الجمعة، 18 مارس 2016

مهمة الفلسفة: مقاومة البلاهة والفظاعة ـ ادريس شرود

عن أنفاس نت




من الأمراض التي تعاني منها أوساطنا الثقافية والفكرية، شيوع لامبالاة مفرطة تجاه ما يكتب ويعرض، وانتشار سلوكات ملؤها الإزدراء والتحقير لكل ماهو فكري وفلسفي. بل يقف المرء مذهولا أمام تنامي عداوات بين ممتهني الكتابة، قد تصل إلى تحاشي اللقاء والحوار، وسوء التقدير والإعتراف، ومقاطعة مشاريع فكرية وثقافية وفنية. ينتج عن هذا التقوقع على الذات، ارتباط الشأن الثقافي بانتماءات وأخويات ومصالح. لكن هناك خطوط انفلات تخترق الساحة الثقافية، تنشأ فوقها حركات إبداعية وابتكارات، وكذلك مشاكل وأخطار. ذلك ما يفرض مساءلة دور الفلسفة ومهمتها في عالم محكوم بمنطق الصورة وسطوة الإعلام، وانتشار طرق سافلة للتفكير. من أهم مظاهر هذه السفالة، تزايد ما يسمى بالكتابة الصحفية التي تريد أن تسود، بحكم احتكارها لقنوات النشر والبث والتوزيع. لكن ما يعاب على هذا النوع من الكتابة هو خضوعها لأشكال مدروسة من المراقبة والتوجيه، وضعف مساهمتها في تغيير صورة الفكر. لهذا لابد من اقحام الفلسفة في مواجهة معضلات العصر الفكرية والثقافية. فعمل الفكر ليس هو إدانة الشر الذي قد  يسكن، كل ما يوجد، بل أن يستشعر الخطر الذي يكمن في كل ما هو مألوف، وأن يجعل  كل ما هو راسخ موضع إشكال(1).
دفاعا عن فلسفة تحزن وتعاكس 
    تثير قصة اعتراض ديوجين على امتداح فيلسوف أمامه، تساؤلات حول قيمة ما يكتب وما يراكم من مؤلفات ومصنفات ومجلدات. فقد واجه ديوجين هذا الإمتداح بالسؤال التالي: ما لديه من عظيم يظهره، هو الذي انصرف زمنا طويلا من دون إثارة حزن أحد؟. تنطبق هذه القصة على الكثير من الكتابات التي تطبع وتنشر دون أن تثير أي ردود فعل، أكانت إيجابية أم سلبية. فالصمت هو الرد الوحيد الذي يبقى منتصبا هنا وهناك، مستهزئا من سلعة لا تلقى رواجا ولا إقبالا من أحد. لا يتعلق الأمر بتدني مستوى القراءة وضعف الإقبال على اقتناء الكتب، بل أغلب ما يكتب وينشر لا يحزن ولا يزعج ولا يعاكس أحد. قد لا نحتاج إلى أمثلة لدعم نظرتنا المتشائمة للمشهد الثقافي الراهن وللفضاء الفكري والإبداعي، إذ يكاد يخلو من نظريات وأطروحات جديدة تواكب التحولات الجارية، وكذا من شخصيات فكرية وازنة ومؤثرة وفعالة . في حين، نندهش للسرعة التي انتشرت بها ثقافة مسمومة، تمجد البلاهة والغباوة، وتلقى الترحاب والقبول المنقطع النظير من كتلة بشرية لم تفرض وجودها ولو لحظة منذ زمن بعيد، وشكلت فظاعة من نوع آخر. لكل هذا، وجب استعادة عمل الفلسفة النقدي بصورة فاعلة  كما أكد جيل دولوز(2)، بهدف مواجهة بلاهة وفظاعة زماننا.
الفلسفة مقاومة للبلاهة
     يلاحظ العديد من المهتمين انتشار أشكالا من البلاهة في حياتنا اليومية، خاصة مع الثورة الجديدة في مجال تكنولوجيا المعلوميات  والإتصال، التي أشاعت ثقافة منمطة وموحدة واستهلاكية، انعكست على سلوكات وتصرفات الأفراد وعلاقاتهم. هكذا تحولت هذه الآلة الإعلامية إلى منتج خطير للمفاهيم  والأفكار، وانتصبت بالتالي كمنافسة حقيقية للفلسفة. لقد  انتشرت حقائق الخساسة والسفالة والبلاهة نتيجة تحالف القوى الإرتكاسية القديمة والحديثة، بل وانتصارها، وتحويل الرأي العام للإنشغال بقيمها وأوهامها التقليدية والعصرية؛ قيم العبودية و الخضوع لأخلاق الماضي وأوهامه، و لتفاهات الحاضر وبداهاته.
فماذا تبقى للفكر في عصر تسوده البلاهة؟
 يكفي أن نصرخ، وننادي بدور جديد للفلسفة، يتوجه دون مواربة أو مخاتلة إلى الروح السافلة للعصر: البلاهة.
تشير العديد من المقاربات إلى المفارقة العجيبة التي تقوم عليها البلاهة، فهي تفكير ضعيف ودنئ وبسيط، لكنها تشكل في الوقت ذاته، بنية صلبة متحجرة ومتماسكة. لهذا وجب فهم البلاهة كبنية فكرية، تعود إلى "فاعلية" القوى السائدة والإرتكاسية. تتمثل نتائج تلك الفاعلية  في انحطاط الثقافة وانتصار قيم المنفعة والربح، أي أخلاق العبيد بتعبير نيتشه، أخلاق العدوانية والإنتقام والضغينة. ومع تطور تقنيات التواصل وتأثيرها الفعال على أنماط التفكير وأساليب الحياة، أصبحت البلاهة شاملة لأنشطة الإنسان، حيث سيادة أنماط من الحياة ومن المعرفة والفهم و التفكير-من أجل- السوق، تترجم في سلوكات ارتكاسية؛ كالإهتمام المرضي بالسلع والبضائع، واللامبالات تجاه الذات والآخرين وضعف الإنشغال بشؤون المجتمع والحياة.
يعتبرفريديريك نيتشه، نموذج الفيلسوف الذي قاوم البلاهة دون خوف ولا تردد، وألحق بها الهزيمة النكراء، حين وضع الفكر في عنصري المعنى والقيمة، وجعل من الفكر نقدا للحماقة والسفالة، وبذلك اقترح صورة جديدة للفكر(3). فقد اضطلعت فلسفته بدور النقد والإبداع، أي التساؤل عن قيمة القيم ، وعن إمكانية خلق أخرى جديدة. ففي مجال النقد كشف نيتشه عن بنية البلاهة التي تميز الظاهرة الإنسانية المتمثلة في الأخطاء والحقائق السافلة التي تعبر عن انتصار العبيد . لهذا دعا نيتشه إلى الإضرار بالبلاهة وفضح السفالة، عن طريق توضيح للناس ما كان يخفيه إحساسهم بالخطإ واضطغانهم، أي أوهامهم وسفالة أرواحهم . أما في مجال الإبداع، فيبدو أننا لازلنا نعاني من ثقل آراء وأحكام ألفيات خلت، تجعلنا ننتمي، رغما عن أنفسنا، إلى جمهور المقلدين والشارحين، بل المحافظين. إن الإضرار بالبلاهة ومقاومتها وإنزال الهزيمة بها، يتطلب بروز قوى جديدة تستولي على الفكر وتوجهه ضد "روح العصر"؛ أعني البلاهة. لكن يبدو أن عزم القوى الإرتكاسية القديمة والحديثة قوي جدا، إذ أن التغيرات التي لحقت بالحياة المعاصرة شكلت وسطا ملائما لنمو نماذج بشرية مهمومة بالتعالي ومهتمة بالتسويق والإستهلاك، وأضحت شخصيات نموذجية،  تلقى كثيرا من الإعجاب والحب ...، بل صار أسلوبها في الحياة متطلبا ومدعاة للإتباع.
نستنتج مما سبق، أن البلاهة ميزة عصرنا، وماركة مسجلة باسم الحداثة وما بعدها. فهل بإمكاننا الإفلات من شباكها؟ أم نقر على أن لها نصيب من العظمة والتميز في مجلات الحياة اليومية والعادية، وفي ميادين  إبداعية كالأدب والفلسفة والفن والجماليات؟.
الفلسفة مقاومة للفظاعة
    أكد جيل دولوز على وجود ما سماه ب"فظاعة ثالثة"(4) عند ميشيل فوكو؛ فظاعة نذرة، فظاعة أناس تافهين، حقيرين وبسطاء، لا يفرضون وجودهم لحظة ما ولا تسلط عليهم الأضواء إلا من خلال الشكاوي التي تقدم فيهم محاضر الشرطة التي تتهمهم(5). تميز  نظرة فوكو هذه، بين وضع اجتماعي و ممارسات سياسية، تصنف الأفراد في فئات وتسميهم بشخصيتهم الخاصة، وتعلقهم بهويتهم، وتفرض عليهم قانون حقيقة يجب عليهم أن يعترفوا به وعلى الآخرين أن يقروه فيهم(6). يعكس هذا التصنيف حقيقة السلطة، وطرق استخدامها لإجراءات تفريد متميزة لوسم إقصاءات معينة وتعزيز عملها ونفوذها في الزمان والمكان. يؤكد فوكو، على أن الفرد، مثلا، غير مهم إلا بمقدار ما يسهم في زيادة قوة الدولة، وليست لحياة الأفراد ومماتهم ومهنهم وبؤسهم وفرحهم أية أهمية إلا بمقدار ما يمكن أن تكون لهذه الإهتمامات اليومية فائدة سياسية. أحيانا، يكون واجب الفرد، من وجهة نظر الدولة، هو العيش والعمل والإنتاج حسب أنماط معينة؛ وأحيانا، يجب أن يموت كي يزيد قوة الدولة(7). لكن خصوصية هذه السلطة الحديثة  تظهر في حرصها على ألا يكون الأفراد متساوين ولا متكافئين من حيث الإقتدار(8)، وبالتالي نمو فوارق في كيفية تقرير الوجود الشخصي للأفراد، ونشوء تفاوتات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وأشكال من الإقصاء والتهميش لفئات اجتماعية واسعة. في حالة السلم، تبدو الأمور عادية، بحكم انشغال هؤلاء المقصيين والمهمشين  بتحصيل قوتهم، وتدبير روتينهم اليومي، مع ما يتخلله من مشاكل وظواهر اجتماعية تجعل منهم أناسا تافهين وبسطاء، يتعرضون للإذلال أو للإهمال أو للمعاملة القاسية من قبل أولئك الذين يملكون الأدوات المادية والرمزية للإضطهاد- كما تؤكد إيزايا برلين- ولا تسلط عليهم الأضواء إلا في محاضر الشرطة. أما في حالة اندلاع اضطرابات وهبات اجتماعية، فقد يتحول هؤلاء البسطاء إلى قوى مرعبة. فمن يستطيع هنا والآن، أن يوقف هذا التحويل الخطير الذي يجتاح قيم ومثل وآراء هذه الفئات، مع أشكال الدعاية التي يمارسها الإعلام والقوى السائدة والإرتكاسية؟.
إن التهميش والإقصاء الذي مارسته السلطة وأجهزتها، على أناس تافهين يبقى موشوما على أجسادهم؛ على أجسامهم وأفكارهم،  ويؤدي بالفعل إلى إنتاج أناس بسطاء. لكن وجب التحدير: يكفي أن تظاف جرعة واحدة من الإضطهاد أو الحط من الكرامة، حتي يتحول هؤلاء البسطاء إلى كائنات مخيفة ورهيبة، مزودة هذه المرة، بإيديولوجية مدمرة.
كيف يمكن للفلسفة أن تقاوم البلاهة، وتنهض ضد الفظاعة؟            
هل تستطيع عملية تعقب البلاهة، إزعاجها على الأقل، ما دمنا نعرف مسبقا صعوبة القضاء النهائي عليها، أم علينا أن نتركها للتعبيرعن نفسها، لأن ممثليها مندمجين في المحيط الإجتماعي، بل لهم الحق في البلاهة؟
 هل بإمكان الفلسفة مقاومة الفظاعة بوسائلها الخاصة، أم هناك ضرورة لبناء تنسيق ما، يسمح بإبداع اقتصاد جديد للعلاقات السلطوية، ولنمط جديد من الحكم؟
 تفرض علينا هذه الأسئلة مواجهة الحاضر، عبر توجيه فكرنا إلى وجود الإنسان في العالم، وإلى احتياجاته الضرورية. لكن هذا لا يعني الدفاع عن حقوقه ومصالحه، بل تفعيل تلك العلاقة التي تربط الفلسفة  بشعب ممكن، واستشعارمجيئه، عن طريق مقاومة الموت والعبودية، مقاومة ما هو مرفوض كليا، مقاومة العار والحاضر، بتعبير دولوز(9).
الهوامش:
1-أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص204.
2-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1993، لبنان، ص137.
3-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص138.
4-يشير دولوز  إلى فظاعة أولى يطلق عليها "فظاعة كاذبة ومغلوطة"، وفظاعة ثانية  يسميها ب"فظاعة غريبة شاذة".
5-جيل دولوز: المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، لبنان-الدار البيضاء، المغرب، الهامش رقم 3، ص103.
6-أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص190.
7- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص127.
8- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص124.
9- يقول جيل دولوز بصدد قضية هايدغر:" إن العرق المنادى به من قبل الفن والفلسفة ليس هو العرق الذي يدعي نقاءه، وإنما العرق المقموع، اللاشرعي، المنحط، الفوضوي، المترحل، والقاصر دون أمل في إصلاحه، أولئك- من سلالات هذه الأعراق- الذين أقصاهم كانط من دروب النقد الجديد"، انظر جيل دولوز- فيليكس غتاري: ما هي الفلسفة، ص121.

هناك تعليقان (2):