الأحد، 27 ديسمبر 2015

سبعة ثقوب معرفية سوداء إدغار موران

سبعة ثقوب معرفية سوداء
نقد الأساس المعرفي للمنظومة التربوية الحالية



تقديم
تعميمًا للفائدة، نقدِّم لقارئ معابر ترجمةً للنصِّ الكامل للمحاضرة التي ألقاها عالم الاجتماع الفرنسي المرموق إدغار موران في الرباط، بدعوة من وزارة التربية الوطنية والشباب، بتاريخ 6/2/2004.
إن صيغة المحاضرة عادةً ما تُلزِم الباحث بتبنِّي نظام في العرض يتوخى الوضوح والعمومية في معالجة قضايا غالبًا ما تكون معقدة وتستند إلى تفاصيل يصعب على غير المتتبِّع لعمل الباحث أو المفكر أن يحيط بها و/أو يستحضر خلفيتها.

وتشكِّل محاضرة إدغار موران نموذجًا لهذا التمرين الپيداغوجي [=التربوي] والفكري الذي يلخص مسار حياة كاملة، استغرقها النضالُ من أجل مستقبل أفضل، والبحث النظري والميداني، والتأمل الفلسفي في القضايا الكبرى للوجود الإنساني. وتأتي فائدة هذه المحاضرة من كونها تقدِّم المعالم الكبرى للمشروع التربوي الذي يدافع عنه إدغار موران، منذ سنوات، استنادًا إلى نتائج وتراكمات مسار طويل في البحث والتفكير والنضال من أجل مستقبل أفضل، يكون فيه الفهمُ والقرارُ في مستوى التعقيد الذي يحكم تداخُل المستويات والمرجعيات والآفاق.
ويوجِّه موران سهام نقده القوي إلى هندسات الإصلاح كلِّها، العاجزة عن إدراك مطالب التعقيد، المؤمنة بالنفعية، والناسية – أو المتناسية – للشرط الإنساني.
كما يظهر في هذه المحاضرة مدى أهمية – بل ضرورة – توفُّر رؤية شمولية لدى كلِّ مَن يطمح إلى إصلاح المنظومة التربوية، وكذلك مدى خطورة أصحاب النظرة التجزيئية والتقنية المحض إلى قضايا التربية والتعليم.[1]
بقي أن أشير، في الآخِر، إلى أن مضمون المحاضرة يبقى متقدمًا على الأفق المعرفي للمنظومة التربوية المغربية الحالية، والعربية عمومًا، بحيث يمثِّل نوعًا من اليوتوپيا التي لا نعرف هل سيتمكن المجتمع العربي يومًا من أن يصل إلى أحد شواطئها أو يعيش أحد أزمنتها. وهو الأمر الذي يطرح سؤال القابلية الثقافية لنقل الأرضية المعرفية التي اقترحها موران في تقرير استشارته لصالح اليونسكو[2] إلى الواقع العربي أو لملاءمتها معه – وهو سؤال نترك أمر معالجته لمناسبة أخرى.
م.ز.
***

سأركِّز في هذه المحاضرة على أحد أهم الإصلاحات التي يفرضها إشكالُ التربية والتعليم الذي يتطلب، بدوره، العديد من الإصلاحات. إن أهم تحدٍّ يواجه المسؤولين هو ذاك الذي يخص اختيار مضامين التربية ومعارفها، أو بالأصح، المعارف الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها كلُّ تربية.
وأنطلق من ملاحظة أنه يتم تعليم المواد الدراسية والاختصاصات disciplines مفصولةً بعضها عن بعض. ولهذا الفصل تاريخ طويل أدى إلى إيجاد "ثقوب معرفية سوداء" حقيقية في مجال المعرفة، مما أعاق تقدمها، وجعل إصلاح المنظومة التربوية شبه متعذر، ما لم يتم التعرف إلى هذه الثقوب المعرفية السوداء.
وقد تعرفت، شخصيًّا، إلى سبعة ثقوب سوداء في النظام التربوي الحالي. وبناءً على هذا التعرف، أحاول إيجاد روابط بين الاختصاصات لإنقاذ ما تبتلعه هذه الثقوب السوداء. وفي هذا السياق، أقترح إيجاد سبعة كراسي تعمل على تحقيق هذا الهدف، وعلى نشر المعارف السبع الضرورية التي من شأنها استرجاع ما يضيع في تلك الثقوب.
وأذكِّر، بهذه المناسبة، أن مهمة الجامعة هي مهمة جامعة للاختصاصات، مهمة تجعل منها المؤسَّسة التي تعترف بتراث الماضي وتحاول إدماج الإبداعات الثقافية للحاضر وفتحها على المستقبل؛ ويعني هذا أيضًا أنه لا يمكن للجامعة أن تكون مجرد مؤسَّسة تتكيف مع محيطها الحاضر والحالي، فتكتفي بتأهيل المتخصِّصين أو المهنيين، بل هي مطالَبة بأن تحمي الثقافة وبأن تحملها في أحشائها وتصون مطلبَها الشمولي.
وليست الثقافة هي مختلف المعارف التي تكون لنا حول مختلف المجالات وحسب، بل هي المعارف التي ندمجها في حياتنا اليومية لمواجهة رهانات الحياة الفردية والجماعية، السياسية والاجتماعية. كتب روسو في كتابه التربوي الشهير إميل أو في التربية: "أن يحيا، هذه هي المهنة التي أريد تعليمها له" – قاصدًا تلميذه. طبعًا، لا يمكن أن نعلِّم التلميذ كيف يحيا حياةً مصطنعة، بل ينبغي له أن يطور قدراتِه الخاصة التي تسمح له بإدماج ما يتعلَّمه في حياته؛ مما يعني أن علاقة المتعلِّم بمادة التعلم تتطلب دائمًا علاقة إبداعية أصيلة. ولكن لنتوقف الآن عند هذه الثقوب السوداء في مجال المعرفة ولنتبيَّن أمرها.
الثقب الأسود الأول: ما تجب معرفته وعدم نسيانه بخصوص كلِّ معرفة
نعلِّم المعارف، ولكننا لا نجيب عن السؤال الأساس: ما المعرفة؟ ولا يتم الاهتمام بهذا السؤال إلا داخل اختصاص فلسفي نخبوي يسمى الإپستمولوجيا. كما لا يتم الانتباه إلى أن هذا المشكل – مشكل تعريف المعرفة – هو مشكل الجميع، ومشكل كلِّ واحد، في الآن نفسه. لماذا؟
لأن مشكل المعرفة هو في الأساس مشكل الخطأ والوهم. هناك جملة شهيرة لماركس يقول فيها: "إن الناس لا يعرفون ما هم عليه من أحوال ولا ما يفعلون." وهي جملة لا تَصدُق على عموم الناس فقط، بل تَصدُق حتى على ماركس نفسه! فهو لم يكن يعرف ماذا كان يفعل عندما كان ينجز أعماله. ولكن هذه الملاحظة تَصدُق علينا نحن أيضًا: فعندما نفكر في الماضي ونتأمله بنوع من التباعد، نجده عبارة عن سلسلة من الأخطاء والأوهام. وعندما نفكر في الماضي القريب، نتذكر الأهوال: النازية، الفاشية، الشيوعية، الستالينية، والليبرالية الجديدة؛ نكتشف أخطاء هذه المنظومات وأوهامها، على الرغم من أنها كانت تعاش كحقائق أكيدة. إن ما كان في الماضي حقيقةً أضحى في الحاضر خطأ أو وهمًا. وهكذا نستمر في اكتشاف أخطاء الماضي دون توقف. لماذا؟
لأن المعرفة الأبسط هي معرفة ترجع، في المآل، إلى الإدراك الذي يبقى دائمًا إدراكًا محدودًا. إذ ليست المعرفة أبدًا تلك الصورة المطابقة تمامًا لموضوعها؛ فهي لا تتطابق وواقعها تمام التطابُق. إنها إدراك لبعض المنبِّهات والمثيرات الحسية التي تُعاد ترجمتُها ومعالجتُها عن طريق آلاف الخلايا البصرية التي تنقل هذه المعطيات إلى الدماغ عن طريق بالغة التعقيد، تتحول عِبْرها تلك المعطياتُ إلى إدراك. وهي عملية مازالت موضوع أبحاث جارية للكشف عن أسرارها.
فعل المعرفة هو، إذن، ترجمة معينة لواقع خارجي وإعادة بناء له. وهو فعل نقوم به تلقائيًّا من خلال ما يُسمَّى بظاهرة "الثبات الإدراكي". وهذه تعني أن الأشخاص الحاضرين والجالسين في آخر القاعة هم أصغر حجمًا في شبكية عيني من الأشخاص الجالسين بجانبي؛ ومع ذلك، فإنني لا أتصور أصدقائي الجالسين في الصفوف الأمامية عمالقة والأصدقاء الجالسين في الصفوف الخلفية أقزامًا! فأنا أعرف أن كلَّ الحاضرين لهم الحجم نفسه تقريبًا. إن سيرورة الثبات الإدراكي هي التي تضمن إمكانية إعادة البناء التي نقوم بها في عملية الإدراك.
ونعرف، من جهة ثانية، أنه لا يوجد حدٌّ فاصل بين الإدراك، من جهة أولى، والهلوسة أو التهيؤات، من جهة ثانية؛ لا يوجد أي حدٍّ فاصل يُظهِر لنا الفرق بين الإدراك والتهيؤ. إن أصدقاءنا هم عادةً مَن ينبهوننا إلى ما نقع فيه من لَبْس. في عبارة أخرى، مادام لا يوجد اختلاف جوهري بين الإدراك وبين التهيؤ والوهم، فإننا نبقى معرَّضين لاحتمال اعتبارنا ما قد يشبَّه لنا على أنه الواقع، في حين أنه مجرد توهم. إن الوهم يتربص بنا في إدراكاتنا كلِّها، بما فيها تلك الإدراكات التي نعتبرها الأكثر مباشرة والتصاقًا بالواقع الفعلي.
في هذا السياق، سأحكي لكم عن حادثة شخصية، سبق لي أن كتبت عنها في أحد كتبي. ذات يوم، وجدت نفسي في أحد مفترقات الطرق في الوضعية التالية: تغير اللون المنظِّم للمرور، وشاهدت، في تزامن مع ذلك، سيارة تصدم راكب دراجة هوائية. بالنسبة لي، لم تحترم السيارة الإشارة المنظِّمة للمرور، في حين كان لصاحب الدراجة الهوائية الحق في المرور. فسارعت إلى مساعدة راكب الدراجة وإلى توبيخ سائق السيارة، فإذا براكب الدراجة يقول لي: "إني أنا الذي لم أحترم إشارة المرور!" لماذا أخطأت؟ لأنه كان من المنطقي، بالنسبة لي، أن يصدم الكبيرُ الصغيرَ وأن يكون الصغير هو الضحية الدائمة للكبير.
تقودنا هذه الحادثة إلى طرح مشكل الشهادة، وبالتالي، إلى طرح سؤال المعرفة. إنكم تعرفون أن الشهود يجدون دائمًا صعوبة بالغة في الشهادة بخصوص الحدث نفسه، على الرغم من أنهم جميعًا شاهدوه. ولكن، هل شاهدوه بالطريقة نفسها، ومن الزاوية عينها؟ هناك كتاب هام لمؤرخ إنكليزي يدعى نورتون كرو بعنوان في الشهادة، يتناول فيه وقائع الحرب العالمية الأولى، حيث يُظهِر أن الأحداث نفسها التي كان يعيشها الجنود نفسهم كانت تُدرَك بطُرُق مختلفة. لهذا علينا أن نحترس من إدراكاتنا وأن نعي حدود منظورنا. فإذا اقتنعنا بأن الأفكار والنظريات والتصورات هي ترجمات وتأويلات، فإننا، في هذه اللحظة، نعترف بأننا نواجه مشكلاً كبيرًا، هو ميلنا "الطبيعي" إلى الوهم؛ وهو ميل يطوِّقنا من كلِّ صوب ويهددنا تهديدًا مستمرًّا، على الرغم من محاولتنا التخلص منه. لهذا ينبغي أن نربي أنفسنا على التعامل مع فخاخ المعرفة، وأن نتعلم غربلة ومراجعة التأثيرات الثقافية التي تمارسها علينا المدرسة والعائلة بخصوص أفكار تظهر بديهية، كفكرة المجتمع والطبقة والفئة والأسرة إلخ. علينا، عمومًا، أن نتعلم التحكم أيضًا في التأثير الذي تمارسه هذه الأفكار على الأذهان التي تعتقد بها اعتقادًا مطلقًا. ولحسن الحظ، توجد دائمًا، في جميع المجتمعات، عقول ترفض هذه البداهة المفروضة أو المألوفة. ولكن، على الرغم من حسن الحظ هذا، يبقى خطرُ اليقين النهائي يهدِّد، مع ذلك، سيرورة المعرفة بإيقافها أو إنهائها. وهنا، نواجه مهمة أساسية: ضرورة تنسيب relativiser معرفتنا، وتعميم تدريس هذا التنسيب.
وعلينا الانطلاق من الإقرار بأن الأفكار ليست مجرد أدوات يستخدمها الإنسان لمعرفة الواقع؛ فنحن أيضًا يمكن لنا أن نصبح أدوات لأفكارنا. نحن نجد في مختلف الديانات الآلهةَ حاضرةً في قوة حضورًا فعليًّا، على الرغم من أنها – أنثروپولوجيًّا وسوسيولوجيًّا ونفسيًّا – مجرد أفكار إنسانية. فللآلهة سلطان عظيم على البشر، يجعلها تطلب منهم الطاعة والموت والقتل من أجلها. يتعلق الأمر هنا بظاهرة التملك الفكري أو الاستحواذ. وتَصدُق الملاحظةُ نفسها على الإيديولوجيات الكبرى: فهي أيضًا تطلب الموت من أجل الأفكار الكبرى. لهذا ينبغي لنا، تربويًّا، تدريس كيفية إقامة علاقة حوار بيننا وبين أفكارنا (التأمل الانعكاسي). لا يمكن لنا أن نمنع الأفكار من أن تتملَّكنا وتستحوذ علينا، ولكن يمكن لنا، نحن أيضًا، أن نراقب هذه الأفكار التي تراقبنا. لهذا السبب ينبغي لتدريس الحذر أن يشكِّل أولوية، ليس في التدريس الجامعي وحسب، بل منذ السنوات الأولى للتعليم الأولي. نعم، ثمة ضرورة لتدريس كيفية مواجهة خطر الوهم والخطأ في كلِّ عملية إنتاج للمعرفة وتحصيلها، دون أن يعني ذلك ضمان النجاح ضمانًا مطلقًا في ذلك. ولكن يمكن لنا، مع ذلك، تكوين مناعة ضد هذا التوجه نحو الوهم – وهي مهمة يمكن لها أن تكون أساسية.
الثقب الأسود الثاني: كيفية تحول المعلومات إلى معرفة وجيهة
ليست كثرة المعلومات هي المعرفة الوجيهة؛ وليست لهذه الأخيرة أية علاقة بالمبالغة في الترميز أو التعقيد. المعرفة الوجيهة هي تلك التي نتعرف من خلالها على القدرة على تنظيم المعلومات وتأطيرها ضمن سياقها، الذي يبقى أهم من المعلومات في حدِّ ذاتها. إننا نتلقى معلومات كثيرة من التلفزة، ولكننا لا نستفيد منها إلا إذا كان عمل رئيس التحرير متقنًا ومنظمًا واستطاع تأطير تلك المعلومات التأطيرَ الوجيهالذي يحولها من مجرد معلومات متفرقة حول الحدث إلى معرفة بالحدث. فإذا أخذنا، مثلاً، حالة النزاع في كوسوفو، فمن الواضح أنه لا يمكن لِمَن لا يستطيع استحضار الخلفية التاريخية للأحداث وتاريخ كوسوفو، وليس فقط جغرافيته، وعمق تأثير الإمبراطورية العثمانية، إلخ، أن يفهم شيئًا. ففي هذه الحالة – حالة غياب التأطير – تكون المعلومات مجرد أخبار متفرقة تهطل كالمطر، وليست لديك فرصة لتنظيمها والتحكم فيها. إن المعرفة الوجيهة هي التنظيم الملائم للمعلومات: فإذا كان تنظيم المعلومات جيدًا ومفتوحًا على المتغيرات، بحيث يستطاع إدماجُها، فإنه يولِّد معرفة جديدة ويكون قابلاً لإدماج المعطيات الجديدة واستيعابها. أما إذا كان التنظيم صارمًا ومغلقًا، كما هي حال التنظيمات السياسية، فإنه يتجاهل المعطيات التي لا يستوعبها أو لا يرغب فيها، مما يشكِّل خسارة لما تمَّ تجاهلُه.
إن مشكل تنظيم المعلومات مشكل عويص. وعوض أن يواجه تدريسُنا هذا المشكل، فإنه يتبنى منهاجًا يفصل بين الاختصاصات وبين المواد الدراسية، وبذلك، يُضعِف القدرة التي تكون للإنسان على وضع الأفكار في سياقها وتأطيرها التأطير المولِّد للمعنى. كان الشاعر ت.س. إليوت يردِّد عبارة جميلة يقول فيها: "أين المعرفة التي ضيَّعناها في المعلومات؟ وأين الحكمة التي ضيَّعناها في المعرفة؟" والحكمة هنا هي فن استيعاب هذه المعارف وهضمها لتساعدنا في حياتنا الخاصة.
لنأخذ مثالاً آخر من أحد العلوم الإنسانية الأكثر دقة وتنظيمًا، وليكن علم الاقتصاد، – لأنه يقوم على الحساب، وهو علم دقيق، وتوجد جائزة نوبل للاقتصاد، إلخ، – ولنطرح السؤال التالي: لماذا يواجه هذا العلم الدقيق مشاكل في تنبؤاته وفي بناء نماذجه التفسيرية؟ لماذا لا يستطيع علماء الاقتصاد التنبؤ بما قد يحدث، فيتساوون في ذلك مع رجل الشارع، على الرغم من علمهم؟ طبعًا لأنه لا يمكن اختزال الاقتصاد إلى الحساب فقط. بل هناك الحاجات المتولدة في استمرار، وهناك الرغبات والأهواء والملذات، وهناك التخوفات والتوجسات – هذه العوامل كلها تجعل عالَم الاقتصاد عالَمًا معقدًا تتداخل فيه هذه العوامل، سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو مالية إلخ. فإذا كان علم الاقتصاد علمًا مغلقًا، لا يمكن أن تربطه علاقةٌ بباقي العلوم وبباقي مظاهر الحياة الاجتماعية؛ وبالتالي، فإنه سيجهل كلَّ ما لا يدخل في الحسبان وكلَّ ما لا يقبل الحساب. وما هذا الذي لا يُحسَب؟ طبعًا إنه الألم والعذاب والسعادة والشقاء والإنسانية والإبداع والحياة. نواجه، إذن، مشكلة حقيقية، لا يمكن أن نحلها إلا إذا تبنَّينا فكرًاعلائقيًّا، فكرًا يفكر في العلاقات. إننا في حاجة إلى فكر يربط ويؤطِّر؛ إننا في حاجة إلى فكر يؤطِّر المعلومات ويضعها في سياقها، ويربط هذا السياق بأنظمته الكبرى التي تؤطِّر هذه المادة أو تلك – علمًا أن النظام العام الكبير اليوم ليس هو النظام الوطني، ولا حتى الجِهَوي، بل هو النظام الكوكبي. إن النظام العام هو النظام الأرضي بمعناه الأشمل.
إن كلَّ حدث كوكبي (عالمي) يؤثر على ما هو محلِّي تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر، كما أن الحدث المحلِّي يجد صداه على مستوى الكوكب الأرضي بأسره. إن هذا المعطى الأساس في عصرنا هو ما يعجز نظامُنا المعرفي والتربوي عن متابعته واستيعابه: فهو عاجز عن ربط المحلِّي بالكوني وبالكوكبي، وعن استخلاص النتائج التربوية لذلك. إنه لا يستطيع إدراك السياق الشمولي للمعطى المحلِّي أو الجِهَوي؛ كما أنه يعجز عن تبيُّن روابط الجزئي بالكلِّي. إن هذا العجز هو الثقب الأسود الذي يبتلع ويعدم كلَّ ما يمكن التوصل إليه بفضل هذا الربط وبفضل المعرفة الوجيهة التي تكون قادرة على تصور المشاكل الأساسية والشاملة في سياقها الكوكبي، بجميع أبعاده ودلالاته. وهذا هو أساس العمل الذي قمت به في عملي الذي أسميته المنهج La Méthode، حيث حاولت تطوير أدوات المعرفة التي تسمح بربط المعارف المفصولة بعضها عن بعض. وأكتفي هنا بمجرد الإشارة إليه لضيق الوقت.
الثقب الأسود الثالث: الشرط الإنساني، تلك القارة المنسية
يخص هذا الثقب الشرط الإنساني. وهو يستدعي الاستغراب والدهشة؛ إذ لا يوجد مكان خاص ندرِّس فيه ونعلِّم شرطنا الإنساني، أي ما نحن عليه من أحوال، باعتبارنا كائنات إنسانية. وهو موضوع مهمل، ليس فقط من طرف العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، بل حتى من طرف العلوم الدقيقة، لأن جزءًا هامًّا من النشاط الإنساني يندرج ضمن موضوعات هذه العلوم الأخيرة، باعتبارنا حيوانات تنتمي إلى الثدييات، بل وحتى بالنسبة إلى العلوم الفيزيائية والكيميائية. فنحن نعرف اليوم أن الحياة هي تنظيم لعناصر فيزيائية–كيميائية، جزيئات تتكون من ذرات. إن جزءًا من الوضع الإنساني هو واقع فيزيائي–كيميائي. ولكن تدريس هذه العلوم مفصولةً بعضها عن بعض يجعلنا لا ندرك هذه الروابط وتشكيلها للإنسان، على الرغم من أن الواقع الفعلي لوجوده يعكس التحام هذه العوامل وانصهارها فيه. فبفضل تطور علم الفلك وآليات الرصد والتتبع، على المستويين الماكروفيزيائي والميكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في جسمنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون. فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا؛ وبعد انفجارها (النجوم)، تشتتت هذه الذرات و/أو تجمعت في الكوكب الصغير الذي نسميه اليوم الأرض. كما نعرف اليوم أن العناصر الأولية تراكبت حتى توفرت شروطُ ظهور الحياة. وأقول إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى التي ظهرت في الثواني الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي؛ كما نحمل في داخلنا العالم الحيواني؛ ونحمل في داخلنا، أيضًا، بنية الكائنات الفقارية وكلَّ ما يرتبط بتاريخ الثدييات: فنحن نرضع الأبناء، ونحمل في داخلنا الشواهد على الحياة البدائية.
لكننا تجاوزنا هذا كلَّه لأننا كائنات تنفرد بالثقافة واللغة والوعي والبُعد الروحي، مما يجعل وضعنا الإنساني وضعًا غريبًا ومثيرًا. فنحن، على مستوى أول، ننتمي إلى هذا الكون انتماءً قويًّا، تشهد عليه خلايا أجسامنا وتركيبتنا المادية؛ ونحن، على مستوى ثانٍ، ننفصل عنه ونتعالى عليه بالوعي: إننا كالأيتام في هذا الكون، لأننا نتميز بهذه الخاصية التي تجعلنا كائنات واعية تتساءل عن مآلها وقدرها.
إن شرطنا الإنساني شرط معقد. وهذا يعني أننا لسنا فقط مجرد أفراد، بل نحن أفراد ينتمون إلى مجتمع، وفي الآن نفسه، إلى النوع البشري. وهذا معطى معقد لا ينفع معه أي حساب؛ إذ لا يمكن لنا القول إن الكائن الإنساني هو كائن بيولوجي بنسبة 33%، وثقافي بنسبة 33%، وسوسيولوجي بنسبة 33%، بل هو كائن بيولوجي 100%، وثقافي 100%، وسوسيولوجي 100%! إن هذا المعطى هو الذي يطرح علينا مشكل الفكر المعقد la pensée complexe الذي لم نتعود عليه، ولا نمتلك منهجيتَه ولا أدواتِه. ولا يمكن لنا مواجهة المشكل إلا إذا تبنَّينا القول بنوع من الارتباط المغلق والمفتوح في الآن نفسه، مفاده أن طرفي العلاقة ضروريان أحدهما للآخر ضرورةً تامة غير منقوصة، بحيث يكون الناتج ضروريًّا لمنتجه. فنحن نتاج ظاهرة توالد بيولوجي (تكاثر النوع بحسب برنامجنا الوراثي)؛ ولكننا بفضل هذه الخاصية منتجون أيضًا، فنلد الأولاد، ولا يكون كلُّ مولود عضوًا في الجماعة البشرية فقط، بل مولود يحمل في ذاته وفي كيانه النوعَ البشري ككل. وقل الشيء نفسه بخصوص العلاقة بالمجتمع: فنحن ننتمي إلى المجتمع بالقدر الذي نكوِّن به هذا المجتمع. إننا داخل المجتمع، والمجتمع داخلنا. فنحن نتعلم، منذ طفولتنا الأولى، منظومة المعايير والقيم واللغة والثقافة وقواعد السلوك. وهذا ما أسميته بـ"مبدأ الاشتمال": اشتمال الجزئي على الكلِّي، بحيث يكون الكل متضمَّنًا في الجزء. وبالتالي، تتخلَّى طريقةُ تفكيرنا عن اعتبار أن الجزء هو الوحيد الذي يكون متضمَّنًا في الكل، وأن الكلَّ لا يمكن له أن يُتضمَّن في الجزء. إن الكلَّ يكون هو أيضًا ضمن الجزء. إذا استوعبنا هذا المبدأ، أدركنا الشرط الإنساني وتعقيده.
غير أني أضيف إلى هذا المجال مجالاً آخر، لا يقل أهمية عنه لفهم واقع الشرط الإنساني: إنه مجال الأدب، والرواية بصفة خاصة. إذ تستطيع الرواية أن تُظهِر لنا ما لا تستطيع العلوم الإنسانية إظهارَه. فهذه الأخيرة تُظهِر لنا الإنسانَ من خلال خصائصه الموضوعية والخارجية؛ ولكن الرواية تنفذ إلى عمق الإنسان، وتكشف لنا عالمه الداخلي، كما تُظهِر لنا الذوات من خلال طريقة تفكيرها وتوترات أهوائها وطموحاتها وحماقتها وذكائها وعلاقاتها الاجتماعية وسياقها التاريخي. ويمكن لنا أن نأخذ رواية الحرب والسلم لتولستوي كمثال، بحيث نستطيع القول إننا بفضل الأدب نستطيع معرفة الذات الإنسانية، بل ويمكن لنا النفاذ إلى عمقها بفضل الأعمال الأدبية الرائعة لمارسيل پروست أو دوستويفسكي، مثلاً لا حصرًا؛ كما يمكن لنا الاقتناع، بفضل قراءة هذه الأعمال، بأن كلَّ واحد منَّا يحمل في داخله شخصيات عدة، لا شخصية وحيدة وواحدة. لنقل، بهذه المناسبة، إن الأدب ليس شيئًا كماليًّا، بل هو ما ننفذ به إلى أعماقنا. وهذا ما ينبغي للمدرِّسين أن يفهموه ويستوعبوه وأن يوجِّهوا التلاميذ إليه، بدلاً من إفقار هذه العلاقة بالاكتفاء بتحليل النصوص وتشريحها سيميولوجيًّا [دلاليًّا] ونحويًّا.
ولا تتجلَّى ضرورة الأدب في ضرورة الرواية فقط، بل أيضًا في ضرورة الشعر، الذي لا نرى فيه مجرد ذاك الشيء الجميل في حدٍّ ذاته، بموسيقاه المتفردة، لأن الشعر هو تعلُّم وانفتاح على شاعرية الحياة. الشعر باب آخر نلج منه إلى عمق العالم الإنساني الشاسع.
عُرِّف بالإنسان قديمًا بأنه "حيوان عاقل". وينبغي لنا اليوم الاعتراف بأنه ليس فقط حيوانًا عاقلاً، بل هو أيضًا "حيوان مجنون"! وقد سبق للفيلسوف كورنيليوس كاستوريادس أن قال: "الإنسان حيوان مجنون، ولكن جنونه خلق العقل."
وعُرِّف بالإنسان قديمًا بأنه "صانع آلة"، وبالتالي، عُرِّف بمهارته التقنية – وهذا أمر واقع لدى البشر. ولكن ينبغي لنا التأكيد على أنه، منذ نشأة البشرية، كان هناك دائمًا لدى البشر اعتقادٌ في عالم آخر؛ كان لديهم اعتقاد في الأساطير والديانات. وهذا ما يجب التوقف عنده مطولاً، وليس عند مهارته التقنية وحسب. فنحن نعرف اليوم أن صناعة الأدوات سابقة على ظهور الإنسان العاقل؛ كما أن الأبحاث أكدت وجود هذه المهارات عند بعض أنواع الشمپانزي المسماة بونوبو، حيث يعلِّم الكبارُ الصغارَ بعض تقنيات صناعة الأدوات. ولكن الفرق الأساسي يبقى هو الاعتقاد في حياة أخرى بعد الموت. الأساطير الإنسانية جمعاء تؤكد هذا الأمر.
كما عُرِّف بالإنسان، ابتداءً من القرن الثامن العاشر، كـ"كائن اقتصادي"، تحرِّكه مصلحتُه الاقتصادية؛ ولكن هذا التعريف ينسى كلَّ ما يستطيع الإنسان فعلَه بعيدًا عن مصلحته الاقتصادية، وأحيانًا ضدها، كاللعب والعطاء والممارسات المجانية إلخ.
لهذه الاعتبارات جميعًا، يجب أن نحذر بعض الشيء عندما نطرح موضوع "الشرط الإنساني". فعندما ننظر إلى الإنسان من زاوية مظهره الاقتصادي أو التقني أو العقلي فقط، فإننا لا نرى من هذا الإنسان إلا جانبًا واحدًا. والحال أن المظاهر الشاعرية للحياة هي تلك التي نتعرف إليها في اللعب، وفي الاتحاد والالتحام، وفي التعاطف مع الآخرين، وفي العطاء، وفي الحب. إنها مظاهر شاعرية الحياة. كان الشاعر هولدرلِن يقول: "الإنسان يسكن الأرض شعريًّا." نجد هذا التصريح متفائلاً جدًّا. لهذا قيل: "الإنسان يسكن الأرض شعريًّا وعاديًّا." ولكن من الأهمية القصوى أن نعلِّم كيف نحيا الحياة شعريًّا وكيف نستضيف الشعر في حياتنا.
وأسجِّل، على مستوى آخر، ودائمًا بخصوص الشرط الإنساني، أنه يتم تصور العقل الإنساني في نشاطاته مفصولاً عن النشاط الإنساني، بأبعاده الكبرى، وعن الأهواء. وهي فكرة خاطئة اليوم؛ ويمكن رفضها كليًّا بناءً على نتائج أبحاث أنطونيو داماسيو وجان ديدييه فَنسان ودراسات أخرى للدماغ البشري، أظهرتْ أن النشاطات العقلانية للدماغ تشغِّل مناطق دماغية انفعالية وتنشِّطها. فعالِم الرياضيات، عندما يقوم بحلِّ مشكلة رياضية، لا يكون بصدد إنجاز عمل تقني صرف وخالص وحسب، بل إنه يقوم أيضًا بنشاط انفعالي. لا يمكن لنا اليوم فصلُ الأهواء عن النفعية ولا عن العقل؛ فالكل يشكِّل تركيبة معقدة. ولهذا المعطى الأساس نتائج مهمة في مجال التربية. وإحدى الخلاصات الهامة هي أن النشاط الانفعالي يبقى حاضرًا، بكيفية ما، حتى في النشاط العقلاني المجرَّد، كما يبقى البُعد العقلاني حاضرًا، بكيفية ما، حتى في الأنشطة الانفعالية.
إن معرفة الشرط الإنساني والهوية الإنسانية يستدعيان الربط بين الاختصاصات التي تُدرَّس اليوم منفصلةً بعضها عن بعض. ولهذا أرى أنه، إلى جانب كرسي يخصَّص للمعرفة كما حددناها، لا بدَّ من تخصيص كرسيٍّ للهوية الإنسانية، يكون من مهامه توجيه عقول المتعلِّمين نحو الربط بين المواد والاختصاصات من أجل بناء هوية تقترب أكثر من التعقيد الذي يطبعها.
الثقب الأسود الرابع: ضرورة السير على طُرُق الفهم والتفاهم
يتعلق الأمر، هاهنا، بكيفية فهم بعضنا بعضًا. فنحن نلاحظ، من جهة أولى، الانتشار الواسع لوسائل الاتصال وتعقد شبكة المواصلات السلكية واللاسلكية التي لم تعرف البشرية من قبل مثيلاً لها (الهواتف المحمولة، الإنترنت، إلخ)؛ ونلاحظ، من جهة ثانية، عدم فهمنا بعضنا بعضًا، وعدم التفاهم بين الأمم والقارات والثقافات، مما يعني أن التواصل لا يأتي بالضرورة بالفهم ولا بالتفاهم. نجد نقل المعارف والمعلومات، ولكننا لا نجد الفهم ولا التفاهم.
كما نجد، على مستوى آخر، أن القرب لا يضمن بالضرورة الفهم والتفاهم، سواء داخل الأسرة نفسها، بين الآباء والبنين، بين الإخوة والأخوات، أو حتى داخل مكان العمل نفسه، أو الجامعة نفسها. إن عدم التفاهم ليس ذاك الشر الذي يجعل العلاقة صعبة بين الشعوب والديانات وحسب، ولكنه ذاك الشر الذي يمس الحياة اليومية لكلِّ واحد منا. كيف يمكن لنا تحقيق التقدم والرقي بالعلاقات الإنسانية إذا كنَّا عاجزين عن التفاهم فيما بيننا؟ ما هي هذه العوائق التي تمنع التفاهم في العالم المعاصر؟
نجد دائمًا أن الشرَّ يأتي من علاقة محددة، هي تطور النزعة الفردية individualisme تطورًا أعطى الفرد مزيدًا من الاستقلالية. وينبغي الإسراع في القول إن هذه الخاصية تُعتبَر معطى حضاريًّا أساسيًّا وإيجابيًّا. ولكن عندما يتم هذا التطور (تطور النزعة الفردية) على حساب روابط التضامن التقليدية، فإنه لا يخلق العزلة وحسب، بل يصنع الأنانية والتبرير الذاتي وتجريم الآخرين وتحميلهم مسؤولية جميع الأخطاء.
مثلاً، لا أعرف هل تعرف مدينة الرباط أو الدار البيضاء الاكتظاظ السكاني نفسه الذي تعرفه مدينة باريس في حركة السير في ساعات الذروة، ولكنه مشهد مفيد. فعندما يشاهد المرء ما يقع بسبب هذا الازدحام من انفعال وسبٍّ وشتم، فإنه يقتنع في سهولة بصعوبة التحكم في الانفعالات وبضرورة الانتباه إلى الآخرين ومحاولة فهمهم.
إضافة إلى هذا المعطى، هناك شيء آخر ركَّز عليه الفيلسوف هيغل، ألا وهو اختزال الغير إلى أحد خصائصه، أي عزل عنصر واحد من عناصر هويته والتركيز عليه واختزاله إليه – وهذه هي الفعلة الأسوأ. يقول هيغل: إذا وصفتُ رجلاً ارتكب جريمة واحدة في حياته بالمجرم، فإني أنزع عنه مظاهرَ حياته وأفعالَه كلَّها، لأسجنه في هذا المظهر الوحيد ولأرجعه إليه. إن هذه الآلية التي تكلَّم عليها هيغل هي إحدى آليات سوء الفهم والتفاهم. وهي لا تَصدُق على الحالات الفردية وحسب، بل حتى على الجماعات. فحرب كوسوفو التي وقعت بين مكوِّنات كانت، حتى عهد قريب، تشكِّل "أمَّة واحدة" أظهرت كيف أن آلية اختزال الغير إلى عنصر واحد فقط من عناصر هويته وتاريخه هي تنكُّر لتاريخ مشترك يسَّر التجاوزات كلَّها باختزال العدو إلى صفة واحدة. إن عدم التفاهم هو الخميرة التي تنمِّي أسوأ مظاهر العداوة والحقد التي يمكن لها أن تستشري بين الناس وبين المجتمعات.
ويهمنا هنا جانبٌ آخر في التفاهم، ألا وهو تجاوُز اللامبالاة حيال الغير. فالتفاهم لا يعني فقط التعرف إلى الغير موضوعيًّا: طوله، لونه، ملامحه، لغته، مهنته، إلخ، بل التعرف إليه عن طريق الإحساس والتعاطف. فإذا رأيت طفلاً يبكي فإني أتفهم حالته وأنفذ إليها بإحساسي المتعاطف، لأني كنت طفلاً وأحسست بما يحس به وأعرف ماذا يعني البكاء. فإذا لم يكن هذا التعاطف، لن يكون هناك أيُّ شكل من أشكال التفاهم.
ولتفسير هذا الأمر، أسوق مثلاً آخر، وليكن ما يجري في قاعة العرض السينمائي. هناك من الناس مَن يقول إنها مكان للاستلاب، حيث يتم تخدير المتفرِّج وفصله عن الواقع وإفقاده جزءًا كبيرًا من استقلاليته. ربما كان هذا صحيحًا؛ ولكن هناك مظهرًا آخر يكتسي بأهمية بالغة، ألا وهو التماهي identification: فمن خلال التماهي مع شخصيات الفيلم، نربِّي فينا الانفتاح على الآخرين والانتباه إليهم كما هم، وبالتالي، نفهم حتى أنفسنا.
ولا تَصدُق هذه الملاحظة على الشخصيات الطيبة أو المحبوبة فقط، بل تَصدُق حتى على الشخصيات التي تجسِّد القوة والبأس والقهر. فإذا تذكَّرنا، مثلاً، فيلم العرَّاب لفرانسيس كوپولا، وانتبهنا إلى رأس الأسرة أو ربِّ الجماعة، كما أدى دوره كلٌّ من الممثلين مارلون براندو وآل پاتشينو، فإننا نجد أنه يقدر على ارتكاب أفعال بالغة القسوة والبأس وعلى القتل ببرودة أعصاب تامة، ولكننا نعرف أنه يقدر على الحبِّ والوفاء والإخلاص أيضًا، وأنه يتألم ويبكي، كباقي البشر؛ فنحن بذلك نفهمه في شموليته وكلِّيته.
يحدث الشيء نفسه عندما نشاهد تشارلي تشاپلن في دور المتشرد المتسكع، فنتعاطف معه تعاطفًا لا يصدَّق؛ ومع ذلك، بمجرد أن نخرج من قاعة السينما ونصادف متشردًا، فإننا نبدي نفورًا منه ولا نبالي به! إننا ننفذ إلى أعماق هذه الشخصيات ونفهمها بفضل التماهي. والشيء نفسه يَصدُق على الشخصيات الروائية أو المسرحية، كشخصيات وليم شكسپير مثلاً.
في الواقع، هناك مفارقة: نستطيع، عِبْر الفن والأدب، التعاطف مع هذه الشخصيات وفهمها؛ ولكننا في الواقع اليومي لحياتنا لا نستطيع ذلك، فنكون كالنائمين. وهو ما يضفي معنى على عبارة هيراقليطس، – الفيلسوف الذي تكلَّم كثيرًا بالمجاز، – تلك العبارة الرائعة التي يقول فيها: "أيقاظ، لكنهم نائمون" – وهي عبارة تستحق أن نتأملها تأملاً مستمرًّا.
إن ضرورة فهم الغير تخلق ضرورة فهم الذات وتفادي التبرير الذاتي وتجريم الغير والكذب على الذات – وهي تجارة رائجة بيننا اليوم. فهناك العديد من الشروط التي يمكن لها أن تساعد على تربية ملَكة الفهم وتطويرها. ويمكن تدريسُها منذ الفصول الدراسية الأولى، وليس انتظار الوصول إلى مرحلة التعليم الجامعي للقيام بذلك.
إن اللاتفاهم يسود العالم ويهدِّده. ومن المؤكد أن ضرورة التفاهم هي المطلب الملح للرقيِّ بمستوى العلاقات بين البشر.
الثقب الأسود الخامس: ندرِّس اليقين ولا ندرِّس اللايقين والمحتمَل والمفاجئ
لا نؤهَّل لمواجهة مفاجآت الحياة. والواقع أن البشرية طورت أساليب لمواجهة هذه الأحوال بالتنجيم والفراسة والسحر والعبادة والدعاء. ولكن أعتقد أنه ينبغي علينا الذهاب بعيدًا في البحث، من دون تجاهُل هذه الكيفيات في المواجهة والتحكم التي طوَّرتْها البشرية. نفهم كيف أن اللايقين والمحتمَل يشكلان جزءًا صميميًّا من حياة كلِّ واحد منَّا منذ ولادته. لا أحد يعرف مسبقًا الأمراض التي ستصيبه أو مصيره في الحياة؛ ولكن بقدر ما يتقدم المرء في الحياة يكتشف، وبالقدر نفسه يتفاجأ. إنه لا يعرف هل سيكون زواجُه سعيدًا أم شقيًّا؛ إنه يعرف فقط أنه سيموت، ولكنه لا يعرف تاريخ موته. هذه بعض الملاحظات عن علاقة اليقين باللايقين على المستوى الفردي.
أما على مستوى العلوم، فإن هذه قد حقَّقت، منذ فجر القرن العشرين، تقدمها باختراق مجال اللايقين والمحتمَل. فعلوم القرن التاسع عشر، بما فيها علوم الفيزياء، كانت علوم الحتميات المطلقة، وكانت تتبنَّى الدعوة القائلة: إذا عرفنا الشروط كلَّها توصَّلنا إلى النتائج كلَّها كما هي محددة. كان مناخها الإيديولوجي والفكري هو مناخ دعاوى التقدم. في القرن العشرين، لم تعد فيزياء القُسَيْمات (الفيزياء الكوانتية) هي وحدها التي تقول باللاحتمية indéterminisme، بل حتى فيزياء الشواش chaos. لقد توصلت هذه العلوم كلها إلى أن السيرورات المحدَّدة في الأصل، بمجرد أن تصير موضوع تفاعلات، فإنه لا يمكن التنبؤ بنتائجها إلا على وجه الاحتمال. ويقودنا هذا إلى مجموعة من النتائج الهامة، أهمها الشك في كلِّ نتيجة قد تُعتبَر نهائية ومطلقة: فما يظهر أنه ظاهرة محكومة بحتمية تعكسها معادلةٌ رياضية صارمة، كحركة دوران الأرض حول الشمس مثلاً، يبقى كذلك في حدود معينة – وهو أمر صحيح. ولكن الأبحاث والحسابات الرياضية تؤكد أن الأرض نفسها التي تدور بهذه السرعة المحسوبة بدقة رياضية كانت هي نفسها تدور حول الشمس بسرعة أكبر في ما مضى، ولا نعرف بأية سرعة ستدور في غضون ملايين السنين القادمة. وبالتالي، فإن العديد من الظواهر التي تظهر حتميةً اليوم لا تكون كذلك إلا في حدود زمنية قصيرة نسبيًّا.
ولكنْ – حتى لا أطيل عليكم في مجال النظرية الفيزيائية – فلآخذ مثالاً آخر من البيولوجيا والتطور البيولوجي. إننا نعرف أن كوارث كونية كانت في أصل ظهور الحياة على الأرض. كما نعرف أن كوارث طبيعية أُخَر عرفها العصر الجيولوجي الأول أبادت العديد من الكائنات الحية؛ وهي الإبادة نفسها التي سمحت بظهور أنواع أخرى. وهناك أيضًا الكارثة الثانية التي عرفتْها الأرض في نهاية العصر الجيولوجي الثاني، ربما بفعل ارتطام نيزك قادم من الفضاء بالأرض، وما تولَّد عن هذا الارتطام من دمار شامل وتغيُّر في المناخ والتضاريس، مما قضى نهائيًّا على الديناصورات وسهَّل نموَّ حيوانات صغيرة آكلة للحوم (لحوم الديناصورات) وتكاثرَها – وهو التطور نفسه الذي سمح بظهور النوع البشري. إن الدرس الذي يمكن لنا استخلاصُه من تاريخ الحياة هو أنه تاريخ الشواش والمصادفة واللامؤكَّد والمفاجئ.
وتَصدُق الملاحظةُ نفسها على التاريخ البشري الذي حاولنا دائمًا جعلَه تاريخًا متصلاً وعقلانيًّا، وكأن له غايةً محددة سلفًا. إنه تاريخ انهيار الإمبراطوريات وتلاشيها: الإمبراطوريات الآشورية، البابلية، الفرعونية، الصينية، الرومانية، بل وحتى الإمبراطوريات الحديثة والمعاصرة: الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية السوفييتية. في اختصار، إن تاريخ البشرية هو نفسه تاريخ لا يحكمه قانونٌ صارم وحتمي؛ فهو تاريخ الأحداث والوقائع العظمى، تاريخ الحروب العالمية، مع نتائجها غير المحسوبة وغير المرتقَبة والمفاجئة.
ينبغي لنا، إذن، تدريس اللايقين والمحتمَل لمواجهتهما. وأود، بهذه المناسبة، أن أقف عند شيء هام على هذا المستوى، غالبًا ما يُغفَل، وأسميه بـ"إيكولوجية الفعل"، ويعني أنه عندما يبدأ فعلٌ ما، سواء في وسط اجتماعي أو طبيعي، فإن ذلك الفعل يفلت تدريجيًّا من إرادة الفاعل الأول، ليدخل في سيرورة تفاعُل قد تغيِّر اتجاهه أو مساره. وتقدِّم الثورة الفرنسية مثالاً تاريخيًّا هامًّا.
نعرف أن الثورة الفرنسية جاءت كردِّ فعل للطبقة الأرستقراطية التي حاولت استغلال ضعف السلطة الملكية وانعدام كفاءتها لاسترجاع امتيازات فقدتْها بعد قيام الملكية المطلقة للملك لويس الرابع عشر. فطلبت اجتماع المجلس الأعلى États généraux، حيث كانت الكنيسة ممثَّلة ومعها طبقة النبلاء، وعموم الناس Tiers-état. وكان التصويت في هذه الهيئة يتم على أساس الفئة أو الهيئة المنتمى إليها، بحيث كانت الأغلبية للكنيسة وللنبلاء. ولكن في بداية الاجتماع تم فرضُ التصويت الفردي، فكانت النتيجة (1849) إلغاء الامتيازات. مثال آخر، حاول غورباتشوف إصلاح الاتحاد السوفييتي، فعجَّل في انهياره وتفككه.
نرى، مرارًا، أن الفعل لا ينتهي إلى قصده الأول، بل غالبًا ما ينحرف عنه ويخون هدفه الأول. وهذا أيضًا درس هام يعلِّمنا، أولاً، أن كلَّ قرار هو نوع من المراهنة، هو شيء لا نضمن نجاحه سلفًا؛ ويعلِّمنا، ثانيًا، ضرورة معرفة كيفية بلورة الاستراتيجية. وأميِّز، هاهنا، بين الاستراتيجية والتخطيط.
البرنامج نحدِّده مرة واحدة، وبصفة نهائية، ليطبَّق بحذافيره. يتعلق الأمر بآليات يتم حصرُها في مجال نتحكم فيه. أما عندما يتعلق الأمر بمجال متحرك للفعل، فإنه ينبغي جعل خطة العمل مرنة لإدماج المعلومات والمعطيات بحسب الشروط والمفاجئات والطوارئ.
علينا أن نستحضر هذا الشيء، وأن نتذكر ما قاله المؤلِّف التراجيدي الإغريقي إفريپيدس، الذي قال إن مدار تراجيدياته كلِّها فكرةُ أن الذي يحصل عادةً ليس المتوقَّع أو المرتقَب، بل اللامتوقَّع والمفاجئ. فلنتوقع اللامتوقَّع، ولاسيما أننا نعرف أن معاهد المستقبليات futurologie كلَّها لن تسعفنا في جعل المستقبل أمرًا أكيدًا، على الرغم من السيناريوهات الجاهزة كلِّها.
إن مغامرة البشرية تسير دائمًا في اتجاه المجهول، وليس لنا سوى المراهنة أو الاستراتيجية.
الثقب الأسود السادس: تدريس الكوكبي
على مستوى أوروبا، ينبغي تدريس التاريخ الوطني؛ وينبغي إدماج هذا التاريخ في تاريخ أوروبا: مثلاً، إدماج تاريخ فرنسا ضمن تاريخ أوروبا، وليس تدريس تاريخ أوروبا من زاوية تاريخ فرنسا. فنحن لا نعرف تاريخ أوروبا الشرقية أو الإمبراطورية العثمانية. ينبغي إدماج هذا التاريخ ضمن هذه التواريخ، وهذه الأخيرة ضمن تاريخ كوني.
كانت هناك في تاريخ البشرية مرحلة أولى هي مرحلة التشتت والانتشار (الإمبراطوريات العظيمة القديمة)؛ وكانت هناك مرحلة ثانية، بدأت مع الاكتشافات الجغرافية الكبرى، بمظاهرها الأسوأ والأفضل – الأسوأ: العبودية والاستعمار، والأفضل: الاكتشافات والمعرفة والعيش. تلتهما المرحلة الحالية، التي نسميها اليوم "الكوكبية الشمولية"، حيث يتم إرساء البنيات التحتية لمجتمع–عالَم لا يوجد بعد؛ وهي مرحلة تقودنا إلى حالة فوضى كاملة. ولكن هذا المعطى يفتح عيوننا على المشكل الحقيقي: صعوبة فهم الحاضر. يردِّد الفيلسوف الإسباني أورتيغا لوكاثيت: "لا نعرف ما يجري. وهذا ما يجري." إنه جهلنا بحقيقة حاضرنا. إننا في حاجة ماسَّة إلى معرفة حاضرنا معرفةً أحسن، لا لكي نعرف مستقبلنا معرفة أفضل، بل لمحاولة إدراك ما يحدث – علمًا بأننا نعرف أن ما يحدث لا يكون مرتقَبًا، بل غالبًا ما يكون غير متوقَّع. والمفارقة تكمن في أن هذا الوضع يفتح باب الأمل بلامتوقَّعه؛ أما المستقبل المنظور، فإنه يخيف بتوتراته وأسلحته.
الثقب الأسود الأخير – أخلاقيات المركَّب الثلاثي: الفرد والمجتمع والنوع البشري
هناك أخلاقيات تتعلق بالفرد، بأقاربه وبذاته؛ وهناك أخلاقيات لتطوير الفرد؛ وهناك أخلاقيات المجتمع، حيث الدمقرطة هي المطلب، وحيث يمكن للمواطنين أن يراقبوا مراقبيهم. وهنا نجد الدائرة المغلقة بين المواطنين والحكومة.
وهناك أخلاقيات النوع البشري؛ وهي ليست بيولوجية فقط، بل هي أخلاقية وحدة القَدَر والمصير التي تجمع بين جميع البشر على الكوكب الأرضي حيال المشاكل الأساسية وأمام الأخطار نفسها.
ويقودنا هذا التحليل إلى طرح سؤال: كيف نفكر في الإصلاح؟
إذا خلقنا هذه الكراسي السبعة للمعارف الضرورية، مع ضرورة إعادة تأهيل المدرِّسين، بحيث يكون في مقدورهم القيام بتدريس يتطلب تأهيلاً متينًا وقدرة على الجمع والتركيب، فإن الإصلاح يكون ممكنًا ويمكن لنا التقدم ومواجهة قدرنا. وأضيف أنه سيكون من المستحب أن تخصِّص كلُّ جامعة وكلُّ كلية نسبة 10% من برنامجها لجميع الاختصاصات؛ وهذا ما أسمِّيه "الذمة الإپستمولوجية"، التي ينبغي أن تجيب، بالضرورة، عن أسئلة أربعة أساسية:
السؤال الأول: ما العقلانية؟ – علمًا بأنه لا توجد عقلانية خالصة من الأهواء.
السؤال الثاني: ما العلم، وما المعرفة العلمية؟ كثير من الفلاسفة يفكرون في مفهوم العلم، أما العلماء فلا يفكرون في العلم.
السؤال الثالث: ما التعقيد؟ ما حقيقة هذا البناء المعقَّد للظواهر؟ وكيف يمكن للفكر البشري أن يستوعبها في تعقيدها، لا أن يشوِّهها بتبسيطها؟ إن المعرفة المطلوبة تتعدى معرفة المكوِّنات والأجزاء، بل هي معرفةٌ بما يعطى للإدراك ككل.
السؤال الرابع: ما الحضارة؟
هذه بعض الآفاق التي قدَّمتُها هنا، في اختصار شديد، علمًا بأنه يمكن لنا إيجاد كلِّيات جديدة، ككلِّية الإنسان، حيث يتم جمع كلِّ يتعلق به من علوم؛ كما يمكن إيجاد كلِّية للكون، إلخ.
يمكن لنا، إذن، إعادة تنظيم المعارف والاختصاصات. ولا يكمن المشكل في حذف الاختصاصات، بل يكمن في عدم تحاوُرها وفي عدم انفتاحها بعضها على بعض، مما يجعلها لا تتحول إلى تراث حي وإلى ثقافة. إن الثقافة الإنسانية اليوم معطوبة بانشطارها إلى ثقافة علمية، مغرِقة في التخصص، منغلقة على ذاتها، ولا تتفكر فيما يقوم به العلم، من جهة، وثقافة إنسانية، قوامها الفلسفة والأدب والفن، لا تتفكر فيما يقوم به العلم؛ وهي نفسها لا تستند إلى مكتسبات المعرفة العلمية التي تمنحنا فرصة للتفكير في قدرتنا.
إن التواصل بجمع المكوِّنين هو الذي سيسمح بإحياء الثقافة على مستوى تلبية حاجات الإنسان والعالم المعاصرين.
*** *** ***
إعداد وتقديم وترجمة: محمد زرنين


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق