الاثنين، 11 يناير 2016

الحرية هنا و الآن


محمد أبلوش  أنفاس نت


تعتبر كلمة الحرية من بين الكلمات الأكثر إستعمالا اليوم ، في واقعنا خصوصا العربي . و التي تكون ملتصقة في غالب الأحيان مع الديمقراطية و التعددية  والإستقلالية. سنركز على مفهوم الحرية بكونه شعارا يرفعه الفرد في فضاءات متعدة : الاسرة ، العمل ، الدولة ...و بالتالي فشعار الحرية يخفي أهدافا متابينة .
      سنتوقف عند مفهوم الحرية كمادة للتحليل الفلسفي و الاجتماعي ، كمطلب ضروري موجود في الدولة ومفقود في الواقع . إن الإنطلاق من هذا المفهوم يستدعي منا استيعاب الأليات التي تجعله يغيب و يحضر في الواقع السياسي و الاجتماعي .لذلك فالمطالبة بالحرية هناك ما  يبرره. فالحرية يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق هدف معين : حرية التعبير حرية الاحتجاج ، حرية المعتقد ، الحريات الفردية ...يوجد إذن دافع كمبرر للمطالبة بالحرية .فإشكال الحرية يكمن في مدى  إمكانية تحقيق الصورة التي تشغلها الحرية في ذهن من يطالب بها . فسؤال ما الحرية  ؟ غير مجدي و غير نافع .فالأحرى بنا القول ، كيف تتصور الحرية الآن ؟ بحيث سيكون الجواب  حريتي الآن هي أن أفعل و أعبر عن  ما أريده في إطار القانون دون أن اشعر بقيد أو أحس بأن هناك من يضايقني أو يسلب لي حريتي. ذلك هو المبرر الفعلي لرفع شعار " الحرية هنا و الآن ".

      لتأطير هذا البحث من الضروري أن ننطلق من السؤال الفلسفي الكلاسيكي  ، ما هي الحرية ؟ لننتهي إلى السؤال المعاصر الذي فرض نفسه . ماذا تعني لك الحرية ؟ أو كيف يمكن أن تكون حرا ؟ ما هي الحرية بالنسبة للإنسان كإنسان ؟ و هل الحرية مجرد موقف وجودي أم أنها قيد إلزامي قانوني؟
     إن الحرية لم تعد ذاك المطلب المجرد المثالي الفضفاض. بل أصبحت ثقافة و سلوكا يوميا يؤطر كل مواقفنا  الوجودية .فالتأمل الفلسفي في مفهوم الحرية يبين لنا كيف يمكن أن نتمثل الحرية على مستوى الذهن .و بعدها نبحث عن طرق إبداعية  من أجل إسقاط التمثل الفلسفي للحرية في الواقع .إن التوضيح الفلسفي  يثبت مدى قدرتنا على تمثل الحرية .حينما نعي حق الوعي أن تحليل المفاهيم هو تنوير وتقويم المنطق نكون قد قطعنا شوطا بعيدا نحو التقريب بين الفكر و العمل .أو نحو الرفع من مردودية نشاطنا اليومي ، حيث إن الكلمات تجسم مجالات مفهومية تشير إلى تجارب والتجارب لا تترجم إلى الواقع الاجتماعي إلا إذا تم التعبير عنها بطرق مستساغة لدى الجميع ." ([1])
  فالمواطن  يعيش الحرية إما كتحرر و إما كعبودية . فالأنظمة السياسية في العالم العربي و المغرب الكبير  ، تحاول أن تقيد حرية المواطنين في المجالات العامة و الخاصة . مثال حرية المعتقد  التي تبقى نقطة سوداء أو خط أحمر داخل دساتير هذه الدول .فالقيد الذي يطال الحرية  داخل هذه المجتمعات ، يستمد قوته من الدين . فمن خلال الدين وُضِعت الحدود و رسمت المحرمات .لذلك هناك من يقارن الحرية بمجموع الحقوق المخولة له . و يتمثل التحرر في إشكالية رفع الدولة لحضرها على الممنوعات و هي حريات بالأصل و التي قننتها الدولة بتشريعات دينية و قانونية. لذا فنضال المواطن داخل هذه الدولة يتجسد في تحرير حرياته من الحضر و المنع .و هنا يتقاطع ما هو ديني مع ما هو مدني ، كما قال ديوستفسكي " إذا لم يكن الله فكل شيء مباح " ([2]) أي إذا لم يحضر الدين و معه الأخلاق في حياة الناس فكل شيء سيصبح مباحا و ستنتهي الحدود التي كانت تقيد حرية الإنسان .
      نجد الأنظمة السياسية تستغل الدين كمنبع  للتشريع و المنع ، ومن ثمة تسعى إلى ضبط سلوك الفرد في المجتمع و تراقبه و تضيق عليه  بتشريعاتها عندما تمنعه في التصرف بحرية في جسده أو محيطه أو عمله ...فمثلا في المغرب المشرع يمنع إحتجاج العامل  على رب عمله و قيد فعل الإحتجاج بفصل 288 من القانون الجنائي . و هنا تكمن خطورة  المس بحريات المواطن العامل في الاحتجاج ، مما يجعل النظام السياسي يبرر الاستغلال و الاضطهاد الذي يفرضه رب العمل على العامل . و بسب هذا المنع يصبح العامل كائنا خاضعا و خائفا يستبطن المنع كفعل مشروع و مقبول . مثال أخر داخل الدولة المغربية نجد المشرع منع العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج و جرمها بجنحة فساد ووضع لها عقوبة حبسية و غرامة مالية .هذا المنع و هذا الإكراه البدني هو وصاية على جسد الإنسان هو حِجر على عقله. إنه إعتداء على حرية المواطن الذي يرغب  في التصرف  في جسده و حياته الخاصة بحرية. و هذا المنع لا يستمد مشروعيته إلا من خلال مفاهيم الحلال و الحرام والتي تعتبر تطبيقا للتشريع الإسلامي.
     فالأصل أن الإنسان كائن  عاقل و مسؤول له الحق في التصرف في جسده كما يشاء إذا كان ذلك التصرف لا يمس حريات الأخرين . من خلال هذين المثالين نستنتج أن الحرية ليست شعارا مجردا أو شعارا مثاليا غير واقعي ، بل هي شعار ومفهوم وتجربة و موقف وجودي  يعبر  عنه الفرد بالطريقة التي ترضيه . و ما يبرر قولنا ان القيود التي تلحق بالحرية داخل الأنظمة الاستبدادية بالعالم العربي  و المغرب الكبير ، تعود إلى الدين أو إلى تمثل الحرية داخل الدين كمنظومة أخلاقية و تشريعية . هو ما قاله المؤرخ المغربي الشهير أحمد الناصري " و إعلم ان هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة  قطعا لانها تستلزم إسقاط حقوق لله و حقوق الوالدين و حقوق الإنسانية رأسا ...و إعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه و بينها رسول الله لأمته و حررها الفقهاء في باب الحِجْر من كتبهم. " ([3]) 
     من خلال هذا النص يتبين لنا أن مفهوم الحرية لم يكن واضحا إلا داخل الثقافة الغربية الأوربية، و لا وجود له في الثقافة العربية الإسلامية التقليدية. فالمجتمعات الإسلامية لم تكن تستوعب مفهوم الحرية لأنه أصلا غائب كمفهوم و كمعنى .كل ما هو موجود داخل هذه الثقافة التقليدية هو مفاهيم من قبل : الحِجر ، الوصاية ، الحدود ، الحرام ، الحلال ...معناه ربط الوجود الإنساني بالوجود الإلهي ، أي أن الله هو من يحدد أفق التصرف في الجسد داخل حيز المجال الأرضي .
     فإشكال الحرية يدور حول الفرد و علاقته بالغير سواء كان هذا الغير فردا آخر يتحكم فيه من الخارج أو قوة خارجية كنظام سياسي أو جماعة دينية...هكذا سنجد أن حرية الفرد حبيسة مجالين : مجال خارجي يحاول أن ينظم حرية الأفراد كما هو الحال مع الأنظمة السياسية ، ومجال داخلي يتعلق بالفرد ذاته و ما يحمله من حمولة فكرية و إيديولوجية و أخلاقية  و نفسية و دينية ...إذ يمكن أن نجد الفرد داخل مجتمعاتنا التقليدية مسلوب الحرية من تلقاء ذاته بفعل موروثه الثقافي الذي ترسخ له في بنياته الذهنية و العقلية . بحيث  انتقل الموروث من ثقافة عابرة إلى إعتقاد راسخ .
       لذلك فالمواطن في حاجة إلى تحريره من قمع الأنظمة السياسية و تحريره أيضا ، من واقع ذهني يتعايش معه و يرسم له حدود وهمية. فكل القيود التي يوجد فيها الأفراد الآن في واقع مجتمعاتنا التقليدية  تتلخص في مجال القيود النفسية و الميتافيزيقية التي يبررها الفكر الديني .في حين أن مطالب الأفراد – المواطنين -تسعى إلى الحرية في مجالها السياسي و الاجتماعي . كما عمقها الفكر الليبيرالي منذ عصر الانوار إلى اليوم .
      لذا نجد الأطروحات الليبرالية تربط  الحرية بميدان الدولة أي بالنظام السياسي  بثقافة القانون و ليس بالسلطة الدينية . ويعد دفاع اسبنوزا عن الحرية الدينية أو على الأصح عن الحرية الفكرية ضد السلطة الدينية ، جزءا من دفاعه عن حرية الرأي بوجه عام . ([4]) " هكذا وضع اسبنوزا مبدأ عاما  يكون من واجب الدولة بمقتضاه أن تتعهد عقول رعاياها و تحكمهم بالإقناع لا بالإكراه . يتضح لنا أن اسبنوزا نجح في نصر الإتجاه المتحرر على الإتجاه المتعصب .و أثبت أن المصالح الحقيقية للدولة لا تتأثر بتلك الحرية على الإطلاق  بل على العكس من ذلك تصان بالحرية . يقول اسبنوزا " وأكرر القول إن الغاية من تأسيس الدولة ليس تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء ، بل إن المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم كي تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام ، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرّا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع ، بحيث يتعاملون معا دون ظلم أو إجحاف. فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة. " ([5])
      يبين اسبنوزا أن مجال التفكير و مجال القول – طالما كان صادرا عن العقل لا الانفعال – ينبغي أن تسوده الحرية التامة  شريطة أن لا تتنافى مع القانون . أما قمع و كبث حرية الفكر فلن ينتج لنا إلا النفاق و الغش يضيف فؤاد زكرياء " كان سعي اسبنوزا ، إلى كفالة الحريات للجميع ، في واقع الأمر تعبيراً عن رغبة في  إتاحة كل الفرص أمام المواهب الحقيقة للظهور ، و هذا الهدف في رأيه هو الغاية الحقيقية للتنظيم الإجتماعي الذي يتخذ شكل الدولة ." ([6])
         لقد اصبحت مسالة الحرية هنا و الآن ضرورية  ، لأن الصراع حولها جعلها تواجه جبهتين : جبهة الذات التي انغلقت  على نفسها و اصبحت تعيد إنتاج نفسها عبر سلسلة من الذوات الأخرى التي تنتجها الثقافة ، أي إعادة إنتاج نفس الكائنات المسلوبة  و المقهورة. و جبهة ثانية  هي الحصن المنيع الذي يستولي عليه الحاكم في المجتمعات العربية التقليدية  و هو الدين الذي  به يقمع و يتسلط على الشعب باسم الشعب نفسه .و قد بين عبد الكبير الخطيبي ذلك في قوله " في واقع الأمر نجد أن الطبقات العربية الحاكمة علمانية و تستعمل الدين كسلاح إيديولوجي ، لأن الشعب مؤمن . و هذا يقلق العقلانيين و اليساريين العرب فكيف يمكن النضال ضد هذا الاستغلال دون أن يكون الشعب ضدهم . حينئذ يصمتون في انتظار أن تغير البنية التحتية البنية الفوقية ." ([7])
      لذا نجد معركة الحرية محصورة بين المفكرين و الحقوقيين الذين يدافعون عن ربط الحرية بالدولة المدنية. يبين عبد الله العروي أنه "غالبا ما قيل لنا بأن الحرية الفردية مفهوم  غربي على وجه الخصوص ، و أن اللاغربي  يبدأ برفضه ببساطة لأن لديه صعوبة في فهمه.لأن الحرية المدنية  تقتضي إصلاحات اجتماعية عميقة تغير مظهر المؤسسات الوطنية  فإن اللاغربي سيكون مدفوعا بطبيعة إلى أن يقاوم الحداثة .. " ([8]) لقد بزغت حريات فردية اصطدمت بالحريات العامة داخل الدول العربية في حين ذهب الغرب إلى تجاوز هذا الإصدام بوضع تشريعات تسير مع أهواء المواطنين .هنا في العالم العربي نتوقف عند التقاطع  الحاصل بين ما هو قانوني بما هو أخلاقي و الحق الفردي في الإختلاف  بالحق في الوحدة المجتمعية ، التي تسعى إلى تكريس نسق أخلاقي واحد عام . هنا يكمن المشكل الذي تحدث عنه الخطيبي و الموجود بين اللاهوت ووفكر الإختلاف .
    يسعى التصور اللاهوتي إلى فرض نسق الواحد ، كلنا مؤمنين و مسلمين. و مفهوم الاختلاف يشير إلى التعددية و الإختلاف و التنوع . فنحن في حاجة إلى قانون ينطلق من مبدأ الإختلاف و التعدد وليس من الوحدة التي تكرسها الأنظمة اللاهوتية. لأنه لا ينبغي لهذه التقيدات الموجودة  في اللاهوت العربي و في قانونه و ثقافته أن تكون دريعة للتضيق على الممارسة  الديمقراطية و إلغاء الفرد في الإختلاف و الإختيار و الإنتماء إلى أكثر من هوية و احدة . "إن القدرة على ضمان استيعاب خصوصيات الأفراد و الجماعات الثقافية و الدينية ، و فتح المجال لتطورها الخاص في إطار التطور العام و المشترك للدولة هي معيار نجاح الممارسة الديمقراطية الحرة. "([9])
     إن الحرية "هنا و الآن " حلم شباب اليوم الذي خَفت لديه وطأة الاعتقاد بقداسة الإنتماء الواحدة و الهوية الواحدة في عالمنا العربي و بالمغرب الكبير ، كما تقلصت ذهنية القبول بوصاية الجماعة و الأمة و الدولة على حرية الفرد و المواطن .فمن الضروري البحث عن صيغ التوافق و التواصل و تنزيل فلسفة العيش معا. التي ستعيد أهمية الفرد في معركة الحرية و التحرر.
       نعتقد أن من لا يخجل من هجائه للحرية ، و إعلائه من شأن العبودية هو إنسان يفتقد إلى العقل لأن كل انسان عاقل فهو حربالفطرة ، لذلك لابد أن نتشبث أكثر برهان الحرية الآن ، لأننا نتوسم فيه ربحا كبيراً لذواتنا و مستقبلنا. فبالقدر الذي يجب أن نناضل من أجل الحرية بالقدر نفسه ننتبه إلى خطورة تسخير الحرية و تحويل شعارها إلى غطاء لممارسات مضادة للحرية و المساواة و العدالة . كما وقع في بعض البلدان العربية إبان ثورات الربيع الديمقراطي . حيث انتفض الشعب و رفع شعار الحرية و العدالة و انتهى  به المطاف إلى العسكرة و الاستبداد أوالتطرف .
      إن كل الاحتجاجات و الثورات التي بدأت منذ سنة 2011 إلى حدود اليوم لم تنتج لنا ثمار الحرية مع العلم أنها رفعت شعار الحرية و الديمقراطية ، لأن المشكلة الأساسية هي كيفية تفعيل الحرية بطريقة تجعلها تؤثر في واقع المواطنين. مادامت الدولة هي المجال السياسي المناسب التي تثمر فيه الحرية أو تذبل ، فلا بد أن تكون هناك مؤشرات واقعية تبين للمواطن أنه حر في جسده و في فكره ، و في انتقاد أساليب حكم الأنظمة السياسية التي تحكمه دون أي يتعرض للقمع او الإساءة.
     ما نزال نجد الدولة تمثل الخصام و الخصمُ و الحَكَمُ، فهي التي تحدد قواعد اللعبة و تمسك بكل أوراقها ، فتحدد الرابح من الخاسر أي هي من يجسد إرادة الشعب و الممثل للحرية العامة . أو كما قال عبد الله العروي " كلما اتسع مفهوم الدولة ضاق مجال الحرية "([10])  كما نجد حنا أرندت تتفق معه في قولها " متى ظهرت السياسة أختفت الحرية ، أو كلما إزداد مقدار السياسة قل مقدار الحرية و العكس ." ([11])
       فأزمة الحرية  لا يمكن تصورها إلا داخل الدولة و حلها لا يمكن تصوره كذلك إلا داخل الدولة   " فالسياسة هي الإطار المناسب و الأداة الفعالة  لتوسيع الحريات العامة و تعزيزها من خلال المؤسسات و القوانين و الدساتير و الآليات التي تفعلها و تضمنها و تصونها وتطورها كالبرلمان و الأحزاب و السلطة القضائية ." ([12]) كما نجد العروي يذكرنا أن التساؤل حول الحرية هو في العمق تساؤل حول الدولة و المجتمع بشرط أن لا ننسى أن الحرية تتعلق أساسا و في أخر المطاف بالفرد "([13])  إن الحرية اليوم  لم تعد مطلبا سياسيا بل أصبحت مطلبا دستوريا واجتماعيا و اقتصاديا . إنها روح الإنسان و كرامته و وجوده ، لذلك فلابد أن تكون هنا و الآن .
    هكذا ستنتصر الحرية الفردية كقيمة عليا في مجتمعاتنا. ستنتصر بالشعور بالفردانية بما تقتضيه  من تعدد في الآراء و اختلاف في المواقف و الأهواء و الإيديولوجيات . و ما تتطلبه من قلق و تفكيك و تساؤل بصدد اصنام و مسلمات الثقافة التقليدية و المنطلقات و المعتقدات و تنافس و تقدم في مجال الخلق و الإبداع المرتبط بالمسؤولية .
   إن مطلب الحرية هنا و الآن لم يعد يستوعب فكرة الذات الجماعية الصلبة التي لا تحتمل سوى هوية واحدة بوصفها أفضل هوية أخرجت للناس . بل إن هذا المطلب الآني يحمل في جوفه تصور ات متعددة  مبدأها الإختلاف المتعدد و ليس الإختلاف المتوحش بتعبير الخطيبي ، ذات منفلتة تنتقل من جديد إلى جديد عبر تحويل الخطوط الحمراء التي رسمها اللاهوت إلى معاير مشتركة متسامحة خلاقة تنبع من ذات عاقلة تحمل شعار " أيها الإنسان أنت ما تريد " . فالحرية بدون أفق جديد هي خوف من الحرية نفسها و خوف من خلخلة القيم بتعبير نيتشه. خوف من الزمن الجديد الذي سيضيء الوجود بشعلة الحرية  و يجعل من الذات أو "الأنا" سيد نفسه ." و الحال أن الحرية إبداع و لا يمكنها أن تُبدع إلا في جو من التوتر و الصراع و المواجهة  و التجاوز لما هو حاصل و مكتسب ، من أجل تطويره حتى تحصل متعة خلق الوجود. ألم يقل نيتشه بأن الإنسان الحر هو إنسان محارب ؟ " ([14])

 تركيب :
تتحقق الحرية في فضاء وحيد هو السياسة أي داخل الدولة ، و السياسة لا تختزل في أنظمة أو أحكام و لكن في السلوكيات اليومية التي ينسجها الأفراد بأقوالهم و أفعالهم  و جوهر هذه العملية يكمن في عفوية الأفعال . تلك التي تفتح عالما جديدا باستمرار خاضعا لمبدأ الصيرورة.
    إن الحرية ليست هي اللامبالاة ، بل هي التي تجعل المرء يحقق ذاته و يجسد القيمة في الفعل و في التجربة .و بالتالي يكون مساهما في تغيير  عالمه الشخصي أولا ، و العالم  المحيط به ثانيا. إنها الحرية قدر وجودي و شأن ذاتي  داخلي ، و ليس أمرا غيريا خارجيا. إنها امر يعنينا كما قال سارتر علينا واجب معين هو أن نفعل كل ما نشاء وفق قواعد العيش المشترك داخل فضاء مقنن و معقلن .


المصادر والمراجع المعتمدة :

عبد الله العروي، مفهوم الحرية  ، المركز  الثقافي  العربي  ، دار التنوير للطباعة و النشر ط 3 سنة 1984
عبد الله العروي، أوراق ، المركز الثقافي العربي  ط 2 سنة 1996
أحمد الناصري  ، الإستقصاء ، الدار البيضاء  ، سنة 1945 ، جزء 9
فؤاد زكرياء  ، اسبنوزا ، دار التنوع لطبيعة و النشر  ، سنة 2008
-  باروخ اسبينوزا رسالة في اللاهوت و السياسية ، ترجمة حسن حنفي ، دار الطليعة بيروت ، الطبعة 4  ، سنة 1997
عبد الكبير الخطيبي   ،النقد المزدوج ، دار العودة بيروت ، طبعة 1 ، 1981
Laroui  Abdelah , Islamisme , Modernisme , Libéralisme, Casablanca ,Center Culturele arabe 1997
محمد المصباحي   ،رهانات الحرية في العالم العربي مجلة رهانات الفلسفة العربية المعاصرة مطبعة الأمنية ، طبعة 2010

[1] -  عبد الله العروي، مفهوم الحرية  ، المركز  الثقافي  العربي  ، دار التنوير للطباعة و النشر ط 3 سنة 1984 ص 7  
[2] -  عبد الله العروي، أوراق ، المركز الثقافي العربي  ط 2 سنة 1996 ص35  
[3] -  أحمد الناصري  ، الإستقصاء ، الدار البيضاء  ، سنة 1945 ، جزء 9 ص 114- 115  
[4] -  فؤاد زكرياء  ، اسبنوزا ، دار التنوع لطبيعة و النشر  ، سنة 2008 ، ص 224
[5] -  باروخ اسبينوزا رسالة في اللاهوت و السياسية ، ترجمة حسن حنفي ، دار الطليعة بيروت ، الطبعة 4  ، سنة 1997 ، ص 446
[6] - فؤاد زكرياء  ، اسبنوزا ، ص 226
[7] - عبد الكبير الخطيبي   ،النقد المزدوج ، دار العودة بيروت ، طبعة 1 ، 1981 ص 33- 34
[8] - Laroui  Abdelah , Islamisme , Modernisme , Libéralisme, Casablanca ,Center Culturele arabe 1997 p 41  
[9] - محمد المصباحي   ،رهانات الحرية في العالم العربي مجلة رهانات الفلسفة العربية المعاصرة مطبعة الأمنية ، طبعة 2010 ،  ص113
[10] - عبد الله العروي   ،مفهوم الحرية  ، ،  ص23
[11] - محمد المصباحي   ،المرجع نفسه ،  ص112
[12] - محمد المصباحي   ،المرجع نفسه ،  ص112
[13] - عبد الله العروي ، مفهوم الحرية ، المرجع نفسه ،  ص107
[14] - محمد المصباحي ، المرجع نفسه ،  ص117

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق