الخميس، 18 فبراير 2016

عن المنهج العلمي و المغالطات التي تحول دون انتشار العلوم

نشرت بواسطة: مصطفى عابدين  بموقع علومي

 هذا الادعاء ليس ادعاء علمي … هذه علوم زائفة…. هذه خزعبلات…
كثيراً ما نسمع هذا العبارات والاتهامات التي يطلقها طرفي النقاشات المعرفية على الآخر لكن كيف نحدد ما هو علمي وما هو غير علمي؟  كيف نميز العلوم عن غيرها من الوسائل في الحصول على المعلومات وفهم الواقع.
في هذا المقال سأقوم بتلخيص المنهج العلمي بشكل مبسط وأقارن هذا المنهج مع بعض المناهج الأخرى والمغالطات المنطقية التي تحول دون انتشار العلوم.
الفرق بين المنهج العلمي والمحتوى العلمي:
عدم التمييز بين المنهج العلمي والمحتوى العلمي هو من أكثر المغالطات الرائجة في رأيي إذ أن الكثير من الناس ينتقد العلم على أساس أن العلوم دائمة التغيير ولهذا لا يمكن اعتمادها على أساس أنها حقائق واقعية. على سبيل المثال كثيراً ما يتم ذكر كيف أن نيوتن وضع قانون الجاذبية ثم جاء أينشتاين فعدل على قانون نيوتن للجذب وثم تطورت فيزياء الكم لكي تضع النسبية العامة لأينشتاين على المحك من جديد.  أو كيف أن أفكار فرويد لعلم النفس في بدايات القرن العشرين تم استبدالها بقسم علوم النفس التطورية. أيضاً مثال آخر في سبيل توضيح الفكرة هو الاعتقاد السابق باعتبار أن تطور الكائنات الحية ناتج عن انتقال خصائصها المكتسبة عبر تجربتها الحياتية إلى أبنائها بشكل وراثي (النظرية اللاما ركية للتطور الحيوي) و التي تم استبدالها بنظرية تشارلز داروين للتطور عبر الانتقاء الطبيعي. كيف لنا أن نثق بأي من النظريات العلمية الحالية مع أننا نعلم أن أغلب هذه النظريات ستتبدل أو تدحض في المستقبل؟
حسناً. لنتخيل كل ما لدينا من علوم عن الكون اليوم من قوانين رياضية ونظريات فيزيائية. هذه العلوم هي نتاج المنهج العلمي لكنها ليست المنهج العلمي. هذه العلوم هي المحتوى العلمي المتوفر لدينا اليوم بناء على ما وصلت إليه أبحاثنا ولكن هذا المحتوى دائم التطوير والتعديل وبالتالي لا يمكن اعتماد أي من المعلومات الموجدة ضمنه على أنها حقائق مطلقة ثابته غير قابلة للتطوير. هذه النقطة مهمة جداً في فهم العلوم. في المقابل عندما نتحدث عن المنهج العلمي فنحن نتحدث عن منهجية محددة في الوصول إلى النتائج الموجودة ضمن قسم المحتوى العلمي.
المنهج العلمي عبارة عن وسيلة للوصول لمعلومات بطريقة موثوقة خالية من التحيز وقابلة  للتحقق من أن أي جهة تشكك في نتائجها.
Slide2-e1354934320785
لنأخذ مثال تطبيقي:
البعض يدعي أن للموسيقى الكلاسيكية فوائد هامة في نمو النباتات وأن تعرّض النباتات للموسيقى يساهم في نموها بشكل أسرع.
إذاً هذا ادعاء غير مثبت نريد فحصة ضمن المنهجية العلمية.
أولاً:
نحول الادعاء إلى سؤال محدد نستطيع الإجابة عليه.
السؤال:
هل تؤثر الموسيقى الكلاسيكية بشكل إيجابي في نسبة نمو النباتات؟
ثانياً:
نضع فرضية جوابية لهذا السؤال. الفرضية يجب أن تكون مبنية على قواعد علمية مثبتة سابقاً (ضمن المنهج العلمي).
هذه الفرضية تكون محاولة للإجابة على السؤال الذي تم طرحه ضمن القواعد العلمية لكن دون وجود أي دليل يثبت صحة هذا الجواب.
مثلاً: الموسيقى الكلاسيكية لها تأثير إيجابي على نسبة نمو النباتات.
ثالثاً:
نقوم بتجربة للتحقق من الفرضية: الموسيقى الكلاسيكية لها تأثير إيجابي على نسبة نمو النباتات
التجربة العلمية من أهم الخطوات لأنها تحدد مصداقية الفرضية لهذا علينا اعتماد معايير دقيقة جداً ضمن التجربة.
يوجد ثلاث محاور أساسية للقيام بأي تجربة علمية.
المحور الأول هو العامل المؤثر أو ما يسمى المتغير المستقل independent variable
المتغير المستقل هو المتغير الذي يُحدث تأثير في متغير آخر ضمن التجربة. عادة يكون هذا المتغير هو الجهة التي يتم دراسة تأثيرها ضمن التجربة. مثلاً الموسيقى ضمن المثال هي المتغير المستقل إذ أن الفرضية تدعي أن للموسيقى أثر ايجابي على نسبة نمو النباتات. من شروط الحصول على نتائج دقيق ضمن التجربة ألا يتم استخدام أكثر من متغير مستقل وذلك لحصر نتائج الأثر لهذا المتغير حصرياً على مادة البحث. مثلاً لا يجب أن تتعرض النبتة إلى صوت الموسيقى مخلوطة مع أصوات الباحثين عند القيام بالتجربة لأن هذا سيلوث النتائج ولن نتمكن من حصر الأثر مع متغير مستقل بشكل حصري.
المحور الثاني هو نتيجة العامل المؤثر على المادة التي يتم دراستها ضمن التجربة أو ما يسمى المتغير التابع dependent variable.
المتغير التابع هو المتغير الذي يتأثر بالمتغير المستقل وهو نتيجة تأثير المتغير المستقل على مادة البحث. مثلاً عندما نعرض النبتة للموسيقى ونرصد النتيجة فإن هذه النتيجة هي المتغير التابع. الآن على الباحث رصد التغيرات الحاصلة على مادة البحث (متغير تابع) كلما قمنا بتغير خصائص المتغير المستقل. هذا يعني مثلاً هل يوجد تغير في النتائج بناء على مستوى صوت الموسيقى؟ كل فحص لرصد المتغيرات التابعة يجب أن يتم ضمن تجربة خاصة لكي يتم حصر النتائج مع التغيرات الحاصلة للمتغير المستقل.
المحور الثالث وهو متغير التحكم  controlled variables.
هذا المحور من أهم المحاور ضمن التجربة لأنه يضمن أن ظروف التجربة هي ذاتها في كل مرة لضمانة أن النتائج الحاصلة هي نتيجة المتغير المستقل الذي يتم فحصه وليس نتيجة اختلافات في الظروف المحيطة بالتجربة. مثلاً عند فحص تأثير الموسيقى على نمو النباتات فهذا يستوجب وجود نفس الظروف المحيطة بالنبته التي يتم فحصها من نوعية الضوء المسلط على النبتة واتجاهه ونسب الأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون في الجو إلى نوعية التربة التي تتواجد فيها النبتة. أيضاً يجب فحص نفس نوع النبات في كل التجارب واختيار بذور من نفس العينة وتفس الظروف. جميع هذه المتغيرات يجب أن تكون متغيرات مضبوطة بشكل دقيق من قبل العالم لكي تكون نتائج البحث موضوعية.
التجربة:
هل للموسيقى الكلاسيكية تأثير ايجابي على نمو النباتات؟
مستحضرات التجربة:
١: بذور لنبات الفجل
 ٢ : وعاءين بلاستيكيين من نفس الحجم تماماً
٣: تربة تكفي لملء وعاءين بلاستيكيين
٤: جهاز قارئ للأقراص الليزرية من أجل لعب المعزوفة الموسيقية
٥: قرص ليزري عليه مقطوعة موسيقية كلاسيكية
٦: ماء من نفس المصدر يكفي للوعاءين البلاستيكيين
٧: مسطرة لقياس طول النبتة
المتغير المستقل ضمن هذه التجربة هو الموجات الصوتية للموسيقى الكلاسيكية الناتجة عن المسجل
الوعاءين البلاستيكيين يرمز لهما برقم ١ و٢  و يتم وضع نفس الكمية من التربة في كلا الوعاءين.  يتم وضع ١٠ بذور لنبتة الفجل في كل وعاء لكن بشرط أن يكون موقع كل بذرة يتجاوز ال٢٠ ملم عن بعضها البعض.
يتم وضع الوعاءين البلاستكيتين في موقعان بحيث يحصل كلا الوعاءين على نفس الكمية من أشعة الشمس وبنفس الزاوية ويتم ري الوعاءين بنفس كمية الماء بنفس الوقت ومن نفس المصدر. هذه الشروط هي لضمان أن متغيرات التحكم مضبوطة بشكل دقيق بحيث يتم إلغاء تأثير هذه المتغيرات على نتائج التجربة.
يتم وضع الوعاء رقم ١ بالقرب من مسجل الصوت الذي سيلعب الموسيقى الكلاسيكية لمدة ٣ ساعات بشكل يومي في نفس الوقت بينما يتم وضع الوعاء رقم ٢ بعيداً عن أي تأثير لصوت الموسيقى الكلاسيكية. (ممكن وضع راصد صوتي يضمن عدم وصول الموجات الصوتية إلى النبتة)
يتم قياس نمو النبتة كل يوم ويتم تسجيل البيانات ضمن جدول للمقارنة في نهاية التجربة.
بعد الفحص يتبين أن النباتات الموجودة ضمن الوعاء رقم ١ بدأت بالنمو قبل النباتات الموجودة في الوعاء رقم ٢ وبعد مقارنة البيانات التي جمعت على مدار أيام التجربة نجد أن النباتات الموجودة في الوعاء رقم ١ نمت بشكل أسرع وأكبر من النباتات الموجودة في الوعاء رقم ٢.
النتيجة: الفرضية التي تدعي أن للموسيقى الكلاسيكية تأثير إيجابي على نمو النباتات هي فرضية صحيحة.
b1
من الممكن إعادة التجربة ووضع شرط جديد لضمانة عدم التحيز بحيث يكون الشخص الذي يقوم بقياس النباتات غير مدرك للمجموعة التي تعرضت للموسيقى بشكل يومي وأية منها لم تتعرض لها ونسمي هذه العملية بالتجربة العمياء وهي مهمة جداً في التجارب الطبية حيث من الممكن أن تؤثر معرفة المريض أو المعالج ضمن التجربة على نتائج البحث.
الخطوة التالية هي من أهم الخطوات في المنهج العلمي وهي نشر هذه النتائج في أحد النشرات العلمية الموثوقة لكي يطلع عليها بقية العلماء. عملية النشر تتم عن طريق ابراز جميع الوثائق والبيانات المتعلقة بالتجربة لكي يستطيع أي طرف القيام بنفس التجربة بشكل مستقل والحصول على نفس النتائج.  عملية النشر تتم من خلال معايير ضابطة بحيث يتم التحقق من الادعاءات المقدمة من قبل علماء من نفس المجال العلمي. هذه العملية تسمى بمراجعة الأقران peer review وهي من أهم أعمدة المنهج العلمي لأنها تضمن مصداقية في الطرح.
بعد نشر نتائج التجربة وعدم اعتراض أي من العلماء الآخرين على هذه النتائج يتم تصنيف هذه المعلومة ضمن سياق الحقائق العلمية.
يجدر الذكر أن نتيجة هذه التجربة لا يمكن اعتمادها على أن النباتات تنمو أسرع بسبب الموسيقى الكلاسيكية وذلك للأسباب التالية:
  • يجب دراسة ألية استقبال النباتات للموجات الصوتية واثبات أن النبات قادر على التفاعل مع الموجات الصوتية. الموجات الصوتية هي اهتزازات في الهواء ضمن ترددات و أطوال موجية محددة
  • يجب القيام بنفس التجربة عن طريق استخدام أنواع أخرى من الموجات الصوتية ودراسة عتبة الرصد العليا والدنيا لدى النباتات ورصد أي تغير في مستوى نسبة النمو بناء على نوع الموسيقى
  • يجب التأكد من أن عملية تشغيل المسجل الإلكتروني ضمن مكان تواجد النباتات في وعاء رقم ١ لم تؤثر على النبتة بسبب وجود تيار كهرومغناطيسي مشغل للمسجلة
  • يجب القيام بنفس التجربة على بذور غير نبتة الفجل لكن قريبة جينياً لدراسة أي تغيرات في نسب النمو. التقارب الجيني مهم للمقارنة مستقبلاً بين النتائج على أساس المتغير المستقل الجيني. أي هل يوجد علاقة تطورية لهذه الخاصية؟
هذه النقاط من باب وضع القارئ أمام الكمية الهائلة من الأسئلة التي يتم طرحها وفحصها بعد كل تجربه مع العلم أن العلماء لديهم حافز كبير بدحض نتائج بعضهم البعض وذلك لأن من يستطيع دحض نتائج غيره يحقق مكسب علمي ويسلط الضوء على أبحاثه مما يؤمن له المزيد من التمويل للقيام بأبحاث أكثر. هذا يعني أنه من مصلحة العلماء التنافس ودحض تجارب بعضهم البعض مما يساهم في تطوير المحتوى العلمي بشكل دائم. (المثال المذكور أعلاه عن علاقة الموسيقا مع زيادة نسبة نمو النباتات هو مثال توضيحي ولم يتم التحقق من مصداقية هذه النتائج).
النظرية العلمية:
النظرية العلمية هي أعلى قيمة معرفية ممكن أن نعطيها لتفسير أي من الظواهر الطبيعية. النظرية عبارة عن مظلة فكرية تربط العديد من الحقائق العلمية ضمن سياق يفسر لنا الظواهر الطبيعية التي نعمل على شرحها. مثلاً نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي تتضمن مئات الحقائق العلمية المثبتة عن طريق المنهج العلمي وتقوم بربط هذه الحقائق بشكل يقدم لنا تفسير ممنهج عن التنوع الحيوي في الطبيعة.
من أهم شروط اعتماد أي مظلة فكرية على أساس أنها نظرية علمية هو قدرة النظرية على توقع نتائج مستقبلية وأيضاً وضوح كيفية دحض هذه النظرية. مثلاً نظرية الانجراف القاري عن طريق الصفائح التكتونية هي نظرية علمية مبنية على العديد من الحقائق العلمية مثل وجود طبقات أرضية وتطابق العينات الجيولوجية وقدرتها على تفسير ظواهر طبيعية مثل نشوء الجبال وغيرها من التضاريس الأرضية. لكن من ركائز النظرية هي أنها تقدم ادعاء قابل للفحص والنقض وهذا ما يميزها عن ادعاء وجود عملاق ناطق حكيم يعيش في قاع المحيطات. فرضية العملاق الحكيم غير مبنية على حقائق علمية قابلة للتحقق والفحص ولا يوجد ألية لدحضها وبالتالي تعتبر ادعاء دغمائي غير علمي. بينما بإمكان أي مشكك في نظرية الانجراف القاري أن يجمع بيانات الأقمار الصناعية وأن يثبت كيف أن الصفائح التكتونية ثابتة لا تتحرك وكيف أن نظرية تكون الجبال تناقض قانون علمي آخر وكيف أن نظرية الانجراف القاري تتعارض مع نظرية علمية آخرى مثبتة مثل التطور عبر الانتفاء الطبيعي.
طبعاً كل هذا غير صحيح لأن نظرية الانجراف القاري تتطابق بشكل كامل مع نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي و صور الأقمار الصناعية تثبت أن القارات تتحرك بمقدار  ٢,٥ سم في السنة و قمة جبال الهمالايا ترتفع بمقدار ١ سم في السنة كنتيجة لضغط الصفائح التكتونية على بعضها البعض.
إذاً المنهج العلمي ليس محتوى علمي ثابت وإنما ألية عمل تساعدنا في الوصول إلى الحقائق العلمية بشكل موضوعي قابل للفحص و النقض و التعديل و هذا يجعل من المنهج العلمي وسيلة معرفية تصحح نفسها بنفسها دون أي تحيز أو تمترس خلف أفكار مسبقة. بالتالي عندما نجد أن أحد النظريات العلمية تتهاوى أمام دلائل جديدة فهذا ليس دليل ضد المنهج العلمي بل على العكس هو دليل على مصداقية هذا المنهج في الوصول لأقرب ما يكون من الحقائق. العلماء ليس لديهم أي حافز على القبول بالنظريات الحالية بل على العكس هم يعملون ليلاً نهاراً لدحض النظريات العلمية القائمة واستبدالها بنظريات جديدة تحمل أسمائهم وبالتالي نجد أن هذا النظام القائم يضمن عملية انتقاء طبيعي للنظريات العلمية حيث أن النظريات والفرضيات التي لا تصمد في وجه النقد والدلائل المضادة تنقرض وتخرج خارج مجمع المحتوى العلمي.
 شروط النظرية العلمية أن تكون قابلة للفحص و أن تقدم نفس النتائج بعد كل فحص و أن تكون أفكار النظرية قابلة للدحض بشكل علمي . قبول النظرية من قِبل الأكثرية ليس مهم لأن العلوم غير معنية بما يعتقده الجميع و إنما تعتمد على الدلائل و البراهين المرفقة مع النظرية. مستقبلاً عندما يقوم أحدهم بادعاء ما أمامك تستطيع أنت بتقييم هذا الادعاء من خلال تحليله ضمن خطوات المنهج العلمي. مثلاً عندما يقول لك أحدهم أن الروح هي كيان قائم يقود جسد الإنسان فأول سؤال ممكن طرحه هو ما هو الدليل على هذا الادعاء؟ أيضاً هل هذا الادعاء قابل للفحص من جهات مستقلة للحصول على نفس النتائج؟ وماهي أليات نقض هذا الادعاء؟ كل هذه الاسئلة ستساعدك في تصنيف الادعاء إن كان ادعاء علمي أم أنه ادعاء دغمائي غير قابل للفحص. الادعاءات الدغمائية هي ادعاءات غير قابلة للفحص وبالتالي لا يوجد وسيلة للتحقق من مصداقيتها ولا يمكن الاعتماد عليها كمرجع معرفي. لا يوجد فرق بين ادعاء أن الضفادع تتحول إلى بشر عند الساعة الثالثة من صباح كل يوم وادعاء أن الله خلق الإنسان من طين. كلا الادعاءين يفتقر للدلائل والبراهين لكن الادعاء الثاني متداول أكثر من الادعاء الأول فيظن البعض أنه صحيح.
إذاً المنهج العلمي باختصار هو ألية بحث تتألف من عدة خطوات.
أولاً: اقتراح فرضية تجيب على أحد الاسئلة التي نود الإجابة عليها.
ثانياً: القيام بجمع الأدلة والبراهين التي تفسر هذه الفرضية ضمن شروط ضابطة ومعايير محددة.
ثالثاً: البحث عن دلائل تناقض الفرضية المطروحة ومعاينتها وفحصها حتى الوصول إلى حل لهذا التناقض.
رابعاً: وضع نتائج البحث ضمن سياق لغوي يشرح الفكرة العامة لتفسير الظاهرة الطبيعية التي نريد الإجابة عليها (اصبح لدينا نظرية علمية).
خامساً: في حال ظهور دلائل تتعارض مع النظرية العودة إلى نقطة رقم ١.
 بعض المغالطات المنطقية التي تؤثر في نجاح التواصل العلمي:
هذه بعض المغالطات المنطقية المنتشرة و التي تحول دون انتشار العلوم على نطاق واسع. هذه المجموعة من المغالطات تمثل عينة من مجموعة أكبر بكثير من المغالطات و التي أنصح في البحث عنها و الإطلاع عليها.
مغالطة التساوي في الأهمية
False Equivalence:
في العلوم لا يوجد مكان لوجهات النظر وإنما للدلائل التي تثبت الادعاء وبالتالي ليست كل وجهة نظر تستحق نفس الوقت من النقاش. نجد هذه المغالطة عند مقارنة نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي مع قصة الخلق حيث يعتقد البعض أنه من الأجدر اعطاء كلا الطرفين نفس الكمية من الوقت والانتشار وأن نترك للقارئ حرية الاختيار إلا أن العلوم لا تعمل بهذه الألية وإنما بناء على النهج العلمي كما ذكرت سابقاً. هذا يعني أننا عندما نعتبر أنه من حق كل طرف ابراز وجهة نظره دون إلزامه بإبراز دلائل علمية تثبت وجهة النظر هذه نكون نرتكب مغالطة False Equivalence .
مغالطة التوسل للطبيعة واعتبار أن كل ما هو طبيعي جيد ومفيد
The Appeal to Nature & The Naturalistic Fallacy:
مثال:
س طبيعي ١٠٠٪ لهذا س جيد ومحق
ج ليس طبيعي لهذا ج ليس جيد وباطل
هذه المغالطة منتشرة جداً ولها تأثير سلبي على التطور الحضاري والعلمي للجنس البشري. مثلاً نجد أن الأبحاث المتعلقة بالخلايا الجذعية محاربة من قبل المسيحين المتشددين على أساس أن هذه الأبحاث تنافي القوانين الطبيعية وبالتالي هي أبحاث شريرة تهدف لزعزعة الاستقرار الطبيعي. أيضاً نجد هذه المغالطة في تقييم بعض التوجهات الجنسية على أساس كونها طبيعية أم لا عوضاً عن فهم أن التوجه الجنسي وما يفعله الفرد في منزله مع من يحب هي حرية شخصية بغض النظر عن كونها طبيعية أم لا. لكن أود التنويه هنا لأضرار مثل هذه المغالطات على التطور العلمي ولهذا أذكر كيف تم استخدام هذه المغالطة في محاربة نظرية التطور عندما تم استخدام نظرية التطور من قبل بعض المجموعات المتشددة في أوائل القرن العشرين في تصنيف الأعراق البشرية ضمن مجموعات تستحق الحياة ومجموعات يجب أن تموت. هذه القرصنة الذي تعرضت لها النظرية أدت لمحاربتها من قبل المجموعات الدينية على أساس أن أثارها سلبية على المجتمع وبالتالي هي خاطئة.
لكي أقرب الفكرة أكثر… لنفترض أننا استطعنا اثبات أن الرغبة في ممارسة الجنس مع الأطفال هي توجه جنسي طبيعي و أن الإنسان الذي لديه هذا التوجه غير قادر على السيطرة على رغباته الجنسية. مثل هذا الافتراض العلمي قد ينظر له أنه يرفع المسؤولية عن عاتق من يمارس الجنس مع الأطفال وبالتالي يتم اعتبار النتيجة العلمية خاطئة بناء على التوسل للطبيعة أو اعتماد ما هو مفيد أو مضر للجنس البشري مقياس في تقييم دقة النتائج العلمية. في الواقع معرفة مثل هذه الحقائق العلمية كتحليل البيدوفيليا يساعدنا على وضع أليات تحمي الأطفال من الأشخاص ذو التوجه الجنسي هذا وأيضاً تعامل من لديه هكذا توجه بطريقة أكثر عدالة وموضوعية بالتالي تساعدنا على حصد نتائج أفضل على المدى البعيد.
يوجد فرق بين ماهو الحال و بين ما يفترض أن يكون عليه الحال. الطبيعة غير معنية بما يفترض أن يكون عليه الحال
أيضاً هذا مثال على مغالطة التوسل للنتائج Appeal to consequences
ليس كل ما هو طبيعي مفيد وليس  كل ما هو صناعي ضار فمثلاً سندويشة من اليورانيوم ستقضي عليك و على أغلب سكان البناء الذي تعيش فيه بسبب الإشعاعات النووية. مع العلم أن اليورانيوم طبيعي ١٠٠٪
التحيز في انتقاء النتائج Observation Selection:
هذه إحدى المغالطات المنتشرة بين العامة وهي انتقاء عينة من النتائج التي تنسجم مع فرضية ما يحاول الشخص اثباتها وعدم الالتفات لوجود نتائج علمية آخرى تناقض أو تدحض هذه النتائج. مثلاً اعتبار أن الأحلام هي وسيلة لمعرفة المستقبل وذلك بسبب تحقق أحداث حلم ما وتجاهل ألاف الأحلام الأخرى التي لم تتحقق.
التوسل للإيمان Appeal to faith:
>>لا تهمني الدلائل أنا أعرف بوجداني و قلبي أن سيدنا الخضر يحميني<<
مغالطة مشهورة جداً وتستخدم من قبل الأشخاص المتدينين بشكل خاص. قوة الإيمان هي قدرة الإنسان على تجاهل الدلائل والبراهين التي تثبت عكس معتقده. النقاش حول وجود الله لا غاية منه ولا فائدة لأن الله يقع خارج القدرات الإدراكية للإنسان أو نظرية التطور غير صحيحة لأنها تخالف إحدى النصوص الدينية التي أؤمن بها أو الاحتباس الحراري ليس صحيح لأن الله خلق الكون وهو لا يمكن أن يدع شيء مثل الاحتباس الحراري أن يحدث.
إلاله الفجوات God of the gaps:
المحتوى العلمي المتوفر لدينا اليوم بعيد كل البعد عن تفسير جميع الظواهر الطبيعية ولا يجيب على الكثير من الأسئلة الكبيرة مثل كيف بدأ الكون؟ كيف بدأت الحياة؟ هل يوجد أكوان متعددة؟ هل يوجد حياة آخرى في الفضاء؟ نعم المنهج العلمي هو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لدينا اليوم للإجابة على هذه الأسئلة بشكل موضوعي في يوم من الأيام لكن عدم معرفة الأجوبة لهذه الأسئلة ليس دليل على أن القصص الأخرى التي تتظاهر في الإجابة على هذه الأسئلة صحيحة.  نجد اليوم أن الأنظمة الإيمانية تختبئ بين هذه الفجوات الموجودة في المحتوى العلمي وتتطفل على عدم وجود أجوبة علمية لبعض الاسئلة لتقدم أجوبة مليئة بالغرور ووهم المعرفة. كيف بدأت الحياة هو سؤال معقد وليس سهل لأن ظروف المناخ على الكرة الأرضية قبل ٣ مليار سنة تختلف عن ماهي عليه اليوم ولم نستطيع حتى اليوم من الوصول إلى نتائج موثقة عن طريق المنهج العلمي. لهذا يقول العلماء وبكل تواضع نحن لا نعلم كيف بدأت الحياة في المقابل نجد بعض الاشخاص الذين يعتقدون أن المجتمع العلمي لا يملك خيال خصب لسرد الأجوبة بوضع أجوبة مليئة بالسحر والخزعبلات التي لا يقبلها إلا الأطفال ضمن قصصهم التي يعلمون مسبقاً أنها خيالية. لكن أجوبة مثل أن الله نفخ على الطين لانزال رائجة في بعض المجتمعات تحت العباءة الدينية التي تحتمي بمفهوم القدسية. القدسية تقول هذه الفكرة السخيفة الغير مثبتة لا يمكنها الصمود أمام النقد لذلك لا يجوز لك انتقادها أو مناقشة محتواها.
مجرد نظرية:
هذه المغالطة منتشرة بين العامة التي لا تدرك معنى كلمة نظرية من الناحية العلمية. نعم المنهج العلمي مبني على أساس الشك بكل المعلومات والبحث عما ينقضها لكن مقولة مجرد نظرية هي مقولة تنافي المنهج العلمي إذ أنه كما ذكرت سابقاً. النظرية العلمية تعد أعلى قيمة علمية ممكنة لتفسير الظواهر الطبيعية. مقولة إنها مجرد نظرية تعني أن الشخص غير ملم بالقواعد الاساسية للعلوم وبالتالي هو غير ملم بتفاصيل النظرية العلمية التي يحاول انتقادها.
مغالطة رجل القش Strawman Fallacy:
هذه المغالطة قائمة على تشويه الفكرة وطرحها ضمن إطار مغاير عن محتواها الأصلي لكي يتم انتقاد النسخة المشوهة فيما بعد. مثلاً عندما يقوم البعض بانتقاد نظرية التطور على أساس أن فكرة تطور الغزال من الضفدع هي فكرة غير منطقية لكن في الواقع نظرية التطور لا تدعي مثل هكذا تطور. أو عندما يقول البعض أن العلم يدعي أن الكون نشأ عن طريق الصدفة فهذا أيضاً تشويه للمحتوى العلمي فقط لكي يتم انتقاد الادعاء المشوه. العلم لا يقدم أي ادعاء حول بداية الكون أو بداية الحياة ويعتبر هذه المسائل من الأمور التي مازالت مجهولة علمياً.
مغالطة التوسل بالمرجعية أو الاحتكام لسلطة Argument from authority:
هذا المغالطة تستخدم في اعتبار أن سلطة أحد العلماء في موضوع ما كافية لنقد أو اثبات الادعاء دون الحاجة لإبراز الدلائل. مثلاً يقول أينشتاين أنه من غير المعقول أن تتأثر الجزيئات ببعضها البعض بشكل فوري بغض النظر عن المسافة التي تفصل بينهما كما يحدث ضمن ظاهرة الترابط الكمي. رأي أينشتاين في الموضوع لا يمكن اعتماده كدليل يثبت أو ينفي هذه الظاهرة ويجب الاعتماد على دلائل ملموسة خاضعة للمنهج العلمي في البحث.
الفرق بين الإيمان والمعرفة:
كثيراً ما أسمع أنت تحتاج أن تؤمن بنظرية التطور لأنك لا تستطيع رصد عملية التطور بشكل مباشر. هذه المغالطة منتشرة في الأوساط التي لا تمييز بين الإيمان والمعرفة.
القبول بنظرية التطور ليس إيمان بأن النظرية صحيحة وإنما قبول بأن التفسير الذي تقدمه النظرية هو تفسير مطابق لما نرصده من حولنا. هذا يعني أن الأشخاص الذين يقبلون بنظرية التطور مستعدين أن يتخلوا عن نظرية التطور في حال ظهرت دلائل تثبت أن النظرية خاطئة. الأفكار العلمية المطروحة ضمن أي نظرية يستدل عليها بدلائل وبراهين يمكن لأي شخص يشكل في صحتها أن يتأكد منها ويفحصها بنفسه. المعرفة العلمية ليست مبنية القبول بأي فكرة دون دليل وفي حال لم يتوفر الدليل يتم تسمية الفكرة بالفرضية لكي يعلم الجميع أن هذه الفكرة ليست مدعومة بدلائل.  إذاً المعرفة هي عملية مبنية على قبول أفكار محددة تفسر لنا ظواهر معينة لكن بشرط توفر دلائل مستقلة تؤكد صحة هذه الأفكار.
عندما أطلب منك أن تدعي معرفة وجود كائنات غير مرئية اسمها الملائكة فأنا أطالبك بالادعاء بمعرفة شيء أنت فعلاً لا تعرفه لكن تؤمن به. فعل الإيمان مبني على ادعاء معرفة أفكار دون وجود دليل يثبت هذه الأفكار. مثلاً لو توفر لدينا دليل مادي ملموس يثبت وجود كائنات واعية غير مرئية فعندها سننتهج المنهج العلمي ونضع فرضية وثم نظرية علمية تثبت وجود هذه الكائنات الغير مرئية للعين البشرية. في هذه الحالة يصبح القبول بنظرية وجود الملائكة فعل معرفي مبني على القبول بدلائل مستقلة يستطيع أي شخص التحقق منها بنفسه وبالتالي يصبح فعل الإيمان غير ضروري.
يوجد العديد من المغالطات المنطقية الأخرى المؤثرة في عملية التواصل العلمي لكن سأكتفي بهذا القدر ولكن أنصح بالبحث عنها والاطلاع عليها.
الملخص:
المحتوى العلمي هو مجمع وخزان النتائج العلمية للتي توصلت إليها الحضارة البشرية حتى اليوم عن طريق ألية مستقلة قائمة على التحقق والفحص من موضوعية النتائج. نسمي هذه الألية بالمنهج العلمي للبحث وهي أليه غير معنية بالمحتوى الذي تقدمه لكنها تقدم ضمانة بتقديم المعلومات بطريقة ممنهجة قابلة للفحص والتصحيح في حال ثبت وجود دلائل تناقض نتائجها السابقة.
هذا المقال محاولة متواضعة جداً لوضع بعض النقاط التي تقف عائقاً في وجه التواصل العلمي اليوم.
أتمنى أن تكون هذه المقالة قد قدمت لمحة عامة عن المنهج العلمي ومقارنته مع بعض الوسائل الدغمائية في تفسير الواقع. أتمنى لكم رحلة معرفية موفقة ومليئة بالمغامرات.
نهاية أنهي المقالة بمقولة للعالم كارل سيغان “لا أريد أن أصدق بل أريد أن أعرف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق