عن أنفاس نت
لم تكن الدولة موجودة دوما على هذه الصورة التي نعرفها اليوم. ونحن مطالبون بدون شك بابتكار أشكال جديدة للتنظيم السياسي مستقبلا. وحين سنلبي الطلب سيتعين علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مختلف الحوافز الأنتروبولوجية التي راهنت عليها الدولة الحديثة دوما. وسيكون من الخطر بمكان تجاهل أو تناس هذه الحوافز الأنتروبولوجية التي راهنت عليها الدولة الحديثة دوما. وسيكون من الخطر بمكان تجاهل أو تناس هذه الحوافز بدعوى مسايرة النزعة العلموية. إن هذه الحواجز ما كان لها أن تختفي، ولن يستقيم أي تحول في شكل الدولة إن لم يعتمدها وفق قواعد جديدة.
هل نستطيع تصور مجتمع بدون دولة؟ هذا السؤال كان عبارة عن حلم راود الأذهان طيلة هذا القرن الذي يوشك على الانتهاء. غير أن الدولة –رغم هذا الحلم- تبقى السد المنيع والأكثر فعالية في مواجهة العنف المدمر والمتنامي الذي يهز أرجاء العالم.
[ في فرنسا ] لم تتوقف المجادلات فيما بين الباحثين السياسيين حول التعارض الوجداني الذي يكتنف مشاعر المواطنين إزاء دولتهم. إن الاضطراب الأخير الناجم عن إضراب سائقي الشاحنات، من ضمن اضطرابات أخرى سابقة، يبين كيف أن لا مفر للمهتمين بالشؤون السياسية من الأخذ بعين الاعتبار هذا التعارض الوجداني. ففي هذا الصدد اتفق كل من أرباب العمل والمأجورين في القطاع الخاص على الترحيب ومباركة تدخل حكومي كفيل ليس بإيجاد حل لنزاعهم فحسب، بل ومن أجل رعاية وضمان اتفاق عاجل ودائم بين الطرفين.
وفي دراسة مطولة حول المركزية في الإدارة [ الفرنسية ] لأحد الباحثين (بيار لوجوندر Pièrre Legendre)، قدم هذا الأخير تلخيصا جيدا لهذه المشاعر المتناقضة فيما أسماه بالمفارقة في نظرة الفرنسيين إلى الدولة. ويتمثل هذا التلخيص في قوله "إنها (الدولة) حليفة وعدوة الكل في نفس الوقت".
هل نستطيع تصور مجتمع بدون دولة؟ هذا السؤال كان عبارة عن حلم راود الأذهان طيلة هذا القرن الذي يوشك على الانتهاء. غير أن الدولة –رغم هذا الحلم- تبقى السد المنيع والأكثر فعالية في مواجهة العنف المدمر والمتنامي الذي يهز أرجاء العالم.
[ في فرنسا ] لم تتوقف المجادلات فيما بين الباحثين السياسيين حول التعارض الوجداني الذي يكتنف مشاعر المواطنين إزاء دولتهم. إن الاضطراب الأخير الناجم عن إضراب سائقي الشاحنات، من ضمن اضطرابات أخرى سابقة، يبين كيف أن لا مفر للمهتمين بالشؤون السياسية من الأخذ بعين الاعتبار هذا التعارض الوجداني. ففي هذا الصدد اتفق كل من أرباب العمل والمأجورين في القطاع الخاص على الترحيب ومباركة تدخل حكومي كفيل ليس بإيجاد حل لنزاعهم فحسب، بل ومن أجل رعاية وضمان اتفاق عاجل ودائم بين الطرفين.
وفي دراسة مطولة حول المركزية في الإدارة [ الفرنسية ] لأحد الباحثين (بيار لوجوندر Pièrre Legendre)، قدم هذا الأخير تلخيصا جيدا لهذه المشاعر المتناقضة فيما أسماه بالمفارقة في نظرة الفرنسيين إلى الدولة. ويتمثل هذا التلخيص في قوله "إنها (الدولة) حليفة وعدوة الكل في نفس الوقت".
ومن البديهي أن القائمين بالثورة [ الفرنسية] ومفكريها ونابليون بتشريعاته فيما بعد، من البديهي أن هؤلاء جميعا قد لعبوا دورا حاسما في خلق ونشأة هذه المفارقة، ذلك أنهم جميعا في الوقت الذي كانوا يرتكزون على فلسفة الأنوار في أعمالهم وتشريعاتهم وتفكيرهم توهما أو إيهاما للآخرين بأنهم قد قطعوا مع الماضي وأنهم انطلقوا من مسح الطاولة، في هذا الوقت كانوا يغرفون من نفس المعين الذي تأسست عليه الملكية المطلقة [ في العهد السابق ]. وبهذا تكون الدولة العلمانية، التي أقامها هؤلاء، قد احتفظت في أحشائها بقبس من الحق الإلهي الذي كان يضفي المشروعية على الدولة المطاح بها.
هذا عن فرنسا، أما خارجها، وأقصد أوروبا، فالدولة باتت معضلة. وعلى المعنيين بالاتحاد الأوروبي إيجاد حل لها: إن البناء السياسي لأوروبا الموحدة يقتضي التنازل عن جزء من السيادة من طرف الموقعين على مختلف المعاهدات. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد ازدادت المعضلة تأزما حتى كادت أن تتحول إلى قلق في الحضارة مع دخول عولمة المنافسة بين الرساميل في المعمعة. فماذا تبقى للدولة؟ أو ماذا سيتبقى لها بعد هذا كله؟ وإن ما يدفعنا للتساؤل عن مآل هذا الهيكل (الدولة) هو تصورنا لانصياع حكومات العالم [ في المستقبل القريب] لقرارات المؤسسات المالية العالمية. نقول هذا رغم ما نشاهده من صحوات قومية –كانت مقموعة سلفا- في أوروبا نفسها، وطموحاتها في إنشاء دول قومية إثر تفكك الإمبراطورية السوفياتية.
ونظرا لكل هذه العوامل، فنحن مدعوون وبإلحاح إلى إعادة التفكير فلسفيا في مشكل الدولة خاصة ونحن على مشارف نهاية قرن لم يهدأ مفكروه على تغذية ورعاية حلم وثوقي مؤداه أن الدولة في طريق الانقراض. وهذه العبارة الأخيرة تحيلنا على بعض التعابير الملتبسة لكل من ماركس وأنجلز اللذين كانا يؤكدان أن الشيوعية –أي المجتمع اللاطبقي- غير منسجمة منطقيا مع وجود الدولة. وسوف لن يكف بعدهما كل من لينين وستالين من الترديد على أن الدولة ليست سوى "آلة" مبرمجة لضمان هيمنة طبقة على أخرى بعد أن تكون إيديولوجيتها (أي الآلة) قد تقنعت بقناع قانوني يرفع شعار مساواة صورية وفارغة من أي مضمون واقعي. وسيكون من مهام ديكتاتورية البروليتاريا وضع حد لهذه الدولة وذلك بالقضاء على أسباب وجودها: أي الطبقات. ولقد تنامى في الاتحاد السوفياتي خطاب مضلل وممنهج حول هذه الأطروحة في الوقت الذي عرفت فيه بيروقراطية الدولة السوفياتية تضخما هائلا لم يسبق له مثيل، وتلا هذا سقوط هذا الوحش الضخم (الدولة السوفياتية) منهوكا من جراء التسابق نحو التسلح.
وفي البلدان الأنكلوسكسونية، وبخاصة في أمريكا، نجد الليبرالية تقف موقفا معاديا للدولة. وحتى إن لم تذهب الليبرالية إلى حد الدعوة صراحة إلى زوالها فإنها نادت بتواريها. ولقد وجد شعارها الأساسي "دولة أقل" آذانا صاغية في بلدنا [ فرنسا]. ومن أجل التنظير لهذا الموقف المعادي للدولة استند أنصاره على قراءة خاصة لآدم سميت معتقدين أنهم قد وجدوا في تراثه ما يؤيد موقفهم. وهكذا اعتبروا الدولة عبارة عن أداة تستعملها "اليد الخفية"، ومن شأن هذه اليد، أو بالأحرى ما هو مفترض فيها، أن تتحكم من وراء الكواليس في ضبط تقلبات قوانين السوق. أما إذا تجاوزت الدولة هذا الدور فستغدو عائقا في وجه حرية الأفراد. وبالجملة تكمن وظيفة الدولة في توفير الأمن. إنها دركي أو حارس ليلي.
وإن نحن عدنا إلى التصور الفلسفي الكلاسيكي للدولة لوجدنا أن هذا التصور قد حكم –وإن بشكل قبلي من ناحية الزمن- بتهافت هذه النظرة التي لا ترى في الدولة إلا "أداة" أو "وظيفة"، ذلك أن هذا التصور عمل على إبراز جانب آخر من جوانب الدولة. نقول هذا بالرغم من هيمنة النزعة الاقتصادية في العلوم الاجتماعية، وهذه الهيمنة لا ينبغي أن تجعلنا نحط من قيمة هذا التصور الفلسفي الكلاسيكي للدولة.
ونحن مدينون لتوماس هوبز الذي كان من الأوائل الذين أبرزوا ودرسوا هذا الجانب وبخاصة في نظريته حول ما أسماه بـ"الشخص المعنوي" للعاهل. ولعل عبارة "أنا الدولة" للويس الرابع عشر تترجم هذه النظرية بشكل جيد. ومؤدى هذه النظرية أن المواطنين قد أوكلوا أمنهم ورفاهيتهم إلى الملك أو إلى جمعية عامة (البرلمان)، باعتباره كشخص فيزيائي عيني ومرئي قد جسد أو تجسدت فيه وحدتهم. والليفيتان(*) لم يعمل سوى على إبراز هذه الحوافز والرغبات الأنتروبولوجية التي راهنت عليها هذه الآلة المزعومة. وإن انتقلنا إلى سبينوزا وجدناه يلتقي فكريا مع هوبز بالرغم من عدم تعاطفه مع الملكية المطلقة. إنه يعرف الدولة باعتبارها فردا لا يمكن أن يوجد إلا إذا كان شخصا متمتعا بإرادة. فهو يقول: "يتعين على جسد الدولة أن يكون موجها من طرف روح واحدة ولهذا ينبغي اعتبار إرادة المدينة (الدولة) إرادة الكل. "ويضيف أيضا في كتابه الرسالة السياسية" تنزل القوانين منزلة روح الدولة، وطالما بقيت هذه القوانين فالدولة باقية ومستمرة بالضرورة. إلا أن القوانين معرضة للخرق اللهم إلا إذا وضعت تحت حماية ورعاية كل من العقل والانفعالات المشتركة للناس".
ولقد ركزت الفلسفة السياسية الكلاسيكية تساؤلاتها، ابتداء من هوبز إلى هيجل مرورا بروسو وكانط على هذا الغموض الذي يلف الدولة أي على هذه الروح التي تسكن هذا الجسد. وقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة، وإن بصيغ ومعان مختلفة لحد التناقض أحيانا، أنه من أجل استمرار وظائف السيادة المنوطة بالدولة أي تقبل المواطنين إياها والخضوع لها والحفاظ على النظام الاجتماعي، اعتبروا أن على الدولة ألا تتوجه بخطابها إلى العقل فحسب بل عليها أن تخاطب الانفعالات والمشاعر. وعلى هذا الخطاب ألا يخلو من إخراج مسرحي مدروس. ويشهد على هذا [الرأي] مختلف الاحتفالات الباذخة [ المقامة بمناسبة الأعياد] سواء في النظام الجمهوري أو النظام الملكي.
ومن أجل فهم أكثر لنوعية المسرحية المعروضة يكفي أن نستحضر مصطلحي الأمة nation والوطن patrie. فالدولة في الغرب راحت تلعب نفس الأدوار التي كانت تؤديها الكنيسة وذلك بعد أن حلت الأولى محل الثانية. إن الدولة بهذه المسرحيات تصنع الصيرورة الشخصية لكل مواطن وذلك لأنها تمنحه إمكانية الحصول على هوية قد تربطه –من حيث النسب- صعدا بأحد الأجداد الأسطوريين والمرموقين. والدولة ضامنة ومكرسة لهذه الأسطورية. ويكفي أن نشير إلى مثالين: الغاليون Les gaulois وكلوفيس Clovis.
وحينما تمنح الدولة هذا لمواطنيها يكون الحذق السياسي قد توغل إلى أعماق الإنسان ليدغدغ انفعالاته ومشاعره. وبعد فرز هذه المشاعر وإعادة توليفها وفق هندسة معينة يتم تشكيل أنماط مختلفة لمسارات في الحياة. بهذا نفهم كيف أن الدولة بتلاعبها بهذه المشاعر قادرة على شحن المواطنين بطاقة هائلة قد تفضي بحسب ما أريد لها ومنها: إلى هستيرية فرح وود جماعي أو إلى هستيرية قاتلة ومدمرة.
لم تكن الدولة موجودة دوما على هذه الصورة التي نعرفها اليوم. ونحن مطالبون بدون شك بابتكار أشكال جديدة للتنظيم السياسي مستقبلا. وحين سنلبي الطلب سيتعين علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مختلف الحوافز الأنتروبولوجية التي راهنت عليها الدولة الحديثة دوما. وسيكون من الخطر بمكان تجاهل أو تناس هذه الحوافز الأنتروبولوجية التي راهنت عليها الدولة الحديثة دوما. وسيكون من الخطر بمكان تجاهل أو تناس هذه الحوافز بدعوى مسايرة النزعة العلموية. إن هذه الحواجز ما كان لها أن تختفي، ولن يستقيم أي تحول في شكل الدولة إن لم يعتمدها وفق قواعد جديدة. وأكثر من هذا، سيكون الثمن غاليا إن نحن تركنا هذه المهمة بين أيدي التقنوقراطيين، فهم سيتغاضوا حتما عن هذه الحقيقة الواقعية. فنحن نشاهد اليوم ثمرة عمل التقنوقراطيين هذا، انتفاضات دموية نتيجة أحقاد قومية أو عرقية والتي تبدو ظاهريا كرد فعل ضد تقسيم اعتباطي لما كان سابقا دولة موحدة(10). ونشاهد أيضا حيرة ومحنة شباب يلقي بنفسه في أتون العنف المدمر (بما في ذلك المخدرات) لافتقار كل شاب منهم لهوية من جهة، ورغبة في تملك شخصية معترف بها في المجتمع من جهة ثانية. والأدهى في الأمر، أن يحدث، بدعوى الحنين إلى هوية أكثر قدما، إحياء جذوة "الحقد الديني" على حد تعبير سبينوزا، وهو إحياء قد يكون أكثر دموية مما يمكن للكائن البشري أن يصل إليه في حروبه ضد أخيه الإنسان.
هذا عن فرنسا، أما خارجها، وأقصد أوروبا، فالدولة باتت معضلة. وعلى المعنيين بالاتحاد الأوروبي إيجاد حل لها: إن البناء السياسي لأوروبا الموحدة يقتضي التنازل عن جزء من السيادة من طرف الموقعين على مختلف المعاهدات. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فقد ازدادت المعضلة تأزما حتى كادت أن تتحول إلى قلق في الحضارة مع دخول عولمة المنافسة بين الرساميل في المعمعة. فماذا تبقى للدولة؟ أو ماذا سيتبقى لها بعد هذا كله؟ وإن ما يدفعنا للتساؤل عن مآل هذا الهيكل (الدولة) هو تصورنا لانصياع حكومات العالم [ في المستقبل القريب] لقرارات المؤسسات المالية العالمية. نقول هذا رغم ما نشاهده من صحوات قومية –كانت مقموعة سلفا- في أوروبا نفسها، وطموحاتها في إنشاء دول قومية إثر تفكك الإمبراطورية السوفياتية.
ونظرا لكل هذه العوامل، فنحن مدعوون وبإلحاح إلى إعادة التفكير فلسفيا في مشكل الدولة خاصة ونحن على مشارف نهاية قرن لم يهدأ مفكروه على تغذية ورعاية حلم وثوقي مؤداه أن الدولة في طريق الانقراض. وهذه العبارة الأخيرة تحيلنا على بعض التعابير الملتبسة لكل من ماركس وأنجلز اللذين كانا يؤكدان أن الشيوعية –أي المجتمع اللاطبقي- غير منسجمة منطقيا مع وجود الدولة. وسوف لن يكف بعدهما كل من لينين وستالين من الترديد على أن الدولة ليست سوى "آلة" مبرمجة لضمان هيمنة طبقة على أخرى بعد أن تكون إيديولوجيتها (أي الآلة) قد تقنعت بقناع قانوني يرفع شعار مساواة صورية وفارغة من أي مضمون واقعي. وسيكون من مهام ديكتاتورية البروليتاريا وضع حد لهذه الدولة وذلك بالقضاء على أسباب وجودها: أي الطبقات. ولقد تنامى في الاتحاد السوفياتي خطاب مضلل وممنهج حول هذه الأطروحة في الوقت الذي عرفت فيه بيروقراطية الدولة السوفياتية تضخما هائلا لم يسبق له مثيل، وتلا هذا سقوط هذا الوحش الضخم (الدولة السوفياتية) منهوكا من جراء التسابق نحو التسلح.
وفي البلدان الأنكلوسكسونية، وبخاصة في أمريكا، نجد الليبرالية تقف موقفا معاديا للدولة. وحتى إن لم تذهب الليبرالية إلى حد الدعوة صراحة إلى زوالها فإنها نادت بتواريها. ولقد وجد شعارها الأساسي "دولة أقل" آذانا صاغية في بلدنا [ فرنسا]. ومن أجل التنظير لهذا الموقف المعادي للدولة استند أنصاره على قراءة خاصة لآدم سميت معتقدين أنهم قد وجدوا في تراثه ما يؤيد موقفهم. وهكذا اعتبروا الدولة عبارة عن أداة تستعملها "اليد الخفية"، ومن شأن هذه اليد، أو بالأحرى ما هو مفترض فيها، أن تتحكم من وراء الكواليس في ضبط تقلبات قوانين السوق. أما إذا تجاوزت الدولة هذا الدور فستغدو عائقا في وجه حرية الأفراد. وبالجملة تكمن وظيفة الدولة في توفير الأمن. إنها دركي أو حارس ليلي.
وإن نحن عدنا إلى التصور الفلسفي الكلاسيكي للدولة لوجدنا أن هذا التصور قد حكم –وإن بشكل قبلي من ناحية الزمن- بتهافت هذه النظرة التي لا ترى في الدولة إلا "أداة" أو "وظيفة"، ذلك أن هذا التصور عمل على إبراز جانب آخر من جوانب الدولة. نقول هذا بالرغم من هيمنة النزعة الاقتصادية في العلوم الاجتماعية، وهذه الهيمنة لا ينبغي أن تجعلنا نحط من قيمة هذا التصور الفلسفي الكلاسيكي للدولة.
ونحن مدينون لتوماس هوبز الذي كان من الأوائل الذين أبرزوا ودرسوا هذا الجانب وبخاصة في نظريته حول ما أسماه بـ"الشخص المعنوي" للعاهل. ولعل عبارة "أنا الدولة" للويس الرابع عشر تترجم هذه النظرية بشكل جيد. ومؤدى هذه النظرية أن المواطنين قد أوكلوا أمنهم ورفاهيتهم إلى الملك أو إلى جمعية عامة (البرلمان)، باعتباره كشخص فيزيائي عيني ومرئي قد جسد أو تجسدت فيه وحدتهم. والليفيتان(*) لم يعمل سوى على إبراز هذه الحوافز والرغبات الأنتروبولوجية التي راهنت عليها هذه الآلة المزعومة. وإن انتقلنا إلى سبينوزا وجدناه يلتقي فكريا مع هوبز بالرغم من عدم تعاطفه مع الملكية المطلقة. إنه يعرف الدولة باعتبارها فردا لا يمكن أن يوجد إلا إذا كان شخصا متمتعا بإرادة. فهو يقول: "يتعين على جسد الدولة أن يكون موجها من طرف روح واحدة ولهذا ينبغي اعتبار إرادة المدينة (الدولة) إرادة الكل. "ويضيف أيضا في كتابه الرسالة السياسية" تنزل القوانين منزلة روح الدولة، وطالما بقيت هذه القوانين فالدولة باقية ومستمرة بالضرورة. إلا أن القوانين معرضة للخرق اللهم إلا إذا وضعت تحت حماية ورعاية كل من العقل والانفعالات المشتركة للناس".
ولقد ركزت الفلسفة السياسية الكلاسيكية تساؤلاتها، ابتداء من هوبز إلى هيجل مرورا بروسو وكانط على هذا الغموض الذي يلف الدولة أي على هذه الروح التي تسكن هذا الجسد. وقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة، وإن بصيغ ومعان مختلفة لحد التناقض أحيانا، أنه من أجل استمرار وظائف السيادة المنوطة بالدولة أي تقبل المواطنين إياها والخضوع لها والحفاظ على النظام الاجتماعي، اعتبروا أن على الدولة ألا تتوجه بخطابها إلى العقل فحسب بل عليها أن تخاطب الانفعالات والمشاعر. وعلى هذا الخطاب ألا يخلو من إخراج مسرحي مدروس. ويشهد على هذا [الرأي] مختلف الاحتفالات الباذخة [ المقامة بمناسبة الأعياد] سواء في النظام الجمهوري أو النظام الملكي.
ومن أجل فهم أكثر لنوعية المسرحية المعروضة يكفي أن نستحضر مصطلحي الأمة nation والوطن patrie. فالدولة في الغرب راحت تلعب نفس الأدوار التي كانت تؤديها الكنيسة وذلك بعد أن حلت الأولى محل الثانية. إن الدولة بهذه المسرحيات تصنع الصيرورة الشخصية لكل مواطن وذلك لأنها تمنحه إمكانية الحصول على هوية قد تربطه –من حيث النسب- صعدا بأحد الأجداد الأسطوريين والمرموقين. والدولة ضامنة ومكرسة لهذه الأسطورية. ويكفي أن نشير إلى مثالين: الغاليون Les gaulois وكلوفيس Clovis.
وحينما تمنح الدولة هذا لمواطنيها يكون الحذق السياسي قد توغل إلى أعماق الإنسان ليدغدغ انفعالاته ومشاعره. وبعد فرز هذه المشاعر وإعادة توليفها وفق هندسة معينة يتم تشكيل أنماط مختلفة لمسارات في الحياة. بهذا نفهم كيف أن الدولة بتلاعبها بهذه المشاعر قادرة على شحن المواطنين بطاقة هائلة قد تفضي بحسب ما أريد لها ومنها: إلى هستيرية فرح وود جماعي أو إلى هستيرية قاتلة ومدمرة.
لم تكن الدولة موجودة دوما على هذه الصورة التي نعرفها اليوم. ونحن مطالبون بدون شك بابتكار أشكال جديدة للتنظيم السياسي مستقبلا. وحين سنلبي الطلب سيتعين علينا أن نأخذ بعين الاعتبار مختلف الحوافز الأنتروبولوجية التي راهنت عليها الدولة الحديثة دوما. وسيكون من الخطر بمكان تجاهل أو تناس هذه الحوافز الأنتروبولوجية التي راهنت عليها الدولة الحديثة دوما. وسيكون من الخطر بمكان تجاهل أو تناس هذه الحوافز بدعوى مسايرة النزعة العلموية. إن هذه الحواجز ما كان لها أن تختفي، ولن يستقيم أي تحول في شكل الدولة إن لم يعتمدها وفق قواعد جديدة. وأكثر من هذا، سيكون الثمن غاليا إن نحن تركنا هذه المهمة بين أيدي التقنوقراطيين، فهم سيتغاضوا حتما عن هذه الحقيقة الواقعية. فنحن نشاهد اليوم ثمرة عمل التقنوقراطيين هذا، انتفاضات دموية نتيجة أحقاد قومية أو عرقية والتي تبدو ظاهريا كرد فعل ضد تقسيم اعتباطي لما كان سابقا دولة موحدة(10). ونشاهد أيضا حيرة ومحنة شباب يلقي بنفسه في أتون العنف المدمر (بما في ذلك المخدرات) لافتقار كل شاب منهم لهوية من جهة، ورغبة في تملك شخصية معترف بها في المجتمع من جهة ثانية. والأدهى في الأمر، أن يحدث، بدعوى الحنين إلى هوية أكثر قدما، إحياء جذوة "الحقد الديني" على حد تعبير سبينوزا، وهو إحياء قد يكون أكثر دموية مما يمكن للكائن البشري أن يصل إليه في حروبه ضد أخيه الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق