السبت، 5 مارس 2016

قصة قصيرة: ذكريات الطفولة ومدرسة الحي والقراءة والكتابة ـ سعيد بوخليط

لاشك أن أعمق زلزال تحدثه الكتابة،تقويضها السهل وبجرة وحي، لكل أطروحات متون أقسام الحالة المدنية،وكذا بداهات الكائن المجتمعي المؤسساتي،القابل خيميائيا للانصهار والذوبان،وأخذه شتى صور التنميط والتحديد.ترسم الكتابة تاريخا للمرء،بين ماقبلها ومابعدها.فهل بوسعنا المجازفة، بالاستفسار التالي :أي مصير محتمل لبيولوجية العرق والجنس،قياسا لمجتمع يشتغل جل أفراده بالكتابة وعلى الكتابة،ويرفضون عن هذا التقسيم للعمل، بديلا؟يتحرر الفرد بالكتابة،وهي تطويه نحو خلود الآبدين،بحيث يهزم الآخر والقدر والسلطة والمكان،ثم يسكن ذاته وقد تمثل أقصى ممكناتها.  
كنت طفلا مدرسيا،بالمعنى المؤسساتي للكلمة،أواظب على مواعيدي،دون أن أحشر نفسي، كي أحشو جمجمتي بأشياء واهية،أهم قضية تشذ مخيلتي،الهرولة صوب حضن أمي عند نهاية كل موسم دراسي،ملوحا إلى عنان السماء،بورقة تزخرفها خربشات المدرسين،تطمئن أمي،على أنني مهيأ بما يكفي، لآفاق البحث والسعي وراء الكلأ، على امتداد هذه الصحراء المحيطة بمصيري.هكذا،ظلت المدرسة بالنسبة إلي، سكينة وملاذا، وحلما طفوليا جميلا،ثم أيضا،ما معنى أن تلامس عتبات فصول التنوير،في بلدان العالم السفلي.
أذكر بالضبط كما اللحظة،أختي المستكينة باستمرار في صمت إلى رواية من روايات الأدب الروسي،انتفاضة1984 بكل قسوتها،صديقي كمال المهووس حتى النخاع بكافكا ولفائف الماريخوانا،وهو في شنآن دائم مع أبيه،خالي الذي عاد فجأة بعد غياب طويل ،غير مبرر،ثم عاود الرحيل ثانية، هذه المرة بمبرر، لكن ذات صباح باكر في غفلة منا جميعا،التداول السري لرواية الخبز الحافي،صعقة موسم الهجرة إلى الشمال، شرق المتوسط،سرية أولى مقطوعات شريط ''وعود من العاصفة''لمارسيل خليفة، أكشاك الجرائد التي التجأت إليها وأنا صبي،طلبا لقروش أمد بها أمي، وألتهم ما استطعت من أخبار السياسة وصور الزعماء،تعلقي الشبق والايروسي بعطر رجاء،كتاب الأسبوع، مكتبة القسم المتنقلة،حيث تقرأ بكتاب واحد عشرات الكتب بالتبادل والاستعارة، خزانة دار الطالب و البلدية،دور الشباب، الجمعيات الثقافية،ساحة الكلية، الأسابيع الثقافية للاتحاد الوطني لطلبة المغرب،جيفارا،عبد الكريم الخطابي هوشي منه ماوتسي تونغ، نيلسون مانديلا، عبد الناصر،فلسطين، المهدي بن بركة، جبيهة رحال، عبد اللطيف زروال، سعيدة المنبهي، عمر بن جلون… .
كلما زرت جدتي،اكتشف أختي التي كانت تقيم معها آنذاك،وهي محلقة سواء شرقا أو غربا،على تتابع صفحات طويلة من أساطير جرجي زيدان أو ملاحم روس القرن التاسع عشر،فتعرفت بفضلها على تولستوي ودوستويفسكي وغوركي وتورجنيف وبوشكين وتشيخوف…،ومن خلالهم ''الحرب والسلم''،"الأبله"،''أنا كارنينا"،''الجريمة والعقاب''… .كان الأمر،بمثابة ولادة جديدة،أدركت يومها،أن العالم مفرط في التعقيد،يتجاوز كثيرا،بساطة ما اعتقدته وزملائي تحت وابل صفعات المدرسين.
يسكنني اليوم نزوع، يدفئ دواخلي بقشعريرة غريبة،إلى يوميات مدرسة حينا،وتبارينا صباح وظهيرة بمختلف الألعاب، أمام مدخلها، في انتظار أن يدق جرس الدخول.نلج القسم مثنى مثنى، على مرأى نظرات مختلسة للمعلم.نجلس،يدخل،نقف جمعا على إيقاع واحد وبطريقة منتظمة،احتراما له.عندما يأخذ مكانه، ويستوي تماما،وقبل الشروع في الاستظهار،إما قصيدة شعرية أو سورة قرآنية أو نشيد، نباغته، وقد أسرع أغلبنا نحوه، بعطية من العطايا.هذا يقدم تفاحة وما أدراك ما التفاح وقتها؟والآخر برتقالة،وذاك قطعة خبز من الشعير، صنعته الأم بعناية فائقة.نريد بداية شراء السلم معه،فيرضى عنا ويغدو مزاجه لينا،وإلا فأبسط تضليل لحركة إعرابية،ينجم عنه عقاب شديد.أما الفتيات،فيدخلن كل يوم في تبار استعراضي من نوع مختلف،بتنافسهن الضمني بخصوص أكثرهن قدرة على تعطير الفصل،وشحن أنوفنا،بأنواع مختلفة من روائح الثوم والقطران وربما البصل والغاسول،تهذيبا وتشذيبا لشعورهن، وحفاظا لها من غزوات القمل،فتنتابنا جراء فعلتهن، موجة من النعاس الحالم، لاسيما إذا كان الوقت ظهيرة، والزمان قيظا في مدينة كمراكش.وحينما يكتب المعلم على السبورة، بنوع من الابتهاج اللذيذ، مثلما كنا نلاحظ،عبارته المكررة والشهيرة : ''رأيت وردة ترقص في الحفل''وأحيانا أخرى يجمِّلها ب"راقصت وردة يانعة''،لإفهامنا مستويات الاستعارة،يجدر من الأفضل، أن تسرع أكثرهن جاذبية،كي تكشف بتغنج زائد عن المكونات البلاغية،بحيث تصير، إذا كان جوابها صحيحا،موضوع تغزل يكاد يغدو ماجنا،من خلال إطراءات لا تنتهي،يستحسن بها المدرس،حذقها ونباهتها :
-''عودي إلى مقعدك أيتها ''البطيبيطة،يا زينت اتبسيمة'' ،ثم يفرط، "التفيفيحة"،"الكريميسة''،"البينينة''،"الفينيدة''،وهكذا دواليك،مستعينا في الغالب،لتسريع وتيرة الاستطراد، بجغرافية الفواكه التي وضعناها فوق طاولته.وإذا انفلتت قهقهة أحدنا،أو رمق تعليقا ساخرا ولو بالإيماء،فقد يرجع المعني إلى بيته، مستغنيا عن بعض أعضائه الآدمية.
لست أدري اليوم،هل كان من الضروري،أن أتعرف على كمال،الصديق البوهيمي،الذي اشتهر بين مجموعتنا،إضافة إلى ذكائه المتوقد،بسعة اطلاعه،على جوانب مهمة من الآداب العالمية،ونحن لازلنا وقتها في نهاية سلك الإعدادي،حقبة أواسط سنوات الثمانينات؟من يقدر،في مقتبل العمر،على تحمل عذابات عوالم كافكا وهواجس بيكيت وطلاسم يونسكو.عاش كمال في عراك وخصام دائم مع أبيه،يغادر البيت لفترات طويلة،مفضلا التسكع بين جنان وبساتين مراكش،يوم انتمت حقا هذه المدينة إلى أهلها،وإذا ابتسم له الحظ،يلتقطه أحد أبناء الجيران،كي ينام خلسة عنده لليلة واحدة لاغير،دون تدخين ولاكلام حتى لا ينفضح الأمر،ثم مع أولى خيوط الصباح،يتسلل خارجا، كقط جائع.اكتشفت مع كمال،عبثية الوجود،لكن على المرء أن يستميت بكل الوسائل للدفاع عن حريته.فمثل لي شعور كهذا،عزاء حقيقيا، وحصنا متينا،ضد كل أوجه المكر والخداع والضغينة والوصولية،ثم يوميات واقع تطحننا بلا رأفة ورحمة.مع مرور الأيام، وتفرق السبل،انقطعت أخباره،ربما هاجر البلد نحو أوروبا أو مات أو أصابه مس من الجنون،فريق لا بأس به من أصدقائي،انتهوا إلى مصير سيئ للغاية… .
أترك أختي متوحدة بعوالمها الحكائية،وأعبر بحركات رياضية سريعة أدراج الطابق العلوي،كي أقف عند الغرفة الصغيرة الشهيرة،حيث يمكث خالي لساعات طويلة، في تجاذب دائم مع أشيائه،وهو يبحث عن أفضل الأسطوانات بهاء وصحة،كي ندمن أيضا لساعات طويلة،موسيقى تتوزع بين بوب مارلي وألفا بلوندي والبينك فلويد والديل ستريت وجيمي كليف والشيخ إمام وسعيد المغربي وفيروز وأحمد قعبور… .نستعذب بحماسة مفرطة، أصوات الحياة الجديدة،مع تحكم في حجم الصوت،تجنبا لحدوث انفلاته،مما سيثير انتباه المتلصصين، والوشايات التي ستعقبها.
لازلت أستحضر، بخشوع كبير الحس الإنساني الراقي جدا،لنصوص اللعبي،وكيف قرأت وأعدت قراءة بشغف، دون ملل ولا كلل،عمله''رسائل السجن : يوميات قلعة المنفى''.يفضح اللعبي، إلى كل العالم،بضميره وذكائه وجلده وحواسه،ماتصنعه الهمجية بنا،في أية لحظة من اللحظات،إذا أضعنا البعد الإنساني، ثم توقف على أن يمكث إلى اللانهائي قضيتنا الأولى….إذن، في جوف تلك الغرفة الشبيهة بعلبة كبريت،فهمت جيدا لماذا يولد الإنسان بين الألم والدماء،قدر كون العالم،ليس بتلك الهدية المجانية؟.
تغيرت مؤشرات القراءة عندي،ثم صرت أكثر انتقائية وإلحاحا.لم يعد،جائزا وقد انفتحت أمامي عوالم الحقيقة،أن يغريني أي مصنف أو تسخر من فطرتي،نصوص اللغو واللغط والثرثرة الزائدة! .أحسست،بنضجي في كثير من الأحيان :هل يجب فقط معانقة أدب القضايا والأسئلة الوجودية؟فأخضع المبدعين، لمحكمة الضمير والحقيقة والقيم؟كم أشتاق آنيا في كليتي، إلى معايشة السكينة ذاتها وأنا أقرأ لأول مرة :صنع الله إبراهيم،عبد الرحمن منيف،غسان كنفاني،جبرا إبراهيم جبرا،جان بول سارتر،ألبير كامو... .
مقارنة مع الوضح الحالي لمراكش،زخرت فضاءاتها وقتها، بمجموعة مكتبات،توفر للمهتمين من أبنائها مختلف صنوف الانتاجات العلمية والمعرفية،وإن كانت الأثمنة تتعالى، بجفاء أمام ضيق حال الجيب.لقد كنت بالكاد أصارع مع أسرتي توفير لقمة اليوم الواحد،بينما الغد يتكفل به احتمال آخر، قد يحدث صدفة أم لا؟فالأمر رهين،بحظي.وحدها الصدفة صنعت صنيعها،فألقت بأحد الأشخاص نحوي،كي يرشدني إلى وسيلة سحرية، سأتمكن معها من الحصول على الكتب بطريقة ميسرة،دونما حاجة إلى فلس واحد.يلزمني فقط، الحصول على بطاقة الانخراط، من مسؤول المكتبة العمومية المسماة''الخزانة البلدية''،فيصير بإمكاني مع هذا الوضع الجديد،استعارة كتابين والاحتفاظ بهما لمدة خمسة عشر يوما.وسيلة، شكلت فعلا نقلة نوعية، بخصوص مسار علاقاتي بالقراءة والتحصيل والكتابة.بالمناسية لا أعرف ماذا صنعت الأقدار بهؤلاء الموظفين الطيبين :الشريف، السي عبد الرحيم، السي عبد الصادق، السي عادل… .لاسيما الشريف،كان خدوما ورؤوفا إلى جانب كونه وثيقة متحركة، يلتهم بدينامية هائلة،كل عناوين ومحتويات الخزانة،خاصة ما ارتبط منها بالثقافة العربية والمغربية.ينبعث مني الآن ضحك هستيري،وأنا أستعيد رحلة الذهاب والإياب الأسطوريين،مع بداية كل سنة دراسية جديدة،للظفر بشهادة السكنى من مقدم الحي،لأنها الورقة الأساسية التي تثبت عنوان ومحل سكناي،كي أستفيد ثانية من بطاقة عضوية الخزانة.والأمر كذلك،يتحتم علي الاستعداد لرحلة قصد تعقب آثار صاحب الصلاحية لأسابيع عدة،مادام يستحيل بشكل شبه مطلق،أن تصادفه في مكتبه الشبيه بزنزانة من العهود البائدة،بدعوى ديمومة خرجاته لتفقد أحوال العباد.بل، وحتى إذا أعانني الله على التملي بطلعته البهية،ستزداد قضيتي تعقيدا،عندما أخبره بكوني طالب علم، ودواعي زيارتي وحاجتي لشهادته،ربما قلب الطاولة،واعتبر السعي مضيعة لوقته الثمين. 
لاشك، أن الكتابة في بحثها عن شهادة ميلاد مشروعة،تضع نفسها ضمن خانة وتصنيف محددين.هكذا،تمنح حيزها مساحة من التروي والتأمل،يخفف وطأة ''الارتياب''اتجاه ما يلصق بها على سبيل التبخيس،على شاكلة :الفلتة والنزوة والبغتة والفجائية.فما يحيط بك وأنت تكتب إلى جانب الصدق واستبطان الذات،سيخلق لامحالة بؤرة سميكة للتواصل والتأثير،من تم تلاشي كل المسافات المفترضة بين الكتابة والواقع. 
القراءة والكتابة،لحظتان بقدر تماثلهما السلس،ينهضان على صراعات حادة في مطلق الأحوال.يمكننا التلاعب بحدي علاقاتهما وقول ما نشاء :الكتابة تهذيب لما قرأناه، نسيان للقراء،ورطة القراءة.قد تقرأ جيدا، وتستعصي عليك الكتابة.في المقابل،تصل إلى تحقيق إمكانية تطويع جسد الكتابة،دون بلوغك مستويات معدلات مقبولة، لعشق القراءة.إنها،جدلية دقيقة تزداد حساسيتها بشكل مفرط،حينما ننتقل بها إلى المجال الحيوي للحياة،ونستفسر ببراءة الطفولة : لماذا اختلق المرء حجة الكتابة؟طبعا حجة له وعليه،فتواريخ اللا-سلطة واللا-هوية والرحيل اللانهائي،كما تتأتى مع الكتابة، تجعل من لعبة الوجود قضية ممكنة.
يبقى وفاء المرء لتاريخية القراءة،ساكنا ومهادنا،يتمرد وفقه على قوانين الزمان الحياتية وطبيعة المقتضيات المجتمعية القائمة.لقد سكنتني أبعاد المعادلة جيدا،وأنا أجد نفسي عفويا،محلقا براهني، وعائدا بعقارب الساعة إلى أواسط الثمانينات،وبالضبط دخل جدران ثانوية ''سحنون''،حيث أساتذتي وأصدقائي، وصفاء علاقاتنا، وأريج رجاء، وبطولات كرة القدم، وعذوبة ما نمارس، رغم صعوبة ذاك الزمان.أستحضر كما الآن، أجواء نقاشاتنا الإغريقية، حول "يوميات نائب في الأرياف ل"توفيق الحكيم''،أقصد النص الأدبي الذي فككنا أجزاءه بمتعة سجالية لا تضاهى،خلال حصة دراسة المؤلفات المتعلقة باللغة العربية،كما حدث نفس الأمر، مع رواية''الأسد'' للكاتب جوزيف كيسيل،على مستوى اللغة الفرنسية.
هكذا سافرت مرة أخرى عبر مركبة الزمان، مقررا أن أستعيد وفق غاية مقصودة لحظات دافئة ومبهجة،حيث القراءة حقا لذيذة، ومدرسة سنوات الطفولة، أم حنون، نستعين بذكراها الدافئة،ونرتشف منه إكسيرا للحياة،على الرغم من مساوئ هذه الحياة.  

الخميس، 3 مارس 2016

تربية متغيرة لزمن متغير: علي أسعد وطفة

عن نقد و تنوير

يـرى بعض الآباء والمعلمين أن أطفال اليوم يتميزون بكونهم أكثر صعوبـة وأشـد عنـادا مـن أطفال الأمس . ومـا أكثر عبـارات الدهشـة والاسـتغراب التـي نطقهـا عندما نلحظ ذلك التباين فنقول: "رحم الله أيام زمان" ولله دره من جيل ! وأي جيل وأي زمن ! وجيل آخر زمان ويمكننـا في إطار هـذه الرؤية أن نطـرح تسـاؤلات ترتسـم إزاءها الحـيرة عـلى الوجـوه : لماذا يتباين أطفال اليوم عن أطفال الأمس في طبيعـة سـلوكهم وفـي أنماط اسـتجاباتهم؟ لمـاذا يميلون إلى العنف والمشاكسـة وكـثرة الأسئلة؟وأخيرا لماذا يميلون إلي رفض بعض القيم والمبادئ والتصورات التي تشربناها وتمثلناها ؟ ولا نملك في نهاية الأمر إجابة عن هذه الأسئلة سوى مشاعر الحزن والأسف على أيام زمان يوم كنا أطفالا.
 وإذا لم يكن في مشاعر الحزن والحسرة على طرح المزيد من الأسئلة عـلى نحـو جـديد يتسم بدرجة أعلى من المنهجية والموضوعية: ما الذي تغير؟ هل هو الطفل ؟ أم نحن ؟ أم الظرف ؟ أم كل ذلك على السواء ؟وفـي الـوقت الـذي نجد فيه إجابة على تساؤلاتنا هذه نجد أنفسنا مطالبين بنوع من المنهجية التربوية الجديدة في التعامل مع أطفالنا وفـي توجـيههم وفـق تصـورات وقناعـات جديدة . وفي هذه المرحلة نجد أنفسنا وجهـا لوجـه أمام إشكالية جـديدة تتمثل في إيجاد المنهج التربوي المناسب لتحقيق افضل أشكال النمو والتكيف عند أطفالنا.
 وعندمـا نسـتطيع حقـا أن نجـد الإجابة الموضوعيـة عـلى جملــة التسـاؤلات المطروحـة ونعـثر عـلى المنهـج الـتربوي الجديد في تربية الأطفال فإننا لا ريـب نسـتطيع أن نضمـن للناشـئة والأطفال افضــل إمكانيات النمـو والازدهـار والتكـامل . وعـلى العكـس من ذلك تماما فإننا لن نستطيع إلا أن نكرس العقبات والحواجز أمام الأطفال عندما لا نستطيع أن نجد الموقف العصري السليم لهذه الإشكالية التربوية.
 إن إشكالية التباين بين الأجيال وإشكالية المنهج إزاء العملية التربويـة تشـكل موضـوع هذه المقالة التي تسعى إلى تسليط الضوء على بعض جوانب هذه المسألة التربوية.
السياق التاريخي لمسألة التباين بين الأجيال:

 الدهشـة التـي تعترينـا عندمـا ننظر إلى أطفال اليوم في سلوكهم ومواقفهم وطبيعة استجاباتهم التي لم نعرفها في أيام طفولتنا ليست بالأمر الجديد فهي مسألة تضرب جذورها العميقة في تاريخ الإنسانية فكل جـيل مـن الأجيال المتلاحقـة قـد خبر هذه التجربة التي تتعلق بملاحظة التباين بين الأجيال بين الآباء والأبناء.
 لقـد كان لحكماء العرب أن يدركوا بعمق أهمية الظرف المتغير في التـأثير عـلى طبيعـة الناس ويكمن ذلك في الحكمة العربية التي تؤكد على الظرف والتغير . ربوا أولادكم على غير أخلاقكم فانهم ولدوا لعصر غـير عصركم ولزمان غير زمانكم ولقد برزت هذه المسألة في عصر النهضة فـي البلـدان الأوربية كإشكالية تربوية ويتجلى ذلك في ما النقد الذي يوجهه الأسباني ج.ل. فيفي أحد كبار المفكرين التربويين في عصر النهضة إلى تربيـة الفتيـات وسلوكهن في عصره واللواتي كن يتجملن بالدهون والمسـاحيق والعطـور لإعجاب الرجـال وكـان يـرى في ذلك تناقضا مع التعـاليم الدينيـة المسـيحية ومـع القيـم التربويـة لعصـر طفولته وشـبابه. وقـد لاحـظ الفيلسـوف السويسـري هنري فريدريك أن شباب عصره كـانوا يميلـون إلى التمـرد بشـكل مـتزايد ويتجـهون نحو رفض القيم والمفاهيمالتي تبنتها الأجيال السابقة.
 ولـم يكـن لهـذه الدهشة ، التي تعتري كل جيل من أجيال الراشدين إزاء صغـارهم ، أن تطـرح نفسها قديما كما تطرح الآن في عصرنا - عصر التغـيرات التكنولوجيـة السـريعة - كإشكالية تربوية في غاية الأهمية والخـطورة . وبالتـالي فـان درجة الأهمية التي تطرح فيها هذه المسألة مرهونـة بوتـيرة التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية ومدى حدتها . في العهـود القديمة لم يكن التباين بين الأجيال يطرح إشكالية تربوية . وذلك يعود إلى طبيعة التغيرات الاجتماعية البطيئة والمتكاسلة.
 فـي العصـور الحديثـة تـؤدي التغـيرات التكنولوجيــة الســريعة والمتلاحقـة إلى تغـيرات مماثلـة فـي بنية التصورات والمفاهيم وطرق التكـيف وهذا بدوره ينعكس على المسالة التربوية ويطرح ضرورة البحث عن مناهج جديدة وطرق جديدة قادرة على احتواء هذه التغيرات وتمكين الأطفال مـن أشكال جديدة للتكيف مع طبيعة العصر المتغير . فالتغير يجري بوتائر سريعة جدا وينعكس على أنماط السلوك والأفكار عند الناس صغـارهم وكبـارهم . وهذا يعني أن هذه التغيرات تحدث في الظروف وفي النـاس قبل أن تنعكس على النظام التربوي . فأثار التلفزيون على نمط التفكـير والسـلوك عنـد الأطفال يتـم بشـكل مباشر دون توسط العملية التربويـة، والنظـام الـتربوي لـم يستطع حتى هذه اللحظة احتواء هذه التجربـة التكنولوجيـة الجـديدة . أن مـا نريـد التـأكيد عليه هو أن التغـير فـي المنـاهج التربويـة والأساليب التربوية يبقى في حالة تخـلف بالقيـاس إلى التغـيرات الفعليـة القائمـة فـي مجال الشروط الموضوعيـة والذاتيـة لحيـاة النـاس الاجتماعية . وهنا يكمن الجانب الأكبر لأصول مسـألة الصـراع بين الأجيال المتلاحقة وخاصة بين أجيال المربين والمتربين.
الموازنة بين الأجيال وتقديس الماضي:
 إن تمجـيد الماضي في شخص أجياله السابقة يمكن أن  يعود إلى ميلنا لتقديسه ورفعه إلى درجة النموذج والمثال . ونحن لا شعوريا نميل إلى تمجيد أنفسنا بوصفنا المخلوقات الملائكية في مراحل طفولتنا وذلك أمر طبيعـي جـدا عندمـا نـدرك أن  مرحلـة الطفولـة التـي عشناها بشجونها وأفراحها ودعاباتها هي اجمل مراحل الحياة عند الإنسان . ونحن عندما نميـل إلى استعراض ذكريات الطفولة فهي الذكريات الجميلة التي تطفو وتحـلق فـي أجواء خيالنـا فنزعـة التمجيد الماضوية هي نزعة لأن سان الشعورية أو اللاشعوريه إلى تقديس طفولته وتمجيدها.
 فـي الأجيال الحـاضرة كما في الأجيال السابقة هناك أطفال مرحون وأطفال مشاكسـون كسـالى أطفال نشطون وأذكياء وهناك الأطفال الذين يميلون إلى الشدة والعنف.
 وإذا كـان ذلـك هـو واقـع الحـال فـإن الميل إلى تقديس الماضي وإعلاء شأنه يمكن أن يفسر كردود فعل تجاه الصعوبات التي نواجهها في تربيـة أطفالنا وفي توجيههم ونحن عندما نخفق وحين لا نستطيع أن ندرك أسباب إخفاقنا الحقيقيـة فـي تربيـة أطفالنـا نـنزع إلى النكوص المـاضوي أملين أن نجـد فيـه تفسـيرا وهميـا . وفـي كل حال لا يبقى أمامنا سـوى أن نضع الأجيال الحاضرة في قفص الاتهام وأن نحكم عليها بـالقصور والعـدم لنبرر لأنفسنا ما اعتراها من قصور وفشل في القدرة عـلى فهم الظروف التي تحيط بأطفال اليوم وناشئته ومن ضعف في إيجاد البدائل التربوية الممكنة التي تتيح لنا أن نأخذ زمام المبادرة في توجيه أطفالنا نحو بر الأمان.
الأزمة التربوية وصراع الأجيال:

ممـا لاشـك فيـه أن التغـيرات الاجتماعيـة والتكنولوجيـة الكــبرى المتلاحقـة والمتواتـرة قـد أدت إلى تكـوين نظـام جديد من المفاهيم والتصـورات والأفكار والقيـم التـي تختلف وكثيرا ما يتعارض مع القيم والمفـاهيم والتصورات التقليدية القديمة وتكمن الأزمة التربوية في وجـود أنظمـة ثقافيـة متعددة على وجه الخصوص . وتتجسد قيم الثقافة التقليديـة فأكثر فاكثر كلما توجهنا صعودا في سلم الأجيال القديمة والتـي تتمثـل بمجـتمع الآباء والراشـدين بينمـا تميل قيم الثقافة المعـاصرة إلى الحضور بدرجة اكبر كلما توجهنا تدريجيا نحو الأجيال الصغيرة على المستوى العمري أي عند الناشئة والأطفال.
 لـم تظهر في المجتمعات التقليدية والتي تتميز بوتائر منخفضة جدا للتغـير الاجتمـاعي حـدة التنـاقض بيـن القديم والجديد كما يشهدها عصرنـا أو المجتمعـات الحديثـة فـي المجتمعـات القديمة والتقليدية يسـيطر الراشـدون مـن آباء ومعلميـن عـلى زمـام العملية التربوية ويشـكلون المصـادر الوحيدة لكل عملية تربوية أو معرفية وعلى العكس مـن ذلـك ففـي المجتمعات الحديثة المعاصرة لا يفقد الآباء والراشدون دورهـم كمصـدر وحيد للمعرفة وكمصدر وحيد لكل عمل تربوي فحسب وإنما قـد يفقـدون القـدرة عـلى التكـيف فـي مواجهـة التغـيرات العلميـة والتكنولوجية المعـاصرة . فالراشـدون فـي المجتمعات التقليدية وفي إطار الثقافة المحدودة مطالبون باحتواء ثقافة مجتمعهم وقيمه، وهم بـذلك قـادرون عـلى الأخذ بزمام المبادرة في كل عمل تربوي وذلك على مدىالحياة.
 وفـي إطار التنـوع الثقـافي والعلمـي غـير المحـدود فـي إطار المجتمعات الحديثة يفقد الراشدون القدرة على متابعة دورهم التقليدي حـيث يسـتطيع الطفـل نفسه وفي مراحل مبكرة من العمر أن يتقدم على ذويه فـي مجـالات فكريـة ونشـاطات علميـة ومهنيـة مختلفة وذلك بفضل القنـوات العلميـة والمعرفية المتعددة والمتنوعة كالمدرسة والراديو والتلفزيون والصحافة والنشاطات الاجتماعية والثقافية المتاحة.
 ينعكـس التبـاين الثقـافي بيـن المجتمعـات التقليدية والمجتمعات الحديثـة عـلى بنيـة المفاهيم والتصورات التي يحملها الأطفال في كل مجـتمع ومـن الأمور المهمـة التي تشكل إطارا موضوعيا لما نشهده من تبـاين بيـن الأجيال يكـمن فـي وحدة المصادر الثقافية وتنوعها ففي المجـتمع التقليـدي الذي ينتمي إليه بعضنا وآباؤنا يتميز بالتجانس الثقـافي ووحـدة المصادر الثقافية وهذا بدوره يؤدي إلى وجود أنماط ثابتـة ومتجانسـة مـن السلوك والقيم والاتجاهات والعادات والتقاليد بيـن أفراد الجماعة . وعلى العكس من ذلك نجد درجة عليا من التنوع والغنـى والانتقائية فـي تبنـي أنمـاط مختلفة من السلوك والاتجاهات والقيم.
 ويعـود ذلـك كلـه إلى التنوع والغنى في الأنماط الثقافية وفي المثـيرات التربويـة وإلى تعـاقب الموجــات الجــديدة للتغــيرات التكنولوجية التي تحمل معها أنماط جديدة من أساليب العمل والتفكير والقيـم الثقافيـة ويحـدث لنـا أن نجـد عند أطفالنا بعضا من القيم الثقافيـة وبعضـا مـن الاتجاهات التي لم يسبق لنا أن عرفناها والتي تتنـاقض مـع هـذه التـي تمثلناهـا وعندهـا ينشـأ الصراع بين الآباء والأبناء وترتفع الحواجز أمام صيغ التفاهم والحوار الموضوعي.
نحو مقاربة جديدة في تحليل الأزمة التربوية:

 يجـدر بنـا عنـد تحـليل المسـألة التربوية أن نأخذ في اعتبارنا ثلاثـة محـاور أساسية وأن نسعى إلى تحليل طبيعة العلاقة القائمة بين هذه المحاور:
أولا :المربــون وهــذا يعنــي جملــة القــائمين عــلى العمليــة التربوية من أباء وأمهات ومعلمين.
ثانيـا : المـتربون ويمثلـون مجــتمع الأطفال والناشــئة والشــباب وكـل هـؤلاء الـذين يحتاجون إلى المساعدة من اجل نموهم وتكيفهم.
ثالثـا : الوسـط ونعنـي بـه العمليــات التــي تتــم بيــن المــربي والمــتربي كالوســط العــائلي والوســط المدرســي فالوســط هــو الإطار الـذي يحتوي أيضا كل ما يمكن مشاهدته ولمسه أي كل ما يجري تحت بصـر الأطفال وسـمعهم فـي الشـارع وفي المنزل وفي المدرسة.
 فالعمليـة التربويـة هـي لقـاء تفاعل بين هذه العناصر المختلفة فالمربون يعملون على مساعدة المتربين في الوصول إلى حالة التكيف التـي يقتضيهـا الوسـط الاجتمـاعي وهـم يتبنون لتحقيق ذلك أنماط من الفعاليـات التربويـة والثقافية التي تعلموها أيضا في إطار حياتهم ووسـطهم الاجتمـاعي . إن الطرائق التربويـة التي يعتمدها المربون في عملهـم غالبـا ما تنتمي إلى الأطر المرجعية الثقافية التقليدية لعهد طفولتهم وصباهم وهي في اكثر الأحيان تتسم بكونها طرق وأساليب تقليدية لا تنسجم مع طبيعة العصر وطبيعة التغيرات الجارية فيه . وهنا تكمن عقدة المسألة وذلك عندما يعتقد هؤلاء المربون بكفاية الطرائق القديمة وعندمـا لا يأخذون بعيـن الاعتبـار آثـار وتنـوع التغـيرات الاجتماعية الجارية على حياة الأطفال التربوية والفكرية.
إشكالية التوازن بين المنهج والغاية والتغيير الثقافي:

لمـاذا نـربي ؟ ما غايتنا التربويـة ؟ ما وسائلنا ؟ أسئلة يجب أن يطرحهـا كـل مربي ولكن السؤال الحيوي الذي يطرح نفسه بقوة هو كيف نحقق الانسجام بين الغايات والوسائل وفي الوقت الذي نستطيع فيه أن نجـد الإجابة الموضوعية الواعية على هذه التساؤلات يمكن لنا أن نمضيمـن اجـل أن يتكـيف فـي دفـع العمليـة التربوية نحو تحقيق التكامل والازدهار في شخص الأطفال والناشة.
 لمـاذا نربى وما الهدف من التربية ؟ ببساطة نحن نربي من اجل أن يتكـيف أطفالنا مع وسطهم الاجتماعي يصبحوا قادرين على اكتساب الهوية الاجتماعيـة فـي ميـادين العمل والإنتاج . وبعبارة والناشئة يمكن أن نقول نحـن نربي أطفالنا من اجل أن نحقق لهم السعادة في حياتهم الاجتماعية الآنية والمستقبلية.
والسـؤال الثـاني هو ما الذي نريده نقله إلى أطفالنا من خلال العملية التربويـة؟ ما نريد نقله هو الثقافة السائدة في المجتمع الذي نعيش فيه ولكن ما هي وسائلنا وطرائقنا في نقل الثقافة وفي تربية الأجيال ؟ هنا تكمن معضلة ما نبحث عنه وما نسعى إلى تقصيه.
 تشـير الملاحظـة الدائمـة إلى أن جـميع المـربين يسـعون إلى تحقيق السـعادة للأطفال والمتربين . ولكنهم يختلفون في تحديد نوع الثقافة التي يريدون نقلها إلى الناشئة ويختلفون في تحديد الطرائق والمناهج والأساليب التربوية المناسبة لنقل الثقافة القائمة.
 ينهج بعض الآباء والمربين في تربية أطفالهم نهجا تقليديا يرتكز عـلى نسـق مـن تصـوراتهم واعتباراتهم التقليدية الخاصة وهم لا يقيمون وزنـا لطبيعـة التغـير الثقـافي والحضـاري المتسـارع . إنهم يريدون لأطفالهم أن يكونـوا صورة طبق الأصل لما هم عليه ولما تعودوه ونشأوا عليه في طفولتهم وشبابهم وهي تربية تتصف بأنها أنانية ومريضة وأنها تخـالف منطـق التطـور وحركتـه . وهـي فـوق ذلك كله تؤدي إلى انحراف الأطفال وفقـدان القـدرة عـلى التكيف والنمو والازدهار وبعض المربين يؤمنـون بـالجديد وأهميتـه ولكـنهم لا يستطيعون العثـور على المناهج التربويـة الجـديدة المناسـبة لنقـل ذلـك الجـديد إلى الأجيال وإلى الناشئة وهذا بدوره ينعكس سلبا على طبيعةالعملية التربوية ومسارها.
 وتكـمن المشـكلة اليـوم فـي ارتفاع نسبة الآباء الذين يربون وفقا لتصـوراتهم الخاصـة وفقـا لمنهج تربوي يتميز بالأنانية وذلك دون وعي منهم لآثار ونتائج ممارساتهم التربوية . فالتربية التسلطية على سبيل المثـال التـي تسـعى إلى إخضاع الأطفال وتشكيلهم وفق قوالب جاهزة هي تربيـة جاهلـة للحيـاة وشـروط الوجـود المتجددة جاهلة بطبيعة الطفل وضـرورة توفـير السبل العاطفية من حب وحنان والتي تعتبر ضرورية جدا لنموه وازدهاره.
ضرورة الوعي التربوي لتربية متغيرة من أجل عصر متغير:

لكـي تكون التربية من اجل أطفالنا وليست من أجلنا نحن ، من أجل أن تكـون تربيـة لعصـرهم وليس لعصرنـا تتجـلى أهميـة الـوعي الشامل لطبيعـة العصـر عمومـا والـوعي الـتربوي عـلى وجـه الخصوص فالعملية التربويـة لـم تعـد كمـا كانت في عهود سابقة نوعا من السلوك العفوي البسـيط الـذي يمكـن لنـا أن نمارسـه فـي إعداد أطفالنا إنها اليوم عمليـة تتصـف بدرجـة عليا من الدقة والتعقيد والخطورة . ونحن نحتاج اليـوم إلى قـدر كبـير مـن الثقافة التربوية كي يتاح لنا أن نمارس فعلنـا الـتربوي دون مخـاطر وانعكاسـات سـلبية عـلى نمـو أطفالنــا وناشئتنا.
 ويمكن لنا أن نؤكد في سلم الأولويات نحو وعي تربوي يجنبنا ويجنب أطفالنـا الوقـوع فـي مطـب الإشكاليات التربوية الحادة أن نؤكد على أهمية النقاط التالية:
أولا : يجـب أن نـدرك العصـر الـذي يعيش فيـه أطفالنــا يخــتلف عــن العصر الذي أحاط بطفولتنا على مستوى القيم والمفاهيم والتصورات...
ثانيـا : يجـب علينـا أن نعــي أن الطــرائق التربويــة التقليديــة لـم تعد صالحة ومشروعة في تربية أطفال اليوم وعلينا أن نعرف الجديد والمسـتجد فـي المنـاهج التربويـة الحديثة والمتطورة التي تنسجم مع طبيعة العصر وروح الحياة المتغيرة والمتجددة.
ثالثـا : يجـب علينـا أيضا أن نعــي تــأثير المثــيرات التربويــة الجـديدة والتـي تتعلـق عـلى الأرجح بوسائل الإعلام من راديو وتلفزيون وصحـف ومجـلات وفي قدرة هذه الوسائل على تشكيل القيم والاتجاهات التي تتباين مع ماتعلمناه ومع ما طبعنا عليه.
رابعـا: كمـا يجـب أن نأخذ بعين الاعتبار بأن مظاهر التباين والاختلاف بين قيمنا واتجاهاتنا وهذه التي يحملها أطفالنا هي نتاج طبيعي لجملة التغـيرات الجارية عبر الزمن ولجملة المثيرات الثقافية الجديدة التي تموج تعددا وغنى وتنوعا في عصر التكنولوجيا الحديثة.
خامسـا: إن الإقرار بجهلنا لما يجري حولنا يمثل منطلقا تربويا يتصف بالموضوعيـة وأن سـعينا الـدائم للبحـث عـن الأساليب الحقيقية لسلوك أطفالنـا من شأنه أن يمنحنا القدرة على تحقيق النجاح في تربيتهم وفي تحقيق نموهم وكمالهم.
سادســا: إن مبادئ الحريــة والتســامح والعقلانيــة والتفهــم والـوعي والديمقراطيـة قـد أصبحت مبادئ العصر ومبادئ كل عمل تربوي خـلاق يتجه نحو تفجير الطاقات وصقل المواهب وتحقيق النمو السليم عند الناشـئة والأطفال .... فأطفال اليـوم يطالبون بالعدالة والمساواة والحجة وهم لا يستطيعون قبول الأشياء على عواهنها بل يسيرون على مبدأ عقلانيتها وعدالتها وهذا أمر تشير إليه الملاحظة اليومية الدائمة.
سـابعا : يجـب أن نضـع فـي اعتبارنـا أهمية وضـرورة تنميـة وعينــا التربوي في كل مناسبة وفي كل حين وأن نخضع تصوراتنا الماضوية للنقد والتحـليل وإعادة النظر ... لأن الاكتفاء بما لدينا من معرفة تربوية يعني في نهاية المطاف التحجر والعزلة والاختناق.
وأخيرا: أن ننطلـق فـي كـل عمل تربوي من مبدأ التربية لزمن متغير. فالتربيـة اليـوم ليسـت للتكيف مع ما هو قائم فحسب بل يجب أن تكون تربية متغيرة قادرة على احتواء الجديد وتمثله في حركة دائمة لا تنقطع والحكمـة في ذلك أن نمنح أطفالنا قدرة متجددة على التكيف مع الجديد ونمثلـه دون الوقـوع فـي الأزمة التربويـة التـي نعـاني منها اليوم فالمفـاهيم والتصورات والقيم التي تشربناها في طفولتنا تقع في إطار المطلـق والغائيـة والشـمولية وهـي بوصفهـا كذلك قادتنا إلى نوع من الجـمود والتقـوقع أسقطتنا خـارج مسـارالـزمن ودورته وكرست فينا إحساسا عميقا لامسناه بالغربة والاغتراب عن روح العصر الذي نعيش فيه.

مـدارس الــورش في كوبا



التعليمية الجديدة في كوبا مثالاً نموذجياً إلى حد كبير لما يمكن أن يعمل بواسطة التنسيق والخطة العملية التي تضم المطالب الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية، وهذه المدارس خاصة بالتلاميذ الصغار من الجنسين من 15 إلى 16 سنة من العمر، وهي تربط الدراسة من أجل التقدم المدرسي بالمهارات اليدوية الأساسية التي تساعد التلاميذ على إيجاد مكان لهم في تجارة معينة أو وظيفة. ويشتمل التدريس في هذه المدارس على فكرة دراسية كاملة مع منهاج لإتمام الفصل السادس، ويتضمن المواد التالية: الرياضيات الوثيقة الصلة بالرسم، واللغة القومية بوصفها وسيلة لتنمية عادات القراءة والمعرفة بالآلات والعلوم الطبيعية المرتبطة بعمليات الإنتاج، والجغرافيا ذات العلاقة بالتاريخ، والمبادئ الأيديولوجية والاقتصادية، الأساسية في التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة «للتقدم الثوري». أما فيما يتعلق بالتدريب على المهارات فإن هذا يعطى في دورة مدتها أربع ساعات في مكان الصناعة أو في الحقول المعدة للزراعة مع برامج أو مرشدين للقيام بعمليات التدريس العملي الذي يحقق حاجات وخصائص الفرع الإنتاجي موضع الدراسة. والفنيون في فروع أو وحدات كهذه هم الذين يحققون هذه البرامج باستشارة وموافقة الموظفين الملائمين، في النظام المتماثل، وبمساعدة من خبراء التعليم الفني الذين يقدمون النصح والاستشارة. وقد أنشئت الدراسات الثانوية للتلاميذ الذين يعملون«بالورش» ومدارس إعداد الصحفيين الذين وصلوا إلى مستوى الصف السادس. والهدف الأساسي من إنشاء هذه المدارس هو تعزيز النهوض الثقافي العام لدى أولئك الذين يتلقون التدريب. ويتكون هذا المقرر الدراسي من نصفي عامين دراسيين، من سبعة عشر أسبوعاً لكل منهما، ويشمل المواد التالية: اللغة القومية، الرياضيات، الكيمياء، الرسم، الجغرافيا، العلوم الطبيعية، علم الأحياء، فإذا ما انتهت هذه المرحلة فيمكن للطلبة أن يلتحقوا بكليات المخيمات العملية وهي منتشرة تحت رعاية مراكز العمل واتحادات التجارة. وهناك علاقة تكامل في مناهج مدارس الورش بين النظرية والتطبيق العملي بين الدراسة والعمل - ويعتبر العمل عاملاً تكوينياً -وقد تحقق تنفيذ هذا المبدأ والخطوط التوجيهية الناتجة عنه، وأحكم التنفيذ بواسطة الخدمات الاستشارية والتفتيشية التي تعني الضبط والمعاونة من جانب وزارة التعليم، وبالدعم المتوالي لنتائج التعليم الفني التي يشترك فيها المدرسون والاختصاصيون وهيئة المشرفين، وأخيراً الملاحظة الناقدة للطريقة التي تعطى بها المقررات الدراسية بمعاهد تدريب المدرسين. وتعد طريقة تقويم التلاميذ وجهاً من الوجوه التي تعكس إلى أبعد حد من الدقة تلك الصفة المتممة، وهي تشمل التقويم الكمي لتحصيل المواد الثقافية زيادة على فترات الدراسة- كل نصف عام دراسي على حدة- ويضاف إلى ذلك أي عمل بارز ينجز في العام الدراسي قبل الامتحان التكميلي النهائي، ويشتمل أيضاً على تقويم للعمل التطبيقي ذي الطبيعة النوعية . ويضم التقويم سلوك التلميذ في علاقته مع المجموعة وتصرفه في نطاق الجماعة الطلابية.

Socrateفلم يروي قصة حياة الفيلسوف العظيم سقراط


أروع وثائقي لأصحاب العقول النيرة عن حياة سيجموند فرويد أشهر علماء النفس‬‎


الأربعاء، 2 مارس 2016

رهان تدريس المواد العلمية باللغة العربية و علاقته بالاختيارات السياسية: إبراهيم الباعمراني منير الشرقي

نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 03 - 11 - 2011



1. المحطة الأولى: المساق السياسي الناظم لوضعية اللغات داخل المجتمع المغربي: 
ضمن نطاق ما أصبح يعرف اليوم بالعولمة المحكومة أساسا للنظام الكوني الجديد، و ما آلت إليه هذه الأخيرة من ترويج لقيم الكفاءة اللغوية و المعرفية و العلمية في التدبير العام للشأن المحلي و الدولي ، عبر آليات الحوار و الشراكة و البناء الديمقراطي للعلاقات الإنسانية بالنسبة للدول و المجتمعات البشرية؛ فإن عملية الانخراط في هذا المد النظامي الكوني والمساهمة في إنتاج قيمه و مبادئه أصبح مشروطا لدى المجتمعات النامية أو التي هي في طور النمو، بامتلاك صلاحية التأسيس للهوية الذاتية و الوطنية و القومية بكل مقوماتها و خصوصياتها الفكرية و اللغوية و القيمية و العقائدية ، عبر توفير مجموعة من الشروط الموضوعية من بينها التحكم في اللغة الوطنية المحلية، و اعتمادها كلغة في متن التربية و التكوين والبحث العلمي، و في إنتاج المعرفة بمختلف أجناسها ومشاربها الفكرية، وجعلها بالتالي سندا لاستثمار العنصر البشري في أفق إدماجه في سيرورة التنمية المستدامة البشرية منها والاجتماعية و السياسية و الاقتصادية.
إن إشكالية اللغة الوطنية أو الثقافة الوطنية عموما، لم تطرح وبحدة كإشكال إلا في المجتمعات الثالثية التي خضعت للمد الكولونيالي ذي البعد الاستلابي و التثاقفي، مقارنة مع المجتمعات الغربية الحديثة و المتقدمة التي غالبا ما تنتج عوامل تغيرها و تحولها من بؤر بنياتها الذاتية و من رسالاتها التاريخية و تناقضاتها الجيو سياسية مع الآخر.
و بذلك سعى الطرح الكولونيالي إبان عهد الاستعمار إلى الانتقال من وضعية الاستغلال للموارد المادية التي تزخر بها دول العالم الثالث إلى وضعية الاستهداف للغاتها الوطنية باعتبارها رمزا للتخلف و للتقاليد الثقافية المتقادمة و المتهالكة التي لم تعد تستجيب للنظام الحداثي التقدمي كما هو مطروح في بعض الدراسات الانتروبولوجية الغربية؛
و مثل هذا الحكم التعسفي التبخيسي مرده أساسا لغياب استراتيجيات سياسية و تربوية حقيقية داخل المجتمعات العربية، كفيلة بتطوير اللغة العربية وتهذيبها من أي بؤر تشويهية لمقوماتها القيمية و الثقافية العريقة، وجعلها لغة العلم والتقانة و التدريس والمعاملات الإدارية والاقتصادية.
كما أن غياب التداول البرجماتي للغة العربية وضعف البحث اللساني التطبيقي ونفور العرب من استخدام لغتهم في الشارع اليومي و في الندوات و اللقاءات السياسية المحلية و العالمية جعل اللغة العربية تتراجع يوما عن يوم عن موقعها الاستراتيجي الجيوسياسي وعن مشروعها التربوي التكويني داخل المدارس والجامعات العربية و المغربية[ يمكن العودة في هذا السياق لتقرير المجلس الأعلى للتعليم].
و بالرغم من المقاومات المحلية لهذه المزاعم المؤدلجة لعقلية الشعوب من طرف فعاليات ثقافية و سياسية و اجتماعية من خلال الأحداث الدياكرونية التاريخية التي عرفتها إشكالية اللغة العربية كلغة للتدريس بالنسبة لمختلف المواد المقررة ، و ما ترتب عن ذلك من مكتسبات أولية وطنية محتشمة، و تراجعات محرجة ترتبت عنها نزاعات مذلة للغة الوطنية و القومية عبر التاريخ الممتد و المتراخي، نذكر من بينها دياكرونيا على سبيل المثال لا الحصر:
· 30 يناير 1960 تعيين لخضر غزال كمدير لمعهد التعريب؛
· 3 7 ابريل 1961 عقد أول مؤتمر للتعريب بالرباط؛
· 14 يونيو 1961 تأسيس رابطة العلماء بالمغرب و ببعض الدول الإفريقية؛
· أكتوبر 1961 فتح قسم معرب بالدار البيضاء؛
· أكتوبر 1962 فتح إعدادية مصربة بالرباط لتكوين الأساتذة الذين ستوكل لهم عملية تدريس الرياضيات و العلوم باللغة العربية؛ و سيتم إغلاقها في سنة 1963 لعوامل سياسية.....
· كما فتح في نفس السنة معهد عراقي بالدار البيضاء بقصد تكوين أساتذة التاريخ و الجغرافيا؛
· 1962 وقع خلاف بين لخضر غزال و وزيره يوسف بالعباس على مستوى وتيرة التعريب، و على مستوى أيضا المبادرة التي اتخذها السيد الوزير بتعويض ستة آلاف من المدرسين المغاربة بأطر فرنسية، و تبعا لهذا الخلاف تم إعفاؤه من مهامه كمدير لمعهد التعريب معوضا إياه بمحمد خليل و بعده بمحمد بن عبد الله و ذلك يوم 8 أكتوبر 1962
· و في نفس السنة وضع مشروع للتعريب عرض على اللجنة العليا للتربية الوطنية و الذي اعتبرته هذه الأخيرة من بين المشاريع التقدمية التي من الممكن إذا ما تم تفعيلها أن تجعل اللغة العربية لغة تعليم بالنسبة لكافة المواد المقررة؛
· في يناير 1963 خصص أسبوع لموضوع التعريب بالمغرب وانصبت المداخلات كلها على الإقرار بدور التعريب في تحقيق النقلة نحو الفكر العالمي، و ليس باعتباره رمزا للعزلة الأكاديمية [ تصريح كاتب الدولة السابق في الإعلام «عبد الهادي بوطالب» ]
· 6 ابريل 1964 تصريح وزير التربية الوطنية بنهيمة من خلال ندوة صحفية أشار فيه بأن التعريب الكلي للتعليم سوف يؤدي بالمغرب إلى الطريق المسدود؛ و لذلك وجب الاقتصار على تعريب بعض الأقسام كعينة داخل زمن محدود و فقط في الأقسام الإعدادية، مضيفا أنه من المستحيل خلال سنوات طوال تعليم المواد العلمية باللغة العربية، و كان رد فعل حزب الاستغلال و النقابات و التيارات المعارضة عنيفا وراديكاليا؛
التبريرات التي قدمها المدافعون على سياسة التراجع عن تعريب المواد العلمية، كون اللغة العربية لكي تتحول إلى لغة تواصل عالمية يجب عليها انتظار عقود كثيرة من الزمن.... وهكذا تم اعتماد اللغة الفرنسية كبديل لها مع تضخيم حجم ساعاتها مقارنة مع اللغة العربية.
· 12 ماي 1967 عوض بنهيمة بعبد الهادي بوطالب.............
· شتنبر 1968 برز جدال بين حزب الاستقلال الذي دعا إلى تعريب الإدارات المغربية و بين الحركة الشعبية التي نادت بالازدواجية كمجال للانفتاح على العالم.................
· 1970 توقيع وثيقة تاريخية من طرف لفيف كبير من الغيورين على هذا الوطن في فترة السبعينات من القرن الماضي]، كشكل من الاحتجاج و الحراك السياسي ضد سياسة التراجع عن مبدأ التعريب؛
تبقى الإشارة كخلاصة لما أوردناه من أحداث تاريخية مقتضبة بان عملية تكريس التوجه الإيديولوجي للمستعمر في تبخيس اللغة العربية، هي لعبة سياسية رجعية امتدت عبر الزمان وساهمت فيها فعاليات سياسية محلية وطنية في صيغة قرار تراجعي عن مبدأ التعريب الذي نادت به الحركة الوطنية مباشرة بعد الاستقلال [ و بالضبط سنة 1964]؛ و لقد أفرز هذا الوضع من الناحية السياسية على مضان الزمان المتراخي، نخبا توفيقية حاولت البحث عن توليفة بين الاتجاهات الحداثية التي أتى بها المستعمر و بين الاتجاهات ذات المستوى الخصوصي الداعية في نفس الوقت إلى التوفيق و التكامل بينهما؛ و لقد ساهم هذا الموقف في تقديراتنا وبشكل كبير في مسخ هويتنا اللغوية والتاريخية و النفسية الاجتماعية.
إن وضعية المراوحة بين اللغة الأجنبية و التمسك الجزئي أيضا باللغة الوطنية كما ذهبت إليه الحركة الشعبية ، أو وضعية محاولات التوفيق و التكامل بين اللغة الوطنية و اللغات الأجنبية هو شكل من المهادنة الفارغة من الحس الوطني الهادف، الشيء الذي ترتبت عنها مجموعة من التجارب المأساوية التي انعكست بشكل سلبي على الموارد البشرية المستهدفة في منظومة التربية و التكوين عبر التاريخ القديم و المعاصر و على مسار تطورنا المعرفي و الثقافي و العلمي و التربوي التكويني[ يمكن العودة في هذا السياق لكتابات و مقالات الباحث السوسيولوجي مصطفى محسن].
و لو أردنا أ ن ندفع بتحليلنا لهذا الوضع المأزمي إلى مدى متطور انطلاقا مما نعايشه اللحظة في تجاربنا التربوية التكوينية، لجاز لنا القول بأن مقاربة موضوع الكفايات اللغوية و تدريس العلوم في الندوة الوطنية التي نظمها المركز التربية الجهوي محمد الخامس هذه السنة، تستدعي استحضار الاختيارات السياسية القائمة في صلب المجتمع المغربي خصوصا من طرف سلطة القرار، و ليس من منطلق الاستناد إلى اختيارات بيداغوجية صرفة ضيقة الأفق و ذات مستوى اختزالي من الناجية السوسيولوجية ؛
و بذلك لا نعتقد من أن المشكل الاستراتيجي في معالجة هذا الموضوع قائمة في صلب المدرسة المغربية و مدرسيها وحدهم، و إنما في التوجهات السياسية التي تنهجها الدولة إرضاء لدول المركز ممن يحتكرون السوق الاقتصادية و اللغة العالمية التي تروج المنتوجات الصناعية و الماركتين للدول المتخلفة، بما هي في تقديراتهم الانتروبولوجية الرجعية شعوب وجدت لاستهلاك المنتوج الاقتصادي و اللغوي و الثقافي حتى تحافظ على توازنها الجيوسياسي مع هذه الدول، و تستجيب لإكراهات العولمة وضغوطات النظام الجديد و لثقافته المركزية[ باعتبار الثقافة سوقا تباع و تشترى], في أفق مسخ هوية هذه الشعوب المستضعفة و ممارسة نوع من التدجين و القولبة للغتها الوطنية و القومية. وإن كانت لنا حجج داخل مجموعة من الدول مثل اليابان و الاتحاد السوفياتي سابقا و الصين الحديثة و البلدان الاسكندنافية، فهذه الدول التي تشكل نماذج هامة للتقدم و التطور على المستوى الكوني، لم تحقق إقلاعها العلمي و تنميتها الاقتصادية و الاجتماعية باعتماد اللغات المحتكرة للتقدم العلمي و التقاني عالميا، و إنما بنت إنماءها اعتمادا على لغاتها الوطنية، مع سعيها نحو الانفتاح على اللغات الأجنبية المتقدمة، محاولة منها توظيفها بعمق عقلاني، و تحويلها إلى مكون إضافي داعم للغتها الأصلية دونما المساس بهويتها الثقافية المحلية.[ يمكن الرجوع في هذا الصدد لكتابات مصطفى محسن].
2. المحطة الثانية: الوضع النفسي الاجتماعي للطالب الأستاذ و اكراهات التدريس باللغة العربية.
و ارتباطا بوضعنا كمكونين داخل مراكز التكوين و ما نعاينه من مفارقات في البناء النفسي الاجتماعي لطلبتنا ممن يترددون على هذه المراكز كمنتسبين لها، و محاصرتهم إكراها ما بين استعمال لغة الجامعة و لغة المدرسة المنشطرة هي الأخرى ما بين اللغة الفرنسية و اللغة العربية و اللغة الأم أو لغة الشارع العادي إذا جاز لنا تسميتها بذلك، مفارقة لغوية تجعلهم في مستويات كثيرة يعانون من تناقض وجداني كفيل بان ينعكس سلبا على هويتهم كطلبة مكونين و كأساتذة لمدرسة المستقبل، و هو ما يجعلهم ضحية لاختيارات سياسوية ارتودوكسية فارغة من حسها الوطني و القومي؛
و تلك معضلة فطن لها برنامج المخطط الاستعجالي عندما نص على اكتساب الفئات المستهدفة في منظومة التربية و التكوين كفايات في اللغة العربية بحكم الانحباس المهاري الذي يعاني منه المتعلمون المنتسبون للمدرسة المغربية، و لكن بدون امتلاك القدرة على فضحها و الإفصاح عنها عبر الدعوة أو المطالبة ببناء مشروع مجتمعي واضح المعالم من الناحية السياسية و الاقتصادية، و ناظم للحقول المعرفية و العلمية و الثقافية التي وجب إنشادها في مجمل مخططاته و هياكله.
و في ضوء هذه الورقة تبقى التساؤلات التالية التي وددنا أن نختم بها هذه الورقة ، ذات مستوى إشكالي جدير بالتفكير فيها؟
· فلأي لغة لتدريس العلوم وجب علينا الاستناد؟ هل اللغة العربية؟ أم اللهجة الدارجة كما هي متفشية و بحدة في وسائل إعلامنا و في الاشهارات الاستهلاكية، و في ممارسات مدرسينا؟. أم للغة أجنبية فرنسية كانت أم انجليزية احتذاء بالمدارسة النخبوية الخاصة التي شرعتها الباطرونا لانفتاح أبنائها على اللغة العالمية الحداثية؟[ جامعة الأخوين، المدارس و المعاهد العليا الخاصة، الأقسام التحضيرية..........][ إيمانا منا بان العالم لن يستمع إلى أمة تتحدث بلسان غيرها].
· آم للغات متعددة القيم و المشارب الفكرية، تحاول أن تزاوج بين جميع اللغات بجانب اللهجة الدارجة التي هي حقل وجداني و فكري للفئات المستهدفة في منظومة التربية و التكوين؟
· هل مشكل ممارسة الكفاية اللغوية العربية في تدريس العلوم هو مجرد طرح تقني ذي بعد اصطلاحي اختزالي ضيق الأفق من الناحية التنموية الشاملة، أم هو مرتبط باكتساب فكر لغوي وطني متأصل و مشدود لبعد تنموي شمولي ناظم لكل الحقول و المجالات الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية و القيمية القائمة في المجتمع، إيمانا منا بأن الفكر هو وعاء اللغة و مغذيها و مطورها؟
إن عملية الإجابة عن هذه التساؤلات و غيرها صعبة المنال إذا ما اختزلت في مطارحة فردية لحل هذه الإشكالية المركزية، و إنما ضمن سياق ميثاق إجماع ديمقراطي وطني تشارك فيه كل القوى الوطنية بمختلف مذاهبها و انتماءاتها السياسية و الثقافية، الغيورة على هذا الوطن و المؤمنة بضرورة تكريس المواطنة و القيم الديمقراطية على أساس الاحتكام لنتائج البحث العلمي و مقومات التقويم التطويري الناجع.
*باحث ثربوي
 

أيُّ دورٍ للمؤسسةِ المدرسيةِ في المجتمع؟ ـ محمد بدازي

عن أنفاس نت


لَجَأَ بنو البشرِ إلى التَّربيةِ منذُ عهدٍ قديم، بالضَّبط، منذ كانت له القدرة على التَّعلُّمِ من خلال ترابطِهِ داخل جماعاتٍ. فكانتِ الأسرةُ أوَّلَ تَجَمُّعٍ أُنيطَ به دورُ التربيةِ، وتنشئةِ الأطفال. ثم، ونظراً لما عرفهُ المجتمعُ البشريُّ من تَبَدُّلٍ، ظهرت المؤسسة المدرسية، لتعملَ هي الأخرى على تربيةِ وتعليمِ الطِّفل. لكن، فعلُ التربيةِ في التَّجَمُّعِ الأول، غيرُهُ في التَّجمعِ الثاني؛ فإذا كانت الأسرةُ تُربِّي الطِّفل بكيفيةٍ "عشوائية" أو ارتجالية، فإن المدرسة، بِعدِّها مؤسسةً مُختصة، تربي بكيفيةٍ قصدية، بحيث تضعُ أهدافاً، وغاياتٍ، تعملُ على تحقيقها وفقَ مسارٍ يتمُّ رسمُهُ سلفاً، مثلما تعتمد كذلك، طرقاً وأساليباً من أجلِ العمليةِ التّربوية. لقد ظهرتِ المؤسسةُ المدرسيَّةُ في إطارِ التَّحولِ الذي عرفهُ المجتمعُ الإنسانيُّ، حيث تَعَقَّدَ هذا المجتمع وَوَعُرَ فهمُهُ، فَاحْتِيجَ لحظتئذٍ إلى مؤسسةٍ تعملُ على إدماجِ الفردِ (=الطفل) في الحياةِ الاجتماعيةِ وجعلِهِ قادراً على الإنتاج. فماذا نعني بالمدرسة؟ ما الوظيفةُ التي تلعبها اليوم؟ وما علاقتُها بالمجتمعِ الخارجيِّ؟
تُعرَّفُ المؤسساتُ التَّربويةُ انطلاقاً من الوظيفةِ التي تلعبُها، والمؤسسةُ المدرسيةُ من هذا المُنطلقِ، هي - حسب تعبير الدكتور عبد الكريم غريب – "المؤسسة التي أنشأها المجتمع لتربية وتعليم صغاره نيابة عن الكبار[1]".  وهي - حسب أوليفي روبول olivier reboul[2] – "مؤسسة مؤتمنة على تقديم تعليم أساسي وأولي ومتماثل لجميع الأطفال...[3]". ولَعَلَّ هذا ما أشار إليهِ النَّصُّ في بدايتِهِ. من هُنا، فإن المؤسسةُ المدرسيَّةَ – وهذه وظيفتُها الأساس - تعملُ على تنشئةِ الطِّفل، إذْ أن الأخيرَ عندما يولدُ داخلَ جماعتِهِ الأولى (=الأسرة)، يَتَعَذَّرُ عليه التَّكَيُفَ مع جماعةٍ أخرى، فتعملُ المدرسةُ على خلقِ بيئةٍ متوازنةٍ، تساعدُ الطِّفلَ على الاندماجِ داخلَ جماعاتٍ جديدة، قَصْدَ جعلِهِ فرداً فاعِلاً في مجتمع. لقد كانتِ الحاجةُ إلى المؤسسةِ المدرسيةِ، نظراً لتطورِ المجتمعِ الإنسانيِّ، إذ تداخلت العلاقاتُ الاجتماعيةُ وتعقدّت، وصعُب فهمُ العلاقاتِ البَيْنذَاتيَّة، التي تميزتْ بِتَنَامي الصّراعاتِ والتّصادُمات. ولَئِنْ كان كلُّ مجتمعٍ تكتنفُهُ العديدُ من السَّلوكياتِ الضَّارةِ والسَّلبية، فإنَّ دور المؤسسة المدرسية - وهذه وظيفة أخرى -  هو؛ "توفير بيئة اجتماعية أكثر اتزانا من البيئة الخارجية، مما يؤثر في تنشئة وتكوين شخصية [الفرد] تكوينا يمكنه من التفاعل مع المجتمع، والعمل على تطويره.[4] "
تعملُ المدرسة إذن، دَوْرَ تنشئةِ الطفلِ وإقدارهِ على الاندماجِ داخل المجتمع، مثلما تلعبُ دورَ تنقيحِ المجتمعِ من كُلِّ الأُمُورِ الضَّارة والسَّلبية، والإبقاءِ على ما يُؤثِّرُ إيجاباً في نُمُوِّ الفردِ والمجتمع. فالمدرسةُ – كما سوف نرى لاحقاً – لها علاقةٌ وطيدةٌ بالعالمِ الخارجيِّ، ونقصدُ هنا، الأسرة، والمجتمع بصفةٍ عامة.
هذا، وقمينٌ بالذكر، أن للمدرسةِ أدواراً أخرى عديدة، ربما المجالُ لا يسمح لنا للوقوفِ عندها؛ ككونها مثلاً؛ رحمٌ لإنجابِ الفنانِ، والأديبِ، والرياضي، والعالمِ... وهَلُّمَا جَرَّا. كما أنها فضاءٌ للتربيةِ على قيمِ الديمقراطيةِ، الحِلمِ[5]، الحريةِ...الخ.
لتحقيقِ أهدافها، تعملُ المؤسسةُ المدرسيَّةُ على سنِّ نظامٍ داخليِّ، يجبُ على الفاعلينَ فيها احترامُهُ. ذلك أنها، "بوصفها مجتمعاً مصغراً[6]"، كما يقول غريب، شبيهةٌ بالمجتمعِ الكبيرِ المبنيِّ على مجموعةٍ من القوانينِ الواجبِ احترامُها؛ فالمدرسةُ، تضمُّ العديدَ من التنظيماتِ، التي تُسَيِّرُ الأنشطة والعلاقات المُقَامةِ داخلَها، بُغيةَ حفظِ الأَمنِ والنِّظامِ فيها. فالتَّلاميذُ، كما يتمتعون بحقوقٍ، مطالبونُ في الآنِ عينه، باحترامِ الواجباتِ المفروضةِ عليهِم، وكذلك الأمرُ، بالنسبةِ للمدرسينَ والمدرساتِ، والإداريينَ والإدارياتِ... هكذا، تُشكِّلُ المؤسَّسَةُ المدرسيةُ نظاماً اجتماعياً تشتركُ فيهِ الأفرادُ المعنيةُ بالأمر، كما يشترِكُ الأفراد داخلَ المجتمعِ الكبير.
في هذا الصَّدَدِ، يقولُ الدكتور عبد الكريم غريب؛ "تتمثل السلطة التعليمية في نظامها الذي تحكم به نفسها؛ وهو يشمل نطاق السلطة في الإدارة ونطاق السلطة التعليمية المتمثلة في العطاء التربوي، من هيأة تدريس التي تملك المعرفة والمهارة، إلى التلاميذ الذين يتلقونها؛ على أن يكون هذا العطاء في ضوء حاجات التلاميذ واستعداداتهم، ورغبات الكبار من أفراد المجتمع والتغير الثقافي في المجتمع.[7]"
تُقام داخلَ هذا المجتمعِ الصَّغير (=المؤسسة المدرسية)، والقائمِ على نظامٍ يحكمهُ، مجموعةٌ من التَّفاعلاتِ التَّذَاوُتية intersubjective بين أفرادِهِ. ونقصدُ هنا؛ علاقة التلاميذ ببعضِهِم البعض، وبالأساتذة، وعلاقة الأساتذة ببعضِهِم البعض، وبالإدرايين... الخ. على هذا النَّحْوِ، نَكُونُ "أمام مجتمع يتسم باستقراره النسبي، وتنظيمه الاجتماعي المتمثل في توزيع أفراده على أساس سن التلاميذ من جهة والمدرسين والمدرسات من جهة أخرى؛ وكذلك في توزيع أفراده على أساس المراكز التي يشغلونها والأدوار التي يضطلعون بها.[8]" وعليه، فإن المدرسة، كما قلنا سلفاً، تشبهُ إلى حدٍّ ما، المجتمع الكبير، بتنظيمِها وعلاقاتِها الدَّاخلية. لكن، قمينٌ بالذِّكرِ أنَّ المؤسسة المدرسية، لا تقتصرُ في علاقاتِها على ما هو داخلي، بل، تنفتحُ على العالمِ الخارجيِّ، سواءٌ الأسرة، أو المجتمع.
تُؤَثِّرُ وتتأثَّرُ المؤسسةُ المدرسيةُ بعالمِها الخارجيِّ، فهي" المرآة التي تعكس الحياة داخل المجتمع، كما أنها تؤثر فيه عن طريق تزويده بالأفراد الذين تكونهم وتدربهم للعمل فيه[9]". بالتَّالي، وانطلاقاً من مبدإِ التأثيرِ والتأثرِ هذا، نقولُ، إنَّهُ إذا كانتِ المؤسسةُ التعليميةُ تلعبُ دورَهَا كما يجب، فإنها لامحالة، ستؤثرُ إيجاباً في المجتمع. أي، إذا أنتجت فرداً له القدرةُ على الاندماجِ في المجتمعِ، والقدرة على إنتاجِ أفكار جديدة، فإن هذا يؤثرُ في تنميتِهِ وتطويرِهِ، أما إذا أنتجت لنا فرداً "ممسوخاً" غير قادرٍ على الاندماجِ في الحياة الاجتماعية، فإن هذا، يؤثر سَلباً - بلا ريبٍ - في المجتمع. هذا من جهة، من جهةٍ ثانية، فإنَّ المجتمع هو الآخر، يؤثر – سلباً أو إيجاباً - في المدرسة؛ ذلك - مثلاً - أن "مظاهر القلق والصراع بين الأفراد في المجتمع تنعكس آثاره السلبية على المدرسة ومناهجها"[10].
انطلاقاً من هذه الحقيقة، أي وجود علاقةٍ وطيدةٍ بين المدرسةٍ والمجتمع، فإنَّهُ لا بد للمدرسةِ، وحتى تَلعَبَ الدَّورَ المنوطَ بها، أن تنفتحَ على العالمِ الخارجيِّ. إذْ فيهِ يوجدُ شركاؤُها من أولياءِ التلاميذ، وجماعاتٍ محلية، ومرافقَ ومؤسساتٍ تربُطها بالمؤسسةِ المدرسيةِ علاقةٌ وثيقة، وذلك قصدَ بناءِ مجتمعٍ راقٍ ومزدهرٍ، والسَّيْرُ بِهِ قُدُماً.

[1] غريب عبد الكريم، فلسفة التربية، منشورات عالم التربية، ط1، ص51
[2] فيلسوف فرنسي معاصر ولد عام 1924 وتوفي سنة 1992.
[3] لطفي الجحلاوي، فلسفة التربية، دار التنوير، ط1، ص 122
[4] نفس المرجع، ص 52
[5] قلنا الحِلم ترجمةً لمصطلح tolérance  الذي يُترجم خطأً بالتسامح؛ ذلك أن المصطلح الفرنسي يعني قبول الغير، واحترامه رغم اختلافه الجنسي والعقدي... وهو ما يُترجم بالحلم، وليس التسامح، الذي يعني أن تُسامح أحداً أخطأ في حقك.
[6] نفس المرجع، ص 52
[7] نفس المرجع، ص 53
[8] نفس المرجع، ص 54
[9] نفس المرجع، ص 58
[10] نفس المرجع، ص 58