الخميس، 24 ديسمبر 2015

أزمة التعليم بالمغرب بين السياسي والتربوي



أزمة التعليم بالمغرب بين السياسي والتربوي
المكي ناشيد
1 ـ مقدمة لابد منها؛
كل منا يقر اليوم بأن هناك مشكل مزمن في المغرب الراهن، وهو بلا جدال المشكل الذي يكاد يصل إلى حد إصابة النظام التعليمي بالسكتة القلبية. على أنه ينبغي أن لا ننسى أن المشاكل أيا كانت حدتها، فهي ليست بنت لحظتها، وإنما هي وليدة صيرورة زمنية عرفت فيها مولدا ونشأة ونموا وتطورا إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه، ولذلك فلكي نفهم أزمة منظومتنا التعليمية فهما صحيحا قبل أي انخراط في المعالجة، لا بد من معرفة واضحة بتاريخها وبالعوامل المتحكمة فيها؛ أسبابها ودواعيها امتداداتها وآثارها.وبدون ذلك سنبقى ندور في دائرة مغلقة لن تفضي بنا إلى أي حل ممكن مثلما هو حالنا اليوم. ومن هذا المنظور سأعمل على التطرق إلى الموضوع انطلاقا من البحث عن جذور المشكل الضالعة، وأصوله الكامنه، محاولا من خلال ذلك استجلاء العوامل التي تحول دون تحقيق أي نجاح في مختلف التجارب الإصلاحية لسياستنا التعليمية منذ فجر الاستقلال إلى اليوم.
ولا شك في أن هذه المحاولة من النظر في مشاكل التعليم انطلاقا من جذورها الأولى ستضعنا في مواجهة بين التربوي والسياسي على أساس أن السياسة والتربية هما معا وجهان لعملة واحدة، فالتربية سياسة تمارس بلغة البيداغوجيا، والسياسة تربية تمارس بلغة الإيديلوجيا، ويبقى فقط معرفة حدود التماس ونقط التقاطع والالتقاء بينهما لمعرفة أيهما الفاعل وأيهما المنفعل؟ أيهما القائد وأيهما التابع؟ أيهما المهيمن وأيهما الخاضع؟
وانساجاما مع السياق الذي يطرح فيه الموضوع، سأحاول كشف الخلفيات السياسية والوقوف على مدى تأثيرها في المناخ العام للمنظومة التعليمية / التربوية.
2 ـ السياسي والتربوي في المنظومة التعليمية، أية علاقة؟:
لمحاولة تحديد العلاقة التفاعلية بين السياسي والتربوي في منظومتنا التعليمية لا بد من الوقوف على أشكال البدايات الأولى لمعالجة المشكل. وفي هذا الإطار نجد أنه مع مطلع السنوات الأولى لاستقلال المغرب، وضع مشكل التعليم على طاولة "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم"، وكانت هذه أول لجنة إصلاحية بعد الاستقلال تعقد في هذا الشأن. وقد كان أول مشكل واجهته النخبة المشكلة للجنة الملكية، هو اصطدامها باختلافات بين مكوناتها؛ فأعضاؤها تختلف مصالحهم وتتضارب اتجاهاتهم، وتتباين رؤاهم، وهم إلى جانب كل ذلك أمام ضغط جماهيري شعبي قوي على المدرسة المغربية من أجل تسجيل الأطفال في المدارس خصوصا في السنوات الأولى من استقلال الوطن ، لذلك لم يكن بإمكان اللجنة البحث عن الحلول الصحيحة، ولا أية قدرة على وضع استراتيجية محكمة لإصلاح التعليم وفق ما يتطلبه السياق العام والاستشراف المستقبلي للبلاد. لذلك اتجهت القوى الوطنية المشكلة للتحالف الوطني إلى البحث عن إيجاد توافقات بين مكوناتها ليس لحل المشكل في جوهره، وإنما فقط لتجاوز مشاكل التعليم المطروحة تلافيا لتضارب المصالح بين أفرادها، ومن هنا اكتسى فكرها وطريقة معالجتها للمشاكل التربوية طابعا توفيقيا يتجنب طرح المشاكل الحقيقية ويحاول دوما البحث عن الحلول الوسطى التي ترضي الجميع، أو على الأقل تحمل الأطراف المختلفة على السكوت والانتظار ولو إلى حين.
وهذا ما يسعفنا في معرفة لماذا جاءت تلك لـ"المبادئ " التي أقرت كأساس لمذهب التعليم في المغرب المستقل، ملفوفة في طابع "توفيقي" يرضي جميع الأطراف المشكلة للتحالف الوطني دون أن يحل المشكل التربوي المطروح للمعالجة والنقاش، ولذلك فإن المبادئ الأربعة المعروفة بــ : التعميم، والتوحيد، والتعريب، ومغربة الأطر. ليس أنها لم تتحقق بعد وإنما طريقة الاهتداء إليها شكلت نموذجا لأسلوب المعالجة الذي سيتم الاحتذاء به في مختلف مراحل أزمات التعليم المغربي إلى يومنا هذا كما سنرى.
وهكذا فلقد جاءت "المبادئ الأربعة" ليس كنتيجة لحل المشكل التربوي المطروح آنذاك، وإنما جاءت لتشكل جوابا سياسيا عن وضع قائم أكثر منه جوابا تربويا عن المشاكل التربوية والتعليمية المطروحة بحدة على الساحة الوطنية. ولا شك ان هذا النهج في التعامل مع قضايانا التربوية والتعليمية سيستمر في مختلف التجارب اللاحقة لأن السياسات التعليمية بالمغرب بقيت مرتبطة بالمشروع المجتمعي وبمختلف الاختيارات السياسية المتواجدة بحيث من الصعب الوصول إلى إصلاح تربوي بدون توافق سياسي بين مختلف الحساسيات الوطنية.
ولقد كان من نتائج هذا الانزياح السياسي على حساب التربوي أن حول التربية إلى هامش وجعل منها تابعا تحت ضغط عوامل أخرى منبثقة عن الاختيار السياسي، وقد لازم التدخل السياسي الميدان التربوي بحيث لا تزال السياسة جاثمة على الجسد المهترئ للمنظومة التعليمية إلى يومنا هذا مما يحول دون تحقيق أي إصلاح، وإنما العكس من ذلك يساهم في الهذر في الزمن المدرسي هباء، والهذر في الإنفاق دون جزافا,
وأود أن أمر دون توقف في الحديث عن مسار الإختلالات بمختلف المواقف الإصلاحية للتعليم، بدءا بأحداث الدار البيضاء لسنة 65 وما أعقبها بعد تعيين الوزير محمد بنهيمة حاملا مشروعه "العهد الجديد"، ومخططه السياسي الفريد لخفض الإنفاق على التعليم وما رافق هذه السياسة الارتدادية من تداعيات كبرى أضرت على مر السنوات بصورة المدرسة المغربية محليا ودوليا، وسأحاول في هذه العجالة الانتقال من الأمس إلى اليوم لملامسة بعض الآليات المعيقة للإصلاح والوقوف على تداعياتها وآثارها. ومن ذلك يمكن تسجيل؛
أ ـ هيمنة النزعة البيروقراطية على التربية؛ وحتى يبقى الفعل التربوي تحت إشراف وتوجيه الفاعل السياسي، فإن النزعة البيروقراطية شكلت أداة فعالة في يد السلطات السياسية للهيمنة على أساليب تدبير المجال التربوي، بحيث بدل أن تكون الإدارة في خدمة العمل التربوي، أصبح على العكس من ذلك العمل التربوي خاضعا للقرارات الإدارية التحكمية، هذا مع العلم بأن التحكم الإداري في العمل التربوي من شأنه أن يعمل على تشييء المكونات التعليمية والتربوية بسبب ما تمليه الإدارة من مذكرات وما تخططه من ترسيمات وتدبجه من توجيهات وتبدعه من روائز تقويمية لأداء المعلمين (شبكات التقويم سابقا) والمتعلمين (مسار اليوم) إلى درجة أضحت معها الفصول الدراسية كما لو أنها هدف يمطره الجهاز الإداري بوابل من القرارات والمذكرات التي تنزل على رؤوس المدرسين تباعا وهم داخل فصولهم الدراسية. ومن الطرافة بمكان أن تنوب الإدارة المركزية عن المدرس في الفصل، فتنتج له خطط وعدد بيداغوجية ليعتمدها، بدل أن تبقي من بين صلاحيات واجتهادات المدرسين وإبداعاتهم داخل فصولهم . ومن شأن هذا التدخل الإداري في الشأن البيداغوجي، أن يحصر الممارسة التربوية/التعليمية ضمن خانات لجداول محددة تحول عمل المدرس إلى مجرد معطيات رقمية وترسيمات مقننة، الشيء الذي يسلبه من أي حق في ممارسة حريته المهنية في الإبداع الفني والاجتهاد المهني. إن هذا التدخل الإداري أبعد العملية التربية عن أهدافها الحقيقية، وهي التي لا يمكن أن تتحقق بواسطة عمل بيروقراطي متعال عن الشرط الإنساني. والواقع أنه لا يمكن لأي مذكرة أو توجيه إداري أن يقوم مقام المدرس في الفصل الذي هو الفضاء الأرحب لعمله بما يتطلبه ذلك من التوفر على هامش أوسع من الحرية؛ حرية المبادرة والمبادأة لابتكار أساليب العمل المناسبة لشخص المدرس ولتلاميذه وما يتطلبه مستواهم الفكري والعمري ومحيطهم البيئي من توفير لشروط بيداغوجية لا بد من مراعاتها حتى تتحقق النتائج المرجوة من العملية التعليمية بحسب المنهاج التعليمي بشكل عام.
بـ ـ هيمنة النزعة التقنية على البيداغوجيا؛ إن النزعة التقنية تقتل العملية التربوية، مثلما أن النزعة البيروقراطية تقتل العملية التعليمية، فالتقنية تنزع نحو التقسيم، التكميم، التوزيع والتجريب، والبيروقاطية تروم الهيمنة، التحكم والتسلط، والنزعتان معا مثلما تحكمتا بالأمس في مختلف دواليب العملية التعليمية ، فإنهما كنموذج للهيمنة، يتحكمان اليوم أيضا في عملية تطبيق بيداغوجيا الإدماج منذ بداية مرحلة التحضير مرورا بالفترة التجريبية وصولا إلى التطبيق والتعميم. وهكذا فقد هيمن على تطبيق هذه البيداغوجيا في منظومتنا التعليمية وجهة نظر واحدة ووحيدة، الشيء الذي انتهى بها إلى الفشل هي الأخرى.
وهكذا فعلى غرار النزعة التحكمية للبيروقاطية فإن التقنية تهيمن بدورها على منظومتنا التربوية /التعليمية، ومن معالم ذلك ما يظهر اليوم في البناء العام لمشروع المخطط الاستعجالي، من تفكيك لأوصاله بين 26 مشروعا، وتوزيع لمضامينه بين عدة أكاديميات جهوية، وتشييء لعناصره ومكوناته التي استحالت في معظمها أرقاما قابلة للتأويل والقراءة التحليلية من وجهة نظر معينة؛ ومن ذلك أنه تم التركيز على الأرقام والنسب التي تؤشر على تغيبات الأساتذة (2مليون يوم غياب)، أو على الحصص التي لا يكتمل إنجازها من طرف الأساتذة ( 85%) في بعض الأسلاك التعليمية،أو ضعف معدل الأيام الدراسية الفعلية(71%) في السنة، وما يعاب على هذه القراءة التقنية للأرقام وما خلصت إليه من استنتاجات، هو أنها اعتمدت فقط مبدأ الملاءمة ؛أي مدى مصداقية الرقم المعطى اعتمادا على الوسائل المثبتة، فالرقم المهول المصرح به حول التغيبات مثلا، مثبت بالشواهد الطبية التي تم ضبطها عدا وإحصاء، لكن لم يتم الانتباه، بالموازاة مع ذلك، إلى وجه آخر للقراءة لا يقل أهمية إن لم نقل إنه الأهم، وهو ضرورة اعتماد مبدأ المشروعية إلى جانب الملاءمة في أي قراءة للأرقام في مثل هذه القضايا والمجالات؛ بمعنى هل هذه التغيبات في مجملها قانونية وطبيعية بحيث يحق للموظف الاستفادة منها، أم لا؟ ومن هنا يمكن طرح العديد من الأسئلة؛ ما نسبة النساء من مجموع رجال التعليم (280 ألف تقريبا) اللواتي يستفدن خلال سنة دراسية كاملة من رخصة الولادة ومدتها 84 يوما كرخصة للموظفة بالتمام والكمال؟ ما نسبة الذين يتعرضون من رجال ونساء التعليم لعمليات جراحية تتطلب أياما للشفاء والاستشفاء؟ ما نسبة أولئك الذين يصابون بوعكة صحية مفاجئة تلزمهم الفراش في البيت ولو لأيام معدودة؟ وبدون شك فإن البحث في مجموع هذه النسب من تغيبات رجال التعليم المشروعة، سيفضي بنا إلى عدد يقارب إن لم يصل إلى مليوني يوم غياب بشواهد طبية كما جاء في تقرير المجلس الأعلى للتعليم. وهكذا فلن تتحقق الموضوعية عند قراءة الأرقام في مثل هذه المجالات إلا حين يتم الجمع بين الملاءمة والمشروعية، وما عدا ذلك فيبقى مجرد تشهير وتشويه لصورة المدرس في الوقت الذي ينبغي العمل فيه على إقامة علاقة تقوم على أساس من الثقة والتفاهم والتواصل والتعاون بين مختلف مكونات القطاع رؤساء ومرؤوسين، إداريين ومدرسين، مقررين ومنفذين....
إلا أن الوقائع أكدت أن ذلك الأسلوب في قراءة الأرقام واستنطاقها كان بنية الوصول إلى القناعة باختزال مجمل المشاكل التي يعرفها التعليم المغربي، بكل ما يستشري فيه من قصور في الأداء، وضعف في المردودية، وتراجع في المستوى، في عامل واحد ووحيد؛ وهو ما يجري داخل الفصل الدراسي بالتحديد، ومعنى ذلك أن داخل الفصل الدراسي حيث تجري العملية التعليمية بأنشطتها البيداغوجية وأساليبها التدريسية، يتحمل المدرس وحده مسؤولية النتائج المترتبة عن عمله، من حضور أو غياب، من مثابرة أو قصور أو إهمال، من جد أو تهاون، ثم ومن نجاح أو إخفاق في تحقيق النتائج المرجوة... وبالعودة إلى ما تم تسجيله حول الوقوف على المؤشرات الكمية للهذر في الزمن المدرسي، فإن المدرس إذن، هو المسؤول الأول والأخير عن ما آلت إليه وضعية المدرسة المغربية، وبالتالي فإن المخطط الاستعجالي ينبغي أن ينصب على تقويم الاختلالات التعليمية ميدانيا داخل الفصل الدراسي أولا، إنها الخلاصة الأكثر حضورا وتداولا.
وهكذا بدأت الإجراءات العملية للحد من عوامل الهذر في الزمن المدرسي بالتفكير في إحداث آليات إدارية وتقنية أشد صرامة وأكثر حصرا لأنفاس المدرس داخل فصله الدراسي؛ ولأجل هذه الغاية، صدرت المذكرة الوزارية رقم 4 بتاريخ 12 يناير 2009 في شأن تطبيق النظام الجديد لتقييم الأداء المهني لموظفي القطاع، وقد نصت على ضرورة العمل بشبكة التقييم الجديدة، وقطع الصلة بأشكال التقييم المعمول بها قبل هذا التاريخ. على أن هذه الشبكة الجديدة بدل أن تأتي لتيسر، فقد جاءت لتعسر لكثرة ما شابها من تعقيدات تقنية في الشكل، وغموض في صيغ العديد من المؤشرات؛ ذلك أن شبكة التقييم الخاصة بالتفتيش تتضمن في مجملها 5 معايير موزعة على 13 عنصرا، كل واحد منها يحمل عددا من المؤشرات بلغت في مجموعها بالشبكة 53 مؤشرا مع ما يقتضيه كل مؤشر على حدة من حكم تقييمي يترجم إلى علامة(نقطة). لذلك رفضت معظم مكونات هيئة التفتيش النموذج الجديد بعد أن تأكدوا من أن عملية تعبئة شبكة التقييم الجديدة تتطلب من الواحد منهم أكثر من ساعتين من الجهد والتدقيق والتمحيص في ما تضمنته الشبكة من معايير ومؤشرات قد تدخلهم، إما لدقتها، أو لتضارب مضامينها، في متاهات يتعذر الخروج منها، خصوصا وأنها تبقي على مجموعة من الإشكالات مطروحة؛ فالشبكة الجديدة في التقييم تتضمن العديد من المؤشرات والمفاهيم التي تحتاج إلى تدقيق في المعنى، ووضوح في المبنى؛ فبأي معنى، مثلا، يمكن قياس مؤشر"استمتاع المتعلم بالتعلم"؟ وعلى أي أساس يتم تقييم التربية على الاختيار؟...الإبداع؟....البحث؟ وهل من الممكن حصر الكفايات المستهدفة في التعلم من خلال حصة واحدة في الوقت الذي تحتاج فيه عملية اكتساب الكفايات مدى زمنيا من سيرورة العملية التعليمية/التعلمية.
ولم يقتصر الأمر عند تنزيل شبكة التقييم الخاصة بالمفتشين، وإنما إلى جانبها، وبالموازاة معها، أنزلت شبكة تقييم أخرى خاصة بمديري المؤسسات التعليمية لا تقل تعقيدا وإغراقا في التقنية عن سابقتها، وكأن في ذلك إمعانا من الوزارة في المزيد من تضييق الخناق على حركية المدرس وحصر نشاطه داخل الفصل الدراسي، ودون الخوض في ما جاءت به شبكة المديرين تمحيصا وتشريحا، يمكن القول إجمالا بأنها لم تستحضر ما يطبع مهام رجال الإدارة التربوية من اختلاف بحسب الأسلاك التعليمية، فهي شبكة تقييم واحدة موحدة، في حين أن ما يليق بطبيعة العمل بالتعليم الثانوي أو الإعدادي، لا ينطبق على ما يجري بسلك التعليم الابتدائي سواء من حيث أشكال التقييم أو إعداد الوثائق وتحيينها، أو من حيث تعدد التخصصات واختلاف الشعب.
وعلى الرغم من إصرار الوزارة على تطبيق هذا الشكل من التشبيك في تقييم أداء موظفيها كما لو أنها حققت بذلك كشفا جديدا في الميدان، فإنها أمام اتساع دائرة الرفض من طرف مختلف الفئات العاملة في القطاع، من مدرسين وهيئة تفتيش وإدارة تربوية، لم يبق لها إلا أن تعلن، وعن مضض، عن تراجعها اعتماد العمل بشبكة التقييم الجديدة. ولعل إقبال الوزارة على هذا التراجع أمر ليس بالهين ولا هو باليسير، مما يسمح لنا باستخلاص أكثر من معنى، وأبعد من مغزى؛ فهو تراجع ليس عن آلية في التقييم أكثر إغراقا في النزعة التقنية والتعقيد البروقراطي فحسب، وإنما هو فوق ذلك وأهم منه، تراجع عن قرار يدخل ضمن برنامج وزاري صرفت أموال من أجل إعداده وتجريبه والتعريف به في لقاءات إعدادية وتكوينية مركزيا جهويا ووطنيا. لذلك فإن ما حدث من تراجع هو في المحصلة وبالنتيجة، هذر مركب؛ هذر للمال، هذر للجهد، وهذر للزمن.
3 ـ مداخل للإصلاح التربوي.
استنادنا إلى كل ما تقدم يتبين أن مكمن العطب لمختلف التجارب الإصلاحية أو التصحيحية التي عرفتها المنظومة التعليمية يتجسد في كون تلك المحاولات لم تصل بعد إلى الإحاطة بالمشكل الحقيقي للمنظومة التربوية/التعليمية، لأنها لم تتجه لا إلى التلميذ باعتباره هو محور العملية التربوية والمستهدف الأول والأساسي من العملية الإصلاحية للمنظومة، ولا إلى الجانب البيداغوجي الذي هو أساس تكوين شخصية مواطن المستقبل. وإنما بقيت كل المحاولات محصورة في نفس الدائرة المغلقة رهينة التوافقات السياسية بين الفرقاء السياسيين مما أبعدها عن ملامسة القضايا التربوية الكبرى التي أصيبت بعاهة التكلس والكساد اللذان سيؤديان بها إلى السكتة القلبية إن لم يتم تدارك الوضع قبل فوات الأوان . ومن اجل تجاوز تلك العوامل التي تحول دون أية إمكانية للإصلاح فإن الأمر أصبح يتطلب منا التوفر على قدر كبير من الجرأة الأدبية والشجاعة السياسية لمناهضة كل العوامل والأسباب التي لا زالت تحول دون تحقيق نهضة تعليمية شاملة. على أن ذلك لن يتحقق في اعتقادي الشخصي إلا إذا تحقق ما يلي ؛
ـ القيام بثورة تربوية شاملة يساهم فيها كل مكونات المجتمع، ثورة تستند على قرار سياسي قوي يعبر عن إرادة حقيقية للدولة في إصلاح التعليم ويسعى إلى تحقيق نهضة تربوية تستجيب لتطلعات الشعب التنموية وتساير التحولات الكونية في مختلف المجالات والميادين، على أن يكون من أولى أهداف هذه الثورة مقاربة الإشكالات التربوية الكبرى التي لم تتم ملامستها من قبيل؛ أي فرد نربي؟ أي مواطن نكون؟ أي مدرسة نريد ولأي مجتمع نريد؟ ؛
1 ـ محو كل مخلفات القرار السياسي الذي اعتمده الوزير محمد بنهيمة منذ الستينيات من القرن الماضي، وقد كان من أبرزها؛
ـ "التراجع في الإنفاق عن التعليم" الذي جعل المدرسة المغربية العمومية فقيرة المحتوى مسلوبة الإشعاع الثقافي فاقدة البريق الاجتماعي...أي مجرد كيان بلا روح.
ـ "الثقافة مجرد حلية (زينة) للفكر" مما أصبغ على التعليم صورة القطاع "غير المنتج"، وهي الصورة التي تم تداولها بخلفية سياسية على أوسع نطاق.
ـ التراجع عن "التعميم" بدواع مادية واقتصادية وهو من بين أهم "المبادئ الأربعة" التي لم تتحقق أهدافها إلى يومنا هذا، وإن كان المفهوم من "التعميم" اليوم يختلف عن معناه السابق.
ـ التراجع عن "التعريب" وقد تم تحت ذريعة النقص في الموارد البشرية الكافية لتحقيق ذلك، ولا يزال المشكل عالقا يتأرجح بين الرفض والقبول وكأننا لم نتقدم خطوة إلى الأمام في الزمن الارتكاسي.
2 ـ إن ما أدعو إليه ليس بثورة سياسية ولا هي بفلكية، وإنما أدعو إلى تبني ثورة في التربية هي أشبه ما تكون بالثورة الكوبرنيكية في علم الفك، ينبغي أن يتم بمقتضاها العمل على:
ـ جعل التربية بمختلف قضاياها هي المركز، وتحويل السياسة وآلياتها التحكمية (البيروقارطية والتكنوقراطية) إلى هامش يحوم حول المركز (التربية) لييسر أدوار التربية ويستجيب لمتطلباتها,
ـ جعل المنهاج التعليمي بعد الارتقاء بمضامينه وتوجهاته، يتحول من منهاج تعليمي إلى منهاج تعلمي إجرائي، من منهاج يشحن العقول، إلى منهاج يكون العقول ويعدها للحياة الاجتماعية بمختلف متطلباتها. على أن الأمر هنا يتعلق بموضوع ليس من اليسير الخوض فيه دون السقوط في حلبة للصراع الإيديلوجي بين الفرقاء السياسيين، لذلك ينبغي قلب المعادلة في هذا الإطار، وذلك بإعطاء الأسبقية للمفكرين البيداغوجيين في أي إصلاح من هذا القبيل قبل الفرقاء السياسيين.
ـ العمل على دمقرطة الحقل التربوي باعتماد الحكامة التدبيرية الجيدة في إدارة شؤون المنظومة التربوية، وذلك بربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد مبدإ الشفافية في التدبير المالي والمادي والحرص على تحقيق الجودة، وكذا تحقيق تكافؤ الفرص في الاستفادة من الخدمات التربوية والتعليمية...
3 ـ إن برامجنا التعليمية ومقرراتنا التربوية تفتقر جميعها إلى وجود عنصرين أساسيين في تكوين الشخصية لكي تكون متكاملة ومتوازنة نفسيا واجتماعيا؛ وهما؛
ـ الحرية؛ وهي وإن كانت عنصرا من طبيعة الإنسان وجوهره، فإن نظامنا التعليمي يتعامل معها كما لو أنها من المحظورات أخلاقيا ومن الممنوعات سياسيا. على أن المعنى المقصود هنا هو حرية الاختيار حيث يتحقق مبدأي الالتزام بشروط الاختيار وتحمل مسؤولية النتائج المترتبة عن الاختيار. وبذلك تتحقق التربية على الحرية بما هي التزام ومسؤولية.
ـ الحب، وهو غريزة إنسانية وفطرة طبيعية فطر الله الإنسان عليها، وبدونها تستحيل الشخصية إلى كيان بشري بدون عواطف إنسانية ولا وجدان بشري، ومع ذلك فإن برامجنا تتغاضى عن هذه العاطفة الإنسانية كما لو أنها حرام أو محرمة. وما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن غياب التربية على الحب بما يعنيه من حب الوطن، أو حب الوالدين، أو حب الزوجة لزوجها أو العكس أو حب الفرد للآخر من البشر دون تمييز...قد يترك الفرصة سانحة لتنمو بذل الحب، العدوانية كغريزة في مقابل الحب، فكيف للمنهاج أن يعد الناشئة على الحب والتسامح والبناء بدل الكراهية والعنف والإرهاب الذي يزداد استفحالا إذا ما غيب التربية على العواطف الإنسانية النبيلة.
وأخيرا وليس آخرا، أختم بالقول بأن السياسة هي كالأخطبوط التي لا خلاص من أذرعها المتعددة إذا ما التفت حول العنق إلا بالبتر. على أنه إذا كان لابد للسياسة من التدخل في المشاكل التربوية، فمن الأجدر والأجدى أن يتم ذلك بعد تدخل أهل العلم من ذوي الاختصاص في ميادين علوم التربية وليس قبل.
محاضرة ألقيت بدعوة من التنسيقية الجهوية لجمعية الشعلة يوم 22 فبراير2014 بقاعة جماعة سيدي بليوط بالدار البيضاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق