الجمعة، 1 يناير 2016

المغاربة بين قرنين (20-21) : التحولات الثقافية الكبرى

المغاربة بين قرنين (20-21) : التحولات الثقافية الكبرى ـ حميد مجدي

عن أنفاس نت


التحولات الثقافية التي حدثت في المغرب ارتبطت بمحددين اثنين: التطورات الفكرية و السياسية و التقنية في العالم ككل و التي كان لها دور كبير في توجيه و تغيير نمط العيش و التفكير في المغرب و في البلاد العربية. ثم تطور و تفاعل العلاقات الثقافية و الاجتماعية و التاريخية و السياسية الخاصة بالبلد و التي أفرزت تحولات أنتجت مساهمة ما في تبادل التأثير مع التحولات الدولية، الغربية منها على الخصوص.
لقد عرف النصف الثاني من القرن الماضي و بداية هذا القرن ثورات متعددة المناحي، أحدثت تحولات سريعة و عميقة أثرت بشكل قوي على البشر و على كل أوجه الحياة. و هي تحولات لم يعرف لها التاريخ الإنساني مثيلا في القوة و السرعة و التأثير: و يمكن إدراجها في ثلاث أصول عامة متقاطعة و مترابطة فيما بينها:

1-    تحول سريع و أعمى
تطور العالم تقنيا بشكل سريع و غير مسبوق، و دخلت البشرية عصرا صناعيا لا ينفك عن التجدد. و بعد أن كانت تصبو- البشرية - إلى التحكم في الطبيعة و العمل على أن يعيش الناس بسعادة و رفاه، انقلبت الأمور على غير ما كان متوقعا. استقلت التقنية بالمدى الذي تتحكم فيه و تصل إليه. و أصبح "المخترعون و المتحكمون" في زمامها من علماء و ساسة و عسكر، مستلبين بها و مندهشين من اكتشافاتها و سحرها و تطورها الذي لا يمكن لجمه.  يقومون بما يفرضه عليهم التطور التقني في ارتباط مع التطور التجاري و الحروب و العولمة. لا شيء يستطيع أن يحد من الرغبة الجامحة في اكتشاف جديد و التعرف عليه و تجربته مهما كان مدمرا. و لا شيء يستطيع أن يحد التقنية من الاشتغال و من التطور و من الاكتساح. التقنية لا روح لها و لا إحساس. و العولمة فتحت الأبواب التي كانت موصدة على مصراعيها و هدمت الحدود و القوانين و الأخلاق المعرقلة لمجال تحركها، و أضحى العالم كله حتى أصغر قوة مجالا للعلم و التجربة و المراقبة و التحكم و الفوضى.
تحررت التقنية إلى حد كبير من قيودها . و نحن مقبلون على اكتشافات و اختراعات عجيبة ستغير من معالم كل شيء.  دخلت كل بيت و غيرت جل المفاهيم المرتبطة بالإنسان في علاقته بنفسه و في علاقته بأسرته و في علاقته بمحيطه و في علاقته بالدولة و بالعالم الخارجي الممتد أفقيا و عموديا من بيته إلى جميع ألأركان.
هنا حدثت مفارقة تجب ملاحظتها بانتباه. و هي أن الإنسان – و بشكل أشد عندنا- مع التحولات التي لم يكن يتوقعها لازال "يفكر" بالطريقة القديمة و كأن شيئا من هذه التطورات السريعة و العميقة لم تحدث. و قد أسس ذلك لفارق هائل بين التبدل و التطور السريع جدا للأحداث و التقنيات و الأشياء و بين بطء في التفكير و الفهم و التحليل و المواكبة. و هو أمر خلق العديد من المشاكل النفسية و التناقضات الفكرية و الحوادث الاجتماعية. مما سيحيل إلى تغيير جذري لمفهوم الإنسان الذي سيفرض عليه أن يصبح شيئا آخر غير ما هو. عليه أن يتماهى و يتكيف من جديد مع التحولات القائمة. و هو تغيير يتطلب وقتا و سيخلف ضحايا كثيرين جدا.
و هو واقع مزدوج الصعوبة بالنسبة لساكنة دول الجنوب – كالمغرب- التي لم تساهم كثيرا في هذا التطور. لم تكد تتخلص من أزمة و معاناة الفارق الحضاري و الثقافي و التقني بينها و بين دول الغرب و الشمال، حتى وجدت نفسها مقحمة في عالم أكثر اختلافا و سرعة و عنفا و غرابة و يبقى تأثيرها في مساره ضئيل جدا.
و تجدر الإشارة أن التغيير الذي سيصبح عليه جنس الإنسان، يتعلق بمسألة تكيفه مع عملية التحول التقني المستمرة و التي لا يستطيع أحد أن يتكهن بأي مدى ستسير عليه و إلى أي مدى ستسير إليه، أو متى ستستقر أو تخفف من سرعتها و وفق أية ظروف !؟ بمعنى أن التكيف لن يكون فقط في التعاطي مع الآلة الجديدة و ثقافتها و لكن أيضا و أساسا مع تغيرها و تطورها المستمر و السريع. الاستعداد لعملية التجدد التقني التي لا تنتهي.
التطور و التحولات التي حصلت منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تحولات "عمياء" لأنها لم تكن بحساب و إرادة. لا أحد توقع ما ستكون عليه و متى، التطورات الحاصلة. بل هي ناقضت بكثير ما توقعه و كان يشتغل الفاعلون، ساسة و مفكرون لأجله ( الأنواريون- الحداثيون- الوضعيون- الليبراليون- الماركسيون...إلخ)
لم يعد "العلم و العقل الغربي" أساسا للتطور الإنساني. و لم يعد بإمكانهما حل معضلات الإنسان الكبرى كما توقعها فلاسفة الأنوار و الفلسفة الحديثة و الوضعيون و غيرهم. الأسس التي بنيت عليها فلسفاتهم و علومهم تهدمت و ظهر أنها مجرد وهم. بل قد غطت بعض هذه الفلسفات على جرائم إنسانية مهولة و شرعنت نظامنا العالمي. و هو نظام قائم على التمييز و الاستغلال و الاستعمار و الحروب و الإبادة و الأوبئة و المجاعات و الفوارق الاجتماعية الصادمة و تلويث البيئة و الفوضى...إلخ.
القرن العشرون الذي كرس جهده للتطور و الدعاية للحرية و الديمقراطية على كافة الأوجه، هو القرن الذي داس عليهما أكثر. باسم الحرية و الديمقراطية تم التسلط على الشعوب و باسمهما اندلعت حروب رهيبة و استعملت قنابل فتاكة و باسمهما أبيدت أقوام و باسمهما يراقب الناس في كل مكان و يراقب الناس في كل شيء: كل حركة و كل سكون. باسمهما قتل الملايين و شرد الملايين. إن الحرية التي تم التغني بها ليست سوى سجن مركب يضيق يوما بعد يوم. الديمقراطية بهذا المعنى أكبر كذبة و أعظم خدعة في القرن العشرين.
الدول التي أنتجت مفاهيم حقوق الإنسان و الديمقراطية و أسست لها و ناضلت و ضحت من أجلها و تبنتها بالكامل هي التي قامت و لا تزال تقوم بأفظع "الجرائم ضد الإنسانية": أمريكا، فرنسا، إنجلترا، ألمانيا...إلخ

تطور الإنسان على حساب الإنسان ذاته. كثر عدده ( 3 مليار نسمة قبل 50 سنة تقريبا في حين وصل العدد اليوم إلى 7,2 مليار نسمة حسب إحصائيات الأمم المتحدة )و تقوت شوكته و إمكانياته و تمكن من الكرة الأرضية، و لكن المفارقة تكمن في أن كل ذلك تم على حساب سعادته و رفاهه. إنه يتعس بقدر ما يتطور.
إن الفكر الحديث و المعاصر لم يكونا صائبين عندما جردا الإنسان من طبيعته / حقيقته و أسسا لإنسان غير الإنسان. و قد آمنت الإنسانية بسبب ذلك بأوهام و أصنام تحطمت على أرض الواقع، و هنا يكمن التحول الأساسي الثاني في دائرة التحولات الكبرى نهاية القرن العشرين و بداية هذا القرن.

2-    أفول المقدس و القيم و البنيات التقليدية و تحولها:

من الأمور التي عرفت تحولا عميقا و أحدثت صدمة في المغرب و المجتمعات العربية، على الخصوص، و لا يزال وقعها يرن في الرؤوس و تستتبع ردود فعل حادة و متباينة هي مسألة "المقدس". المقدس عند العرب هو الطاهر و المبارك و النقي و هو نقيض للنجاسة: الأرض المقدسة هي الأرض المطهرة. و المقدس إحالة على شيء منزه يستوجب التعظيم و التقدير و يحرم دنسه أو انتهاك حرمته بأي شكل من الأشكال. و يمكن أن نميز في هذا الصدد، المقدس المرتبط بالأساس الديني و المقدس المرتبط بالعادات و التقاليد. و يبدو أن كلاهما عرفا تحولا صادما، كما أشرت. فلم يعد الارتباط مع الزمان المقدس و المكان المقدس و الأشخاص المقدسين أو الأشياء المقدسة بنفس العلاقة و القوة، سواء تعلق الأمر بالأعياد الدينية أو برمضان أو بالعلاقة بالقبور أو بالطقوس و الشرائع، و لم يعد الملوك و الأولياء و الشيوخ و السادة يتمتعون بالهيبة والعظمة و القدسية نفسها.
لا يستدعي الأمر كثيرا من التأمل لملاحظة عمق التغير الذي طرأ و يمس عادات التمظهر الخارجي للمغاربة: نوعية لباس المرأة و الرجل وطريقة حلق الشعر و تشبه النساء بالرجال و الرجال بالنساء و الدعوة علانية لتسنين و شرعنة العلاقة الجنسية خارج دائرة الزواج و الزواج المثلي...إلخ، و هو أمر كان مرفوضا و يحيل صاحبه إلى الجنون أو الإقصاء التام أو السجن أو التصفية.
و قد مست التحولات بالأساس أيضا ما يلي:
    نمط مؤسسة الزواج و العائلة:
عرفت مؤسسة الزواج - و هي مؤسسة أساسية في بناء النسيج الاجتماعي- تحولا كبيرا في المغرب و في البلاد العربية على السواء. أصبحت العلاقات الزوجية تتم على أساس الحب. و هو ما لم يكن كحافز أساسي للزواج فيما قبل. بل كان يعد الحب بين الرجل و المرأة عيبا و قلة حياء و يلحق العار بالعائلة و قد يؤدي إلى قتل المرأة من طرف عائلتها. الأساس الذي كان يحكم علاقة الزواج في المجتمع المغربي و العربي هو حمل الإسم و الإرث و الحمية. الزواج مؤسسة تلد بصددها المرأة للزوج ابنا يرث تركة العائلة و يحمل اسمها. فالإبن هو ضامن استمرارية العائلة و اسمها و شرفها. و كثرة الأولاد هو الذي يقوي عروة العائلة/ الإسم، و يدود عنها الأخطار. و يتم الزواج غالبا بين أفراد الأسرة الواحدة أو القبيلة بغرض حفظ ثروتها و ممتلكاتها و تقوية شوكتها و شد أواصرها.
كان الزواج أيضا تدبير قبلي تقايض على أساسه الفتاة/الزوجة، مقابل مصلحة ما: زيادة في الثروة و الممتلكات أو مصاهرة أحد أشراف المجتمع لحصول العائلة على وضع اعتباري معين. لم يكن الزواج مبنيا على الحب و لم يكن الحب في كل الديانات التوحيدية أساسا أو شرطا أو هدفا لمؤسسة الزواج.
 ثم إن المرأة التي تتزوج تعرف أنها ترهن نفسها و وجودها بالكامل لهذا البناء الأسري. تنتقل بشكل نهائي من ولاية الأب إلى ولاية الزوج. لا مجال لها للتطليق. العادات و الديانات  لا تنظران إلى الطلاق بعين القبول و الرضا. الزواج عقد غير قابل للانحلال. لم تسن قوانين تشرع الطلاق و تسمح به في العديد من البلدان الشمالية ذات الغالبية الكاثوليكية إلا في أواخر القرن العشرين كما هو الأمر على سبيل المثال في: الأرجنتين سنة 1987، إرلاندا سنة 1996، الشيلي سنة 2004، مالطا سنة 2011. و الطلاق في حكم الشريعة الإسلامية بغيض عند الله و مسطرة التطليق في المغرب وفي عدد من الدول الإسلامية كانت معقدة جدا و لم يكن بالإمكان تصور أن تكون العصمة في يد المرأة كذلك .
هذا بشكل عام ما كان عليه البناء الأسري للعائلة و ضمان استمراره.
لم يعد الزواج بداية من النصف الثاني من القرن العشرين كما كان عليه من قبل، بل تطور في اتجاه استقلالية المرأة و تمكينها من التطليق و كذلك تطور في اتجاه الزواج بالحب. تتزوج المرأة و الرجل عن شغف، لأنهما يحبان و يعشقان بعضهما بعضا. و هذا ما يفسر كثرة الطلاق الناجم عن اندثار السبب الأساس للزواج. يعني أفول الحب بين الزوجين. فبمجرد ما يغيب الإحساس بالحب و الذي هو السبب الرئيسي للارتباط بينهما تطفو مشاكل أخرى على السطح و تنتهي العلاقة الزوجية. و هذا من ضمن التحولات المؤثرة و الأساسية.
العلاقات الاجتماعية في المغرب بدأت تضيق و تتغير، من القبيلة إلى الدوار إلى الحي إلى العائلة الكبيرة إلى العائلة الصغيرة: الأم و الأب والأبناء فقط، دون حاجة للوالدين أو الإخوة. تغير مفهوم العائلة وتغيرت العلاقة التي تربط الآباء و الأبناء.
العائلات المغربية أصبحت منعزلة و متقوقعة على ذاتها و حاضنة لأبنائها بشكل غير مسبوق. رب العائلة قد يفعل أي شيء من أجل أبناءه و لكن لا يفعل الشيء نفسه لأجل الجماعة أو الوطن إلا إذا كان مضطرا أو على سبيل الترفيه. تنافس كبير من أجل تعليم و تطبيب و تشغيل الأبناء و لا يهم أي شيء آخر. علاقات العائلة مع الجيران و الأصدقاء و الأسرة الكبيرة و زملاء العمل مختصرة جدا أو تكاد تكون منعدمة. و كل إضافة أو خدمة أو تضامن أو اجتماع بصدد قضية مشتركة مع هؤلاء يعد اليوم عند العائلة المغربية مضيعة للجهد و الوقت و الإمكانيات، و حرمانا "لحقوق" الأطفال الذين يجب أن يتركز كل الجهد و كل الوقت لخدمتهم دون غيرهم !
و هذا من ضمن التفسيرات و الأسباب أيضا على عدم انخراط المغاربة بشكل عام في العمل السياسي أو النقابي. يتركون الأمور تسير كيفما اتفق و دونما تدخل. لأن هدفهم منحصر و متقوقع بشكل ضيق جدا و محصور مع عائلتهم الصغيرة. الوطن مفهوم لا يعنيهم و لا يفكرون فيه. يتدبرون حياتهم اليومية بمعزل عن التفكير في الوطن. كيف نشأ و كيف يسير و كيف ينمو و ما هي الأخطار المحدقة به...إلخ ؟ إنه أمر لا يهمهم كثيرا. ممارستهم للعمل السياسي تقوم على أساس التفاعل مع ما يطرحه حكام البلد و كفى. فذلك أسهل و أريح و أسلم و لا يكلفهم و عائلاتهم كثيرا !
تحسب العائلة المغربية نفسها - خصوصا تلك التي يمكن أن نحيل مكوناتها على الطبقة الوسطى: أطباء- أساتذة- مهندسون- محامون- موظفو القطاع العام- أطر القطاع الخاص- القضاة...إلخ- ذكية و عليمة و متحررة فيما تقوم به و مفيدة للوطن و للأبناء و سعيدة أيضا ! و لكن الحقيقة أنها مملة و قاسية و باردة، تفتقد إلى الحب و إلى الحياة و فارغة و لا تنتج غير أبناء منغلقين و منكفئين على ذواتهم و مغفلين و فارغين و مقلدين و قلقين و غرباء، يصدون العالم الخارجي مهما كان ممتعا و جميلا و لا يبدعون و لا ينخرطون فيه أبدا.
في السابق كان ارتباط الأطفال بسوق الشغل قويا جدا. يساعد الطفل أباه ضرورة أو يشتغل متعلما لدى معلم حرفي، بدء من سنته السابعة أو الثامنة من العمر. كان عليه أن يجد ما يسد به رمق جوعه و يساعد عائلته الفقيرة و يتدرب على مواجهة مصاعب الحياة و حاجياته الضرورية في المستقبل. يتم تهيئته لما سيأتي و تعليمه كيف يحيى بدون حماية أهل. عليه مواجهة الشارع بحمولته و تعقيداته و صعوبته و غناه وجها لوجه. و كان عدد الأطفال لدى العائلة المغربية كبيرا مقارنة مع عددهم اليوم. و بالتالي لابد من العمل لمحاربة الجوع. و لم يكن فقدان أحدهم يشكل مأساة كبيرة مقارنة مع المأساة التي يحدثها ذلك في الوقت الراهن.
لم يعد الأمر كما كان. العلاقة اليوم بالأبناء علاقة "عاطفية جدا". لا يبرح الإبن بيت العائلة أبدا و هو صغير. غالبية الأطفال ترتاد المدرسة و لا تشتغل. و خلال هذه الفترة فإن الوالدين يتكفلان بهم و يحميانهم من العالم الخارجي و مخاطر البالغين المتشعبة. يجب انتظار سنوات طويلة، ثلث العمر تقريبا – إلى ما بعد العشرين من العمر– ليغادر الإبن البيت و يساهم في الإنتاج و يتواجه مع الشارع و يكتشفه. لم يعد الأطفال يتعلمون أصول الحياة الحقيقية من الشارع. و لكن تعليمهم يتم عبر المدارس المغلقة و المحصنة و المنفصلة تماما عن العالم الخارجي. و قد أنتج ترويض المدرسة للأطفال انفصاما قويا و مؤثرا في شخصياتهم و غربة و تفككا مع الثقافة و العائلة و المجتمع.
    خسوف العقل و العلم و الإنسان عند الغرب
المفارقة التي أصبحنا نعيش قلقها أيضا كمغاربة هو - و لأننا تابعون و مقلدون لا غير - : لم تكد مجتمعاتنا تتشبع بعد بسمو و أهمية العقل و العلم و الإنسان كذات و وعي و إرادة، كما شرعها الغربيون، حتى بدأ هؤلاء أنفسهم يناقضونها و بدأت هذه المفاهيم الكبرى تخسف عندهم و تتراجع. خصوصا و أنها لم تلبي الحاجيات الكبرى للمعرفة و عيش الإنسان و آماله.
و بالتالي مركزية الإنسان و قدسية العقل و سلطته العليا في كل مفارق الفكر و الحياة، آخذة في النكوص. لم تعد المبادئ الكبرى لحقوق الإنسان أو الليبرالية أو الاشتراكية أو الديمقراطية أو العقل أو العلم أو الحقيقة...إلخ، تستأثر باهتمام المفكرين و تشكل مرجعهم الأساس و هدفهم الأسمى كما كان عليه الأمر من قبل. و هو ما سيربك و يؤثر لا محالة في المخيلة و التفكير المغربيين و العربيين و ما سيتم استغلاله من طرف الإيديولوجيات المحافظة التي لا علاقة لها لا بالعقل و لا بالحداثة و لا بما بعدهما.
    دخول الإنارة و تعميمها أثر على مفاصل حياة المغاربة
  لعب تعميم الإنارة في المغرب – خصوصا في العالم القروي - دورا كبيرا في تغيير بنية العمل و الاقتصاد و التقاليد و العائلة. لم يعد العالم القروي مظلما و لم تعد علاقته بالنجوم و الطبيعة حميما. كما تغيرت علاقته بالزمن. لم يعد الفلاح نفسه و لا العائلة نفسها.
أكبر سلم في التغيير بالعالم القروي بالمغرب هو كهربته. تعميم الكهرباء غير سلم الأولويات عند الساكنة. فالكهرباء يفترض بالضرورة اقتناء مواد تقنية كهربائية، كالثلاجة و التلفزيون..إلخ. و قد تسببت هذه المشتريات الصناعية، الاستهلاكية المرتبطة بالكهرباء أزمة حقيقية مادية لدى القرويين - و أغلبيتهم فقراء-. فليس لهم من مورد غير القليل من المحصول الزراعي و الدواجن، يعملون على تصريفه بشكل ما خلال السنة. و نعلم أن الأزمة المالية للعائلة تشكل حافزا مهما للشقاق و الخصام و التوتر.
كان المغاربة يعيشون بما لديهم من إمكانيات. و لما اضطروا إلى اقتناء آليات الاستهلاك الجديدة عبر القروض و غيرها من "التسهيلات"، اختل التوازن لدى العائلة بشكل درامي. و احتدت الفوارق الاجتماعية. حيث سيحتاج المواطن المغربي إلى نقود و موارد زائدة- و هو ما لا يحصل عليه - لصرفها دوريا على القروض و آليات الاستهلاك الجديدة. مما أدخل جميع الناس في دورة الاقتصاد الرأسمالي الجديد و أصبحوا هدفا أساسيا له أيضا.
مع دخول التلفزيون و الهاتف و الأنترنيت لم يعد ممكنا أن تنام العائلة القروية باكرا و لا أن تفيق باكرا كما كان لتبدأ العمل في المزرعة. لم يعد يكتفي القروي بالأخبار المتعلقة بقريته فقط. مع التلفزيون و الهاتف و الأنترنيت  تتدفق أخبار البلد و العالم ككل. و أصبح القرويون هدفا لأصحاب القرار السياسي و الاقتصادي و الإعلامي. أصبح اختراق العالم القروي أكثر سهولة من أي وقت مضى.
لقد تغيرت علاقة القروي - بشكل عميق و سريع- مع نفسه و مع تقاليده و عائلته و قريته و تغيرت علاقته بالطبيعة و بالعمل. و أصبح أكثر استلابا و كسلا و غربة.
ليس صحيحا أن العمل غير متوافر بالعالم القروي و لكن طبيعة العمل و مفهوم العمل تغير مع تعميم الكهرباء. لم يعد بالإمكان أن تجد بسهولة اليوم "عمالا فلاحيين". و يمكن أن تلاحظ ندرتهم في دورة الحرث و الحصاد و جني الزيتون. عدد كبير من المزارع في العالم القروي تبور الآن في المغرب، ليس بسبب الجفاف، بل الأرض لم تعد تجد من يفلحها و يتابع دورتها بالكامل.
    تحول مظاهر الفرجة و الاحتفالات و الأعراس بالمغرب
الأعراس تحولت طبيعتها أيضا لدى المغاربة. لم يعد الفقراء عندنا يحتفلون جماعة و بما يتوفر لديهم من أصالة و إمكانيات، بل يقلدون الأغنياء في احتفالاتهم الضجرة. و هو ما يجلب عليهم كل المصاعب. جل هذه الأعراس تبدأ بالمشاكل و تخلف وراءها مشاكل تثقل كاهل العروسين و عائلتهما.
كما أن الفرجة أصبحت مرتبطة أكثر بالتطور التقني و التجارة و تشكيل ذوق جماهيري إشهاري. يوجد نوع من عدم التناغم و التوازي بين التقنية الصناعية الغربية - وسائل العزف الصناعية - و الطرب المغربي: غناء، عزف، رقص، زجل...إلخ. هناك فارق معين بينهما. حمولة الآلة الغربية و تاريخيتها تختلف عن حمولة الغناء و الرقص و الطرب المغربي.

    البناء و التعمير
البناء و التعمير تغير أيضا.
من المنازل الطينية التي كانت مفتوحة بشكل كبير على الفضاء الخارجي، بحيث تستطيع أن تنظر إلى المسكن كله بمجرد عبور باب المنزل الذي يتوفر على باحة و على قدر عال من الهواء، و على حيطان متسعة تمنع ولوج الحرارة و البرودة فتكون درجة حرارة البيوت في الصيف و في الشتاء معتدلة، دون حاجة إلى مكيفات هوائية. هذا بالإضافة إلى أن بيوت الطين هذه تعمر أكثر و لا يستعمل في بناءها مواد بترولية كثيرة كما هو الشأن اليوم بالنسبة لمعدات البناء.
إلى منازل مغلقة تمنع عنك رؤية فضاء البيت عند دخولك من الباب الخارجي. مما يحيل إلى خصوصية و انعزال كبيرين. و ليس فقط مع العالم الخارجي و لكن يعيش أفراد العائلة معزولين أيضا بعضهم عن بعض. لكل بيته و مجال رفاهه و انشغاله الخاص.  حيطان المنازل من الآجور و أقل سمكا بكثير، مما يضطر معه الساكن لزيادة تكاليف العيش باقتناء مكيفات هوائية صناعية و مصاريف شهرية للاستهلاك الكهربائي. و هي بيوت مختلفة تتشبه ببيوت و عمارات الغرب، دون أن تتوفر على كل مقوماتها و دون أن توافق التطور الذهني و الاجتماعي و الثقافي للعائلة المغربية. لملاحظة ذلك يمكن أن أعطي مثالا بالعمارات التي تبنى في المدن الكبرى دون توفير مكان و آليات لغسيل الثياب و تنشيفها كما هو الحال في أوروبا. حيث تجد على شرفات جل البيوت المغربية أو نوافذها ملابس غسيل منتشرة.
    تحول في مفهوم الفقر
أغلبية المغاربة كانوا فقراء و كانوا يتعايشون و يتوفرون على حد أدنى من أسباب العيش. لم تكن هناك فوارق طبقية أو فئوية مستفزة.
حتى الأغنياء لا يجدون ما يميزهم عن الفقراء. لا يوجد ما يشعرهم كثيرا بالاختلاف و الأهمية. لم تكن هناك فيلات و لا سيارات فارهة و لا فنادق 5 نجوم و لا مدارس أو مستشفيات خاصة و لا أسواق السوبر ماركت و لا مكيفات هوائية و لم يكونوا محتاجين البتة لإدارة عمومية تقوم على التمييز بينهم و بين الفقراء. تسكن الغالبية، فقراء و أغنياء نفس الضاحية أو الدوار و يحصلون على مقتنياتهم من نفس السوق، و يرتاد أبناء الفقراء و الأغنياء نفس المدارس و يتلقون التدريس من نفس المعلم و قد يتفوق في التحصيل و الدرس الفقير و ليس الغني... و كانت الألبسة تقليدية و لا اختلاف كبير بينها. و نفس وسائل التنقل: الحمير و البغال في الغالب. و جميع الناس يرتادون الأماكن الطبيعية نفسها للترويح عن النفس أثناء العطل أو للتنزه.
أواخر القرن العشرين بدأ التغير يدب بشكل سريع و عميق حياة الناس و تحول الفقر إلى بؤس حقيقي.
تكثفت هجرة العائلات القروية و سكنت بضواحي المدن و أحياءها الفقيرة و اشتغلت بالمناجم و الشركات و بيوت الأغنياء مع ما يعنيه ذلك من اغتراب و تمييز و قهر و فوارق اجتماعية مرئية و كبيرة.
فقدت أغلبية العائلات المغربية قيمتها الاعتبارية و لحمتها، لأن الاعتبار الأكبر الذي يؤخذ به في العلاقات الاجتماعية هو المال و السلطة، و هما وجهان لعملة واحدة لأنهما يخدمان بعضهما بعضا. و فقدت العائلات إمكانية الولوج إلى الخدمات التي يستفيد منها أغنياء البلد من صحة و تعليم و غيره. و لا يمكنها الولوج إلى عالم الأعمال. و كثرت المجالات و الأماكن المخصصة للأغنياء فقط و لا يمكن لغالبية المغاربة ارتيادها. أصبح هناك فصل"عنصري" كبير بين الفئتين. ضاق بشكل كبير المجال العام المشترك بين فقراء الناس الذين يشكلون الأغلبية و بين الأغنياء. و ازداد بالمقابل و بشكل هام جدا عدد الذين يلجون إلى السجون من أبناء الفقراء،امتلأت الزنازين و الردهات  عن آخرها و فاقت طاقتها الاستيعابية بكثير.
3-    العولمة:
العامل الحاسم و الرئيسي في مسألة التحول التي مست كل الأقطار و الجماعات الإنسانية في العالم المعاصر هو ما يمكن أن نسميه بنظام العولمة. و قد تطور هذا العامل بشكل سريع مع ظهور الأنترنيت و تعميمها بدء من ثمانينيات القرن الماضي.
من بين التحولات الكبرى التي أفرزها نظام العولمة ما يلي:
-    تفجير البنيات الداخلية لكل المجتمعات و تشريحها لتصبح مرئية و قابلة للمراقبة و الولوج و التوجيه و الاختراق. و قد لعب التطور التقني دورا حاسما في هذه المسألة: وسائل النقل، التلفاز، الهاتف، الأنترنيت، الأقمار الصناعية...إلخ حيث لم تعد البلدان الكبرى و لا الشركات الكبرى بحاجة إلى استعمار مباشر لأي بلد. الأنترنيت و وسائل الإعلام عامة و الأقمار الصناعية و التقنية العسكرية، كل ذلك كفيل بالوصول إلى الهدف و التحكم فيه و توجيهه عن بعد و بسرعة و سلاسة. لا يمكن لأي جماعة بشرية أن تغلق على نفسها و تعيش في منأى عن العالم الخارجي. مع الأنترنيت و وسائل الاتصال و التواصل، لم يعد بالمقدور أن يسود نظام فكري أو ثقافي معين خاص بجهة معينة من الكرة الأرضية. كل الأفكار و الإبداعات الفنية، إما أن تكون عالمية أو لا تكون.
-    تغيرت طبيعة الصراع و تعقدت مفاصلها و تعددت أشكالها و توسعت دائرتها لتشمل العالم كله. حيث لم يعد الصراع كافيا أو منحصرا بين فئات العمال و الكادحين من جهة و أرباب العمل و سلطة الحكم التي تمثلهم من جهة أخرى في قطر معين. و إنما تحول ليصبح أكثر عالمية. الجميع، فئات العمال و الكادحين و الطبقة الوسطى، في جميع أنحاء العالم، كلهم مهددون و متضررون من الرأسمال المعولم. كما أن الرأسمال المحلي مرتبط بالأساس و الضرورة بالرأسمال العالمي- الشركات العالمية و الأبناك الدولية و البورصة -  الذي يعد الموجه و المؤثر في علاقات الإنتاج.
-    احتدت شراسة المنافسة بين الشركات الرأسمالية. و هي تأكل بعضها بعضا و لا حدود و لا قيد للصراع و التنافس بينها. لا مجال اليوم لحمائية معينة. البقاء للأقوى. و القوة أكثر من أي وقت شرط وجود الشركات و استمرارها. و أساس القوة عند الشركات اليوم هو سيادة سلعتها في كل مناطق العالم و استهلاكها سريعا و بوفرة. و على الشركات مع العولمة تجديد منتجاتها بشكل مستمر. ليس على المنتوج أن يأخذ وقته في الاستهلاك. و على الناس التعاطي ليس فقط مع السلعة الجديدة التي تؤثر في العديد من مفاصل الحياة و لكن أيضا مع عملية التجديد السريعة التي لا تتوقف. على الناس مهما كان وضعهم الاجتماعي أن يقتنوا أي منتوج جديد أو تم تجديده. و مفاصل الرأسمالية و آلياتها تسهل ذلك و تعمل عليه. على الفقراء و دوي الدخل المحدود و الفئات المتوسطة، بما أنهم يشكلون الأغلبية في كل المجموعات الإنسانية على وجه الأرض و يعدون بالملايير، أن يكونوا محط استهداف أولي و أساسي للتقنية و السوق الرأسمالية.
لم يعد ابتكار الأشياء و المواد و الآليات و تجديدها و تطويرها هدفا في حد ذاته، و لكن ضرورة للاستمرار و للبقاء في السوق العالمية. الجديد ليس هدفا و إنما شرط وجود. أي مادة، أي ابتكار، لا يتجدد ينتهي. على كل جديد أن يتجدد باستمرار لكي لا ينتهي أمر المقاولة.
ابتداع دون معنى محدد و لا هدف مرسوم. مع العولمة نقوم بالأشياء لأنه يجب أن نقوم بها وكفى، دون مرجع فكري محدد و لا مشروع و لا هدف. لقد حررت التقنية السوق الرأسمالية إلى حد بعيد. لأن حريتها مرتبطة بحرية السوق. على التقنية أن تطور نفسها و تبتدع في كل الاتجاهات و إلى أقصى إمكانياتها دون قيد و لا شرط مهما كان. لم يعد شرط التطور التقني خدمة الإنسان و سعادته. التقنية أخذت بزمامها و تحررت من كل مذهب مثالي إنساني.
-    مع العولمة تغير أيضا مفهوم السلعة و علاقتها بالإنتاج و الأرباح. ليست الوفرة أو الندرة فقط هي ما يؤثر في أثمان السلع. و لكن أيضا مبادلات الصرف و البورصة و الأبناك التي أصبحت هي ذاتها سلعة. و أصبح الأنترنيت سوقا مفتوحا يبيع كل شيء في كل وقت و في كل مكان على وجه الأرض. و تستطيع الحصول منه أينما كنت و في كل وقت، على ما تريد.
لا يوجد شيء غير قابل للمتاجرة: المتاجرة بالإنسان، بفقره، بمرضه، بموته، بأعضائه البشرية، بآلامه و معاناته، بآماله، بوسائل لهوه و ترفيهه. تحويل كل شيء إلى سلعة، هذا هو النظام الرأسمالي زمن العولمة.
-    العولمة أسست لمجال اشتغال عالمي موحد و لإمكانية هائلة في الاتصال. لتقارب كبير و تواصل معين بين الأفراد و المجموعات البشرية و الشعوب. و هو ما يخلق تقاطعات و إعادة اصطفاف ثقافي و سياسي عالمي ممكن.
العولمة تشتغل على العالم كله و ليس قطر محدد. مجال الرؤيا و مجال الاشتغال هو جميع أقطار الكرة الأرضية. ننتقل من القطري في التعبير عن المشاكل الآنية و دراستها و مناقشتها إلى العالمي. الجميع معني اليوم بالعالمي. العالمي محدد و مؤثر أكثر بكثير من القطري. و هويات المجموعات الإنسانية و تاريخها لا يمكن أن تنحصر في قطر معين و تبقى خفية و بمنأى عن التدخل و التأثير و التوجيه.
-    العولمة حسمت و فرضت بشكل قاطع على كل شعوب العالم عملية "التغريب occidentalisation"، يعني سيادة القيم و التمثلات الغربية. لا مجال لسيادة قيم مختلفة.
 لا مجال أيضا لاكتساح لغات غير الغربية. أصبح تملك التقنية و اللغات الغربية ضرورة ليست معرفية أو ترفيهية فقط، و إنما شرط وجود. لن تتملك التقنية و تشارك في استهلاكها دون اللغة الإنجليزية. و استعمال التقنية ضرورة لا محيد لأية دولة أو مجموعة بشرية عنها.
-    العولمة عمقت لدى دول الجنوب و الشرق بوادر التشاؤم و الضياع و اللامعنى و الإحساس بالفرق و التمييز و الضعف و العجز. قوضت لديها المقدس و فتكت بالنسيج الاجتماعي و التضامن الأسري.
-    العولمة تندر بمستقبل فوضوي و همجي و قاسي. في مكان ما في المستقبل قنبلة موقوتة ستنفجر و ستؤدي الإنسانية كثيرا، و دقات ساعتها و انفجاراتها الصغيرة تنذرنا منذ اليوم. و لا أحد في منأى عن الخطر الذي يتهدد الناس من كل صوب. لقد ولدت لدى جميع الدول و الشعوب و الأفراد الإحساس الرهيب بالخوف . هذا الأخير أصبح كامنا في كل شيء و حاضرا في كل وقت: الخوف من الحرب المدمرة و القريبة من الكل و التي يمكن أن تندلع في أي وقت و دون سابق علم أو توقع. بإمكان الدول الكبرى أن تهجم على أي دولة أخرى في أي لحظة و مهما بعدت مسافتها و بإمكانها أن تدمرها كليا. الناس لم يعودوا يهيئون أنفسهم للحرب و يستعدون لها. و لا يتوقعون متى تكون هناك حرب. إنهم يتوقعون حصولها في أي وقت.
 الخوف من استعمال الأسلحة الكيماوية و الفتاكة. الخوف من تسميم الهواء و المياه. الخوف من الفوضى. الخوف من الإرهاب: يتوقع الناس في كل مكان أن يحدث انفجار يطالهم أو يطال أبنائهم و عائلاتهم. و لا أحد محصن و لا مكان آمن: المساجد و الأديرة و الكنائس و المزارات و الأسواق و المواقع السياحية و المقاهي و الملاهي و الفنادق و دور السينما و الطائرات و المدارس.
الخوف من فقدان الشغل، من الفقر، من الجفاف، من ثقب الأوزون، من حوادث السير التي أصبحت هاجسا لكل الناس في البلد. الخوف من حوادث قنينات الغاز، من المواد الاستهلاكية و الخضر و الفواكه و اللحوم و الأسماك المشبعة بالمواد الكيماوية و السامة من أن تسبب أمراضا مزمنة و خطيرة كالسرطان و الحساسية..إلخ. الخوف من جنون البقر و أنفلونزا الطيور و القرود و الإيبولا. الخوف من تلوث الهواء و المياه، الخوف من نفاذ مصادر المياه الصالحة أو ندرتها، الخوف من انقراض الحيوانات و النباتات و من تدمير البيئة و الطبيعة الضروريتين لعيش الإنسان فوق سطح الأرض. الخوف في العلاقات الجنسية من السيدا و من الأمراض الفتاكة...
-    اكتساح التقنية كل المجالات أدى أيضا إلى نفي كبير للخصوصية. فالأنترنيت و الهواتف الذكية و الأقمار الاصطناعية و كاميرات المراقبة المتواجدة في الأسواق و الشوارع و الساحات و الفنادق و المقاهي و المطارات و محطات القطار و الحافلات و الإدارات و غيرها مما نعلم و لا نعلم، أدى إلى تعرية الإنسان و تقزيمه و إخراجه للعلن و التمثيل به و "فضحه". من السهل اليوم حصر المكان الذي يتواجد فيه أي شخص بدقة عالية، ومن السهل تصويره و تسجيله و التنصت عليه، و من السهل معرفة هواجسه و حياته و ممارساته الداخلية التي كانت إلى وقت قريب و إلى حد بعيد يجب أن تكون مواراة عن الأنظار. إن الخوف الذي يسود كل شيء يفرض على الحياة الملل و البؤس و اللامعنى.    
-     العولمة و التطور التقني أثبتا اليوم - بمعنى من المعاني- صحة نظرية "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" و "البقاء للأقوى" و كيف أن الإنسان عقيم في منتجاته و ليس له أي تميز أو تسامي أو سبق في الوجود. و أثبتا أن القوة في كل مفاصلها و علاقاتها هي المحرك الأساس للتاريخ و للعلاقات الإنسانية و المتحكم فيها. و الصراع لم يعد يختصر بين طبقات أو فئات اجتماعية بل صراع الكل ضد الكل. الجميع مهدد و الجميع خائف.


حميد مجدي

قلعة السراغنة - المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق