الأربعاء، 2 مارس 2016

حوار مع المفكر المصري سمير أمين: نشهد خريف الرأسمالية.. ولسنا بعد في ربيع الشعوب




أجرى موقع "الحوار المتمدن" في وقت سابق من هذا الصيف، حواراَ معمقاَ مع المفكر السياسي والخبير الاقتصادي المصري، د. سمير أمين، تناول فيه ابرز المستجدات على صعيد السياسات الرأسمالية وأثرها على الشعوب والدول. وفيما يلي ننشر نص الحوار كما ورد لنا. كيف ترى الأزمة العالمية اليوم في ضوء نظريتك عن المركز والأطراف؟ سأبدأ بوصف نظريتي حول تطور الرأسمالية، ليس فقط كهيكلية اقتصادية للإنتاج، بل كنظام اجتماعي وكمجموعة من القيم الثقافية التي تشكّل معاً مرحلة من تطور حضارة الإنسان. ترتكز الرأسمالية على الانقسام بين المركز وأطرافه، وهي مساحات يقررها قانون القيمة. انطبق هذا النموذج على الرأسمالية خلال تطورها التاريخي وازدادت الفجوة بين المركز والأطراف خلال هذه الفترة لأن منطق تراكم رأس المال لا يمكّن الأطراف من اللحاق بالمركز. لذلك لا يمكن اعتبار الرأسمالية والإمبريالية ظاهرتين منفصلتين، لأن الأولى لا يمكنها أن تكون موجودة دون الثانية، بالرغم من تغيّر النموذج الإمبريالي خلال التاريخ، وتغيّر العلاقة بين المركز والأطراف. وبما أن شعوب الأطراف قد رفضت هذه الحالة، لم يكن النظام الرأسمالي مستقرّاً قط وقد شهد التاريخ على هذا التوتر على الصعيد السياسي. يمكن للتغييرات في قانون القيمة أن تفسّر هذا التحول للرأسمالية عبر التاريخ، من التغير البسيط شكلياً (المُدخَلات المنخفضة التكلفة في الأطراف استعملت لإنشاء منتجات ذات قيمة عالية في المركز) إلى تغييرات كبيرة أسمّيها قانون القيمة المعولمة. درس الكثير من الاقتصاديين التغييرات الأولى للنموذج الرأسمالي، من الرأسمالية التنافسية بعد الثورة الصناعية إلى المرحلة الرأسمالية الاحتكارية في أواخر القرن التاسع عشر، إلى الآن. لكنني وأنا أدرس هذه التغييرات اليوم بطريقة مفصّلة، يبدو لي أنه يوجد العديد من المراحل الفرعية لها. ما أسمّيه الموجة الأولى لنهضة الجنوب بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي، حين انتفضت الأطراف على هيمنة الرأسمالية الإمبريالية، وأجبرتها على التكيّف، إلى حد ما، مع مطالبها. في مصر، كان عهد الناصرية جزءاً من هذه الموجة، مع محاولات لتحديث الدولة والحياة الاجتماعية التي نجحت إلى حدّ ما، لكنها في النهاية فشلت في أن تأتي بمرحلة جديدة من التقدّم والتنمية، بسبب غياب الديمقراطية. وصف الصحافي المتوفى محمد سيد أحمد ذلك بـ«توطين السياسة». هذا سمح للمراكز بأن تطيح هذه النجاحات المحدودة، بدءاً من هزيمة ١٩٦٧، وأن تفرض وضع التبعية الذي تلاها. حصل تقدّم سريع في منتصف السبعينيات حيث لم يعد هناك تركيز على ملكية رأس المال بل على السيطرة عليه. أسمّي هذه المرحلة «رأسمالية الاحتكارية العولمية المعمّمة». يشير هذا المفهوم الجديد، «الرأسمالية المعممة»، إلى أي مدى تشكّل وسائل الإنتاج جزءاً لا يتجزأ من رؤوس الأموال الاحتكارية، التي تتولى أعمال المقاولة لصالح للاحتكارات، ومن داخلها، على الرغم من أنها تظهر كأنها مستقلّة عنها. أي شركة صغيرة يتم التحكم بها عبر المدخَلات التي تتلقّاها من التقنيات المحتكرة، عبر التمويل أو أصحاب الأصول [تبعية المصدر] ويتم السيطرة عليها من قبل السوق الاحتكارية التي يلزمها أن تبيع له منتجاتها [تبعية المصب]. المزارعون الرأسمالون في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ليسوا سوى ممثلين لهذه الحالة من مقاولي الباطن إلى الرأسمالية المعمّمة. استطاعوا البقاء على قيد الحياة من خلال إعانات الدولة وليس اعتماداً على الأرباح، أي إنهم يعيشون من الضرائب التي يدفعها المواطن البسيط. في هذه الحالة، قانون القيمة هو قانون القيمة المعمّمة العولمية، وهذا وصفته في كتابي الأخير المترجم إلى العربية بعنوان «قانون القيمة المعولمة». بموازاة هذه الظاهرة، نرى توحيداً للمراكز في مثلث واحد برئاسة الولايات المتحدة. ومع ذلك، قد تتحوّل القوى الصاعدة الأخرى في نهاية المطاف إلى مراكز جديدة قادرة على إجبار الرأسمالية على تقديم تنازلات. هل يمكنك القول إن هذا النظام الرأسمالي الحالي ينهار؟ إنّ هذه المرحلة الليبرالية الجديدة هي في حالة انهيار. وهذا لا يعني أن الرأسمالية تنهار، بل أنّ شكلها الحالي هو الذي ينهار ونحن ندخل مرحلة جديدة. عليها أن تتكيف. وعما إذا سيكون النظام الجديد منحازاً إلى الطبقة الحاكمة أم الى الجماهير؟ فهذا ما سيكشف عنه المستقبل. يمكن معاينة هذا الانهيار من خلال عدة ظواهر: التحديات في منطقة اليورو وانهيارها القريب، الذي قد يؤدّي أيضاً إلى إطاحة الاتحاد الأوروبي بأكمله؛ الأزمة المصرفية وأزمة الأسواق المالية العالمية. أيضاً، بدأت البلدان الصاعدة، أو بالأحرى، المجتمعات الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل، بتنفيذ قواعد جديدة لنموذج الإمبريالي العالمي عبر تطوير تكنولوجيات جديدة، عسكرية أو مدنية، وشرعت بالتالي في كسر احتكار التكنولوجيا وضرب الهيمنة على الموارد الطبيعية على الصعيد الكوني. أضف إلى ذلك انتشار التكنولوجيا النووية والأسلحة، وعلى الرغم من أنني ضد هذه الأسلحة تماماً، إلّا أنها لا ينبغي أن تكون حكراً على المحاور المركزية فقط! إننا نشهد خريف النموذج الرأسمالي الحالي، ولكننا لسنا بعد في ربيع الشعوب، لأن البديل لم يتبلور. إنّ التحركات والاحتجاجات العالمية هي حالياً في مرحلة من الفوضى، ويمكنها أن تؤدّي إلى حركات متطرّفة، وأنظمة فاشيّة، بل إلى دول منهارة، أو أنها قد تفضي إلى شيء جديد تماماً. نحو يوتوبيا إبداعية إن المشروع الذي نودّ أن نساهم به هو مشروع ليوتوبيا إبداعية. إذا كان للمرء أن يعطي ذلك المستقبل، أو تلك الرؤية، اسماً، يمكن أن يطلق عليه «التنمية على أساس القيمة»، بعبارة أخرى هي تنمية ترتكز على مجموعة من القيم المعنوية والأخلاقية والاجتماعية التي تجمع بين الديمقراطية والحرية والمساواة والتضامن، وما إلى ذلك. برأيي، هذا ما يسمى «الشيوعية» كما تخيّلها ماركس. إنّ نظرة سريعة على الواقع الحالي توحي بأننا مقبلون على مرحلة جديدة من التوسع الرأسمالي على الصعيد العالمي. نحن نشهد معدلات نمو مرتفعة في البلدان الناشئة على وجه الخصوص (الصين، الهند، البرازيل)، على نقيض معدلات متدنية وثابتة تقريباً في المراكز التاريخية (الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا واليابان). يظهر هذا التوسع الجديد للرأسمالية في الانتقال التدريجي لمركز النظام الأساسي من أوروبا القديمة والولايات المتحدة الى آسيا وأميركا اللاتينية. سيقرأ المؤرخون هذا الانتقال كرجوع إلى المسار الطبيعي. في العام ١٨٠٠، عشية الثورة الصناعية، كانت الصين والهند تمثلان نسبة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي يعادل نسبة سكانهما إلى سكان العالم في ذلك الوقت. هذه الدول فقدت مرتبتها العالمية خلال القرن التاسع عشر. (إنّ الفارق بين الشمال والجنوب ليس جديداً لكنه اتّسع بشكل كبير). إنّ نظرية توسع الرأسمالية صحيحة في النقطة الأساسية التالية: يبدو حقاً أنّ المسارات والوسائل التي استُعملت حتى الآن لم تنجح إلّا في إعادة تصنيع مناهج نظام الإنتاج الرأسمالي التاريخي الذي بنى الدول المتقدمة وجعلهما على ما هي عليه اليوم. تتم إعادة الإنتاج لهذا النظام بغضّ النظر عن السياق السياسي، أكان ديمقراطياً أم لم يكن، وبغضّ النظر عمّا إذا استطاع المناخ الاجتماعي تقبّل الآثار المدمّرة لسياسات الإفقار أم تمكّن من التخفيف منها عبر سياسات اجتماعية معيّنة. بمعنى آخر، ما يحصل (إعادة الإنتاج) هو توسّع لا يكتفي بعدم تطوير للقوى المنتجة لكنه توسّع يطلق قوى مدمّرة للطبيعة، ويتحوّل المواطن بموجبه إلى مجرد مستهلك ومتفرّج على التلفاز، ما يدمّر أي تعبير أصلي للحرية الفردية. أولوية مشروع السيادة ومع ذلك، لم ينبثق أي تحدٍ لنموذج التنمية المدمّرة هذا، أكان في بلدان المركز أم في الأطراف. ولم يتّخذ أحد هذا النموذج في القرن العشرين في الأطراف التي استطاعت أن تتخلص بدرجات متفاوتة من عبودية الإمبريالية بل أن تتخلّص أيضاً من الرأسمالية، وأعني هنا النظم الاشتراكية التاريخية في الاتحاد السوفياتي والصين والبلدان الأخرى. بين مشروع السيادة المثالي، الذي لا وجود له، والمقاولة الفرعية بامتياز، كما هو حال معظم البلدان في أفريقيا والعالم العربي اليوم، غالباً ما يكون هناك مجموعة عناصر لمشاريع سيادة تتضمن استراتيجيات سياسية تخوّلها التأقلم مع المقاولة الفرعية في النطاق الإمبريالي. لا ينبغي تجاهل هذه الفروقات الصغيرة. التحدّي ليس ذاته لضحايا «التنمية اللامتكافئة» كما هو للذين يستفيد مجتمعهم من التنمية العالمية. هذه فروقات مهمة تؤمّن الكثير من الشرعية والاستقرار في بعض الحالات، والقليل منها أو عدمها في حالات أخرى. الحجّة التي ما زالت متداولة اليوم لتبرير الخيارات السائدة في المشاريع السيادية المتماسكة هي أنه لا يوجد طريقة أخرى لتنمية القوى الإنتاجية: الطريقة الوحيدة للالتحاق بالدول الأخرى هي عبر التقليد. هذه هي الوسيلة الأسهل وربما الوسيلة التي لا مفر منها تاريخياً، إلى درجة معيّنة. لكن هذه الحجة صحيحة وخاطئة على حدّ سواء: من أجل الالتحاق يجب التقليد إلى حدّ ما، حتى إذا كان لهذا الخيار جوانب سلبية. ما الذي يمكن فعله اليوم؟ إنّ الطبقات الحاكمة في البلاد الغربية قد أدركت عدم قدرتها على المحافظة على هيمنتها النابعة من الأرباح الطائلة المكتسبة من احتكار الرأسمال، أو من التحكم العسكري بالكوكب كله. هذه السياسات تعني، بالنسبة إلى منطقتنا، الشرق الأوسط الأكبر، تدمير مجتمعاتنا، وإبادة قدرة الدول على رفض الخضوع للّيبرالية الجديدة. إنّ الإسلام السياسي الرجعي، إسلام الاخوان المسلمين والسلفيين، حليف اختياري لمسوّقي هذا المشروع الإمبريالي الجديد. والإسلام السياسي الرجعي، بمحدوديته وانتهازيّته الفكرية، يضمن تدمير مجتمعاتنا. لو بقي الإخوان المسلمون في الحكم لعشر سنوات، لما كانت مصر موجودة اليوم. تدمير العراق وليبيا شاهد على ذلك. هذا الخطر لا يهمّ العالم العربي وحسب. مالي مهدّدة كذلك، كما الصومال وأفريقيا. أي تطور مستقبلي في هذا الموضوع سيحدده إمكانية إحباط مخطط التحكم العسكري من قبل واشنطن وحلفائها. إنّ الشروع بتنمية مختلفة يبدأ، في مرحلتها الأولية، بتطبيق أفضل لمشروع سيادي ممكن (أو أقل سوءاً) مع تقبل حدود أي تقدّم ثوري. أنا ميّال إيجابياً لكل الخطوات الثورية التي تحققت في أميركا اللاتينية، بالرغم من أنني واع لخطر النكسات الكارثية الممكنة. يجب المضي بحذر وعدم إدانة أي تقدم على أساس أنه لا ينطبق على «الشيوعية في العام ٣٠٠٠»، أو عدم تسمية محرضيه بالخونة، كي لا نقع في فخّ الإمبريالية. لا فصل بين الديمقراطية والتنمية لذلك، يجب علينا تخيّل مشروع سيادي حقيقي يكون جزءاً من إرثنا التاريخي. قبل التبرير أو التنديد، يجب علينا أن نفهم. ولا يمكننا أن نفهم الصين أو أياً من البلاد الأخرى إذا تجاهلنا تاريخها وتحدياتها الحقيقية التي واجهتها في المراحل المختلفة في تاريخها. إن البدء بمشروع سيادة يعني أخذ قرارات وصوغ برامج اقتصادية معيّنة. هذا ليس حلًّا لجميع المشاكل، كما تدّعي خطط ووصفات البنك الدولي، الذي يقترح الليبرالية كعلاج عالمي، بينما الجميع مريض ويعاني منها! الابتعاد عن النيوليبرالية عبر سياسات اقتصادية تسمح بتوسعة نطاق العدالة الاجتماعية، وتسعى حقيقة إلى تحسين ظروف العمل، والتعليم، وتقدّم خدمات صحية أفضل. لا يمكن تحقيق ذلك مع وصفات النيوليبرالية، في أيّ مكان، بما في ذلك في البلاد الغنية، بالرغم من نظام الحماية الصحية الموجود لديها. فكيف يمكن لذلك أن يتحقق في الجنوب؟ إن مشروع السيادة الجدير فعلياً باسمه ينشئ ويدعم الطبقة العاملة الداعمة له، والتي توفّر شروط نجاحه. إنّ نظاماً من دون الاتكال على الطبقة العاملة هو نظام هش ـ خصوصاً في إزاء هجوم عسكري. هذا هو الوضع الذي وجد العراق نفسه غارقاً فيه بعد سنوات من دكتاتورية صدام حسين. لا يمكن الحصول على الشرعية عبر خطابات قومية سحرية وحدها (أو خطابات دينية موازية، مثل خطاب مقاومة المسلمين لعنف الإمبريالية المسيحية الغربية). لا يمكن تحصيل الشرعية إلا بناءً على مشروع تنمية أصيلة حقيقية حيث إنّه لا يمكن فصل الديمقراطية عن التطور والتقدم الاجتماعي. أعطى باندونغ الإشارة لتعافي استقلالنا. إنّ تعافيه في الوضع الحالي ما زال في طور التخطيط. بانفصاله عن النهج العقائدي النيوليبرالي وإملاءات العولمة المالية، يتيح مشروع السيادة المجال أمام إمكانية التقدم الاجتماعي وإعادة بناء عالم متعدد المراكز يحترم السيادة القومية، ويهيئ لأفضل الأوضاع الممكنة للمضي قدماً في تشكيل حضارة جديدة تحترم البيئة والإنسان. حاورته: ميسون سكّرية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق