‏إظهار الرسائل ذات التسميات قضايا ثقافية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قضايا ثقافية. إظهار كافة الرسائل

السبت، 27 أكتوبر 2018

مفهوم التسامح بين الفلسفة وحقوق الإنسان - أحمد رباص

أنفاس نت

راودتني فكرة الكتابة حول هذا الموضوع منذ أيام، لكن عندما أردت تصريف الفكرة عمليا عشت، أثناء صياغة العنوان، لحظة تردد بين الصيغة المختارة عاليه وبين الصيغة الأخرى التي تشير إلى مفهوم التسامح بين حقوق الإنسان والفلسفة. إن ما حملني بالأساس على اختيار الصيغة الأولى بدل الثانية هو أسبقية الفلسفة على حقوق الإنسان التي يجرى الآن التأسيس لها فلسفيا.
1 - تأملات فلسفية حول مفهوم التسامح
في البداية، أعلن أن البحث في القواميس عن دلالة ومعنى كلمة «تسامح» لأجل المقارنة بين أشكال حضوره في لغة أو أكثر لا يدخل ضمن مقاصد هذا المقال. نحن نعلم أن هذه المهمة البيداغوجية قام بها، على أحسن وجه، العديد من الدارسين نخص منهم بالذكر سمير الخليل من خلال مقاله القيم عن «التسامح في اللغة العربية» والموجود ضمن كتاب جماعي بعنوان «التسامح بين شرق وغرب». لكن الأهم من كل ذلك، بالنسبة لسياق موضوعنا، هو أن تعني الكلمة نفسها في اللغة العربية ما تعنيه كلمة» TOLERANCE» في اللغة الفرنسية.
من الناحية التاريخية، يعتبر هذا المفهوم وليد حركة الإصلاح الديني الأوربية التي اقترحته كحل لإنهاء الاقتتاال الطويل الأمد بين أتباع المسيح خلال القرن السادس عشر وكمدخل لإرساء أسس الاعتراف المتبادل بينهم. لهذا ظل المفهوم ذا حمولة دينية وعد نداء «للمحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة»؛ على حد تعبير جون لوك في رسالته في التسامح التي نقلها إلى اللغة العربية عبد الرحمن بدوي. لكن، شيئا فشيئا، أخد نطاق المفهوم يتسع ليشمل، فضلا عن الدين، السياسة والثقافة والاجتماع. وهكذا أصبح من مقتضياته الاعتراف للفرد/المواطن بحقه في الاختلاف في الاعتقاد والرأي وبحقه في التعبير عن اعتقاده ورأيه سواء كان مجالهما دينيا أو سياسيا أو فلسفيا.
في نهاية المطاف، أفضى مسار تطور المفهوم إلى اعتباره إحدى دعائم الحداثة السياسية والفكرية. قبل ذلك، ساهم فلاسفة ومفكرون أمثال سبينوزا وروسو وفولتير في إحداث نقلة نوعية على مستوى إغناء دلالته وتوسيع مجالات استعماله. في هذا الإطار، كتب سبينوزا متسائلا في الفصل الأخير من رسالته في اللاهوت والسياسة: «إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها»
من جهته، كتب روسو في «العقد الاجتماعي»: «يخطئ في نظري أولئك الذين يفصلون بين اللاتسامح المدني واللاتسامح اللاهوتي. فهذان النوعان لا انفصام بينهما. إذ من المتعذر العيش بسلام إلى جانب من نعتقد أنهم هالكون. فإذا أحببناهم وقبلناهم نكون قد غلطنا في حق الإله الذي عاقبهم. فلا بد إذن من أن يردوا أو يعذبوا. فحيث يكون اللاتسامح الديني مقبولا، يكون من المتعذر ألا تتمخض عنه نتائج مدنية. وحالما تتمخض عنه هذه الآثار تزول عن هيئة السيادة سيادتها حتى في الأمور الدنيوية، عندئذ يغدو الكهنة أرباب السيادة الحقيقية، ولا يكون الملوك إلا ضباطا لهم»
لكن على رغم هذه الهالة المضيئة التي أحاطت بمفهوم التسامح وعلى رغم اتساع نطاق دلالاته، ظل مرتبطا بمفاهيم المحبة والإحسان. لهذا السبب، حيل بينه والأجرأة الملائمة لدى أصحاب الأرض التي شهدت مولده ونماءه؛ ذلك أن الغرب المعاصر أبان عن قدر من اللاتسامح والتعصب والعنصرية من خلال علاقاته مع المستعمرات السابقة والأقليات المهمشة. وعليه، فقد أصبحت الحاجة ماسة إلى تثبيت المفهوم على دعائم فلسفية متينة تخرج به من الإطار الإلزامي الأخلاقي الضيق إلى رحابة الاعتراف به كحق مشروع. بيد أن ما يرفع من درجة صعوبة هذه المهمة الأخيرة هو أن المفهوم لم يحظ بعد بحد أدنى من الإجماع نظرا لكونه ما زال يثير اختلافات جوهرية. فإذا حصل مبدئيا اتفاق على أن التسامح هو قبول الاختلاف، فهناك في المقابل عدم اتفاق على مفهوم الاختلاف ذاته. لقد توصلت بعض الدراسات الفلسفية المهتمة بالموضوع إلى مفهومين عن الاختلاف يقابلان مفهومين عن التسامح. من جهة، هناك التسامح الذي يتقبل الآخر لأنه لا يبالي به، ويقبل الاختلاف بعدم أخذه بعين الاعتبار، وهناك، من جهة أخرى، التسامح كانفتاح عن الآخر في اختلافه، واقتراب منه في ابتعاده
بالإضافة إلى ذلك، ثمة إشكالية كلاسيكية يمكن صياغتها على شكل سؤال كما يلي: ما العمل عندما يصبح التسامح مثل حب من طرف واحد؟ تعني هذه الإشكالية أن التسامح لا يمكن ان يظل بلا حدود؛ ذلك أنه ثبت تاريخيا وجود أقليات غير مستعدة بتاتا لأن تخالف نفسها،وبالأحرى أن تقبل اختلاف غيرها. لقد سبق لكارل بوبر ان طرح على نفسه نفس المعضلة، لكنه قبل أن يحاول اتخاذ موقف إزاءها يضع بعض الشروط فيقول: «طالما ظلت هذه الأقليات اللامتسامحة تناقش وتنشر نظرياتها باعتبارها مقترحات عقلانية، يتوجب علينا أن نتركها تفعل هذا بكل حرية، بيد أن علينا أن نلفت انتباهها إلى واقع أن التسامح لا يمكنه ان يوجد إلا على أسس التبادل، وأن واجبنا الذي يقتضي منا التسامح مع أقلية من الأقليات، ينتهي حين تبدأ الأقلية أعمال العنف. وهنا يطلع سؤال جديد: ترى أين ينتهي السجال العقلي وتبدأ أعمال العنف؟
2 - مكانة مفهوم التسامح في منظومة حقوق الإنسان
يشتمل التراث الثقافي للأمم المتحدة بالعديد من الأمثلة التي تشهد على التحول والانتقال في تصور التسامح من القيمة الأخلاقية إلى مستوى الحق المنصوص عليه تشريعيا. هكذا نجد ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تنص على اعتبار التسامح قيمة أساسية في العلاقات بين الدول والأفراد: «نحن شعوب المم المتحدة آلينا على أنفسنا أن نعيش وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاني السلام وحسن جوار. كما تنص مواد هذا الميثاق على ضرورة «تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك بدون تمييز حسب العنصر أو الجنس أو الدين»
ونظرا لأن ميثاق الأمم المتحدة وثيقة توجيهية ذات طابع معنوي وأخلاقي، وبالتالي غير ملزم، أصدرت نفس المنظمة الدولية الكثير من الاتفاقيات التي وقعت عليها الدول الأعضاء ما يعني أنها ملزمة باحترامها وتضمينها في تشريعاتها المحلية. إن هذه الاتفاقيات صيغ قانونية وتشريعات تتضمن التسامح كخلفية فكرية لها وأولها وأهمها في هذا الباب «اتفاقية إلغاء العبودية والاسترقاق»، بما تعنيه من إقرار للمساواة المطلقة في الحق في الانتماء للإنسانية دون أي تمييز في اللون أو العرق وفي الحق في الكرامة. يكمن الوجه الآخر لهذه الاتفاقية في إقرار حق الآخر، المختلف عرقا ولونا، في أن يحظى بالاحترام والكرامة الملازمين لكل كائن بشري.
من بين الاتفاقيات الدولية التي عجلت بالتحول المومئ إليه قبل قليل «اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز العنصري» (1965) و «الإعلان المتعلق بالقضاء على كل أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين والمعتقد» (1981) و «اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة « (1979) وغيرها من الاتفاقيات التي تشكل ثقافة سياسية كاملة متمحورة حول مفهوم التسامح، وقد انعكست هذه الاتفاقيات على مواثيق المنظمات الإقليمية، وعلى دساتير وقوانين مختلف الدول.
إن ممارسة التسامح هي الأساس الذي يتيح للأمم والشعوب التعايش فيما بينهم في وئام وسلام ضمن أجواء من التوادد والتآخي. ومن أجل تعزيز ودعم هذا المبدأ، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1995 ك»عام الأمم المتحدة للتسامح»، وأوضحت الجمعية العامة أن التسامح هو»الاعتراف بالآخرين وحسن تقديرهم، والقدرة على التعايش سويا والاستماع للآخرين».ولكون منظمة اليونسكو هي التي بادرت بالدعوة لإعلان «عام التسامح», فقد دعيت لتولي دور المنظمة القائدة لهذا العام، وقد تغزز مبدأ التسامح بإصدار وثيقة اليونسكو بشأن «إعلان مبادئ التسامح».
هذا، وقد أكدت القمة العالمية للعام 2005 على التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب (الوثيقة الختامية للقمة العالمية، قرار الجمعية العامة رقم 1/60 في 24 أكتوبر 2005، الفقرة 145).
غني عن البيان أن المفهوم المعاصر للتسامح يقوم على مبادئ حقوق الإنسان العالمية. لقد ربطت وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادر في 16 شتنبر 1955 بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي؛ حيث ورد في البند الأول من وثيقة «إعلان المبادئ حول التسامح»((Déclaration de principes sur la Tolérance الصادرة عن اليونسكو بصدد معنى التسامح أن مفهوم التسامح يتضمن العناصر التالية:
أولا: قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع؛
ثانيا: التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني والحريات الأساسية للآخر؛
ثالثا: التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية والديمقراطية؛
رابعا: إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين.
المرجعان المعتمدان:
1محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي، مصطفى لعريصة: في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان (نصوص مختارة)، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2013 ، الطبعة الأولى
2- عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة أداة للحوار، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر،2011 ، الطبعة الأولى

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

واقع العملية التعليمية التعلمية بالمغرب نموذج تدريس مادة الفلسفة - مريم المفرج

أنفاس نت
تهدف عملية التدريس إلى إحداث تغييرات في سلوك المتعلم، وإكسابه المعلومات والمهارات والمعارف والاتجاهات والقيم المرغوبة فيها، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، يجب على المعلم أن ينقل له هذه المعارف والمعلومات بطريقة مشوقة تثير اهتمامه ورغباته إلى التعلم. والمعلم الناجح هو الذي يعرف جيدا كيف يجعل حصته حصة مشوقة بعيدة عن الملل، من خلال اعتماد طرق تعليمية ملائمة لمادة الدرس، قد تكون متنوعة بحسب الظروف والمتطلبات الصفية، لأن إتباع المعلم طريقة واحدة معينة، أو التعصب لأسلوب معين، يحكم عليه في أحيان كثيرة بالجمود، يؤدي به إلى تجميد المادة الدراسية، لذلك وجب على المعلم الإلمام بطرائق التدريس المتنوعة، وامتلاك القدرة على استخدامها بالشكل الصحيح، لجعل الدرس مفيدا وممتعا في آن واحد، ومناسبا في الوقت نفسه لقدرات طلابه وميولهم.
وعليه فواقع التدريس، وتدريس مادة الفلسفة بمدارسنا خير دليل على ما سبقت الإشارة إليه أعلاه، فمن الملاحظ مثلا على مستوى تدريس مادة الفلسفة بالباكالوريا، أنها باتت تشكل عائقا معرفيا لدى المتعلمين، وذلك راجع بالأساس إلى الكيفية التي يقدم بها المعلم درسه، فلا ريب إن كانت تتسم بالجمود والتكرار القائم على طريقة التدريس التقليدية أن تجعل المتعلم ينفر من هذه المادة، فهي بالنسبة له كإشكال بحث رجل أعمى عن قط أسود داخل بيت مظلم، والحال أن المتعلم المستقبل يبني مهاراته التعليمية التعلمية من المرسل الذي يمده بالمعرفة عن طريق القناة، فإن لم تكن هذه القناة جيدة أصبح الحديث عن النخبة حديثا فارغا من كل مضمون علمي، ومما لا شك فيه وحسب واقع تدريس الفلسفة، أن هناك هوة تزداد عمقا يوما بعد يوم ما بين المطلوب والمنتظر، أي بين المعلم والمتعلم، حيث أصبحت المسافة بين المرسل والمستقبل تقاس بالسنين الضوئية، على اعتبار أن الدرس يخلو تماما من أي تمييز بين المتعلمين من جهة إيصال المعلومة، في حين نجد المتعلمين فارغين تماما من أي كفاءة تجعلهم قادرين على مواكبة درس المعلم، والذي سبق وقلنا أنه يفتقر لطرق إيصال تتناغم والمتعلم، مما يجعل الدرس الفلسفي يتميز بالرتابة والدغمائية والبؤس، إذ يصبح المتعلم بين جحيم الحصول على معدل يخول له الانتقال للمرحلة الجامعية، وبين عائق فهم المادة التي هي الجحيم بعينه بالنسبة له.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تخبط السياسة المغربية التعليمية في استدماج مقاربات أو استيراد بيداغوجيات أجنبية ولو أنها قائمة على علم ونظريات ومقاييس، إلا أن تطبيقها على الواقع التعليمي المغربي بما يتميز به من تنوع ثقافي واجتماعي، يجعل من العملية برمتها صعبة، لأنها لا تتماشى وخصوصيات المجتمع.
ومنه كان لزاما على الدولة أن تنهج التدريس باعتماد المقاربة بالكفايات كأسلوب تعليمي ظهر في أوروبا قبيل انتهاء القرن العشرين، والتي تبنته الدولة المغربية كبديل للمقاربة بالأهداف، إذ تعتبر المعلم محورا فاعلا لأنه يبني المعرفة ذاتيا، وبتوفير شروط التعلم الذاتي، واعتبار المدرسة مسهل لعمليات التعلم الذاتي. ومن النهج الذي اتخذته هذه البيداغوجية في التخطيط للدرس أنها وفرت على المعلم عناء إيصال المعلومة بتقسيمها لمحاور الدرس على عدة كفايات تجعل المتعلم يفهم الدرس بطريقة سلسلة، نذكر منها؛ الكفايات الإستراتيجية التي تستوجب معرفة الذات والتموقع في الزمان والمكان، والتموقع بالنسبة للآخر وبالنسبة للمؤسسات الاجتماعية والتكيف معها ومع البيئة بصفة عامة، وتعديل المنتظرات والاتجاهات والسلوكات الفردية وفق ما يفرضه تطور المعرفة والعقليات والمجتمع . ثم نجد الكفايات التواصلية والتي يجب من خلالها أن تؤدي إلى إتقان اللغة العربية وتخصيص حيز مناسب للغة الأمازيغية وكذا التمكن من اللغات الأجنبية، والتمكن من مختلف أنواع التواصل داخل المؤسسة التعليمية وخارجها في مختلف مجالات تعلم المواد الدراسية، والتمكن من مختلف أنواع الخطاب الأدبي والعلمي والفني...، سواء في محيط المدرسة أو على مستوى المجتمع. ولا ننسى أيضا الكفايات الثقافية، حيث تشمل على شق رمزي يرتبط بتنمية الرصيد الثقافي للمتعلم وتوسيع دائرة إحساساته وتصوراته. ناهيك عن الكفاية المنهجية والتي تستهدف إكساب المتعلم منهجية للتفكير وتطوير مداركه العقلية ومنهجية للعمل في الفصل وخارجه، وتكوينه الشخصي كذلك. وأيضا نجد الكفاية التكنولوجية المتمثلة في القدرة على رسم وتصور وإبداع وإنتاج المنتجات التقنية، والتمكن من تقنيات التحليل والتقدير والمعايرة والقياس، بارتباط مع منظومة القيم الدينية والحضارية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان. 
إلا أن المميز في هذه البيداغوجية أنها تعتمد على عدة بيداغوجيات تتماشى ومتطلبات المتعلم يمكن التطرق إليها بإيجاز؛ فهناك البيداغوجية الفارقية مفردنة تعترف بالتلميذ كشخص فرد له تمثلاته الخاصة للوضعية التعليمية التعلمية، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل تلميذ، وبهذا تكون معارضة لأسطورة القسم الموحد المتجانس، ثم بيداغوجية المشروع والتي تهدف إلى الربط بين العمل والنظر كممارسة، والفكر كتأسيس التعلم على النشاط الذاتي للمتعلمين، وتعديل السلوك واكتساب عادات وخبرات جديدة بربط التعلم بمواقف الحياة الاجتماعية. ثم نجد بيداغوجية حل المشكلات والتي تقترح وضعية مشكلة معقدة تستدعي مواجهة التلميذ لمجموعة من التعلمات المتداخلة والمتمحورة حول هذه الوضعية، من ثم تأتي بيداغوجية الخطأ إذ تصور لعملية التعليم التي تقوم على اعتبار إستراتيجية للمتعلم اعتمادا على كون الوضعية التعليمية تنظم على ضوء بنائي للمعرفة من طرف المتعلم. ناهيك عن بيداغوجية الذكاءات المتعددة التي من وجهة نظرنا تعتبر الحل الأمثل لمعضلة عدم استيعاب الدرس الفلسفي من طرف المتعلم، إذ يمكن باعتمادها الوصول ولو بنسبة ضئيلة إلى تحبيب الدرس الفلسفي أو المادة ككل اعتمادا على ذكاءات الفئة المتعلمة، وتماشيا مع ما يميل وجدانهم إليه.
فلبيداغوجية الأهداف نظرية تربوية جديدة قائمة على العلم والعقلانية والقياس والتكنولوجيا والتحقيق الموضوعي، وقد انتشرت هذه النظرية في المغرب في سنوات الثمانينات كما سبق أن أشرنا، إذ جاءت كبديل للدرس التقليدي، بغية تنظيم العملية الديداكتيكية وعقلنتها، حتى أصبحت هذه النظرية معيارا إجرائيا لقياس الحصيلة التعليمية التعلمية لدى المتعلم والمدرس معا، ومحكا موضوعيا لتشخيص مواطن قوة المنظومة التربوية على مستوى المردودية والإنتاجية والإبداعية، وأداة ناجعة لتبيان نقط ضعفها وفشلها وإخفاقها، وتعد كذلك آلية فعالة في مجال التخطيط والتقويم وبناء الدرس الهادف.
فإذا كانت بيداغوجيا الكفايات تعنى بتحديد الكفايات والقدرات الأساسية والنوعية لدى المتعلم أثناء مواجهته لمختلف الوضعيات المشكلات في سياق ما، فإن بيداغوجية الأهداف التي تبنتها مناهج التربية خلال الثمانينات كمقاربة تربوية تشتغل على المحتويات والمضامين في ضوء مجموعة من الأهداف التعليمية التعلمية ذات الطبيعة السلوكية، سواء أكانت هذه الأهداف عامة أم خاصة، ويتم ذلك التعامل أيضا في علاقة مترابطة مع الغايات والمرامي البعيدة للدولة وقطاع التربية والتعليم. وتهتم بيداغوجيا الأهداف بالدرس الهادف تخطيطا وتدبيرا وتقويما ومعالجة مما يجعل المتعلم ينصب على جمالية النص الفلسفي دون القدرة على استدماج الأفكار وتحليلها وفق فكره الخاص. فرغم تميزها إلا أنها تتسم بالنزعة السلوكية والنظرة التقنية على حساب النظرة الشمولية، كما وتغض الطرف عن الطرائق والمناهج والوسائل الديداكتيكية.
لقد تم اليوم اعتماد مفهوم الكفاية في التدريس، كاختيار بيداغوجي ديداكتيكي، ليشمل في مدلوله البيداغوجي مفهوم القدرة والمهارة بمعناها المركب الذي يحيل على قدرات ومهارات متعددة ومتصلة، في بنية عقلية أو حسية أو حركية أو وجدانية قابلة للتكيف والملاءمة والاندماج مع وضعيات جديدة، كما أن مفهوم الكفاية البيداغوجية الذي ليس مجرد تطبيق ميكانيكي للكفاية، وإنما هو استخدام ونقل إبداعي لها يخضع للقياس والملاحظة دائما، فالكفاية إذن، ذات طابع شمولي مركب ومندمج وهي استعداد يكتسبه المتعلم وينمى لديه، ليجعله قادرا على أداء نشاط تعليمي ومهام معينة.


المراجع:
- الدريج محمد، المنهاج المندمج أطروحات في الإصلاح البيداغوجي لمنظومة التربية والتكوين، منشورات مجلة علوم التربية، العدد 38، الطبعة الأولى، 2015.
- مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد الخمسون، ديسمبر 2011، مطبعة النجاح الجديدة.
- بوتكلاي لحسن، بيداغوجيا الإدماج، الإطار النظري، الوضعيات، الأنشطة، الطبعة الثانية، 2009.
- مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد السابع والثلاثون، يونيو 2008، مطبعة النجاح الجديدة.
- الدريج محمد، مدخل إلى علم التدريس: تحليل العملية التعليمية، دار الكتاب الجامعي، الإمارات، سنة 2003.
- الدريج محمد، الكفايات في التعليم من أجل تأسيس علمي للمنهاج المندمج، سلسلة المعرفة للجميع، منشورات رمسيس، العدد 16 أكتوبر 2000.
- أوزي أحمد، التعليم والتعلم بمقاربة الذكاءات المتعددة، منشورات مجلة علوم التربية العدد السادس، الشركة المغربية للطباعة والنشر.

الامتحانات وتدجين الإنسان :كيف نظر ميشيل فوكو إلى الامتحانات؟ - أنس غنايم

عن أنفاس نت


"تبدأ الامتحانات الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة؛ حتى تعلن حالة الطوارئ القصوى في البيوت، وكأن إعصارا عاتيا سيضربها، وتدق أجراس الإنذار معلنة توقف الزيارات الاجتماعية وانقطاع التواصل المرئي والمسموع وإغلاق كل قنوات الربط الخارجي مع العالم.  يغلق التلفاز نهائيا، أو يسحب إلى غرفة الأم، وتُصادر الجوّالات وتقنيات التواصل التي بأيدي الأبناء، وتمنع الزيارات وتصبح الأحاديث همسا منعا للإزعاج، وترابط الأم في المنزل كالليث الهصور الذي يحمي عرينه من غارة المعتدين، ويتحول المنزل إلى ساحة حرب". (1)
وبهذا تتحول الامتحانات من أداة لقياس مدى معرفة الإنسان لمعلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، إلى اعتبارها مسألة تمس هوية الفرد، "تهدد الوجود والكيان الإنساني وتؤثر في شخصية المرء حتى أعماقها وجذورها".(2) ولتغدو الامتحانات ليست منحصرة في إطار استدعاء للمعلومات فقط، بل "سبرا للمعلومات وغير المعلومات، حتى لكأن الامتحان وُجد لتقييم ذات الإنسان وليس لمعلوماته، يقيّم شخصه ومُثله وأخلاقه، إلخ".  
وتترسخ هذه الفكرة أكثر فأكثر من خلال الاستعارات أو العبارات المصاحبة للامتحانات: "يوم الامتحان.. يوم يكرم فيه المرء أو يُهان"، وما يقوم به بعض الآباء والأمهات من جعل تفوق ابنهم الدراسي شرط محبتهم إياه، كأن يرددوا على مسامعه: "لن أحبك إن لم تأخذ علامة جيدة في مادة الرياضيات" -مثلا-، أو يقولون له: "إن أنت أخذت الأول على المدرسة، فسوف أعطيك كذا وكذا أو أرضى عنك، إلخ". (2)
وبإزاء تلك المظاهر التي تلاصق مرحلة الامتحانات التي أشرنا إلى شيء من مظاهرها؛ تداعى التربويون والمشتغلون بالتعليم والتدريس إلى محاولة تجاوز مشاكل وآفات الامتحانات، تارة بتنويع طرق الاختبارات، وتارة بتهيئة الظروف المناسبة لتقليل حالة الخوف والقلق منها، وغير ذلك ممّا يُتداول في أبحاث وكتب "القياس والتقويم التربوي". (3)  
وبالتجاور مع التربويين، والمختصين في التعليم والتدريس، الذين حاولوا تلافي المشكلات المصاحبة للامتحانات، عمد الفلاسفة والمفكرون إلى توجيه انتقادات جذريّة إلى فكرة "الامتحانات" ذاتها. من أمثال المفكر الفلسطيني منير فاشه على الصعيد العربيّ (4)، ومن أمثال ميشيل فوكو على الصعيد الغربي، الذي أسس للإطار النظري لفهم عملية الامتحانات، وكيف يتم تفعيلها كأداة من أدوات السيطرة الناعمة التي تستخدمها السلطة؟! فكيف نظر فوكو إلى الامتحانات الدراسية، وكيف حاول تحليلها؟   
ميشيل فوكو: السلطة والمعرفة
تمثل مسألة تحليل العلاقة بين المعرفة والسلطة أهم أفكار ميشيل فوكو التي بسطها على طول مؤلفاته (5)، ويختلف مفهوم المعرفة والسلطة عند فوكو عن المفاهيم التي تناقش علاقة العلم بالسياسة، أو علاقة العلم بالهيمنة، وذلك لما يتمتع به من خصوصية وجدية. (6)
فالفلاسفة والمثقفون بشكل عام في نظر فوكو "يبررون هويتهم وخصوصيتهم وحتى نخبويتهم عن طريق إقامة حاجز منيع يفصل بين عالم المعرفة الذي يعتقد بأنه عالم الحقيقة والحرية، وبين عالم السلطة وممارساتها. غير أن الشيء الذي أدهشني عند دراستي للعلوم الإنسانية هو أنه لا يمكن أن نفصل إطلاقا بين نشأة كل هذه المعارف وبين ممارسة السلطة". (6)
يتحدد إذن مفهوم المعرفة-السلطة عند فوكو بالجمع والربط بينهما، وليس بالفصل أو التمييز كما هو الحال عند غالب المفكرين والفلاسفة. وهذا الجمع يؤدي إلى نتيجة أساسية وهي أن السلطة تنتج نوعا من المعرفة وتؤدي إلى تراكم المعلومات والمعارف، مما يقود إلى استخدام كل ذلك من أجل المزيد من ممارسة السلطة، وبالمقابل فإن المعرفة هي بحد ذاتها سلطة! (6)
ولعل المثال الواضح في هذا الشأن -كما يرى الباحث التونسي الزواوي بغورة- هو الأستاذ أو المعلم، الذي يحمل معرفة، وفي الوقت نفسه يحمل سلطة، سلطة النجاح والرسوب، أو سلطة الإجازة أو عدم الإجازة (6)، لذلك يرى فوكو أنه "حيثما توجد السلطة توجد المعرفة أو نوع من المعرفة، وحيث توجد المعرفة يوجد حد معين من السلطة، وأن مجرد ممارسة السلطة يؤدي إلى خلق المعرفة وتجميع المعلومات وبالتالي استخدامها، وأيضا فإن ممارسة المعرفة تنتج بالضرورة نوعا من السلطة". (7)
     تحليل فوكو للامتحانات على ضوء المعرفة والسلطة
عطفا على ما سبق؛ يعتقد ميشيل فوكو أنّ النظام والضبط في المجتمعات المعاصرة لا يمارس من خلال الاستعراض الفظ لقوة وسلطة الدولة: "الإعدامات في الساحات العامّة والمواكب الضخمة والاستعراضات العسكريّة، وإلخ"، ولكنه يمارس من خلال ما يسميه "نظم إنتاج المعرفة". (8)
ويعتقد فوكو أن السلطة تؤكد وجودها من خلال عدد من العمليات الصغيرة وصفها بـ "أعمال صغيرة دائمة لها قدرة كبيرة على الانتشار" (8) تلبي الحاجة إلى المعرفة التي يعتمد عليها النظام، كالسجون والمستشفيات والمدارس ونظام العدالة والطب النفسي، وإلخ.
وعليه فإن نجاح النظام وقوة الضبط في هذه الأعمال يستمد فاعليته -كما يرى فوكو- من استخدام أداتين بسيطتين:
1- الرقابة التراتبية.
2- العقوبة الضابطة. (8) 
ومن خلال دمج هاتين الفكرتين في إجراءات معينة، تنشأ الاختبارات (examinations) وتعرف هذه الأدوات بـ "تقنيات القوة" (technologies of power). (8)          
الرقابة التراتبية
ناقش فوكو الملاحظة الهرمية من منظور هندسة السجن النموذجي المسمى بـ "البانوبتية" (Panoptisme)*1، وهو السجن الذي صممه الفيلسوف وعالم الاجتماع جيرمي بنثام في عام 1785 بحيث يقف برج المراقبة بمنتصف السجن، والسجناء من حوله، ليمثل البرج نقطة مركزية في السجن قادرة على رؤية الجميع في حين أن الجميع لا يستطيعون رؤية من بداخل البرج بسبب ما يحيطه من ظلام، وهناك يدرك كل نزيل في السجن أنه يعيش تحت مراقبة دائمة ومتواصلة من قبل حارس مجهول بالنسبة إليه، "لدفع النزيل إلى الاقتناع بوجود مراقبة دائمة وبذلك تتأكد الوظيفة الآلية للسلطة". (8) ويناقش فوكو أن المعلمين يقومون بالشيء نفسه من خلال اختبار الطلاب، بحيث يذكّرون الطلاب بأنهم تابعون للبالغين الذين يستطيعون مراقبتهم من موقع السلطة. (8) إضافة إلى أن الطلاب "يستدخلون" معرفة أنهم يخضعون للمراقبة الدائمة، أي إجراء الاختبارات مما يؤدي إلى عواقب وخيمة، حيث تصبح هذه المعرفة جزءا من ذواتهم، وعليه، فإن إدراك الأفراد بأنهم خاضعون للمراقبة والملاحظة تعد وسيلة قوية للضبط والتنظيم. (8)
 العقوبة الضابطة
وتعني العقوبة الضابطة "العملية التي تقيس كميا وهرميا قيمة قدرات الأفراد، ومستوياتهم، وطبيعتهم، وكذلك اقتفاء أثر المحددات التي تحدد الاختلاف، وعلاقتها بجميع المتغيرات". (8)
وتعود فكرة العقوبة الضابطة إلى كونها أداة استُخدمت أصلا لوظيفة تصحيحية في السجون من خلال إخضاع النزلاء جميعهم لمنظور واحد، ومسطرة واحدة، تتمثل في تقليص الأبعاد المتعددة للتنوع البشري إلى متصل ثنائي القطب (موجب/سالب) ومن ثم تسمية نقاط محددة على هذا المتصل بالمدى الطبيعي والباقي غير الطبيعي أو الشاذ. (8)
وهكذا فإن الطلاب الذين يكون حاصل درجات ذكائهم أدنى من الدرجة المحددة يعدون أفرادا "دون المستوى الطبيعي" والذين يطلق عليهم تارة الحمقى، البلهاء، المعتوهين، الكسالى، الأغبياء، في مقابل الطلاب الذين تجاوزت درجات ذكائهم عتبة محددة يسمون بالموهوبين والأذكياء والمبدعين. (8)
وخطر هذا الأمر يكمن فيما يُسميه "فوكو" بـ "الغرس المنحرف"، وذلك حين يُجعل جَهْلُكَ بمعرفة معلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، "انحرافا" يتحول إلى طبيعة باطنية "ماثلة في كل مكان" (9) تذكرك دوما بأنّك فاشل وسيئ وغبي وكسول وأبله، وإلخ. (9)
وختاما، وحيث لا سبيل لتغيير طبيعة النُظم التعليميّة وأدواتها السُلطويّة على المدى القريب، يبقى الوعي الإنساني بأنّ هذه الامتحانات ليست "لذاتي بل لمعلوماتي" (10) هو الرهان الأكبر لمجابهة هذه الأحكام التي تنتجها الامتحانات، والتي يراد من خلالها تدجين الإنسان وتفصيله على مقاسات السلطة. 
  
هوامش:

*1: البانوبتية = Panoptisme من بانوتيك، وتعني مشْتَمَل: بناء مصنوع بشكل يمكن اشتمال/معرفة ما بداخله بنظرة واحدة، وربما يقابله في العربية الصرح الممرد من قوارير، والبناء البانوبتيّ بناء معروف في الفن الإسلامي كما يرى عبد العزيز العيادي، وعرف هذا البناء في المساجد الجامعة حيث كان الخطيب يطل من مكانه على كل من في الجامع، وقد كان يقال إنّ ابن الهيثم بنى للحاكم بأمر الله الفاطمي مسجدا جامعا مشرفا وموصلا للصوت دون مكبرات. (من ترجمة د. علي مقلد لكتاب "المراقبة والمعاقبة، ميشيل فوكو")

الأحد، 15 يوليو 2018

العلم و الفلسفة: أي علاقة؟ – إدغار موران / ترجمة: محمد نجيب فرطميسي


عن موقع حكمة




هتزت فكرة الحقيقة أمام وقائع أثبتها العلماء. فهل بإمكان الفلسفة مساعدة العلم على حل هذه التناقضات؟

في الوقت الذي شيد فيه قرننا هذا ( القرن العشرين) صرحا رهيبا من المعارف، يغوص و بشكل مذهل في أزمة أسس المعرفة. لقد بدأت الأزمة في الفلسفة. إذ بقدر ما ظلت الفلسفة الحديثة تعددية في موضوعاتها و مشكلاتها، بقدر ما انتعشت بفضل جدل بين البحث عن أساس يقيني للمعرفة، و العودة المستمرة لشبح اللايقين. كانت أزمة الأسس بمثابة الحدث المفتاح للقرن العشرين. فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية إدراك الأشياء في ذاتها. أعلن نيتشه، بكيفية مغايرة تماما، حتمية النزعة العدمية، و وضع هيدجر، مسألة أساس الأسس، أي طبيعة الكائن، موضع تساؤل. نذرت الفلسفة المعاصرة نفسها، من الآن فصاعدا، لتقويض معمم، و لتجذير تساؤل يضفي النسبية على كل المعارف، بدل تشييد أنساق على أسس متينة.

لم يكُف العلم، على العكس من ذلك، طيلة القرن التاسع عشر، و مع مطلع القرن العشرين، عن البرهنة على أنه عثر على الأساس التجريبي ـ المنطقي لكل حقيقة. يبدو أن نظريات العلم  هذه تجيء من الواقع ذاته، عن طريق الاستقراء الذي يقر بالتحققات / الاثباتات التجريبية بوصفها أدلة منطقية، و يرفعها الى مرتبة القوانين العامة.  يبدو في نفس الآن، أن الدعامة  المنطقية ـ الرياضية الضامنة للتماسك الداخلي للنظريات المتحقق منها، إنما تعكس بنيات الواقع ذاته. في هذه الشروط بالضبط، تعهد فريق من الفلاسفة و العلماء الراغبين في الخلاص نهائيا من الثرثرة المتكلفة و الاعتباطية للميتافيزيقا، من أجل تحويل الفلسفة الى علم، و ذلك بتأسيس كل قضاياها على منطوقات متماسكة، و قابلة للتحقق. هكذا إذن ادعت جماعة فيينا أنها أسست اليقين الفكري على الوضعية المنطقية، كما تزامن العمل الذي باشره فتجنشتاين  Wittgensteinعلى مستوى اللغة، و دافيد هيلبرت على مستوى الصياغة الأكسيومية للنظريات العلمية، مع ما قامت جماعة فيينا.

لقد بدا، و الحالة هذه، أن تنقية الفكر من كافة الشوائب، و ضروب البداءة، هو محض وهم. فعلا لقد  برهن كارل بوبرK. Popper   أن التحقق verification  laلا يكفي للتأكد من حقيقة نظرية علمية. و كشف، عندما قام بقلب فكرة الوضوح الظاهري الذي تكتسي بموجبه النظرية العلمية طابع اليقين، أن علمية نظرية ما تكمن في قابليتها للدحضla refutabilité .

و نبقى في سياق منظور كارل بوبر لنقول  إن ذلك الأمر يصح أيضا بالنسبة لفكرة كون المنطق الاستنباطي يمتلك قيمة حاسمة في البرهان و أساسا للحقيقة غير قابل للدحض. و الحال أن هذا الصرح المنطقي ذاته بدا أنه غير كاف. هناك من جهة إنجازات الميكروفيزياء ااتي لامست نموذجا من الواقع ينهار أمامه مبدأ عدم التناقض؛ و من جهة ثانية، أقامت مبرهة   Gödel غوديل اللايقين المنطقي داخل الأنظمة الصورية المركبة. آنذاك، لم يعد التحقق التجريبي، و لا التحقق المنطقي كافيين لتشييد أساس يقيني للمعرفة.

انحل، في نفس الوقت، الجوهر المحدّد و المميز للواقع في معادلات الفيزياء الكوانطية، و أخلى النظام الكوني المكان لنظام غامض و ملتبس. فبدا الكون أخيرا كما لو أنه ثمرة انشطار خارق و مثير، و كأنما خضعت صيرورته لتبديد وحيد الاتجاه. هذا بالرغم من أن كل انجازات المعرفة تقربنا من ذلك المجهول الذي يتحدى مفاهيمنا و منطقنا و ذكاءنا. فتنضاف بذلك أزمة أسس المعرفة العلمية الى أزمة المعرفة الفلسفية، حيث يلتقيان معا حول الأزمة الأنطولوجية للواقع، مما يجعلنا نواجه ” مشكلة المشاكل…أي أزمة أسس الفكر” ( بيير كورنير P. Cornaire).

في الواقع، مهما تجددت وتنوعت البحوث المتعلقة بالمعرفة العلمية، فإنها تجد نفسها أمام المشكل كما طرحه إيمانويل كانط، و من خلاله، المشكل الفلسفي الكلاسيكي حول علاقة الجسد و النفس. هكذا نجد أنفسنا على أرضية علمية من دون التخلي عن التساؤل الفلسفي. لا يتعلق الأمر بتقاسم لتلك الأرضية العلمية، أو بالمحافظة على منطقة منيعة تخص الفلسفة وحدها. إذ لا وجود لحدود طبيعية بينهما. فضلا عن ذلك فإن العصر الذهبي لازدهار الفلسفة  و ميلاد العلم، كان، بحق، هو عصر الفلاسفة العلماء أمثال جاليلي وديكارت و باسكال و ليبتنز. و مهما بدا اليوم أن العلم و الفسفة منفصلان، فإنهما يصدران عن نفس التقليد النقدي، الذي لا غنى عن استمراريته و دوامه لحياة كل منهما. زيادة على ذلك، و حتى بعد انفصالهما، فقد عبّر الفلاسفة دائما عن تلك الرغبة في أن تغدو الفلسفة ” معرفة المعرفة العلمية، وعيها بذاتها ” .(كارل بوبر)

إن مشكلة العلم، كموضوع للتفكير الفلسفي، تُطرح أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن العلم بما هو كذلك، إشكالي. إن شئت قلت، إن العلم سلطة معقدة، شكل متميز و راق من العقلانية، لكنه لا يدمج الذات المفكرة، إنه يجعل الملاحظ  هو المشيد للمفاهيم. حاول إيموند هوسرل  E. Husserl جادا تبيان كيف أن ” أزمة العلوم الاوربية ” تعبر بعمق  عن أزمة احتجاب الذات المنتجة للعلم. وحدها العودة التأملية الى وضعية العلم، تتيح، في نظره، تبيان الأزمة التي تتمظهر كذلك في المجال السياسي. تتمثل الفكرة الأساسية عند هوسرل، في عدم اكتراث العلماء أثناء مسعاهم العلمي بذاتيتهم الخاصة و تأثيرها على عملهم. بعبارة أخرى، إن من ننعتهم بالعلماء يفرغون العلم من فاعليه الحقيقيين، ومن سياقه الانساني.

إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه باستمرار، على موضوع الحقيقة العلمية، هو: هل تنفلت القوانين و الاكتشافات و الموضوعيىة التي يضمنها العلم، من الشروط التارخية و الاجتماعية و السيكولوجية الحاضرة وقت ظهورها، أم أنها تظل سجينة تلك الشروط؟ لقد بيّن  مفكرون أمثال كارل بوبر و توماس كوهن  Th. Kuhnو جيرار هولتون، و إسمير لاكاتوس، أن ثمة مسلمات غير معللة موجودة طي النظريات العلمية، بل الأدهى من ذلك، أن هناك ” تيمات” بمثابة أفكار استحواذية قبلية، تحرك ذهن العلماء، شأن الحتمية عند إنشتاين، و اللاحتمية عند نيلز بور Niels Bohrs . لقد كشف توماس كوهن عن وجود براديغمات  paradigmes، أو مبادىء خفية تتحكم في المعرفة و تسمح بتنظيمها.

إن العلم يمشي على أربعة قوائم: التجريبية، و العقلانية، و التخيل، و التحقق. هكذا يغدو بعض العلماء عقلانيين أكثر، و آخرين تجريبيين، و من هم سواهم تخيليين أو مسكونين بقابلة التحقق. إن هذه القوائم الأربعة متكاملة، بالرغم من كونها عرضيا متصارعة، و هو صراع تتغذى منه حيوية العلم. إن العلم ينتج نفسه بنفسه. و هو لا يفعل ذلك في مجال مغلق، بل ضمن شروط تاريخية مضبوطة و دقيقة؛ إن استقلالية العلم لا تنفصل عن عملية التجديد المستمرة التي يقوم بها، في الآن نفسه، في مواجهة النزعات الدوغمائية، و التخصصية المفرطة. أكيد أن العلم يفرز، في نفس الآن، العماء و الوضوح. لكن علينا أن نعرف كيفية مقاومة الاصلاح المضاد، في كل قضية شبيهة بقضية سوكال Sokal ، و الهادفة الى إقامة مرتبة رفيعة للعلم، متعلقة قطعاً بالمؤسسة الانضباطية التقليدية، جاعلة من العلم حصنا منيعا عن الجهل بأصوله.

لكل مواطن الحق في المعرفة، و بالتالي فإن المشكلات الأساسية للنظريات العلمية الكبرى، و الأفكار الثاوية طيّها، قابلة للتداول، و لا يجب أن تبقى ـ بأي حال ـ وقفا على العلماء وحدهم. إن علماء أمثال إيليا بريجوجين I. Prigogine و ريفز  H. Reevesو دي إسبانيا  و فرانسوا جاكوب … يبذلون جهذا لإشراكنا معارفهم، و وهم بعملهم هذا يشخصون دور مفكري النزعة الانسانية  إبان عصر النهضةles humanistes .

هناك إذن في الحالة الراهنة، قصورالفلسفة وحدها، و عدم كفاية العلم وحده لإقامة المعرفة. و نظرا لتعقد المشكلات التي تثيرها هذه المعرفة، فلن نعمل على صياغة ميتا ـ علم، أو ميتا ـ فلسفة، بل سنناضل بالأحرى ضد كل فلسفة مصابة بفقر الدم، و ضد كل علم بدون ضمير1. إن كان النشاط الفلسفي يمد العلم بالتفكير الضروري الذي يحتاجه، فإن النشاط العلمي يغذي الفلسفة بالمعرفة. عندئذ يكون بوسع العلم و الفلسفة الدخول في حوار كوجهيين مختلفين، و متكاملين لعُملة واحدة هي : الفكر

الأحد، 8 أبريل 2018

الأسس الأسطورية للنجاح المدرسي : "بِيجماليون" أنموذجا – د. علي أسعد وطفة


أنفاس نت




بِيجماليون نحات أسطوري إغريقي فاقت شهرته الآفاق، نحت تمثالا لامرأة فائقة الجمال تدعى غالاتيا، فوجد نفسه أمام آية فنية رائعة الجمال، فصعق بجمالها ووقع في حبها وهام بها عشقا، ولما أضناه الحب ونال منه جنون العشق، أشفقت عليه إفروديت Aphrodite إلهة الحب والجمال فوهبت محبوبته الحجرية نسغ الحياة، ليتزوجها وينهل من حبها إلى الأبد. 
 لقد شكلت هذه الأسطورة السحرية موضوعا أثار اهتمام المفكرين وعلماء الاجتماع، وقد تفتق هذا الاهتمام عن تساؤل جوهري حول القيمة الواقعية لما يعتقده الإنسان ولما يفترضه، وعن إمكانية تحويل الطموحات والأحلام والتوقعات الإنسانية إلى وقائع وحوادث وفعاليات ترتسم في نسق الحياة وتستقيم على دروبها. 
وقد اثارت هذه الفكرة الأسطورية اهتمام المفكر وعالم الاجتماع المعروف روبيرت ميلتون Robert MERTON الذي أطلق على هذه الظاهرة النبؤة المتحققة ذاتيا (prophétie auto-réalisatrice) واستحضر حدثا واقعيا يتعلق بإفلاس أحد البنوك في عام 1932 على اثر إشاعة مغرضة ليس لها أساس من الصحة. 
وتتمثل الدلالة التربوية لمعادلة بيغاميليون Pygmalion في تحقيق نتائج تربوية تستند إلى مجرد توقعات وتكهنات تتعلق بالمستقبل التربوي للتلاميذ حيث يتحول الافتراض إلى حقيقة تفرض نفسها في مجال الواقع التربوي. فالإنسان يحاول دائما أن يتجلى على منوال الصورة التي يرسمها الآخرون حوله، وتصورات الآخرين قد تفعل فعلها المكين في نفوسنا وعقولنا، فآراء الآخرين حولنا يمكن أن تدمي قلوبنا ويمكن أن تحيينا، وإذا كان الأمر على هذه الدرجة من الأهمية فكيف يمكن أن يكون الأمر بالنسبة لأطفال على مقاعد الدراسة في مواجهة أحكام المعلمين وتقديراتهم التي قد تكون مفرغة من حكمة الصواب. فأحكام المعلم ونواهيه حول المتعلم تمتلك قدرة سحرية تؤثر في شخصية التلميذ وقد تدفعه إلى تحقيق النجاح أو إلى كارثة العدم التربوي إذا كانت مجحفة وقاسية. وما تأثير بيغاميليون إلا صورة لهذه العلاقة التربوية المتشبعة بالأحكام التي يطلقها المعلم على تلامذته وطلابه في داخل الفصل وفي خارجه.
لقد انبرى كل من روبيرت روزنتال Robert Rosenthal وليونور جاكوبسون Leonore Jacobson لاختبار فرضية تأثير بِيجماليون في الوسط المدرسي، ومن أجل اختبار هذه الفرضية أجريا تجربة على مجموعة من الأطفال في مدرسة أمريكية تدعى أويك Oak School حيث عملا على اختبار التوقعات الإيجابية للمعلمين حول تلامذتهم. وقد بينت ملاحظاتهم وتجاربهم بأن توقعات المعلمين حول مستويات نجاح تلامذتهم كانت تترجم في حقيقة الأمر بطريقة واضحة ومطابقة وكان تأثير توقعات المعلمين كبيرة جدا في مستوى النتائج المدرسية للتلامذة والطلاب في هذه المدرسة.
دراسة روزنتال:
لقد بينت التجربة في المجال المدرسي أن التنبؤ المدرسي للمعلمين يتحقق بصورة عفوية وذاتية: ففي الصفوف المدرسية التي تكون فيها توقعات المعلمين إيجابية حول مسيرة بعض الطلاب فإن هذه التوقعات غالبا ما تتحقق هذا الأمر وغالبا ما يحقق التلامذة المعنيون بهذه التوقعات الإيجابية نجاحا كبيرا وملحوظا يوازي توقعات معلميهم. وهذا ما أفادت به الدراسة التجريبية التي أجراها روزنتال في مدرسة أويك الحكومية الابتدائية. حيث تم توزيع التلاميذ في هذه المدرسة إلى ثلاثة مجموعات صنفت وفقا لثلاثة تقديرات من الذكاء: مرتفعو الذكاء، متوسطو الذكاء، ضعيفو الذكاء.
استخدم فريق روزنتال البحثي اختبارا نفسيا لقياس ذكاء التلاميذ في المدرسة، وقد أخفى الباحثون الغرض الأساسي لدراستهم الخاص بعملية اختبار تأثير بِيجماليون، وزعموا أنهم يختبرون تقنية جديدة تتعلق بتحسين بقياس معدلات الذكاء لدى الأطفال وعلاقة ذلك بمستوى نجاحهم في المدرسة.
في البداية قام الباحثون بتطبيق اختبار الذكاء الأولي القبلي مع بداية العام الدراسي على جميع التلاميذ في جميع الصفوف المدرسية في مدرسة أويك. وكان الهدف من هذه التجربة العلمية قياس معدلات ذكاء الأطفال من جهة واختبار ما أطلق عليه تأثير بِيجماليون من جهة أخرى.
 وعندما أنجز الباحثون اختبار معدل الذكاء الأولي أو القبلي قاموا بانتخاب 20% من عدد التلاميذ عن طريق القرعة زُعم الباحثون أنهم حققوا نتائج عالية في معدلات ذكائهم، وقدمت لائحة بأسمائهم إلى معلميهم. وهنا يجب أن نؤكد بأن أسماء هؤلاء التلاميذ قد اختيرت بطريقة القرعة بصورة عشوائية وليس بناء على أي اختبار حقيقي لذكائهم. وقد شكلت الجماعة التجريبية للطلاب مزعومي الذكاء (وفقا للقرعة) نسبة 20% من عدد الطلاب في المدرسة، أما الجماعة الضابطة فهي ما تبقى من الطلاب في المدرسة حيث لم تقدم اية معلومات عن مستوى ذكائهم وفقا للاختبار. وقد طبق اختبار الذكاء نفسه البعدي في نهاية العام الدراسي الأول وفي نهاية العام الدراسي الثاني أي بعد أن تغير المعلمون الذين شاركوا بالتجربة دون دراية منهم بأغراضها الحقيقية.
ومن المهم الإشارة والتكرار أيضا أنه في العام الدراسي الثاني قد تغير معلموا التلاميذ المعنيين بالتجربة وهذا سيسمح بالتعرف على ما إذا كانت الأحكام المسبقة للمعلمين قد فقدت تأثيرها في مستوى تحصيل التلاميذ المتفوقين حسب القرعة. وأخيرا تمّ حساب الفروق في الدرجات بين الاختبار الأول وبين الاختبار الثاني بالنسبة للجماعة التجريبية والجماعة الضابطة.
نتائج دراسة روزنتال:
 بينت التجربة أن طلاب المجموعة التجريبية (الطلاب الذين صنفوا بالقرعة على أنهم أذكياء) قد حققوا تقدما كبيرا في مستوى ذكائهم ونجاحهم المدرسي على طلاب المجموعة الضابطة وذلك في نهاية العام الدراسي الأول. وبعد مضي عامين، أي في نهاية العام الثاني، بيّن الاختبار الثاني أن تلامذة المجموعة التجريبية قد خسروا تقدمهم مع انقطاع علاقتهم بمعلميهم الذين كانو يحملون تصورا إيجابيا عنهم.
ويتعين علينا في مستوى التحليل أن نتساءل ما إذا كان التقدم الذي حققه أطفال المجموعة التجريبية في معدلات الذكاء قد تحقق على حساب المجموعة الضابطة؟ وهنا يمكن التصور بأن المعلمين كانوا قد اعطوا مزيدا من الاهتمام والعناية بالتلاميذ الذين قدمو على أنهم مبدعين وأذكياء بالمقارنة مع الآخرين. وهذا يعني أن التقدم الذي حققه الأطفال في المجموعة التجريبية لم يكن مفاجئا وكان نتيجة طبيعية لاهتمام المتعلمين المتزايد بهم.
ولكن روزنتال يستبعد هذا الاحتمال ويرى بأن المعلمين وعلى عكس ما هو متوقع منهم كرسوا وقتا أقل لتلاميذ المجموعة التجريبية، وعلى خلاف ما هو متوقع أيضا يرى روزنتال بأن تلامذة المجموعة الضابطة قد استفادوا من تقدم زملائهم في المجموعة التجريبية: ففي الصفوف التي حقق فيها أطفال المجموعة التجريبية أعلى مستويات التقدم في التحصيل المدرسي حقق أطفال المجموعة الضابطة أيضا ما يوازي هذا التقدم في اختبار الذكاء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يستطيع المعلمون إستنهاض مستوى ذكاء الطلاب استنادا إلى توقعهم بحدوث هذا التقدم. ومما لا شك فيه الموقف يلعب دورا هاما ومركزيا في هذه العملية، فموقفنا وسلوكنا إزاء الآخر يتحدد بالصورة التي نمتلكها عنه وبعلاقتنا به. وهنا يفترض في مدرسة إويك أن المعلمين قد تصرفوا بطريقة ودية مع الأطفال الذين حققوا تقدما في معدلات ذكائهم (أطفال المجموعة التجريبية) وبالتالي فإن هذا الموقف أحدث آثارا إيجابية فيما يتعلق بنشاط الطلاب ومستوى تقدمهم. وضمن هذا الافتراض فإن المعلمين وجهوا مزيدا من عنايتهم واهتمامهم إلى التلامذة المتوقع منهم تحقيق تقدم في التحصيل والذكاء. ووفقا لهذا التصور فإن المعلمين كانوا أكثر اهتماما بالمبادرات الإيجابية لهؤلاء الأطفال وأكثر نزوعا إلى تعزيز استجاباتهم وتشجيعهم بالمقارنة مع الوضعية العادية.
ولأن المعلمين قد تلقوا إشارة بأن هؤلاء الأطفال (المجموعة التجريبية) سيكونون متألقين أكثر من الآخرين فإن المعلمين أعطوا لهذه الفئة من التلاميذ اهتماما خاصا حيث عملوا على تعزيز مسار تحصيلهم وتفوقهم ومن ثم المواظبة على تقييمهم إيجابيا بطريقة تؤدي إلى تحسين مستوى التطور العقلي لديهم. وبالتالي فإن التفاعل الإيجابي بين المعلمين وطلابهم من المجموعة التجريبية قد شكل عاملا أساسيا من عوامل تقدم طلابهم ذهنيا عقليا.
 لقد تعرضت تجربة روزنتال للنقد الحاد من قبل ثورندايك Thorndike وسنو Snow في الولايات المتحدة الأمريكية ومن قبل كارلييه Carlier وكودستيينر Gottesdiener في فرنسا. وقد تمركز النقد حول نوع الاختبار الذي لم يكن مكيفا لقياس مستوى ذكاء الأطفال، وأن هذا الاختبار قد أعطى نتائج خاطئة. ويرى كارلييه في هذا السياق بأن روزنتال لم يقدم برهانا منهجيا على مصداقية تحليله لأبعاد هذه الظاهرة المدروسة. وقد أعرب عن خشيته من تأثر منهجية الباحثين برغبتهم في إثبات الحقيقة التي تدور في رؤوسهم عن تأثير بِيجماليون، ويلاحظ بالتالي بأن هذه الرؤية لم تتحقق مصداقيتها إلا فيما يتعلق بمجموعة صغيرة من التلاميذ. فتأثير بِيجماليون يمكن ملاحظته في المدرسة من خلال عملية التمييز الاجتماعي التي تتم بين جدران المدرسة، وفي هذا السياق يلاحظ بأن صفوف التقوية التي أنشئت كمعابر مدرسية للطلاب الضعفاء تتحول في النهاية إلى صفوف تكرس الإخفاق والتراجع المدرسي حيث تتنامى الهوة بين الأقوياء والضعفاء. وهذا يعزى جزئيا أو كليا إلى تقديرات المعلمين الذين يعرفون جيدا المستوى العام للصف الذي يقومون بتدريسه..
وعلى أساس معطيات دراسة روزنتال ظهرت مقالات كثيرة في الصحافة الشعبية لتطرح عددا من الأفكار خارج السياق لدراسة روزنتال، حيث ذهب كتاب هذه المقالات إلى القول بأن الطفل الذي لا يستطيع القراءة بشكل جيد نتاج لإهمال وتقييم سلبي من قبل المعلم.

تأثير التوقعات:
لقد كشف كل بروكوفير في عام 1982 وكوبر في عام 1984 وكودون في عام 1987 عن مجموعة من العوامل والمتغيرات التي تؤثر في موقف المعلمين من التلاميذ وتدفعهم إلى تشكيل توقعات محددة حول مستواهم التحصيلي، ومن هذه العوامل يشار إلى متغير جنس التلاميذ فعلى سبيل المثال لا يضع المعلمون توقعات جيدة للإناث في هذا المقرر ولاسيما للطالبات الأكبر من حيث العمر. وهناك متغيرات أخرى مؤثرة في عملية بناء التوقعات مثل: الوضع الاقتصادي والاجتماعي للتلميذ، متغير الانتماء إلى جماعة إثنية، نمط المدرسة ومكانها، مظهر الطالب والطريقة التي يرتدي بها ملابسه، اللغة التي يستخدمها التلميذ ولاسيما عندما يكون المستوى اللغوي للطفل محدودا أو ضعيفا، طريقة الطالب في تنظيم شؤونه، نزعة المبادرة لدى التلميذ، فعدم نضج الطفل أو ضعف خبرته قد تتشاكل مع قدرته على التعلم وبالتالي فإن هذا المتغير يؤثر على تقدير المعلم وتوقعه بمستوى تحصيل الطفل ومن العوامل الأخرى المؤثرة يشار أيضا إلى: الانطباع العام للمعلم: بعض المعلمين يعممون بعض التصورات العامة حول التلميذ وهي تصورات قلما تستند إلى معطيات واقعية وحقيقية تتعلق بإمكانيات التلميذ وقدراته وإمكانياته الحقيقية، ثم متغير مكان جلوس الطالب في الأمام أو في الخلف أو في الوسط، متغير التعليقات السلبية التي توجه إلى التلميذ، متغير تصنيف التلميذ في مجموعات جيدة أو ضعيفة يمكنها أن تجر توقعات سلبية أو إيجابية لدى المعلم. تلك هي المعايير والمتعيرات التي يعتمدها المعلمون بطريقة عفوية لبناء توقعاتهم وتصوراتهم المتعلقة بمستوى نجاح التلميذ ومستوى تحصيله المدرسي. وهنا تبذل الجهود لمساعدة المعلمين على تجنب هذه النمط من الأحكام المسبقة حيث يتم العمل على تبصير المعلمين بخطورة هذه الأحكام المسبقة والتوقعات الأولية وكيفية تأثيرها لا شعوريا في علاقة المعلم بالأطفال والتلاميذ. في هذا السياق يعتقد روزنتا أن هذا المنطق السلبي يمكن أن يفهم بصورة خاطئة إذا اعتقد المعلم بأن الأحكام المسبقة والتوقعات الإيجابية أو السلبية التي تتعلق بالتلميذ يمكن أن تجعل منه ما يتوافق مع توقعاته بصورة عفوية.
وينوه الباحثون في هذا السياق أن إعطاء مصادر المعلومات أهمية كبيرة مثل نتائج الاختبارات والملفات المدرسية يمكنها أن تؤدي إلى نتائج غير مرغوبة. وهم يعلنون بأن هذه المعلومات المتعلقة بالتلاميذ يجب ألا تؤخذ على أنها حقيقة نهائية مطلقة بل يجب أن ينظر إلها وأن يستفاد منها في مسار اتخاذ القرارات المستقبلية التي تتعلق بالتلميذ. وهنا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كيف يمكن للتلاميذ أن يتفاعلوا مع تقديرات وتوقعات عالية المستوى من قبل معلميهم.
ويرى الباحثون أن التوقعات الكبيرة والتقديرات العالية للتلاميذ تشكل عنصرا أساسيا في المكونات الضرورية لتحقيق نجاح أكبر في المدرسة. وهذا العامل يجب أن يتضافر مع عوامل أخرى مثل العناية الإدارية، والمناخ المدرسي المنظم الآمن، والتقويم المستمر لمستوى الطالب. وهذا العوامل يجب أن تتكامل أيضا مع عوامل أسرية منها ما يتصل بأوضاع التلميذ في المنزل ومواظبته على الدراسة وحصوله على الدعم الأبوي والعائلي حيث يجب على الأبوين أن يسمحا للطفل بالمشاركة في النشاطات الخارجية ولاسيما التلاميذ الذين يحتاجون إلى دروس تقوية تهدف إلى رفع سويتهم العلمية.
 وغالبا ما يعزى انخفاض المستوى التحصيلي للتلاميذ إلى ضعف مستوى التلاميذ أنفسهم، وقلما يعزى هذا الضعف في التحصيل إلى الممارسة التربوية نفسها في المدرسة. ومن يتأمل في الأمر يجد أحيانا بأن المعلمين غالبا ما يضعون توقعات متدنية للتلاميذ وهذه التوقعات تؤثر في خفض مستوى تحصيلهم. فالأطفال الذين يصنفون ضعفاء في صفوفهم يتلقون معرفة واهتماما أقل إثارة والمعلمون لا ينتظرون شيئا مهما من قبل هؤلاء التلاميذ. ومن الطبيعي أن يتلقى هؤلاء الأطفال عددا كبيرا من الإشارات والتلميحات السلبية غير المباشرة التي تخفض لديهم دافعية العمل والإنجاز المدرسي وبالتالي فإن نتائجهم تكون على منوال التوقعات التي يرسمها معلموهم بصورة مسبقة.
 وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية العلاقة التي تربط بين المعلم والطالب حيث تكون هذه العلاقة في منتهى الخطورة والأهمية من حيث تأثيرها في مستوى نجاح الطالب أو مدى تحصيله المدرسي. فالعلاقة بين المعلم والتلميذ قد تكون حاسمة في تحديد مسار نجاح التلميذ، لأن هذه العلاقة تنطوي على جوانب ذاتية متنوعة ومتعددة تتجاوز حدود التجربة المدرسية ذاتها. فالعلاقة الإيجابية مع المعلم تمكن الطفل من أن يثق بنفسه وأن ينطلق وأن يشعر بالأمن التربوي وأن يشعر بالقدرة على المواظبة. وعلى خلاف ذلك إذا كانت هذه العلاقة سلبية فقد تؤدي إلى نتائج مدمرة في شخصية الطفل ومسار حياته المدرسية برمتها. وفي هذا السياق يلاحظ أن المعلم غالبا ما يبني علاقات أقوى وأعمق مع التلاميذ الذين يبدون مشاركين وفاعلين وواعدين وأن هذه العلاقة غالبا ما تكون سلبية مع الطلاب ذوي المستويات التحصيلة المتدنية.

خلاصة:
لقد بينت أعمال روزنتال وجاكوبسون بأن التوقعات التي يرسمها المعلمون حول المسار الدراسي للتلاميذ مؤثرة جدا، وغالبا ما تُتَرْجم هذه التوقعات إلى واقع مدرسي. ومن الواضح أن تأثير بِيجماليون يشكل إطارا منهجيا لتحليل وتفسير الجوانب المختلفة للحياة التربوية التي تتعلق بالتحصيل المدرسي للتلميذ. فالتقييم المدرسي الذي يجريه المعلم وتوقعاته حول مستوى التلميذ يلعب دورا كبيرا في عملية توجيه المسار المدرسي للطفل. ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تأثير بِيجماليون يبقى نتاجا لفكرة أسطورية في الأصل والجوهر، وهي فكرة يمكن اعتمادها في تفسير وتطوير الفعاليات المدرسية المتعلقة بعملية التنبؤ والتوقع والتطوير في مجال التحصيل المدرسي.
ومهما يكن الأمر فإن البعد التربوي لهذه الأسطورة يمكنه أن يوظف فعليا في توجيه السلوك التربوي للمربي الذي يجب عليه أن ينطلق في عمله من الإيمان بأهمية التعزيز الإيجابي للطفل عبر توقعات إيجابية، فالتوقعات السلبية والصورة السلبية غالبا ما تكون كارثية على التلميذ، وهذا يعني أنه يجب علينا أن نعمل تربويا وفقا للحكمة التي تقول توسموا الخير تجدوه، أو هذه التي تقول كن جميلا ترى الكون جميلا، فكم يجب علينا أن نتوسم خيرا بأطفالنا وتلامذتنا من أجل خيرهم ومستقبلهم، وكم يتوجب علينا أن ننظر بعيون جميلة إلى أطفالنا وفلذات أكبادنا ليتألق الجمال لوحة أصيلة في قلوبهم وعقولهم ,

مسألة تعريف الفلسفة ـ موسى برلال


عن أنفاس نت


إن ما يميز الفلسفة عن باقي التخصصات المعرفية هو كونها لا تكتفي بالبحث في أهم الإشكالات التي درجت على مناقشتها عبر تاريخها، بل على العكس من ذلك، تجعل من ذاتها موضوعا للتساؤل المستمر، وهي السمة الأساسية المحايثة للتفكير الفلسفي منذ نشأته إلى حدود الفترة المعاصرة، حيث استقلت مختلف المباحث العلمية ما جعل سؤال ما الفلسفة يطرح ذاته بقوة أكثر. في هذا الصدد يتبلور الإشكال الآتي:
كيف عالجت الفلسفة مسألة تعريفها لذاتها عبر التاريخ؟ وما الإشكالات التي يطرحها هذا التعريف؟
    لا شك أن للفلسفة موضوعات ومباحث كبرى تبلورت منذ الفلسفة اليونانية، وهو ما يعرف بالمباحث الفلسفية الكبرى (الوجود، المعرفة، الأخلاق والسياسة، الجمال). غير أن ظهور الفلسفة لم ينفصل عن البحث عن ماهيتها، لدرجة يمكن القول أن كل فلسفة قدمت تعريفا وتصورا خاصا للفلسفة ذاتها. ذلك ما سيتضح من خلال هذا العرض الفلسفي، مع الإشارة إلى أن سؤال "ما الفلسفة؟" سيطرح بقوة في الفلسفة المعاصرة بشكل خاص.
    إن نشأة الفلسفة اتسم بتميز هذا الخطاب عن خطابات أخرى كالأسطورة، حيث اعتبِر التفكير الفلسفي تفكيرا عقلانيا ومكتوبا ويخضع للمحاججة. غير أن أرسطو قام بتصنيف للمباحث الفلسفية، والتي كان من ضمنها العلوم، وفق سلم تراتبي، واعتبر أشرف فلسفة هي الأبعد من المادة ومن مجال الممارسة العملية. وبذلك احتلت الميتافيزيقا أعلى السلم بما هي بحث عن الوجود بما هو موجود. وقد استمر هذا التصور للفلسفة لدى المسلمين، حيث وضعوا الإلهيات في أعلى مرتبة. وعليه انضافت للفلسفة الإسلامية إشكالية جديدة، وهي النظر إلى الوجود بما هو "دال على الموجِد" في إطار التوفيق بين الدين والفلسفة والبرهان على وجود الله. بينما كانت إشكالية الله في الفلسفة اليونانية مهملة إلى حد ما، إذ لجأ إليها أرسطو مثلا كضرورة فرضها تصوره للحركة التي لا بد أن تتوقف عند محرك أول لا يتحرك.
    غير أن الفلسفة الحديثة وضعت الفلسفة اليونانية موضع سؤال، خاصة فلسفة أرسطو الذي مثل ذروة الفلسفة اليونانية، وذلك في سياق ظهور حقائق علمية جديدة فندت التصور الأرسطي للكون. وهكذا سيضع ديكارت وبيكون تصورا جديدا للفلسفة. وقد اهتما بإشكالية المنهج الذي يصلح للعلم الحديث بشكل خاص.. لقد فرضت المنظومة الميكانيكية الفصل بين المادة والنفس، بينما كانت النفس في المنظور الأرسطي توجد عند النباتات والحيوانات أيضا بدرجات مختلفة. في هذا الصدد أسس أرسطو لفلسفة الذات، كما تناول المسائل الميتافيزيقية القديمة (الله، النفس..) وبرهن عليها بأدلة عقلية (الدليل الأنطولوجي، الدليل الإنساني التجريبي...الخ)، وهو الشيء الذي جعل كانط ينتقد ديكارت وكل الفلاسفة الذين تناولوا الموضوعات الميتافيزيقية، باعتبار أن العقل ليس بمقدوره الحسم في هذه الموضوعات التي سماها كانط نقائض العقل. وعليه وضع حدودا للعقل لا ينبغي تجازوها.
    ونجد في نهاية المرحلة الحديثة نقدا آخر لموضوع الفلسفة في ظل سيادة النزعة الوضعية، حيث اعتبر اوغست كونت أن هناك ثلاث مراحل تطورية للفكر البشري، وأن المرحلة الفلسفية أصبحت متجاوزة مع سيادة العلوم الدقيقة، وهو ما جعل هوسرل يعتبر ذلك بمثابة ضربة لعنق الفلسفة. وفي الفلسفة المعاصرة، ستصبح تلك الإشكالية أكثر جدية، حيث نادى هيدغر باكتمال الميتافيزيقا كما تعالت الخطابات المنادية بموت الإنسان (فوكو) ونهاية التاريخ (فوكوياما)، وذلك في سياق بروز فلسفات تفكيكية ونقدية. غير أن جاك دريدا اعتبر أنه رغم موت الفلسفة فإنها هي التي تقود جنازتها، بما مفاده أن كل نقد للفلسفة يحتاج لإقامة فلسفة بديلة.
    من خلال هذه العتبات التاريخية لتطور الخطاب الفلسفي وتجدد موضوع الفلسفة اتضح فعلا أن كل نسق فلسفي يعبر عن تصور ما للفلسفة وماهيتها. وقد ربط جون دييوي بين الفلسفة وسياقها الاجتماعي والتاريخي معتبرا أن الفلسفة ما هي إلا انعكاس للإشكالات التي يفرضها الواقع الاجتماعي والحقائق العلمية الجديدة في فترة تاريخية معينة. ومن هذا المنظور حتى لو نظرنا لإجابة دولوز عن سؤال ما الفلسفة؟ حيث خصها بإبداع المفاهيم مقابل العلم الذي يشتغل بالوظائف؛ فإننا نجده نفسه يبدع مفاهيما مجسدة تعريفه للفلسفة. وذلك من قبيل: الشخصيات المفهومية، الآلات الراغبة، ثم جسد بدون أعضاء (كتاب ألف سطح) ....الخ.
    بهذا المعنى فتعريف الفلسفة يفترض إقامة فلسفة، فضلا عن تقديم تصور خاص للإشكالات الفلسفية الكبرى. لكن السؤال الذي يبقى موضع جدال بين الفلاسفة هو: لماذا تم تعريف الفلسفة بهذا المفهوم دون غيره؟
    هنا سننفتح على إشكالية اختلاف الأولويات والمثل التي تنشدها كل فلسفة، فأفلاطون مثلا كان يهمه الحقائق المتعالية والمثل الخالدة ما جعله يحتقر الحس والجسد، وهذا ما جعل نيتشه ينتقده بقلب ذلك التصور وتأكيد إرادة القوة ومنح الجسد والحياة مكانة متميزة مقابل تحقيره للمثل الأخلاقية التي لا تعبر إلا عن أخلاق العبيد مقابل أخلاق السادة. غير أن فلسفات الاختلاف جذرت تصور نيتشه وجعلت الفلسفة عمل نقدي وتفكيكي يكشف عن علاقات السلطة (فوكو) ويعيد الاعتبار للهامش (دريدا)...الخ.
    ومجمل القول، إن مسألة تعريف الفلسفة تبقى موضع نقاش مستمر بين الفلاسفة. لكن هذا التعريف ينبني على تصور ما للإنسان والوجود، وهو أمر لم يكن محسوما بين مختلف المذاهب والتوجهات الفلسفية. وبهذا المعنى، فكل تعريف للفلسفة يبقى تعريفا نسبيا ولا ينفصل عن سياقات معينة. بعبارة أخرى، فهذا السؤال يضعنا في قلب الممارسة الفلسفية بقدر ما هو سؤال أركيولوجي يعبر عن الإبستيمي السائد، أي النظام المعرفي الموجه لمرحلة ما من التاريخ.

الاثنين، 30 أكتوبر 2017

سيكولوجية الأحلام.. هل لأحلامنا تفسير علمي؟



ما بين عامي 1915 و1917 ألقى سيجموند فرويد 28 محاضرة في موسمين جامعيين، أرادها أن تكون مدخلًا لدراسة التحليل النفسي، كان من بينها شروحه وتفسيراته لتأويل الأحلام، افترض فرويد أن الأحلام ليست عارضًا بدنيًا، ولكنها ظاهرة نفسية بدافعٍ شخصي منه نحو تفسير ظواهر الأحلام وربط بعضها ببعض، حتى يتاح لنا فيما بعد السيطرة عليها. الأحلام إذًا هي نافذة على أرواحنا، ومرآة لخفايا واقعنا، أو هكذا تصور فرويد أن كل حُلم مرتبط بصاحبه، وأن على صاحب الحُلم نفسه أن يؤول حلمه، ولكن هل الأمر بهذه البساطة؟

سيكولوجيا الأحلام

عندما قال محمود درويش: «سأصنع أحلامي من كفاف يومي؛ لأتجنب الخيبة» لم يكن يعرف أننا بالفعل نصنع أحلامنا، دون أن ندرك ذلك: ففي الأحلام كل الأشياء المُستحيلة تتحقق، يمكنك القفز من النافذة لتطير، الموتى يعودون على قيد الحياة، والأصدقاء المهاجرون يتجمعون في أمسياتٍ ضاحكة، وحتى أشباح الطفولة يمكن أن تتجسد لك، فما الذي تعنيه ذاكرة أحلامنا؟
يقول عن ذلك «سيجموند فرويد» في كتابه «محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي» إن الحُلم ظاهرة نفسية، وإن عقول الناس تحتضن أشياء معينة يعرفونها، دون أن يدركوا ذلك، مُفسرًا ذلك بأن الإنسان قد تنطوي نفسه على معرفة دون أن يعرف عنها شيئًا، وأن هذه هي حالة الحالم؛ فالحالم بالنسبة لفرويد يشتق حلمه من مجموعة من الأفكار والاهتمامات الحبيسة في عقله، دون أن يدرك ذلك، وأن دور علم النفس هنا هو أن يقدم له يد العون لاكتشاف تلك المنطقة الخفية في عقله؛ وبالتالي تأويل حلمه.
بالنسبة لفرويد كان تفسير الأحلام هو طريقته لفهم الصراع الداخلي الذي يخوضه الإنسان في اللاوعي؛ حيث اعتقد أن الأحلام تنشأ في الأساس من صراعاتنا الداخلية بين الرغبات اللاواعية وجهودنا في كبحها، فوصف الأحلام بأنها «الطريق الملكي إلى اللاوعي»، وشجع مرضاه على التحدث بلا حساسية عن أحلامهم؛ لأنها بالنسبة إليه تربط الماضي والحاضر بالمستقبل، وتعمل على تكثيف الصور، بل وقد يعمل العقل البشري على إحلال الأشخاص والأشياء محل بعضهم البعض، وهو ما يتحدث عنه «أدريان فورنهام» أستاذ علم النفس بجامعة لندن في Psychology Today، حيث أشار إلى أن المحللين النفسيين يستخدمون الأحلام بعناصر التغيير فيها، مثل الإحلال أو التحول، حيث يتحول الناس من كبار في السن إلى أطفال في أحلامهم، أو العكس، أثناء قيامهم بالتحليل النفسي.
لكن  نظرية فرويد تعرضت للنقد، واعتمد النقاد على تساؤل واحد: إن كانت أحلامنا فعلًا هي مجرد رغبات غير مشبعة أو متحققة، فلماذا نحلم أحيانًا أحلامًا سلبية أو لها علاقة بموروثات ثقافية واجتماعية ؟
إن كانت «نظرية الأحلام» عند فرويد هي عملية خاصة بالإنسان ذاته، وماضيه، ومكنونات نفسه المكبوتة، فهي على النقيض عند «كارل جونغ» مؤسس علم النفس التحليلي، والذي يعتبر الأحلام لها علاقة باللاوعي الجمعي، بكل الموروثات الثقافية والاجتماعية والأساطير؛ فبالنسبة لجونغ اللاوعي غير مرتبط بالإنسان وحده، ولكن بالبيئة المحيطة أيضًا، ولذلك كان يقوم بتفسير الأحلام بطريقة متوازية عن طريق تحليل الفرد وتجاربه الخاصة، جنبًا إلى جنب مع موروثه الثقافي، وعن ذلك يقول «جونغ» إن القواسم المشتركة في محتوى الأحلام بين الأفراد، ترجع أحيانًا إلى تشاركهم في ثقافة واحدة، وهي ما يحصل عليه الفرد من خلال التنشئة الاجتماعية والتجارب التنموية المشتركة بين جميع البشر.
وعلى الرغم من أن نظريات فرويد ويونج عن الأحلام كانت هي أحد الأسس التي بُني عليها علم النفس التحليلي، إلا أنها خضعت للغربلة فيما بعد، من خلال بعض الأدلة العلمية التي اكتشفها الباحثون في تجاربهم على الأحلام، وتبلور مفهوم الحلم بشكلٍ أوسع، ولكنهم اتفقوا على ثلاثة مفاهيم، أن الحُلم عملية إدراكية تعتمد على مخططات الذاكرة والذاكرة العرضية إلى جانب المعرفة العامة لتصنع محاكاة مقبولة للعالم الواقعي، وأن للأحلام معنىً نفسيًا يرتبط مع المتغيرات النفسية الأخرى، وأخيرًا: أن الأحلام غير العادية، والتي تتناول القيام بالأعمال المستحيلة، كالطيران مثلًا كلها نتاج تفكير شارد.

لماذا تتكرر بعض الأحلام بصفة مستمرة؟

كلٌ منا لديه حلمه المتكرر الخاص الذي يؤرقه، ولم يجد له تفسيرًا حتى الآن، فهل يمكن أن يكون لأحلامنا المتكررة سبب منطقي؟ وهل فعلًا تعكس أحلامنا المتكررة مخاوفنا وضغوطنا الحياتية؟
تقول «ميشيل كار»، وهي باحثة في دراسات النوم بجامعة سوانسي، في مقالٍ لها على موقع Psychology Today عن الأحلام المتكررة: إن هذا النوع من الأحلام يحدث لما بين 60% إلى 75% من البالغين، وغالبًا ما يحدث للنساء أكثر من الرجال، وأن هناك موضوعات شائعة تُبنى عليها أغلب هذه الأحلام، مثل: التعرض للهجوم، وحلم المطاردة، أو السقوط من أعلى، وفقدان السيطرة على السيارة، أو حتى الفشل في الامتحان، وتفسر ذلك بأن الأحلام المتكررة – نظريًا – تعبر عن وجود صراعات أو ضغوط لم تحل في حياة الفرد، مُضيفة أن محتوى الحلم المتكرر غالبًا ما يكون سلبيًا.
تستكمل «كار» حديثها قائلة: إنه طبقًا للدراسات الحديثة على الأحلام، فقد اتضح أن محتوى الحلم السيئ لا يشير بالضرورة إلى سوء تكيف مع الواقع، فمثلًا أغلب طلاب الطب الذين تمت عليهم الدراسة، وكان حلمهم المتكرر بعد اجتياز الامتحان هو الفشل فيه، جاءت النتيجة أعلى، واحيانًا بتفوق؛ مما يشير إلى أن الدافع من وراء الحلم كان الرغبة الشديدة في تحقيق النجاح.
تستعرض كار أمثلة من الدراسة؛ تؤيد وجهة نظرها، بأن الأحلام المتكررة قد تكون نتيجة جهد مبذول في حياتنا، ورغبة نحو إحراز التقدم، وأنه حلم يبدأ مع الشخص في سن مبكرة، وقد يلازمه طوال الحياة، كلما شعر بالتوتر أو القلق، وتوقف الحلم المُتكرر يعبر غالبًا عن انتصار الشخص على صراع حياته، وأنه قد أحرز التقدم المرجو.
الكوابيس بشكلٍ عام هي رد فعل طبيعي للنفس البشرية تجاه الإجهاد، ويرى الأطباء أنها تساعد الأشخاص في تقبل الأحداث الصادمة، لكن حين يتحول الكابوس العادي إلى كابوس متكرر يبعث الرعب والخوف في نفس ضحيته؛ مما يعيق الشخص عن أداء مهامه العملية بشكلٍ جيد، فإنه يتحول حينذاك إلى «اضطراب الكوابيس المتكررة»، وهو اضطراب نادر يخلق خوفًا من النوم، وقلقًا، وعدم قدرة على القيام بمهام النهار، وأحيانًا ما يكون مصحوبًا بتغير في معدل ضربات القلب.

خرافة الجاثوم .. هذا الكابوس المخيف المتكرر

هل تتذكر هذا الحلم المزعج الذي أرقك لأيام وجعلك عاجزًا عن النوم مرة أخرى، هذا الحلم الذي تفقد فيه قدرتك على الحركة، وعلى التنفس، وربما تشعر بأن أحدًا يقيدك، فبت تصارع من أجل الاستيقاظ لينتهي الحلم، ولكنك تفقد السيطرة حينها على جسدك، ليأتي الاستيقاظ بعدها في شكل حركة فجائية للجسم كله بعد شلل تام؟
كثير من الناس يطلقون على هذا الحلم الشائع اسم الجاثوم، أو (أبو اللبيد)، وعندما يتكرر الأمر، تجنح بعض الثقافات والأديان نحو تفسيره بتسلط الجن على الإنسان، وهو أحد الأمور التي ساعدت في انتشار «أسطورة الجاثوم»، ففي كل ثقافة من ثقافات الشعوب تم تفسير الظاهرة بطريقة تشير إلى ارتباطها بالجن والشياطين والأرواح الشريرة؛ في الثقافة الأوروبية إبان القرن الثامن عشر، كان الجاثوم أو (شلل النوم) يتم تفسيره على أنه دليل على سحرٍ شرير، وكان من الأدلة المستخدمة في المحاكم أثناء محاكمة الساحرات، وفي الفلكلور الياباني أشاعوا أنه ناجم عن الأرواح الشريرة، وهو اعتقاد مازال سائدًا في بعض الأماكن باليابان حتى الآن.
والحقيقة أن للجاثوم تفسير علمي، أصبح باحثو علم النفس يدركونه الآن، فهو ظاهرة يطلق عليها شلل النوم، وغالبًا ما تحدث عندما لا يتفق العقل مع الجسد في حالة الاستيقاظ، بمعنى أن العقل قد يكون قد استيقظ، إلا أن الجسد مازال غارقًا في النوم، وهو ما ينتج عنه حالة الشلل المعروفة، والتي تحدث فقط عند الاستفاقة في إحدى مراحل النوم الخمس التي يمر بها الإنسان كل ليلة، وتسمى «نوم حركة العين السريعة»، والتي تتميز بحركاتٍ سريعة وعشوائية للعينين، يرافقها شلل تام في عضلات الجسم، ويعتقد الشخص حينها أنه يختنق أو يُحتضر؛ نتيجة لهلوسات العقل في ذلك الحين.

هل كل أحلامنا تحتاج لتأويل؟

كل الأحلام بالطبع قابلة للتأويل، وكما أشار فرويد من قبل، يمكن لأي شخص أن يفسر أحلامه بنفسه؛ لأنه الوحيد القادر على حل اللغز، ولأن عقله الباطن هو من قام بصناعتها في بادئ الأمر، ولكن ليست كل الأحلام لها علاقة بالرغبات المكبوتة أو بالموروث الثقافي والصراعات الداخلية، فبالطبع يمكن للشخص أن يتعرف على نفسه بشكلٍ أعمق من خلال عمله على تأويل أحلامه ودوافعها، ولكن ليست كل الأحلام تحتاج للتأويل، فهناك مثلًا ثلاثة أنواعٍ أساسية من الأحلام، قد لا تنطوي على مفهومٍ عميق لصاحب الحلم:

الحلم هو خيالٌ سلبي

بعض أحلام النوم مثلها مثل أحلام اليقظة هي خيال سلبي، ولكنها أكثر حرية؛ مما يفقدك سيطرتك عليها، فالأحلام كلها من صنع العقل الباطن، صورًا ينتجها اللاوعي، ولكنها تبدو حية وحقيقية، وعن هذا يقول بعض الباحثين إن تفسير الأحلام يمكن أن يخضع للنواحي الفيزيقية للجسد، وليس النواحي النفسية فقط، مشيرين إلى أن حركة العين السريعة وتحفيز القشرة المخية والشلل العضلي، هو ما  يعمل على إنتاج الصور.
كما أن الأحلام ليست كلها تنطوي على مفهوم خفي وعميق داخل النفس البشرية، وأنها فقط قد تنطوي على حدث يشغل العقل في الآونة الأخيرة، مثل حلم شخص يخوض عملية جراحية في غضون أيام، فيبدأ الحلم لديه بمشرط الجراح.

أوهام الأحلام

وهي تلك النوعية من الأحلام التي تثيرها محفزاتٍ خارجية، كحلم رجلٍ في الشتاء لم يرتد ملابس كافية أثناء النوم، ويشعر بالبرد، فتتكون لديه مجموعة من الصور يحفزها الشعور بالبرد، مثل سيره تحت المطر مثلًا.

هلوسة الأحلام

بعض الأحلام تكون عبارة عن مسرحية من الخيال، تستعرض مجموعة من الصور بشكلٍ عفوي، بعضها قد يكون في شكل شاب يحلم بفتاة يحبها، حلم فانتازيا، وهو الأمر الذي فسره فرويد على أنه لرغبةٍ جنسية غير مُشبعة.

الثلاثاء، 17 أكتوبر 2017

تعريف الإبستمولوجيا


  مدونة لعرض مساهمات الفكر الإنساني في مجال الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع. 




1. تعريف الإبستمولوجيا:
تعني الإبستمولوجيا اشتقاقيا ” دراسة العلم ” ، وهي ابتكار جديد كفرع من فروع الدراسات الفلسفية ، ويبدو أن لا ضرورة لهذا المبحث ؛ ففي عصرنا يتم تقديم العلم لكل واحد منا باعتباره مجموعة واضحة ، منظمة ومنسجمة من النتائج التي تفرض ذاتها علينا كحقائق، وإذا قبلنا بدون فحص ، تعريفا كهذا للعلم ، فإننا لن نستطيع أن نفهم لماذا يتحتم اعتبار العلم موضوعا للدراسة؛ فقانون سقوط الأجسام ، متى تم التوصل إلى المعادلة الرياضية المعبرة عنه ، ومتى تم التأكد منه تجريبيا عن طريق ( جهاز نيوتن للسقوط الحر ) ، بحيث يضحي قانونا عاما ، فإنه لا يستدعي بعد ذلك أية تعاليق أو أبحاث أخرى.
ومع ذلك ، فالعلم لا يعطينا ـ ما عدا في المقررات الدراسية التي هي بالضرورة بيداغوجية ودوغماطيقية ـ طابع اليقين والموضوعية المطلقين دائما : فلا وجود لنظرية علمية تقوم على مبادئ مصاغة بشكل دقيق ومنسجمة فيما بينها، و لا يهتم العلم بما إذا كان من الممكن أن تعرف كل مناهج الاكتشاف والتجربة بدون نقد سابق ذي علاقة بموضوعها. وأخيرا ، فإن النتائج التي يستخلصها العالم من بحث علمي ما ، وكذا التعميمات التي يقوم بها انطلاقا من اكتشاف ما ، هي دائما أبعد من أن تكون مؤسسة ، وإنه لعلى هذه المستويات الثلاث من البحث العلمي تحتل أولا الإبستمولوجيا مكانتها ، مما يمكن من تعريفها بأنها الدراسة النقدية لمبادئ العلوم ومناهجها ونتائجها: ” إن معرفة الواقعي ـ كتب جاستون باشلار ـ هي نور يلقي دائما ، وفي مكان ما بعض الظلال ” [ ” تكوين الروح العلمية ” ص 13] ، إن هذه الظلال هي التي تستخدم الإبستمولوجيا النقدية لاكتشافها وإماطة اللثام عنها.
غير أنه يوجد شكل ثان من الإبستمولوجيا يمكن أن نسميه بكل بساطة بالإبستمولوجيا التكوينية Constitutive : حيث إن العمل النقدي للإبستمولوجيا لا يبدأ فقط عندما ينتهي العلم ، إنه ليس عمل فيلسوف العلم خاصة ، إذ إنه يعلن عن ذاته أيضا أثناء عملية الصياغة ذاتها للنظرية ، هذه الإبستمولوجيا التكوينية هي مرتبطة بشكل جوهري بالممارسة العلمية : فلم يكن بمستطاع جاليلي مثلا أن يصوغ قانون سقوط الأجسام ما لم يكن ، وبشكل مواز ، قد قام بنقد المفهوم الأرسطي ل ” الجاذبية ” وأسس أيضا الديناميكا المعاصرة على أساس مفهوم جديد للحركة.
إن الدراسة النقدية للعلم ، والتي تمثلها الإبستمولوجيا ، بعيدة عن أن تكون سلبية بشكل خالص ، وعن أن تؤدي بنا إلى الشك ؛ فهي تظهر كمساهمة ضرورية وكعمل مجد بالنسبة للعمل العلمي.
وتأسيسا على ما سبق وقيل ، فإننا نرى على أن الإبستمولوجيا تنتمي في آن واحد إلى كل من الفلسفة والعلم : إنها تنتمي للفلسفة باعتبارها دراسة للفكر والبحث العلميين ( الفيلسوف هنا يلاحظ عمل العالم لمعرفة خصوصية المعرفة العلمية وما يميزها عن الحس المشترك ) ، وتنتمي إلى العلم باعتبارها تدعي القيام بدراسة علمية للعلم ، والقدرة على تحقيق صرامة مشابهة لصرامة العلم فيما يخص بناء مفاهيمه وطرق استدلاله ، إن لم يكن بنفس موضوعية العلم ذاته ، وأيضا باعتبار رغبتها في أن تكون معيارا لصلاحية مفاهيمه ومناهجه ، بل ونتائجه أيضا.
ولو أن هذه التعددية في اهتمامات الإبستمولوجيا شكلت غالبا نقطة اصطدام في ما بين الفلاسفة والعلماء ، فإنها سمحت بإدراك أن الإبستمولوجيا ليست مبحثا موحدا أو واحدا ، وإنما هو مبحث شديد التنوع بالنظر لتنوع مقترباته : والدليل على ذلك هو استنادها لمباحث جد مختلفة وغالبا علمية لممارسة إجراءاتها؛ ألن يدهشنا كون موسوعة للإبستمولوجيا يمكن أن تتضمن عناوين مختلفة لها من قبيل ” منطق الاكتشاف العلمي ” ، ” الأسس الفلسفية للفيزياء ” ، ” العلم والمجتمع ” ، ” مساهمة في تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية ” ، ” عناصر تاريخ الرياضيات ” . . . الخ.
إننا نرى بفعل هذا التعداد البسيط أن الإبستمولوجيا مبحث متعدد الأشكال ، وأنه تبعا للحاجة يقدم على أنه ” منطق ” ، ” فلسفة المعرفة أو نظرية للمعرفة ” ، ” علم اجتماع ” ، ” علم نفس ” ، ” تاريخ ” . . . الخ.
سنلامس في بحثنا هذا كل هذه المقاربات ، وأهمية كل واحدة منها ستقاس بمدى خصوبتها ، ومن اللائق أن نفرد مكانا خاصا على حدة لتاريخ الفكر العلمي : هذا المبحث الذي هو مبحث حديث ، لا يستجيب فقط لشغف بالوقائع أو أفكار الماضي ، وإنما وأيضا ، وفي الغالب ، لأهداف التنقيب والاكتشاف والبيداغوجيا.
للاكتشاف : لأننا نرى جيدا وغالبا علماء يصعدون مجرى التاريخ والعصور للكشف عن / أو لتأكيد مبادئ علمهم ، أو لاكتشاف سند تاريخي لهذه المبادئ ( إنها حالة نعوم شومسكي مؤسس علم اللغة العقلاني ) .
للبيداغوجيا : لأن ما يدرس من العلم ليس في غالب الأحيان إلا نتيجة المحاولة والأخطاء المصححة.
إذا كان من غير الممكن التقليل من قيمة ما يسميه ج.باشلار ( العلم المدرَس ) والذي يمكن التلميذ ، بفضل بساطته وصوريته الرائعة غالبا ، باقتصاد المراحل الطويلة التي كان على العلم أن يقطعها لكي يكتمل بناؤه ، فإنه سيكون مثمرا أن المتعلمين كالمعلمين يستطيعون تقديم العلم لا كمجموعة نتائج موضوعية ونهائية بشكل مطلق توفرت من حقيقة لا تاريخية مجهولة ، غباء القرون الأولى هو الذي حال وحده ذون اكتشافها مبكرا، ولكن كما هو في الواقع ؛ أي بحث يقود نحو الخطأ أكثر مما يقود نحو الحقيقة ، تلك الحقيقة التي لم تكتمل أبدا ، والتي عليها تجاوز عوائق هي متجددة على الدوام.
من جهة أخرى ، يملك تاريخ العلم صلاحية توضيح أن الأبحاث ، كالاكتشافات العلمية ، هي دائما مرتبطة بتصور للعالم محدد تاريخيا ، وأنه بالعكس ، لا تظهر الثورات العلمية أبدا إلا كنتيجة لقطائع تخص هذه التصورات عن العالم ذاتها.
سنحاول فيما يلي أن نمثل لهذه الأبعاد المختلفة للإبستمولوجيا .
1. ضرورة الإبستمولوجيا:
ليس العلم إيجابيا بشكل تام .
إذا كانت الإبستمولوجيا النقدية ، كما هو شأن الإبستمولوجيا التكوينية ، تبدو اليوم كضرورة ، وإذا كان العلماء ، وكذا الفلاسفة ، منذ وجد العلم ، عن وعي منهم أو بدونه ، لم يتوقفوا عن ممارستها ؛ فذلك لأن المعرفة الإيجابية ، أي تلك التي ننظر إليها كما لو كانت نهائية و لا يمكن المساس بها ، بمقدار ما لا يمكن أيضا أن تكون في يوم من الأيام موضوع تساؤل أو إعادة بناء على قواعد جديدة ، هي أبعد عن أن تكون كل المعرفة العلمية التي ليست حقلا مغلقا ، وإنما هي  على العكس من ذلك مجال مفتوح بشكل واسع أمام عمليات الدحض والتفنيد.
إن روبير بلانشي يعبر بامتياز عن هذه الفكرة في النص التالي، وسنكتفي بإضافة مثالين بسيطين لهذا النص : ففي نهاية القرن الأخير ، تم إخضاع الميكانيكا النيوتونية للتساؤل عن طريق تجارب ونظرية معينين يبدوان على الأقل متناقضين معا ، إلى حد أن أدى ذلك إلى خلق ما سمي تاريخيا بـ ” أزمة الفيزياء “. ونحن نعلم من جهة أخرى أن القرن 19 كله اتسم بصراعبلا هوادة بين نظريتين متناقضتين حول التطور ، وأنه لم يتم التخلي عن إحدى هاتين النظريتين إلا مؤخرا ـ وهي النظرية اللاماركية ـ لصالح النظرية الأخرى ، أي النظرية الداروينية. لا يجب أن يقودنا هذان المثالان نحو تشاؤمية جذرية ، باسكالية بمعنى من المعاني ، تشاؤمية تزيح عن العلم إمكانية ” المعرفة المؤكدة ” : إن اكتشافا ما أو نظرية علمية ليسا أبدا ، وبشكل تام مكذبين ، عندما يتم اختبارهما بشكل كاف عن طريق الزمن والتجربة ، ولكنهما دائما خاضعان لعملية إعادة النمذجة والتكوين ليتم إدراجهما ، بصفتهما معرفة خاصة ، في مجموع أوسع من المعارف ، ومهمة افبستمولوجيا هي أيضا المساهمة في إعادة البناء تلك للمعرفة.
2.الإبستمولوجيا : دراسة المبادئ.
1.2. المبادئ الميتافيزيقية:
يقوم كل علم على مبادئ غير مبرهن عليها ، وذلك إما بشكل ضمني أو صريح ، ويقبلها العالم كبديهيات : وأولى اهتمامات الإبستمولوجيا النقدية هي إخضاع هذه المبادئ ذاتها للفحص النقدي.
ولتوضيح هذه المسألة اخترنا المثال الآتي نظرا لبساطته النسبية ، وهو يتعلق بدراسة الحركة. في هذا الميدان الفيزيائي يمكن الإشارة إلى عالمين بارزين هما : أرسطو ( 384 ـ 322 ق.م ) والذي استمر تأثيره في أوربا حتى القرن 16 . وجاليلي ( 1564 ـ 1642 ) والذي يعتبر مؤسس الميكانيكا الكلاسيكية . وستبين قراءة نصوصهما كيف أن نظرياتهما مؤسسة على مفاهيم وتصورات للطبيعة تتجاوز بعموميتها الميتافيزيقية إطار موضوعهما العلمي الخالص.
أ‌.         أرسطو أو فيزياء الكيفيات:
للحركة المحلية (= ما يؤدي بشيء ما لتغيير مكانه ) بالنسبة لأرسطو ، بادئ ذي بدء ، علة داخلية (= تقيم بداخل الجسم الذي هو في حالة حركة ) ، وهذا ما يميز نظريته عن نظرية الفيزياء الكلاسيكية التي انشغلت بوصف الظواهر ، أكثر مما انشغلت بالبحث عن أسبابها : لقد قرر أرسطو أن كل الأشياء تنحو وتنزع من تلقاء ذاتها نحو ” مكانها الخاص ” (= مكانها الأصلي ) ، وهكذا تنحو الأجسام الثقيلة نحو الأسفل ( الأرض ) ، وتنحو الأجسام الخفيفة نحو الأعلى ( السماء ) . والأجسام التي لا تتواجد في مكانها الطبيعي ليست ثقيلة أو خفيفة إلا بالقوة ( حيث يمكن أن تصعد إذا كانت خفيفة أو تنزل إذا كانت ثقيلة)، وليست هي كذلك بالفعل ( ولن تستطيع أن تحقق طبيعتها ) إلا عندما تلتحق بمكانها الأصلي.
وبجانب هذه العلة الذاتية للحركة (= المرتبطة بطبيعة الأشياء وبجوهرها وماهيتها ، ومن هنا ارتباطها بميدان الضرورة ) ، يميز أرسطو علة خارجية (= غير مرتبطة بذاتية الأشياء) : فوضعية الأجسام الثقيلة غير الساقطة ، والأجسام الخفيفة غير الصاعدة ، ليست إلا وضعية متأتية عن عائق يعوق حركتها الطبيعية ( فيمكن مثلا الاحتفاظ بتمثال معلق بواسطة عمود . . . إلخ) . إن العلة العرضية للحركة هي تلك التي تقصي هذا العائق أو تلك التي تعارض الحركة الطبيعية ( فعل إطلاق حجر وتركه يسقط أو رميه في الفضاء).
سنلاحظ من خلال قراءتنا للنص التالي أن هذه النظرية المتأتية عن الحس المشترك ، والتي تتوصل مع ذلك إلى تفسير مجموع الظواهر الملاحظة بصورة متماسكة ، تستند بشكل كلي على عدة مبادئ :
–     مبدأ جوهري ( الجوهر ) يعزو علة الحركة إلى بعض الخصائص الذاتية للأجسام:  فالأجسام تسقط لأنها ثقيلة. و لا يحدد هذا المبدأ فقط كل فيزياء أرسطو ، وإنما أيضا كل الفلسفة الأرسطوطاليسية. إن الخاصية الذاتية أو الجوهرية تفسر كل شيء : الرخام بارد بسبب ” برودته ” ، العبد عبد بسبب ” عبوديته ” . . . إلخ.
–        مبدأ غائي: بفضله نعتبر كل الأشياء، طبيعية كانت أم اصطناعية، موجودة بغرض تحقيق غاية معينة (=هدف): ورقة الفاكهة لحماية الفاكهة، المنشار من أجل النشر. . إلخ.
–      مبدأ كوسمولوجي: (= يحدد نظرة منظمة للكون ) وفق هذا المبدأ لكل شيء في الطبيعة مكانه ووظيفته المحددين مرة واحدة وبشكل نهائي. هكذا يتم تصور الحركة كمعبر بين حالتين أو شكلين من أشكال الوجود : أي العبور من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل ، وكل شيء بالنسبة لأرسطو يوجد في مكانه وإليه يعود.
 2.تصعد الأجسام أو تسقط حسب نزوعها الطبيعي.
” لنبحث لماذا تتحرك الأجسام الخفيفة والأجسام الثقيلة نحو مكانها الطبيعي؟ .. إن سبب هذه الظاهرة هو أن الثقيل والخفيف هما بالطبع والجوهر محددين أحدهما بالأسفل والآخر بالأعلى. ‘ن الأجسام خفيفة أو ثقيلة بالقوة وبأشكال متعددة: ( . . . ) إن جسما في الحالة السائلة ليس خفيفا بداهة إلا بالقوة. وفي الحالة الغازية هو ليس كذلك أيضا إلا بنفس الصورة ( لأنه من الممكن أن يحال دونه والصعود ) ، لكن إذا ما أزيح هذا العائق ، فغننا سنراه خفيفا بالفعل، ما دام سيوجد في الأعلى. وهكذا أيضا، فإن الكيفية بالقوة تصبح كيفية بالفعل ـ كما أن ملكة المعرفة تتحول إلى معرفة في حالة إذا لم يكن هناك ما يعارضها ـ والكمية تتحول بنفس الطريقة.
إن إزاحة مقاومة العائق للحركة هي بمعنى من المعاني سبب الحركة، وهي بمعنى آخر ليست كذلك ، مثلا : إن من يقوض عمودا أو ينتزع ثقلا من على قربة هوائية في الماء ليس إلا سببا عرضيا للحركة ، مماثلا لكون أن رامي الكرة هو سبب حركة هذه الأخيرة ، وليس الحائط الذي يعكس حركتها.
إن أيا من هذه الأجسام لا يتحرك من تلقاء ذاته، وهذا بديهي، إنها ( الأجسام ) تمتلك في ذاتها مبدأ للحركة ليس فعالا ولكنه منفعل، ليس من أجل الحركة أو إنتاجها، ولكن لتلقيها. وبما أن كل الأجسام موضوع الحركة هي متحركة إما بحركة ناشئة عن عنف مضاف إلى طبيعتها ، وإما بحركة طبيعية ، وما دامت الأجسام الأوائل متحركة كلها بواسطة سبب غريب عنها ، في حين أن الأجسام الثواني ، سواء كانت متحركة أو غير متحركة من تلقاء ذاتها ، تتحرك هي أيضا بواسطة سبب خارجي ـ وهكذا تحدث حركة الأجسام الخفيفة والأجسام الثقيلة التي تتمثل أصول حركتها في العلة المولدة والفاعلة لخفتها أو ثقلها ، أو في العلة التي تزيح العائق والحائل دون حركتها ـ ، فلكل حركة إذن علة خارجية غريبة”.
ب‌.     جاليلي أو فيزياء الكميات:
لقد رأينا مع أرسطو كيف يمكن أن تقود مبادئ مغلوطة نحو معارف مغلوطة ، ومن المثير الوقوف على أنه يمكن أحيانا أن يصاغ قانون علمي بصورة صحيحة انطلاقا من مبادئ هي أكثر قابلية للتنازع والاعتراض.
وهاك مثالا على ذلك : في النص الموالي ، يفسر جاليلي ( 1564 ـ 1642 ) كيف اكتشف أن الأجسام تسقط تبعا لحركة متسارعة بانتظام، هذا الاكتشاف الذي هو نتيجة ملاحظة أمبريقية (= مؤسسة على التجربة ) ( ويمكن لأي شخص أن يرى بعينيه أنه كلما سقط جسم ما من مكان أكثر علوا ، كلما كانت سرعته أكبر عند الوصول) من جهة ، ونتيجة استنتاج منطقي من جهة أخرى ، انطلاقا من مبدأ ميتافيزيقي يقول : إن الله أو الطبيعة ” تحب ” اليسر والبساطة. وهذا دليل على أن العلم ، وحتى العلم الأفضل ( جاليلي هو مؤسس الفيزياء المعاصرة) ، لا يمكن أن يستغني عن الافتراضات.
سنلاحظ أن المبدأ الذي تقوم عليه الفيزياء الجاليلية هو في نفس الآن منبع ومصدر الاكتشاف ، وحد يرسم حدود المعرفة : فهو مصدر للاكتشاف لأن جاليلي استنبط منه إمكانية التعبير الرياضي عن القوانين الفيزيائية عموما ، وهو حد للمعرفة ؛ لأن هذا المبدأ يحرم ويحظر توضيح الظواهر المعقدة والمركبة ( اعتقد جاليلي أن الكواكب ترسم مدارات دائرية بدعوى أن الدائرة والخط المنحني المغلق هما الأكثر بساطة).
Ž3. تحب الطبيعة القوانين البسيطة.
” إن التفكير ، أو إن شئنا ، الاتجاه العقلي لدى جاليلي ليس رياضيا خالصا ، إنه فيزيائي ـ رياضي. لقد انطلق جاليلي بدون شك من فكرة متصورة مسبقا ، لكنها تشكل عمق فلسفته الطبيعية ، وهي أن قوانين الطبيعة هي قوانين رياضية ، وأن الواقعي يجسم الرياضي. أليس لدى جاليلي أيضا مسافة بين التجربة والنظرية . إن النظرية، المعادلة، لا تنطبق على الظواهر الخارجية، إنها ” تنقذ ” هذه الظواهر، إنها تعبر عن جوهرها. إن الطبيعة لا تجيب أبدا إلا على أسئلة مصاغة بلغة رياضية؛ ذلك لأن الطبيعة هي مملكة القياس والنظام، وإذا كانت التجربة تقود هكذا ( كشخص يقودك بشد يدك ) المحاكمة العقلية والاستدلال ، فإنه في التجربة الممارسة بإحكام ، أي على مسألة موضوعة بشكل جيد ، تكشف الطبيعة جوهرها العميق والذي لا يستطيع تفهمه إلا المثقف العارف بالأمور.
يخبرنا جاليلي بأنه ينطلق من التجربة ، ولكنها ليست ” التجربة ” الخالصة للحواس ، هذا المعطى الذي عليه أن يطابقه أو يلائمه مع التعريف الذي يبحث عنه ، إنها ليست شيئا آخر سوى القانونين الوصفيين ـ قانونا علامات ـ السقوط واللذين هما في حوزته مسبقا.
يخبرنا جاليلي أيضا أنه منقاد بواسطة فكرة البساطة ( . . . ) بساطة واقعية إن صح التعبير، تطابق داخلي مع الطبيعة الجوهرية للظاهرة المدروسة.
هذه الظاهرة الواقعية هي الحركة، وجاليلي لا يعرف كيف تحدث ، و لا كيف ـ وتحت تأثير أية قوة ـ يحدث التسارع ( . . . ) كيفما كان الأمر، فإن المسألة تتعلق بظاهرة واقعية، بظاهرة تحدثها الطبيعة واقعيا، الأمر الذي يعني حدوثها بفعل شيء يحدث في الزمن.
إن الحركة قبل كل شيء هي ظاهرة زمنية ، إنها تحدث في الزمن ، وانطلاقا من الزمن سيحاول جاليلي أن يعرف جوهر الحركة المتسارعة، ليس بعامل المسافة المقطوعة ؛ فالمسافة ليست إلا ناتجا ، ليست إلا حادثة سير ، ليست إلا علامة على حقيقة جوهرية زمنية.
إننا لا يمكننا، وتلك حقيقة، تخيل الزمن، وكل تمثل بياني سيقارب دائما خطر الانزلاق إلى هندسة مبالغ فيها. غير أن المجهود المسنود للعالم من طرف الفكرة المتصورة والمتفهمة لخاصية الاستمرارية في الزمن، يمكنه وبدون خطر، أن يرمز إليه بالمسافة. إن الحركة ذات التسارع المنتظم ستكون إذن كما ستكون بالعلاقة مع الزمن.
إن كون جاليلي استطاع ، أو عرف ، كيف يتجاوز كل تمثيل تجسيدي لنمط حدوث الحركة أو التسارع ( قوة ت جاذبية . . . إلخ) مكنه من الحفاظ على توازنه في هذه الحدود الضيقة كحدود شفرة ، أو إنه في فعل الحركة يلتقي كل من الواقعي والرياضي”.