الأربعاء، 30 مارس 2016

نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس : قراءة في المنطلقات والأبعاد :بقلم نورالدين علوش

عن موقع مؤمنون بلا حدود



مقدمة:
يعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من رواد الفلسفة وعلم الاجتماع على مستوى العالم،كما أنه يمثل الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية.
تتنوع كتاباته بين الفلسفة والسوسيولوجيا والايتيقا، بالإضافة إلى مئات الأبحاث والمقالات المنشورة في كبريات المجلات والجرائد الدولية. من بين الكتب والدراسات المعروفة عالميا، نجد على سبيل المثال لا الحصر : "ملامح فلسفية وسياسية، الخطاب الفلسفي للحداثة، أخلاقيات المناقشة، الحق والديمقراطية، الاندماج الجمهوري، الأخلاق والتواصل ونظرية الفعل التواصلي".
ويعد كتاب نظرية الفعل التواصلي أهم كتاب في مشروعه الفلسفي؛ فهو كتاب يتوج مجهودات هابرماس في فترة الستينيات والسبعينيات، ويجمع مرجعيات فلسفية وسوسيولوجية وعلمية ولغوية مختلفة.
إذن، ما هي المنطلقات السوسيولوجية والفلسفية والعلمية لنظرية الفعل التواصلي؟ وما هي أبعادها السياسية والاجتماعية والأخلاقية؟
·لايمكن استيعاب مشروع هابرماس الفلسفي دون الرجوع إلى منطلقاته السوسيولوجية والفلسفية والعلمية.
ـ المنطلقات السوسيولوجية
أولا : ماكس فيبر
خصص هابرماس لماكس فيبر أكثر من مائة صفحة في كتابه "نظرية الفعل التواصلي"، حيث اهتم هابرماس أساسا بسوسيولوجيا فيبر،انطلاقا من طرح وتحليل مسألة وصيرورة عقلانية/عقلنة للعلم الحديث والمعاصر. فهذه العملية التاريخية والمعقدة والممتدة التي بدأت وتعمقت في الغرب، وامتدت إلى دول العالم، تحمل في طياتها عناصر الضعف والسلب وعناصر القوة والإيجاب : فهي من جهة وضعت الإنسان في مقام القدرة والسيطرة والكشف ( نزع السحرعن العالم)، ومن جهة أخرى حولت الفرد إلى أسير وأداة عقله نفسه. ومن هنا جاءت نزعة التشاؤم والسلبية إزاء مسيرة الحضارة الغربية، كما تتراءى في سوسيولوجيا فيبر مقابل تعمقها في فلسفات معاصرة، مثل نيتشه وفوكو وهيدغر وليوطار..
ولتجاوز هذه النزعة العدمية والتشاؤمية، يعيد هابرماس قراءة وتأويل سوسيلوجيا فيبر: ونقطة انطلاقه هي إبرازه لخاصية المعنى والقصد للفعل الإنساني كما يؤكدها فيبر، فليس كل فعل إنساني هو نشاط جدير بالاهتمام السوسيولوجي باستثناء ما له معنى مرتبطا بقصد الفاعل صريحا أو ضمنا. وبالرغم من وقوع هذا التحديد الفيبري للفعل الاجتماعي مقترنا بالمعنى والقصد في دائرة فلسفة الوعي، يلاحظ هابرماس تضاربا لدى فيبر فيما يخص مضمون هذا الفعل في حد ذاته: فمن جهة هو مرتبط أصلا وحصرا بفاعل معزول وبعينه، ومن جهة أخرى هو علاقة لا يمكن أن تغيب بالكامل حضور الآخر. في الحالة الأولى يحسب الفاعل أنانيا من أجل نجاحه الشخصي المحض ( فعل أداتي)، وفي الحالة الثانية يحضر الآخر ضمن حساب استراتيجي لبلوغ القصد المخطط له ( فعل استراتجي). والنتيجة واحدة، هي: البحث عن النجاح والسعي لتحقيقه. في المقابل يطرح هابرماس نوعا آخر من الفعل الاجتماعي أسماه الفعل التواصلي الذي لا يبحث عن مجرد النجاح الشخصي فقط، بل تحقيق التفاهم عن طريق الحوار.
ثانيا : هربرت ميد
تأثر هابرماس بالكثير من علماء الاجتماع الأمريكيين، ومن بينهم السوسيولوجي هربرت ميدالذي أخذ عنه فكرة دور الآخر في تشكل الأنا. إذ يعتبر ميد أن الذات تنشأ وتتطور مجتمعيا من خلال عملية التفاعل الاجتماعي؛ إذ يبدأ الفرد بالتعرف على ذاته من خلال آراء الآخرين فيه، ومنذ السنوات المبكرة من حياته وتحديدا من خلال عملية اللعب التي يقوم بها، محاولا تقمص العديد من الأدوار المختلفة؛ فمسألة القيام بدور ما لا يتطلب معرفة الدور فقط، بل ما يتوقعه الآخرون من هذا الدور أيضا. (1)
فالفرد "الذي يريد أن يقيم علاقة عملية مع ذاته يؤكد من تلقاء نفسه أنه ليس فقط كائنا مستقلا، وإنما متفرد، وأنه قادر على اتخاذ الموقف الذي يمكنه من تحقيق التوافق التذاوتي، أضف إلى ذلك إمكانية تحقيق مثل هذا التأكيد الأخلاقي للذات يكون مضمونا من خلال علاقة الاعتراف المتبادل الذي تلتقي فيه الأنا مع الآخر في أفق القيم والغايات.(2)
ثالثا: تالكوت بارسونز
استفاد هابرماس من السوسيولوجي بارسونز في معالجته لإخفاقات منهجيات التأويل، وذلك في تشخيصه للطريقة التي تفرض بها خارجيات المجتمع البنيوية كالاقتصاد والسياسية. وكيف أنها تقتحم العوالم الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين، وذلك باستعمار العالم المعيش. ولاشك بأن هذا هو المهم بالنسبة لهابرماس، إذ إنه يجب نقل الاهتمام من حيز الافتراضات المنهجية التي يجب أن تستخدم في دراسة العالم الاجتماعي إلى حيز الاهتمام بكيفية عمل العالم الاجتماعي نفسه.(3)
وتجلى ذلك عند هابرماس في فهمه لعلاقات العالم الاجتماعي على أنها متكونة من نظام وعالم حياة، ويجب أن "ينظر إلى النظام على أنه ينبع جوهريا من عالم الحياة؛ بمعنى أن المجتمع هو نتاج للتفاعل الإنساني بين الذوات والعالم الخارجي على السواء".(4)
ـ المنطلقات الفلسفية
أولا: ماركس
يعتبر ماركس من المرجعيات الفلسفية المهمة في فكر هابرماس بصفة خاصة، ولدى مدرسة فرانكفورت بصفة عامة .
لكنه تجاوزه لاحقا، وخاصة في كتابه ما بعد ماركس، حيث كان العمل الاجتماعي في نظر ماركس ليس هو ما يمنح الإنسان إنسانيته فحسب، ولكنه هو أيضا ما يخلق شروط إعادة إنتاج الواقع عبر إدراكه المعرفي ( نظرية المعرفة)، والتأثير عليه ( نظرية الممارسة). وهذا ما يمكن نعته بالشروط الترانسدتالية لموضوعات المعرفة والتجربة المؤطرة والمندرجة في سياق بناء تاريخي للإنسان والمجتمع. وعليه تحضر اللحظة الكانطية هنا بالشكل الذي لا يمكن تجاوز محدودية الذات الترنسدتالية إلا بانحلالها، ليس ضمن تركيبة كلية تتماهى فيها الذات مع الموضوع ( هيغل)، ولكن ضمن شروط العمل الإنساني المنتج للعالم المادي؛ انطلاقا من أن شروط هذا العالم المادي نفسها هي ما يحدد شروط العالم الإنساني نفسه.
وهنا يتدخل هابرماس، وهو يعيد بناء المادية التارخية سوسيولوجيا للتمييز بين العمل والتفاعل : فليست فقط القيم المادية ( الاقتصادية ) هي ما ينتجه الناس ويتبادلونه ( مجال العمل الاجتماعي )، ولكن هناك أيضا قيم معيارية رمزية تخضع لنفس فعلي الإنتاج والتبادل، هو مجال التفاعل (5)، وأخذ المجالين معا هو ما يشكل لب إعادة التأسيس الهابرماسي للمادية التاريخية في صيغتها الكلاسيكية.
ثانيا: هيغل
استطاع هابرماس الاستفادة من فلسفة هيغل خاصة محاضراته في جامعة ايينا، حيث وجد هابرماس ضالته في التحديد الهيغلي للذات التي يعتبرها "كمن يجد تعريف نفسه في الآخر"(6)، وهي بذلك اكتساب للمعنى في منطق تأملي ومتناظر. إن هذه العلاقةمن الآخر إلى الذات ومن الذات إلى الآخر ( الاعتراف المتبادل) ليست تمثلا للما بين ذاتية؛ لكن طريقة للتنشئة الاجتماعية. فهذا الاعتراف ما بين الذوات، يجد تحققه في جدلية السيد والعبد في ظاهريات الروح عند هيغل.
فالإنسان يتعرف على ذاته بالآخر، ومن خارج ذاته، لأنه لا يستقبل إحساسه بكونه مكتملا إلا بكونه يستقبل ذات الآخرين كذلك. إن الهوية تتم بالعودة إلى الموضوع انطلاقا من الذات، والاعتراف بالموضوع / الذات مرادف للاعتراف بنفسه في الموضوع أو إنكاره، ومن هنا أهمية الحوار كتفاعل يركز عليه هابرماس. (7)
ثالثا: هوسرل
وظف هابرماس فكرة العالم المعيش في نظريته التي استقاها من هوسرل رائد الفنومنلوجيا، حيث يميز هوسرل بين نوعين من الحقائق، وبين نوعين من العوالم. فهناك حقائق العالم المعيش، وهناك أيضا حقائق العالم الموضوعي: فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وخبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة. أما حقائق العلوم الموضوعية، فهي كونية غير ثقافية ولا تتعلق بمحيط ثقافي معين، ومسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان؛ بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود، مثلما في حياة الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي؛ فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان، ويتعلق بالإنسان وببيئته الثقافية والجمعية. (8)
رابعا: كانط
استفاد هابرماس كثيرا من كانط، سواء على المستوى الأخلاقي أو السياسي على المستوى الأخلاقي وظف هابرماس مفهوم الكلية الأخلاقية لتأسيس أخلاقيات المناقشة بديلا عن أخلاقيات الواجب وأخلاقيات المنفعة.لكن ذلك لم يمنعه من انتقاد كانط بتأسيسه للأخلاق على الذات وحدها، ليطرح التذاوت بديلا لفلسفة الوعي القائمة على الذات. أما على المستوى السياسي، فقد وظف هابرماس مفهوم الفضاء العمومي ( كانط) في كتاباته ( التحول البنيوي للفضاء العمومي )، ولطرح نظرية الديمقراطية التشاورية. بالإضافة إلى تأثره الواضح بمشروع كانط حول السلام الدائم، ودعوته إلى مواطنة كوسومبوليتية.
خامسا: فلسفة اللغة مع أوستين وسيرل وفيتنغشتين
أثناء بحث هابرماس عن أدوات علمية قد تساعده في عملية إعادة البناء، ستقوده الصدفة هذه المرة إلى إحدى الواحات الخضراء في صحراء الفلسفة التحليلية – الكلام هنا لهابرماس- يتعلق الأمر بالفلسفة التحليلية الأنغلوسكسونية، وبالتحديد فلسفة اللغة العادية الما بعد فيتنغشتينية، مع كل من أوستين وسيرل وستروسمان.
والحال هذه، فإن هابرماس سيعتبر نظرية أفعال الكلام في صيغتها أوستينية وسيرلية ابتكارا رائعا، ذلك أنها تركيب بين اللغة من جهة والفعل من جهة ثانية(9). وعليه، فإن هابرماس سيستعير التمييز المهم الذي وضعه أوستين بين أفعال الكلام التقريرية والإنجازية، كما سيعمل على إعادة صياغته.
وبعد قيامه بتعديلات من داخل نظرية أفعال الكلام، سينتقل هابرماس إلى إعادة بناء النظريات السوسيولوجية التي سجلها، ولنقف الآن عند النظريات الليبرالية والنفعية للعقلانية والفعل الاجتماعي.
توجه فعل / وضعية فعلموجه نحو نجاحموجه نحو تفاهم
غير اجتماعيفعل أداتي
اجتماعيفعل استراتيجيفعل تواصلي
إن الفعل الأداتي يتوجه نحو تحقيق النجاح من خلال السيطرة التقنية على العالم الموضوعي، لهذا فإنه لا يعتبر فعلا اجتماعيا، لكونه لا يتم عبر وسيط اللغة، وبالمقابل يعد الفعل الاستراتيجي هو الآخر فعلا أداتيا، على اعتبار أنه يسعى إلى تحقيق النجاح، مع فارق أنه يتم عن طريق اللغة. وبما أن الفعل الاستراتيجي فعل يتم عبر وسيط اللغة، فإن نموذج العقلانية والفعل الاجتماعي اللذين تقدمهما النظريات الليبرالية المنفعية تبقى نماذج أحادية الجانب واختزالية. ورغم أن هابرماس يقر بأن الفعل الاستراتيجي فعل اجتماعي، إلا أنه فعل يميزه عن الفعل التواصلي، لكون الأول يرتبط بتحقيق النتائج والمصالح، بينما الثاني يسعى إلى تحقق التفاهم.
ـ المنطلقات العلمية:
بياجيه وكولبرغ
شكلت الأبحات العلمية لبياجيه وكولبرغ مرجعية علمية مهمة لهابرماس، لإعادة بناء الفلسفة الماركسية قصد فهم طبيعة الصراعات والتفاعلات الاجتماعية داخل المجتمع؛ فهذه الأبحاث توضح مراحل تطور الوعي الأخلاقي التي توافق مراحل أهلية التفاعل. ففي المراحل العرفية القبلية، حيث ترك الأفعال والذوات، باعتبارها تنتمي إلى المستوى الوحيد للواقع، لا تقدر عندما يحدث نزاع إلا بنتائج الفعل. ففي المرحلة العرفية يمكن أخذ الدوافع بعين الاعتبار بمعزل عن النتائج المباشرة للفعل. فما هو محدد هو الامتثال لدور اجتماعي معين ونظام من المعايير القائمة. في المرحلة الما بعد عرفية تفتقد أنظمة المعايير صلاحيتها شبه الطبيعية، وتحتاج هذه المعايير إلى أن تبرز حسب التصورات ذات النزعة الكونية. (10)
الأبعاد:
لنظرية الفعل التوصلي لهابرماس أبعاد وامتدادات داخل الحقل الاجتماعي والسياسي والأخلاقي.
-البعد الاجتماعي: لتجاوز الفعل الأداتي، أبدع هابرماس مفهوم الفعل التواصلي لمحاولة تنمية البعد الموضوعي والإنساني للعقل. إنه فاعلية يتجاوز العقل المتمركز حول الذات والعقل الشمولي المنغلق، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع. فالعقل لم يعد جوهرا سواء أكان الجوهر ذاتا أو موضوعا، بل فاعلية ؛ فالفعل التواصلي صاغه هابرماس لمحاولة بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عمومي ينتزع فيه الفرد جانبا من ذاتيته ويدمجها في مجهود جماعي قائم على التواصل والتفاهم، وهذا التفاهم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال اتفاق مؤسس على أساس عقلاني.
كما جاء الفعل التواصلي لتجاوز العلاقات الاجتماعية القائمة على الإكراه والهيمنة ( الفعل الاستراتيجي) لبلورة علاقات اجتماعية سليمة، قائمة على الحوار والنقاش في أفق تحقيق إجماع .
-البعد الأخلاقيفبعد أفول الأخلاق الدينية والتقليدية في الغرب، جاءت أخلاقيات النقاش لتطرح البديل؛ فإخضاع الآراء والقناعات والاختيارات للنقاش شرط لتحقيق الموضوعية والنزاهة والاتفاق، وبذلك يصبح في الآن شرطا لاجتناب العنف اللفظي والمادي والحروب والاستبداد.
ليست أخلاقيات النقاش مذهبا ولا نسقا من القيم والمعايير، بل هي كما يقول ابل إجرائية تراسندنتالية تجمع شروط مناقشة أطروحات ومبادئ عملية في المجال الأخلاقي والسياسي بحثا عن امتحان مشروعيتها ومعقوليتها وصلاحيتها.
وتجدر الإشارة إلى أن لأخلاقيات المناقشة أربعة افتراضات أساسية :
أولا: ضرورة توفرها على المعقولية التي يتم إنجازها بفعل جملة مركبة تركيبا صحيحا، تحترم قواعد اللغة المستعملة.
ثانيا: يتعلق الأمر بحقيقة مضمون القول التي تضمن وظيفيا وصف حالة واقعة مجردة وغير مستوحاة من الخيال.
ثالثا: يتعلق الأمر بمصداقية التلفظ، باعتبارها وظيفة لإقامة علاقة مستقيمة ما بين الأشخاص، ويتكفل هذا الادعاء بموضوع تطابق الفعل اللغوي مع مقتضيات مخطط معياري سابق معترف به من طرف المجتمع.
رابعا: يتعلق الأمر بصدقية ما يقال بالقدر الذي يسمح به للمتحدث بالتعبير عن نوايا محددة، وبطريقة صادقة بعيدة عن الكذب والتضليل.
تنحدر هذه المبادئ الأربعة من "الحالة المثالية للكلام"، وللشروط الصافية لخطاب يتوخى احترام معايير الصدق الصارمة، أو ما يطلق عليه جماعة التواصل غير المحدودة عند هابرماس، وهي صورة المجتمع الذي يتواصل فيه أعضاؤه بطريقة سليمة. ويمكن إجمالا اعتبارها شروطا لا يستقيم من دونها تواصل عقلاني بين المتحدثين.(11)
-البعد السياسي : لتجاوز أزمات العالم المعاصر ونواقص الديمقراطية التمثيلية، يسعى هابرماس إلى " تأسيس ديمقراطية على أسس جماعية مثالية للتواصل، خالية من أية هيمنة أو سيطرة، ما عدا أفضل حجة. كما أنه يطرح مفهوم التشاور الذي يعتبره جوهريا في ديمقراطيته التشاورية، لأنه في التشاور يعطي للآخرين الحق في الكلام والنقد ورفع ادعاءات الصلاحية وتقديم اقتراحات جديدة بخصوص القضايا المطروحة للنقاش في الفضاء العمومي، وفي ظل هذه الصيرورة الخطابية المؤسسة على النقاش، يتشكل الرأي العام والإرادة السياسية للمواطنين في المجتمع الديمقراطي، لأن الهدف الأسمى للديمقراطية التشاورية ليس الدفاع عن المصالح الشخصية لأعضاء الجماعة؛ وإنما هو الدفاع عن المصالح العامة. هذه الأخيرة كل واحد مطالب بالدفاع عنها، انطلاقا من وجهة نظره الخاصة، وذلك لإقناع المواطنين برأيه بالاعتماد على وسيلة المناقشة الحجاجية.(12)
خاتمة :
بالرغم من كل الانتقادات الموجهة إلى نظرية هابرماس، فلا يزال يتربع على عرش كبار الفلاسفة في العالم المعاصر.
ونحن في العالم العربي، لا يسعنا سوى الانفتاح على مشروع هابرماس نظرا لغنى وتنوع إنتاجه من جهة، ومن جهة أخرى مواكبته للأسئلة المعقدة للإنسان المعاصر. فما أحوجنا اليوم إلى الانكباب على إنتاجات هابرماس! خاصة في تنظيره للتواصل والفضاء العمومي والحداثة والمواطنة لتبيئتها وتعميقها في المجتمعات العربية.
والآن بعد تباشير الربيع العربي:هل نحن قادرون على بناء مجتمع ديمقراطي حداثي قائم على أخلاقيات الحوار والمناقشة، لا على العنف والصراع ؟ وهل نحن قادرون على إدارة اختلافاتنا الإيديولوجية والإثنية واللغوية ؟
تلكم بعض الأسئلة التي لن تجيبنا عليها سوى الأيام القادمة؛ فهل نكون في مستوى تطلعات شعوبنا ودماء شهدائنا؟.
الهوامش:
1- كمال عويسي، دراسة في النظريات التربوية المعاصرة، معهد العلوم الإنسانية المركز الجامعي بغرداية الجزائر ص 2008-2009 ص 5
2- كمال بومنير، النظرية النقدية من هوركهايمر إلى هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف 2010 ص 152
3- علي عبود المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة، منشورات الاختلاف ودار الأمان الطبعة الأولى 201 ص 56
4- م س ص 56
5- حسن المصدق، هابرمس ومدرسة فرانكفورت، المركزالثقافي العربي الطبعة الاولى 2005 ص 109
6- م س ص 134
7- م س ص 135
8- م س ص 139
9- حمزة الخليفي، عرض حول ماكس فيبر، ماستر فلسفة التواصل بتطوان موسم 1011-1012ص 15
10- محمد الأشهب، مذهب التواصل في الفلسفة النقدية لهابرماس، أطروحة دكتوراه جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس موسم 2006- 2007 تحت إشراف الدكتور لحكيم بناني ص 316
11-حسن المصدق م س ص 146
12- محمد الأشهب، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، دفاتر سياسية مطبعة النجاحالمغرب 2006 ص 195-196 

تعليم الفلسفة للأطفال في بعض التجارب الدولية : بقلم رشيد العلوي

عن موقع :  مؤمنون بلا حدود 


من الأسئلة البدهية والأولية التي تطرح في كل نقاش حول تدريس الفلسفة للأطفال: هل يمكن للطفل أن يتفلسف؟ ما هي المداخل الممكنة لضمان تعليم فلسفي للأطفال؟ هل يتعلق الأمر بتدريس مفاهيم كما هو الحال في المستويات التعليمية الأخرى، أم أنّ الأمر يتعلق بتبسيط موضوعات فلسفية للطفل؟ هل للطفل أسئلة فلسفية وهو لم يتشكل وعيه الذاتي بعد؟ هل يشترط التفلسف وعياً بالذات؟ ألا يمكن أن تكون هناك انعكاسات سلبية لهذا التعليم على الطفل؟ كيف يمكن ضمان عدم أدلجة تعليم الطفل؟ ألا يستهدف تعليم الفلسفة للأطفال ترويضهم لخدمة أهداف سياسية؟
في حقيقة الأمر وبعيداً عن الديماغوجية، لا نرى مانعاً في الدفاع عن حق الطفل في التفلسف، إذا اعتبرنا أنّ التفكير الفلسفي هو تفكير نقدي ينبني على التساؤل ويعزز القدرات النقدية في التفكير وإعمال العقل، خاصة في عالم اليوم حيث غدت النزعة الاستهلاكية شراً لا بدّ منه، وحيث يتمّ تلقين الإنسان مبادئ السوق الحرة منذ الطفولة. ذلك أنّ آليات التنشئة الاجتماعية صارت معقدة للغاية، وتغلغلت إليها مبادئ كانت بالأمس القريب مرفوضة تماماً. في الوقت نفسه نجد أنّ للفكر الفلسفي حضوراً قوياً خارج المؤسسات، بفضل تنامي المقاهي الفلسفية والجامعات الشعبية وتغلغل الفلاسفة الجدد (فيما يشبه نجوم الفن) إلى وسائل الاعلام، وحيث وجدت الفلسفة أنصاراً ومريدين لها في مجالات أخرى شتى.
أمام حضور الفلسفة هذا صار البحث عن توسيع دائرة المهتمين بتدريس الفلسفة للأطفال أمراً ملحّاً. فالأصوليات الجديدة اخترقت كلّ المجالات وهيمنت على مؤسسات التربية والتعليم، وخاصة مؤسسة تربية وتكوين الناشئة. ونقصد تحديداً أصولية النيوليبرالية (الرأسمالية ونظام السوق الحرة) والأصولية الدينية، فهل يمكن السكوت أمام هذا الزحف؟
لم يكن تدريس الفلسفة للأطفال قديماً جداً، بحيث لم تظهر هذه الفكرة إلا في نهاية الستينات من القرن الماضي في أمريكا بفضل جهود ماثيو ليبمان. وخطوة خطوة حذت دول أخرى في مختلف بقاع العالم[1] حذو هذه المبادرة.
تدريس الفلسفة للأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية:
كان ماثيو ليبمان يبحث عن طريقة لتبسيط الفكر المنطقي لطلابه في المرحلة الجامعية، وفكر في أنه من المستحسن تدارك ذلك في حداثة سنهم. ولهذا السبب كتب روايته القصيرة المعنونة بـ: "اكتشاف هاري سوتلمير La découverte d’Harry Sottlemeier" والموجهة للأطفال ما بين سن العاشرة والثانية عشرة من العمر، حيث يمكن لمجموعة أطفال البحث عن قواعد التفكير السليم. وبالتعاون مع آنا مارغريت شارب كتب روايات أخرى، على منوال منهج المناقشة السقراطية (التوليد) بين التلاميذ حول الأتيقا والجماليات والسياسة، والإبستمولوجيا. وهو ما شكل في مجموعه برنامجاً للفلسفة خاصاً بالأطفال ما بين سن الخامسة والثالثة عشرة.
ترتكز منهجية ليبمان الأكثر شهرة في العالم[2] على ثلاث وسائل:
ـ تطوير ثقافة السؤال في المدرسة من خلال الانطلاق من أسئلة الأطفال نفسها.
ـ حث الأطفال على كتابة نصوص سردية تتمحور حول انتماء الطفل إلى شخصيات وحالات (تستحضر البعد الإنثربولوجي).
ـ تخصيص حيز للكلام والتبادل في القسم للمشاكل العالمية: البيئة، الفقر، اللامساواة... وتكون المناقشة حرّة، شريطة استحضار النقد والدليل والحجة.
الأرجنتين:
بدأت تجارب تدريس الفلسفة للأطفال في الأرجنتين سنة 1989 داخل مدرسة خصوصية ببوينوس آيرس. وظهر المركز الأرجنتيني لتعليم الفلسفة للأطفال سنة 1993 بجامعة بوينوس آيرس. حيث ترجم برنامج ليبمان ونشر، ونشرت معه بعض المعدات الموجهة لتدريس الفلسفة للأطفال. وهي التجربة التي دفعت إلى انطلاق تجارب أخرى في مدن أخرى من قبيل مدينة كاطامارا، ودعم المبادرة في مدارس أخرى إلى جانب تخصيص برنامج تكوين مدرسين في هذا التخصص بمدارس الأساتذة.
البرازيل:
لقي نموذج ماثيو ليبمان نجاحاً باهراً في البرازيل. حيث نشأ معهد تدريس الفلسفة للأطفال سنة 1989 بساو باولو، وتمّ تكوين آلاف الأساتذة لتدريس الفلسفة للأطفال في برنامج ليبمان قبل انطلاق التجربة في كل ربوع البلاد. ويمكن أن نؤكد وجود ما يقارب 10000 مدرس و100 ألف طفل يعيشون تجارب مختلفة في تدريس الفلسفة في المدارس العمومية والخاصة.
المملكة المتحدة:
لا توجد أية مبادرة لتدريس الأطفال في المملكة المتحدة قبل سنة 1990. ولكن كانت هناك مجموعة صغيرة من المربين، ومن ضمنهم روبير فيشر الذي يشغل منصب مدير برنامج مهارات التفكير بجامعة برونيل والذي يهتم بتدريس الفلسفة للأطفال.
ولقد أثار مشروعه الانتباه وأخذ بالاعتبار بعد الشريط الوثائقي الذي بثته قناة BBC سنة 1990 تحت عنوان "سقراط لأطفال السنة السادسة من العمر Socrates for 6-years old" والذي لقي إقبالاً واسعاً جداً. حيث تمّ سنة 1991 إنشاء مؤسسة النهوض بالفلسفة في التعليم، بهدف تعزيز تجربة الفلسفة للأطفال.
بعد ذلك بثلاث سنوات، دشنت المؤسسة تجربة تكوين أساتذة لتدريس الفلسفة للأطفال، مبنية على نموذج ماثيو ليبمان وانطلقت التجربة بالفعل.
أستراليا:
لا نملك الكثير من المعطيات عن هذا البلد، غير أنه تمّ دمج تجربة تدريس الفلسفة للأطفال في المدارس الابتدائية.
اليابان:
اشتغل الأستاذ تاكارا والأستاذ إيفا مارسال بشكل مكثف منذ سنة 2003 على مشروع بحث دولي تحت عنوان: "Das Spiel als Kulturtechnik"، والذي يعالج في جانب منه تدريس الفلسفة للأطفال. وهناك مبادرة بحث ألمانية ـ يابانية (DJFPK) تخص تدريس الفلسفة للأطفال، انطلقت في غشت من سنة 2006 بدعم من المدرسة العليا للتربية بكارلسروه Karlsruhe والغرض من هذه المبادرة هو خلق أرضية نظرية صلبة تخص تدريس الفلسفة للأطفال، حول فلاسفة الغرب من قبيل: سقراط، هيوم، غوته، روسو، كانط، نيتشه... وحول فلاسفة الشرق من قبيل: تاكاجي، هياشي، تسو كوكي والمربي توشياكي أوز. والغرض من هذه المبادرة هو تقريب المفاهيم الإنثربولوجية عند أطفال اليابان والألمان معاً. وممّا لا شك فيه أنّ هذه التجربة ستكون نوعية جداً بالنظر إلى أهدافها الكبرى، حيث تجدد اللقاء بين الشرق والغرب حول الفلسفة، فأكيد أنّ كلا البلدين يعيان جيداً حجم المبادرة.
طرق أخرى في تدريس الفلسفة للأطفال:
ليست طريقة ليبمان وحدها المنتشرة والمعروفة في هذا المجال، بل هناك طرق أخرى أهمها:
1 - طريقة أوسكار برينيفيي Oscar Brenifier:
ترتكز طريقة أوسكار برينيفيي على التوليد السقراطي، بحيث يقدّم للأطفال مفاهيم فلسفية: الرأي، الحقيقة، الوعي... بأسلوب مبسط يتوخى حصول التجريد في ذهن المتعلمين الصغار. وتقدم هذه المفاهيم في سلسلة رسوم مصوّرة تمثل وضعيات تسمح للطفل بالتعبير عن رأيه أو دهشته أو رفضه أو قبوله لبعض الأفكار أو الوضعيات المعروضة. ولقد لقيت هذه الطريقة بدورها إقبالاً واسعاً في العالم الفرنكفوني.
2 - طريقة جاك ليفين Jacques Lévine:
وهي طريقة تعتمد على مقاربة التحليل النفسي، وتستهدف تعميق حالات الذات المفكرة، حيث يطرح الأستاذ على التلاميذ في مرحلة أولى مشاكل عامة ستعنيهم مباشرة في مراحل متقدمة من عمرهم من قبيل: البلوغ والرشد.. ويطالبهم بإبداء آرائهم في الموضوع دون أن يتدخل في نقاشاتهم.
ويتمكن التلاميذ في مرحلة ثانية من التعبير عن رأيهم الخاص ويسجل في شريط لمدة عشر دقائق لكل تلميذ، وفي الأخير (المرحلة الثالثة)، يتم عرض الشريط لمناقشته مناقشة حرة مع إمكانية توقيفه في أي وقت لتعميق النقاش. وهي طريقة ترتكز أساساً على مبدأ التعبير الحر دون تدخل الأستاذ.
في الحاجة إلى تعليم الفلسفة للأطفال بالمغرب:
لا يخفى عليكم أهمية القرار التاريخي (2004) القاضي بتعميم الفلسفة في الثانويات المغربية في المستويات الثلاثة، ولكل الشعب والمسالك، ودوره في توسيع دائرة المهتمين بالفلسفة.
وصحيح أنّ هذا التعميم قد اعترضته بعض الصعوبات في السنوات الأولى من دخوله حيز التنفيذ، إلا أنّ إيجابياته كانت كبيرة جداً رغم قلة العدد الديداكتيكية والإمكانيات، وضعف التكوين في مجال تدريس الفلسفة لتلامذة الجذوع المشتركة، ونقص الاجتهادات في الخصائص النفسية والوجدانية والعاطفية لشباب 14 أو 15 ربيعاً. سيكون من السابق لأوانه الإقرار بالحاجة إلى تدريس الفلسفة في المرحلة الإعدادية، ولكنه ضرورة ما بعدها ضرورة، ويتوجب أن ترتكز الجهود وتتطور في المستقبل في هذا المجال. وسنقدم هنا بعض المقترحات التي نرى أولويتها في هذا البحث.
ليس من البساطة إعداد منهاج خاص لتعليم الفلسفة للتلاميذ في مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي، لأنّ الأمر يشترط:
ـ الإلمام بالتجارب الدولية في مجال تعليم الفلسفة لهذه الفئة من المتعلمين.
ـ فهم الروابط المعرفية والمنهجية بين مرحلتي التعليم الثانوي: الإعدادي والتأهيلي، والبحث عن مصوغات لتفادي تكرار الموضوعات والغايات والكفايات والقدرات، وعلى الأخص مراعاة مبدأ التدرج في كلتا المرحلتين.
ـ الاجتهاد في ترجمة وإعداد وصياغة موضوعات مناسبة لمختلف المراحل العمرية.
ـ مراعاة الخصائص النفسية والوجدانية في كل مرحلة على حدة.
ـ ضمان حد أدنى من تنويع الوسائل والطرق الديداكتيكية.
ـ تكوين المدرسين في المراكز الجهوية لمهن التربية، والتكوين هو ما يقتضي إعادة صياغة منهاج مادة الفلسفة الموجهة للمرحلة التأهيلية ودمج برامج المرحلة الإعدادية.
ـ تعزيز البحث العلمي والأكاديمي في الجامعات المغربية حول تدريس الفلسفة للأطفال، والتفكير في مختبرات ديداكتيكية تعمل على مراكمة الخبرات وتجريب العدد.
[1] راجع في هذا مقالة ماري فرانس دانييل على الرابط: http://www.cenestquundebut.com/autour-du-monde
[2] وتعرف بالطريقة الليبمانية: نسبة إلى ماثيو ليبمان الذي أسس سنة 1974 معهد ترقية فلسفة الأطفال (CPAI) والتي تستهدف فئة الأطفال في المستويين الابتدائي والتعليم الأولي، وتتوخى تمرّن الأطفال على التفلسف.

الثلاثاء، 29 مارس 2016

تشارلي تشابلن، توسيع دائرة السخرية والألم! : طارق عبدالله






chaplin1
لم يمثّل عبقري السينما الصامتة تشارلي تشابلن قيمة فنية عظيمة فحسب، بل تعدى ذلك ليصبح حالة فريدة من نوعها وظاهرة تخرج عن إطار المألوف في طرح القضايا والهموم الاجتماعية.

كثيرة هي المقالات والأفلام الوثائقية التي تحدثت عن ظاهرة تشارلي تشابلن، لكن أياً منها لم يتحدث عن بؤس الطفولة الذي فجّر إبداعات تشابلن، قد لا يصح أن نطلق عليه “أسطورة العصر” أو “ظاهرة العصر” دون أن ننطلق من كيفية تشكّل شخصيته منذ الطفولة في كنف والدته هانا.
بالنسبة لطفل، لم يكن من الطبيعي أن يفهم وجع الفقر وبؤسه، ولا المشاكل العائلية بين الأبوين، تلك المشاهد التي رسمت ملامح شخصية تشابلن، لم تغادره حتى في أعتى لحظات إبداعه، نعم؛ ذات الفكرة مجدداً، البؤس قد يصنع الإبداع!
عندما نتحدث عن تشارلي تشابلن لا نتحدث عن الأفلام الصامتة فحسب، بل نتحدث أيضاً عن موت مرحلة تلك الأفلام وولادة السينما الناطقة، وكلها كان لها من إبداع تشابلن نصيب.
من أين بدأ تشابلن؟
قد يكون من الضروري أن نتحدث عن طفولة تشارلي ومرحلة مراهقته لنعرف كيف جسّد كافة شخصيات أفلامه بعبقرية منقطعة النظير، وكيف تحوّل فيما بعد إلى كاتب للأفلام، العودة إلى الجذور التاريخية مهمة جداً لفهم واقع ما في الإطار العام.
لم تكن شخصية “المتشرد” التي وضعت تشارلي تشابلن على رأس قائمة المبدعين في القرن العشرين وليدة لحظة! فشخصية المتشرد تتضح معالمها كلما تعمقنا أكثر في تاريخ الفقر الذي عاشه تشارلي في لندن، وكلما بحثنا أكثر عن شخصية والده.
شارع كينينغتون عام 1901، حي الطبقة العاملة في لندن، تشارلي يبلغ من العمر 12 عاماً ويعيش فقراً مدقعاً، حاله حال جميع من في الحي، وله والدين منفصلين، نادراً ما كان يرى والده المغني الشعبي الذي كان يعيش برفقة إمرأة أخرى.
والد تشارلي كان في حالة دائمة من السُكر والاكتئاب، غارقاً في أحزانه وسُكره في كينينغتون عقب ما هجرته عشيقته!
لم يكن للمرة الأخيرة التي رأى فيها تشارلي والده أن تخرج من مفردات ذاكرته، فقد رأى تشارلي والده خارجاً من الحانة وزجاجة النبيذ في يده، وصدم لرؤية والده مريضاً ومنتفخاً وسيء المظهر، فما كان من الأب إلّا أن عانق ابنه الصغير، إبن الـ 12 صيفاً، وقبله للمرة الأولى في حياته.
فارق والد تشارلي الحياة بعد تلك الحادثة بثلاثة أسابيع بتليّف الكبد وعمره 37 عاماً.
والدته كانت أيضاً فنانة موسيقية، حاولت أن تربي ،وحدها، ولديها تشارلي وسيدني، هي لم تقدّم لولديها سوى الحنان، في مرحلة كان عنوانها لدى الطفلين الجوع والفقر، ولكن تلك العوامل لم تمنع هانا تشابلن من زرع حب المسرح والإبداع في مخيلة طفليها!
وبسبب استغلال البرجوازية للطبقة العاملة حينها أصبحت شخصية هانا غير مستقرة، وأودعت في مركز لامبيث للأمراض العقلية، ليكتشف الأطباء بأن مرضها العقلي جاء سبباً لمرض الزهري، مما زاد من بؤس تشارلي الطفل وحزنه على ألم والدته!
مرض والدته أدى إلى أن يدخل تشارلي في مرحلة ما إلى ملجأ للأيتام أو السجن، وعندما خرج كان عليه أن يعيدها إلى المصحة إثر انتكاسة صحية، لتبقى في المصحة، ويبقى تشارلي وحيداً في المنزل وهو ابن الـ 14 من العمر.
بدأ بالعمل، وكان ينام على قارعة الطريق، إلى أن عاد سيدني من جنوب أفريقيا وانتشل تشارلي -الأخ غير الشقيق- مما هو فيه.
لاحقاً أخرج تشارلي أمه من المصحة عام 1921 وجاء بها إلى الولايات المتحدة واستأجر لها شقة صغيرة أمضت فيها آخر ثمانية أعوام من عمرها.
البؤس والفقر هي معالم إبداع تشارلي تشابلن لاحقاً، والده ووالدته والمشاكل العائلية، كلها عوامل قادت تفجّر طاقات تشابلن ليكون ظاهرة العصر!
في عام 1912 جالت مسرحية موسيقية الولايات المتحدة، مسرحية بريطانية فيها شاب عمره 23 عاماً يدعى تشارلز تشابلن، شاب يمتلئ بالحيوية والنشاط، وعلى الرغم من سوء العرض، إلّا أن ذلك الشاب نجح في لفت أنظار الجميع!
حطت المسرحية في ولاية نيويورك كمحطة نهائية لذلك العرض، وفوجئ الجميع بشخص له شارب صغير يتجوّل بين الجمهور، يلبس قبعة ويرتدي ملابس ممزقة وفي يده زجاجة نبيذ، لم يكن سوى تشابلن، وكأنه يقلّد والده!
لقد ترك هذا العبقري المسرحية الرديئة ونزل بين الجمهور وكأنه واحد منهم، ليؤدي دور سكّير يقاطع الممثلين على خشبة المسرح ويفسد العرض، وغادر دون أن يعرف أحد بأنه ممثل من فريق عرض المسرحية.
جذب أنظار صنّاع السينما بعد ذلك، وانطلق في مسيرة مليئة بالإبداع، كان فيها تشابلن ممثلاً وكاتباً ومخرجاً عبقرياً!
تجربته وواقعه، سلم صعوده!
عندما بدأ تشابلن مسيرته السينمائية كان يلعب دور صحفي في أحد الأفلام، وأعقب ذلك بالعديد من الأدوار في أفلام متعددة، دون أن تفارقه صورة السكّير الذي تقمّص شخصيته في نيويورك سابقاً، وعندما طلب أحد المخرجين من تشابلن في أحد الأفلام ارتجال شخصية فورية، وجد تشابلن ضالته!
دخل إلى غرفة الملابس، وارتدى ملابس من مختلف الأحجام، فكان سرواله واسعاً جداً وسترته ضيقة جداً، وأضاف الشارب ذاته اللي استخدمه في نيويورك، وارتدى قبعة، وأمسك بعصا، وعاد إلى موقع التصوير بمشية غريبة.
كان من المفترض أن يكون تشابلن بهذه الشخصية المرتجلة إحدى الشخصيات الثانوية في الفيلم، إلّا أنه سرق الأضواء من خلال تلك الشخصية التي رآها الجميع في خانة “الشاعرية الطبيعية”.
بذلك ولدت شخصية “المتشرد” التي أصبحت سلسلة أفلام لتشابلن، في البداية كانت أفلام المتشرد التي أدى دوره فيها، ارتجالية دون نص، وهنا برزت عبقريته بشكل ملحوظ.
في أول أفلام السلسلة كان تشابلن ومصوره يتواجدان في حلبة لسباق السيارات المصنوعة من صناديق الصابون للأطفال، لم يكن للفيلم أي نص، ولم يكن لدى تشارلي ومصوره أي تصوّر عن طبيعة ما سيقدمونه من خلال الفيلم، فيما بدأ تشارلي بالقفز على الحلبة بين السيارات وأداء حركات غريبة، ليأتي رجال الشرطة لإبعاد تشارلي عن المكان!
سحر تشارلي وأدائه ذلك لم يكن إلا ليسيطر على أذهان الجمهور، الذي تحوّل اهتمامه من متابعة السباق إلى متابعة حركات المتشرد تشارلي تشابلن، فكان فيلم “أطفال يتسابقون في فينيس” عام 1914.
تعاقبت أفلام “المتشرد” بعد ذلك، وفي ذهن تشابلن كان وقع انضباط الشخصية يزيد بمرور الوقت، فصقلها بشكلها النهائي الذي أبهر العالم.
انتهى عصر الأفلام الصامتة، وبدأت حقبة الأفلام الناطقة، ولكن تشارلي أصرّ على كلاسيكيته في فيلم أضواء المدينة (City Lights) عام 1931، والذي أبصر النور في دور السينما الأمريكية بحضور صديق تشارلي الجديد؛ ألبرت آينشتاين.
سحر تشابلن عقب ذلك من خلال شخصية المتشرد من الرأسمالية عبر فيلم الأزمنة الحديثة (Modern Times)، والذي اعتبر بمثابة بيان اجتماعي!
قبيل صدور فيلم الأزمنة الحديثة كان تشابلن قد بدأ رحلته في القارة العجوز للترويج لفيلم أضواء المدينة، وضمن جولته؛ كانت برلين في انتظاره بحشود كبيرة، ولكن ذلك لم يثني النظام النازي عن كيل الشتائم له عبر الصحف بسبب صداقته مع آينشتاين!
“استقبل تشابلن اليهودي استقبالاً حاراً في برلين، يكاد الأمر لا يصدق، إذ كيف يمكن للألمان الترحيب بأجنبي من اليهود؟ العدو اللدود للعرق الآري”، بهذه الكلمات بدأت النازية الألمانية محاربة تشابلن المحارب أصلاً من قبل الولايات المتحدة، فوضع اسمه فيما كان يعرف بـ “الكتاب النازي” ضمن خانة الأشخاص اليهود المطلوب قتلهم!
لم يكن تشارلي يهودياً، ولكنه لم يرد على ادعاءات النازية!
عندما اعتلى هتلر صدارة المشهد في ألمانيا كان تشارلي في انتظاره، فدرس وتمحص في شخصية هتلر ليخرج بفيلم ناطق أسطوري، تحفة فنية تسخر من النظام النازي بعنوان الديكتاتور العظيم (The Great Dictator)، وذلك في العام 1940.
سيبقى ذلك الخطاب الأسطوري في نهاية الفيلم ملهماً لأجيال كثيرة قادمة، ذلك الخطاب الذي نزع من خلاله تشابلن ثوب الشخصية التي سخر منها في الفيلم، ليتحدث إلى البشرية كلها بإنسانية منقطعة النظير.

تشابلن، أحب مرة واحدة!

التقى تشارلي بملدريد هاريس في إحدى الحفلات وهي ابنة الـ 16 عاماً في عام 1918، فوقع تحت سحرها الأنثوي الطاغي، ولكنه لم يرى فيها نداً من حيث الذكاء، فادعت بأنها حامل منه بعد لقائهما بأسابيع خوفاً منها على رحيل تشابلن الذي كان يمثل بالنسبة لها صيداً ثميناً، ذلك بأنها كانت تطمح إلى الوصول إلى قمة النجومية، فما كان منه إلّا أن تزوجها خوفاً من السجن بتهمة تتعلق بأنها لا تزال قاصراً!
لم تكن حاملاً، ولكنها حملت بعد الزواج؛ فيما دخل تشارلي مرحلة ركود فني في تلك الفترة نظراً لارتباطه بامرأة لا يحبها! ولد نورمان ابن تشارلي وملدريد مشوهاً وتوفي بعد ثلاثة أيام على ولادته، لينفصل تشارلي عن ملدريد بعد ذلك في العام 1920.
فقدان نورمان ضرب أعماق تشابلن فراودته فكرة أن يصنع فيلماً مع طفل، فتفجرت طاقاته الإبداعية في كتابة وتمثيل فيلم الطفل (The Kid) عام 1921، مع الطفل جاكي كوجان، الذي قال عنه تشابلن عند اختياره لتمثيل الفيلم: “لا أعرف سبب اختيارنا لذلك الطفل، ولكنني كلما نظرت إليه شعرت برغبة في البكاء!”، فكانت فكرة الفيلم الذي يتبنى فيه “المتشرد” طفلاً!
يرى النقاد بأن فيلم الطفل هو من أعظم إنجازات تشابلن، فهو يجعلك تضحك وتبكي في الوقت نفسه!
بعد فيلم الطفل بثلاث سنوات بدأ تشارلي بتصوير تحفته الفنية حمى الذهب (The Gold Rush) الذي كتبه وأنتجه وأخرجه ومثله بنفسه، ليتا غراي بطلة الفيلم والتي كانت تبلغ من العمر آنذاك 15 عاماً اصطادت تشارلي، وحملت منه ليتزوجها خوفاً من السجن مجدداً، لم يحبها ولكنه تزوجها لأسباب اجتماعية، وذلك ما قاله بنفسه لها!
أصبح تشارلي والداً لطفلين من ليتا؛ تشارلز الابن وسيدني، لكن ذلك لم يمنع انفصاله عن ليتا بناءً على طلبها هي في العام 1927.
بوليت غودار بطلة فيلمه الأزمنة الحديثة، وبسبب تشابه ظروف الطفولة القاسية التي تشبه الظروف التي مر بها تشابلن، كانت ملجأً له في العام 1936، فوجد فيها كسراً لحالة الوحدة لأول مرة في حياته، ولكنها هجرته في العام 1942، ليعود تشارلي وحيداً!
جميع تلك التجارب جعلت من تشارلي مستعداً للقاء حبيبته الوحيدة، أونا أونيل، الممثلة التي خفق لها قلب تشابلن على الرغم من أنها كانت في السابعة عشر من العمر، فيما كان هو في الرابعة والخمسين!
لقد كانت أونا حب حياته الوحيد والرائع، وحبه الحقيقي، تزوّجها وأمضى حياته برفقتها حتى وفاته في العام 1977.

جائزة الأوسكار، عدو الدولة يعود إليها!

لم تكن الحماسة لتأخذ تشارلي عندما تلقى رسالة مفادها أنه سيحصل على جائزة الأوسكار في هوليوود، فتلك الجائزة بحد ذاتها لا تعني الكثير لعبقري مثل تشابلن، ولكنه أراد تحدي من أبعده عن الولايات المتحدة وأقصاه عن العمل فيها من خلال العودة بانتصار تاريخي.
لم تشعر هوليوود بالأسف عما اقترفته سابقاً بحق تشابلن عبر منحه الجائزة، ولم ترد التكفير عما ارتكبته بحقه، إنما أرادت الظهور بمنظر لائق أمام الرأي العام، للإجابة عن سؤال مفاده: “كيف لم يحصل عبقري كتشابلن على مثل هذه الجائزة؟”!
لم يبدِ تشابلن الرغبة في العودة إلى الولايات المتحدة للحصول على الجائزة، إلّا أن الرسائل التي انهالت على مكتب التحقيقات الفدرالي في واشنطن من كل حدب وصوب آنذاك كانت كفيلة بتشكل حدس لدى تشابلن بضرورة العودة إلى الولايات المتحدة للحصول على الجائزة عام 1972، من باب التأكيد على انتصاره على أعدائه ليس إلّا!
نص إحدى الرسائل التي تلقاها جون إدغر هوفر مدير مكتب التحقيقات الفدرالية آنذاك:
“إلى السيد جون إدغر هوفر،
مكتب التحقيقات الفدرالي – واشنطن العاصمة؛
سيدي العزيز،
سيعود تشارلي تشابلن إلى الولايات المتحدة، ذلك السافل الشيوعي، فلتبقوا ذلك الحقير خارج البلاد”.
نعم، على الرغم من كل هذا عاد منتصراً للولايات المتحدة لاستلام الجائزة فقط، بعد عشرين سنة قضاها ممنوعاً من دخول الولايات المتحدة، عاد منتصراً؛ تماماً كما انتصر في كافة مراحل حياته، وغادرها ووقع تصفيق الجماهير ووقوفها لتحيته ما زال أكبر شاهد على انتصاره، غادر وهو يهمس لزوجته الأخيرة أونا أونيل: “فلنعد إلى منزلنا في سويسرا، فقد اكتفيت من هذا المكان”!
تشابلن الذي حقق نجاحاً هائلاً في الولايات المتحدة رفض الحصول على الجنسية الأمريكية وهو شاب صغير، وإذا عدنا إلى الجذور التاريخية لعدائه مع الولايات المتحدة، فسنجد بأن تشارلي الشاب كيّف شخصيته ليسخر من النظام القائم في الولايات المتحدة، فوصف من قبل دوائر الحكم في الولايات المتحدة بالعنيف والفظ والفوضوي والمناهض للبرجوازية، وكأن الصفة الأخيرة عيب مشين!!!
جون إدغر هوفر الذي كان يشغل منصب مراقب الأجانب عندما دخل إلى وزارة العدل في تلك الفترة وهو شاب صغير وضع تشارلي نصب عينيه، وبالأخص عقب ما قام تشارلي بالسخرية من تلك الوظيفة في فيلم المهاجر (The Immigrant).
أخذ هوفر -الذي ترأس دائرته بعد 7 سنوات من تلك الحادثة- على عاتقه مراقبة تشارلي ومحاولة اصطياده، فبدأ البحث عن علاقات تشابلن الشخصية، نظراً لكونه لم يستطع اصطياده في أماكن أخرى كالسُكر أو المخدرات، فقد كان تشارلي مقلاً في شرابه ولم يتعاطى المخدرات أبداً، فحاول اصطياده في مكان آخر؛ النساء.
بدأ اليمين من خلال هوفر بتشويه صورة تشابلن عبر “تهم” كثيرة تلك التي وجهت لتشابلن لسنوات في الولايات المتحدة بهدف إبعاده، العلاقة مع المراهقات، الشخصية غير السوية، … إلخ!
وفي محاولة من تشابلن للرد، قام بصناعة فيلم السيد فيردو (Monsieur Verdoux) في العام 1947، جسّد من خلاله شخصية قاتل يستهدف النساء، للرد على جميع الادعاءات الشخصية التي طالته.
نجا تشابلن من كافة محاولات هوفر الذي صار رئيساً لمكتب التحقيقات الفدرالي، ومع انطلاقة الحرب الباردة والحملات الأمريكية ضد الشيوعية أواخر الأربعينات، ومع قيام السيناتور ماكارثي بالإعلان عن حملة رسمية للقضاء على الشيوعية في الولايات المتحدة، وجد هوفر ما كان يبحث عنه لسنوات.
“إن بقي شيوعي واحد في البلاد، فسنقضي حتماً على ذلك الشيوعي المتبقي” – جوزيف ماكارثي.
سجّلت مكالمات تشابلن وقام مكتب التحقيقات باستجواب معارفه، وأعاد هوفر قراءة فيلم الأزمنة الحديثة، فأثمرت محاولاته أخيراً، ليحاصر في الولايات المتحدة البروتستانتية في العام 1950 بتهمة “انتمائه لأفكار سياسية تخريبية”، فحظرت أفلامه وقيدت حركته!
أقدم تشابلن على إنهاء فيلمه الأخير تحت الأضواء (Limelight) منطوياً على نفسه برفقة زوجته أونا وأولاده في العام 1952، وعندما غادر الولايات المتحدة سراً للترويج لفيلمه في القارة العجوز، أبرق له مكتب التحقيقات الفيدرالي برسالة تفيد بإلغاء تأشيرته لدخول الولايات المتحدة الأمريكية، وفي حال حاول تشارلي الحصول على تأشيرة جديدة؛ فسيكون مطالباً بالخضوع لتحقيق جديد من قبل مكتب التحقيقات الفدرالي حول كافة التهم التي عمل عليها هوفر لسنوات!
في بريطانيا، واجه تشارلي عدم الترحيب على النطاق الرسمي، بسبب العلاقة الوثيقة التي تربط الولايات المتحدة وبريطانيا، فاتخذ قراراً بالاستقرار في سويسرا، ليموت هناك؛ وحيداً، على الرغم من أنه كان برفقة حبيبته وزوجته أونا وأولاده العشر، تشارلز الابن وسيدني من ليتا، والثمانية الآخرين من أونا.

العزلة والاغتراب!

لم تكن عزلة تشابلن في العام 1952 في سويسرا لتثنيه عن العمل والتفكير، حتى وهو برفقة زوجته الأخيرة أونا أونيل وأطفاله الثمانية، وإلى آخر يوم في حياته حمل ضغينة في قلبه تجاه الولايات المتحدة.
ولكنه البريطاني الذي عاش هناك لفترة، وحورب بشراسة إلى أن غادر عائداً إلى القارة العجوز، فلم يلقَ في بريطانيا وطناً، فكان الاغتراب عنوانه كما كان دوماً، ولكنه؛ وكما فعل مع أعماله التي لم يشعر بالاغتراب حيالها، قهر اغترابه عندما أدرك أهمية الوعي بالاغتراب وأهمية القدرة على تحمّل العزلة، قهره عندما أبقى كلمتين في رأسه “بزوغ الأمل”، وواصل حياته عندما ارتبط بالعالم والآخرين، وانتمى دوماً لفكرة “تشييد المجتمع السوي”!
هكذا قهر تشابلن مشاعر الاغتراب!
وحيداً ومتعباً وقلقاً، هكذا كان تشابلن في معظم فترات حياته!
أعمال تشابلن لم تزل حاضرة حتى اليوم في وجدان عشاق السينما، وحركاته الغريبة وشكله المميز ومشيته الغريبة لا تزال راسخة صعبة التقليد، فإذا حاولت تقليد تشابلن سأرسل لك برسالة أبرق بها تشارلز بوكوفسكي لمن يريد الكتابة من أجل المال أو الشهرة أو النساء تقول: “لا تفعلها”!
لطالما سخر النبلاء من أدوار تشابلن، وبالأخص دور “المتشرد”، مما يؤكد على أن تشابلن ضرب وتراً حساساً لدى الطبقة البرجوازية فيما يتعلق بمفهوم الصراع في المجتمعات بكونه صراعاً طبقياً!
المتشرد كان شخصاً بلا مال أو جاه أو عائلة، فكان عليه أن يناضل دوماً في سبيل الحصول على وجبة طعامه التالية، وذلك بسبب سطوة البرجوازية! المتشرد كان يسعى لإيجاد فتاة يحبها في عالم قاسٍ جداً، عالم يتعرض فيه رجال الشرطة للمتشردين حتى وهم نيام! من منّا ليس تشارلي؟ ومن منّا ليس المتشرد يا تشابلن؟
لقد كان بطلاً عاشقاً للحرية يسير عكس التيّار، فعندما نطق، جسد المعنى الحقيقي للإنسانية، وفي دقائق معدودة.
هو الذي أضحك وأبكى الجميع في ذات المشاهد، وهو الذي جعل الصور المتحركة الفن الأبرز في هذا القرن، لترجح الكفة مجدداً لصالح القديم على حساب الجديد!
هو تشارلي تشابلن إذن، العبقري الذي ما كانت إبداعاته لتولد لولا عوامل البؤس والفقر والعوز والظروف الصعبة، تلك التي حاكاها وحاكى واقعها عبر أفلامه وإبداعاته، كتابة وتمثيلاً وإخراجاً!
موتسارت مات في الثلاثينيات إثر صدمة عاطفية موجهة لفقدان أبيه، وترك خلفه قداس الموتى، قداساً لكل ميت فينا، ولكل من أراد الحياة منا. ناظم حكمت التهمته الدول مشرداً وهارباً، أو ابتلعته السجون في صدف غير سعيدة. رافاييل ألبرتي نجا من الموت أكثر من مرة، وكان حظه استنثنائياً مقارنة ببوشكين ونيرودا وبيتوفي. أما إديث بياف، فلا بد أنها التقت تشابلن، في إحدى الزقاق، ضالة، ولكن من غير مصادفة!