الاثنين، 15 فبراير 2016

التقشف على حساب التنمية


 محمد سعيد السعدي : عن موقع  الأول

أصبح اتّباع سياساتٍ تقشفية على الصعيد الاقتصادي والمالي مهيمنا في العديد من الدول خاصة في أوروبا وبلدان الجنوب أو ما كان يسمى العالم الثالث. وتعود أسباب هذه الظاهرة إلى الأزمة الهيكلية للرأسمالية المعولمة التي اندلعت في 2007-2008 والتي دفعت العديد من البلدان إلى تبني سياسات مالية توسعية بالزيادة في الإنفاق العمومي للحد من آثارها السلبية، هذا بالإضافة للدعم المالي الذي قُدم للبنوك لإنقاذها من الإفلاس. غير أن هذه البلدان سرعان ما غيرت من سياساتها ابتداء من2010 لتدارك العجوزات التي باتت تهدد الميزانية العامة للدولة وميزان المدفوعات الخارجية بفعل الاستدانة العمومية. هكذا لجأت بلدان أوروبية عديدة وبلدان من الجنوب منها المغرب،  وتحت ضغط صندوق النقد الدولي، إلى تبني سياسات تقشفية صارمة للحد من هذه العجوزات. وقد سعت هذه السياسات الى تقليص عجز ميزانية الدولة والمديونية العمومية عبر خفض الإنفاق العمومي والزيادة في الإيرادات. ومن أهم الإجراءات التي تم اتخادها في هدا الصدد تقليص أو حذف الدعم المقدم لمواد أساسية كالمحروقات والكهرباء والمواد الغذائية، تجميد أو خفض كتلة الأجور بالوظيفة العمومية، الزيادة في الضريبة على المبيعات والضريبة على القيمة المضافة، إعادة النظر في أنظمة التقاعد، “عقلنة” أو “تقنين” شبكات الأمان الاجتماعي الموجهة للفئات الفقيرة، “إصلاح” منظومة الصحة، اعتماد المرونة في سوق الشغل لتسهيل عمليات توظيف وتسريح الماجورين،الخ.
ولم ينج المغرب من هذا المنحى الانكماشي إذ أدت تبعيته للاقتصاد الأوروبي عبر الصادرات والسياحة والاستثمارات الأجنبية وتحويلات المغاربة بالخارج و”مساعدات” التنمية وتأثره بتقلبات السوق الدولية للمواد الأولية والغذائية، أدت إلى اختلالات على صعيد المالية العمومية وميزان المدفوعات وتراجع نسبة النمو الاقتصادي. هكذا قامت الحكومة بتطبيق حزمة من الإجراءات التقشفية من أجل تقليص عجز الميزانية، وذلك تنفيذا لالتزاماتها تجاه صندوق النقد الدولي. ومن أهم هذه الإجراءات نذكر حذف الدعم الموجه للمواد الأساسية وتقليص كتلة الأجور عبر تخفيض محسوس للتوظيف بالإدارة العمومية والتخلي النهائي عن الزيادة العامة في الأجور. هذا إضافة إلى “عقلنة” نفقات التجهيز “وإصلاح” صناديق التقاعد. ومن المنتظر أن تمتد هذه السياسة التقشفية إلى غاية 2019 على الأقل، إذ التزمت الحكومة تجاه صندوق النقد الدولي في سنة 2014 بتخفيض نسبة الإنفاق العمومي مقارنة مع الناتج الداخلي الخام من 28.3 بالمائة إلى 24.1 بالمائة بحلول سنة 2019.
وسيتم هذا التقليص من خلال تخفيض كتلة الأجور إلى 10.5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام (مقابل 13 بالمائة سنة 2014) ونفقات دعم المواد الأساسية إلى 1.5 بالمائة (مقابل 3.8 بالمائة سنة 2014 ). بالمقابل، سترتفع المداخيل الضريبية لتبلغ 23.9 بالمائة من الناتج الداخلي الخام (مقابل 22.7 بالمائة سنة 2014)، خاصة الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات التي ستصل إلى 8.9 بالمائة من  الناتج الداخلي الخام (مقابل 8.3 بالمائة سنة 2014).
من المتوقع أن يكون لهذا المنحى الانكماشي عواقب سلبية على الاستثمار والنمو وكذلك على استحداث فرص جديدة للعمل. كما ستطال تداعياته الظروف المعيشية للمواطنين ومستوى التنمية البشرية بالمغرب. فالاكتفاء بعقلنة نفقات التجهيز عوض الرفع من مستواها سيكون له عواقب سلبية على معدل نمو الناتج الداخلي الخام وذلك لاعتبارين أساسيين: أولهما راجع للدور المحفز الذي يلعبه تشييد البنيات التحتية بالنسبة للقطاعات الإنتاجية والخدمية المختلفة ولجلب الاستثمار الخاص، المحلي والاجنبي. ثانيهما أن التقشف في مجال التجهيز العمومي سيكرس تراجع نشاطات اقتصادية مهمة في القطاع الخاص ترتبط ارتباطا وثيقا بحجم الصفقات العمومية، خاصة المقاولات الصغيرة والمتوسطة وقطاع البناء والأشغال العمومية. من جهة أخرى، سينعكس الضغط على مستوى الاستثمار العمومي سلبا على التشغيل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقدر المهنيون العاملون بقطاع الاشغال العمومية مناصب الشغل المفقودة سنة 2014 بما يقارب 50 ألف منصب. كما سيؤدي الضغط على كتلة الأجور بالوظيفة العمومية إلى تقلص ملحوظ في فرص التوظيف، بالإضافة لتآكل القدرة الشرائية للموظفين. بالإضافة إلى هذا، سوف سينجم عن الزيادة في الضريبة على القيمة المضافة على المواد الاستهلاكية تدهور القدرة الشرائية للمواطنين، مما سينعكس سلبا على عدد من الأنشطة الاقتصادية والخدمية.
على مستوى آخر، من المتوقع أن يؤدي تخفيض الإنفاق العمومي إلى استمرار المغرب في احتلال مراتب متدنية بالنسبة لمؤشر التنمية البشرية، ذلك أنه يصعب تحقيق أي تحسن على هذا المستوى دون الرفع من الاعتمادات المالية المخصصة للقطاعات الاجتماعية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يحتاج المغرب إلى توظيف أزيد من سبعة ألاف طبيب وتسعة آلاف ممرض لتلبية الحاجات الأساسية في القطاع الصحي وتحسين مستوى الخدمات المقدمة للساكنة خاصة بالعالم القروي. أضف إلى هذا أن تجميد الأجور وعدم تعديلها لتتماشى على الأقل مع معدل التضخم سيضر بالقدرة الشرائية للعاملين بالوظيفة العمومية، خاصة في القطاعات الاجتماعية الحيوية، مما سينعكس سلبا على معنوياتهم ويزيد من ظاهرة الغياب، والعمل في القطاع غير الرسمي. أخيرا وليس آخرا، من المحتمل جدا أن لا يعرف مؤشر اللامساواة بين الجنسين تحسنا يذكر، والحال أن المغرب يحتل المرتبة 139 من اصل 145 دولة حسب التقرير الأخير لسنة 2015 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
خلاصة القول أن السياسات التقشفية التي اعتمدها المغرب منذ قدوم الحكومة الحالية تنذر بجعل العشرية الحالية عشرية ضائعة بالنسبة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. والحال أن التقشف ليس بالضرورة الحتمية كما تبين ذلك تجارب عدة بلدان بأوروبا وأمريكا اللاتينية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق