الأربعاء، 25 مايو 2016

التسامح، الحريّة، المؤسسات*

مؤمنون بلا حدود




تقديم
تبلور مفهوم التسامح في سياق تاريخي نظري محدَّدين، واكتسب دلالاته الأولى في قلب هذا السياق. فقد برزت ملامحه الأولى واستوت في إطار معارك الحروب الدينية والإصلاح الديني، واتخذت صورة واضحة في الفلسفة السياسية الحديثة خلال القرن السابع عشر، ثم تطور واتسعت دلالاته وتنوعت في القرن العشرين، وذلك في سياق تطور مبادئ وأجيال حقوق الإنسان، وكذلك في إطار تطور منظومات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة.
يعرف المتابعون لحياة المفهوم نوعية التحولات التي ما فتئت تضفي عليه طبقات من المعاني، حيث يجري استعماله وتوظيفه بصور عديدة في الجدل السائد اليوم في خطابات الحداثة والتحديث، الأمر الذي يبرز مرونته من جهة، ويكشف من جهة ثانية إجرائيته في خطابات المنتديات الدولية المناصرة لمبادئ العدالة والحرية وحقوق الإنسان.
توخينا من العناصر المكثفة أعلاه، وضع اليد على المرجعيات النظرية والحقوقية التي ساهمت في عملية تحولات الدلالة في مفهوم التسامح، وسنعمل في محاور هذه الورقة على توضيح ما ورد في صورة مركَّبة في الفقرتين السابقتين. إلا أننا قبل ذلك، نشير إلى أنّ ما سبق ذكره يندرج ضمن العناصر الأولى من ورقتنا، وذلك بحكم أننا سنخصص العنصر الأخير منها لمعاينة جوانب من كيفيات تلقِّي الفكر العربي المعاصر لمفهوم التسامح وما يرتبط به من مفاهيم الحداثة السياسية. صحيح أنّ فكرنا السياسي لم يتعرف على مفهوم التسامح ولم يقم بتوظيفه والتفكير بواسطته إلا في مطلع القرن العشرين، إلا أنّ صور استخدامه في ثقافتنا المعاصرة طيلة عقود القرن الماضي، منحته بدورها ظلالاً أخرى من المعاني، شحنته بطريقتها ومفردات لغتها بمعانٍ بعضها مُتضمَّن في أصوله، وبعضها تَحَصَّلَه بفعل الحمولة الدلالية لمفردات لغة أخرى تروم تمثله باستخدامه، مستهدفة إنجاز مهام تتطلبها سياقات توظيفه والتفكير بواسطته في إشكالات وقضايا مرتبطة بمجتمعات وثقافات أخرى، الأمر الذي نفترض أنه ساهم بصورة أو بأخرى في توسيع أو تضييق بعض دلالاته.
يتجه عملنا إذن لتركيب إحاطة نظرية بصيرورة تطور مفهوم التسامح، وذلك في سياق تطور منظومات في الفكر السياسي والتاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، مع محاولة للتوقف في الآن نفسه على جوانب من مآلات المفهوم في التلقي العربي لمنظومة الحداثة السياسية، خلال مائتي سنة من أشكال تفاعل الفكر العربي مع منظومات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، الأمر الذي نعتقد أنه سيقربنا من أنماط توظيفه في فكرنا ومجتمعنا، وسيظهر حاجتنا الماسّة إلى روحه في المعارك التي نواجهها اليوم في مجتمعاتنا وثقافتنا السياسية.
التسامح، نشأة الدلالة وتطورها
يجمع أغلب دارسي مفهوم التسامح على صعوبة ضبط معانيه ودلالاته، ولا يتعلق بالدلالات الفلسفية الاصطلاحية، التي ارتبطت به خلال مراحل تشكله وتطوره سواء في المجال الديني أو في الفلسفات التي حاولت وضع حدود لمعانيه في القرن السابع عشر وما بعده، بل إنّ الأمر يتجاوز الدلالة الاصطلاحية نحو الدلالات اللغوية العامة التي تحملها مفردته. وقد بيَّن المفكر الفرنسي بول ريكور في المقاربة التي ركَّبها لمفردة تسامح Tolérance اعتماداً على بعض معاجم اللغة الفرنسية[1]، أنّ الطابع المبسط للدلالة كما تقدمها بعض هذه المعاجم، يساهم في مزيد من غموض المفهوم وصعوبته.
نواجه الصعوبة نفسها عندما نقترب من دلالة كلمة تسامح في المعاجم العربية، ونتبيَّن بعض جوانب هذه الصعوبة في الدراسة الهامّة لسمير الخليل المعنونة بـالتسامح في اللغة العربية[2]، حيث وضَّح الباحث في هذه الدراسة صور التناقض بين جذر كلمة التسامح ومفهوم التسامح، موضحاً أنّ استيعاب روح المفردة في سياقها النظري والتاريخي يتطلب عمليات تمثل وتوظيف يكون بإمكانهما حفر الدلالة الجديدة في رسم الكلمة العربية، ومن أجل ذلك يجب الاستمرار في امتحان المفردة بالتداول، لنقف على حدود الدلالات التي تُقرن بها.
1- في الأصول الأولى للمفهوم
تحيل مفردة Tolérance إلى ما يفترض أنه الحامل لمعناها باللغة العربية، نقصد بذلك كلمة التسامح أو التساهل أو الصفح، ويتم في الأغلب تداول المفردات المشار إليها عند التفكير في موضوع العلاقات بالآخر والآخرين في المجتمع وفي العالم. وعندما نفكر في السياقات التي أطَّرت تبلور ثم تداول وتطور مفهوم التسامح، نجد أنها نشأت في إطار الجدل اللاَّهوتي في أوروبا النهضة، حيث عملت الكتابات اللاَّهُوتية على إبراز أهمية الصفح على من يخالف تعاليم الدين والكنيسة، وذلك بعدم معاقبتهم.
اندرج هذا الموقف في سياق توجه إصلاحي عام، يتوخى رسم حدود للعقائد باعتبارها ترتبط بالإيمان الشخصي الحر. وقد هيأت هذه التصورات الإصلاحية الطريق الممهِّد لتيارات الإصلاح الديني، كما ساهمت بمحاذاة ذلك في بلورة نظر فلسفي جديد للتسامح في خطابات الفلسفة الحديثة.
يمكن أن نقول إنّ عاملين اثنين ساهما بطرق مختلفة في تشكُّل مفهوم التسامح، وإليهما يعود الفضل في منحه جوانب عديدة من الدلالات التي يحملها؛ الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم الاكتشافات الجغرافية وما ترتب عنها من جدل لاهوتي وأخلاقي، ذلك أنّ التسامح نشأ ليعكس جوانب من صور تفاعل الفكر الحديث مع التطورات العديدة، التي نشأت في القرن السادس عشر في قلب المجتمع الغربي، حيث تبلور المفهوم كمحاولة لصدِّ مختلف أشكال العنف السائدة في المجتمع، وخاصة في مجالات العقيدة الدينية.
نشأ مفهوم التسامح منذ بداياته في صلة وثيقة بمفهوم الحرية، وقد لا نتردد في القول إنّ قاعدة نشوئه النظرية تتمثل في مساعي الحرية المرتبطة في فجر المجتمعات الحديثة بمتطلبات الوعي الفردي والنزعة الفردية. صحيح أنّ مجال الظهور والتشكل تؤطره إرهاصات الإصلاح الديني، إلا أنّ ميدان استواء ملامحه النظرية يجد أرضيته في معارك حرية التفكير والتعبير والعقيدة.
ينتج عن ذلك جملة من المعطيات النظرية المرتبطة بالدلالة العامة للمفهوم، ومن بينها:
أ- ربط المفهوم بالحقوق الطبيعية، وقد تَمّ ذلك في سياق البحث له عن مسوغات فلسفية واضحة، إنه مثل الحق في الحياة والملكية والعقيدة.
ب- الحرص على طابعه العام والكوني، باعتبار أنه كُلٌّ غير قابل للتجزيء، ولا مجال فيه للمساومة أو التمييز.
2- التسامح وأخلاق الدولة المدنية
لقد حاول فلاسفة أوروبا بدءاً من نهاية القرون الوسطى تجاوز صور التداخل والاختلاط القائمة بين المجال الديني والمجالات الدنيوية، وتبلورت الملامح النظرية الأولى الداعية إلى الفصل بين المجالات المذكورة في تيارات الإصلاح الديني، ثم عملت بعد ذلك الفلسفات السياسية على إعادة بناء التصورات التي أغنت ودعمت خلاصات ونتائج الإصلاح الديني. نتبيَّن جوانب من روح هذا الموقف في فلسفة جون لوك وخاصة في مصنفيه: محاولة في الحكم المدني، ورسالة في التسامح.
نقرأ في رسالته في التسامح في مسألة الفصل بين مهام السلطتين المدنية والدينية ما يلي: "ومن أجل ألّا يسعى آخرون، بدعوى الدين، إلى أن يجدوا في الدين خلاصاً لما يرتكبونه من إباحية وانحلال، ومن أجل ألّا يفرض أحد على نفسه أو على غيره أي شيء تحت دعاوى الولاء والطاعة للأمير، أو الإخلاص والوفاء في عبادة الله، أقول إنه من أجل هذا كله، ينبغي التمييز بدقة ووضوح بين مهام الحكم المدني وبين الدين، وتأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما. وإذا لم نفعل هذا فلن تكون هناك نهاية للخلافات التي ستنشأ على الدوام بين من يملكون الاهتمام بصالح نفوس البشر من جهة، ومن يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى"[3].
دافع لوك في كتاباته السياسية عن ضرورة إقامة خط واضح وفاصل، بين الحكم المدني والمعتقد الديني. ذلك أنّ حالة المجتمع في تصوره تنشأ بهدف تأمين المصالح المدنية والمحافظة عليها وعلى تطورها. وتتمثل هذه المصالح في الحياة والحرية والملكية والصحة، في حين تظل الكنيسة بمثابة فضاء اختياري للالتقاء من أجل عبادة الله. وبناء عليه، يكون على الحكم في نظر لوك، تأمين الملكية العادلة، وضمان المصالح المدنية للبشر[4].
كانت مواقف لوك السياسية في مجملها مرتبطة بأشكال الصراع السياسي والديني، القائمة في إنجلترا وفي أوروبا على وجه العموم. وقد رتَّب انطلاقاً منها مجموع خياراته في الدفاع عن حق الحرية، ودفاعه عن الحريات الفردية وخاصة في المجال الديني.
تَمَّ النظر إلى مجمل أطروحات جون لوك في هذا الباب باعتبارها مواقف مثيرة للجدل، حيث تبنَّى لوك حماية التيارات والمذاهب الدينية من التدخل غير المشروع للحاكم المدني. ويعرف المهتمون برسالته في التسامح (1886)، أنه ركَّب دليلين اثنين في موضوع التسامح الديني، وذلك بطريقة برهانية، يتعلق الأمر بالدليل الأخلاقي والدليل المعرفي. بَيَّنَ في الأول منهما أنّ لكل فرد الحق في أن يعتقد أو لا يعتقد بملء حريته ودون خوف، وأنّ الحرية الدينية والشخصية مكفولة للجميع. كما وضَّح أنه لا حق للكنيسة في اضطهاد أي شخص بسبب عقيدته، مثلما أنه لا حق للسلطة المدنية بالتدخل في العبادات. أمّا في الدليل المعرفي، فقد وضَّح محدودية المعرفة البشرية أمام مجاهل الكون العديدة. وبناء عليه، يصعب علينا أن نتحامل على الآخرين لأنهم لا يعتقدون مثلنا[5].
يتضح هذا في تحديده الدقيق للدولة ووظائفها حيث يقول: "الدولة مجتمع من البشر يتشكل بهدف توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها، وتنميتها. وأنا أعني بالخيرات المدنية: الحياة، والحرية، والصحة، وراحة الجسم، بالإضافة إلى امتلاك الأشياء مثل المال، والأرض، والبيوت، والأثاث، وما شابه ذلك"[6].
اغتنى مفهوم التسامح في كثير من أعمال فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث نعثر على أعمال أُنجزت دفاعاً عن التسامح وما يتيحه من آفاق في تطور الفكر والمجتمع. فقد كتب بييربيل بحثاً في الدفاع عن التسامح أشار فيه إلى أنّ الخطر الأكبر الذي يواجه الديانات يتمثل في عدم تسامحها[7]، وهو الأمر الذي أبرزه لوك أيضاً، وهو يوضح أنّ مطلب التسامح يتطابق مع الحِسّ المشترك تطابقه مع تعاليم الإنجيل[8].
وقد ساهم فلاسفة مثل سبينوزا وروسو وﭭﻭلتير في إغناء وتطوير دلالات المفهوم وكذلك توسيع مجالات استعماله، ففي الفصل الأخير من نص سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة على سبيل المثال، يتحدث عن أسوأ مواقف الدولة معتبراً أنّ هذا الموقف يتمثَّل في نفيها لمن يختلفون معها في الرأي[9].
3- التسامح ومنظومة حقوق الإنسان
ساهمت الفلسفة السياسية الحديثة في تلوين مفردة التسامح بألوان دلالية محدَّدة، وذلك في سياقات نظرية وتاريخية أضفت عليها وعلى معانيها طابعاً خاصاً، فأصبح من غير الممكن تداولها دون استحضار المعاني والسياقات التي منحتها الشحنة التي امتلأت بها. وقد عزَّز هذه الدلالة وزادها رسوخاً التوسيع الذي لحق مجالات استخدامها، نحن نشير هنا إلى صور توظيفها الجديدة في مواثيق وأدبيات حقوق الإنسان.
أصبح مفهوم التسامح من المفاهيم المركزية في مواثيق حقوق الإنسان، ومنذ إعلان 1948، الذي تَمَّ فيه التنصيص على حرية المعتقد والرأي والتعبير، بدأ العمل يجري في موضوع تفعيله في المنظمات الدولية، حيث أصدرت منظمة اليونيسكو إعلان مبادئ التسامح لسنة 1995، وتبنَّته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16 نوفمبر 1995 بباريس[10]. وقد دعا هذا الإعلان إلى ضرورة العمل على اتخاذ الإجراءات والتدابير الكفيلة بتجسيد وتعزيز التسامح بين الأفراد والمجتمعات[11].
ترتب عن استخدامه الحقوقي ما نعتبره نوعاً من تعميم دلالاته وتوسيع مجالات الاستفادة من المزايا الأخلاقية المرتبطة بروحه، وأهمها الطابع المنفتح على الآخر والآخرين الأمر الذي يفيد قبول الاختلاف والعيش في فضاءاته. يضاف إلى ذلك حرص المواثيق الحقوقية على الجمع بين التسامح والتعدد والديمقراطية والسلم، حيث تَمَّ شحن دلالة المفهوم بمعطيات نظرية جديدة مرتبطة بالمجال الحقوقي وسَّعَت معانيه، وساهمت في تقليص بعض الإيحاءات المتصلة بسياقات لحظة بروزه وانبثاقه، نقصد بذلك المعطيات ذات الصلة بالصراعات الدينية في أوروبا النهضة.
يترتَّب عن ذلك أنّ منظومات حقوق الإنسان نقلت مفهوم التسامح من حدوده اللاَّهوتية إلى فضاءات أرحب، فأصبح يعني اليوم الاحترام وقبول التعدُّد والاختلاف، وكذلك تنوع الثقافات وتعدُّدها في عالمنا. وقد تعزَّز هذا بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر، ولم يعد مجرد واجب أخلاقي، بل تعدَّى ذلك ليصبح واجباً سياسياً وقانونياً أيضاً. لقد تحول إلى قضية تساهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب، وضمن هذا السياق، تَمَّ تبنِّي يوم 16 نوفمبر من كل سنة كما أشرنا سابقاً كيوم عالمي للتسامح.
4- نحو مأسسة التسامح
وضَّحنا أنّ نص جون لوك في رسالة التسامح (1689)، يُعدُّ علامة مركزية في تاريخ مفردة التسامح، فقد أبرزت هذه الرسالة أهم الدلالات التي ارتبطت بالمفردة، الأمر الذي منحها امتياز التعبير عن بعض معارك الحداثة في الفكر والمجتمع الحديثين. وقد حصل بعد ذلك نوع من التجاوز لتصورات الرسالة اللوكية في فلسفة الأنوار، حيث تَمَّ الانزياح قليلاً عن مرجعيتها المرتبطة بالإصلاح الديني والحروب الدينية، نحو أفق يمنح المفهوم فضاء أكبر للتحول، أفق يرتبط بفلسفات ومواثيق حقوق الإنسان. ونتج عن ذلك أن أصبح مفهوم التسامح يستوعب ويشير إلى وقائع ومعطيات لم تكن واردة ضمن شروط وسياقات تبلوره الاصطلاحي الأول، في إطار معارك الدولة والكنيسة في أوروبا الحديثة.
سمح التحول الحقوقي والسياسي في تقريب مفهوم التسامح من الآفاق الحداثية، الأمر الذي جعله يتخذ مظاهر ذات صلة وثيقة بالحريات الفردية، حيث أصبح يساهم في تعزيز قيم الحداثة والتحديث. وضمن هذا السياق، بدأ المفهوم يبحث لنفسه عن سياق مؤسسي يضمن له إمكانية الأجرأة التي تتيح له مردودية اجتماعية.
إنّ التحول الذي عرفه مفهوم التسامح في القرن العشرين يعبّر عن المكاسب التي لحقت به استناداً إلى التفاعل الذي حصل بينه وبين أجيال حقوق الإنسان، إضافة إلى التأثير الذي فرضه تطور المنظور السياسي الليبرالي الجديد، حيث تبلورت جملة من التيارات السياسية الهادفة إلى دعم مجتمعات التعدد والاختلاف. وإذا كانت ليبرالية كلّ من توكفيل وستوارت ميل تقبل مبدأ تعدُّدية تصورات الخير داخل الثقافة الديمقراطية، شريطة احترام مبادئ هذا التعدُّد، فقد تجلَّى هذا الموقف بصورة واضحة في أعمال راولز على سبيل المثال لا الحصر، حيث تبنَّى في نظريته في العدالة مفهوم التسامح وربط بينه وبين الحرية والديمقراطية والمؤسسات.
تتمتَّع أعمال راولز اليوم بحضور متميز في فضاء الفلسفات السياسية والاجتماعية والأخلاقية في مختلف دوائر الفكر المعاصر، بسبب اختيارها منطقاً معيناً في البحث، يقارب الأسئلة الأخلاقية من منظور سياسي، فهو يحاول تجاوز المنظور الأخلاقي والميتافيزيقي، ليجعل منظومة القيم مفتوحة على أسئلة المجتمع والتربية وحقوق الإنسان، إضافة إلى قضايا العصيان المدني والديمقراطية.
ينطلق راولز في تركيب تصوُّره السياسي للعدالة من النظر إلى المجتمع من منطلق أنه بنية معقدة، يحكمها نظام في توزيع الخيرات يمنح الأفراد والجماعات نسباً معينة من الخيرات والمنافع الأولية (الموارد المادية والرمزية)، أي يمنحها كلّ ما يعزز الشخصية الاعتبارية للأفراد، مثل الحرية وتكافؤ الفرص والثروة. وبناء عليه، يرى راولز أنّ مهمة المقاربة السياسية تتحدَّد في تركيب تصور يسمح بتقسيم مجموع الخيرات بين مختلف الجماعات المتعارضة والمختلفة فيما بينها[12].
يتجه المنظور الليبرالي الجديد إلى إصلاح وتنظيم المؤسسات، ويهتم رواده ومؤسسوه بإعادة التفكير في مفهوم التسامح من زاوية عقلانية، ودون ربط التفكير فيه بمسألة ترتيب ما يضمن حمايته، أو التفكير في سياقاته الاجتماعية والجماعاتية واللغوية والدينية والاقتصادية[13].
لن تحصل حماية روح التسامح وفضائله إلا بتوفير مؤسسات راعية وحاضنة، مؤسسات يكون بإمكانها أن تَصُدَّ الإكراهات والعوائق، لتصنع فضاء يمنح الأفراد المساواة والحرية وممارسة الاختيارات التي تُفضي إلى التسامح. ونحن نفترض أنّ بناء مؤسسات في هذا الباب يتطلب جهوداً مضاعفة، حيث يبدأ العمل بمواجهة المؤسسات الرافضة لقيم التسامح، ثم بناء المعايير والإجراءات القابلة للمأسسة، الأمر الذي يبرز أنّ المجتمعات التي تبلور في تاريخها مفهوم التسامح ما تزال في بداية الطريق في موضوع مأسسة المفهوم.
5- في كيفيات تلقّي الفكر العربي لمفهوم التسامح
قد لا نجانب الصواب، إذا ما اعتبرنا أنّ أول دفاع عن التسامح في الخطاب السياسي العربي المعاصر، تبلور على صفحات مجلة الجامعة، التي كان يشرف على تحريرها فرح أنطون، وأنّ الفضل يعود إلى هذا المصلح بالذات في تقديم محتوى المفهوم وإبراز أهميته، وذلك في إطار تأويله وتقديمه لمنظومة الحداثة السياسية الغربية، كما صاغتها الفلسفة الليبرالية[14].
فمنذ ما يقرب من قرن من الزمان، وبالضبط في سنة 1902، وظَّف فرح أنطون مفهوم التسامح - وكان يرادفه بلفظ التساهل - لإبراز أهمية محتواه، كحاجة ملازمة للتحرر من الانغلاق والتعصب ومعاداة الآخرين.
لم تكن محاولة فرح أنطون سهلة، وقبله لم تكن جهود الطهطاوي في نقل وترجمة المفاهيم السياسية الليبرالية والقوانين الوضعية متيسرة، رغم أنّ هذا الأخير كان يحاول في أعماله الفكرية، الاستجابة لمطالب دولة في طور التأسيس (دولة محمد علي في مصر)، والبحث لمفاهيم المنظومة الليبرالية عن مقابلاتها في التراث، مقابلاتها الاصطلاحية، وما يحتمل أن يشكل مقابلاً لهذا المحتوى. أمّا فرح أنطون فقد اختار واحدية المرجعية الغربية، متبنياً محتواها، باعتباره أفقاً فكرياً جديداً غير مسبوق، إنه نتاج الحداثة السياسية، كما بلورتها جهود فلاسفة الأنوار، ومن سبقهم من رواد ومؤسِّسي الخطاب السياسي الليبرالي في القرن السابع عشر.
وربما لهذا السبب بالذات تصدَّى محمد عبده لمقالات فرح أنطون في مجلة الجامعة، حيث ترتّب عن السجال بينهما في موضوع الاضطهاد في الإسلام والمسيحية، كتاب محمد عبده الشهير الإسلام والنصرانية.
في الصفحات التي كتبها فرح أنطون عن ابن رشد وفلسفته، ثم في موضوع الاضطهاد في الإسلام والمسيحية، ذهب إلى تمجيد مفهوم التسامح، كما تبلور في الفلسفة الحديثة بروح متحمسة، دون أدنى احتراز نظري أو تاريخي. بل إنّ مرماه الإصلاحي دفعه إلى التحمس لمحتوى المفهوم، وإضفاء مسحة جديدة عليه. وقد برز ذلك في الأمثلة المتعددة التي كان يحاول بواسطتها تقريب المفهوم وروحه، والدفاع القوي عن أهميته في حياتنا المعاصرة، وذلك من أجل أن نتمكن في نظره من استيعاب مقتضيات الحداثة السياسية، باعتبارها المدخل الرئيس للنهضة والتقدم.
ارتبط دفاع فرح عن التسامح بدعوته إلى العلمانية، كما ارتبط بدفاعه عن مبدأ النسبية في مجال المعرفة. ومعنى هذا أنّ تبلور المفهوم في خطابه الإصلاحي ارتبط بسياق أعم، يتعلق بمحاولة إنجاز تعريب للمنظومة الليبرالية، وذلك في سياق ملابسات تاريخية ونظرية ترتبط بمناخ الفكر الإصلاحي، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهذا الارتباط يدلّ من جهة على وعي فرح أنطون بترابط مفاهيم منظومة السياسة الليبرالية، كما يدلّ من جهة ثانية على عدم وعيه بأهمية الشرط التاريخي كخلفية مؤطرة ولاحمة له. ومن هنا غربة النص الذي كتب عن الزمن الذي تبلور فيه.
وباستثناء جهود فرح أنطون في إضاءة مفهوم التسامح، وهي الجهود التي غذَّت الخطاب الليبرالي العربي بشحنة دلالية ذات مرجعية غربية، نجد أنّ ملامح المفهوم غائبة تماماً عن لغة الخطاب السياسي العربي المعاصر.
صحيح أنّ مفكري النهضة، من ذوي التوجه التغريبي الليبرالي، اعتنوا بمفاهيم المنظومة الليبرالية المرتبطة بمفهوم التسامح، من قبيل الحرية والمواطن والمساواة والدستور وغيرها، إلا أنّ مفهوم التسامح بالذات ظلّ في حكم الغائب، أي في حكم اللاَّمفكَّر فيه في الثقافة السياسية العربية المعاصرة.
وصحيح أيضاً أنّ معارك كتابي "الإسلام وأصول الحكم و"في الشعر الجاهلي"، استدعت المفهوم بصورة غير مباشرة، وأنها كانت تستدعي روحه في الأغلب الأعم، ولا تستحضر منطوقه ورسمه، إلا أنّ هذا الحضور لا يسعفنا بِتَبَيُّنِ معطيات نظرية يُمكن أن تفيدنا في صياغة بعض الجوانب والأبعاد الخاصة بتجربتنا التاريخية والنظرية، في مجال مواجهة التعصب الفكري والتصورات المطلقة والمغلقة، من أجل الدفاع عن حرية الفكر وحرية الرأي والعقيدة. هل نستنتج من هذا أنّ معركة الفكر العربي في الدفاع عن التسامح كقيمة أخلاقية وحضارية ما تزال قائمة ومطلوبة؟
نعم إننا نعتقد ذلك. فكثير من المعارك القائمة، في أكثر من قطر عربي، في المستوى السياسي وفي المستوى العقائدي، وفي المستويات المرتبطة بقضايا حقوق الإنسان، تؤشِّر على حاجتنا الملحَّة لفتح جدال في موضوع التسامح.
لا ترتبط حاجتنا في المجتمع والفكر العربيين إلى التسامح كفضيلة عقلية وأخلاقية، نقول إنّ هذه الحاجة لا ترتبط فقط بميراث نظري وتاريخي محدَّدين، بل إنها ترتبط أولاً وقبل كل شيء بحاجتنا الفعلية والتاريخية اليوم لمحتواه. ففي حاضرنا كثير من مظاهر الانغلاق والقهر والتعصُّب والإقصاء، وهو ما يستلزم استحضار المفهوم باعتباره وسيلة من وسائل الدفاع عن التعايش، والإقرار بالاختلاف، والاعتراف بالحرية، كقيمة لا تقبل المساومة.
عود على بدء
لا يمكن القول، بناء على ما سبق، إنّ الدعوة إلى التسامح، أو العناية به كمفهوم في سياق تطور الفكر السياسي، في الثقافة العربية، أو في مجال الفلسفة السياسية الغربية المعاصرة، يُعدُّ من باب الاهتمام العارض أو المؤقت، أو الاهتمام المرهون بمعارك سياسية محدَّدَة.
إنّ مشكلات الغرب المعاصر في علاقته بمستعمراته السابقة، وفي علاقته بالأقليات المتعايشة معه، وفي رؤيته لكثير من قضايا المجتمع الدولي، وبؤر الصراع المنتشرة في العالم، تُبرِز كثيراً من مظاهر اللاتسامح، إن لم يكن التعصب الأعمى، حيث يشكِّل عدم الاعتراف بالآخر وعدم الاعتراف بالخصوصيات التاريخية والثقافة والكيل بمكيالين، صفات ملازمة لكثير من خطابات الغرب، رغم تناقض هذه الخطابات مع الأسس والمبادئ والفلسفات التي قامت عليها الحضارة الغربية.
لم يستطع الغرب إذن في سلوكه الفعلي المباشر، تمثُّل روح التسامح، ولم تمكنه دروس تاريخ الفلسفة السياسية من لوك إلى ﭬﻮلتير إلى راولز وأمارتيا سن، ودروس تاريخ العلم المبلورة لمبدأ النسبية في المعرفة، من الاعتراف بالآخر، بصورة تتجاوز المفارقات التي ولَّدها تاريخ الغرب المعاصر في علاقته بالآخرين، في إفريقيا وآسيا وباقي قارات العالم. وإذا كانت حصيلة النظر الأخلاقي المتمثلة في المواثيق والعهود المتعلقة بحقوق الإنسان، قد بلورت من الشرائع والمبادئ والقواعد ما ينبئ عن جهود في الفكر السياسي لا تُضاهى، فإنّ الأفعال والمبادرات والمواقف وردود الفعل القائمة في الواقع، تكشف وجود تناقضات مرعبة بين النظر والممارسة، حيث تعكس الممارسات تراجعات رهيبة عن منطوق وروح المبادئ والشرائع المعلنة.
ينطبق الشيء نفسه على واقع المجتمعات العربية. ومن هنا نستنتج أنّ معرفة التسامح ما تزال مفتوحة. صحيح أنّها دُشِّنَت في مطلع هذا القرن في السجال الذي دار بين فرح أنطون ومحمد عبده، وأنّها تُستأنف اليوم في المعارك الفكرية والسياسية التي تطالب بفتح باب الاجتهاد، في مجال دراسة الظواهر التراثية، فهل نستطيع القول اليوم إنّها معركة لم تعد قابلة للتأجيل؟ وإنّ معطيات متعددة في الراهن العربي تقتضي بلورة اجتهادات جديدة تمكِّننا من استثمار الدلالة الرمزية والمفتوحة للمفهوم؟
إنّ ذلك ما نعتقده فعلاً، وفي هذا الإطار نُدرج هذه المحاولة.

* نشر هذا المقال في مجلة "يتفكرون"، 2015، العدد 6
[1] لمزيد من الاطلاع على تحليل ريكور لمبدأ التسامح وموقفه من دلالاته المعجمية يُرجى العودة إلى مؤلَّفِه المعنون Lecteurs I: Autour du politique في الجزء الذي يقع من الصفحة 295 إلى الصفحة 312 ويحمل عنوان: Tolérance, intolérance, intolérable.
[2] سمير الخليل، التسامح في اللغة العربية، ضمن كتاب جماعي التسامح بين شرق وغرب، ت. إبراهيم العربي، ص 5-23، دار الساقي، لندن، 1992
[3] جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة: منى أبو سنه، مراجعة: د. مراد وهبه، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1997، ص 23
[4] في موضوع الحقوق الأساسية للفرد، يُراجع نص جون لوك في الحكومة المدنية، ترجمة ماجد فخري، دار صادر، بيروت، صفحات 257-258
[5] رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 29
[6] جون لوك، رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 23
[7] Pierre Bayle, De la tolérance, commentaire philosophique, ed. Honore Champion, Paris 2006.
[8] جون لوك، رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 78
[9] اسبينوزا، رسالة في اللاّهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، القاهرة، 1971، ص ص 446-447
[10] تَمّ تبنّي هذا اليوم أي يوم 16 نوفمبر من كل سنة يوماً عالمياً للتسامح.
[11] يمكن تصفح بنود الإعلان العالمي لمبادئ التسامح على موقع منظمة اليونسكو: www.unesco.org
[12] Rawls, John, La Justice comme équité: Une Reformulation de la «théorie de la justice», Traduction de l’anglais par Bertrand Guillarme , Paris, Editons la découverte, 2003, p. 68.
[13] Rawls, John, Libéralisme politique, Paris, Presses universitaires de France, 2006, p. 79.
[14] كمال عبد اللطيف، من سؤال العلمانية إلى إعادة بناء المجال السياسي العربي ضمن كتاب أسئلة النهضة العربية، التاريخ، الحداثة، التواصل، م.د.و.ع، بيروت، 2003، صفحات 29-56

الدين والدولة ـ هادي معزوز

أنفاس نت



لا خفاء في أن من بين المواضيع التي وجب أن تنال الحظ الأوفر من التمحيص والمساءلة والشرح هو تلك العلاقة التي تربط بين الدين كدين، أي المعرفة العقلية بالله الصادرة من الإنسان والمبنية على الإدراك الواعي والخالية من الوسائط، والدولة كفكرة مرتكزة على روح القوانين، وقوة المؤسسات، بالإضافة إلى رسم حدود ثنائية الحق والواجب، سيبدو لنا الأمر في أول وهلة واضحا لا يحتاج إلى زخم التفاسير والقراءات، بيد أن مشكلنا اليوم ليس يكمن إلا في سوء فهمنا للإثنين وذلك عندما نتأمل واقعنا من المحيط إلى الخليج، وكيف أن الدراسات والإحصائيات تكاد تجمع إن لم نقل كلها على أن الاستبداد وغياب روح القانون لصالح الشطط في استعمال السلطة، وتسجيل نسبة كبيرة جدا من الفساد والرشوة، هم ديدن ولسان حال واقعنا، الدين هو الآخر وفي نفس الصدد يستأثر بهكذا مفارقة من خلال ما هو منصوص عليه في الكتب وبين ما يُتداول، أي بين الدين كنص رسمي وبين استيعاب الثقافة للدين، حيث نقف على مفارقة كبيرة مفادها أن من أكثر الشعوب تدينا هم أكثر الشعوب المعروفة بالغش والرشوة وارتكاب ما تم منعه وتحريمه في الكتب، في تطبيق كبير لتلك القاعدة التي تعتبر أن كل ماهو ممنوع مرغوب.
    عندما نعود إلى حديث الساعة في عالمنا الإسلامي للعثور على طرف الخيط، نجد أن فكرة الدين تعاني من مشاكل جمة، والحال أن عدد القتلى الذي يُعلن عنه في نشرات الأخبار أغلبه دفع ثمن سوء فهم الدين، بل إن سريالية المشهد تزداد عندما نرى أننا بتنا نعيش حرب الكل ضد الكل، حيث كل عصبة من العصب ترى رأيها هو الصائب وأنه لا يدخله الباطل عكس القراءات والتفسيرات الأخرى للدين، ربما يكمن السبب في صراع الثقافة والدين، حيث تتحكم الأولى في الثاني بما أننا عُرفنا منذ زمن طويل بتعصبنا للرأي، حيث لعبت بنيتنا القبلية دورها الريادي في هذا الأمر، أو قد يتجلى في غياب تدبير الاختلاف والإيمان بأن رأيي قد يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ.
    والحق أن معضلتنا في هذا الباب تزداد شيئا فشيئا عندما لا نرى أية محاولة من السياسي لاحتواء ما ينجم عن الديني، إذ كم من الأطروحات كتبت في هذا الشأن وكم من القراءات والأبحاث اهتمت بهذا الإشكال؟ دون أن تجد لنفسها سبيلا حيث بقيت حبيسة رفوف الأرشيف، من ثمة كان لا بد للعودة مرة أخرى إلى تلك العلاقة التي تربط بين الدين والدولة من نظرة فلسفية تقف عند المفهومين.
    لا يختلف اثنان في أن الدين أساسي بالنسبة للإنسان منذ أمد قديم، كما لا يمكن إلا الجزم بفكرة أن الدولة تنزل منزلة الحجر من الزاوية بالنسبة للوجود الإنساني بصفة عامة، الأول ـ الدين ـ رابطة روحية تفسر الكون والعالم تفسيرا لاهوتيا منغلقا، كما تعمل على تنظيم الحياة اليومية للأفراد باسم ثنائية الحلال والحرام، أما الثاني ـ الدولة ـ فإنه لا يستقيم إلا بدستور ينطلق من الإنسان وإلى الإنسان، مجاله مفتوح يتغير بتغير السلطة التي تحكمه، الدين يقسم الحياة إلى حياتين، واحدة هنا وأخرى بعد الموت حيث يحاسب الإنسان بما عمله، أما الدولة فإنها تؤمن بالعقاب الفوري دون تأجيله، الدين يحكم باسم السماء والدولة تحكم باسم القانون، بالتالي فإن للدين غاية بطبيعة الحال، كما للسياسة غايتها أيضا، لكن غاية الدين ليست هي غاية الدولة.
    مشكلتنا في العالم الإسلامي والتي ندفع ثمنها اليوم أكثر من أية لحظة خلت، هو عندما نمزج بين الدولة والدين، إذا انتصرت الدولة على حساب الدين، أي إذا احتوت السياسة أمور الدين يتحول نظام الدولة إلى نظام مضطرب، بما أن الدولة تتأسس على الديمقراطية وحقوق الأقليات والحرية الفردية وحرية التعبير، في حين أن الدين يحكم بالحد معتبرا قوانينه صالحة لكل زمان ومكان، على عكس ذلك إذا انتصر الدين على الدولة، أي إذا أصبح الدين هو أساس الدولة نحكم باسم التقوى والفضيلة والورع والخطايا، فتنتفي المؤسسات لصالح الاعتباطية في تنظيم حياة الإنسان، وتتبنى الدولة دينا بعينه، فنصبح بلغة الفيلسوف الألماني هيجل أمام دولة دين، والتي لن تتميز إلا بالتعصب للدين الواحد، ونفي كامل لحرية الاعتقاد من جهة، أو حرية تغيير الدين من جهة ثانية.
    ربما يمكن أن نعثر على هذا الخلط في التاريخ، وذلك بعودتنا إلى أصول الدولة الإسلامية، حيث كان يُجمع دوما بين الحاكم بأمر الله والحاكم بأمر الدنيا، فهو الذي يشرع أي أنه رجل الدولة، وفي نفس الوقت هو الذي يمثل ظل الله في أرضه، حيث يحكم دينيا وسياسيا، وهو ما يجعل الدين يتداخل في الدولة والعكس، كأننا نحاول خلط الماء بالزيت، صحيح أن بنية العصور الوسطى كانت تتأسس على الحكم باسم الدين، لكن في أوربا مثلا كانت الكنيسة مستقلة شيئا ما عن قصور الحكم، عكس العالم الإسلامي الذي كانت قراراته تؤخذ من نفس الشخص، أي الشخص الذي يمثل الدين والدولة في نفس الآن،  بيد أنه عندما يتراكم هذا الخلط فإنه يصل أحيانا إلى مسألة الشرعنة، فيحاول الدين أن يطوع الدولة تماما، كما تحاول هذا الأخيرة أن تجعل الدين في خدمتها، وهو ما يتنافى وطبيعة المجالين، في نفس السياق بل وفي هاته الظرفية بالذات، سيقول قائل أنه ومن أجل تجاوز هذا الخلط الذي جر علينا الويلات أن نفصل بين الدين والسياسة في إشارة إلى تبني العلمانية، سيكون من المغامرة بمكان اتباع هذا الطريق، حيث ستقوم الثقافة كعامل مقاوم لهذا الأخير، عندها ستدخل كلاعب ثالث مع الدين والدولة، للعلمانية شروطها الإبستيمولوجية والفكرية والسياسية والذهنية كذلك، من ثمة لا بد أولا من استيعاب أن مسألة وضع الدولة في سكتها الحقيقية رهين برسم الحدود بين الدين كحياة داخلية للإنسان، وبين الدولة كشأن دنيوي، أما إذا كان لا بد من تدخل لطرف على حساب طرف آخر فإن الدولة اليوم هي من عليها أن تنظم الحياة الدينية، وأن تُربي الناشئة على روح الاختلاف وقبول الرأي المضاد وحرية التعبير والتدين دون المساس بقناعات من يخالفونا الرأي أو الاعتقاد.    

مقاربة منهجية للتعلم ـ محمد الجيري

انفاس نت



التعلم الاستراتيجي هو نموذج بيداغوجي بلورته الدراسات التي أجريت في إطار علم النفس المعرفي، ويراهن على استيعاب وإدراك معنى التعلم والتدخل بفاعلية في سيرورته، هذا النموذج البيداغوجي يأخذ يعين الاعتبار العوامل ذات البعد المعرفي بجانب عوامل أخرى، ويرتكز على التحفيز المدرسي للتلاميذ، ويساعد بكيفية جيدة على تقديم إجابات لأسئلة: كيف يتعلم التلاميذ؟ كيف يعالجون المعطيات والأفكار؟ كيف يعملون على إعادة استثمار مكتسباتهم في الوقت المناسب؟ والمدرس الذي يأخذ بعين الاعتبار هذه المكونات يخلق وضعيات بيداغوجية حقيقية توفر فرصا ثرية للمتعلمين، غير أن هذا العمل يرتبط بمختلف الأدوار المنوطة بالمدرس كباحث، وسيط، خبير، مخطط، منشط، صاحب قرار..وبمقتضى هذه الأدوار يقدم المدرس لمتعلميه دعما من أجل بناء معارفهم، وتنمية كفاياتهم التي ستستثمر لاحقا في سياقات مختلفة على صعيد الوسط المدرسي مثلما على مستوى الحياة العامة.

يستهدف التعلم الاستراتيجي في نهاية المطاف تمكين المتعلم وتجهيزه بعدة عمل، فالمدرس يهتم بشكل أساس بإكساب التلاميذ القدرة على اكتشاف مختلف الاستراتيجيات واستعمالها بكفاءة وبطريقة سليمة. وتعرف استراتيجات التعلم ومميزاتها يشكل ضرورة معرفية بالنسبة للمتعلم، بيد أنها خطوة ليست كافية، لأن تعلم كيفية استعمال واستثمار استراتيجيات التعلم لمواجهة وتدبير وضعيات تعلم مختلفة رهان يحمل إغراء وإثارة شديدين، فصيغة السؤال التي لم تعد: ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ وإنما غذت: ما أهمية ما نعرفه؟ جعلت الإشكال ينأى عن الانشغال بحدود المعرفة وشروطها وأفق ممكناتها، ليصير مهووسا بقيمة المعرفة وجدوائيتها، فالمبتدؤون من المدرسين يتعلمون خلال التكوين الكثير حيال أدوارهم المقبلة ، لكن تحمل مسؤولية الفصل الدراسي وحده، ومواجهة وضعيات التطبيق هو ما يمكنهم بشكل فعلي من تنمية كفاياتهم، وكذلك الشأن بالنسبة للمتعلمين الذين يحتاجون دوما وبشكل أكبر إلى مساعدة من مدرسيهم من أجل تنمية قدراتهم على استخدام استراتيجيات التعلم بكفاءة.
الاشتغال على التعلم الذاتي كاختيار استراتيجي، لن يتأتى تحقيقه إلا بتمكين المتعلم من أدوات ووسائل وآليات عمل وتقنيات ومهارات، و من تم تمريس المتعلم على استدماجها ضمن خبراته ومكتسباته بشكل متكامل، وإذا كانت المؤشرات الميدانية تفيد بوجود ضعف عام على صعيد امتلاك المتعلمين للمهارات وتقنيات وأدوات العمل الضرورية ، ما ينذر بوجود علاقة غير سليمة بالتعلم، من تجلياتها انتشار ظواهر العزوف، الصمت والانسحاب المنتجة حتما للفشل الدراسي، فهذا مدعاة لاستحضار تعلم الاستراتيجيات على مستوى الفعل التعليمي كمدخل أساس لبناء علاقة طبيعية بالمعرفة تسهم في تقوية حظوظ الاكتساب والتعلم والنجاح باعتباره رهانا يتغيا تعلم التعلم، الذي يثمر توسع قاعدة المتعلمين الأكفاء.
  يبذل المتعلمون جهودا على مستوى تنظيم معارفهم واستثمارها، لكن أعدادا كبيرة منهم تعوزهم الخبرة في مقاربة التعلم، لذا فتكوينهم من أجل اكتساب استراتيجيات التعلم، والقدرة على اكتشاف الطرائق الوظيفية والمنتجة لمعالج المعلومات بفعالية مطلب قائم، وقليل من المتعلمين من يعي قدراته الشخصية، وتأثير سياق التعلم، وطبيعة مهام التعلم واستراتيجياته. الاستراتيجيات المبنية على المفهمة تتيح تنشيط العلاقة بين المكتسبات القبلية والتعلمات الجديدة، ومن ثم قدرة المتعلم على تنظيم وإدماج مكتسبات جديدة تشكل لبنة لبناء قاعدة معطيات قابلة للاستثمار في سياقات يصنف فيها التفكير والتطبيق من مستوى أعلى. ويبقى الاستثمار النشيط للتلاميذ في التعلم مؤشر دال على مدى فاعلية تعلم ما، فعدم توفر المتعلمين على استراتيجيات التعلم هو ما يجعلهم يعرضون عن التعلم، فلا يرغبون فيه مهما كانت جدة العرض وجودته ، ونتيجة لهذا الوضع يصبح التعلم تجربة سلبية للتلميذ وللمدرس معا طالما يطبعها الإحباط والعزوف، وفي المقابل من السهل تذكر تجارب تعلمية متميزة لنماذج من متعلمين أكفاء لا يترددون في مواجهة وتدبير مهام التعلم التي تناط بهم، ويتكيفون مع الصعوبات التي تتضمنها، ولا يستسلمون بسهولة لأن رغبتهم في انجاز المهام وحلها لا تفتر من خلال مساءلة الموارد والدعامات والوسائط وأدوات العمل، وتلمس مساعدة مدرسين أو زملاء ، فهؤلاء المتعلمون يدركون جيدا أن التعلم سيرورة حيوية ومسؤولية تقتضي تحملا، فالثقة والقدرة على الالتزام بإنجاز المهمة بكيفية معينة، وفي حدود ما دليل على إدراك طبيعة التعلم كسيرورة منهجية تتطلب القدرة على مقاربة الأنشطة التربوية والتعلمية بصورة ناجعة.
ويبقى المبدأ الموجه للعمل هو مدى توفر المتعلمين على الكفايات الكفيلة ببلوغ الهدف/ التعلم، ويكمن ذلك بدرجة أساس في إدراك كيفية التعلم، واستثمار الاستراتيجيات والطرائق الموصلة إلى التعلم، والانتقال إلى مستوى تطبيق وإنجاز المهمة بنجاح في ظرف زمني مناسب، وضبط مسار تقدم التعلم، ورصد الحصيلة انطلاقا من الأهداف المحددة سلفا، ومن خلال التغذية الراجعة المستمدة من تقويم المدرس، ومن الأدوات الموضوعة رهن إشارتهم.
يتطلب امتلاك القدرة على استخدام استراتيجية التعلم المناسبة تعبئة رأسمال معرفي متنوع بصورة تفاعلية مرتبط بمعرفة واستثمار مختلف الاستراتيجيات المفضية الى التعلم، وبمعرفة المتعلم لذاته، وتعرف أصناف الأنشطة والمهام المطلوبة علاوة على إدراك سياق التعلم. الغالب أن التلاميذ لا يهتمون بالطريقة التي تعلموا بها، وما يستعملونه من طرائق لم يدرسوها بشكل منهجي، إنما تنبع من حسهم المشترك، وتعكس اختياراتهم العفوية أوتكون منبثقة من تجارب فشل مروا  بها، أو من خلال ملاحظة مدرسيهم أو زملائهم، وفي جميع الحالات تكون هذه الطرائق غير ملائمة ومن ثمة لا تثمر تعلما، وطالما أن العديد من التلاميذ تعوزهم الاستراتيجيات المناسبة فإنهم يستمرون في التماس طرائق نمطية في مواجهة وضعيات وسياقات تعلمية متباينة بالرغم من تأكدهم من خلوها من أية فعالية.
 على هذا الأساس تبقى معرفة استراتيجيات التعلم رهانا حاسما، لأن مساعدة المتعلم على تنمية استراتيجيات التعلم واستعمالها بإيجابية وكفاءة لا يتغيا تمكين التلاميذ من بلوغ أهداف تعلمية لحظية فحسب، بل لأن ذلك يعد مرحلة حاسمة في إكساب المتعلم كفايات التعلم التي تؤهله لتدبير مساره الشخصي والمهني بنجاعة مدى الحياة. استراتيجية التعلم هي الأداة الكفيلة بتحسين وتطوير اكتساب موارد معرفية ومهارية وتعبئتها في وضعيات لاحقة ، وتعلم التلاميذ للاستراتيجيات يمكنهم من الوعي بطريقة معالجة أفكار ومعلومات جديدة، وتحسين طرائق العمل، وبلورة مقاربات منهجية للبحث والتفكير، لضمان بلوغ الاهداف المنشودة.
إن معرفة الذات بالنسبة للمتعلم لها أهمية بالغة لتعزيز فرص التعلم أو لكبحها، فمعرفة المتعلم لذاته، وإدراك رغباته وميولاته، ورصد الصعوبات التي تحول دون تقدمه ومساءلتها، والدخول في حوار مع الذات بخصوص انتقاء طرائق واستراتيجيات التعلم المناسبة لموقف تعلمي معين، تشكل نسيجا مركبا من المكونات التي تتفاعل فيما بينها والتي تمارس تأثيرا على مردودية التعلم ومساره، وهذا ما يؤهل المتعلمين الى التأمل والتفكير في فعل التعلم، وتعبئة الموارد الضرورية وتحمل مسؤولية التعلم. وإذا كان المدرسون في حاجة الى تعرف ما يدركه المتعلمين فإن المتعلمين أنفسهم في حاجة إلى إدراك ما يعرفونه ، فالتلاميذ يأتون الى المدرسة حاملين معهم إدراكات وأفكار وممارسات حول استراتيجيات التعلم التي يتعين استعمالها، لذا يتيح تقييم هذه المعارف والممارسات للمدرس ضبط الحاجيات بكيفية سليمة وتوجيه اشتغاله، ومن ثم ملاءمة مجهوده وفقا لحاجيات متعلميه، وكل اشتغال يروم مساعدة المتعلمين على وعي ذواتهم واكتشاف أنفسهم وتشكيل صورة واقعية عنها يحسن قدرات التعلم، إذ يفيد في تدبير الموارد التي يحتاجونها لتحقيق الهدف ومنها اختيار أنسب الاستراتيجيات، وطلب مساعدة من مدرس أو زميل أو حاسوب أو كتاب...
يمثل فهم طبيعة المهمة المطلوب انجازها والالتزام بذلك رهانا ديداكتيكيا آخر، فعدم إدراك المهمة المقترحة في إطار نشاط تربوي قد ينجم عنه إخفاق في اختيار استراتيجية وطريقة تدبير المهمة بنجاح وهذا يعيق عملية التعلم ويؤدي إلى توقفها. ويقتضي التدخل البيداغوجي المناسب مساعدة المتعلم على تعبئة موارده السابقة من أجل ارساء روابط مع ما مهم بصدد تعلمه من أجل بناء المعنى، فالعديد من استراتيجيات التعلم من قبيل اللجوء الى المماثلات أو المقارنات أو المقابلات أو التطبيقات تقتضي استدعاء المكتسبات القبلية وربطها بالمعرفة الجديدة.
ويبقى للسياق الذي يجري فيه التعلم تأثيره الأساس، فتوقعات النشاط التربوي، الغلاف الزمني ، قواعد العمل، حجم ونوعية الموارد المتاحة على صعيد الفصل والمؤسسة، وما يحصل من تفاعلات بينية تسهم في تدعيم عملية التعلم وقد تعيقها، تؤلف موارد سياقية تحدد نوع استراتيجة العمل التي يتعين اللجوء إليها. واستيعاب حدود هذه الموارد والاكراهات القائمة يدفع الى اختيار استراتيجية دون أخرى لبلوغ الأهداف المرسومة، فالفهم الجيد لإمكانات الفصل الدراسي وللمؤسسة أيضا يساعد على استثمار ما هو متاح من الموارد والعتاد بما يناسب من الاستراتيجيات لتدبير الوضعية بشكل مفيد.
تساعد معرفة الاستراتيجيات واستثمارها بشكل مناسب على اكتساب مقاربة منهجية للتعلم تمكن التلاميذ من القيام باختيارات مقبولة لأجل انتقاء استراتيجيات التعلم الملائمة للمهام المطلوبة، وهذه المقاربة ليست مجرد إجراءات يتعين اتباعها وتنفيذ مراحلها دونما تفكير، لذا يبرز دور المدرس في مساعدة المتعلمين على تعرف الطرائق واختيارها لإثراء فرص التعلم وتقوية حظوظه، وإلى جانب الموارد المطلوب استثمارها تحت رعاية المدرس يبقى من الضروري الوعي واستحضار التفاعلات الموجودة بين المتغيرات جميعها (معرفة الذات، تعرف المهام، ضبط الاستراتيجيات وسياقات التعلم) ومكوني التعلم الفعال: وهما الرغبة والكفاية. وينظر إلى تحسين الاستراتيجيات وتطويرها كنتيجة بعدية لتراكم الوعي على مستوى السيرورات الذهنية لضمان حصول التعلم من جهة ، والتحقق من وظيفية وجدوائية كل استراتيجية عمل أو طريقة بحث معتمدة.
تتطلب استراتيجيات التمرن على المهام الأكثر تعقيدا اشتغالا منهجيا من أجل انتقاء أفكار ومعلومات بعد قراءة نص أو بعد قراءة فصل من كتاب، أو تدوين أفكار أساسية بموازاة مع تتبع شريط وثائقي، أو رسم مبيان انطلاقا من نص، أو بناء خطاطة لتفسير نشوء الأزمة وانتشارها، ويفرض مستوى مهام تعلمية من هذا النوع تفكيرا أكثر نشاطا من قبل المتعلم، بيد أن القدرة على الانتقاء والتصنيف وتمييز مستويات الأفكار لا تمثل سوى نصف الطريق أو المسار التي يجب على المتعلم  قطعه، فالمكتسب من المعارف في حدود هذه العتبة يظل خاليا من المعنى بالنسبة للتلميذ لكونه لا يساعد على تمديد التعلم ولا يؤهل لولوج درجة أعلى من التفكير والتطبيق، ولذا تصير الحاجة ماسة إلى إعمال استراتيجيات المفهمة لتجاوز هذه المشكلة ، لأن تنظيم وإدماج المعارف القبلية والجديدة يجعل المعرفة الجديدة مفهومية، ويضفي دلالة عليها بالنسبة للمتعلمين مما يسهم في خلق قاعدة للمعطيات تستثمر للقيام بتفكير وتطبيق من درجة أعلى، وطالما أن مقصد المعرفة هو موضوعية التفكير، فإن منطلقها الحافز الذاتي، وهذا ما يجعلها غير منفصلة عن الرغبة، لذا فهذا النوع من الاستراتيجيات يقتضي بذل مجهودات معرفية كبيرة من قبل المتعلمين لبلوغ نتائج جيدة.

في الحاجة إلى التربية الموسيقية ـ حسن أوزال

أنفاس نت



"لَوْلاَ الموسيقى ، لَغَدَتِ الحياةُ خطأ" نتشه
"إني لا أعرف إلا معارضة واحدة وحقيقية، هي معارضة مؤسسات بؤس الحياة للمؤسسات الثقافية" نتشه
لا مراء أن المغرب، هُوَّ مَنْ يُعاني مؤخرا، أكثر من أي وقت مضى، أزمة كبيرة على مستوى التعليم ومحاربة الأمية، ولا أدل على ذلك، من تلك المراتب المتأخرة التي صار يحتلُّها ضمن قوائم العديد من التقارير الدولية، حيث تقهقر حسب المؤشر العالمي للتنمية البشرية من الرتبة 126 سنة 1999، إلى الرتبة 129 سنة 2014. أما فيما يخص تَمَوْقُعه في التصنيفات العالمية لأنظمة التربية و التكوين و البحث العلمي، وبخاصة منها، التصنيف العالمي للجامعات المعروف بـ“تصنيف شنغاي” والذي يعتمد أساسا على المنشورات العلمية ، فالمعلوم أن أول جامعة مغربية و هي القاضي عياض، قد جاءت في المرتبة 3962 من ضمن 5000 جامعة.وأمام هذا الوضع الكارثي ، يمكننا التوكيد على أن ما يثير الاستغراب بالرغم من ذلك، إنما هو أننا كلما تساءلنا عن السبب، الكامن وراء هذا التقهقر، والتخلف الذي أصاب البلد إلا وجاءنا الجواب مُطَمْئِنا، على لسان أصحاب الحال، ومدبري الأحوال، سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين، رجال تربية أو فرسان بيداغوجيا، بدعوى أن الأزمة هي مجرد هفوات تقنية و خلل في التدبير، يقتضيان فقط، التدخل على نحو سريع تعديلا للبرامج المُقرَّرَة أحيانا(على نحو سطحي، من قبيل إضافة مواد تافهة لأخرى أكثر تفاهة) و استبدالا شكليا لمنهج بآخر أحيانا أخرى. هكذا، وعلى إثر هذه المواقف الهجينة و المتذبذبة ، تم اللجوء إلى إجراء إصلاحات فوقية لا تمس جوهر المشكل، بحيث تقرر الانتقال من بيداغوجيا الأهداف إلى بيداغوجيا الإدماج، مثلما جرى بعدئذ العمل بالبرنامج الإستعجالي(بل هو بالأحرى مجرد إصلاح تقني بطيء الوتيرة) الذي رُصِدت له أموال طائلة(بدل أن ترصد بالأحرى، للبنية التحتية المتدهورة، والوضع الاجتماعي الفقير لرجال التعليم) لينتهي الأمر بالتخلي عنه فيما بعد. 
وأمام هذه العشوائية في اتخاذ القرارات ، طبعا لا يمكن للأوضاع إلا أن تزداد سوءا، سيما لما تقرر مرة أخرى، إدراج اللغة الأمازيغية كمادة أساسية ضمن المنهاج التربوي، وذلك دونما التوفر حتى على ما يكفي من المدرسين . وفي هذا الإطار، فنحن اليوم ، لا نملك بكل صراحة إلا أن نتأسف على نظامنا التعليمي المفلس، الذي بسببه بتنا نتخلف حتى عن بعض الدول الموجودة في حالة حرب.
وها نحن، مانزال نسترسل في هذه الدراما، بحيث بدل أن نعمل على نهضة تعليمنا، خلقا لقيمة مضافة، و تأهيلا للعنصر البشري، مكثنا ندعم الجهل و التنميط البيداغوجي.مما نتج عنه، انتقال الفساد من المجال التربوي إلى باقي الجسد الإجتماعي، بحيث صار المغرب يعاني اقتصاديا، وتفاقم عجز ميزانه التجاري. هكذا، أصبحت كل الدول التي لم تقدم على إصلاحات جوهرية، وجدرية لمنظوماتها التعليمية، تعاني من عدم توفرها على إنتاجية تؤهل اقتصادها للمنافسة دوليا. ذلك أن التعليم، هو العمود الفقري للمجتمع بأسره، وبدون جودته، لن نتوفر على رأسمال بشري حقيقي، قادر على الفعالية و النقد لا الإستهلاك والكسل. لذلك، نلح في ظل الأزمة التي صارت عالمية، على أن الرهان إنما ينبغي أن يكون رهانا ثقافيا و فنيا .ذلك أن الثقافة على ما يبدو، هي العلاج المناسب للحاضر والمستقبل، سيما في لحظتنا هاته، التي تنهار فيها قيم البورصات، و تتهاوى فيها الاعتقادات ويقينيات الماضي.
 بديهي إذن أن الأزمة الحالية، هي ما يجب أن يجعلنا على وعي تام بأن الثقافة هي الكنز الحقيقي الكفيل بإخراجنا من مطباث التخلف القاتل الذي أصبح يغتال الشعوب العربية واحدا تلو الآخر. وعلى هذا الأساس نتساءل، عما إذا كانت الموسيقى سَتُسْعِفُنا للخروج من الأزمة؟ألا يمكنها أن تكون حلا لما نتخبط فيه اليوم من تخلف ، سيما و أن الطلاق الحالي مابين التربية و الموسيقى، قد أوصَلَنا إلى عنق الزجاجة و يكاد يأتي على الحابل و النابل ؟ لِمَ لا؟ خاصة إذا أدركنا أن الموسيقى، إذ تُشْفِي الأفراد والجماعات، فهي تعمل على تحفيز إرادة القوة في الكائن البشري لتجعله بالتالي، أكثر إنتاجية و إبداعا في الوجود . لذلك كان من البداهة بمكان أن تكون هي أوّل الفنون التي تعاطاها الإنسان تاريخيا على حد توكيد روسو، وأن تُعتَبَر الحياة بدونها خطأ كما ألحّ نتشه، موضحا أن قضية الموسيقى هي قضية الحضارة بل لنقل أنها قضية الإثبات الدنزوسي للحياة.وإذا كانت الموسيقى بالنسبة لصاحب العلم المرح، هي ما يقف بصرامة ضد الذحل وتبعاته، من قبيل نفي الجسد و الاستسلام والخنوع، فهي ما كان يُسْعِفُ المصريين، على حد ما أورده أفلاطون، على تهذيب الأخلاق والتأسيس للعادات الجيدة؛ مما جعل هذا الأخير يُلح بدوره، في الجمهورية، على أن الموسيقى يجب أن تحتل مرتبة هامة في التربية ؛لأننا ملزمون بأن نُلَقِّنَ الطفل معنى النظام و القياس الذي لا يمتلكه طبيعيا. وتوضيحا لتصور هذا الأخير، ماذا لو استأنسنا بمحاورته التالية مع “غلوكون” حيث يبادر بالقول :“ وإذا كانت الموسيقى هي الجزء المهمّ في التربية، أليس ذلك، لأن الإيقاع والنغم، يا”غلوكون“، يستطيعان أن يَنْفُذَا إلى الروح و أن يُؤَثِّرَا عليها أشدّ ما يكون(...)؟ إن كلا منا بقدرما يستمتع بهما نفسيا و يتغذى، ليغدو إنسانا نزيها، بقدرما يقضي حقا، على الرذائل، ويَطرُدُها منذ الطفولة، حتى قبل أن يستوعبها عقليا”. لكن الموسيقى إذا كانت ضرورية للتربية، كما ألحَّ أفلاطون، فتلميذه أرسطو الأكثر هَوَسا بالموسيقى من أستاذه، يُنَبِّهُنا إلى وجوب التمييز بين نوعين(مقامين) رئيسيين من الموسيقى: النوع “الفريجي”le mode phrigien و النوع “الدوري” le mode dorien . الأول هو ما يمثل المُنوّعات“les variétés” بينما الثاني يمثل الموسيقى الكلاسيكية. و إذا كانت الموسيقى الفريجية هي تلك الموسيقى المرصودة للعبيد والعاهرات، كما الكادحين وعامة الناس، والتي تُعزَف في الماخورات حيث يعشق الشعب الاسترخاء بعد يوم مرهق من العمل، فالموسيقى الدورية هي موسيقى النبلاء، والأحرار، الذين لهم ما يكفي من الوقت للاستلذاذ.
 وعلى هذا النحو، يتبدى أن الموسيقى هي أكثر مما نظن .فهي قضية سياسية قبل أن تكون مجرد مسألة تربوية .إنها معيار للهيمنة والتحكم أو الخضوع والانبطاح. اعتبارا لذلك، نلفي عند أرسطو نوعا من النزوع الديمقراطي عندما لا يُخفي انتصاره للفن الرفيع وتشبثه بضرورة العمل بالنوع الثاني من الموسيقى في مجال التربية، مادام أنه وحده يكفل إعداد الشباب لإدراك ماهية الأشياء وصقل ذواتهم تَيْسِيرا لإدارة المدينة و التعاطي للعلم. إن الموسيقى إذن ليست مجرد مادة دراسية ضمن مواد أخرى، بل هي أكثر من ذلك، أساس تقسيم طبقي و تَفْيئ اجتماعي .و يكفي إقرارها في البرامج التربوية، أو عدمه، للنهوض ببلد بأكمله أو تخريبه.ولنا في التاريخ تجارب عدة سنكتفي منها، بذكر نموذجين إثنين أكثر فعالية و شهرة، طُبِّقا في بلدين هما هنغاريا وفنزويلا. الأول أشرف عليه “زلاتان كودالي”Zoltan Kodaly طيلة ثلاثين عاما بهنغاريا؛بينما الثاني سهر على تنفيذه ، منذ 1975 في فنزويلا الموسيقار “José Antonio Abreu” بدعم من الدولة، حيث فتح عدة مراكز للتعلم ، خاصة بالأطفال، معظمهم من عائلات فقيرة(بنسبة 90 في المائة) تتراوح أعمارهم مابين عامين و ثمانية عشر عاما. وعن تجربة هنغاريا ، يكتب كودالي، في آخر نص له سنة ، قبل وفاته قائلا:“إننا اليوم نملك، مائة مدرسة ابتدائية وثلاثة؛ثلاثة وعشرون منها فقط، توجد بالعاصمة”بودابيست“، حيث يتلقى التلاميذ درسا في الإنشاد كل يوم بالإضافة للبرنامج العام.ويعني هذا، أن عدد الساعات قد ازداد بمعدل أربع ساعات في الأسبوع، مما جعلنا نعاني طبعا نوعا من الإرهاق.لكن تجربة خمسة عشر سنة، بَيَّنتْ أن مستوى التلاميذ قد تَحسَّن بسرعة وبِيُسْرٍ في كل المواد، وذلك بالطبع، لأن هذه الجرعة الصغيرة من الإنشاد، أيقظت وحرَّكَتْ أذهان الأطفال و جعلتهم أكثر استيعابا لكل المهام.
إنها مجرد لعبة مُسلية بالنسبة للأطفال، لكنها لعبة مَكَّنَتْهم من اكتساب كنوز ثمينة ستفيدهم في حياتهم المستقبلية.” والواقع أن نهج كودالي، هو في الحقيقة ، فلسفة تمتح من أفكار روسو و تصورات “بيستالوزي”Pestalozzi في التربية، أكثر مما هو نهج.فالرجل الذي كان في الأصل عالم لغة، هو من ينطلق من منظور يتقاطع فيه التأليف الموسيقي بالرؤية التربوية، معتبرا“ألا حياة روحية مُكْتَمِلةٌ بدون موسيقى”. فالموسيقى بالنسبة إليه، كالماء والهواء، ضرورية لنمو الإنسان. بناء عليه يوصي بالتعاطي معها منذ سن الثلاثة أعوام.أي قبل أن نتعلم اللغة الشفاهية ، بحيث في هذه الفترة من العمر فقط ، يستطيع الطفل أن يَتَشَرَّبَ الموسيقى بعمق وأن يستبطنها عبر التعلم الحسي واللعب، وبفضل الإنشاد وحركات الجسم“la phonomimie”. ينبغي إذن بحسبه، أن نمنح الطفل فرصة العيش في مناخ موسيقي يعتمد بالأساس أغاني بلده، لينغمس في “اللغة الموسيقية الأم”. إن هذا الموسيقار الهنغاري، على ما يبدو، مقتنع أيما اقتناع، بأن على الموسيقى أن تُدْرَج ضمن التَّعلُّمَات الأساسية، شأنها شأن الرياضيات و اللغة الأم الشفاهية والمكتوبة. ذلك أن الموسيقى باعتباره، هي ما يسمح بتنمية، قدرات عديدة، لدى الطفل من قبيل المنطق والتحليل، التعلم والتوازن، الإنصات للغير وتقدير الذات...إلخ. إنها بعبارة موجزة ، تساعد على كل تلك الأمور التي ينبغي لنا أن نتعلمها في المدرسة و التي نسميها “الأساسيات”. هكذا يَشْرَع الرجل في مساءلة نفسه :“ما الذي يلزمنا فعله؟”. ثم يجيب :“إن علينا أن نعمل على تدريس الإنشاد و الموسيقى في المدرسة، بحيث يغدوان بالنسبة للطفل مصدر فرح لا مصدر شقاء. وهو فرح سيصاحبه طيلة حياته، باعثا فيه روح العطش الموسيقي.ولَمّا كانت الموسيقى غير قابلة للإدراك عقليا، فيلزم ألا تُقَدَّمَ إلى الطفل على شكل رموز حسابية أي ككتابة رقمية، أو كلغة لا تعني له أي شيء.إن علينا أن نُعَبِّد للطفل طريقا للإدراك المباشر و الحسي.” وإذا كان مشروع كودالي يريغ إلى أن يجعل الموسيقى تَحْتَلُّ الصدارة في التربية بهنغاريا، تماما مثلما كانت عليه في اليونان القديمة، فإن تجربته الرائدة، هاته، كانت أساس تقدم معظم البلدان التي اعتمدَتْها فيما بعد، بحيث أن جُل المجالات التربوية عرفت تحسُّنا ملحوظا، إذ لوحظ على مستوى اكتساب المهارات اللغوية، تطورٌ كبير، حد التمييز الدقيق مابين الكلام و النبرة، مثلما حصل فرزٌ واضح في الأصوات المتعلقة بمجموعة من الألفاظ، هذا ناهيك عن النطق والتلفظ، وثراء القاموس اللغوي، والقدرة على الفهم والتمييز الصوتي والبصري(أعلى / أسفل، أطول/أقصر، الفوق/التحت)، كما تَنَمَّتْ مقدرة الطفل على الانتباه إلى التفاصيل الصغرى في اللغة، وتطورت لديه ملكة الدقة في الكتابة، وكذا القدرة على الجمع بين عناصر عدة في إطار مجموعات، و التعرُّف على العلاقات بيسر، ناهيك عن مهارة الاستنتاج، والتعامل مع مفاهيم مجردة، والقدرة على التمييز مابين الأشكال، والوحدات والرموز السمعية والبصرية وتفسيرها، كما سَهُل عليه أيضا، التوجُّه في الكتابة من اليسار نحو اليمين والقراءة ، وكذا إدراك الجمل الطويلة اعتمادا على الحركات البصرية والإيقاعية. أما في مجال الرياضيات فقد لوحظ ما يلي:على مستوى الحساب، تيسر التعرف على الأعداد بمجرد سماعها وكذا الرموز. أما فيما يخص الذاكرة و الانتباه، فقد لوحظ تطور كبير سواء في قوة الذاكرة الحركية أو ذاكرة الصور البصرية أو الذاكرة اللفظية المنطقية وتداخلها جميعا؛ كما ازدادت مدة الانتباه. أما فيما يتعلق بالحركة، فقد عرفت هي الأخرى، جراء تعليم كودالي، تحسنا ملحوظا، وانسجاما لا على مستوى الخطوات والمشي، فحسب بل أيضا على مستوى الدقة في الحركة اليدوية، وكذا التحركات في الفضاء(اللعب و الرقص). وفي الأخير يتبدى بحسب نتائج البحث، كيف أحرز الأطفال، تفوقا كبيرا، سواء فيما يتصل بحسن السلوك l’autodiscipline، والوعي الايجابي بالذات جراء النجاحات الحاصلة، أو فيما يتصل بالقدرة على العمل الفردي والمستقل و كذا بناء علاقات جيدة مع الأقران، و التعرف على ثقافات مختلفة. ولما كانت الموسيقى إذن، أساسية في تكوين الإنسان، فكل المختصين يوصون بضرورة الاستئناس بها قبل اكتساب مهارتَيْ القراءة والكتابة، وذلك لأن الطفل يتمتع بـ“اليقظة الموسيقية” l’éveil musicale منذ سن الثالثة أو الرابعة من العمر. حيث حينئذ يكون على استعداد تام لأن نُحدِّثَهُ عن الموسيقى بطريقة ذكية ومعقولة ومحسوسة. وبَعْدَ تعاطيه للإنشاد وسماعه لمقاطع موسيقية بانتظام، يجب بالموازاة لذلك، أن نُدَرِّسَه آلة من الآلات الموسيقية، من اختياره، بغاية التعرف عليها، محافظين دوما على حقه في التعلم بمتعة ورغبة، بعيدا بطبيعة الحال، عن كل عملية إكراه، لأن كل بيداغوجيا يلزم أن تكون بيداغوجيا استلذاذ لا بيداغوجيا تعذيب وألم. وعلاوة عن تجربة هنغاريا، الرائدة، يمكننا القول بأن تجربة فنزويلا، لاتقل عنها أهمية، بحيث أن عدد الذين تَجَنَّدوا لها بلغ حوالي ثلاثة آلاف أستاذ، استطاعوا أن يُكَوِّنُوا موسيقيا، حوالي ثلاثمائة ألف تلميذ.وبعد مرور أزيد من ثلاثين عاما، تَكَوَّن في فنزويلا ما يقارب مليون طفل، أصبحوا جلُّهم، موسيقارات محترفين، بنسبة تتراوح مابين 60% و 70%.واستطاع أحسنهم أن يلتحق بأوركسترا الشباب التابع لـ“سيمون بوليفار”Simon Bolivar، والذي يرأسه الشاب Gustavo Dudamel الذي لم يقفل حينئذ الثلاثين سنة بعد، و هوَّ مِن خِرِّيجي هذا النظام نفسه ، ويَتَرَأَّس أفضل الأوركسترات في أكبر القاعات العالمية.ذلك ما جعل فنزويلا، “تتوفر اليوم على ألف ومائتان أركسترا شاب و ستون أركسترا من الأطفال وجوقات موسيقية تضم أكثر من مائة و عشرة آلاف فرد”. وبالرغم من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية و السياسية التي عانى منها البلد منذ ثلاثين عاما ، فكل الحكومات المتعاقبة تَشَبَّثَتْ بهذا النظام التربوي، الذي أصبح جزءا رئيسيا من البرنامج المجتمعي العام الذي جعل التربية الموسيقية والتعاطي لآلة من الآلات الموسيقية أولوية وطنية.و أمام انجازات هذا البلد الباهرة، لم تجد باقي البلدان بُدّا، من تبني هذا المشروع و نقل هذه التجربة.هكذا اقتدى بفنزويلا أكثر من عشرون بلدا سواء في أوربا(إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، اليونان...) أو خارجها.. ويكفينا هنا، فضلا عما سلف، أن نشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية والكبيك مثلا، كلاهما يتبنى طريقة Suzuki المعمول بها في فرنسا منذ ثلاثين عاما، والتي تدعو إلى تعلم آلة موسيقية قبل أي تكوين نظري في الموسيقى، على اعتبار أن الطفل ملزم بأن يُنصت للموسيقى قبل ممارستها تماما مثلما يسمع اللغة الأم، مِن الكبار وباقي الأطفال قبل أن يستطيع التكلم بها. هذا بينما اعتمدت، بلجيكا وبولونيا وسويسرا طريقة Dalcroze التي توصي أساسا بالرياضة الإيقاعية la gymnastique rythmique و الإنشاد. وعلى هذا المنوال، إذن يلزم بلداننا العربية، أن تبادر بإصلاح حقيقي لمنظوماتها التربوية، وذلك بدمقرطة التعليم والكف عن نهج سياسة التمييز المدرسي الذي هو أشبه ما يكون بالتمييز العرقي أو الجنسي. ذلك أن عدم تدريس الموسيقى في التعليم العمومي لا يمكنه إلا أن يعتبر استلابا بيداغوجيا أخطر بكثير من الاستلاب الاقتصادي ، سيما إذا استحضرنا انعكاساته السلبية على بلد بأسره.

الثلاثاء، 24 مايو 2016

التربية الجنسية..رهان مؤجل ـ حميد بن خيبش طباعة البريد الإلكتروني

عن أنفاس نت




يخلص المتتبع للمشهد الإعلامي المغربي إلى حضور الجنس كهاجس مركزي في أغلب المواضيع المطروقة , إما في صيغة خبر / فضيحة , أو ضمن الرصد المتجدد للظواهر الوافدة على المجتمع المغربي , وما ينشأ عنها من اختلالات تربوية و اجتماعية بل و إشكالات قانونية كذلك ! 
ولعل أسوأ ما رافق الانفجار الجنسي الحاصل هو الزج بالطفولة فيما بات يُعرف ب" اقتصاد البغاء " , و تنامي ظاهرة الاستغلال الجنسي للقاصرين , لا كاعتداءات متفرقة فحسب , بل كاستهلاك منظم توجهه شبكات دعارة متخصصة ! 
من المسؤول إذن عن إقحام القاصرين في التسويق المروع للمتعة الجنسية ؟ 
وهل يتعلق الأمر دوما بالإكراه أم أن هناك احتياجات معرفية و نفسية يخطيء القاصر في السعي لتحقيقها ؟ 
يكشف السجال العمومي بشأن الظاهرة عن مقترحات و صيغ عملية للحد من استفحالها . ويبدو الرهان واضحا على تفعيل المقاربة الأمنية و آليات الزجر القانوني , كما تًناط بالمجتمع المدني مسؤولية التوعية والتحسيس بالمخاطر . أما التأسيس لمدخل تربوي سليم يوجه المعطى الجنسي توجيها يوازن بين احتياجات الفرد و خصوصيات المجتمع فلا زال , للأسف الشديد , مطلبا مؤجلا إلى حين !
تشكل الأسرة أول فضاء معرفي يطرقه المراهق بحثا عن تفسير لمجمل التغيرات التي تطرأ على جسمه , و في مقدمتها النشاط الجنسي الذي يستحوذعلى تفكيره , ويثير مخاوفه بشأن الصورة المثالية لجسده ومدى رضى الآخرين عنها . و هنا يتجلى الدور الآكد للأسرة في حثه على التقبل الإيجابي لهذه التغيرات , وتمكينه من معطى معرفي ملائم ضمن إطار أخلاقي و قيمي يبدد مخاوفه , و يقيه مغبة البحث عن مصادر أخرى غير آمنة . بيد أن ما نستشفه من تزايد الانحرافات الجنسية في واقعنا اليومي هو عجز الأسرة عن النهوض بهذا الدور لأسباب عديدة أهمها : 
-  وهم التعارض بين التربية الجنسية و أخلاق العفة و الحشمة . ومنشأ هذا الوهم أساسا         هو الخلط بين الإباحي و المباح في المعرفة الجنسية , و الزعم بأن بسط الحديث مع الأبناء  في مواضيع جنسية يُمهد لهم السبيل للانحراف !  
 -  الخوف من اهتزاز الصورة الرمزية وتراجع الهيمنة الأبوية , خصوصا و أن سلوك         المراهق يتسم بالعنف والتمرد على مطلب الامتثال كما عاشه في طفولته.
- النظرة الآثمة لأي تناول للمعطى الجنسي قبل الزواج , بل إن هذه النظرة تمتد حتى           للأعضاء الجنسية , وهو مايفسر ورودها بشكل ملفت في البذاءة اللفظية المتداولة عند      حدوث نزاع أو مشاداة كلامية .
أما المدرسة التي يٌفترض أن تسد خللا أسريا في هذا المجال فتقف بدورها عاجزة أمام حيرة صانع القرار التربوي إزاء تضارب الآراء بشأن مضمون التربية الجنسية , وغائيتها , و الحدود التي يجب أن تقف عندها .إذ " الملاحظ في المدرسة أن التعامل مع التربية الجنسية يظل خجولا ومتناقضا . فتمرير التربية الجنسية في مادة " التربية النسوية" ثم "التربية الأسرية " تمرير غير ملائم لأن تلك المواد تنطلق من منظور التربية السكانية .لم يجرؤ المشرع بعد على إقرار ماد تدريسية صريحة تحت عنوان التربية الجنسية .و بالتالي نجد بعض مضامين التربية الجنسية موزعة بين مواد مختلفة قطبها الأول التربية الإسلامية و قطبها الثاني علوم الحياة . القطب الأول أجوف , فهو قيم من دون معارف علمية و تقنية , و القطب الثاني أعمى , فهو معارف من دون قيم سلوكية حداثية " (1) .
هذا التوظيف المراوغ الذي يبرره بعض المسؤولين بعجز المجتمع عن تقبل منسوب الجرأة الزائد في التربية الجنسية,  يدفع المراهق صوب فضاءات بديلة تستوعب واقعه الجديد ,وتلبي رغبته لاستكشاف جسده أولا ثم أسرار العلاقة بالطرف الآخر . وهنا  يشكل الإعلام بوسائطه المتعددة مدخلا لتشرب المعرفة الجنسية سواء في صيغة تدابير تهم الصحة الجنسية , أو كسلعة استهلاكية تتجاوز "المباح" صوب التحريض على "الإباحي " .ذلك أن إصرار الإعلام على تحرير الخطاب الجنسي من وصاية الفقيه لم يكن دوما لغرض إحداث نقلة تصورية و معرفية , بقدر ما انطوى على بعد تسويقي و تجاري محض . فقد "انتبه البعض في الإعلام المغربي منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي إلى أن موضوع الجنس موضوع مدر لأرباح مالية مهمة , و أنه يساعد على البيع و على اكتساب عدد كبير من القراء. وهو الأمر الذي جعل عدد الجرائد و المجلات المغربية التي تتناول الجنس بشكل منتظم أو ظرفي في ارتفاع مستمر " (2) . بل إن الأمر تطور في الآونة الأخيرة إلى اعتماد الحرية الجنسية مدخلا حيويا لرأب الصدع الحضاري الذي يفصلنا عن الآخر المعولِم و الحداثي !
إن ما يكابده المجتمع المغربي اليوم من تجليات الانحراف الجنسي ,ومن تآكل مستمر لآليات الصد و الممانعة التي تنهجها الأسر , يُحتم على صانع القرار التربوي ضرورة البدء بتمرير حازم  لمباديء التربية الجنسية , و التحسيس بجدواها و فاعليتها في مواجهة زخم غريزي لا يرهق العقول الناشئة فحسب , بل ويعيق كل فرص التنمية المنشودة .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  د.عبد الصمد الديالمي :  سوسيولوجيا الجنسانية العربية .دار الطليعة .بيروت 2009 .ص 160
(2) المرجع نفسه . ص 168 

الاثنين، 16 مايو 2016

الشعلة تطالب المجلس الدستوري بإبطال قانون عمال المنازل




إثر مصادقة مجلس النواب الغرفة الأولى للبرلمان المغربي على قانون رقم 34.06 الخاص بشروط تشغيل عمال المنازل، والذي يعتبر انتكاسة حقوقية خلفت خيبة أمل كبيرة لدى الحركة الحقوقية والتربوية بالمغرب، وبعد اطلاع المكتب الوطني لجمعية الشعلة للتربية والثقافة على مقتضيات هذا القانون الذي لم يأخذ باقتراحات الهيئات الحقوقية التي لاقت ترحيبا ودعما من طرف العديد من مكونات الحركة الجمعوية المهتمة بقضايا الطفولة اعتبارا لإمكانية مساهمتها في التقليص من ظاهرة تشغيل الأطفال.
وباستحضار أهدافها ونضالها لأزيد من أربعة عقود دفاعا عن حقوق الطفولة المغربية مستندة إلى رؤيتها المجتمعية والتربوية، و إلى شرائع الحقوق الكونية، والمواثيق والعهود الدولية التي تجرم تشغيل الأطفال، فان جمعية الشعلة للتربية والثقافة تعتبر مصادقة المشرع المغربي على القانون رقم 34.06 الخاص بشروط تشغيل خادمات البيوت، ردة خطيرة على النفس الحقوقي للإصلاحات الدستورية ل 2011 وتكرس نظام السخرة وتترجم بالملموس استقالة الدولة المغربية من مسؤولية حماية حق الطفلات/النساء المغريبات في التربية والتكوين إلى حدود سن 18 المنصوص عليه في الميثاق العالمي لحقوق الطفل والذي صادقت عليه الحكومة المغربية.
وبناء عليه، فإن المكتب الوطني لجمعية الشعلة للتربية والثقافة:
- يدين بقوة مصادقة مجلس النواب على القانون رقم 34.06 الخاص بشروط تشغيل عمال المنازل، الذي يشرعن انتهاك حقوق الطفولة المغربية ويشكل بالتالي تراجعا حقوقيا خطيرا يناقض المضامين الحقوقية للدستور المغربي المستند إلى ترسانة المواثيق والمعاهدات الكونية،
- يستنكر تجاهل المشرع المغربي لواقع خادمات البيوت بالمغرب وتقنينه لانتهاك حق الطفلة المغربية في التمدرس، والترفيه والتربية المتوازنة ،
- يسجل باستغراب كبير العزلة الحقوقية والمجتمعية لمشاريع القوانين، التي تسابق السلطة التنفيذية الزمن من أجل اعتمادها، والتي تمس في العمق بنية ومستقبل الأسرة المغربية،
- يدين كل مساس بحقوق الطفل، وتحويله إلى أداة للتنمية بدل أن يكون هدفا لها مما يعتبر تراجعا خطيرا عن كل المكتسبات التي راكمتها الحركة الجمعوية الحقوقية والتربوية لصالح الطفولة المغربية،
- يطالب المجلس الدستوري بإبطال هذا القانون الذي يتعارض مع ديباجة الدستور المغربي ويناقض الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي صادق عليها المغرب في مجال حقوق الطفل،
- يدعو الحركة التربوية والحقوقية ومعها القوي الديمقراطية والحداثية إلى التعبئة من أجل حماية مكتسبات مختلف فئات الشعب المغربي من موجة الردة الحقوقية والتأويل التحكمي لدستور 2011 .
المكتب الوطني