مفهوم الحق
par science et philosophie
مقدمة
الحق من القيم الإنسانية العليا. وهو مدار الحرب و السلم على مدى تاريخ الأمم و الأفراد مثلما هو مناط الاختلاف أو الاتفاق في المعرفة بصورها المتنوعة. لذلك اشتغل الفكر الإنساني بالتأمل في الحق كمفهوم و كقيمة و كبعد أساسي في الوجود البشري.
يمكن أن نميز في عمق دلالات لفظ الحق المختلفة بين سياقات تتعدد بتعدد مرجعياتها الدينية و الطبيعية و الأخلاقية و المنطقية و الفلسفية. و من خلال استقراء مختلف هذه الدلالات نستطيع أن نحصر نواة دلالية تقوم عليها مختلف معاني الحق. فالحق هو الحرية التي للفرد في وجوده كما تتحدد طبيعيا أو ثقافيا أو دينيا. فحيث أن التجربة الإنسانية تبين تباين أسس الحق بتباين مصادره و التي يمكن أن تختزل في المصدر الديني المعبر عن الإرادة الإلهية و المصدر الطبيعي المتأسس على حق القوة و المصدر الثقافي المرتكز إلى الفاعلية البشرية فعلام يقوم أساس الحق؟ هل هو الإرادة الإلهية أم حق القوة الطبيعي أم الفاعلية البشرية؟ و لما كان الحق مبدأ أخلاقيا و عمليا من الواجب أن يتحقق في على مستوى التجربة الفردية و الجماعية... فكيف يتهيأ تطبيقه؟ هل الحق قيمة قانونية وتشريعية موضوع إلزام و إكراه أم هـو قيمة أخلاقية يلتزم بها الأفراد تلبية لنداء الواجب الأخلاقي؟
إن تفكيك هذه التساؤلات يضعنا أمام قضيتين فلسفيتين ممكنتين ينفتح عليهما مفهوم الحق. تتعلق الأولى بأساس الحق و تتعلق الثانية بمبدأ الالتزام به. و هو ما يسمح لنا بتوجيه مسار التفكير في مفهوم الحق نحو الاتجاهات التالية: - الاتجاه التيولوجي الذي ينظر إلى الحق كتعبير عن إرادة الله في الكون؛ - الاتجاه الطبيعي الذي يرى في الحق امتدادا للقانون الطبيعي الذي يؤسس الحق على القوة؛- الاتجاه الثقافي الذي يحكم الإرادة الإنسانية في تحديد أساس الحق، من جهة، ثم تناول التصورات التي تؤكد البعد القانوني للحق و تلك التي تؤكد قيمته الأخلاقية.
أولا، أساس الحق.
سنعتمد في التفكير في قضية أساس الحق الانطلاق من تحليل نص ل سبينوزا (باروخا) حول الحق الطبيعي مقتطف من كتابه "رسالة في اللاهوت و السياسة لنستبين من خلاله أطروحة سبينوزا و من تم مناقشتها بالتصور التيولوجي للحق و موقفي روسو و هوبز.
يناقش سبينوزا في هذا النص قضية أساس الحق من خلال تساؤل نستنتجه من ثنايا النص حول أسس الحق و مقتضياته حيث يثبت بأن الحق الطبيعي أساسه القوة التي تمنحها الطبيعة للكائنات و الذي يصبح بمقتضاه من حق القوي أن يسيطر على الضعيف. لكن اسبينوزا يدعو إلى عدم الاستناد إليه في تدبير الحياة البشرية و الإذعان، بالمقابل، إلى إرادة العقل لما فيها "من نفع حقيقي للبشر". و هو ما يعني أن سبينوزا يجعل أساس الحق في سياق العلاقات بين الناس هو العقل كقوة مشتركة بين الناس موزعة بينهم بالتساوي، تضمن الوحدة و التعاون و التعايش لا القوة الطبيعية أساس الصراع و الظلم. هذه الأطروحة تتأسس في النص عبر مسار حجاجي استدلالي- يوظف فيه صاحب النص أساليب التعريف «أعني بالحق الطبيعي" و التمثيل و القياس و غيرها- يبدأ فيه بتحديد مفهوم الحق الطبيعي باعتباره "مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد. و هي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده حتميا على نمط معين" و هو نمط لا يكاد يفارقه، و بعد أن يستنتج اسبينوزا من ذلك أن الكائن الطبيعي ينتظم وجوده بحسب ما يتمتع به من قوة جسمية أو عقلية ينتقل إلى بيان انعكاسات الارتهان لحق القوة على العلاقات بين الأفراد والتي سيحكمها الصراع بالضرورة ما دام أن" كل ما يراه الفرد الخاضع لمملكة الطبيعة وحدها نافعا له؛ سواء أكان في ذلك مدفوعا بالعقل السليم أو بقوة انفعالاته، يحق له أن يشتهيه طبقا لحق طبيعي مطلق، و أن يستولي عليه بأية وسيلة.. و بالتالي يحق له أن يعد كل من يمنعه... عدوا له." يقود هذا الاستنتاج البديهي إلى استنتاج حدَّي دائرة الحق الطبيعي و هما الاستطاعة و الرغبة فكل ما أرغب فيه و أقدر عليه حق لي. غير أن الصراع يتعارض مع حاجة إنسانية فطرية و هي الحاجة إلى الأمن و الاستقرار... فإن من صالح الإنسان، في نظر سبينوزا، أن يغلب إرادة العقل لأنه:" من الأنفع كثيرا للناس أن يعيشوا طبقا لقوانين عقولهم و معاييرها اليقينية، لأنها... لا تتجه إلا لما فيه نفع حقيقي للبشر". و هو ما سيترتب عنه بناء الحق ضمن مجال إنساني عام هو المجال الاجتماعي الذي تراعى فيه إرادة الجميع كما تحددها إرادة العقل و إملاءاته.
يتضح إذن أن سبينوزا يؤسس مجال الحق الإنساني على تجاوز حق القوة الطبيعي و الاحتكام إلى العقل و قوانينه كقوانين موحدة و جامعة و ضامنة للأمن و الاستقرار. لكن السؤال الذي يثار هنا هو إلى أي حد يمكن الاعتماد على العقل في تحقيق العدالة و التعبير عن الإرادة الجماعية؟ أليس اللاعقلي عنصرا مكونا لبنية العقل ذاتها؟ و هو ما قد يكرس حق القوة لكن هذه المرة بصورة شرعية يخضع لها الجميع بدون وعي أو إرادة؟
يتفق روسو(ج.جاك) مع سبينوزا على تجاوز الحق الطبيعي لأنه يتعارض و الحق المدني الذي يقوم على اتفاق الأفراد على تدبير شؤونهم العامة، و تنظيم مجالهم المشترك بناء على قوانين وتعاقدات يتنازلون بموجبها عن حريتهم الطبيعية لصالح مؤسسات منتخبة تسهر على ضمان أمنهم و استقرارهم و تحقق العدالة الاجتماعية، و هذا مقصود العقد الاجتماعي contrat social. إن بناء العلاقات على القوة، يجيب روسو في نصوص كثيرة له، خطر على الأفراد و المجتمع معا و هو ما سيدفعهم إلى التفكير في نزع الشرعية على تصرفاتهم بالتحول من حال الطبيعة إلى حال المدنية الذي سيغير طباعا كثيرة في الإنسان إذ سيحكم العقل محل الشهوة و ستكسب أفعاله " الحرية الأخلاقية التي تمكنه من أن يكون سيد نفسه بالفعل" لا أن يكون مستعبدا من طرف دوافع الشهوة.
وفي إطار فكرة التعاقد الاجتماعي يتحدث المفكر السياسي هوبز(توماس)، في كتابه " الليفيتان" عن حالة الطبيعة التي تمثل الحالة التي يكون عليها الإنسان في غياب السلطة السياسية و القانون. و هي حالة يفترضها هوبز لكي يفسر- على نحو مقارن- ما يضيفه الوجود الاجتماعي للإنسان. ذلك أن حالة الطبيعة هي حالة حرب بين الأفراد يكون فيها الإنسان ذئبا للإنسان لأن الجميع فيها حر و مساوي لغيره. بالمعنى الذي يكون فيه كل واحد منهم قادرا على التفوق على الآخرين بالقوة.. من جهة، و بالمعنى الذي يكون فيه لكل الناس نفس الحاجات و نفس الإرادة لإشباعها، من جهة أخرى. فالمساواة الطبيعية، في اعتقاد هوبز و خلافا لأغلب المفكرين، تؤدي إلى الصراع لأن الكل يكون مقتنعا بقدرته على الانتصار و بالتالي لا يتوانى عن مهاجمة غيره ليستولي على خيراته. و هكذا قد يؤدي ترك الناس لحالهم إلى فناء وجودهم نهائيا. لذلك يصبح النظام الاجتماعي ضرورة ملحة خوفا من الموت و حرصا على البقاء. و هو الأمر الذي يتحقق من خلال تعاقد بين الأفراد و سيد يكون ملكا على الجميع. هذا التصور، بانطباقه على المجال السياسي، يعني أن الناس يرضون بمقايضة حريتهم الطبيعية بالأمن والسلم اللذان يضمنهما الملك الذي يظل لوحده محافظا على حريته الطبيعية. و هو ما نلمح فيه تبريرا للملكية المطلقة عند هوبز.
نستنتج إذن أن كلا من سبينوزا و روسو و هوبز يتفقون على أن الحق الطبيعي و الحرية التي يتيحها خطر على الإنسان لكنهم يختلفون في منظورهم للحق المدني أو السياسي، فبينما يدعو سبينوزا إلى عقلنة المجتمع و مؤسساته يعتبر روسو التعاقد الاجتماعي أساسا للحق في حين يعتبر هوبز أن الملكية المطلقة هي الضامن لحقوق الأفراد السياسية و الاقتصادية…. وهي اجتهادات نشطت في سياق الأسئلة التي يطرحها بناء الدولة الحديثة بالصورة التي تتحقق فيها الحرية الفردية و يحافظ فيها على النظام الاجتماعي.
غير أن الحق، في التجربة الإنسانية، لا يمكن تصوره فقط في سياق ثنائية مطلقة، ثنائية الحق الطبيعي و الحق المدني بل لا بد من تأمل أساس الحق، من منظور تيولوجي و ديني حيث تؤكد التعاليم الدينية في الديانات السماوية و غيرها على أن أساس الحق يتحدد في ما تقره الشرائع من أحكام و حدود و ضوابط محاورها تنظيم العلاقة بين الإنسان و ذاته، و بين الإنسان و غيره، و بين الإنسان و خالقه؛ كل ذلك وفق مشيئة الله العليا و المطلقة.
ثانيا، الحق قيمة أخلاقية أم قيمة قانونية؟
يبقى أن نفكر، فيما وراء هذا العرض النظري للتصورات المختلفة حول أساس الحق، في الأسس العملية لتفعيل قيم الحق التي ترتبط بها قيم إنسانية عليا كالعدالة و الحرية و الكرامة... أي تناول الحق من جهة تحققه الواقعي في الحياة الإنسانية ببعديها الفردي و الجماعي. فهل يجب أن نتعامل مع الحق كقيمة قانونية تستمد أثرها من سلطة القانون أم أن نتمثله كقيمة أخلاقية يلتزم بها الأفراد عن اقتناع و إرادة و انسجاما مع نداء الواجب الأخلاقي؟ هل الحق إلزام أم التزام؟
يعبر فعل الإلزام، بالضرورة، عن تدخل سلطة خارجية لحمل الأفراد، مجتمعين أو معزولين، على الامتثال لمبدأ أو قانون أو قاعدة... تحت طائلة التهديد بالعقاب في حالة عدم الامتثال. فالمجرم، مثلا، حالة خرق لحق معين، و لذلك يعاقب قانونا. وهو ما يعني، من جهة أخرى، أن العلاقة بين الحق و القانون علاقة جدلية. و هذا أمر نفهمه لأن هناك ضرورة لمؤسسة فوق الجميع للحكم و التحكيم فيما بينهم. غير أن المشكلة التي تطرح تتعلق بقدرة القانون على تحقيق العدالة. أليس القانون، في نهاية المطاف، تعبيرا عن إرادة من يضعه، مع ما يعنيه ذلك من تدخل عوامل خاصة، كالانتماء الطبقي أو النفوذ السياسي أو المصلحة الاقتصادية و حتى المزاج الفردي في حالات عديدة؟ و مثل هذا التساؤل مشروع مادام أن صفحة التاريخ ملأى بقوانين انبنت على الجور و الظلم في أساسها. مثل قوانين الاستبداد و التمييز العنصري(نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا سابقا) و القانون المؤسس و المنظم للأمم المتحدة الذي يمنح لقوى معينة حق الفيتو ضد كل إرادة لا تنسجم و مصالحها وقيمها...و هو ما يبرز الأثر النسبي و الطابع التاريخي للقانون بينما يتحدد الحق كقيمة عليا و مطلقة تتساوق و تعلق الإنسان بحياة فضيلة و فاضلة. أي أن للحق سلطته التي تتجاوز أي سلطة. فكيف لحق-الفضيلة، بالتعبير الكانطي، أن يقوم في وجود الناس و ينزع عنه هذه القتامة من العنف و الجور و الصراع؟
يعتبر سيشرون، وهو من حكماء الرومان ( ولد سنة 106ق.م) بأن الإنسان يمتلك طبيعة فطرية ينزع بها تلقائيا نحو الحق، يميز بها بين الحق و الظلم و بين الأشياء قبيحها من حسنها: " و كأن هناك حسا ذائعا في كل مكان يمكننا من معرفتها و يستميل أرواحنا إلى اعتبار الأولى فضائل و الثانية رذائل" [ كتاب: الطبيعة كأساس]. و هذا يعني عنده أن ما يوضع من قوانين قد لا تضمن الحق مطلقا بل قد تعطي المشروعية للظلم و كل ما يتنافى و الأخلاق الفاضلة. علاوة على أن القانون يمكن تجاوزه كلما أمكن ذلك، بقوة المال أو النفوذ مثلا. نستنتج، إذن، أن سيشرون يربط تحقق الحق بالالتزام الأخلاقي كفعل يعبر عن حرية الفرد و إرادته و طبيعته. أي أن الحق و الحرية لا يتعارضان بل يتساوقان بالضرورة.
ستأخذ علاقة الحق بالحرية معنى قانونيا في ما يمكن أن نطلق عليه اليوم بدولة الحق والقانون. حيث تصبح الدولة ذاتها بمؤسساتها و قوانينها ضامنة للحرية الفردية و الحريات العامة معا. و هذا ما تصرح به روس (جاكلين) في كتابها" نظريات السلطة"les théories du pouvoir:" [دولة الحق] دولة فيها حق وفيها قانون يخضعان معا لمبدأ حرية الشخص، وهي صيغة قانونية تضمن الحريات الفردية و تتمسك بالكرامة الإنسانية و ذلك ضد كل أنواع العنف و القوة و التخويف." و هذا يتحقق، بطبيعة الأشياء، ضمن مجال سياسي يتضمن واجبات و يعطي حقوقا لكن المعيار الأسمى يظل هو المواطن وليس الدولة التي تحتل في تفكير دولة الحق والقانون مرتبة ثانية بعد الإنسان. إن الإنسان بهذا المعنى " لا يمكن استعباده من قبل أي كيان أو أي نظام أو تسخيره كوسيلة و إنما يجب اعتباره على الدوام كغاية." هذا الأمر يتحقق، إجرائيا، من خلال آلية فصل السلط( التي أسس لها مونتيسكيو في كتابه "روح القوانين") و توزيعها بين السلطة التنفيذية و التشريعية و القضائية التي يجب أن تتمتع بالاستقلالية التامة عن السلطتين الأولتين.
هكذا سننتقل مع الدولة الحديثة إلى دولة يكون فيها المواطن غاية و ليس وسيلة. ولكن هذا التصور العملي لفكرة الحق يبقى ناقصا لأنه يتعامل مع الإنسان كمواطن، أي كهوية قانونية و سياسية لا كشخص كوني. و لعل ما نلاحظه، اليوم، من تقدير للذات المواطنة و احتقار للغير المختلف في الخصوصية الثقافية عن القيم الثقافية الغربية بمرجعياتها التاريخية المعلومة لدليلا على الخلفية الإمبريالية لحركة الحق في الفكر و الممارسة السياسية الغربية. تلك التي تشتغل بعقلية مبدأها الصراع لأجل السيادة. و هو ما يلغي الحق الإنساني في الاختلاف و في تقاسم الثروات و في التعبير عن الإرادة....بمنطق الحرية و العدالة الكونية.
نخلص، في الأخير، إلى أن الحق كمفهوم فلسفي يختزن من القضايا الإنسانية المهمة الشيء الكثير. وهي القضايا التي تختلف الخطابات حول تصور حلولها بحسب مرجعياتها النظرية و الدينية و السياسية...فأساس الحق، كما بيناه، إما أن يحتكم إلى الإرادة الإلهية أو الإرادة الإنسانية لتجاوز حق القوة الطبيعي بينما يختلف المنظرون لفلسفة الحق حول قيمته، بين التأكيد على قوة القانون كسلطة لتحقيق الحق و بين إثبات الالتزام الأخلاقي كأساس يتحقق به كي لا يتعارض مع الحرية الإنسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق