الأحد، 20 مارس 2016

في وداع الأستاذ جورج : الاستاذ سعيد مكي



القدرة على التفكير النقدي هي التي أتاحت للأستاذ جورج تحقيق انتقالات كبرى هي نفسها منعطفات الفكر العربي المعاصر: القومية، الماركسية، الوجودية، وصولا إلى نقد التراث.
العرب سعيد ناشيد [نُشر في 21/03/2016، العدد: 10221، ص(9)]
ليس من عادتي أن أجد صعوبة في رثاء أصدقائي؛ إذ تطاوعني الكلمات في هكذا مواقف. غير أنني اليوم، مع رحيل فقيد الفكر العربي المعاصر، جورج طرابيشي، تأبى الكلمات أن تطاوعني بسلاسة وانسياب، فتأتي متشظية مثل مرآة مكسورة تجعل الأشياء تبدو محطمة. لكن من يدري؟ لعل دور الموت أن يخبرنا بأن الحياة ليست سوى انكسارات، ولعل ظواهر الكون نفسها تخبرنا بأن الطبيعة والأنهار والبحار والأحجار والأجرام والشهب والغبار الذري جميعها انكسارات في الأرض والسماء. أفلا يكون هذا الانكسار الكوني عزاءنا الأخير في حياة لا تبقي على أحد؟ حتى الذاكرة وفي الظروف النفسية العادية لا تحضر إلا في شكل شظايا وانكسارات، مثل الأحلام والخيالات والاستيهامات، فما بالك بظروف الفقد والخسارة والألم.
بالنسبة إلي، كان الأستاذ جورج صديقا ناصحا، وأبا مرشدا، ومثالا ملهماً.. كان يعتبرني الأقرب إلى روحه، وكنت أعتبر نفسي ثمرته الأخيرة في آخر الحساب. والآن، فقط الآن، بعد غيابه الفجائي والفجاعي، أشعر بأنّه مضى إلى سراديب الغياب الذي نحن إليه ماضون، آخذا معه قطعة من روحي، وتاركا في وجداني فراغا غائرا سأحمله معي إلى آخر العمر. وبين ثنايا الفراغ المأتمي أثر لمنعطفات مفصلية في حياتي الفكرية.
كنت قد توصلت بنسخة عن مشروعه الأخير، من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، قبل صدوره بعدة أسابيع، وكان لي عظيم الشرف أن أقرأ الكتاب قبل إصداره. فعلا، قرأته كما لم أقرأ كتابا قبله. كانت قراءتي له ورشة وخلوة استغرقت مني أكثر من أسبوعين من التفرغ الكامل في البيت، لا أغادره إلا قليلا ولحاجة قصوى. بعدها شعرتُ كأن نظام الخلايا في دماغي قد تغيّر، فلم أعد أفكر كما كنت من قبل. وكان هذا منعطفا كبيرا في حياتي. قلت لجورج: سأنتظر صدور الكتاب حتى أنشر دراسة عنه ولي الشرف أن أكون أول القارئين. قال: لا تبخل بانتقاداتك، فهي تهمني. قلت له: بل، حتى أنت باعتبارك أكبر ناقد عربي، أراهن على أنك لن تفلح في نقد هذا الكتاب، كتابك؛ فلقد أحكمتَه، ولقد تعلمتُ منه كثيرا وسيتعلم منه الكثيرون، وسيتعلم منه العقلانيون والقرآنيون والمسلمون اللامذهبيون، وربما يجمع شملهم بعد طول شتات، وهذا رهاني.
غير أن علاقتي مع جورج كانت قد توطدت قبل ذلك، بمناسبة موت مفكر آخر.
قبل سنوات، عندما تلقيت خبر وفاة المفكر المغربي محمد عابد الجابري فكرت مباشرة في الأستاذ جورج. كتبت له على وجه السرعة “أستاذي جورج، لربما بلغك نبأ وفاة المفكر المغربي الجابري. نحن المغاربة ننتظر تعزية منك. إذا تكرمت سأحاول نشرها في نفس الصحيفة المغربية التي كان يتعامل معها الجابري”. أجابني “لقد بلغني الخبر، وكنت أتساءل حول ما إن كان علي أن أكتب شيئا. والآن سأعتبر رسالتك تحريضاً إضافيا”. عند منتصف الليل توصلت بنص تعزيته، وقال لي بتواضع كبير “إذا وجدتها تصلح للنشر فذاك، وإذا رأيت أنها لا تصلح للنشر فلا مشكلة يمكنك أن تغض الطرف عنها”. كانت تعزيته شكلا ومضمونا درسا كبيرا في أخلاق المثقف العلماني، لا سيما وأن مفكرا مغربيا آخر، عبدالله العروي، لم يقل شيئا عن وفاة الجابري، كما لو أن الأمر لا يعنيه.
أعترف بأني لم أقل شيئا عن مضامين النقد المعرفي الذي وجهه طرابيشي للجابري في مشروعه نقد نقد العقل العربي؛ وقد كانت تنتابني قناعة راسخة بأن الدخول بينهما غير ميسر لمن لم يمتلك التراث امتلاكا كاملا من ألفه إلى يائه، بمعنى أن يكون المرء قادرا على القراءة المتأنية والفاحصة لمئات الآلاف من الصفحات في الفلسفة والفقه والتفاسير والكلام والتصوف والأدب. بدل ذلك، كان الاختيار الأيسر هو انتظار ردود الجابري. وهو ما لم يتحقق في الأخير. كنت أشعر بأمرين: أولهما أن الأستاذ جورج قد رفع سقف النقد المعرفي، وهو الذي كان ناقدا أدبيا في بداية مشواره. وثانيهما، وهذا هو الأمر المؤسف، أن ملاحظاته كانت من الدقة بحيث أن القراء الذين انتظروا ردود الجابري كانوا محقين. فعندما يقول جورج إن حكم الجابري على إخوان الصفا بأنهم لاعقلانيين هو ثمرة قراءة انتقائية للصفحات الأولى من رسائلهم، ولو أنه تجشم عناء متابعة قراءة الرسائل رغم ضخامتها لوجد فكرا لا يستغني عن استعمال العقل والمنطق في كل مناحي التفكير بلا مواربة، فمن الواضح أن الأمر هنا يتعلق بملاحظة معرفية وجيهة. وعندما يضع الجابري ابن حزم ضمن التيار العقلاني لأنه يمجد العقل في نواياه المعلنة، ثم يتساءل طرابيشي، ألا يقوم المنهج الظاهري لابن حزم نفسه بتعطيل العقل أمام سلطة النص الديني لما يدعو إلى قراءته ظاهريا بمعزل عن أي قياس أو استنباط؟ أفلا يتعلق الأمر هنا أيضا بملاحظة معرفية دقيقة؟ وحين يؤكد طرابيشي بأن مثل هذا التسرع في الحكم خاضع لخلفية الجابري في التقسيم الأيديولوجي بين مشرق غنوصي ومغرب عقلاني، أفلا يتعلق الأمر بملاحظة تستدعي الحوار؟ هي مجرد تساؤلات مفتوحة وغيض من فيض ناقد قرر كما قال بنفسه أن يعيد تفحص مراجع وإحالات الجابري وهو يحذوه “حذو النعل بالنعل”. لكن الواضح أيضا أن جورج عندما عنون تعزيته للجابري بـ”ربع قرن من حوار بلا حوار”، فقد كان يعبر عن حالة موضوعية. أما عن الحمية الإقليمية التي طبعت بعض المثقفين المغاربة فلعلها خارج سياق الحوار العقلاني.
تبادلتُ مع الأستاذ جورج العشرات من الرّسائل في مطلع ما كان يسمى بالرّبيع العربي، لم يكن يقاسمني نفس حماستي لثورات سياسية لم تسبقها ثورات فكرية ولا تقودها قيادات عاقلة، وهو اختلاف لم يفسد للود قضية. ولا أخفي الآن بأنّ الكثير من العبارات نسجتها أثناء النقاش معه: السيناريو الإيراني لن يتكرر؛ زمن فيسبوك وتويتر وميادين التّحرير وآليات التواصل الأفقي لن تترك مكانا لصعود أنظمة شمولية أكانت دينية أم غير دينية؛ وكان يصغي إلي باهتمام ثم يرد عليّ أحيانا: آمل أن يكون جيلكم معه الحق لكني لست متفائلا..
كأبناء جيلي قرأت مؤلفات فرويد باللغة العربية، بفضل ترجمات جورج طرابيشي، والتي لم تكن مجرّد نقل للتحليل النفسي من لغة إلى لغة، بل كانت بمثابة فتح للغة العربية على أحد الحقول العلمية الأكثر حداثة، إذ بفضلها أصبح الكلام في التحليل النفسي باللغة العربية أمرا ممكنا. وبفضل ترجمات طرابيشي دخلت الكثير من مؤلفات هيغل وسارتر سيمون دي بوفوار وإميل بريهيه إلى الخزانة العربية. لكن، بالنسبة إلي هناك شيء آخر، في مرحلتي الطلابية قبل سنوات عديدة، كنت قد اقتنيت أحد أهم مؤلفات طرابيشي في الطور الماركسي، الاستراتيجية الطبقية للثورة العربية. وهو الكتاب الذي سرعان ما أصبح مرجعي الأول خلال سنوات النضال اليساري. فقد فتح عيوني على ماركسيات غير مدرسية وغير رسمية. وبفضله اتسعت رؤيتي وأدركت بأن ثمة إمكانية لأنماط جديدة من التفكير الماركسي تختلف عن كل ما سبق. كان هذا يعني بداية الخروج من كهف دوغما الماركسية المغلقة والعودة المبكرة إلى رحاب التفكير النقدي. ولعل القدرة على التفكير النقدي هي التي أتاحت للأستاذ جورج تحقيق انتقالات كبرى هي نفسها منعطفات الفكر العربي المعاصر: القومية، الماركسية، الوجودية، ثم وصولا إلى نقد التراث. لكن الرجل يتمتع بميزة أخرى؛ معظم المفكرين يصيرون محافظين في شيخوختهم، أما هو فقد ظل مساره الحياتي نقديا بنحو تصاعدي وبامتياز. لقد كانت “هرطقات” أكثر من مجرّد عنوان بسيط لأحد كتب مرحلة “الشيخوخة”، بل كان الأمر يتعلق بفلسفة نقدية مرحة في مواجهة صرامة الدوغما، وفوق ذلك مواجهة قلق الموت.
في السنوات الأخيرة، ساءت الأحوال في معظم دول ما كان يسمى بالربيع العربي، واشتعلت الفتن في كل الأرجاء، وأصبحتُ أتجنب الكلام معه في هذه المواضيع الحارقة، مواضيع الساعة. في المقابل، كان الأستاذ جورج كلما اقترحتُ عليه أمرا من الأمور إلا واعتذر لي بأدب كون الألم السوري آخذا في شل قدراته، وبنفس النحو كان يعتذر لكل الإعلاميين الذين يطلبون إجراء حوارات معه.. طال الألم، وبدأ الشرق يفرغ من أقلياته المسيحية، وانطلقت مسيرة الردة الكبرى نحو عصور وسطى جديدة.. وهذا مما لا يقوى قلب مثقف مرهف على تحمله.. وإن للموت أحيانا طعم النزاهة والصدق والإخلاص.. وداعا الأستاذ جورج.. وعزاؤنا الأكبر أننا كلنا “عابرون في كلام عابر”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق