكتاتورية في الداخل والتبعية للخارج. ثم من الأوضاع التعليمية السيئة، حيث وجد في البرازيل في الستينيات أربعة ملايين طفل في سن التعليم خارج المدارس، وستة عشر مليون أمي من البالغين.
فلسفة لم تأت نتيجة للتفكير والدراسة فقط، بل ترجع جذورها إلى مواقف محددة وهي - كما يقول - ليست فلسفة وضعت في صورة نهائية، بل هي قابلة للتعديل والإضافة مع استمرار التفكير والدراسة والممارسة العملية.
فلسفة باولو فريري ،بالتالي، لم تأت فقط من التفكير والدراسة والتنظير بقدر ما جاءت نتيجة للدراسة وللممارسة العملية والواقع الحياتي، فباولو فريري لا ينقل فلسفات الدول المتقدمة أو يخاطبها بل يفكر في بلدان العالم الثالث ويعمل من أجلها دون تجاهل لتجربة العالم المتقدمة، فأخذ منها أفضل ما فيها مما يمكن أن يناسب الوضع القائم الذي يعمل فيه.

أسس صريحة
قامت أفكار وبرامج باولو فريري التربوية على أسس فلسفية واضحة:
- الإيمان العميق بالإنسان وبجماهير الشعب وقدرتها على تغيير أوضاعها وتغيير العالم.
- النظر إلى المعرفة على أنها عملية بحث لاتلقين، وأنه لا يوجد جهل مطلق أو حكمة مطلقة.
- النظر إلى العالم على أنه عملية متجددة متغيرة وليس وضعًا ثابتًا فيزيقيًا واجتماعيًا.
- أن الوعي والنظرة الناقدة مفتاحا الطرق إلى التعليم، وفهم العالم، وتغييره.
- أن التعليم عملية تغيير وتحرير اجتماعي.
لقد كان فريري يؤكد دائمًا أن التعليم في بلد مقهور يكافح من أجل التحرر يجب أن يكون سياسيًا غير محايد، وإلا فلن ينجح في تحقيق أهدافه، وأن التعليم أداة للتغيير الاجتماعي الثوري للواقع الذي تعيشه بلدان العالم الثالث، وللتغلب على الفقر والقهر والتبعية.

تشريح القهر
نقطة الانطلاق في فلسفة باولو فريري التربوية هي تحليل عملية «القهر» التي يعانيها العالم الثالث، وإيضاح نتائجها الاجتماعية والنفسية ومحاولة اكتشاف الطريق للتغلب عليها.
لقد بين فريري في كتابه «تربية المقهورين Pedagogy of the Oppressed أن القهر أو السيطرة هو السمة الرئيسة للعصر الذي نعيشه.
ويعني فريري بالقهر في العالم الثالث: ذلك النسق من المعايير والإجراءات، والقواعد، والقوانين الذي يشكل الناس ويكيف طبيعتهم في المقام الأول، ثم يضغط بعد ذلك على عقولهم حتى يعتقدوا أن الفقر والظلم الاجتماعي حقيقتان طبيعيتان ولا يمكن تجنبهما في الوجود الإنساني ولا يتم ذلك إلا حينما يكون النفوذ والسلطة لدى قلة من الناس، والخرافة، والوهم في عقول الكل.
وقد وجه فريري فكرة إلى واقع أمريكا اللاتينية ليكشف الحقيقة التاريخية لواقع القهر، وفهم تفسير الحواجز التي تحول دون تحقيق الإنسان لآدميته ولإنسانيته الكاملة.
ويقول فريري مشخصًا هذا الواقع المعوق للتنمية والمكرس للتخلف: «إن مجتمعات أمريكا اللاتينية مجتمعات مغلقة تتميز ببنى اجتماعية صارمة الهيراركية، وبنقص السوق الداخلية لأن اقتصادياتهم تدار من الخارج، وبتصدير المواد الخام واستيراد السلع الاستهلاكية دونما أن يكون لهم أي تدخل من هاتين العمليتين، وبنظام تربوي انتقائي غير مستقر، ومدارس أداة للمحافظة على بقاء واستمرار الأمر الواقع، وبدرجة عالية من الأمية والأمراض.. كما تتميز هذه المجتمعات بتلك المعدلات الخطيرة لوفيات الأطفال. وبسوء التغذية الذي غالبًا ما يدمر الملكات العقلية للإنسان، وبالتوقعات الحياتية المتدنية وبمعدلات الجريمة العالية».
ويصدق هذا التشخيص لدول أمريكا اللاتينية وينطبق على كثير من مجتمعات العالم الثالث، وبعض جيوب التخلف في بعض الدول الصناعية الغنية.
والقهر  ليس مجرد بنية اجتماعية واقتصادية، وإنما ثقافية أيضًا ويسميها البعض «ثقافة القهر» بينما يسميها فريري «ثقافة الصمت» وهي «ثقافة مغتربة» Alienated Culture يتم فيها قبول الأمر الواقع القهري فيتأرجح الناس بين وهم التفاؤل وقهر التشاؤم غير قادرين على تغيير واقعهم وسعيهم الجاد نحو المستقبل.
ولذلك يسعى الناس في هذه المجتمعات إلى استعارة حلول لمشكلاتهم من المجتمعات الأخرى دونما فحص أو تحليل نقدي لسياقاتها التاريخية التي ظهرت وتبلورت فيها، ونتيجة ذلك أن تكون ثقافة هذه المجتمعات «ثقافة مغتربة».
إن مظاهر القهر والاغتراب التي وصفها باولو فريري أمر ملاحظ ومشاهد أينما نظر الإنسان في دول العالم الثالث وإن كان الأمر يبدو واضحًا في بعض الدول وغامضًا وغير مرئي في دول أخرى. وهو يرى أن الحل يكمن في التربية، ولكن أي نوع من التربية؟ وكيف تبدأ؟
تبدأ تربية المقهورين بإيضاح حقيقة القهر في العالم، وضرورة تغييره والسبيل إلى تحقيق ذلك. أي تبدأ بتغيير نظرة المقهورين إلى عملية القهر، وتخليصهم من الأوهام والأساطير التي صورها وصنعها النظام القديم. وبعد تغيير وضع القهر لا تصبح تربية للمقهورين فقط، بل لكل الذين يمرون بعملية التحرر الدائم.
وهنا نجد فريري يربط دائمًا بين التخلص من الجهل والتحرر من القهر وهذا لا يتم إلا بالوعي السياسي والتخلص من الأوهام والأساطير التي تصنعها وتروجها القوى المسيطرة في المجتمع.

التعليم البنكي
التعليم بصفته الحالية في بلدان العالم الثالث - بالنسبة لفريري- هو أداة للقهر يتم فيها التعامل مع المتعلمين بوصفهم أشياء أو مستودعات وهذا ما يطلق عليه فريري التعليم البنكي.
أي كم المبلغ الذي تم إيداعه بمفهوم التعليم البنكي حيث لم يعد المعلم إحدى وسائل المعرفة والاتصال بالعلم، بل مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلبة الذين تحدد دورهم في هذا النوع من التعليم كمستقبلين للمعلومات يخزنونها دون وعي لحفظها وإعادة تذكرها دون أن يعوا معانيها وفي النهاية تصبح وظيفة التعليم في هذا المجتمع تحقيق تكيف الإنسان مع المجتمع واستسلامه للقهر.

التربية الإشكالية
بدلاً من التربية «المصرفية» التقليدية التي تدعم القهر، يطرح باولو فريري مفهومًا جديدًا للتربية يدعو إلى الحرية، هو «التربية الإشكالية».
وهذا الأسلوب يعتمد على طريقة طرح المشكلات على جوهر الوعي وكشف مستمر للحقيقة والحياة.
ويمكن المقارنة بين التربية المصرفية والتربية الإشكالية على النحو التالي:
- التربية المصرفية تحاول أن تخفي الطريقة التي يعيش بها الإنسان في العالم، وذلك عن طريق وضع العالم في صورة أسطورية. أما الإشكالية فتحاول أن تنزع هالة الأسطورية عن العالم.
- التربية المصرفية تقاوم الحوار.. الإشكالية تنظر إلى الحوار على أنه وسيلة لإدراك العامل.
- التربية المصرفية تعتبر التلاميذ كائنات تستحق المساعدة، والإشكالية تصنع منهم مفكرين ناقدين.
- التربية المصرفية تحبط الإبداع، والإشكالية تقوم على أساس الإبداع والتفكير الناقد.
- التربية المصرفية لا تنظر إلى الإنسان على أنه كائن تاريخي، والإشكالية تعتبر تاريخية الإنسان نقطة الإنطلاق.
- التربية المصرفية تؤكد الثبات، وتكتسب طابعًا محافظًا، فيما تنظر الإشكالية إلى الوضع كمشكلة قابلة للتغيير.
- التربية المصرفية تؤكد القدرية. أما الإشكالية فتطرح هذا الوضع كمشكلة قابلة للتغيير.
- التربية المصرفية تهدف إلى تحقيق تكيف الإنسان مع الواقع الاجتماعي، وبقاء هذا الوضع دون تغيير. أما التربية الإشكالية فتهدف إلى تغيير الواقع الاجتماعي.

أصوات محلية من التعليم البنكي 
يمكن التعريف بسهولة على خصائص التعليم البنكي من خلال الإنصات للمقاطع التالية من أصوات المعلمات:
- «رددوا وراي بصوت واحد».
- «شوفي وشلون أنطقها وسوي مثلي بالضبط».
- «بكره يا بنات الدرس صعب جدًا وكله براهين اللي تغيب مستحيل تفهم».
- «من هي الذكية الممتازة اللي بتحفظ الأنشودة اليوم وتسمعها لي قبل ما أطلع».
- «ولا نفس، أبغي أسمع صوت القلم إذا طاح على الأرض».
- «خططوا معي - بسرعة ما وفي وقت حطي خط من أول الفقرة الثانية واكتبي هذا السؤال».
- «احفظوا الكتاب من الجلدة إلى الجلدة».
- «هذا القانون يحفظ صمتجيك المسألة في الاختبار اكتبيه وعوضي بالأرقام.. مفهوم» (المراد فهمه هنا تعليمات المعلمة وليس القانون).
- «بلاش نضيع الوقت في أسئلتكم التافهة».
- «أهم شي عندي الأخلاق».
- «بسرعة عدلي جلستك».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق