ثقافة الإلهاء ـ هادي معزوز
أنفاس نت
" أحكام الإنسان المتخلف على الظواهر والأشخاص يشوبها الكثير من التحيز والقطيعة، إنها أحكام متسرعة ونهائية تصنف الظواهر والناس في فئات جامدة."
ــ مصطفى حجازي ــ
" كلما استطعنا أن ندخل الصيغ العلمية في لغتنا وإلى مجتمعنا، استطعنا أن نؤثر على الذهن في مجتمعنا، ونوجهه نحو إدراك علمي للواقع."
ــ مصطفى حجازي ــ
" إن جميع أنماط المعتقدات والأفكار التي تكون من أجل غرض اجتماعي، سواء كان هذا الغرض هو المعتقدات الدينية أو المذاهب السياسية أو الاقتصادية، إنما هي إيديولوجيات لا غير ..."
ــ هيوج اتكن ــ
السياسة جاحدة بكل شيء، مصلحتها ليست تكمن في حفظ ودوام الجميع، بقدر ما أن غرضها هو ضمان بقائها على حساب الجميع، من ثمة فإن كل خطاب سياسي باسم مصلحة الجماعة ما هو إلا قناع يخفي وراءه الاستمرار، لأن السياسة تخاف كثيرا من الاضمحلال، أي أن نقطة ضعفها هي غريزة البقاء على غرار كل الكائنات الحية، وعليه فإن السياسة مثلا عندما تعمل على الحد من العنف فإن هذا الفعل، ليس حبا في الذين يعنفون بقدر ما هو كسرٌ لشوكة الذي يعنف، إذ عندما سينتهي من الأول سيتطلع إلى الثاني، كي يصنع لنفسه سياسته المهيمنة والخاصة، وهكذا دواليك، على العموم التاريخ يتقدم وفق هذا النمط ووفق هاته السيرورة، لهذا اعتبرت العرب في غابر الأزمان أن "السلطان عقيم" أي أنه لا يؤمن بابن ولا بحفيد ولا بقريب دموي، الكل ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض، والحال أن التاريخ يخبرنا بذلك.
ــ مصطفى حجازي ــ
" كلما استطعنا أن ندخل الصيغ العلمية في لغتنا وإلى مجتمعنا، استطعنا أن نؤثر على الذهن في مجتمعنا، ونوجهه نحو إدراك علمي للواقع."
ــ مصطفى حجازي ــ
" إن جميع أنماط المعتقدات والأفكار التي تكون من أجل غرض اجتماعي، سواء كان هذا الغرض هو المعتقدات الدينية أو المذاهب السياسية أو الاقتصادية، إنما هي إيديولوجيات لا غير ..."
ــ هيوج اتكن ــ
السياسة جاحدة بكل شيء، مصلحتها ليست تكمن في حفظ ودوام الجميع، بقدر ما أن غرضها هو ضمان بقائها على حساب الجميع، من ثمة فإن كل خطاب سياسي باسم مصلحة الجماعة ما هو إلا قناع يخفي وراءه الاستمرار، لأن السياسة تخاف كثيرا من الاضمحلال، أي أن نقطة ضعفها هي غريزة البقاء على غرار كل الكائنات الحية، وعليه فإن السياسة مثلا عندما تعمل على الحد من العنف فإن هذا الفعل، ليس حبا في الذين يعنفون بقدر ما هو كسرٌ لشوكة الذي يعنف، إذ عندما سينتهي من الأول سيتطلع إلى الثاني، كي يصنع لنفسه سياسته المهيمنة والخاصة، وهكذا دواليك، على العموم التاريخ يتقدم وفق هذا النمط ووفق هاته السيرورة، لهذا اعتبرت العرب في غابر الأزمان أن "السلطان عقيم" أي أنه لا يؤمن بابن ولا بحفيد ولا بقريب دموي، الكل ينتظر الفرصة السانحة للانقضاض، والحال أن التاريخ يخبرنا بذلك.
إن الحيلة التي عثرت عليها السياسة وبوعي مفرط فيه كي تضمن بقاءها، وكي تتجنب معركة الإزاحة والتنحي لصالح سياسة أخرى، أي لصالح نظام آخر، هو العمل على التحكم في الأفراد وصنعهم رمزيا ومعنويا، بدل إخضاعهم ماديا كما كان عليه الأمر من قبل، لأن الإخضاع المادي يولد طاعة مزيفة تتحين الفرصة السانحة للانقضاض، بينما يعمل الإخضاع المعنوي على تخدير هؤلاء الأفراد، والواقع أن أبرز عملية وطريقة تم السير على منوالها في هذا الشأن هو نهج ثقافة الإلهاء، التي تعمل على صنع فضاء للعامة له حدوده كما له اهتماماته ومنطلقاته التي اخترعت على المقاس، من أجل ضمان متسع كبير جدا بين المسيطر وبين المسيطر عليه، من ثمة فثقافة الإلهاء هي كل الطرق والألاعيب التي يمارسها المستفيد على الذين يستفيد بواسطتهم استمرارا لهاته الحظوة وضمانا للرغد والرفه.
عندما نعود للتاريخ نبشا على جذور هاته الثقافة نرى أنها ظهرت بظهور التنظيم السياسي، وبما أن السياسة تؤمن بالعدو، وتؤمن بالصديق العدو، فقد كانت تنظر للجميع أنهم أعداء موقوتون لا ثقة فيهم وأن طاعتهم ناجمة عن ضعفهم وليس عن حبهم، مادامت طبيعة الإنسان ميالة بشكل مفرط إلى السيطرة وعدم الخضوع، ومادامت جدلية السيد والعبد قائمة لن تنتهي، حيث السيد خائف دوما من ثورة العبد، والعبد بدوره ينتظر فرصة الاستقواء كي يثأر لنفسه، من ثمة فإنه بعودتنا للتاريخ نرى أن كل سياسة مهيمنة ابتدعت طريقة ما لإلهاء العامة، من قبيل صناعة الأديان التي يتأسس أغلبها على الانصياع والإيمان بالقدر كيفما كانت طبيعته، والحياة الأخرى التي سينتقم فيها الخالق من كل ظالم، وسينتصر لكل مظلوم، لهذا ليس من باب الحكمة الانغماس في ملذات الحياة لأنها فانية فناء الحياة الدنيا، بقدر ما وجب العمل في هاته الحياة ضمانا للحياة الأخرى، والحال أن الضعفاء هم أكثر قابلية للسقوط في هذا الأمر، لكن ما إن يتقوون حتى يضربوا عرض الحائط ما كانوا يؤمنون به لصالح ضمان البقاء على حساب الجميع، وهذا هو المنطقي بناءً على طبيعة الإنسان.
في معرض آخر لا بد من الإشارة إلى أن ثقافة الإلهاء، وإن كانت ضاربة جذورها في عمق التاريخ، فقد عرفت انعطافا منقطع النظير عند نهاية الحرب العالمية الثانية بشكل خاص، حيث لبست معطفا رسميا على كل طبقة حاكمة أن تصنعه توسيعا للهوة بينها وبين المنافسين، وذلك بناءً على أهم الأحداث التي عرفها الإنسان الأوربي في القرنين الماضيين، بفضل تطور منطق التفكير وأيضا بفضل التجديد الديني الذي أعاد رسم العلاقة بين الإنسان والسماء، وعليه ولكي تضمن الديكتاتوريات استمرارها عملت على صنع أفكار تلهي أكثر مما توقظ، وتسلب أكثر مما تفيد، لهذا وعلى سبيل المثال عمل فرانكو على بناء ملاعب رياضية ضخمة، وتشجيع كرة القدم كفضاء من خلاله نخرج الضغط الذي يمكن أن يتسبب في أية لحظة ضد الطبقة الحاكمة، حيث تحولت كرة القدم من رياضة عادية إلى فضاء لتخدير شعب بأكمله، ومنه تحول الهم من مساءلة الحاكم إلى الانغماس الأعمى في قضايا الفرق الرياضية، ولا شك أن الأمر تطور اليوم حيث لم يعد مقتصرا على دولة بعينها بقدر ما أصبح سلاحا لأغلب الدول المتخلفة التي تبذر أموالا كبيرة في الرياضة بغرض إبقاء الأمر على ما هو عليه، بل عن الميزانيات المعتمدة في ذلك تفوق ميزانيات البحث العلمي، حيث لا يعتبر هذا الأمر بريئا بقدر ما أن له فوائد جمة لصالح الطبقات الحاكمة، حيث أصبح الإلهاء ديدنها، لهذا قد لا نتعجب اليوم عندما نرى أن الاتحاد الدولي لكرة القدم لم يعد فضاءً للرياضة، بقدر ما تداخل فيه السياسي بالاقتصادي بالقيمي... وآخر ما وقع في الانتخابات الرئاسية لهذا الاتحاد، خير دليل على تبوؤه مكانة رئيسية لصنع الإلهاء.
بعد كرة القدم كمظهر أساسي لثقافة الإلهاء التي تعتمدها المجتمعات المتقدمة كما المتخلفة، لا بد من الإشارة إلى أن الأولى أي المجتمعات المتقدمة، تلعب على وترين الأول عام تنهجه مع الدول المتخلفة، حيث تقوم بإلهاءها ضمانا لبقاء ثنائية الخاضع والمخضوع، وهو المتجلي في صنع صراعات داخلية تُسَمِّمُ بها الدول المخضوعة حيث يصبح الأمن والاستقرار الهدف والمبتغى، بدل التقدم والازدهار ومنافسة الكبار كغاية أولى، من هنا تسقط الدول المتخلفة في براثن إلهاء يتأسس على الصراع العرقي والطائفي والعقدي بسبب غياب الديمقراطية الداخلية، مثلما تجد نفسها ضحية إلهاء اقتصادي كالديون، والاحتكار، ونسبة النمو... على النقيض من ذلك لا يمكن للإلهاء في الدول المتقدمة لمواطنيها، أن يشبه الإلهاء الذي تعتمده الدول المتخلفة ضد مواطنيها، وذلك نظرا لارتفاع المستوى المعرفي في الدول الأولى مقارنة والدول الثانية ـ الدول المتخلفة ـ ومن بين مظاهر الإلهاء المعتمد في الدول المتقدمة يمكن الحديث عن الموضة وثقافة المطاعم، والإشهار، وثقافة الفرجة، أي الاستمتاع والتلذذ بما يحدث في دول العالم الثالث، حيث البدائية في أرقى صورها، علما أن الطبقة الحاكمة التي صنعت هذا الإلهاء لمواطنيها كي يحسوا بالتفوق، هي نفس الدول التي صنعت التخلف الذي يستمتع به مواطنوها، وهو ما يصطلح عليه في علم النفس بالمازوسادية، حيث تتصف هاته الدول بالسادية التي تمارسها على الجميع، بينما يصبح أفرادها مازوشيين يتلذذون بالسادية الممارسة عليهم من طرف من يحكموهم.
المظهر الثاني لثقافة الإلهاء الذي تعتمده الدول المتخلفة، يتجلى في صناعتها لوهم الجماعة، فكما نعلم، فإنه من الصعوبة بمكان اليوم أن نتحدث على الفردانية وإمكانية تحققها في الدول المتخلفة، نظرا لضعفها، حيث الفرد كائن محقق لاكتفاءه الذاتي، بينما تتأسس الجماعة على الالتحام الفارغ، خوفا من اكتشاف ضعف أفرادها، وكما نعرف انطلاقا من أبحاث علم النفس الاجتماعي، فإن الجماعات تصنع تلاحما بين أفرادها نظرا لتشابههم في مستوى الضعف والهون، حيث يتطور الأمر عندهم إلى تماسك متجانس يصنع وَهْمَ التفوق والتميز، وبما أن بنيتها منغلقة فإنها ستبقى دوما مؤمنة بهذا الوهم، كما سيبقى التعصب ديدنها الأول، أي أن كل فرد يعتز بتفوق الجماعة التي ينتمي إليها ما هو إلا إخفاء لدرجة الضعف والهون لديه، وبما أن سياسات الدول المتخلفة تتميز هي الأخرى بالتخلف، فإن العلاقة بين هاته الجماعات التي صنعتها لإلهائها، تأخذ طابعا عدوانيا عندما ينفجر يأتي على الأخضر واليابس، أي أنه يدمر كل الجماعات مثلما يدمر الدولة أيضا، وهو الذي يمكن أن نجده اليوم في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، حيث صنعت السياسة وهم الطوائف والجماعات لإلهاء مواطنيها، فحدث بعدئذ أن وصلت درجة الحقد والتعصب بين تلك الجماعات لمواجهات مباشرة، لا زلنا نعيش أوجها إلى حدود كتابة هاته الأسطر، حيث الجميع يحارب باسم الدين ويقتل باسم، ويعتقد انه هو الذي يمثل الدين وأن الآخر على ضلال، مما يجعلنا أمام إلهاء من نوع آخر يعيدنا عشرات إن لم نقل مئات السنين إلى الوراء.
يتجلى ثالث مظاهر صناعة ثقافة الإلهاء، في صنع وهم الماضي المجيد، في هذا الشأن يؤكد فرويد أن الإنسان العُصابي الفاشل الذي فقد حس التفوق في حاضره ومستقبله، يعود إلى الماضي حيث يصنع وهم النجاح الذي تميز به أجداده الأوائل، واجدا أو قل صانعا لنفسه وهما من خلاله ينفلت من قبضة الواقع الحاضر، وبدل أن يطرح سؤال كيفية إعادة ترتيب هذا الواقع، يتقوقع في ماضيه الوهمي، وبما أن هذا سياساتنا تنشد هذا النوع من الإلهاء، فقد طورت هذا المرض العصابي، حيث صنعت وهم تفوقنا في الماضي وكيف أننا كنا مركز العالم ومنبع الحضارات، فلنأخذ على سبيل المثال كل فرد منا، إذا سألته على العام الفارط أو الذي قبله، يتحسر على ماضيه، وكيف أنه قضى عاما جميلان وإذا سألته عن طفولته سيقول لك بأنها كانت طفولة جميلة يحن إليها، هذا الحنين مرده الطبيعي أولا إلى فقد الثقة في الحاضر، وثانيا إنما سببه هو صنه وهم المجد الضائع الذي ما إن نلتهي به حتى نغيب تماما عن حاضرنا، ومنه نصبح أشخاصا بدون وعي، مثلما نصبح أفرادا ضحية هذا الإلهاء الذي نجد فيه ضالتنا.
إن أخطر مظهر من مظاهر ثقافة الإلهاء وهو المشترك بين أغلب الدول سواء المتقدمة منها أو المتخلفة، إنما يتجلى في الإعلام أولا ثم البرامج التعليمية ثانيا، كل طبقة حاكمة تريد أن تصنع أفرادها وفق ما تريد هي، وبناءً على رغبتها ومصلحتها الآنية، فلنتأمل مثلا برامجنا التلفزيونية حتى نعلم من هو المواطن الذي تريده طبقاتنا الحاكمة وما هي مواصفاته، مواطن إما منشغل بتلك المسلسلات التافهة التي بدل أن تذكي فيه ثقافة تغيير العالم، تحد تفكيره وهاجسه الأساسي فقط في إنجاح علاقة غرامية لا غير، أو أنه يتلذذ في التعرف على مشاكل الآخرين، عندها يقارن المشاهد وضعه بوضع من يشاهدهم فيحس في دواخله بأنه أكثر حظوة من الذين يتفرج ـ من الفرجة ـ عليهم، حينها يحس بالطمأنينة وكيف أن له نصيبا حسنا من الحياة، دون أن يعلم بأنه ضحية إلهاء ساذج لا غير، نفس الشيء نجده أيضا في برامجنا التعليمية، حيث جاء أكد السوسيولوجي الفرنسي الشهير بيير بورديو في هذا الشأن، على ذلك الجانب المعتم من المدرسة وكيف أن لها إيديولوجية غير بريئة تستغلها لصنع أفرادها على المقاس، والحال أنه عندما نعود لمقرراتنا المدرسية نكتشف الجانب الخفي الذي تريده السياسة الحاكمة منا، ومن الناشئة بصفة عامة.
إنه بقدر ما توجد مظاهر عديدة لثقافة الإلهاء، توجد أيضا نتائج ناجمة عن ثقافة الإلهاء هاته، نتائج إما أنها تخدر الأفراد بشكل مخيف جدا، وتفرغهم من المعنى، أو تتحول من وسيلة للهيمنة على سلاح عشوائي يدمر كل شيء، ولا شك أن أبرز نتائج الإلهاء، إنما يكمن في ما يسمى بعقدة التماهي بقيم المتسلط المُسْتَلِب، حيث يصبح الفرد ضحية الإلهاء متأثرا جدا إلى درجة التقديس، بالشخص الذي زرع فيه مرض الإلهاء، فيعمل الضحية على القيام بنفس ما يقوم به الأول، فتراه ينهج أسلوبا قمعيا في حق أفراد أسرته، متلذذا في دواخله بهذا الأمر، صانعا لنفسه سقفا لا يمكن أن يتعداه ألا وهو وهم السيطرة على الذين يعيشون معه، أما من جهة ثانية فإن مشكلة التقليد الأعمى للشخص الذي زرع فينا هذا الإلهاء ضمانا لهيمنته يمكن أن نجدها في كل المجتمعات المتخلفة التي تقدس زعماءها بعيدا عن مساءلتهم أو شيء من هذا القبيل، إنها لا تنظر إليهم كأشخاص لهم حقوق وواجبات، بقدر ما ترى فيهم قداسة وتبعية غريبة كل الغرابة.
لثقافة الإلهاء أيضا نتيجة كارثية تتجلى في انحباس شبكة تفكير ضحاياها، إذ بدل أن يتصفوا بحس الإبداع مثلا، فإنهم يعيدون نفس الفعل الذي قاموا به قبلئذ، والذي قام به آباءهم وأجدادهم من قبلهم... نتيجة هيمنة بنية جامدة لم تعد تتأثر بفاعلية الإنسان، بعبارة أخرى ثقافة الإلهاء تقتل حس المبادرة عند الفرد، ومع هذا القتل تنتفي قيمة تغيير الواقع لديه، فلنعد إلى نقاشاتنا اليومية مثلا كي نتعرف على اهتماماتنا وكيف أن استلابنا الناجم عن ثقافة الإلهاء يعيش في أرقى تجلياته، بل إن الأمر يتطور إلى انحباس خطير في الحلم والطموح، حيث السواد الأعظم منا اليوم، هاجسه الأوحد والوحيد هو الزواج، والحصول على شقة، وشراء سيارة، ثم ينتهي الأمر كأننا ضيوف مارون على هذا العالم لا غير.
ختاما وتأسيسا على ما سبق ذكره في هذا الباب، فإن ثقافة الإلهاء تتنزل منزلة القطب من الرحى في سياسات الدول، بيد أنها تأخذ طابعا متخلفا في الدول المتخلفة والعكس بالعكس، في نفس السياق لا شك أن هاته الثقافة بقدر ما تدمر أجيالا بأكملها من طرف السلطة الحاكمة، بقدر ما تهدد هاته السلطة في حال انفجار ما يسكن تحت بنية أفرادها، والواقع أن السلطة الحاكمة إنما نتهج سياسة الإلهاء هاته، فقط لأنه لم يتم اختيارها ديمقراطيا بقدر ما فرضت فرضا منقطع النظير، كما أنها تقوم بإلهاء الجميع خوفا من تفكيرهم، وأيضا خوفا من أن يطرح عليها السؤال في يوم ما.
عندما نعود للتاريخ نبشا على جذور هاته الثقافة نرى أنها ظهرت بظهور التنظيم السياسي، وبما أن السياسة تؤمن بالعدو، وتؤمن بالصديق العدو، فقد كانت تنظر للجميع أنهم أعداء موقوتون لا ثقة فيهم وأن طاعتهم ناجمة عن ضعفهم وليس عن حبهم، مادامت طبيعة الإنسان ميالة بشكل مفرط إلى السيطرة وعدم الخضوع، ومادامت جدلية السيد والعبد قائمة لن تنتهي، حيث السيد خائف دوما من ثورة العبد، والعبد بدوره ينتظر فرصة الاستقواء كي يثأر لنفسه، من ثمة فإنه بعودتنا للتاريخ نرى أن كل سياسة مهيمنة ابتدعت طريقة ما لإلهاء العامة، من قبيل صناعة الأديان التي يتأسس أغلبها على الانصياع والإيمان بالقدر كيفما كانت طبيعته، والحياة الأخرى التي سينتقم فيها الخالق من كل ظالم، وسينتصر لكل مظلوم، لهذا ليس من باب الحكمة الانغماس في ملذات الحياة لأنها فانية فناء الحياة الدنيا، بقدر ما وجب العمل في هاته الحياة ضمانا للحياة الأخرى، والحال أن الضعفاء هم أكثر قابلية للسقوط في هذا الأمر، لكن ما إن يتقوون حتى يضربوا عرض الحائط ما كانوا يؤمنون به لصالح ضمان البقاء على حساب الجميع، وهذا هو المنطقي بناءً على طبيعة الإنسان.
في معرض آخر لا بد من الإشارة إلى أن ثقافة الإلهاء، وإن كانت ضاربة جذورها في عمق التاريخ، فقد عرفت انعطافا منقطع النظير عند نهاية الحرب العالمية الثانية بشكل خاص، حيث لبست معطفا رسميا على كل طبقة حاكمة أن تصنعه توسيعا للهوة بينها وبين المنافسين، وذلك بناءً على أهم الأحداث التي عرفها الإنسان الأوربي في القرنين الماضيين، بفضل تطور منطق التفكير وأيضا بفضل التجديد الديني الذي أعاد رسم العلاقة بين الإنسان والسماء، وعليه ولكي تضمن الديكتاتوريات استمرارها عملت على صنع أفكار تلهي أكثر مما توقظ، وتسلب أكثر مما تفيد، لهذا وعلى سبيل المثال عمل فرانكو على بناء ملاعب رياضية ضخمة، وتشجيع كرة القدم كفضاء من خلاله نخرج الضغط الذي يمكن أن يتسبب في أية لحظة ضد الطبقة الحاكمة، حيث تحولت كرة القدم من رياضة عادية إلى فضاء لتخدير شعب بأكمله، ومنه تحول الهم من مساءلة الحاكم إلى الانغماس الأعمى في قضايا الفرق الرياضية، ولا شك أن الأمر تطور اليوم حيث لم يعد مقتصرا على دولة بعينها بقدر ما أصبح سلاحا لأغلب الدول المتخلفة التي تبذر أموالا كبيرة في الرياضة بغرض إبقاء الأمر على ما هو عليه، بل عن الميزانيات المعتمدة في ذلك تفوق ميزانيات البحث العلمي، حيث لا يعتبر هذا الأمر بريئا بقدر ما أن له فوائد جمة لصالح الطبقات الحاكمة، حيث أصبح الإلهاء ديدنها، لهذا قد لا نتعجب اليوم عندما نرى أن الاتحاد الدولي لكرة القدم لم يعد فضاءً للرياضة، بقدر ما تداخل فيه السياسي بالاقتصادي بالقيمي... وآخر ما وقع في الانتخابات الرئاسية لهذا الاتحاد، خير دليل على تبوؤه مكانة رئيسية لصنع الإلهاء.
بعد كرة القدم كمظهر أساسي لثقافة الإلهاء التي تعتمدها المجتمعات المتقدمة كما المتخلفة، لا بد من الإشارة إلى أن الأولى أي المجتمعات المتقدمة، تلعب على وترين الأول عام تنهجه مع الدول المتخلفة، حيث تقوم بإلهاءها ضمانا لبقاء ثنائية الخاضع والمخضوع، وهو المتجلي في صنع صراعات داخلية تُسَمِّمُ بها الدول المخضوعة حيث يصبح الأمن والاستقرار الهدف والمبتغى، بدل التقدم والازدهار ومنافسة الكبار كغاية أولى، من هنا تسقط الدول المتخلفة في براثن إلهاء يتأسس على الصراع العرقي والطائفي والعقدي بسبب غياب الديمقراطية الداخلية، مثلما تجد نفسها ضحية إلهاء اقتصادي كالديون، والاحتكار، ونسبة النمو... على النقيض من ذلك لا يمكن للإلهاء في الدول المتقدمة لمواطنيها، أن يشبه الإلهاء الذي تعتمده الدول المتخلفة ضد مواطنيها، وذلك نظرا لارتفاع المستوى المعرفي في الدول الأولى مقارنة والدول الثانية ـ الدول المتخلفة ـ ومن بين مظاهر الإلهاء المعتمد في الدول المتقدمة يمكن الحديث عن الموضة وثقافة المطاعم، والإشهار، وثقافة الفرجة، أي الاستمتاع والتلذذ بما يحدث في دول العالم الثالث، حيث البدائية في أرقى صورها، علما أن الطبقة الحاكمة التي صنعت هذا الإلهاء لمواطنيها كي يحسوا بالتفوق، هي نفس الدول التي صنعت التخلف الذي يستمتع به مواطنوها، وهو ما يصطلح عليه في علم النفس بالمازوسادية، حيث تتصف هاته الدول بالسادية التي تمارسها على الجميع، بينما يصبح أفرادها مازوشيين يتلذذون بالسادية الممارسة عليهم من طرف من يحكموهم.
المظهر الثاني لثقافة الإلهاء الذي تعتمده الدول المتخلفة، يتجلى في صناعتها لوهم الجماعة، فكما نعلم، فإنه من الصعوبة بمكان اليوم أن نتحدث على الفردانية وإمكانية تحققها في الدول المتخلفة، نظرا لضعفها، حيث الفرد كائن محقق لاكتفاءه الذاتي، بينما تتأسس الجماعة على الالتحام الفارغ، خوفا من اكتشاف ضعف أفرادها، وكما نعرف انطلاقا من أبحاث علم النفس الاجتماعي، فإن الجماعات تصنع تلاحما بين أفرادها نظرا لتشابههم في مستوى الضعف والهون، حيث يتطور الأمر عندهم إلى تماسك متجانس يصنع وَهْمَ التفوق والتميز، وبما أن بنيتها منغلقة فإنها ستبقى دوما مؤمنة بهذا الوهم، كما سيبقى التعصب ديدنها الأول، أي أن كل فرد يعتز بتفوق الجماعة التي ينتمي إليها ما هو إلا إخفاء لدرجة الضعف والهون لديه، وبما أن سياسات الدول المتخلفة تتميز هي الأخرى بالتخلف، فإن العلاقة بين هاته الجماعات التي صنعتها لإلهائها، تأخذ طابعا عدوانيا عندما ينفجر يأتي على الأخضر واليابس، أي أنه يدمر كل الجماعات مثلما يدمر الدولة أيضا، وهو الذي يمكن أن نجده اليوم في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، حيث صنعت السياسة وهم الطوائف والجماعات لإلهاء مواطنيها، فحدث بعدئذ أن وصلت درجة الحقد والتعصب بين تلك الجماعات لمواجهات مباشرة، لا زلنا نعيش أوجها إلى حدود كتابة هاته الأسطر، حيث الجميع يحارب باسم الدين ويقتل باسم، ويعتقد انه هو الذي يمثل الدين وأن الآخر على ضلال، مما يجعلنا أمام إلهاء من نوع آخر يعيدنا عشرات إن لم نقل مئات السنين إلى الوراء.
يتجلى ثالث مظاهر صناعة ثقافة الإلهاء، في صنع وهم الماضي المجيد، في هذا الشأن يؤكد فرويد أن الإنسان العُصابي الفاشل الذي فقد حس التفوق في حاضره ومستقبله، يعود إلى الماضي حيث يصنع وهم النجاح الذي تميز به أجداده الأوائل، واجدا أو قل صانعا لنفسه وهما من خلاله ينفلت من قبضة الواقع الحاضر، وبدل أن يطرح سؤال كيفية إعادة ترتيب هذا الواقع، يتقوقع في ماضيه الوهمي، وبما أن هذا سياساتنا تنشد هذا النوع من الإلهاء، فقد طورت هذا المرض العصابي، حيث صنعت وهم تفوقنا في الماضي وكيف أننا كنا مركز العالم ومنبع الحضارات، فلنأخذ على سبيل المثال كل فرد منا، إذا سألته على العام الفارط أو الذي قبله، يتحسر على ماضيه، وكيف أنه قضى عاما جميلان وإذا سألته عن طفولته سيقول لك بأنها كانت طفولة جميلة يحن إليها، هذا الحنين مرده الطبيعي أولا إلى فقد الثقة في الحاضر، وثانيا إنما سببه هو صنه وهم المجد الضائع الذي ما إن نلتهي به حتى نغيب تماما عن حاضرنا، ومنه نصبح أشخاصا بدون وعي، مثلما نصبح أفرادا ضحية هذا الإلهاء الذي نجد فيه ضالتنا.
إن أخطر مظهر من مظاهر ثقافة الإلهاء وهو المشترك بين أغلب الدول سواء المتقدمة منها أو المتخلفة، إنما يتجلى في الإعلام أولا ثم البرامج التعليمية ثانيا، كل طبقة حاكمة تريد أن تصنع أفرادها وفق ما تريد هي، وبناءً على رغبتها ومصلحتها الآنية، فلنتأمل مثلا برامجنا التلفزيونية حتى نعلم من هو المواطن الذي تريده طبقاتنا الحاكمة وما هي مواصفاته، مواطن إما منشغل بتلك المسلسلات التافهة التي بدل أن تذكي فيه ثقافة تغيير العالم، تحد تفكيره وهاجسه الأساسي فقط في إنجاح علاقة غرامية لا غير، أو أنه يتلذذ في التعرف على مشاكل الآخرين، عندها يقارن المشاهد وضعه بوضع من يشاهدهم فيحس في دواخله بأنه أكثر حظوة من الذين يتفرج ـ من الفرجة ـ عليهم، حينها يحس بالطمأنينة وكيف أن له نصيبا حسنا من الحياة، دون أن يعلم بأنه ضحية إلهاء ساذج لا غير، نفس الشيء نجده أيضا في برامجنا التعليمية، حيث جاء أكد السوسيولوجي الفرنسي الشهير بيير بورديو في هذا الشأن، على ذلك الجانب المعتم من المدرسة وكيف أن لها إيديولوجية غير بريئة تستغلها لصنع أفرادها على المقاس، والحال أنه عندما نعود لمقرراتنا المدرسية نكتشف الجانب الخفي الذي تريده السياسة الحاكمة منا، ومن الناشئة بصفة عامة.
إنه بقدر ما توجد مظاهر عديدة لثقافة الإلهاء، توجد أيضا نتائج ناجمة عن ثقافة الإلهاء هاته، نتائج إما أنها تخدر الأفراد بشكل مخيف جدا، وتفرغهم من المعنى، أو تتحول من وسيلة للهيمنة على سلاح عشوائي يدمر كل شيء، ولا شك أن أبرز نتائج الإلهاء، إنما يكمن في ما يسمى بعقدة التماهي بقيم المتسلط المُسْتَلِب، حيث يصبح الفرد ضحية الإلهاء متأثرا جدا إلى درجة التقديس، بالشخص الذي زرع فيه مرض الإلهاء، فيعمل الضحية على القيام بنفس ما يقوم به الأول، فتراه ينهج أسلوبا قمعيا في حق أفراد أسرته، متلذذا في دواخله بهذا الأمر، صانعا لنفسه سقفا لا يمكن أن يتعداه ألا وهو وهم السيطرة على الذين يعيشون معه، أما من جهة ثانية فإن مشكلة التقليد الأعمى للشخص الذي زرع فينا هذا الإلهاء ضمانا لهيمنته يمكن أن نجدها في كل المجتمعات المتخلفة التي تقدس زعماءها بعيدا عن مساءلتهم أو شيء من هذا القبيل، إنها لا تنظر إليهم كأشخاص لهم حقوق وواجبات، بقدر ما ترى فيهم قداسة وتبعية غريبة كل الغرابة.
لثقافة الإلهاء أيضا نتيجة كارثية تتجلى في انحباس شبكة تفكير ضحاياها، إذ بدل أن يتصفوا بحس الإبداع مثلا، فإنهم يعيدون نفس الفعل الذي قاموا به قبلئذ، والذي قام به آباءهم وأجدادهم من قبلهم... نتيجة هيمنة بنية جامدة لم تعد تتأثر بفاعلية الإنسان، بعبارة أخرى ثقافة الإلهاء تقتل حس المبادرة عند الفرد، ومع هذا القتل تنتفي قيمة تغيير الواقع لديه، فلنعد إلى نقاشاتنا اليومية مثلا كي نتعرف على اهتماماتنا وكيف أن استلابنا الناجم عن ثقافة الإلهاء يعيش في أرقى تجلياته، بل إن الأمر يتطور إلى انحباس خطير في الحلم والطموح، حيث السواد الأعظم منا اليوم، هاجسه الأوحد والوحيد هو الزواج، والحصول على شقة، وشراء سيارة، ثم ينتهي الأمر كأننا ضيوف مارون على هذا العالم لا غير.
ختاما وتأسيسا على ما سبق ذكره في هذا الباب، فإن ثقافة الإلهاء تتنزل منزلة القطب من الرحى في سياسات الدول، بيد أنها تأخذ طابعا متخلفا في الدول المتخلفة والعكس بالعكس، في نفس السياق لا شك أن هاته الثقافة بقدر ما تدمر أجيالا بأكملها من طرف السلطة الحاكمة، بقدر ما تهدد هاته السلطة في حال انفجار ما يسكن تحت بنية أفرادها، والواقع أن السلطة الحاكمة إنما نتهج سياسة الإلهاء هاته، فقط لأنه لم يتم اختيارها ديمقراطيا بقدر ما فرضت فرضا منقطع النظير، كما أنها تقوم بإلهاء الجميع خوفا من تفكيرهم، وأيضا خوفا من أن يطرح عليها السؤال في يوم ما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق