‏إظهار الرسائل ذات التسميات قضايا حقوق الانسان. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قضايا حقوق الانسان. إظهار كافة الرسائل

السبت، 24 ديسمبر 2016

حق اللجوء...حق من حقوق الإنسان الأساسية حوار خاص مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس

عن قنطرة



يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الشهير يورغن هابرماس أن على ألمانيا وفرنسا أن تصوغا سياسة أوروبية أكثر فعالية وذات منظور مستقبلي إزاء أزمة اللاجئين الحالية، ويقول في حواره التالي مع الصحفي شتيفان ريكيوس إنه لا بد أيضا من أن ينصب تركيز هذه السياسة على التعاون بشكل أفضل في قضية اللاجئين.

بروفيسور هابرماس، يتعرض العالم الحديث للاضطرابات بشكل متواصل وبالتالي يواجه باستمرارٍ تحدياتٍ جديدةً، لنأخذ موجات اللاجئين الحاليَّة من منطقة الشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا أو من غرب البلقان إلى أوروبا، كيف ينبغي أنْ تكون ردَّة الفعل من منظور فلسفي؟
يورغن هابرماس: حق اللجوء حقٌ من حقوق الإنسان، وكلُّ من يتقدَّم بطلب لجوءٍ سياسيٍ ينبغي أنْ يُعامل بإنصافٍ وأنْ يُستقبلَ، مع كل ما يترتَّب على ذلك. هذا هو الجواب المبدئي، إلا أنَّه ليس لافتًا في مثل هذه الحالة على وجه الخصوص.
الاتحاد الأوروبي منقسمٌ في أزمة اللاجئين كما لم يحدث لفترة طويلة، فهل يهدِّد ذلك بتآكل القيم والقناعات التي تعتقد أنت أيضًا بوجودها في الاتحاد الأوروبي؟
يورغن هابرماس: ما يحدث هو الفصل بين بريطانيا وبعض دول أوروبا الشرقيَّة من جهة ونواة الاتحاد النقدي من جهة أخرى. ولكن هذا النزاع متوقَّع، وللأمر ارتباطٌ بتاريخ الانضمام للاتحاد. وبصرف النظر عن الفوارق الاقتصاديَّة الكبيرة التي لا تزال قائمة، فإنَّ البلدان الشرقيَّة الكثيرة الجديدة المرشحة للانضمام لم يكُن لديها الوقت الكافي لاجتياز عمليَّة تكيُّف سياسيَّة-فكريَّة، بينما كان لدينا (في ألمانيا) بين سنتي 1949 و 1989 أربعون عامًا لاجتيازها. إذن، المدة الزمنيَّة كانت كافية لدينا.
ألمانيا وفرنسا اللتان كان عليهما، قبل اليوم بكثير، أنْ تمارسا سياسةً أوروبيَّةً أكثر فعاليَّةً وذات منظورٍ مستقبلي، ينبغي عليهما الآن المبادرة وتطوير سياسةٍ أوروبيَّةٍ، لا بدَّ وأنْ تشمل في إطارها التعاون في قضيَّة اللاجئين أيضًا! لقد جرى إغفال الأزمة. لكنْ لا بدَّ لي في هذا السياق من أن أقول إنني منذ نهاية شهر أيلول/سبتمبر (2015) راضٍ عن حكومتنا كما لم أكُن منذ سنوات كثيرة. فاجأتني جملة السيدة ميركل: "في حال كان علينا الآن أن نعتذر إذا ابتسمنا لأولئك الذين يحتاجون إلى مساعدتنا، فهذا يعني أن هذا البلد لم يعد بلدي"، وقدَّرتُ تلك الجملة تقديرًا عاليًا.
عندما يأتي مئات الآلاف البشر، كثيرٌ منهم من عوالم حياةٍ دينيَّةٍ وثقافيَّةٍ مختلفة، إلى بلدٍ في الاتحاد الأوروبي، يكون الاندماج جوهر الخطوة التالية، فهل ثمة مفتاحٌ فلسفيٌ للاندماج الناجح؟
يورغن هابرماس: هناك أساسٌ مشتركٌ يجب أنْ يقومَ الاندماج عليه، ألا وهو الدستور. هذه المبادئ ليست منقوشة على الحجر، إنما يجب طرحها ضمن نقاشٍ ديمقراطيٍ واسعٍ، وأعتقد أن هذا النقاش سينطلق مجددًا لدينا. لا بدَّ لنا من أنْ نتوقَّع من كلِّ شخصٍ نستقبله أنْ يلتزم بقوانيننا وأنْ يتعلم لغتنا. ولا بدَّ لنا فيما يخص الجيل الثاني على الأقل أنْ ننتظر منه أن يكون قد رسخ مبادئ ثقافتنا السياسيَّة عمومًا.
دَافعتَ في سنة 1999 عن تدخُّل حلف شمال الأطلسي في حرب كوسوفو، فهل لديك موقفٌ مشابهٌ إزاء التدخل العسكري الذي يقوم به حلف شمال الأطلسي والغرب ضد نظام الأسد في سوريا أو ضد تنظيم الدولة الإسلاميَّة؟
يورغن هابرماس: هذا سؤالٌ صعبٌ، ولا أستطيع الإجابة عنه بنعم أو لا. حرب العراق، التي انتقدتها من اليوم الأول، وكذلك حروب أفغانستان ومالي وليبيا جعلتنا ندرك أنَّ القوى المتدخِّلة ليست مستعدِّة لتأدية الواجبات المترتبة عليها بعد التدخُّل، أقصد بناء وتعزيز هياكل الدولة في هذه البلدان، الأمر الذي يستغرق عقودًا من الزمن. ونتيجة لذلك، علمتنا التجربة أنَّ هذه التدخُّلات قد زادت من سوء الظروف في البلدان المعنيَّة في أغلب الأحيان بدلًا من تحسينها. كنتُ قد أيَّدتُ التدخُّل في سنة 1999 مرفقًا بالكثير من التحذيرات والتحفظات، الأمر الذي يجري نسيانه مع مرور الزمن. أما إذا كان من شأن موقفي أن يكون مختلفًا إذا قمتُ بنظرةٍ استرجاعيَّةٍ، فذلك أمرٌ يتطلب تفكيرًا مطوَّلاً.
تنبَّأ بيتر شول-لاتور بعد ضربات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 بأنَّ الصراعات الكبرى القادمة ستكون ذات طابع ديني، ويبدو أن التاريخ يؤكد تنبؤه. لنأخذ تيارات الإسلام المتطرفة مثلاً، كيف ينبغي مواجهتها؟
يورغن هابرماس: هذه الصراعات ليست صراعات دينيَّة في جوهرها، بل يتمُّ تعريف الصراعات السياسيَّة على أنها دينيَّة. الأصوليَّة الدينيَّة هي رد فعلٍ على ظواهر الاقتلاع، التي جاءت عمومًا مع الحداثة من خلال سياسات الاستعمار وما بعد الاستعمار. وبالتالي فإنه من السذاجة بعض الشيء أنْ نقول إنَّ هذه صراعاتٌ دينيَّةٌ.

حاوره: شتيفان ريكيوس
ترجمة: يوسف حجازي

الأربعاء، 25 مايو 2016

التسامح، الحريّة، المؤسسات*

مؤمنون بلا حدود




تقديم
تبلور مفهوم التسامح في سياق تاريخي نظري محدَّدين، واكتسب دلالاته الأولى في قلب هذا السياق. فقد برزت ملامحه الأولى واستوت في إطار معارك الحروب الدينية والإصلاح الديني، واتخذت صورة واضحة في الفلسفة السياسية الحديثة خلال القرن السابع عشر، ثم تطور واتسعت دلالاته وتنوعت في القرن العشرين، وذلك في سياق تطور مبادئ وأجيال حقوق الإنسان، وكذلك في إطار تطور منظومات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة.
يعرف المتابعون لحياة المفهوم نوعية التحولات التي ما فتئت تضفي عليه طبقات من المعاني، حيث يجري استعماله وتوظيفه بصور عديدة في الجدل السائد اليوم في خطابات الحداثة والتحديث، الأمر الذي يبرز مرونته من جهة، ويكشف من جهة ثانية إجرائيته في خطابات المنتديات الدولية المناصرة لمبادئ العدالة والحرية وحقوق الإنسان.
توخينا من العناصر المكثفة أعلاه، وضع اليد على المرجعيات النظرية والحقوقية التي ساهمت في عملية تحولات الدلالة في مفهوم التسامح، وسنعمل في محاور هذه الورقة على توضيح ما ورد في صورة مركَّبة في الفقرتين السابقتين. إلا أننا قبل ذلك، نشير إلى أنّ ما سبق ذكره يندرج ضمن العناصر الأولى من ورقتنا، وذلك بحكم أننا سنخصص العنصر الأخير منها لمعاينة جوانب من كيفيات تلقِّي الفكر العربي المعاصر لمفهوم التسامح وما يرتبط به من مفاهيم الحداثة السياسية. صحيح أنّ فكرنا السياسي لم يتعرف على مفهوم التسامح ولم يقم بتوظيفه والتفكير بواسطته إلا في مطلع القرن العشرين، إلا أنّ صور استخدامه في ثقافتنا المعاصرة طيلة عقود القرن الماضي، منحته بدورها ظلالاً أخرى من المعاني، شحنته بطريقتها ومفردات لغتها بمعانٍ بعضها مُتضمَّن في أصوله، وبعضها تَحَصَّلَه بفعل الحمولة الدلالية لمفردات لغة أخرى تروم تمثله باستخدامه، مستهدفة إنجاز مهام تتطلبها سياقات توظيفه والتفكير بواسطته في إشكالات وقضايا مرتبطة بمجتمعات وثقافات أخرى، الأمر الذي نفترض أنه ساهم بصورة أو بأخرى في توسيع أو تضييق بعض دلالاته.
يتجه عملنا إذن لتركيب إحاطة نظرية بصيرورة تطور مفهوم التسامح، وذلك في سياق تطور منظومات في الفكر السياسي والتاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، مع محاولة للتوقف في الآن نفسه على جوانب من مآلات المفهوم في التلقي العربي لمنظومة الحداثة السياسية، خلال مائتي سنة من أشكال تفاعل الفكر العربي مع منظومات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، الأمر الذي نعتقد أنه سيقربنا من أنماط توظيفه في فكرنا ومجتمعنا، وسيظهر حاجتنا الماسّة إلى روحه في المعارك التي نواجهها اليوم في مجتمعاتنا وثقافتنا السياسية.
التسامح، نشأة الدلالة وتطورها
يجمع أغلب دارسي مفهوم التسامح على صعوبة ضبط معانيه ودلالاته، ولا يتعلق بالدلالات الفلسفية الاصطلاحية، التي ارتبطت به خلال مراحل تشكله وتطوره سواء في المجال الديني أو في الفلسفات التي حاولت وضع حدود لمعانيه في القرن السابع عشر وما بعده، بل إنّ الأمر يتجاوز الدلالة الاصطلاحية نحو الدلالات اللغوية العامة التي تحملها مفردته. وقد بيَّن المفكر الفرنسي بول ريكور في المقاربة التي ركَّبها لمفردة تسامح Tolérance اعتماداً على بعض معاجم اللغة الفرنسية[1]، أنّ الطابع المبسط للدلالة كما تقدمها بعض هذه المعاجم، يساهم في مزيد من غموض المفهوم وصعوبته.
نواجه الصعوبة نفسها عندما نقترب من دلالة كلمة تسامح في المعاجم العربية، ونتبيَّن بعض جوانب هذه الصعوبة في الدراسة الهامّة لسمير الخليل المعنونة بـالتسامح في اللغة العربية[2]، حيث وضَّح الباحث في هذه الدراسة صور التناقض بين جذر كلمة التسامح ومفهوم التسامح، موضحاً أنّ استيعاب روح المفردة في سياقها النظري والتاريخي يتطلب عمليات تمثل وتوظيف يكون بإمكانهما حفر الدلالة الجديدة في رسم الكلمة العربية، ومن أجل ذلك يجب الاستمرار في امتحان المفردة بالتداول، لنقف على حدود الدلالات التي تُقرن بها.
1- في الأصول الأولى للمفهوم
تحيل مفردة Tolérance إلى ما يفترض أنه الحامل لمعناها باللغة العربية، نقصد بذلك كلمة التسامح أو التساهل أو الصفح، ويتم في الأغلب تداول المفردات المشار إليها عند التفكير في موضوع العلاقات بالآخر والآخرين في المجتمع وفي العالم. وعندما نفكر في السياقات التي أطَّرت تبلور ثم تداول وتطور مفهوم التسامح، نجد أنها نشأت في إطار الجدل اللاَّهوتي في أوروبا النهضة، حيث عملت الكتابات اللاَّهُوتية على إبراز أهمية الصفح على من يخالف تعاليم الدين والكنيسة، وذلك بعدم معاقبتهم.
اندرج هذا الموقف في سياق توجه إصلاحي عام، يتوخى رسم حدود للعقائد باعتبارها ترتبط بالإيمان الشخصي الحر. وقد هيأت هذه التصورات الإصلاحية الطريق الممهِّد لتيارات الإصلاح الديني، كما ساهمت بمحاذاة ذلك في بلورة نظر فلسفي جديد للتسامح في خطابات الفلسفة الحديثة.
يمكن أن نقول إنّ عاملين اثنين ساهما بطرق مختلفة في تشكُّل مفهوم التسامح، وإليهما يعود الفضل في منحه جوانب عديدة من الدلالات التي يحملها؛ الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم الاكتشافات الجغرافية وما ترتب عنها من جدل لاهوتي وأخلاقي، ذلك أنّ التسامح نشأ ليعكس جوانب من صور تفاعل الفكر الحديث مع التطورات العديدة، التي نشأت في القرن السادس عشر في قلب المجتمع الغربي، حيث تبلور المفهوم كمحاولة لصدِّ مختلف أشكال العنف السائدة في المجتمع، وخاصة في مجالات العقيدة الدينية.
نشأ مفهوم التسامح منذ بداياته في صلة وثيقة بمفهوم الحرية، وقد لا نتردد في القول إنّ قاعدة نشوئه النظرية تتمثل في مساعي الحرية المرتبطة في فجر المجتمعات الحديثة بمتطلبات الوعي الفردي والنزعة الفردية. صحيح أنّ مجال الظهور والتشكل تؤطره إرهاصات الإصلاح الديني، إلا أنّ ميدان استواء ملامحه النظرية يجد أرضيته في معارك حرية التفكير والتعبير والعقيدة.
ينتج عن ذلك جملة من المعطيات النظرية المرتبطة بالدلالة العامة للمفهوم، ومن بينها:
أ- ربط المفهوم بالحقوق الطبيعية، وقد تَمّ ذلك في سياق البحث له عن مسوغات فلسفية واضحة، إنه مثل الحق في الحياة والملكية والعقيدة.
ب- الحرص على طابعه العام والكوني، باعتبار أنه كُلٌّ غير قابل للتجزيء، ولا مجال فيه للمساومة أو التمييز.
2- التسامح وأخلاق الدولة المدنية
لقد حاول فلاسفة أوروبا بدءاً من نهاية القرون الوسطى تجاوز صور التداخل والاختلاط القائمة بين المجال الديني والمجالات الدنيوية، وتبلورت الملامح النظرية الأولى الداعية إلى الفصل بين المجالات المذكورة في تيارات الإصلاح الديني، ثم عملت بعد ذلك الفلسفات السياسية على إعادة بناء التصورات التي أغنت ودعمت خلاصات ونتائج الإصلاح الديني. نتبيَّن جوانب من روح هذا الموقف في فلسفة جون لوك وخاصة في مصنفيه: محاولة في الحكم المدني، ورسالة في التسامح.
نقرأ في رسالته في التسامح في مسألة الفصل بين مهام السلطتين المدنية والدينية ما يلي: "ومن أجل ألّا يسعى آخرون، بدعوى الدين، إلى أن يجدوا في الدين خلاصاً لما يرتكبونه من إباحية وانحلال، ومن أجل ألّا يفرض أحد على نفسه أو على غيره أي شيء تحت دعاوى الولاء والطاعة للأمير، أو الإخلاص والوفاء في عبادة الله، أقول إنه من أجل هذا كله، ينبغي التمييز بدقة ووضوح بين مهام الحكم المدني وبين الدين، وتأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما. وإذا لم نفعل هذا فلن تكون هناك نهاية للخلافات التي ستنشأ على الدوام بين من يملكون الاهتمام بصالح نفوس البشر من جهة، ومن يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى"[3].
دافع لوك في كتاباته السياسية عن ضرورة إقامة خط واضح وفاصل، بين الحكم المدني والمعتقد الديني. ذلك أنّ حالة المجتمع في تصوره تنشأ بهدف تأمين المصالح المدنية والمحافظة عليها وعلى تطورها. وتتمثل هذه المصالح في الحياة والحرية والملكية والصحة، في حين تظل الكنيسة بمثابة فضاء اختياري للالتقاء من أجل عبادة الله. وبناء عليه، يكون على الحكم في نظر لوك، تأمين الملكية العادلة، وضمان المصالح المدنية للبشر[4].
كانت مواقف لوك السياسية في مجملها مرتبطة بأشكال الصراع السياسي والديني، القائمة في إنجلترا وفي أوروبا على وجه العموم. وقد رتَّب انطلاقاً منها مجموع خياراته في الدفاع عن حق الحرية، ودفاعه عن الحريات الفردية وخاصة في المجال الديني.
تَمَّ النظر إلى مجمل أطروحات جون لوك في هذا الباب باعتبارها مواقف مثيرة للجدل، حيث تبنَّى لوك حماية التيارات والمذاهب الدينية من التدخل غير المشروع للحاكم المدني. ويعرف المهتمون برسالته في التسامح (1886)، أنه ركَّب دليلين اثنين في موضوع التسامح الديني، وذلك بطريقة برهانية، يتعلق الأمر بالدليل الأخلاقي والدليل المعرفي. بَيَّنَ في الأول منهما أنّ لكل فرد الحق في أن يعتقد أو لا يعتقد بملء حريته ودون خوف، وأنّ الحرية الدينية والشخصية مكفولة للجميع. كما وضَّح أنه لا حق للكنيسة في اضطهاد أي شخص بسبب عقيدته، مثلما أنه لا حق للسلطة المدنية بالتدخل في العبادات. أمّا في الدليل المعرفي، فقد وضَّح محدودية المعرفة البشرية أمام مجاهل الكون العديدة. وبناء عليه، يصعب علينا أن نتحامل على الآخرين لأنهم لا يعتقدون مثلنا[5].
يتضح هذا في تحديده الدقيق للدولة ووظائفها حيث يقول: "الدولة مجتمع من البشر يتشكل بهدف توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها، وتنميتها. وأنا أعني بالخيرات المدنية: الحياة، والحرية، والصحة، وراحة الجسم، بالإضافة إلى امتلاك الأشياء مثل المال، والأرض، والبيوت، والأثاث، وما شابه ذلك"[6].
اغتنى مفهوم التسامح في كثير من أعمال فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث نعثر على أعمال أُنجزت دفاعاً عن التسامح وما يتيحه من آفاق في تطور الفكر والمجتمع. فقد كتب بييربيل بحثاً في الدفاع عن التسامح أشار فيه إلى أنّ الخطر الأكبر الذي يواجه الديانات يتمثل في عدم تسامحها[7]، وهو الأمر الذي أبرزه لوك أيضاً، وهو يوضح أنّ مطلب التسامح يتطابق مع الحِسّ المشترك تطابقه مع تعاليم الإنجيل[8].
وقد ساهم فلاسفة مثل سبينوزا وروسو وﭭﻭلتير في إغناء وتطوير دلالات المفهوم وكذلك توسيع مجالات استعماله، ففي الفصل الأخير من نص سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة على سبيل المثال، يتحدث عن أسوأ مواقف الدولة معتبراً أنّ هذا الموقف يتمثَّل في نفيها لمن يختلفون معها في الرأي[9].
3- التسامح ومنظومة حقوق الإنسان
ساهمت الفلسفة السياسية الحديثة في تلوين مفردة التسامح بألوان دلالية محدَّدة، وذلك في سياقات نظرية وتاريخية أضفت عليها وعلى معانيها طابعاً خاصاً، فأصبح من غير الممكن تداولها دون استحضار المعاني والسياقات التي منحتها الشحنة التي امتلأت بها. وقد عزَّز هذه الدلالة وزادها رسوخاً التوسيع الذي لحق مجالات استخدامها، نحن نشير هنا إلى صور توظيفها الجديدة في مواثيق وأدبيات حقوق الإنسان.
أصبح مفهوم التسامح من المفاهيم المركزية في مواثيق حقوق الإنسان، ومنذ إعلان 1948، الذي تَمَّ فيه التنصيص على حرية المعتقد والرأي والتعبير، بدأ العمل يجري في موضوع تفعيله في المنظمات الدولية، حيث أصدرت منظمة اليونيسكو إعلان مبادئ التسامح لسنة 1995، وتبنَّته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16 نوفمبر 1995 بباريس[10]. وقد دعا هذا الإعلان إلى ضرورة العمل على اتخاذ الإجراءات والتدابير الكفيلة بتجسيد وتعزيز التسامح بين الأفراد والمجتمعات[11].
ترتب عن استخدامه الحقوقي ما نعتبره نوعاً من تعميم دلالاته وتوسيع مجالات الاستفادة من المزايا الأخلاقية المرتبطة بروحه، وأهمها الطابع المنفتح على الآخر والآخرين الأمر الذي يفيد قبول الاختلاف والعيش في فضاءاته. يضاف إلى ذلك حرص المواثيق الحقوقية على الجمع بين التسامح والتعدد والديمقراطية والسلم، حيث تَمَّ شحن دلالة المفهوم بمعطيات نظرية جديدة مرتبطة بالمجال الحقوقي وسَّعَت معانيه، وساهمت في تقليص بعض الإيحاءات المتصلة بسياقات لحظة بروزه وانبثاقه، نقصد بذلك المعطيات ذات الصلة بالصراعات الدينية في أوروبا النهضة.
يترتَّب عن ذلك أنّ منظومات حقوق الإنسان نقلت مفهوم التسامح من حدوده اللاَّهوتية إلى فضاءات أرحب، فأصبح يعني اليوم الاحترام وقبول التعدُّد والاختلاف، وكذلك تنوع الثقافات وتعدُّدها في عالمنا. وقد تعزَّز هذا بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر، ولم يعد مجرد واجب أخلاقي، بل تعدَّى ذلك ليصبح واجباً سياسياً وقانونياً أيضاً. لقد تحول إلى قضية تساهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب، وضمن هذا السياق، تَمَّ تبنِّي يوم 16 نوفمبر من كل سنة كما أشرنا سابقاً كيوم عالمي للتسامح.
4- نحو مأسسة التسامح
وضَّحنا أنّ نص جون لوك في رسالة التسامح (1689)، يُعدُّ علامة مركزية في تاريخ مفردة التسامح، فقد أبرزت هذه الرسالة أهم الدلالات التي ارتبطت بالمفردة، الأمر الذي منحها امتياز التعبير عن بعض معارك الحداثة في الفكر والمجتمع الحديثين. وقد حصل بعد ذلك نوع من التجاوز لتصورات الرسالة اللوكية في فلسفة الأنوار، حيث تَمَّ الانزياح قليلاً عن مرجعيتها المرتبطة بالإصلاح الديني والحروب الدينية، نحو أفق يمنح المفهوم فضاء أكبر للتحول، أفق يرتبط بفلسفات ومواثيق حقوق الإنسان. ونتج عن ذلك أن أصبح مفهوم التسامح يستوعب ويشير إلى وقائع ومعطيات لم تكن واردة ضمن شروط وسياقات تبلوره الاصطلاحي الأول، في إطار معارك الدولة والكنيسة في أوروبا الحديثة.
سمح التحول الحقوقي والسياسي في تقريب مفهوم التسامح من الآفاق الحداثية، الأمر الذي جعله يتخذ مظاهر ذات صلة وثيقة بالحريات الفردية، حيث أصبح يساهم في تعزيز قيم الحداثة والتحديث. وضمن هذا السياق، بدأ المفهوم يبحث لنفسه عن سياق مؤسسي يضمن له إمكانية الأجرأة التي تتيح له مردودية اجتماعية.
إنّ التحول الذي عرفه مفهوم التسامح في القرن العشرين يعبّر عن المكاسب التي لحقت به استناداً إلى التفاعل الذي حصل بينه وبين أجيال حقوق الإنسان، إضافة إلى التأثير الذي فرضه تطور المنظور السياسي الليبرالي الجديد، حيث تبلورت جملة من التيارات السياسية الهادفة إلى دعم مجتمعات التعدد والاختلاف. وإذا كانت ليبرالية كلّ من توكفيل وستوارت ميل تقبل مبدأ تعدُّدية تصورات الخير داخل الثقافة الديمقراطية، شريطة احترام مبادئ هذا التعدُّد، فقد تجلَّى هذا الموقف بصورة واضحة في أعمال راولز على سبيل المثال لا الحصر، حيث تبنَّى في نظريته في العدالة مفهوم التسامح وربط بينه وبين الحرية والديمقراطية والمؤسسات.
تتمتَّع أعمال راولز اليوم بحضور متميز في فضاء الفلسفات السياسية والاجتماعية والأخلاقية في مختلف دوائر الفكر المعاصر، بسبب اختيارها منطقاً معيناً في البحث، يقارب الأسئلة الأخلاقية من منظور سياسي، فهو يحاول تجاوز المنظور الأخلاقي والميتافيزيقي، ليجعل منظومة القيم مفتوحة على أسئلة المجتمع والتربية وحقوق الإنسان، إضافة إلى قضايا العصيان المدني والديمقراطية.
ينطلق راولز في تركيب تصوُّره السياسي للعدالة من النظر إلى المجتمع من منطلق أنه بنية معقدة، يحكمها نظام في توزيع الخيرات يمنح الأفراد والجماعات نسباً معينة من الخيرات والمنافع الأولية (الموارد المادية والرمزية)، أي يمنحها كلّ ما يعزز الشخصية الاعتبارية للأفراد، مثل الحرية وتكافؤ الفرص والثروة. وبناء عليه، يرى راولز أنّ مهمة المقاربة السياسية تتحدَّد في تركيب تصور يسمح بتقسيم مجموع الخيرات بين مختلف الجماعات المتعارضة والمختلفة فيما بينها[12].
يتجه المنظور الليبرالي الجديد إلى إصلاح وتنظيم المؤسسات، ويهتم رواده ومؤسسوه بإعادة التفكير في مفهوم التسامح من زاوية عقلانية، ودون ربط التفكير فيه بمسألة ترتيب ما يضمن حمايته، أو التفكير في سياقاته الاجتماعية والجماعاتية واللغوية والدينية والاقتصادية[13].
لن تحصل حماية روح التسامح وفضائله إلا بتوفير مؤسسات راعية وحاضنة، مؤسسات يكون بإمكانها أن تَصُدَّ الإكراهات والعوائق، لتصنع فضاء يمنح الأفراد المساواة والحرية وممارسة الاختيارات التي تُفضي إلى التسامح. ونحن نفترض أنّ بناء مؤسسات في هذا الباب يتطلب جهوداً مضاعفة، حيث يبدأ العمل بمواجهة المؤسسات الرافضة لقيم التسامح، ثم بناء المعايير والإجراءات القابلة للمأسسة، الأمر الذي يبرز أنّ المجتمعات التي تبلور في تاريخها مفهوم التسامح ما تزال في بداية الطريق في موضوع مأسسة المفهوم.
5- في كيفيات تلقّي الفكر العربي لمفهوم التسامح
قد لا نجانب الصواب، إذا ما اعتبرنا أنّ أول دفاع عن التسامح في الخطاب السياسي العربي المعاصر، تبلور على صفحات مجلة الجامعة، التي كان يشرف على تحريرها فرح أنطون، وأنّ الفضل يعود إلى هذا المصلح بالذات في تقديم محتوى المفهوم وإبراز أهميته، وذلك في إطار تأويله وتقديمه لمنظومة الحداثة السياسية الغربية، كما صاغتها الفلسفة الليبرالية[14].
فمنذ ما يقرب من قرن من الزمان، وبالضبط في سنة 1902، وظَّف فرح أنطون مفهوم التسامح - وكان يرادفه بلفظ التساهل - لإبراز أهمية محتواه، كحاجة ملازمة للتحرر من الانغلاق والتعصب ومعاداة الآخرين.
لم تكن محاولة فرح أنطون سهلة، وقبله لم تكن جهود الطهطاوي في نقل وترجمة المفاهيم السياسية الليبرالية والقوانين الوضعية متيسرة، رغم أنّ هذا الأخير كان يحاول في أعماله الفكرية، الاستجابة لمطالب دولة في طور التأسيس (دولة محمد علي في مصر)، والبحث لمفاهيم المنظومة الليبرالية عن مقابلاتها في التراث، مقابلاتها الاصطلاحية، وما يحتمل أن يشكل مقابلاً لهذا المحتوى. أمّا فرح أنطون فقد اختار واحدية المرجعية الغربية، متبنياً محتواها، باعتباره أفقاً فكرياً جديداً غير مسبوق، إنه نتاج الحداثة السياسية، كما بلورتها جهود فلاسفة الأنوار، ومن سبقهم من رواد ومؤسِّسي الخطاب السياسي الليبرالي في القرن السابع عشر.
وربما لهذا السبب بالذات تصدَّى محمد عبده لمقالات فرح أنطون في مجلة الجامعة، حيث ترتّب عن السجال بينهما في موضوع الاضطهاد في الإسلام والمسيحية، كتاب محمد عبده الشهير الإسلام والنصرانية.
في الصفحات التي كتبها فرح أنطون عن ابن رشد وفلسفته، ثم في موضوع الاضطهاد في الإسلام والمسيحية، ذهب إلى تمجيد مفهوم التسامح، كما تبلور في الفلسفة الحديثة بروح متحمسة، دون أدنى احتراز نظري أو تاريخي. بل إنّ مرماه الإصلاحي دفعه إلى التحمس لمحتوى المفهوم، وإضفاء مسحة جديدة عليه. وقد برز ذلك في الأمثلة المتعددة التي كان يحاول بواسطتها تقريب المفهوم وروحه، والدفاع القوي عن أهميته في حياتنا المعاصرة، وذلك من أجل أن نتمكن في نظره من استيعاب مقتضيات الحداثة السياسية، باعتبارها المدخل الرئيس للنهضة والتقدم.
ارتبط دفاع فرح عن التسامح بدعوته إلى العلمانية، كما ارتبط بدفاعه عن مبدأ النسبية في مجال المعرفة. ومعنى هذا أنّ تبلور المفهوم في خطابه الإصلاحي ارتبط بسياق أعم، يتعلق بمحاولة إنجاز تعريب للمنظومة الليبرالية، وذلك في سياق ملابسات تاريخية ونظرية ترتبط بمناخ الفكر الإصلاحي، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهذا الارتباط يدلّ من جهة على وعي فرح أنطون بترابط مفاهيم منظومة السياسة الليبرالية، كما يدلّ من جهة ثانية على عدم وعيه بأهمية الشرط التاريخي كخلفية مؤطرة ولاحمة له. ومن هنا غربة النص الذي كتب عن الزمن الذي تبلور فيه.
وباستثناء جهود فرح أنطون في إضاءة مفهوم التسامح، وهي الجهود التي غذَّت الخطاب الليبرالي العربي بشحنة دلالية ذات مرجعية غربية، نجد أنّ ملامح المفهوم غائبة تماماً عن لغة الخطاب السياسي العربي المعاصر.
صحيح أنّ مفكري النهضة، من ذوي التوجه التغريبي الليبرالي، اعتنوا بمفاهيم المنظومة الليبرالية المرتبطة بمفهوم التسامح، من قبيل الحرية والمواطن والمساواة والدستور وغيرها، إلا أنّ مفهوم التسامح بالذات ظلّ في حكم الغائب، أي في حكم اللاَّمفكَّر فيه في الثقافة السياسية العربية المعاصرة.
وصحيح أيضاً أنّ معارك كتابي "الإسلام وأصول الحكم و"في الشعر الجاهلي"، استدعت المفهوم بصورة غير مباشرة، وأنها كانت تستدعي روحه في الأغلب الأعم، ولا تستحضر منطوقه ورسمه، إلا أنّ هذا الحضور لا يسعفنا بِتَبَيُّنِ معطيات نظرية يُمكن أن تفيدنا في صياغة بعض الجوانب والأبعاد الخاصة بتجربتنا التاريخية والنظرية، في مجال مواجهة التعصب الفكري والتصورات المطلقة والمغلقة، من أجل الدفاع عن حرية الفكر وحرية الرأي والعقيدة. هل نستنتج من هذا أنّ معركة الفكر العربي في الدفاع عن التسامح كقيمة أخلاقية وحضارية ما تزال قائمة ومطلوبة؟
نعم إننا نعتقد ذلك. فكثير من المعارك القائمة، في أكثر من قطر عربي، في المستوى السياسي وفي المستوى العقائدي، وفي المستويات المرتبطة بقضايا حقوق الإنسان، تؤشِّر على حاجتنا الملحَّة لفتح جدال في موضوع التسامح.
لا ترتبط حاجتنا في المجتمع والفكر العربيين إلى التسامح كفضيلة عقلية وأخلاقية، نقول إنّ هذه الحاجة لا ترتبط فقط بميراث نظري وتاريخي محدَّدين، بل إنها ترتبط أولاً وقبل كل شيء بحاجتنا الفعلية والتاريخية اليوم لمحتواه. ففي حاضرنا كثير من مظاهر الانغلاق والقهر والتعصُّب والإقصاء، وهو ما يستلزم استحضار المفهوم باعتباره وسيلة من وسائل الدفاع عن التعايش، والإقرار بالاختلاف، والاعتراف بالحرية، كقيمة لا تقبل المساومة.
عود على بدء
لا يمكن القول، بناء على ما سبق، إنّ الدعوة إلى التسامح، أو العناية به كمفهوم في سياق تطور الفكر السياسي، في الثقافة العربية، أو في مجال الفلسفة السياسية الغربية المعاصرة، يُعدُّ من باب الاهتمام العارض أو المؤقت، أو الاهتمام المرهون بمعارك سياسية محدَّدَة.
إنّ مشكلات الغرب المعاصر في علاقته بمستعمراته السابقة، وفي علاقته بالأقليات المتعايشة معه، وفي رؤيته لكثير من قضايا المجتمع الدولي، وبؤر الصراع المنتشرة في العالم، تُبرِز كثيراً من مظاهر اللاتسامح، إن لم يكن التعصب الأعمى، حيث يشكِّل عدم الاعتراف بالآخر وعدم الاعتراف بالخصوصيات التاريخية والثقافة والكيل بمكيالين، صفات ملازمة لكثير من خطابات الغرب، رغم تناقض هذه الخطابات مع الأسس والمبادئ والفلسفات التي قامت عليها الحضارة الغربية.
لم يستطع الغرب إذن في سلوكه الفعلي المباشر، تمثُّل روح التسامح، ولم تمكنه دروس تاريخ الفلسفة السياسية من لوك إلى ﭬﻮلتير إلى راولز وأمارتيا سن، ودروس تاريخ العلم المبلورة لمبدأ النسبية في المعرفة، من الاعتراف بالآخر، بصورة تتجاوز المفارقات التي ولَّدها تاريخ الغرب المعاصر في علاقته بالآخرين، في إفريقيا وآسيا وباقي قارات العالم. وإذا كانت حصيلة النظر الأخلاقي المتمثلة في المواثيق والعهود المتعلقة بحقوق الإنسان، قد بلورت من الشرائع والمبادئ والقواعد ما ينبئ عن جهود في الفكر السياسي لا تُضاهى، فإنّ الأفعال والمبادرات والمواقف وردود الفعل القائمة في الواقع، تكشف وجود تناقضات مرعبة بين النظر والممارسة، حيث تعكس الممارسات تراجعات رهيبة عن منطوق وروح المبادئ والشرائع المعلنة.
ينطبق الشيء نفسه على واقع المجتمعات العربية. ومن هنا نستنتج أنّ معرفة التسامح ما تزال مفتوحة. صحيح أنّها دُشِّنَت في مطلع هذا القرن في السجال الذي دار بين فرح أنطون ومحمد عبده، وأنّها تُستأنف اليوم في المعارك الفكرية والسياسية التي تطالب بفتح باب الاجتهاد، في مجال دراسة الظواهر التراثية، فهل نستطيع القول اليوم إنّها معركة لم تعد قابلة للتأجيل؟ وإنّ معطيات متعددة في الراهن العربي تقتضي بلورة اجتهادات جديدة تمكِّننا من استثمار الدلالة الرمزية والمفتوحة للمفهوم؟
إنّ ذلك ما نعتقده فعلاً، وفي هذا الإطار نُدرج هذه المحاولة.

* نشر هذا المقال في مجلة "يتفكرون"، 2015، العدد 6
[1] لمزيد من الاطلاع على تحليل ريكور لمبدأ التسامح وموقفه من دلالاته المعجمية يُرجى العودة إلى مؤلَّفِه المعنون Lecteurs I: Autour du politique في الجزء الذي يقع من الصفحة 295 إلى الصفحة 312 ويحمل عنوان: Tolérance, intolérance, intolérable.
[2] سمير الخليل، التسامح في اللغة العربية، ضمن كتاب جماعي التسامح بين شرق وغرب، ت. إبراهيم العربي، ص 5-23، دار الساقي، لندن، 1992
[3] جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة: منى أبو سنه، مراجعة: د. مراد وهبه، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1997، ص 23
[4] في موضوع الحقوق الأساسية للفرد، يُراجع نص جون لوك في الحكومة المدنية، ترجمة ماجد فخري، دار صادر، بيروت، صفحات 257-258
[5] رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 29
[6] جون لوك، رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 23
[7] Pierre Bayle, De la tolérance, commentaire philosophique, ed. Honore Champion, Paris 2006.
[8] جون لوك، رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 78
[9] اسبينوزا، رسالة في اللاّهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، القاهرة، 1971، ص ص 446-447
[10] تَمّ تبنّي هذا اليوم أي يوم 16 نوفمبر من كل سنة يوماً عالمياً للتسامح.
[11] يمكن تصفح بنود الإعلان العالمي لمبادئ التسامح على موقع منظمة اليونسكو: www.unesco.org
[12] Rawls, John, La Justice comme équité: Une Reformulation de la «théorie de la justice», Traduction de l’anglais par Bertrand Guillarme , Paris, Editons la découverte, 2003, p. 68.
[13] Rawls, John, Libéralisme politique, Paris, Presses universitaires de France, 2006, p. 79.
[14] كمال عبد اللطيف، من سؤال العلمانية إلى إعادة بناء المجال السياسي العربي ضمن كتاب أسئلة النهضة العربية، التاريخ، الحداثة، التواصل، م.د.و.ع، بيروت، 2003، صفحات 29-56

الثلاثاء، 10 مايو 2016

الآلية الوطنية للوقاية من التعذيب وسؤال الهوية والاستقلالية: بواسطة رشيد الادريسي

عن الأول   www.alaoual.com

شكل اعتماد البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية او الإنسانية او المهينة ، من طرف الامم المتحدة في 18 دجنبر 2002 خطوة جبارة في سبيل وضع حد للتعذيب ،وحماية الأشخاص المحرومين من حريتهم، ومثل إضافة أساسية للإجراءات الاخرى ،التي أقرتها اتفاقية التعذيب أو تنص عليها القوانين الوطنية ، ويندرج البروتوكول الاختياري في إطار الجهود الرامية للاستئصال آفة التعذيب والتركيز أساسا على الوقاية، ودعا البروتوكول إلى إنشاء نظام وقائي يقوم على الزيارات المنتظمة ،لاماكن الاحتجاز، بهدف حماية الأشخاص المحتجزين من التعذيب ومنعه، كما جاء في ديباجة البروتوكول، بالإضافة الى الإجراءات والتدابير المتنوعة التشريعية والإدارية والقضائية وغيرها.
وبموجب البروتوكول تقرر إنشاء آلية دولية للقيام بمهام البروتوكول، تسمى اللجنة الفرعية لمنع التعذيب، تقوم بزيارة أماكن الاحتجاز والاعتقال وتقدم توصيات للدول الأطراف في البروتوكول ، ونص البروتوكول كذلك على إنشاء آلية وطنية للوقاية من التعذيب ،من طرف الدول التي قامت بالتصديق على البروتوكول في غضون سنة واحدة من التصديق وان تضمن استقلالها الوظيفي واستقلال العاملين فيها، وان توفر لها الموارد اللازمة لاداء مهامها وان تمنحها الصلاحيات والسلطات ،التي تخولها للقيام بشكل منتظم بزيارة أماكن الاعتقال والاحتجاز بشكل منتظم ودراسة أوضاع الأشخاص المحرومين من حريتهم وتعزيز حمايتهم من التعذيب وتقديم التوصيات

المغرب والآلية الوطنية المستقلة للوقاية من التعذيب
صادق المغرب على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب،   ومند سنوات والمنظمات الحقوقية المغربية  تناضل من اجل التصديق على البروتوكول، ولقد تشكلت المجموعة الوطنية للترافع على التصديق وتنفيد الالتزامات المترتبة على دلك ، وخصوصا ان موضوع التعذيب ظل من القضايا الاساسية في مجال حقوق الانسان   وان تجربة ماضي الانتهاكات ببلادنا من خلال تقرير هيئة الانصاف والمصالحة او جلسات الاستماع للضحايا،  كشفت عن حجم واتساع ظاهرة التعذيب بما خلفته من ماسي ومظالم واثار ومضافعات اجتماعية ونفسية قاسية على عدد من المناضلين والضحايا  وعلى المجتمع برمته، وظل طموح كل المهتمين بحقوق الإنسان ان تختفي هده الآفة وان يوضع حد للتعذيب ولدلك استقبل الجميع  حدث مصادقة المغرب على البروتوكول الاختياري بحفاوة وترحاب، وفي نفس الوقت بوعي بالتحديات والرهانات المرتبطة دائما بالتنفيذ والأجرة
ولقد نص دستور 2011 على الحماية من التعذيب في الفصل 22 حيث نص على انه لا يجوز المس بالسلامة الجسدية او المعنوية لاي شخص ومن قبل اي جهة كانت خاصة او عامة ولا يجوز لاحد ان يعامل الغير ، تحث اي  ذريعة معاملة قاسية أو لا إنسانية او مهينة او تمس بالكرامة الإنسانية ،  وأكد  ان ممارسة التعذيب بكافة أشكاله ومن قبل اي كان جريمة يعاقب عليها في القانون
بالاضافة الى ما اصبح يتضمنه القانون الجنائي من نصوص قانونية تجرم وتعاقب مرتكبي التعذيب ،كما ان بعض التقارير الرسمية تتحدث    عن تأهيل العاملين في مجال الأمن وتكوينهم ،وإدماج حقوق الانسان في برامج التكوين واعادة التكوين و عن اجراءات تأديبة وعقوبات ضد اشخاص متهمين بأعمال تعذيب وعنف، رغم ان المهتمين بحقوق الانسان يؤكدون استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب، وبطء وتعقد مسا طير المتابعات وعدم شفافيتها  ،  وغموض مآل عدد من  ملفات بعض المتابعين في قضايا التعذيب
لقد مر اكثر من سنة على التصديق على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب ،وطيلة هده السنة عاش الحقل الحقوقي، نقاشات وحوارات، حول سبل جعل هده المصادقة خطوة أساسية من اجل إحداث قطيعة نهاية مع ممارسات التعذيب، وخصوصا ان المغرب ملزم في غضون سنة،  بان يشكل الية مستقلة للوقاية من التعذيب ،كالية وطنية تنهض بهمام الوقاية وزيارة اماكن الاعتقال والاحتجاز ،وتتلقى الشكايات وتنجز التقارير وتقدم التوصيات ،وفي خضم هدا النقاش يطرح التساؤل حول استقلالية هده الهيئة وفعاليتها وصلاحياتها والموارد والإمكانيات المادية والمالية الضرورية لعملها

معايير وشروط اساسية للالية الوطنية للوقاية من التعديب

في نونبر 2011 انعقد بجنيف المنتدى العالمي للبروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعديب  ،بعد

خمسة سنوات على دخوله حيز التنفيذ ، وكان هدا اللقاء العالمي فرصة لتقييم تنفيذ البروتوكول، وكدا الاليات الوطنية للوقاية من التعذيب التي أنشأتها الدول الأطراف في البروتوكول الاختياري ،وأكدت

خلاصاته ،اولا على فهم أوسع لمنع التعذيب ،وفي مقدمتها فهم أسباب التعذيب المؤسسية والمعيارية والسياسية والثقافية  والاجتماعية والاقتصادية ومعالجتها ،واعتبار الوقاية من التعذيب  تنطوي على مجموعة واسعة من الإجراءات: الإصلاح القانوني وضمان المسؤولية الجنائية ومكافحة الإفلات من العقاب ،وضمان الوسائل القانونية والتعويضات لضحايا التعذيب

 وتم التأكيد أساسا على توفر الإرادة السياسية لمنع التعذيب ،وتم التركيز على وجود مخاطر تعيق عمل الوقاية من التعذيب ،مثل تغليب الأمن القومي على حقوق الإنسان ، واستعمال ذريعة محاربة الارهاب  لتعطيل الالتزامات في مجال حقوق الإنسان، بالاضافة الى اكتظاظ السجون، و استمرار الطابع السري   لمراكز الاعتقال والاحتجاز ، عدم خضوع أجهزة الامن للرقابة القضائية وللمؤسسات التشريعية

كما  أكدت خلاصات المنتدى العالمي  و المبادئ التوجيهية بشان الآليات الوقاية الوطنية والمقررة في الدورة الثانية عشر للجنة الفرعية لمنع التعذيب في نونبر  2010 على شروط أساسية منها أساسا
الاستقلالية :    تحتاج الآلية الوطنية  إلى ضمان استقلالها  أن تكون متحررة من نفوذ الحكومة، أي يجب أن تكون مدعومة من طرف المؤسسة التشريعية، وان ينص على مهامها في القانون أو الدستور، وتزويدها بالموارد المالية ، وان تكون عن طريق عملية مفتوحة وشاملة تشارك فيها مجموعة واسعة من الجهات، بما فيها المجتمع المدني وان ينطبق دلك على اختيار وتعيين الأعضاء
الصلاحيات والسلطات:   يجب ان تتمتع هده الآلية بالسلطة، للوصول الى أماكن الاحتجاز من دون قيود ،والوصول إلى سائر الوثائق، وان تتاح لها فرصة الاجتماع مع سائر الأشخاص المحرومين من حريتهم على انفراد ،فضلا عن مصادر أخرى و ومع أصحاب المصلحة المعنيين
المصداقية والشرعية :    يجب أن تكون ذات مصداقية في اعين المجتمع المدني والجمهور والمعتقلين والسلطات، ومن شروط دلك أ، يكون أعضاءها يتمتعون بشرعية اجتماعية ومشهود بالكفاءة والنزاهة، وان يكون عملها ذا جودة عالية ،وتقاريرها تتمتع بالموضوعية والحياد، وضمان الشفافية والمساءلة داخل الآلية نفسها
التعاون مع السلطات  :تحتاج الآلية الى بناء الثقة المتبادلة مع السلطات ، لكن تمة فعل متوازن بين إشاعة التعاون والقدرة على انتقاد المواقف من جهة وخطر ان تكون قريبة جدا او تابعة او خاضعة للسلطات
الوعي العام والشفافية    لنجاح عمل الآلية الوطنية هنا حاجة لوعي عام مواكب ومتفاعل مع عملها ،وتلعب وسائل الإعلام دور حيوي في دلك، بل تعتبر شريكا جيدا للآلية
دور المجتمع المدني  : يمكن تعزيز دور الآلية الوطنية من خلال دعمها من طرف تنظيمات المجتمع المدني وخصوصا التنظيمات الحقوقية مثلا للمشاركة في الزيارات لاماكن الاعتقال وكدا من خلال توفير الخبراء وتقديم المشورة الفنية
هوية الآلية الوطنية هل مستقلة ام جزء من مؤسسة وطنية

لم يحدد البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب أي صيغة لإنشاء الآلية الوطنية ركز أساسا على المعايير الأساسية الضرورية لكي تنهض الآلية الوطنية بأدوارها في الوقاية والحماية وتنوعت اختيارات الدول الأطراف بين تشكيل هيئات مستقلة عن اي مؤسسة والبعض الاخر انشاها باعتبارها جزء من المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان فمثلا تونس اسست هيئة مستقلة بنص قانوني صادر عن المؤسسة التشريعية وبعض الدول الأفريقية أدمجتها في مؤسساتها الوطنية لحقوق الإنسان

في المغرب تحرك المجلس الوطني لحقوق الإنسان واستبق اي نقاش عمومي ليبادر الى طرح مفاده انه يقترح ان تكون الألية جزء من آلياته الداخلية بمبرر ان من شان إنشاءها خارج المجلس الوطني ان يؤدي الى تضخم في المؤسسات وانه يملك الكفاءات والخبرة وانه يتمتع بالاستقلالية
والجدير بالدكران ما سجلناه طيلة المرحلة السابقة  هو ضعف النقاش العمومي حول هده الآلية ، وعدم إشراك المنظمات الحقوقية الفاعلة في مجال حقوق الإنسان التي بادرت بعضها لتنظيم لقاءات حول المو ضوع ، ناهيك على ان السياق الوطني لم يكن مشجعا فلقد تعرضت الحركة الحقوقية لحملة ممنهجة من التضييق و المنع والتشكيك في أدوارها   ،ودلك من اجل تهميشها  وفي نفس الوقت كانت تجري محاولات لإعادة هيكلة المشهد الحقوقي في اتجاه الضغط عليه والثاتير في استقلالية قراره ومبادراته في ظل وجود حالة من الاستقطاب لأطره وكفاءاته.
لم تستطع الحركة الحقوقية ان تبلور تصور جماعي  ،لكيفية التعاطي مع موضوع الالية الوطنية للوقاية من التعذيب ،على الرغم من انها تحركت بشكل جماعي في مرحلة الترافع من أجل  التصديق على البروتوكول الاختياري  لاتفاقية مناهضة التعذيب ،وهو مؤشر سلبي يعبر عن الاتجاه العام الذي سيتخذ ه البعد الوحدوي والتشاركي في المستقبل ، مع الإشارة ان بعض المنظمات الحقوقية مقتنعة  مند البداية بتصور المجلس الوطني  لحقوق الإنسان  وان كانت تعبر عنه بصيغ مختلفة  ،مع العلم ان هناك تخوفات كبيرة وخصوصا ان تجربة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تعاطيه مع قضايا التعذيب لم تكن في مستوى المطلوب
بالإضافة إلى ردود الفعل المتشنجة  التي تم التعبير عنها  بعد صدور تقارير حقوقية دولية حول التعذيب ، ناهيك على ان مسالة التضخم التي يستند عليها المجلس الوطني لاستبعاد إنشاء اللالية الوطنية خارجه ، سيعيشها هو الأخر  وخصوصا انه يتطلع لإنشاء آليات أخرى مرتبطة باتفاقيات حقوقية، بالإضافة الى مجالات عمله المتعددة ، وان  هناك احتمال ان يتخذ عمل الالية داخل المجلس في ظل تضخم مهامه فعلا ، بعدا روتينيا وعاديا وهدا ما تم الانتباه اليه من طرف المنتدى العالمي المنعقد في جنيف الذي دعا إلى تجنب ( العمل كالمعتاد)  لان المنتظم الدولي الحقوقي لازالت تساوره العديد من التخوفات من ان يتم الالتفاف على أهداف البروتوكول الاختياري من طرف الدول ،
ان مبررات المجلس الوطني غير مقنعة  وغير واضحة وخصوصا ادا اخدنا بعين الاعتبار   استمرار دور وتأثير بعض العقليات ، والأوساط التي تعمل على إعاقة اي تحول جدري في مجال حقوق الإنسان،  وتحاول التحكم في الانعكاسات المحتملة لتلك الالتزامات ،وهدا ما اتضح جليا في استبعاد اي نوع من المشاركة للمنظمات الحقوقية ،في اللقاء الدولي حول التعذيب المنعقد مؤخرا بمراكش،  بالاضافة  الى استمرار حكامة أمنية لا  تستجيب للتطلعات الحقوقية   وكدا إصلاح القضاء الكفيل بان يلعب دورا محوريا في مجال الحماية من التعذيب .
لقد ابانت بعض التجارب  في إنشاء الية الوقاية بعيدا عن المجتمع المدني، او في نزاع معه عن محدوديتها وعدم نجاحها ، لان النهج الشامل لعمل الوقاية من التعديب، يفترض تعاون كل المعنيين ومشاركتهم ككفاءات وفعاليات ،وفي رأينا  ان صيغة استقلالية هيئة الوقاية  من التعذيب، عن اي مؤسسة ستكون الصيغة الملائمة لتجربتنا  فالاستقلال التنظيمي والوظيفي  والمحدد بنص قانوني وصلاحيات كاملة ، سيمكن الهيئة  من العمل بفعالية وقوة وخصوصا  من خلال اشراك المجتمع المدني والكفاءات والخبرات ،في الميادين القانونية والحقوقية والمهنية ، على أساس وعي الجميع بالتحديات واستعداده للعمل الجماعي والايجابي والمنفتح والإدراك ان الحد من التعذيب هو عمل مجتمعي أساسي في سبيل مجتمع الحرية وحقوق الإنسان
ان نزعة التهميش والوصاية وفرض الأمر الواقع   تتنافى  ومنهجية إنشاء الآليات الوطنية المستقلة للوقاية من التعذيب ، ان بلادنا بحاجة الى آلية وطنية  مستقلة للوقاية من التعذيب  يشارك فيها الجميع بما فيها المجلس الوطني وكل الكفاءات والخبرات  والمنظمات الحقوقية الوازنة  وان تؤسس لتجربة متميزة  تساهم في وضح حد للتعذيب والوقاية منه ومعالجة أسبابه  وفي مقدمتها إصلاح المؤسسة الأمنية والقضاء ووضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان واحترام تام للحريات العامة ووضع حد للإفلات من العقاب ورفع كل اشكال التضييق على الحركة الحقوقية

الجمعة، 25 مارس 2016

انتفاضة 23مارس 1965: دلالاتها و انعكاساتها ـ المصطفى المصدوقي

أنفاس نت


عرف المغرب عدة حركات احتجاجية،مارس 1965،يونيو 1981،يناير 1984،دجنبر 1990،هذا دون ذكر حالات التوتر و العنف التي عرفتها عدة مناطق مغربية.
استحضارنا لانتفاضة مارس1965،نروم و نسعى من خلاله إلى تقديم أجوبة،و لو مرحلية و مؤقتة على بعض الأسئلة التي تهم المجتمع العام و قضاياه.سنحاول تقديم قراءة تركيبية،تلملم شذرات هذه الانتفاضة،و تغوص في خفاياها،و تستنطق مسكوتاتها.
و من هذا المنطلق يظهر أنه من الضروري طرح بعض الأسئلة التي تفيدنا على مستوى التحليل،من قبيل:ماهو سياق بروز انتفاضة 23مارس؟ من هم الفاعلون فيها؟ماهي شعاراتها؟كيف تعامل معها النظام السياسي؟ماهي إفرازاتها؟ما دلالاتها و آليات فعلها و انعكاساتها البعيدة المدى؟

1-    السياق التاريخي:الظرفية السياسية و ملابساتها.
إن انتفاضة 23مارس 1965 كانت وثيقة الارتباط بمختلف الأزمات و المشكلات التي واجهت المجتمع،و ما هي إلا نتيجة موضوعية لسلسة من الإخفاقات و الصراعات السياسية التي بصمت علاقة القصر بأحزاب المعارضة و جيش التحرير.
الإسقاط التدريجي لحكومة عبد الله إبراهيم
فيكفي أن نعرف أنها جاءت في أعقاب الإقالة المفاجئة لحكومة عبد الله إبراهيم(من 4 دجنبر1958 إلى 21 ماي 1960)،و هي الحكومة التي كانت ذات توجه واضح نحو التصنيع،لذا انصب اهتمامها على بناء مؤسسات وطنية قادرة على تصنيع المواد الأولية المتوفرة،و عن معادن و مصادر الطاقة،و توفير وسيلة لضمان التزود بالنفط في أفضل الشروط الممكنة.
و تمكنت الحكومة  في المجال الفلاحي من استرجاع الأراضي التي اغتصبها المعمرون و توزيعها على صغار الفلاحين.
و ستظهر إصلاحات هذه الحكومة غاية في الجدة و الابتكار في المجال المالي،إذ عملت على فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي،و بذلك خطت هذه الحكومة أول خطوة في طريق تحرير اقتصاد المغرب.
هذه المحاولة التحديثية الاقتصادية و الاجتماعية قوبلت باستياء شديد من أوساط رجال الأعمال الفرنسيين و المعمرين و عملاء هؤلاء و الأغنياء الاستقلاليين،و اجمعوا بمعية ولي العهد على محاربة هذه الحكومة.
بعض ممن كتبوا عن مغرب بعد الاستقلال قالوا إن اللوبي الاستقلالي حارب حكومة عبد الله إبراهيم على جميع الجبهات للإطاحة بها،و في هذا الصدد كتب صاحب كتاب "الخفايا السرية في المغرب المستقل" يقول:«في 30 دجنبر1959وأثناء زيارة وفود حزب الاستقلال إلى القصر الملكي،و كان زعماؤهم يطالبون بالحكم و ينددون بعمل إبراهيم و رفقائه في الحكومة الهادف حسب نظرهم إلى تحضير ثورة لا يمكن للمغرب أن يتحملها،و الدليل على ذلك أن عبد الرحيم بوعبيد المكلف بالاقتصاد الوطني كان يقوم بإنشاء بصفة غير إرادية "طبقة بروليتارية" قوية عبر سياسته التصنيعية و ذلك بمساعدة زميله المعطي بوعبيد المسؤول عن الشغل و الشؤون الاجتماعية،الذي لا يتوانى في تحسين أجور العمال».
إن إزاحة عبد الله إبراهيم عن رئاسة الحكومة،بعدما كان ناجحا نسبيا بمعايير تلك المرحلة التاريخية جعلته يتحول إلى "شهيد حي"،و أسطورة سياسية لأول حكومة كانت ستنقل المغرب من حال إلى حال.
الدستور الممنوح
في الوقت الذي كانت المعارضة تطالب فيه بمجلس تأسيسي  منتخب لوضع دستور للبلاد،أقدم الحكم في 27 يناير 1962 على تقديم دستور ممنوح للاستفتاء عليه.و هو الأمر الذي لم يكن محل ترحيب المعارضة الاتحادية التي قاطعت الاستفتاء عليه و وصفته في بلاغ لها ب«العملية المنافية للديمقراطية و شكل من أشكال الاختلاس السياسي» و أنه دستور«وضع لتقنين نظام الحكم الفردي المطلق».
تنامي موجة القمع ضد المعارضة
في إطار الإعداد للانتخابات البلدية و القروية ليوم 28 يونيو 1963،و حتى لا يفاجأ الحكم بنتائج الانتخابات التشريعية لشهر يناير من نفس السنة و التي عادت فيها غالبية الأصوات للمعارضة (56.6 في المائة مقابل 36.5 لجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية)، شن الحكم حملة من القمع واسعة و رهيبة على المناضلين الاتحاديين في كافة الأقاليم.
و للوقوف على شراسة القمع الذي تعرضت له المعارضة الاتحادية يكفي أن نقرأ عناوين "جريدة التحرير" الصادرة في تلك الفترة.(سبعة اغتيالات  و عشرات من الحوادث التي خلفت العديد  من الجرحى منذ يوم الانتخابات)...(اختطافات و اعتقالات  شنيعة بإقليم الرباط)...(عصابات تختطف عددا من المناضلين بسلا)..(اعتقال و محاكمة أربعة أعضاء من مجلس النواب)...(حملات الاعتقال و الاضطهاد ضد المناضلين بإقليم  ورزازات تتجاوز كل الحدود)..(سلطات الحكم الإقطاعي تلجأ إلى أساليب التعذيب و التشريد للمرشحين الاتحاديين في مختلف أنحاء البلاد).
و توجت هذه الحملة الشرسة من القمع بالإجهاز على المعارضة اليسارية،ففي 16 يوليوز 1963 تم اعتقال نحو 5 آلاف من مناضلي الاتحاد الوطني و الحزب الشيوعي المغربي.و حكم على الفقيه البصري و المهدي بنبركة  و بنسعيد أيت ايدر و حميد برادة و شيخ العرب بالإعدام .
و اتهم مائتان من المناضلين بتهمة المس بأمن الدولة.
هذه الحملة الممنهجة من القمع أدت إلى الإجهاز على حزب الاتحاد الوطني و تفككه،الأمر الذي فتح المجال لجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية للفوز في انتخابات الغرفة الثانية و الانتخابات الجماعية.
التضييق على الحريات:
في هذا الصدد يكفي أن نشير إلى ما كانت تتعرض له جريدة "التحرير" من حجز و توقيف و مراقبة  و محاصرة مقرها بالبوليس باستمرار و دعاوى و غرامات و مختلف التحكمات.
ملتمس الرقابة
يحكي د.محمد عابد الجابري في مذكراته "في غمار السياسة: فكرا و ممارسة" أنه كان لملتمس الرقابة الذي قدمه الاتحاد في ماي 1964 ضد حكومة أبا حنيني،و للبث المباشر لجلساته التي استمرت أسابيع،المفعول الواسع في الأوساط الشعبية،و بخاصة أوساط التلاميذ و الطلاب الذين تتبعوا بدقة وقائع المناقشات كما يتتبع الناس فيلما مشوقا...فارتفع وعيهم إلى مستوى لم يكن ليبلغه التكوين داخل تنظيمات أنشطة الحزب و في إطار أنشطته إلا بعد سنوات.
تجويف المخطط الخماسي (1960-1964)
إن المخطط الذي و ضعته حكومة عبد الله إبراهيم قد ثم تعديله من الأسفل إلى القمة،سعيا إلى تنمية الفلاحة على حساب الصناعة.فأعطيت الأسبقية في التخطيط المغير إلى الحاجيات الفلاحية في الوقت الذي كانت فيه حكومة إبراهيم تنوي  بناء صناعة ثقيلة.
و كان من نتيجة هذا المخطط الجديد الذي نهجته الحكومة الملكية خلال سنوات (1960- 1964)  أن أدت إلى توسيع قاعدة الملاكين العقاريين الكبار من خلال إنشاء المكتب الوطني للري.الأمر الذي أدى إلى حرمان الفلاحين من حقهم في الأرض،و تفقير العديد منهم و انتزاعهم من بيئتهم ،و رميهم إلى ضواحي المدن حيث الأفاق المظلمة.
في هذا السياق يقول جيل بيرو«كانت جموع عديدة من القرويين المنتزعين من بيئتهم تنزح مع النساء و الأطفال إلى تخوم المدن،و خاصة الدار البيضاء.لم يزد التمدن عن 5 في المائة في بداية القرن،لكنه وصل إلى 30 في المائة في العام 1965.كان النازحون ينامون في البدء على الكرتون،ثم في أكواخ حقيرة من الصفيح تنغمر شتاء في مستنقع من الوحل و تتحول صيفا إلى أفران شمسية».
انتشار الفساد
إضافة إلى ما سبق،انتشر الفساد و الغش و التزوير،و يكفي هنا أن نقف عند واقعة تسميم عشرة الآلاف مغربي عن طريق زيوت فاسدة وزعت بمدن مكناس و الدار البيضاء و المحمدية،مما خلف مئات الضحايا بقيت مشلولة و مقعدة توجبت سنين عديدة لترويض و معالجة أعضائهم الجامدة
و هكذا،إذن، فأسباب الاحتقان الاجتماعي و عوامل التوتر كانت كثيرة و متوفرة،و لا تنتظر سوى الإشارة.
الشرارة التي أشعلت الانتفاضة
في تحليله لظروف و وظائف الانتفاضة و التمرد يرى الباحث"ايف ماري بيرسي" أن سبب اندلاع الانتفاضة غالبا ما يكون بسيطا و عبثيا على الأقل على مستوى تمظهره و تجلياته الأولى.و عليه فقد تصبح شائعة أو حدثا بسيطا سببا مباشرا لانفجار العنف.
و لم يكن العامل المباشر لتفجير الوضع سوى مذكرة وزير التربية الوطنية يوسف بلعباس التي صدرت يوم 9 فبراير 1965،و نصت على أن «من الضروري ألا يتوجه إلى السنة الرابعة من الثانوي سوى التلاميذ القادرين على متابعة  الدراسة في إحدى الشعب المتخصصة من السلك الثاني،و أنه يمكن أن يتوجه إلى السنة الرابعة من الثانوي التلاميذ المزدادون عام 1948 أما الذين تبلغ أعمارهم 18 سنة أو أكثر فلا يمكنهم ولوج السلك الثاني من الثانوي و الوصول إلى البكالوريا»
و في كتابه "صديقنا الملك" يستعرض الصحافي جيل بيرو بعض التفاصيل عن سياق صدور هذه المذكرة،يقول:«في العام 1965 نفسه،و بسبب أزمة اقتصادية طارئة،أغلقت السلطات روافد مخصصات التعليم.تضمن تعميم لوزارة التربية الوطنية صرف التلاميذ الذين تجاوزوا الثامنة عشرة من المدارس الثانوية،و إلزامهم بالتوجه إلى التعليم التقني».
و في نفس السياق،يقول المؤرخ الفرنسي "غوي مارتيني" الذي كان يعمل أستاذا بالدار البيضاء«صدرت مذكرة عن وزير التربية الوطنية في9 فبراير 1965 كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل هذه الوقائع الدامية(...) و الغرض  من المذكرة تشجيع التعليم التقني و تخريج تقنيين في خدمة القطاع الصناعي عوض تخريج المحامين و الأطباء».

2-    ماذا حدث يوم 23 مارس 1965
إن الذاكرة التاريخية لا تسعفنا كثيرا  لمعرفة ما جرى يوم 23 مارس1965،و نظرا لأن مجال هذه الأحداث كان واسعا متشعبا و غير مقتصر على مكان محدد ،فإننا سنلجأ إلى شهادات من عاشوا تلك الأحداث أو كتبوا عنها،بغية تركيب رؤية شمولية عنها ،شهادات تكمل بعضها البعض و تضيء كل واحدة منها جانبا من جوانبها و تبرز كاملة ناصعة كما هي.
كيف بدأ الحدث؟ و كيف تطور؟
 في نص يبدو مصدرا غنيا و مهما في التأريخ لهذه الانتفاضة،يقول الأستاذ محمد المحجوبي «في صبيحة يوم 22 مارس،تجمعنا بالملعب الكبير لثانوية محمد الخامس، إذ حضر حوالي 20 ألفا من التلاميذ من مختلف ثانويات الدار البيضاء(محمد الخامس،مولاي عبد الله،فاطمة الزهراء لحلو،شوقي الخنساء،الخوارزمي..) و كان التنظيم رائعا و محكما.
كنا نرفع شعار المطالبة بإلغاء قرار بلعباس ،بل أكثر من ذلك،كنا قررنا أن تكون المسيرة صامتة،منظمة في صفوف متوالية يتكون كل صف من 8 تلاميذ،مع حزام أمني تنظيمي يرافق المسيرة و التواصل يتم بين مقدمة المسيرة و باقي أطرافها من خلال تلاميذ ينتقلون عبر الدراجات،و أذكر أن مقدمة المسيرة كانت قد بدأت تقترب من مقر مندوبية التعيلم بشارع الزرقطوني فيما ملعب ثانوية محمد الخامس لا يزال ممتلئا بجموع التلاميذ.
و كان الهدف أن تسجل المسيرة الاحتجاج و بعد ذلك تتفرق،و يمكن للمرء أن يشهد أن التلاميذ قد كانوا منضبطين و لم يحصل أي خلل،اللهم بعد تدخل قوات الأمن بعنف لتفريق المسيرة،فأدى ذلك إلى تفرقها لتظاهرات مستقلة بعضها عن بعض و ذات طابع عفوي و بذلك يصعب ضبطها،إذ إن المنظمين أنفسهم قد أصبحوا مشتتين...و امتد ذلك إلى الأحياء حيث التحق شباب آخرون و جموع من المواطنين بهذه المظاهرات».
يروي أحد من عاشوا تلك الأحداث امحمد تيريدة و هو من أبرز قادة أقصى اليسار في المغرب قائلا:يجب التأكيد هنا أن الإضراب نفذ يوم 22 مارس،و أن الأحداث تصاعدت يوم 23 مارس،بل إنها تجاوزتنا تماما..و لقد تحركنا كقيادة بثانوية محمد الخامس،حيث خرجنا في مسيرة سلمية،حاملين لافتات،و نزلنا باتجاه وسط المدينة،و ما إن بلغنا بقرب مقر نيابة آنفا للتعليم الآن بشارع الزرقطوني،حتى تدخلت قوات السيمي بعنف..فقررنا عوض أن ننزل باتجاه وسط المدينة، أن ننزل إلى الإحياء الشعبية،بأزقتها الضيقة،و حين نزلنا إلى الأحياء تلك انخرط معنا سكان تلك الأحياء،و كان ما كان ..و بالتالي القمع هو الذي أجج العملية.
و يحكي أحمد حرزني عن يوم 23 مارس قائلا:يمكن اعتبار يوم الاثنين حركة تسخينية  أكثر من أي شيء آخر،بحيث لم تحصل أحداث تذكر،و في يوم الثلاثاء ستأخذ الأمور مسارا أكثر جدية،إذ في ثانوية محمد الخامس انتقلنا إلى الجهة المقابلة من الشارع حيث كانت توجد الملاعب الرياضية،و انتظمنا صفوفا و سرنا بشكل منظم إلى أن وصلنا عمارة الستيام حيث كان مقر كلية الحقوق،و ذلك من أجل ضم طلبة الكلية إلينا.
ثم يضيف:و من الستيام سرنا في طريق مديونة إلى القريعة و كانت تقع صدامات و معارك مع البوليس...إذ كانت معارك قوية بين التلاميذ و الشرطة.و بعد ذلك عدنا حيث اعتقلت بشارع الزرقطوني في إحدى العمارات التي لجأت إليها بعد أن وقع هجوم علينا بالعصي،اعتقلت بعد أن تم تهديدي بالسلاح...بعد ذلك تم الإلقاء بي مع مجموعة من التلاميذ و غيرهم في الكوميسارية المركزية،في ظروف لا تصدق حيث الاكتظاظ و الأوساخ و المعاملة السيئة.
و عن مدى وجود تعاطف شعبي مع الانتفاضة،يقول حرزني:قبل اعتقالي شاهدت ما يدل على تعاطف الجماهير مع الانتفاضة.صور لا تنسى..النساء اللواتي تفتحن لك الأبواب من أجل الإفلات من المطاردة..نساء شاركن من فوق سطوح في ردع قوى البطش بإلقاء الماء المغلي،بإلقاء الأواني..
و في ذات السياق يؤكد محمد المحجوبي،من الأطر الميدانية التي أطرت ميدانيا أحداث 23 مارس 1965 بالبيضاء،أن درجة المشاركة الجماهيرية كانت قوية«بحيث كان هناك تعاطف واسع مع المتظاهرين،بل إن الأمر كان يتعلق بمظاهرات شعبية و لم يعد في حدود المظاهرات التلاميذية التي انطلقت في البداية،فإلى جانب الرشق بالحجارة،كان المواطنون يتصدون للقنابل المسيلة للدموع باستعمال المياه لإطفائها.
كانت هناك-يتابع ذات المتحدث- مشاركة جماهيرية واسعة،و الملاحظ أن هذه المشاركة كانت قوية بالأحياء التي كانت لها تجربة في مواجهة قوات الاحتلال الأجنبي.فإلى جانب ساحة السراغنة و درب السلطان،كانت المشاركة قوية بباب مراكش و المدينة القديمة و درب غلف و الحي المحمدي».
و يروي "بيير فيرموريين " و هو واحد ممن أرخوا لتاريخ المغرب في كتابه(تاريخ المغرب منذ الاستقلال) أنه في يوم 23 مارس خرج التلاميذ إلى شوارع العاصمة الاقتصادية في مظاهرة انضم إليها الآلاف من آباء التلاميذ و المعطلين الشباب و سواهم من فقراء أحياء الصفيح.ثم انقلبت المظاهرات إلى عصيان.فقد نصبت الحواجز،و أحرقت الحافلات و الأبناك،و مخافر الشرطة.و اندلعت معارك في الشوارع بين المتظاهرين و قوات الأمن.و اتسعت رقعة التمرد ليعم كبريات المدن الأخرى في المملكة.
ننتقل إلى شهادة أخرى للباحث مصطفى بوعزيز التي يقول فيها بأن مظاهرات التلاميذ و الطلبة في البيضاء و مدن أخرى واجهتها قوات الأمن بالقمع،فجاء الرد الشعبي مباشرة حيث نزل العمال و العاطلون و الآباء و الأمهات و الشباب مسلحين بالحجارة و العصي لمواجهة قوات البوليس أولا ثم الجيش فيما بعد.وكانت مدينه الدار البيضاء مسرحا لانتفاضة شعبية حقيقية نصبت خلالها المتاريس و نهبت و أحرقت المحلات و هوجم السجن..باختصار أصبحت المدينة تحت"سلطة الشارع"...
لغة القمع و الاعتقال
و يتابع بوعزيز قائلا:و عقب ذلك شنت حالة حصار،و ترك للجينرال أوفقير مطلق الحرية في التصرف،و كانت الحصيلة 1000 قتيل،و 7000 سجين،و محاكمات سريعة و جماعية،و ستتسع دائرة الأحداث لتشمل مدنا أخرى و تدوم أسبوعا كاملا.
يقول أحد الذين عايشوا الأحداث المناضل عبد الواحد سهيل في مذكراته "أوراق من الذاكرة السياسية" التي نشرت متسلسلة في جريدة بيان اليوم و هو يتحدث عن نتائج الانتفاضة:«. في البداية أعطى  الجنرال أوفقير  الأمر لرجاله  بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في الأحياء الشعبية . لكنه ما لبث أن استعان بقوات الجيش الملكي التي استعملت الدبابات والأسلحة الثقيلة.  كان أوفقير  يتتبع الأحداث عبر مروحية تجوب أجواء الدارالبيضاء ويعطي الأوامر بإطلاق  النار على المتظاهرين مما خلف سقوط العديد من القتلى ومئات من الجرحى واعتقالات واسعة في صفوف التلاميذ والطلبة وعموم المواطنين . وفي ليلة الثالث والعشرين من 23 مارس سمح أوفقير للدبابات باكتساح شوارع المدن  والفتك بالعمال والشباب والعاطلين نساء ورجال. لن أذيع سرا إذا قلت إنني رأيت جثثا متناثرة في كل الشوارع التي مررت بها . جثث لم تعرف طريقها إلى أهلها وذويها. إذ كانت قوات الأمن تحملها على ظهر العربات».
«اقتحمت الدبابات و أربعمئة شاحنة ممتلئة بالعساكر شوارع الدار البيضاء.هبط الليل على الشوارع المقفرة،وراح الجنود يجمعون الجثث و يدفنونها في حفر مجهولة مشتركة»يقول مؤلف كاتب "صديقنا الملك"،قبل أن يتساءل: كم كان عدد الضحايا؟ليجيب:«بالتأكيد عدة مئات من القتلى،بعضهم يقول إنهم ألف و معظمهم من الأولاد.لم يحدث في التاريخ الحديث إجراء قمع تظاهرات فتك فيها بمثل هذا العدد الكبير من الشبان و الفتيان.و حدها المقابر الجماعية تعرف الرقم الصحيح».
و يقول أحد الذين عاشوا تلك الأحداث،صلاح الوديع،« من ثقب الباب تناوبنا على استراق النظر إلى الخارج. عندما جاء دوري ركزت النظر جيدا. ما رأيته لن يفارقني ما حييت. كان حذاء الجندي ينزل بكل ثقله على وجه فتى في عمري بقسوة لا حدود لها.صرخ الطفل، ثم ساد الصمت».                        
و حول تفاصيل دفن شهداء 23 مارس 1965 فقد خلصت هيئة الإنصاف و المصالحة إلى أنه تم دفن الضحايا بمقبرة الشهداء ليلا وفق الشعائر الإسلامية،بما في ذلك الكفن و الصلاة على الموتى،و بحضور أحد ممثلي السلطة الإقليمية و في غياب العاملين في المقبرة.و كانت القبور التي تم حفرها موزعة على عدة أماكن مختلفة بالمقبرة.
و في ما يخص سبب الوفاة أشار تقرير الهيئة إلى الإصابة بالرصاص في الجمجمة،إصابة بالرصاص في القفص الصدري،إصابة بالرصاص في عظم الفخذ ثم اختراق بالرصاص.
و بلغ عدد القتلى 7 حسب تصريح الدولة،و استطاعت الهيئة الوصول حسب الوثائق المحصل عليها إلى 50 ضحية.في حين قال عميل المخابرات أحمد البخاري في اعترافاته التي نشرتها "أخبار الأسبوع" أنه قد أحضر من جثت القتلى 1550 بيضاوي ثم جمعهم في شاحنات النفايات حيث تم دفنهم في مقبرة جماعة بمنطقة بوسكورة.
شعارات المتظاهرين ومطالبهم
تأرجحت شعارات حركة مارس 1965 بين الصبغة التعليمية التي تركز على وزير التربية الوطنية،يوسف بلعباس،و بين الطابع الجماهيري العام المتذمر من تبعات السياسة الاقتصادية و الاجتماعية المتميزة بالتبذير و ارتفاع الأسعار.
رفع متظاهرو 23مارس شعارات من قبيل:«باركا من الويسكي.. الشعب كيبكي» و «ضربوا اولاد الحرام..زادونا في السكر» و «بلعباس سير بحالك..التعليم ماشي ديالك» و «حذار،حذار..الطوبيسات حرقوهم الدراري».كما رفعت شعارات تمس بشخص الملك مباشرة.
ما يميز هذه الشعارات، هو كونها مباشرة و لا توحي بوجود خلفية إيديولوجية واضحة،فلا حديث عن صراع الطبقات أو الثورة أو غيرها من الشعارات التي تعرفها مدرجات الجامعة المغربية.

3-    التداعيات المباشرة لانتفاضة 23مارس 1965
بعد خمسة عشر يوما أعلن الراحل الحسن الثاني عفوا شاملا عن جميع السياسيين المدانين في 1964 بمن فيهم مومن ديوري و الفقيه البصري. و دخل القصر في مشاورات مع المعارضة لتشكيل حكومة اتحاد وطني.
غير أن اختطاف بنبركة أدى إلى تجدد التوتر بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد المغربي للشغل،إذ بادر عبد الرحيم بوعبيد إلى وقف ما كان يجري من مفاوضات مع القصر.
في هذا الصدد يقول الصحافي حسن العلوي«بعد أحداث مارس 1965 سيعرف المغرب من جديد لحظة انفراج سياسي. كان من الممكن أن تنتج مغربا آخر أكثر تطورا في ظل ديمقراطية واضحة الملامح متينة الركائز»ثم يضيف:«أطلق سراح السجناء و كل المحكوم عليهم،و صدر عفو عليهم،و صدر عفو شامل حتى على المحكوم عليهم غيابيا.و ظن الكثيرون أن الغمة قد انفرجت».
ثم يتابع ذات المتحدث شهادته قائلا:«كل ذلك تبخر فجأة،بعد اختطاف الشهيد المهدي بنبركة في أكتوبر 1965.هذه الضربة الغادرة،قضت على كل الآمال،و عادت بالمغرب من جديد،إلى نفس الظروف و الشروط التي كان يعيشها قبل مارس 1965،إن لم أقل أبشع و أفظع.من جديد،إذن،عاد القمع و التضييق،وتم منع الحزب مرة أخرى من إعلامه»
شهران بعد أحداث مارس 1965 سيعلن الملك الراحل عن قراره بالإعلان عن حالة الاستثناء  وحل البرلمان ،مبررا ذلك بمناقشاته العقيمة التي كانت ستنال من الديمقراطية المغربية«..و بما نعتز به من كرامة و فكر خلاق».و هكذا خاطب الشعب بقوله:«أيها الشعب منذ وصولهم إلى البرلمان تعطلت مصلحة التشريع،و كذلك المطبعة الرسمية و الجريدة الرسمية لم يصدر فيها إلا ثلاثة قوانين،و نحن الآن في السنة الثانية،فمن المسؤول عن هذا؟هل واضع الدستور أو الموافق عليه؟أبدا بل المطبق للدستور».
و في هذا السياق يقول أحد قادة الحركة الماركسية اللينينية في المغرب علال الأزهر لقد أدت التجربة البرلمانية الأولى إلى اقتناع النظام المخزني بطاقمه العسكري،بأنه غير قادر على استيعاب الممارسة البرلمانية في شروط إبعاد الحركة التقدمية و الوطنية عن ممارسة الشأن العام،فاختار الإعلان عن حالة الاستثناء.
وكان من تداعيات هذه الانتفاضة بروز تيارات اليسار الراديكالي ذي المرجعيات الماركسية اللينينية أو الماوية،منها حركة 23مارس  و حركة إلى الإمام كحركات شبابية عمودها الفقري الطلبة و التلاميذ و مثقفون،و تدعوا إلى التغيير الشامل للنظام بدل إصلاحه.
و عن تشكل فصائل اليسار المغربي يقول الصحافي لحسن لعسيبي صاحب كتاب"أقصى اليسار في المغرب" في حوار صحفي له:«إن تشكل تلك الفصائل قد حكمته ظروف مغربية صرفه،تعود في ما أتصور إلى أن ذلك الجيل كان جيل خيبات بسبب الصدمة من عدم تحقق مطالب الدمقرطة بعد الاستقلال.فهو جيل صدمة،كان منتميا عمليا إلى ما أسميناه قوة المجتمع المغربي الناهض أمام قوة الدولة الناهضة بدورها لإعادة تنظيم ذاتها بشكل جديد.فكان أن تصادمت القوتان.و كان ذلك الجيل منتميا لزمنه الكوني،حيث وجد في أدبيات الماركسية اللينينية جوابا ممكنا لما يرنو إليه من تغيير جدري.و لكن الواقع كان أصلب من تلك الطموحات و أنها كانت حركة ثقافية أكثر منها سياسية».
و قد كتب الباحت مصطفى بوعزيز يصف الشروط الخاصة لنشأت الحركة الماركسية اللينينية قائلا:«إن عوامل داخلية "أزمة الحركة الوطنية و انتفاضات الشبيبة" و خارجية"حرب الأيام الستة في يونيو 1967،الثورة الثقافية الصينية،و انتفاضة ماي 68 بفرنسا" قد تظافرت في ميلاد و تطور حركة اجتماعية كانت ثمرة لقاء بين مناضلين قاعديين في الأحزاب السياسية المكونة للحركة الوطنية و الشبيبة المدرسية التي دشنت نشاطها السياسي انتفاضة مارس 1965».
في حين يرى الحبيب الطالب أن تجربة تنظيمات اليسار الجديد قد جاءت ردا على إسقاط حكومة عبدالله إبراهيم،و معركة دستور 1962 الذي اعتبر دستورا ممنوحا و ما تلا من اعتقالات يوليوز 1963 الشهيرة من تعذيب بدار المقري،ثم أحداث 23 مارس بالبيضاء،و تتويج ذلك باختطاف و اغتيال الشهيد المهدي بنبركة،كل هذا التلاحق للأحداث السياسية خميرة لتبلور تلك الحركة الشبابية اليسارية السرية.
و عن إفرازات هذه الأحداث فقد توصل الباحث عزيز خمليش في دراسة ميدانية حول انتفاضة مارس 1965 إلى أن جل آراء المستجوبين تلتقي في كون هذه الأحداث«قد أدت إلى تعزيز الراديكالية داخل تنظيمات المعارضة،و من جانب الدولة،أعطت الأحداث الفرصة لتقوية الجيش و تجميد المؤسسة البرلمانية،بينما على مستوى المواطنين،عم الخوف و تقوقعت فئات عديدة على ذاتها»
بعد الأحداث اقترح الراحل الحسن الثاني وصفات لخلق روح المواطنة،من خلال حث الشباب على التضحية،و العمل من أجل الوطن.و في هذا الصدد دعا إلى العمل التطوعي من أجل بناء سد واد زير ليكون رمزا للانطلاقة الوطنية.و في يونيو من سنة 1966،أعلن الرحل الحسن الثاني عن الخدمة العسكرية الإجبارية،وقرر في صيف 1968،تأسيس هيئة من الشبان للقيام بأشغال خدمة الصالح العام.و من جهة أخرى،قرر في السنة نفسها إقامة الصلوات داخل المدارس،و شرع في بناء دور الشباب لتلقين الشبيبة القيم الوطنية.
و من الإجراءات التي تم اتخاذها بعد أحداث مارس  إعادة سكان إحياء القصدير العاطلين إلى قراهم في سنة 1977،لتشتيت تجمعاتهم داخل المدن الكبرى.

4-    دلالات انتفاضة 23 مارس 1965
--- في مقاربته لهذه الأحداث،يرى الباحث عزيز خمليش أن أحداث 23 مارس 1965  شكلت لحظة تصادم واضحة بين الدولة و المجتمع،و أن الدولة كانت المستهدف الرئيسي من تلك الأحداث،و هو ما يلاحظ من  خلال الشعارات و المطالب التي رفعها المتظاهرون،و التي كانت في أغلبها إما تندد بالسياسة العامة المتبعة أو تطالب بتلبية بعض الحاجيات الملحة(كالتعليم،و الخبز).كما يلاحظ،أيضا، من خلال عنف المواجهة بين قوات الأمن و المتظاهرين و حجم الخسائر و الأضرار التي لحقت الممتلكات العمومية و ممتلكات الخواص.
--- و من المفارقات التي يمكن تسجيلها هو غياب الأحزاب و النقابات و الجمعيات عن صلب حركة 23 مارس 1965.فما وقع ليس من صنع أية قوة سياسية منظمة و مسؤولة،فالأحزاب السياسية لم تتخذ أي قرار في هذا المضمار،و لم تعمل على المساهمة،كتنظيمات،في هذه الأحداث.و النقابات لم تقم فيها بأي دور و لم تتبناها.
فبالإضافة إلى القمع الذي كان مسلطا عليه،كنت أحزاب و نقابات المعارضة منقسمة حول نفسها،مشتتة أحيانا،و عاجزة عن استثمار سخط و تذمر المواطنين لصالحها.
و هذا ما يؤكده الباحث الأمريكي"جون واتربوري" قائلا:«لم يكن للأحزاب السياسية و النقابات أي ضلع في نشوب الاضطرابات،كما أنها عجزت فيما بعد عن التحكم في انفجار العنف».
ففي الستينات لم يكن هناك احتجاج و لا فضاء عام،كان هناك قمع،و السلطة الحاكمة مهيمنة على الفضاء العام،لهذا جاءت الأحداث في شكل مواجهة مباشرة بين أجهزة الدولة القمعية و عموم المواطنين.
و من هذا المنطلق يمكن القول إن الانتفاضة تقوم،في بعض الأحيان،بسد الفراغ الناجم عن غياب قنوات الوساطة(أحزاب،و نقابات و جمعيات) عن المجتمع،و بإثارة انتباه المسؤولين حول أهم القضايا التي تهم المواطنين.
و في هذا السياق يرى عباس بوغالم،أستاذ العلوم السياسية،في حوار صحفي أن الاحتجاجات غير المؤطرة بقدر ما تحمل مؤشرات ايجابية فإنها تنطوي أيضا على مخاطر بالنظر إلى كونها تعكس وجود حالة من العجز لدى النظام السياسي المركزي أو المنظمات الفرعية في أداء أدوارها و تلبية حاجيات الموطنين في مختلف المجالات.
ومن بين المخاطر ،يضيف بوغالم،التي تثيرها الاحتجاجات غير المؤطرة أنه لا يمكن التحكم فيها حيث قد تبتدئ بمبادرة عفوية أو من قبل أطراف معينة لكن نهايتها غير متحكم فيها و هنا تكمن مخاطرها.
و هكذا،بعد أن كانت بداية الانتفاضة من صنع التلاميذ و الطلبة،تحولت هذه الأخيرة مناسبة لنشاط عناصر لا قنوات تنظيمية لها.
أما الحقوقي مصطفى المنوزي فيستخلص من تلك الأحداث العبر التالية:«أول استنتاج أن الانتفاضات غالبا ما تكون مفيدة غير إن انعدام التأطير ينعكس سلبا على صمود و نفس الحركات المطلبية،بغض النظر عن الانتهاكات الجسيمة المترتبة عن ذلك.
لهذا-يضيف- فعقلنة تدبير الصراعات الاجتماعية تقتضي الحرص على ضمان الممارسة الديمقراطية عبر الحوار و التعبير السلمي و تحرير المجال السياسي من الانغلاق و الاحتكار.و العبرة الأهم هي العمل على تكريس ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة و عدم فرض تسويات ترهن مصير الضحايا و المناضلين لحسابات مصلحية خاصة»
--- إن شراسة القمع الذي تعرض له الشباب المتمدرس له عدة دلالات من ضمنها حسم مسألة السلطة لصالح النظام الحاكم و اجتثات قوى المعارضة و ضرب مركز قوتها المتمثل في الشباب المتعلم،و الذي كانت قوى المعارضة تراهن عليه.
--- لقد استهدف المتظاهرون كل ما يرمز،في نظرهم،للاستبداد أو الكبت (كالأبناك،سيارات الأمن،السجن،كاتب البريد..) فذلك لأنه بدا لهم أن العنف يشكل ردا على المجتمع و الدولة.فهم بذلك يريدون أن يعبروا للمجتمع عن قلقهم و للدولة عن تنكرها لهم.
5-    انعكاسات انتفاضة 23 البعيدة المدى
إن ما يجري الآن،هو نتيجة أو ثمار لما غرس من قبل.إن ما نعيشه اليوم مما هو سيئ أو جيد في حياتنا الوطنية لا يفهم إلا بالنظر إليه ضمن سلسلة من الأحداث السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ،التي خرج من جوفها الحاضر الذي نعيشه،و التي ستبقى تؤثر في مستقبلنا لفترة غير قصيرة من الزمن.
و ما يهمنا في هذا السياق هو أن أحداث 23 مارس و جميع الممارسات التي قبلها و بعدها لم تمر مر الكرام و لم تأفل من الساحة إلا لتنغرس في الذاكرات الجمعية و الجماعات و الفئات و الطبقات لتبلور فعالية الذاكرة السياسية الوطنية،و تفرز مواقف سياسية،و تموقفات وجدانية،تتحكم في الرأي إزاء الآخر و في أجرأته و تصريفه في المجال السياسي و الاجتماعي.
و حالما يبرز شأن ما أو قضية ما تبرز معها الآراء و العواطف،و تعمد إلى خزان الأطر الاجتماعية للذاكرة فتتحصل المواقف ايجابية أو سلبية تجاهها.
و يكفي  لتوضيح ذلك أن نضرب المثال التالي:فبالرغم من مباشرة السلطة لما سمته المنهجية التشاركية في صياغة الدستور،فإن أحزابا يسارية و ديمقراطية و حركة 20 فبراير قد قاطعت دستور م011،بل رفعت شعار المجلس التأسيسي.فهذا الموقف تحدد انطلاقا من المخزون السياسي للذاكرة التاريخية.
أحداث 23 مارس و جميع الممارسات التي قبلها و بعدها لازالت حاضرة في الذاكرة الجماعية للمغاربة،ففي دراسة ميدانية لعزيز خمليش قال أحد المبحوثين صراحة:«إن صدمة أحداث مارس 1965،لازالت تجثم بكل تقلها على أذهان المواطنين،و لازال العديد من الناس لا يستطيعون الحديث عنها و يتجنبون ذكر الوقائع المرتبطة بها»
و بقدر ما رفع المنتفضون في أحداث مارس 1965 سقف المطالب و الشعارات،بقدر ما رفع الحكم سقف التعذيب و القتل و الإخفاء و الاختطاف إلى أعلى يتجاوز كل التصورات و الاحتمالات،و بالفعل فإن مخلفات هاته الانتفاضة مازالت تسكن الذاكرة السياسية للمغاربة و توجه سلوكهم. و عن بقايا هذه الانتفاضة في ذاكرة أطفال تلك الفترة،يقول أحد المبحوثين في ذات الدراسة:«عشت أحداث مارس 1965 و أنا طفل.و منذ ذلك اليوم ارتبطت في ذهني كلمة إضراب بفعل ضرب».
و بعد أحداث مارس 1965-يقول علال الأزهر في حوار له- أطلق النظام العنان لجهاز المخزن الأمني-العسكري لاضطهاد المعارضة السياسية،و التضييق على العمل السياسي،حتى أصبح مجرد النطق بكلمة السياسة في البلاد يشكل شبحا مخيفا في أوساط الشعب.
لقد بقيت بعض آثار هذه الأحداث موشومة في الذاكرة المغربية،حيث يستنبطن اللاوعي الجمعي للناس و للجسم السياسي المغربي تجربة الألم و الحسرة و الرعب و المهانة.و هو الأمر الذي بقي يتحكم في السلوك السياسي للمغاربة،و يتجلى ذلك بشكل باز في عزوفهم عن التسييس و في الابتعاد عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية.

المراجع 
-    الانتفاضات الحضرية في المغرب،عبد العزيز خمليش
-    في غمار السياسة:فكرا و ممارسة،الجزء الأول و الثاني،د.محمد عابد الجابري
-    مقال "خرافة العزوف عن السياسة "بأسبوعية الأيام،العدد 562بتاريخ 14-20 مارس 2013
-    أقصى اليسار في المغرب،لحسن العبسي و الصافي الناصري