موقع علومي
هل اللّغة ميّزةٌ حصريَّةٌ للجنس البشري؟ أم أنها خاصيّةٌ منتشرةٌ بين الأحياء؟ ما هي اللغة وكيف تطوّرت وما هي فوائدها؟ هذه بعض النقاط التي سأجيب عليها ضمن هذا المقال المتعلّق بخاصيّة اللّغة من منظورٍ تطوريّ.
الإنسان وتطوّر اللّغة
نتج عن التغيّر المناخي -الذي حصل بعد العصر الجليدي الأخير- انخفاضٌ في الموارد اللّازمة لاستمرار وبقاء الكائنات الحيّة ومنها أسلاف الرئيسيّات (القرود العليا). هذا يعني أن الكائنات التي لم تمتلك القدرة في البحث عن الموارد الغذائيّة والمأوى من البرد تعرضَت لضغوطاتٍ تطوريّة أدّت إلى انقراضها. استفاد بعض الرئيسيات من طفراتٍ جينيةٍ ساعدتها على التأقلم مع هذه الظروف المناخيّة الصعبة. من هذه الطفرات كانت القدرة على استخدام الأطراف الأماميّة. ولم تكن هذه الخاصيّة الجديدة مهمّة فقط من ناحية استعمال الأيدي لإمساك الأشياء وتحريكها، وإنما كانت فائدتها غير مباشرة، تتمثل بتحرير الضغط على الجهاز التنفّسي لهذه الرئيسيّات مما أطلق موجةً من الصفات التطوريّة الجديدة.
يتعرض الجهاز التنفّسي لدى الكائنات التي تمشي على أربعٍ لضغطٍ كبيرٍ من عضلات الصدر بشكلٍ مستمر؛ مما يجعل عمليّة التحكّم بالزفيرعمليّةٍ مستحيلة، فإصدار الاصوات متعلّقٌ بشكلٍ مباشرٍ بأليّات عمل الجهاز التنفّسي والقدرة على التلاعب بالفتحات الهوائية التي سيخرج منها الزفير لكي يشكّل الأصوت، لهذا كان تحرير الأطراف الأماميّة ذو أبعادٍ تطوريّةٍ كبيرةٍ جدًا، وهذا هو مدخل بحثنا اليوم.
سأقوم في هذا المقال بسردٍ ملخّصٍ للعوامل البيولوجيّة التي أدّت إلى تطوّر اللّغة لدى الإنسان، وأيضًا معاينة العوامل التاريخيّة والثقافيّة لتطوّر التكنولوجيّات اللّغوية، مثل القراءة والكتابة وغيرها من نتائج هذه الصفة الحصريّة لدى الإنسان. وأود أن أنوّه إلى أنّ الوقوف على قدمين Bipedalism، يعتبر العامل الأساسي في تطور الجنس البشري (2)، لكنّي لن أدخل في تفاصيله هنا.
لا تتطوّر الكائنات الحيّة فيزيولوجيًّا فقط، وإنما تُطوّر تصرّفاتها وعلاقاتها الإجتماعيّة بناءًا على الضغوط المحيطة بها. مثلًا يوجد نوعٌ من أنواع الأسماك اسمه السمك القبطان Pilot fish، هذا النوع طوّرعلاقةً مع سمك القرش، حيث يدخل هذا السمك إلى داخل فم سمكة القرش ويأكل البقايا الموجودة على أسنانها. ورغم أن القرش قادرٌ على التهام هذه الأسماك بسهولة، إلا أنه لا يقوم بذلك لأن الفائدة التي يقدّمها السمك الصغير بالتهام الفضلات تفوق الفائدة من التهامه. هذا يعني أن كلا الكائنين (السمك القبطان وسمك القرش) طوّرا علاقة منفعة متبادلة (15).
المثال الآخر هو البكتيريا المتعايشة في معدة وأمعاء الإنسان، إذ عدد الخلايا الحية في جسمنا يتألف من 10% خلايا و90% بكتيريا. وهذا يعني أن تعداد البكتيريا الموجودة داخل الجسم تفوق عدد خلايا الجسم بتسعة أضعافٍ تقريبًا. ولا يحارب جهاز المناعة هذه البكتريا مع أنّها جسمٌ غريبٌ، والبكتريا في المقابل غير ضارة غالبًا، بل تقوم بأعمالٍ مفيدةٍ للإنسان. إذًا كلا النوعين أوجد علاقة منفعةٍ متبادلة، تنسجم مع حاجة الكائن الآخر وتستفيد منها (16).
الاقتصاد التطورّي
يُعد البحث عن الموارد الغذائية والتكاثر من أهم الأعمال التي يتوجب على الكائن القيام بها لضمان استمرار نوعه. دون الحصول على الطاقة بشكلٍ يوميٍّ لن يستطيع الكائن البقاء. الآن، لنحرّض مخيلتنا قليلًا ونتخيل وجود أسلافٍ بشريةٍ من الرئيسيّات تعيش في بيئةٍ أفريقيّةٍ شُحّة الموارد. كانت هذه المجموعات البشرية معرضة لخطر الافتراس طوال الوقت ولديها نافذةٌ زمنيةٌ صغيرةٌ تبحث من خلالها على الطعام كل يومٍ. هذه الأسلاف البشريّة غير ناطقةٍ بعد، وقد اكتشفت أنّ التعاون والعمل الجماعي ضامنٌ أساسيٌّ لبقائها، تمامًا كما هو مثال القرش والسمك القبطان أو علاقة البكتريا وجهاز المناعة لدى الأحياء. التعاون البشري هو نتيجة تأقلم تطورّي نتج عن الضغوط المحيطة والشح في الموارد. التعاون ليس حكرًا على الإنسان، إلا أن الإنسان طورّه بشكلٍ معقدٍ أكثر بكثيرٍ من بقيّة الكائنات الآخرى. ونستطيع استحضار مئات الأمثلة من استراتجيّات البقاء Evolution stable strategy، والتي تعتمد على تعاون أفراد القطيع، لكن ماذا يعني تعاون؟
التعاون بالمعنى المبسّط هو الاتّفاق الضمني على تنقيذ عملٍ ما بحيث يكون الناتج من هذا العمل مفيدًا لكافة الأطراف، إما بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.
تملك جميع الكائنات في الطبيعة إستراتجيّات تنظّم علاقتها وتحدّد أليّات التعامل فيما بينها. هذه الاستراتيجيّات تم الوصول إليها عبر ملايين السنين من الضغوطات التطورّية والانقراضات وهي لا تنتُج كنتيجةٍ اختياريةٍ وإنما غريزيّة. وهي مبرمجةٌ لدينا كنيتجةٍ تطوريةٍ منذ ملايين السنين. مثلًا في السابق كان الطرد خارج المجموعة البشريّة التي يعيش فيها الفرد يشكّل خطرٌ مميتٌ على هذا الفرد ولهذا تطوّرت لدى الإنسان استراتجيّاتٌ تجعله يكترث لما يظنّه أفراد المجموعة به ويتجنب الأعمال التي قد تتسبب بإبعاده عن هذه المجموعة. هذا هو سبب اهتمامنا بما يظنّه الآخرون بِنَا ولهذا السبب نحن نشعر بخوفٍ شديدٍ وقلقٍ قبل القيام بأي عملٍ يتم تقييمه من قبل مجموعاتٍ كبيرةٍ من البشر. لهذا، فالتعاون والعمل الجماعي يّعتبر من أهم استراتجيات البقاء لدى الإنسان، فالإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ لا يستطيع العيش بمفرده ويحتاج أن يكون ضمن مجموعاتٍ صغيرةٍ تتقاسم مسؤوليّات العمل. واللّغة هي من أهم دعائم استراتجيّات التعاون البشريّة (18).
على فرض أنّ أحد أنواع الطيور أُصيب بنوعٍ من أنواع الطفيليات التي تمتص الدماء والتي ستؤدّي إلى موته. على فرض أن هذا الطفيلي وكجزء من استراتجيّته للبقاء يتواجد في مكان محدّد خلف رقبة الطائر بحيث لايتمكن الطائر من اقتلاعه بمفرده ويحتاج مساعدة الآخرين. وعلى فرض أن أحد الطيور اكتشف طريقةً يتواصل فيها مع بقية أفراد السرب ويطلب مساعدتهم باقتلاع هذا الطفيلي، فهذا يعني أن الافراد القادرة على التواصل والتعاون فيما بينها ستستطيع تجاوز خطر الموت. كلما كان خطر الموت من هذا الطفيلي أشدّ كلّما ماتت الطيور التي لا تتعاون وانتشرت جينات الطيور المتعاونة(17).
هذه العلاقة نسمّيها إستراتجيّةٌ بقاء تطورية ESS، فهي تتطوّر مع تطوّر الكائنات. بدأ التواصل عند الإنسان كجزءٍ من إستراتجيةٍ التعاون بين البشر تمامًا، كمثال الطيور، وثم تطوّر هذا التواصل بسبب تطورّاتٍ عضويّةٍ متوازيةٍ تمثلت بتطوّر الجهاز العصبي والتنفّسي وغيرها من العوامل العضويّة التي أدّت إلى تطوّر اللّغة كما نعرفها اليوم (14).
يتوجّب النظر إلى اللّغة من هذا المنظور، الأسُود والشمبانزي والضباع والكلاب البريّة والفيلة جميعها كائناتٌ تتواصل بشكلٍ كبيرٍ من أجل بقائها ولو أنها توقفت عن التواصل فاحتمال موتها كبيرٌ جدًا، إذ أن أليّات عملها للحصول على الموارد هي أليات عملٍ جماعيّة. فتبادل المعلومات بشكلٍ مجّاني عن طريق التواصل يعود بالفائدة على الكائنات التي تمارس هذا التواصل. الآن تخيل إن كان هذا التواصل أساسي في عمليّة البحث عن الموارد. هذا يعني أن اصدار الاصوات لم يعد مجرّد خاصيةٍ مفيدةٍ أو جيّدةٍ وإنما خاصيّةٌ أساسيّةٌ في البقاء.
ولو نظرنا إلى الجنس البشري، نجد أن تطوّر جسم الإنسان قد طرأت عليه العديد من عمليات المقايضة trade-off حيث تم تحويل الموارد من القوة العضليّة نحو تطوّر الدماغ. طبعًا أنا أتحدث من منطلقٍ تطوّريٍّ بحت، وأقصد أن تطور الدماغ لدى الإنسان كان لابد له من تكلفةٍ بديلةٍ من أعضاء آخرى إذ أن كمّية الطاقة التي يستطيع الإنسان الحصول عليها هي كمّيةٌ محدّدة. الضعف العضلي تمت الإستعاضة عنه بجهازٍ عصبيٍّ يساعد الإنسان في الحصول على مواردٍ بشكلٍ فعّالٍ أكثر وذو جودةٍ حراريّة أكبر. على سبيل المثال، عوضًا عن استثمار الإنسان عشر ساعاتٍ يوميًّا في البحث عن الطعام أصبح بإمكان الإنسان استثمار عدد ساعات أقل وذلك لأنه تطوّر بطريقةٍ أعطته قدراتً إدراكيّة أكبر. أيضًا تحرير الجهاز التنفسي وتطور الحنجرة لإصدار الأصوات مكّنت هذه الرئيسيّات من تطوير وسيلةٍ جديدةٍ ألا وهي اللّغة.
التواصل لا يعني اللّغة لكن يعني نقل معلومةٍ بين نقطتين، وكلما زادت المعلومات التي يتوجب نقلها كلما زادت عملية التواصل تعقيدًا. اللّغة هي نتيجةٌ تطوّريّةٌ للعديد من الطفرات الجينيّة التي مكّنت مجموعةً من الرئيسيات على التواصل بشكلٍ يخدم احتياجاتها بشكلٍ أكبر. الحاجة البقائيّة الماسّة للتعاون بين البشر هي الدافع الأساسي والضاغط على الأجناس البشريّة التي لم تستطع التواصل بنفس الفعاليّة. جميع الكائنات تتواصل ضمن درجاتٍ متفاوتةٍ، لكن الإنسان يتميّز بتطوير خاصيةٍ للبقاء لا مثيل لها في الطبيعة وهي اللّغة.
ما هي اللّغة؟
اللّغة هي عبارةٌ عن وسيلة تواصل تنقل المعلومات بين نقطتين. التواصل اللّغوي يعتمد على نقل الصور الذهنيّة عن طريق إرسال رموزٍ متّفقٍ عليها بين الأطراف التي تمارس عملية التواصل. لنتخيل أن مجموعةً بشريّةً قديمةً تعيش في بيئةٍ أفريقيّةٍ تبحث عن الطعام. لنفترض أن أحد أفراد هذه المجموعة قد وجد مصدرٌغذائيٌّ مهمٌّ وأن الطعام بشكلٍ عامٍّ يُرمز له بصوت «هم هم». ولنفترض أيضًا أن الخطر له رمز «بع بع». قدرة الكائن البشري بالتواصل مع بقيّة أفراد مجموعته بأنه وجد مصدر طعامٍ وأنه يحتاج مساعدتهم في تأمينه، قد تكون معلومةً تحدّد مصير المجموعة بأكملها وخصوصًا ضمن بيئةٍ محدودة الموارد. الفائدة هنا تعود على الفرد الذي قام بالتواصل دون أي تكلفةٍ في الموارد بالنسبة له. على العكس ه
و سيجني فوائد إقتصادية بسبب هذا التواصل لأن أفراد قبيلته سيعملون جميعًا في الحصول على الطعام أو الحماية من الخطر.
«هم هم» و«بع بع»، هذين الصوتين كافيين لنقل معلوماتٍ مهمّةٍ بين أفراد المجموعة. مع ازدياد التفاصيل البقائيّة المهمّة للمجموعة تزداد الحاجة لابتكار أصواتٍ أكثر. هذه العلاقة بين أفراد المجموعة ليست جديدةً بين الأحياء ونجد أنواعٌ عديدةٌ شبيهةٌ لها، فمثلًا نجد أن طائر الغراب لديه نوعٌ من التواصل بين أفراد السرب بحيث يستطيع إخبارهم عن خطرٍ محدقٍ أو مورد غذائي أو زعقات تواصل مع كائنات آخرى مثل الدببة (للمزيد من المعلومات اقرأ مقال ذكاء الغراب). أيضًا نجد أن الدلفين يستخدم نوعًا من أنواع التواصل السوناري بحيث يطلق موجاتً صوتيّةً تحت الماء؛ تردّدات هذه الموجات تحمل معاني مختلفة، وتوجد أبحاثٌ جديدةٌ تشير إلى وجود تردّد صوتي يرمز لكل دلفين مما يدل على إستخدام الأسماء فيما بين هذه الدلافين. أيضًا إن دخلنا في مجال بحث الخداع عند الأحياء فهو نوعٌ من أنواع التواصل الكاذب لفائدةٍ اقتصاديّة أو بقائيّة سيجنيها الكائن من هذا التواصل. مثلًا عندما يمثل بعض أنواع الثدييات أنه ميت تحسبًا لانقضاض النسر عليه فهو نوعٌ من أنواع التواصل المخادع. العصافير تقوم باصدار زقزقة خاصة للتكاثر أو للتنبيه من خطر أو العثور على طعام والأسُود تطلق زئيرًا في حال الخطر أو اقتراب أسُودٍ منافسةٍ من مكان تواجد قطيعها، والنمل يتواصل عن طريق إصدار افرازاتٍ كميائيةٍ (فيرمونات) لكل منها رسالةٍ معيّنة.
الفكرة إذًا أن التواصل ليس حكرًا على الإنسان وإنما التواصل اللّغوي الصوتي المركّب الصادر عن الحنجرة هو ما يميز الإنسان. أنت عندما تتكلم تصدر اهتززات صوتيّةٍ في الهواء ترصدها الأذن وترسلها إلى الدماغ ليتم تحليلها على أساس أصوات. هذه الاصوات تحمل صورًا ذهنيةً محدّدةً بالنسبة للمرسل والمتلقي.
اللّغة من الناحية الدماغية
أدّت اللّغة إلى تطوير معارف الإنسان وبدأت المعرفة التراكميّة بحصد النتائج عن طريق إبتكار التكنولوجيا، والأدوات التي أدّت إلى اكتشافات أخرى مثل اكتشاف النار إنطلاقًا إلى الثورة الزراعيّة وترويض الكائنات مما أدّى إلى انتقال الإنسان من كائنٍ يعيش ضمن قطعان تعتمد على الصيد وقطف الثمار إلى فلّاحٍ يزرع ويطوّر الأدوات ويروّض الطبيعة. ولم يكن ليحدث هذا التطوّر الحضاري لولا قدرة الإنسان على تبادل المعلومات بشكلٍ سريعٍ وبسيطٍ ومن هنا ندخل إلى باب اللّغة من الناحية العصبيّة.
«أخطبوطٌ أحمرٌ مرّ فوق رأسك!»، هذه الجملة تحمل صورةً ذهنيّةً ماكنت لتتصوّرها في دماغك قبل أن ترصد الرموز التي قرأتها، لكن يتوجب التمييز بين اللّغة والكتابة. فالكتابة تكنولوجيا حديثةً جدًا طوّرها الجنس البشري لكي يحفظ المحتوى اللّغوي الذي يتم التواصل به، لكن أنت بحاجةٍ لأن تتعلم على هذه التكنولوجيا تمامًا كما تتعلم على استخدام الكومبيوتر. بينما اللّغة هي نتيجةٌ غريزيةٌ تطوريّةّ لها وصلاتها الدماغية الخاصة بها.
مع تطّور الأحياء وحاجتها لرسم قالبٍ فيزيائيٍّ لما حولها من ظواهر طبيعيّة بدأت قصّة تطوّر الدماغ. الدماغ ليس عضوًا واحدًا وإنما مجموعةٌ كبيرةٌ من الأعضاء العصبية التي تعمل بانسجام مع بعضها. دور هذه الأعضاء هو استقبال الرسائل الفيزيائيّة القادمة من خارج الجسم وتحليلها في سبيل رسم قالب افتراضي داخل الدماغ يكون أقرب ما يكون للعالم الخارجي.
تنتج اللغة عن قسمين في الدماغ قسم إرسال وقسم استقبال. القسم الأول اسمه باحة بروكا Broca area، وهو المسؤول عن صياغة اللّغة والنطق، ويقع في نصف الكرة المخيّة الأيسر، والقسم الثاني اسمه باحة فيرنيكة Wernicke area، وهو المسؤول عن فهم اللّغة، عن تحليل الإشارات اللّغوية وتحويلها إلى صورٍ ذهنيّة، وهو يقع أيضًا في نصف الكرة المخيّة الأيسر قريبًا من من الفص الصدغي (4)(13).
كيف عرفنا وظيفة هذه الباحات؟
اكتشفنا باحات اللّغة في الدماغ عندما أُصيبَ بعض البشر في مكان الرأس وفقدوا القدرة على النطق دون أن يفقدوا القدرة على الفهم أو العكس، وعند معاينة أدمغتهم تم تحديد قسمي اللّغة الأساسين.
يجدر بالذكر أن عملية اللّغة من الناحية العصبيّة لا يمكن اختزالها في هاتين الباحتين، إذ توجد أقسامٌ أخرى تربطها مع بعضها، وأقسام تقوم بتحليل سياق اللّغة العام، ولغة الجسد، ووتيرة الصوت، وغيرها من المحفّزات التي تؤثر في تحليل الرسائل اللغويّة القادمة.
هل نحن نفكّر باستخدام اللّغة أم أننا نستخدم اللّغة أثناء التفكير؟
من الصعب الإجابة على هذا السؤال بشكلٍ واضحٍ بسبب صعوبة إجراء تجاربٍ على البشر بحيث نحرمهم من تعلم اللّغة، وخصوصًا أن تعلّم اللّغة له نافذةٌ زمنيّةٌ محدّدةٌ لكي يتم تفعيله في الدماغ (من سنتين إلى ثمان سنوات). ولكن العلماء قاموا ببعض الأبحاث التي أيدت فرضيّة أن اللّغة ليست أساسيةٌ لعملية التفكير، مما يعني أننا قادرون على التفكير حتى وإن لم نستحوذ على خاصيّة التواصل اللّغوي.
الأطفال على سبيل المثال يستطيعون التفكير وبناء منطقٍ مبنيّ على السبب والمسبب وغيرها من القوالب المنطقيّة دون وجود العامل اللّغوي بعد. هذا يعني أن القواعد النحويّة اللغويّة مثل الفعل والفاعل والمفعول به وغيرها من المعايير اللغويّة موجودةٌ لدى الإنسان بغضّ النظرعمّا إذا كان قد تعلم أي من اللغات المتداولة أم لا.
نعرف أيضًا أن الإنسان يستطيع التفكير عن طريق الصور الذهنيّة (الصوريّة)، مثلًا إن نظرت إلى مجسمين مختلفين وسألت نفسك هل هما نفس الشكل فأنت لا تستخدم اللّغة في التفكير لحلّ هذه المشكلة وإنما تستخدم الحاسّة البصريّة مباشرةً وتصل إلى النتيجة دون الحاجة لاستخدام اللّغة.
مثال آخر، عندما يرسل الدماغ أي معلومةٍ إلى قسم الذاكرة البعيدة الأمد فهو لا يرسل هذه المعلومة على شكل كلماتٍ لغويّةٍ وإنما معنى لهذه الكلمات بغضّ النظر كيف يأتي ترتيبها أو نوعها. مثلًا أنت قضيت بضعة دقائق تقرأ هذا المقال ولكن إن سألتك عن ما فهمته منه حتى الآن فأنت لن تكرّر المحتوى الفكري تمامًا كما قرأته، وإنما ستسرد الأفكار العامّة بطريقةٍ مختلفةٍ قد تعطي نفس النتيجة. هذا يدلّ على أن الفكرة بشكلها الاساسي ليست لغويةً وأن اللغة عبارةٌ عن وسليةٍ لاستقدام هذه الفكرة. فالأفكار التي وصلتك خلال قراءة المقال أصبحت موجودةً في دماغك على شكلٍ مبسّطٍ أكثر من اللّغة. أصبحت محتوىً معرفيًا بغضّ النظر عن القالب اللّغوي المستخدم. هي وصلتك عن طريق اللّغة، لكنها لم تُخزّن على شكل كلماتٍ وإنما على شكل خلاصاتٍ فكريّة (9)(8).
يحفظ الإنسان حوالي 35 ألف كلمةٍ وسطيًا لكن هذه الكلمات تحتاج علاقاتٌ منطقيّةٌ تربطها مع بعضها، فنجد أن هذه الألاف من الكلمات تستطيع التعبير عن ملايين الأفكار حسب طريقة ربطها المنطقي. ومن هنا نذهب إلى محور تطور اللّغة من الناحية (القواعديّة).
اللغة وتطورها الحضاري
تتألف اللغة الصوتيّة من ثلاثة أقسامٍ رئيسيّة:
1- أصواتٌ مختلفةّ عن بعضها نسمّيها الحروف.
2- تشكيلاتٌ من هذه الأصوات بحيث ترمز هذه المجموعات الصوتيّة لأشياءٍ وأفكارٍ من المحيط الفيزيائي.
3- علاقاتٌ تربط المجموعات الصوتيّة (الكلمات) ضمن منطق ينتج عنه معاني زمنيّة ومكانيّة نسميها قواعد لغويّة. مثلًا الفعل يستوجب وجود فاعل في زمكان ما.
إذًا الآليات الدماغيّة التي تسمح بوجود اللغة هي ألياتٌ غريزيةٌ لكن كيف تطوّرت اللّغة ككلماتٍ وقواعد؟ لماذا يوجد اليوم أكثر من 6500 لغة؟(12)
عملية التطوّر اللّغوي أشبه بعملية التطوّر الحيوي وهي أيضًا تخضع لضغوطاتٍ إنتقائيةٍ وينقرض منها الكثير. فنحن نعتبر أنّ لدينا ألاف اللّغات على الكرة الأرضية، لكن في الواقع هذا التوصيف غير صحيحٍ، وهو توصيفٌ تصنيفي بحت. فلايوجد لدينا أي معيارٍ حقيقيٍّ نقول من خلاله أن هذه اللّغة تبدأ من هذه النقطة وتنتهي عند هذه النقطة. مثلًا، ليس واضحًا أين تبدأ وأين تنتهي اللغة الإنكليزية، وهذا يعود لحقيقةٍ أساسيةٍ وهي أن جميع اللغات الموجودة على الكرة الأرضية هي فروعٌ من لغةٍ بشريةٍ واحدة.
انطلقت الحضارة الإنسانيّة من القارّة الإفريقيّة ومعها انطلقت اللّغات وبدأت بالإنتشار. الانتشار والفواصل الجغرافيّة جعلا من تطوّر اللّغات عاملًا يميزها عن بعضها بعضًا، لكن في الواقع إن تعمَّقنا في جذور اللّغات سنجد تقاطعاتٌ كثيرةٌ جدًا بين مفرداتها وقواعدها مع تغيّراتٍ متأثرةٍ بعوامل ثقافيّةٍ وجغرافيّةٍ تتعلق بمكان تطوّر اللّغة.
يوجد عدة فروعٍ لغويةٍ عالميةٍ ومنها الهنديّة أوروبيّة Indo-European والإفريقيّة الآسيويّة Afro-Asiatic ، وهذان الفرعان هما اللذان يتضمنان اللّغات مثل الإنكليزيّة والعربيّة والصينيّة وغيرها من اللّغات المنتشرة اليوم. مثلًا، اللّغة العربيّة هي نتاج تطوّر لغاتٍ إفريقيّةٍ آسيويّةٍ ضمن فرع اللّغة الساميّة الأم (*).
_______________________________
يُعتقد أن اللّغة الساميّة الأم انقرضت منذ حوالي 4000 سنة قبل التاريخ الحديث (BCE). يوجد عدّة فروعٍ انبثقت عن اللّغة الساميّة الأم ومنها العبريّة والعربيّة والأمهريّة والتغرينيّة التي تستخدم في إثيوبيا والأراميّة التي اُستخدِمت في كتابة الوثائق الدينيّة المرتبطة بالديانة اليهوديّة (التلموديّة) والمسيحيّة.
في جميع الأحوال بحثُ اللغات هو بحثٌ مختلفٌ وأعمق من أن أستطيع تغطيته هنا ضمن هذا المقال، لكن الجدير بالذكر أن اللغات الساميّة تتميّز بخاصيّة جذور الكلمات، مثلًا في اللّغة العربيّة يوجد جذورٌ للكلمات تتألف عادة من ثلاثة أحرف. تجميع هذه الأحرف بطرقٍ مختلفةٍ وأصواتٍ مختلفةٍ يعطي الكثير من المعاني. مثل الجذر (كتب)، يُشتق منه كلماتٌ عدّة: كتَبَ، كتاب، كاتِب، مكتوب، مكتبة، كاتِبة، كُتيّب، مكتب، كتابة، إلخ.. وهذه الخاصيّة اللّغوية مميزة للّغات المشتقّة من الساميّة الأم(6)(11).
لماذا تنقرض اللّغات؟
تنقرض اللّغات لأسبابٍ عديدةٍ ولكن في الأغلب هي تنقرض بتطوّرها إلى لغاتٍ جديدةٍ وتصبح اللّغة الأصليّة غير متداولة. من أهم أسباب انقراض اللّغات هو عدم وجود محتوىً معرفيٍّ تستطيع هذه اللغة التعبير عنه يواكب الاحتياجات الحضاريّة، مثلًا لو أن اللّغة العربيّة لم تكن مرتبطةً مع لغة الديانة الإسلاميّة لوجدنا نشوء لهجاتٍ مشتقةٍ من العربيّة- هذا ما يحصل اليوم- وهذه اللّهجات مع الوقت ستصبح لغاتً مستقلّة، إلا أن لغة القرآن وبسبب المحتوى المعرفيّ
المرتبط معها ستبقى كما هي «نسميها اللّغة العربيّة اليوم»، لكنها في الواقع لغةٌ كانت متداولةً قبل 1400 سنةٍ وبقيت كما هي بسبب القرآن. لغة القرآن غير قادرةٍ على مواكبة التطوّر الحضاري لهذا يجد أبناء أجيال اليوم صعوبةٌ في فهمها لأنها لغةٌ جامدةٌ غير قابلةٍ للتطوير، وقد تطوّرت اللّغة المتداولة في ذاك الوقت إلى اللهجات العربيّة المتعارف عليها اليوم. فاللّهجة المصريّة واللّهجة السوريّة واللّهجة العراقيّة واللّهجة السعوديّة واللّهجة المغربيّة وغيرها من اللّهجات العربية هي في الواقع لغاتٌ مشتّقةٌ من اللّغة العربيّة القرآنيّة ومتلاقحةٌ مع لغاتٍ أخرى من محيطها الجغرافي ونستطيع التعامل معها على أساس لغاتٍ مستقلة.
القواعد اللّغوية قواعٌد غريزيّةٌ تختلف عن القواعد النحويّة المرتبطة مع اللّغة بشكلها الأكاديمي. في الكثير من الأحيان نجد أن القواعد النحويّة ليست منطقيّةً أصلًا لكن قوانينها تتطوّر لأسبابٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وليس بالضرورة بناءً على منطقٍ محدّد (11).
دماغ الإنسان مجهّز غريزيًّا لتعلم أي لغةٍ، وعملية تعلّم اللّغة في مرحلة الطفولة هي أشبه بأن تكون عمليّة تنصيب برنامج كمبيوتر. مثلًا تعلّم لغةٍ مثل اللّغة العربيّة هو عبارةٌ عن قالبٍ لغويّ يبني على القالب الغريزيّ الموجود في الدماغ. لكن هذا لا يمنع الطفل من التواصل بشكلٍ فعّالٍ قبل أن يتعلم جميع الأصول النحويّة، مما يدل على أن القواعد اللغويّة هي قواعدٌ غريزيةٌ يتم البناء عليها فيما بعد وتطويرها ضمن قالب النحو التابع لكل لغة.
عندما يتحدث الأطفال، يستطيعون أن يتواصلوا دون تعلّم القواعد النحويّة الصحيحة. من الممكن أن يقول الطفل: «مصطفى بدّي مي Mustafa Want Water»، هذا قالبٌ منطقيّ غريزيّ بغض النظر عن اللّغة المستخدمة. اللّغة تأتي وتبني على هذا القالب وتستخدمه بناءً على قواعدها. مثلًا من القواعد اللغوية الغريزية، إن بدأنا جملة بـ «إما» فيجب أن نجد «أو» في مكان ما في الجملة، وذلك لأننا نقوم بعملية مقارنةٍ بين شيئين، وهذه القاعدة هي قاعدةٌ غريزيّةٌ يقوم الإنسان بوضع رموزٍ لغويّةٍ للتعبير عنها (13).
عند الحديث عن فعل ما يتوجب علينا وضع زمنٍ ومكانٍ للفعل حتى وإن كان التعبير ضمنيّ أي أنه حدث سابقًا أو سيحدث مستقبلًا أو أنه يحدث الآن، ولكن القاعدة هي قاعدةٌ غريزيّةٌ بعيدةٌ عن نوع اللّغة المستخدمة، وذلك لأن القاعدة تعكس قالب فيزيائيّ مرتبط بما يرصده البشر، إذ أن المكان والزمان عنصران أساسيّان في توصيف أي حركة.
أيضًا قد نجد اختلافاتٌ نحويّةٌ فيما يتعلق بالضمائر أو ترتيب الفعل والفاعل والمفعول به الـ object subject verb ، لكن لا توجد طريقةٌ للتعبير دون هذه العناصر، ويختلف ترتيبهم بين اللّغات دون التأثير على الغريزة اللغويّة المنطقيّة، إذ أنه بإمكان الإنسان أن يتعلّم لغاتٌ تحمل قواعدَ نحويّةٍ مختلفةٍ بالنسبة لترتيب هذه العناصر دون أن يجد صعوبة في الانتقال بين هذه اللّغات.
بعض الأمثلة: سنرمز للفعل Verb بالرمز V، وللفاعل Subject بالرمز S، وللمفعول به Object بالرمز O. ولنأخذ أمثلة من عدّة لغات:
في العربيّة:
كتب مصطفى مقالًا.
V + S + O = OSV
في الانجليزيّة:
Mustafa Wrote an Article
مصطفى كتب مقالًا.
S + V + O = OVS
في اليابانيّة:
ムスタファは記事を書きました。 (مصطفى وا كيجي وو كاكيماشِتا).
(مصطفى مقالًا كتب).
S + O + V = VOS
إذا نظرنا إلى القواعدَ النحويّة في كل اللّغات سنجد أنها قواعدٌ غير منطقيّةٍ لكنها تطوّرت لأسبابٍ اجتماعيةٍ وليس لأسبابٍ غريزيّة. مثلًا في اللّغة الإنكليزية توجد كلماتٌ لا تستطيع جمعها مثل Fish، لماذا لا نستطيع جمعها، ليس لأنه لا توجد أسماك في الطبيعة، ولكن لأن هذه القاعدة تطوّرت لأسبابٍ معيّنةٍ بهذه الطريقة، لكن هذه الأسباب ليست أسبابًا غريزيةً وإنما أسبابٌ اجتماعيةٌ مرتبطةٌ بقصّة تطوّر هذه اللّغة (11) . إنّ قصّة تطوّر اللّغات على الكرة الأرضيّة قصّةٌ غنيّةٌ جدًا، تحكي الكثير عن تاريخ تطوّر الحضارة البشريّة. إذ يوجد اليوم أكثر من 6500 لغةٍ وهذه اللّغات دائمة التلاقح فتنشأ عنها لغاتٌ جديدةٌ وتنقرض لغاتٌ قديمة (14).
تعلّم اللّغة في الدماغ
توجد نافذةٌ زمنيةٌ محدّدة لتعلّم اللّغة وذلك بسبب أليّات تطور الدماغ. الحدّ الأقصى لاكتساب وفهم اللّغة هو حوالي سن الثامنة حيث تصبح العمليّة صعبةً جدًا بعد مرور هذه النافذة الزمنيّة، وتطور الدماغ دون الاستحواذ على خاصّية اللّغة. يوجد مثالان لأطفال لم يتعلّموا أي لغةٍ ضمن النافذة الزمنيّة للاستحواذ اللّغوي، وهما لطفلٍ من فرنسا عاش في القرن الثامن عشر اسمه فيكتور، فهذا الطفل كان يظهر لبعض المزارعين في فرنسا ليأخذ بعض الطعام ويهرب في الليل إلى أن تم القبض عليه، ثم تمّت محاولة تعليمه اللّغة الفرنسيّة لكنه لم يستطع التعلّم، وكان من الواضح انحدار قدراته العقليّة. القصّة الثانية هي لطفلةٍ عاشت في غرفةٍ لدى والديها في كاليفورنيا في تسعينيات القرن الماضي دون أن تتعلم أي لغةٍ، وعند اكتشاف حالتها حاول العلماء فحصها وتعليمها اللّغة إلا أن محاولتهم باءت بالفشل، ولم تستطع الفتاة من تطوير خاصيّة اللّغة لديها. كان من الواضح أيضًا انحدار مستواها العقلي، والذي لم يكن واضحًا أنه مرتبطٌ بفقدان خاصّية اللّغة، أم أنه نتيجة عدم تفاعلها بالشكل الصحيح في مرحلة الطفولة. لأسبابٍ أخلاقيةٍ لا يمكننا القيام بتجاربٍ على بشرٍ لم يتعلموا اللّغة؛ لكن يوجد لدينا بعض الحوادث المأساويّة التي حصلت والتي استطعنا من خلالها استخلاص بعض هذه النتائج الهامّة (8).
التواصل عند الأحياء
يوجد عدّة أفلامٍ وثائقيةٍ عن تعلم الشمبانزي والغوريلّا لخاصيّة اللّغة واستحواذهم على عشرات الكلمات، وقدرتهم على وضعها ضمن سياقٍ منطقيٍّ ينقل المعلومات التي لديهم للآخرين. المشكلة لدى هذه الكائنات هو عدم تطوّر حنجرتها بشكلٍ يسمح لها بإطلاق زفيرٍ متقطّعٍ وبالتالي ليس لديها مرونةٌ في النطق مثل الإنسان.
توجد تجربة لبونوبو «أقرب القردة العليا للإنسان» اسمه «كانزي Kanzi»، استطاع هذا البونوبو تعلّم أكثر من 300 كلمةٍ والقدرة على ربطها بشكلٍ منطقيّ (5). وإذا اعتبرنا أن اللّغة هي آليات التواصل ونقل الأفكار بين دماغين بشكلٍ عام، عندها تصبح اللّغة خاصيّةً منتشرةً لدى العديد من الكائنات وبأشكالٍ متنوّعةٍ أكثر، نذكر فيما يلي بعض الأمثلة:
الغراب: يستطيع نقل المعرفة المتراكمة بين الأجيال ولديه أكثر من نوعٍ من النعقات، لكلّ نعقة منها رسالةٌ محدّدةٌ مختلفة. مثلًا لديه نعقة للتنبيه على وجود قطّة، ونعقةٌ مخصّصة لوجود إنسان، وواحدة أخرى للتنبيه عن وجود نسرٍ أو أحد الطيور الجارحة. هذه النعقات لها نوعان، فمنها العام والذي عادة ما نسمعه »عاق عاق عاق»، ومنها الخاص والذي أشبه بصوت الحمام. يستخدم الغراب الصوت الثاني في التواصل ضمن المجموعة، ويستطيع نقل العديد من المعلومات من خلال وسائله في التواصل. هذا يعني أنه قادرٌ على نقل المعلومات بين الأجيال وهذه من أولى علامات تطوّر الثقافة والأدوات(19)(20).
الدلفين: لكل دلفينٍ اسم يميّزه عن غيره ويستطيع تمييز نفسه وقادر على التواصل المركّب. وهو قادرٌ أيضًا على تعلم لغة الإشارة والتميزالمنطقي اللغوي، مثل: أحضر س إلى ع أو أحضر ع إلى س. على فرض لدينا كرة مائية ولدينا لعبة مائية. الدلفين قادر على التمييز اللغوي إذا ما طلبنا منه احضار الكرة إلى اللعبة المائية أو العكس.
الببغاء الإفريقي الرمادي: لديه القدرة على ربط ثلاث كلماتٍ ضمن سياقٍ منطقيٍّ ومجموعةٌ لابأس بها من المفردات التي يستخدمها للحصول على محفّزات إيجابيّة (1).
الفيل: ذكاء الفيل وقدرته على إدراك ذاته يجعله كائنًا مرشّحًا لتطوير وسائل تواصلٍ، خصوصًا أنه يعيش ضمن قطعان، ولدينا دلائلٌ تشير إلى أن المعرفة التراكمية لدى الفيل تنتقل عبر الأجيال.
بما يتعلق بالتواصل، فإن التواصل ببساطةٍ هو عمليّة نقل المعلومات بين طرفين، وبهذه الصورة العامّة فإن التواصل عمليّةٌ منتشرةٌ بين جميع الكائنات لكن تختلف درجة تعقيدها وقدرة صاحبها على استثمارها. مثلًا عندما ينفخ الضفدع جسده فهذه عمليّة تواصلٍ مع أعدائه بأن حجمه أكبر من الواقع، وعندما تُطلق النباتات مركّباتٌ كيميائيةٌ في الهواء فهي ترسل رسائل مختلفةٍ لكائنات مختلفةٍ بناءً على الاستراتيجية الحاصلة، وعندما يغير الأخطبوط من لونه فهذه عملية تواصل يموه من خلالها الأخطبوط ويشوّه المعلومات المتعّلقة بمكان تواجده.
أخيرًا أود أن أتطرّق لموضوع التواصل المخادع أو الكذب لما له من أهمّيةٍ تطوريّةٍ لدى جميع الأحياء. الكذب هو عمليّة تواصلٍ تهدف إلى نقل معلوماتٍ مغلوطةٍ بشكلٍ إراديٍّ من طرف إلى آخر بهدف مردودٍ إيجابيٍّ أو تذليل مردودٍ سلبيّ. ويعتبر الخداع من أهم استراتيجيات البقاء في الطبيعة. مثلًا صغار الحيوانات عليها بالبكاء والإيحاء بأنها بحاجةٍ للطعام بشكلٍ مبالغٍ فيه لكي تحصل على أكبر كمّيةٍ ممكنةٍ منه. طفل الإنسان يبكي غريزيًا في حال كان جائعًا، وهو يبالغ في البكاء لكي تستجيب والدته له بشكلٍ أسرع. إذا الطفل القادر على خداع أمه أكثر سيحصل على موارد أكثر والأم التي تستطيع رصد خداع أبنائها أكثر ستستطيع توزيع مواردها عليهم بشكلٍ أفضلٍ مما يزيد فرص انتشار جيناتها عبر الأجيال.
الخداع جزءٌ أساسيٌّ من عملية التواصل بين الحيوانات، والحيوانات التي تجيد التواصل المخادع تستطيع أن تؤمّن موارد أكثر وتحمي أنفسها من الإفتراس.
الملخص:
إنّ اللّغة البشريّة من أعقد وسائل التواصل التي يعرفها العلم، و ذلك لما تتضمنه من قدرةٍ على إرسال صورٍ ذهنيّةٍ بين الكائنات. فنحن نشاهد في أفلام الخيال العلمي قدراتٍ مثل التخاطر (التواصل الدماغي)، و نتسائل حول تطوّر مثل هذه الخاصيّة لدى البشر مستقبلًا. ولكن في الواقع، نحن نمارس التخاطر طوال الوقت عندما نزفر ببعض الموجات الصوتيّة، التي تُترجم إلى صورٍ ذهنيّة. فالتخاطر لابد أن يُبنى على وسيلة نقلٍ فيزيائيّة، كموجاتٍ صوتيّةٍ أو كهرومغناطيسيّة. وفي النهاية، نعيش حياتنا في نظامٍ كونيٍّ زاخرٍ بالمعلومات، وكلُّ كائنٍ قادرٍ على تبادل هذه المعلومات يزيد من فرص بقائه، ويقترب أكثر من فهم مكانه ضمن هذا الوجود.
المراجع:
- The Editors of AAA Science NetLinks, Parrot Learning, 2015.
- Erin Wayman, Becoming Human: The Evolution of Walking Upright, smithsonian.com, August 6, 2012.
- The Editors of Encyclopedia Britannica, anterior speech area; convolution of Broca July 31, 2015.
- The Editors of Encyclopedia Britannica, posterior speech area; Wernicke area, July 31, 2015.
- Paul Raffaele, Speaking Bonobo, Smithsonian Magazine, November, 2006.
- Brian Bishop, A History of the Arabic Language, Department of Linguistics at Brigham Young University, April 24, 1998.
- John Huehnergard, Proto-Semitic Language & Culture; Semitic Roots, The University of Texas at Austin, 2011.
- Sasha Alsanian, Researchers Still Learning from Romania’s Orphans, NPR (National Public Radio), 16 September 2006.
- Gretchen McCulloch, What Happens if a Child Is Never Exposed to Language? slate.com, July 16, 2014.
- Rebecca Saxe, The Forbidden Experiment What can we learn from the wild child?, Boston Review, July 05, 2006.
- John McWhorter, Ph.D. Story of Human Language, the great Courses 2015.
- Stephen R. Anderson, How many languages are there in the world? , Linguistic Society of America, 2015.
- The University of Maryland’s Langscape project, available free online, provides interactive maps and linguistic data for 7,000 languages around the world.
- Steven Pinker. The Language Instinct: How the Mind Creates Language. Publisher: William Morrow & Company; 1st edition, 1 February 1994.
- Brockman, H. J., A. Grafen & R. Dawkins 1979 Evolutionary stable nesting strategy in a digger wasp. J. Theor. Biol. 77: 473-496.
- Douglas, Angela E. Symbiotic Interactions. New York: Oxford University Press, 1994.
- Sarkis K. Mazmanian & Dennis L. Kasper, The love-hate relationship between bacterial polysaccharides and the host immune system. Nature Reviews Immunology 6, 849-858 (November 2006).
- Richard Dawkins 1978, The selfish gene Oxford Unversity Press.
- Steven Pinker, The Blank Slate: The Modern Denial of Human Nature. Penguin. p 257.
- SUSAN MILIUS, When Birds Go to Town, Science News, August 12, 2011.
- Garrison Frost, Things you may or may not know about crows, National Audubon Society, July 02, 201
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق