لاشك أن أعمق زلزال تحدثه الكتابة،تقويضها السهل وبجرة وحي، لكل أطروحات متون أقسام الحالة المدنية،وكذا بداهات الكائن المجتمعي المؤسساتي،القابل خيميائيا للانصهار والذوبان،وأخذه شتى صور التنميط والتحديد.ترسم الكتابة تاريخا للمرء،بين ماقبلها ومابعدها.فهل بوسعنا المجازفة، بالاستفسار التالي :أي مصير محتمل لبيولوجية العرق والجنس،قياسا لمجتمع يشتغل جل أفراده بالكتابة وعلى الكتابة،ويرفضون عن هذا التقسيم للعمل، بديلا؟يتحرر الفرد بالكتابة،وهي تطويه نحو خلود الآبدين،بحيث يهزم الآخر والقدر والسلطة والمكان،ثم يسكن ذاته وقد تمثل أقصى ممكناتها.
كنت طفلا مدرسيا،بالمعنى المؤسساتي للكلمة،أواظب على مواعيدي،دون أن أحشر نفسي، كي أحشو جمجمتي بأشياء واهية،أهم قضية تشذ مخيلتي،الهرولة صوب حضن أمي عند نهاية كل موسم دراسي،ملوحا إلى عنان السماء،بورقة تزخرفها خربشات المدرسين،تطمئن أمي،على أنني مهيأ بما يكفي، لآفاق البحث والسعي وراء الكلأ، على امتداد هذه الصحراء المحيطة بمصيري.هكذا،ظلت المدرسة بالنسبة إلي، سكينة وملاذا، وحلما طفوليا جميلا،ثم أيضا،ما معنى أن تلامس عتبات فصول التنوير،في بلدان العالم السفلي.
كنت طفلا مدرسيا،بالمعنى المؤسساتي للكلمة،أواظب على مواعيدي،دون أن أحشر نفسي، كي أحشو جمجمتي بأشياء واهية،أهم قضية تشذ مخيلتي،الهرولة صوب حضن أمي عند نهاية كل موسم دراسي،ملوحا إلى عنان السماء،بورقة تزخرفها خربشات المدرسين،تطمئن أمي،على أنني مهيأ بما يكفي، لآفاق البحث والسعي وراء الكلأ، على امتداد هذه الصحراء المحيطة بمصيري.هكذا،ظلت المدرسة بالنسبة إلي، سكينة وملاذا، وحلما طفوليا جميلا،ثم أيضا،ما معنى أن تلامس عتبات فصول التنوير،في بلدان العالم السفلي.
أذكر بالضبط كما اللحظة،أختي المستكينة باستمرار في صمت إلى رواية من روايات الأدب الروسي،انتفاضة1984 بكل قسوتها،صديقي كمال المهووس حتى النخاع بكافكا ولفائف الماريخوانا،وهو في شنآن دائم مع أبيه،خالي الذي عاد فجأة بعد غياب طويل ،غير مبرر،ثم عاود الرحيل ثانية، هذه المرة بمبرر، لكن ذات صباح باكر في غفلة منا جميعا،التداول السري لرواية الخبز الحافي،صعقة موسم الهجرة إلى الشمال، شرق المتوسط،سرية أولى مقطوعات شريط ''وعود من العاصفة''لمارسيل خليفة، أكشاك الجرائد التي التجأت إليها وأنا صبي،طلبا لقروش أمد بها أمي، وألتهم ما استطعت من أخبار السياسة وصور الزعماء،تعلقي الشبق والايروسي بعطر رجاء،كتاب الأسبوع، مكتبة القسم المتنقلة،حيث تقرأ بكتاب واحد عشرات الكتب بالتبادل والاستعارة، خزانة دار الطالب و البلدية،دور الشباب، الجمعيات الثقافية،ساحة الكلية، الأسابيع الثقافية للاتحاد الوطني لطلبة المغرب،جيفارا،عبد الكريم الخطابي هوشي منه ماوتسي تونغ، نيلسون مانديلا، عبد الناصر،فلسطين، المهدي بن بركة، جبيهة رحال، عبد اللطيف زروال، سعيدة المنبهي، عمر بن جلون… .
كلما زرت جدتي،اكتشف أختي التي كانت تقيم معها آنذاك،وهي محلقة سواء شرقا أو غربا،على تتابع صفحات طويلة من أساطير جرجي زيدان أو ملاحم روس القرن التاسع عشر،فتعرفت بفضلها على تولستوي ودوستويفسكي وغوركي وتورجنيف وبوشكين وتشيخوف…،ومن خلالهم ''الحرب والسلم''،"الأبله"،''أنا كارنينا"،''الجريمة والعقاب''… .كان الأمر،بمثابة ولادة جديدة،أدركت يومها،أن العالم مفرط في التعقيد،يتجاوز كثيرا،بساطة ما اعتقدته وزملائي تحت وابل صفعات المدرسين.
يسكنني اليوم نزوع، يدفئ دواخلي بقشعريرة غريبة،إلى يوميات مدرسة حينا،وتبارينا صباح وظهيرة بمختلف الألعاب، أمام مدخلها، في انتظار أن يدق جرس الدخول.نلج القسم مثنى مثنى، على مرأى نظرات مختلسة للمعلم.نجلس،يدخل،نقف جمعا على إيقاع واحد وبطريقة منتظمة،احتراما له.عندما يأخذ مكانه، ويستوي تماما،وقبل الشروع في الاستظهار،إما قصيدة شعرية أو سورة قرآنية أو نشيد، نباغته، وقد أسرع أغلبنا نحوه، بعطية من العطايا.هذا يقدم تفاحة وما أدراك ما التفاح وقتها؟والآخر برتقالة،وذاك قطعة خبز من الشعير، صنعته الأم بعناية فائقة.نريد بداية شراء السلم معه،فيرضى عنا ويغدو مزاجه لينا،وإلا فأبسط تضليل لحركة إعرابية،ينجم عنه عقاب شديد.أما الفتيات،فيدخلن كل يوم في تبار استعراضي من نوع مختلف،بتنافسهن الضمني بخصوص أكثرهن قدرة على تعطير الفصل،وشحن أنوفنا،بأنواع مختلفة من روائح الثوم والقطران وربما البصل والغاسول،تهذيبا وتشذيبا لشعورهن، وحفاظا لها من غزوات القمل،فتنتابنا جراء فعلتهن، موجة من النعاس الحالم، لاسيما إذا كان الوقت ظهيرة، والزمان قيظا في مدينة كمراكش.وحينما يكتب المعلم على السبورة، بنوع من الابتهاج اللذيذ، مثلما كنا نلاحظ،عبارته المكررة والشهيرة : ''رأيت وردة ترقص في الحفل''وأحيانا أخرى يجمِّلها ب"راقصت وردة يانعة''،لإفهامنا مستويات الاستعارة،يجدر من الأفضل، أن تسرع أكثرهن جاذبية،كي تكشف بتغنج زائد عن المكونات البلاغية،بحيث تصير، إذا كان جوابها صحيحا،موضوع تغزل يكاد يغدو ماجنا،من خلال إطراءات لا تنتهي،يستحسن بها المدرس،حذقها ونباهتها :
-''عودي إلى مقعدك أيتها ''البطيبيطة،يا زينت اتبسيمة'' ،ثم يفرط، "التفيفيحة"،"الكريميسة''،"البينينة''،"الفينيدة''،وهكذا دواليك،مستعينا في الغالب،لتسريع وتيرة الاستطراد، بجغرافية الفواكه التي وضعناها فوق طاولته.وإذا انفلتت قهقهة أحدنا،أو رمق تعليقا ساخرا ولو بالإيماء،فقد يرجع المعني إلى بيته، مستغنيا عن بعض أعضائه الآدمية.
لست أدري اليوم،هل كان من الضروري،أن أتعرف على كمال،الصديق البوهيمي،الذي اشتهر بين مجموعتنا،إضافة إلى ذكائه المتوقد،بسعة اطلاعه،على جوانب مهمة من الآداب العالمية،ونحن لازلنا وقتها في نهاية سلك الإعدادي،حقبة أواسط سنوات الثمانينات؟من يقدر،في مقتبل العمر،على تحمل عذابات عوالم كافكا وهواجس بيكيت وطلاسم يونسكو.عاش كمال في عراك وخصام دائم مع أبيه،يغادر البيت لفترات طويلة،مفضلا التسكع بين جنان وبساتين مراكش،يوم انتمت حقا هذه المدينة إلى أهلها،وإذا ابتسم له الحظ،يلتقطه أحد أبناء الجيران،كي ينام خلسة عنده لليلة واحدة لاغير،دون تدخين ولاكلام حتى لا ينفضح الأمر،ثم مع أولى خيوط الصباح،يتسلل خارجا، كقط جائع.اكتشفت مع كمال،عبثية الوجود،لكن على المرء أن يستميت بكل الوسائل للدفاع عن حريته.فمثل لي شعور كهذا،عزاء حقيقيا، وحصنا متينا،ضد كل أوجه المكر والخداع والضغينة والوصولية،ثم يوميات واقع تطحننا بلا رأفة ورحمة.مع مرور الأيام، وتفرق السبل،انقطعت أخباره،ربما هاجر البلد نحو أوروبا أو مات أو أصابه مس من الجنون،فريق لا بأس به من أصدقائي،انتهوا إلى مصير سيئ للغاية… .
أترك أختي متوحدة بعوالمها الحكائية،وأعبر بحركات رياضية سريعة أدراج الطابق العلوي،كي أقف عند الغرفة الصغيرة الشهيرة،حيث يمكث خالي لساعات طويلة، في تجاذب دائم مع أشيائه،وهو يبحث عن أفضل الأسطوانات بهاء وصحة،كي ندمن أيضا لساعات طويلة،موسيقى تتوزع بين بوب مارلي وألفا بلوندي والبينك فلويد والديل ستريت وجيمي كليف والشيخ إمام وسعيد المغربي وفيروز وأحمد قعبور… .نستعذب بحماسة مفرطة، أصوات الحياة الجديدة،مع تحكم في حجم الصوت،تجنبا لحدوث انفلاته،مما سيثير انتباه المتلصصين، والوشايات التي ستعقبها.
لازلت أستحضر، بخشوع كبير الحس الإنساني الراقي جدا،لنصوص اللعبي،وكيف قرأت وأعدت قراءة بشغف، دون ملل ولا كلل،عمله''رسائل السجن : يوميات قلعة المنفى''.يفضح اللعبي، إلى كل العالم،بضميره وذكائه وجلده وحواسه،ماتصنعه الهمجية بنا،في أية لحظة من اللحظات،إذا أضعنا البعد الإنساني، ثم توقف على أن يمكث إلى اللانهائي قضيتنا الأولى….إذن، في جوف تلك الغرفة الشبيهة بعلبة كبريت،فهمت جيدا لماذا يولد الإنسان بين الألم والدماء،قدر كون العالم،ليس بتلك الهدية المجانية؟.
تغيرت مؤشرات القراءة عندي،ثم صرت أكثر انتقائية وإلحاحا.لم يعد،جائزا وقد انفتحت أمامي عوالم الحقيقة،أن يغريني أي مصنف أو تسخر من فطرتي،نصوص اللغو واللغط والثرثرة الزائدة! .أحسست،بنضجي في كثير من الأحيان :هل يجب فقط معانقة أدب القضايا والأسئلة الوجودية؟فأخضع المبدعين، لمحكمة الضمير والحقيقة والقيم؟كم أشتاق آنيا في كليتي، إلى معايشة السكينة ذاتها وأنا أقرأ لأول مرة :صنع الله إبراهيم،عبد الرحمن منيف،غسان كنفاني،جبرا إبراهيم جبرا،جان بول سارتر،ألبير كامو... .
مقارنة مع الوضح الحالي لمراكش،زخرت فضاءاتها وقتها، بمجموعة مكتبات،توفر للمهتمين من أبنائها مختلف صنوف الانتاجات العلمية والمعرفية،وإن كانت الأثمنة تتعالى، بجفاء أمام ضيق حال الجيب.لقد كنت بالكاد أصارع مع أسرتي توفير لقمة اليوم الواحد،بينما الغد يتكفل به احتمال آخر، قد يحدث صدفة أم لا؟فالأمر رهين،بحظي.وحدها الصدفة صنعت صنيعها،فألقت بأحد الأشخاص نحوي،كي يرشدني إلى وسيلة سحرية، سأتمكن معها من الحصول على الكتب بطريقة ميسرة،دونما حاجة إلى فلس واحد.يلزمني فقط، الحصول على بطاقة الانخراط، من مسؤول المكتبة العمومية المسماة''الخزانة البلدية''،فيصير بإمكاني مع هذا الوضع الجديد،استعارة كتابين والاحتفاظ بهما لمدة خمسة عشر يوما.وسيلة، شكلت فعلا نقلة نوعية، بخصوص مسار علاقاتي بالقراءة والتحصيل والكتابة.بالمناسية لا أعرف ماذا صنعت الأقدار بهؤلاء الموظفين الطيبين :الشريف، السي عبد الرحيم، السي عبد الصادق، السي عادل… .لاسيما الشريف،كان خدوما ورؤوفا إلى جانب كونه وثيقة متحركة، يلتهم بدينامية هائلة،كل عناوين ومحتويات الخزانة،خاصة ما ارتبط منها بالثقافة العربية والمغربية.ينبعث مني الآن ضحك هستيري،وأنا أستعيد رحلة الذهاب والإياب الأسطوريين،مع بداية كل سنة دراسية جديدة،للظفر بشهادة السكنى من مقدم الحي،لأنها الورقة الأساسية التي تثبت عنوان ومحل سكناي،كي أستفيد ثانية من بطاقة عضوية الخزانة.والأمر كذلك،يتحتم علي الاستعداد لرحلة قصد تعقب آثار صاحب الصلاحية لأسابيع عدة،مادام يستحيل بشكل شبه مطلق،أن تصادفه في مكتبه الشبيه بزنزانة من العهود البائدة،بدعوى ديمومة خرجاته لتفقد أحوال العباد.بل، وحتى إذا أعانني الله على التملي بطلعته البهية،ستزداد قضيتي تعقيدا،عندما أخبره بكوني طالب علم، ودواعي زيارتي وحاجتي لشهادته،ربما قلب الطاولة،واعتبر السعي مضيعة لوقته الثمين.
لاشك، أن الكتابة في بحثها عن شهادة ميلاد مشروعة،تضع نفسها ضمن خانة وتصنيف محددين.هكذا،تمنح حيزها مساحة من التروي والتأمل،يخفف وطأة ''الارتياب''اتجاه ما يلصق بها على سبيل التبخيس،على شاكلة :الفلتة والنزوة والبغتة والفجائية.فما يحيط بك وأنت تكتب إلى جانب الصدق واستبطان الذات،سيخلق لامحالة بؤرة سميكة للتواصل والتأثير،من تم تلاشي كل المسافات المفترضة بين الكتابة والواقع.
القراءة والكتابة،لحظتان بقدر تماثلهما السلس،ينهضان على صراعات حادة في مطلق الأحوال.يمكننا التلاعب بحدي علاقاتهما وقول ما نشاء :الكتابة تهذيب لما قرأناه، نسيان للقراء،ورطة القراءة.قد تقرأ جيدا، وتستعصي عليك الكتابة.في المقابل،تصل إلى تحقيق إمكانية تطويع جسد الكتابة،دون بلوغك مستويات معدلات مقبولة، لعشق القراءة.إنها،جدلية دقيقة تزداد حساسيتها بشكل مفرط،حينما ننتقل بها إلى المجال الحيوي للحياة،ونستفسر ببراءة الطفولة : لماذا اختلق المرء حجة الكتابة؟طبعا حجة له وعليه،فتواريخ اللا-سلطة واللا-هوية والرحيل اللانهائي،كما تتأتى مع الكتابة، تجعل من لعبة الوجود قضية ممكنة.
يبقى وفاء المرء لتاريخية القراءة،ساكنا ومهادنا،يتمرد وفقه على قوانين الزمان الحياتية وطبيعة المقتضيات المجتمعية القائمة.لقد سكنتني أبعاد المعادلة جيدا،وأنا أجد نفسي عفويا،محلقا براهني، وعائدا بعقارب الساعة إلى أواسط الثمانينات،وبالضبط دخل جدران ثانوية ''سحنون''،حيث أساتذتي وأصدقائي، وصفاء علاقاتنا، وأريج رجاء، وبطولات كرة القدم، وعذوبة ما نمارس، رغم صعوبة ذاك الزمان.أستحضر كما الآن، أجواء نقاشاتنا الإغريقية، حول "يوميات نائب في الأرياف ل"توفيق الحكيم''،أقصد النص الأدبي الذي فككنا أجزاءه بمتعة سجالية لا تضاهى،خلال حصة دراسة المؤلفات المتعلقة باللغة العربية،كما حدث نفس الأمر، مع رواية''الأسد'' للكاتب جوزيف كيسيل،على مستوى اللغة الفرنسية.
هكذا سافرت مرة أخرى عبر مركبة الزمان، مقررا أن أستعيد وفق غاية مقصودة لحظات دافئة ومبهجة،حيث القراءة حقا لذيذة، ومدرسة سنوات الطفولة، أم حنون، نستعين بذكراها الدافئة،ونرتشف منه إكسيرا للحياة،على الرغم من مساوئ هذه الحياة.
كلما زرت جدتي،اكتشف أختي التي كانت تقيم معها آنذاك،وهي محلقة سواء شرقا أو غربا،على تتابع صفحات طويلة من أساطير جرجي زيدان أو ملاحم روس القرن التاسع عشر،فتعرفت بفضلها على تولستوي ودوستويفسكي وغوركي وتورجنيف وبوشكين وتشيخوف…،ومن خلالهم ''الحرب والسلم''،"الأبله"،''أنا كارنينا"،''الجريمة والعقاب''… .كان الأمر،بمثابة ولادة جديدة،أدركت يومها،أن العالم مفرط في التعقيد،يتجاوز كثيرا،بساطة ما اعتقدته وزملائي تحت وابل صفعات المدرسين.
يسكنني اليوم نزوع، يدفئ دواخلي بقشعريرة غريبة،إلى يوميات مدرسة حينا،وتبارينا صباح وظهيرة بمختلف الألعاب، أمام مدخلها، في انتظار أن يدق جرس الدخول.نلج القسم مثنى مثنى، على مرأى نظرات مختلسة للمعلم.نجلس،يدخل،نقف جمعا على إيقاع واحد وبطريقة منتظمة،احتراما له.عندما يأخذ مكانه، ويستوي تماما،وقبل الشروع في الاستظهار،إما قصيدة شعرية أو سورة قرآنية أو نشيد، نباغته، وقد أسرع أغلبنا نحوه، بعطية من العطايا.هذا يقدم تفاحة وما أدراك ما التفاح وقتها؟والآخر برتقالة،وذاك قطعة خبز من الشعير، صنعته الأم بعناية فائقة.نريد بداية شراء السلم معه،فيرضى عنا ويغدو مزاجه لينا،وإلا فأبسط تضليل لحركة إعرابية،ينجم عنه عقاب شديد.أما الفتيات،فيدخلن كل يوم في تبار استعراضي من نوع مختلف،بتنافسهن الضمني بخصوص أكثرهن قدرة على تعطير الفصل،وشحن أنوفنا،بأنواع مختلفة من روائح الثوم والقطران وربما البصل والغاسول،تهذيبا وتشذيبا لشعورهن، وحفاظا لها من غزوات القمل،فتنتابنا جراء فعلتهن، موجة من النعاس الحالم، لاسيما إذا كان الوقت ظهيرة، والزمان قيظا في مدينة كمراكش.وحينما يكتب المعلم على السبورة، بنوع من الابتهاج اللذيذ، مثلما كنا نلاحظ،عبارته المكررة والشهيرة : ''رأيت وردة ترقص في الحفل''وأحيانا أخرى يجمِّلها ب"راقصت وردة يانعة''،لإفهامنا مستويات الاستعارة،يجدر من الأفضل، أن تسرع أكثرهن جاذبية،كي تكشف بتغنج زائد عن المكونات البلاغية،بحيث تصير، إذا كان جوابها صحيحا،موضوع تغزل يكاد يغدو ماجنا،من خلال إطراءات لا تنتهي،يستحسن بها المدرس،حذقها ونباهتها :
-''عودي إلى مقعدك أيتها ''البطيبيطة،يا زينت اتبسيمة'' ،ثم يفرط، "التفيفيحة"،"الكريميسة''،"البينينة''،"الفينيدة''،وهكذا دواليك،مستعينا في الغالب،لتسريع وتيرة الاستطراد، بجغرافية الفواكه التي وضعناها فوق طاولته.وإذا انفلتت قهقهة أحدنا،أو رمق تعليقا ساخرا ولو بالإيماء،فقد يرجع المعني إلى بيته، مستغنيا عن بعض أعضائه الآدمية.
لست أدري اليوم،هل كان من الضروري،أن أتعرف على كمال،الصديق البوهيمي،الذي اشتهر بين مجموعتنا،إضافة إلى ذكائه المتوقد،بسعة اطلاعه،على جوانب مهمة من الآداب العالمية،ونحن لازلنا وقتها في نهاية سلك الإعدادي،حقبة أواسط سنوات الثمانينات؟من يقدر،في مقتبل العمر،على تحمل عذابات عوالم كافكا وهواجس بيكيت وطلاسم يونسكو.عاش كمال في عراك وخصام دائم مع أبيه،يغادر البيت لفترات طويلة،مفضلا التسكع بين جنان وبساتين مراكش،يوم انتمت حقا هذه المدينة إلى أهلها،وإذا ابتسم له الحظ،يلتقطه أحد أبناء الجيران،كي ينام خلسة عنده لليلة واحدة لاغير،دون تدخين ولاكلام حتى لا ينفضح الأمر،ثم مع أولى خيوط الصباح،يتسلل خارجا، كقط جائع.اكتشفت مع كمال،عبثية الوجود،لكن على المرء أن يستميت بكل الوسائل للدفاع عن حريته.فمثل لي شعور كهذا،عزاء حقيقيا، وحصنا متينا،ضد كل أوجه المكر والخداع والضغينة والوصولية،ثم يوميات واقع تطحننا بلا رأفة ورحمة.مع مرور الأيام، وتفرق السبل،انقطعت أخباره،ربما هاجر البلد نحو أوروبا أو مات أو أصابه مس من الجنون،فريق لا بأس به من أصدقائي،انتهوا إلى مصير سيئ للغاية… .
أترك أختي متوحدة بعوالمها الحكائية،وأعبر بحركات رياضية سريعة أدراج الطابق العلوي،كي أقف عند الغرفة الصغيرة الشهيرة،حيث يمكث خالي لساعات طويلة، في تجاذب دائم مع أشيائه،وهو يبحث عن أفضل الأسطوانات بهاء وصحة،كي ندمن أيضا لساعات طويلة،موسيقى تتوزع بين بوب مارلي وألفا بلوندي والبينك فلويد والديل ستريت وجيمي كليف والشيخ إمام وسعيد المغربي وفيروز وأحمد قعبور… .نستعذب بحماسة مفرطة، أصوات الحياة الجديدة،مع تحكم في حجم الصوت،تجنبا لحدوث انفلاته،مما سيثير انتباه المتلصصين، والوشايات التي ستعقبها.
لازلت أستحضر، بخشوع كبير الحس الإنساني الراقي جدا،لنصوص اللعبي،وكيف قرأت وأعدت قراءة بشغف، دون ملل ولا كلل،عمله''رسائل السجن : يوميات قلعة المنفى''.يفضح اللعبي، إلى كل العالم،بضميره وذكائه وجلده وحواسه،ماتصنعه الهمجية بنا،في أية لحظة من اللحظات،إذا أضعنا البعد الإنساني، ثم توقف على أن يمكث إلى اللانهائي قضيتنا الأولى….إذن، في جوف تلك الغرفة الشبيهة بعلبة كبريت،فهمت جيدا لماذا يولد الإنسان بين الألم والدماء،قدر كون العالم،ليس بتلك الهدية المجانية؟.
تغيرت مؤشرات القراءة عندي،ثم صرت أكثر انتقائية وإلحاحا.لم يعد،جائزا وقد انفتحت أمامي عوالم الحقيقة،أن يغريني أي مصنف أو تسخر من فطرتي،نصوص اللغو واللغط والثرثرة الزائدة! .أحسست،بنضجي في كثير من الأحيان :هل يجب فقط معانقة أدب القضايا والأسئلة الوجودية؟فأخضع المبدعين، لمحكمة الضمير والحقيقة والقيم؟كم أشتاق آنيا في كليتي، إلى معايشة السكينة ذاتها وأنا أقرأ لأول مرة :صنع الله إبراهيم،عبد الرحمن منيف،غسان كنفاني،جبرا إبراهيم جبرا،جان بول سارتر،ألبير كامو... .
مقارنة مع الوضح الحالي لمراكش،زخرت فضاءاتها وقتها، بمجموعة مكتبات،توفر للمهتمين من أبنائها مختلف صنوف الانتاجات العلمية والمعرفية،وإن كانت الأثمنة تتعالى، بجفاء أمام ضيق حال الجيب.لقد كنت بالكاد أصارع مع أسرتي توفير لقمة اليوم الواحد،بينما الغد يتكفل به احتمال آخر، قد يحدث صدفة أم لا؟فالأمر رهين،بحظي.وحدها الصدفة صنعت صنيعها،فألقت بأحد الأشخاص نحوي،كي يرشدني إلى وسيلة سحرية، سأتمكن معها من الحصول على الكتب بطريقة ميسرة،دونما حاجة إلى فلس واحد.يلزمني فقط، الحصول على بطاقة الانخراط، من مسؤول المكتبة العمومية المسماة''الخزانة البلدية''،فيصير بإمكاني مع هذا الوضع الجديد،استعارة كتابين والاحتفاظ بهما لمدة خمسة عشر يوما.وسيلة، شكلت فعلا نقلة نوعية، بخصوص مسار علاقاتي بالقراءة والتحصيل والكتابة.بالمناسية لا أعرف ماذا صنعت الأقدار بهؤلاء الموظفين الطيبين :الشريف، السي عبد الرحيم، السي عبد الصادق، السي عادل… .لاسيما الشريف،كان خدوما ورؤوفا إلى جانب كونه وثيقة متحركة، يلتهم بدينامية هائلة،كل عناوين ومحتويات الخزانة،خاصة ما ارتبط منها بالثقافة العربية والمغربية.ينبعث مني الآن ضحك هستيري،وأنا أستعيد رحلة الذهاب والإياب الأسطوريين،مع بداية كل سنة دراسية جديدة،للظفر بشهادة السكنى من مقدم الحي،لأنها الورقة الأساسية التي تثبت عنوان ومحل سكناي،كي أستفيد ثانية من بطاقة عضوية الخزانة.والأمر كذلك،يتحتم علي الاستعداد لرحلة قصد تعقب آثار صاحب الصلاحية لأسابيع عدة،مادام يستحيل بشكل شبه مطلق،أن تصادفه في مكتبه الشبيه بزنزانة من العهود البائدة،بدعوى ديمومة خرجاته لتفقد أحوال العباد.بل، وحتى إذا أعانني الله على التملي بطلعته البهية،ستزداد قضيتي تعقيدا،عندما أخبره بكوني طالب علم، ودواعي زيارتي وحاجتي لشهادته،ربما قلب الطاولة،واعتبر السعي مضيعة لوقته الثمين.
لاشك، أن الكتابة في بحثها عن شهادة ميلاد مشروعة،تضع نفسها ضمن خانة وتصنيف محددين.هكذا،تمنح حيزها مساحة من التروي والتأمل،يخفف وطأة ''الارتياب''اتجاه ما يلصق بها على سبيل التبخيس،على شاكلة :الفلتة والنزوة والبغتة والفجائية.فما يحيط بك وأنت تكتب إلى جانب الصدق واستبطان الذات،سيخلق لامحالة بؤرة سميكة للتواصل والتأثير،من تم تلاشي كل المسافات المفترضة بين الكتابة والواقع.
القراءة والكتابة،لحظتان بقدر تماثلهما السلس،ينهضان على صراعات حادة في مطلق الأحوال.يمكننا التلاعب بحدي علاقاتهما وقول ما نشاء :الكتابة تهذيب لما قرأناه، نسيان للقراء،ورطة القراءة.قد تقرأ جيدا، وتستعصي عليك الكتابة.في المقابل،تصل إلى تحقيق إمكانية تطويع جسد الكتابة،دون بلوغك مستويات معدلات مقبولة، لعشق القراءة.إنها،جدلية دقيقة تزداد حساسيتها بشكل مفرط،حينما ننتقل بها إلى المجال الحيوي للحياة،ونستفسر ببراءة الطفولة : لماذا اختلق المرء حجة الكتابة؟طبعا حجة له وعليه،فتواريخ اللا-سلطة واللا-هوية والرحيل اللانهائي،كما تتأتى مع الكتابة، تجعل من لعبة الوجود قضية ممكنة.
يبقى وفاء المرء لتاريخية القراءة،ساكنا ومهادنا،يتمرد وفقه على قوانين الزمان الحياتية وطبيعة المقتضيات المجتمعية القائمة.لقد سكنتني أبعاد المعادلة جيدا،وأنا أجد نفسي عفويا،محلقا براهني، وعائدا بعقارب الساعة إلى أواسط الثمانينات،وبالضبط دخل جدران ثانوية ''سحنون''،حيث أساتذتي وأصدقائي، وصفاء علاقاتنا، وأريج رجاء، وبطولات كرة القدم، وعذوبة ما نمارس، رغم صعوبة ذاك الزمان.أستحضر كما الآن، أجواء نقاشاتنا الإغريقية، حول "يوميات نائب في الأرياف ل"توفيق الحكيم''،أقصد النص الأدبي الذي فككنا أجزاءه بمتعة سجالية لا تضاهى،خلال حصة دراسة المؤلفات المتعلقة باللغة العربية،كما حدث نفس الأمر، مع رواية''الأسد'' للكاتب جوزيف كيسيل،على مستوى اللغة الفرنسية.
هكذا سافرت مرة أخرى عبر مركبة الزمان، مقررا أن أستعيد وفق غاية مقصودة لحظات دافئة ومبهجة،حيث القراءة حقا لذيذة، ومدرسة سنوات الطفولة، أم حنون، نستعين بذكراها الدافئة،ونرتشف منه إكسيرا للحياة،على الرغم من مساوئ هذه الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق