السبت، 31 ديسمبر 2016

الفلسفة الأولى مع المرحلة الأرسطية ـ محمد بلصفار

أنفاس نت



الفلسفة الأولى التي سميت بأشراف العلوم والمعارف لكونها النظر  في العلل الأولى إذ تبحث عن الحقيقة السامية التي تشغل بال الفيلسوف طيلة مسيرة سؤاله حتى انتقاله إلى جوارها فهي  كما اخبرنا الكندي " :  أنها أشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى: أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق. ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشراف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف: لأن علم العلة أشرف من علم المعلول[1] " ، فالفلسفة الأولى أو المتافزيقا كما سماها تلميذ أرسطو " اندرونيقوس الرودسي " في القرن الأول قبل الميلاد عندما صنف مؤلفات أرسطو فجاءت تلك النصوص بالتصنيف بعد البحوث الطبيعية ، وفيما بعد أخذ الفلاسفة في العصور الوسطى هذا العنوان ليشيروا به إلى الموضوعات التي ناقشها أرسطو في الميتافيزيقا بوصفها موضوعات تأتى بعد الموجودات الطبيعية ولا تعرف بالإدراك الحسي لأنها تناقش بالعقل المجرد الخالي من الشوائب الحسية لأن الحواس مخادعة وواهمة إذ لا تصل بنا إلى الحقيقة التام والكلية عكس النظر العقلي الذي هو السبيل إلى عالم المثل[i] وقد اختص أرسطو علم ما وراء الطبعة بدراسة الوجود بما هو الموجود والبحت عن العلل الأولى لهدا الوجود .
ويطلق أرسطو أيضا على هذه الفلسفة اسم الحكمة أو العلم الإلهي ،لأنها تبحث في الموجود الأولى أو العلة الأولى ،وتبحث في أكثر الموضوعات الألوهية وهى ذات الله وصفاته وأفعاله باعتبار أنه- المحرك الأول  - هو المبدأ الأول للوجود ، ويذهب أرسطو كذلك إلى أن الفلسفة الأولى التي تبحث في الوجود كما هو موجود، أي أنها تبحث في الوجود من ناحية المبادئ الأولية الكلية التي تعم جميع الموجودات والتي تجعل الوجود موجودا[2] فاستطرد أرسطو بعد دلك إلى إبراز العلل و العناصر المكونة لهدا الوجود من خلال ربط ما توصل إليه الأولون من الفلاسفة ومحاولة الجمع بينها ، فالعناصر المكونة للوجود حسب أرسطو هي الماء ، التراب النار ، الهواء . [ii] وتبقى العلة الأولى للوجود هي المحرك الأول أو الإله ، وقد خص أرسطو كل الأشياء بمعادلة أساسية ، والتي تنطبق على كل الموجودات بما فيها المحرك الأول وهي مسألة العلل فكل الموجودات و الأشياء خاضعة لهده العلل وهي أربع:  العلة الصورية و العلة الفاعلة و العلة المادية و العلة الغائية فمثلا الكرسي لا بد له من تلك العلل :

-       العلة الصورية : فكرة الكرسي
-       العلة المادية : الخشب
-       العلة الفاعلة: النجار أو الصانع
-       العلة الغائية : الجلوس

ويبقى النظر الأساسي للفلسفة الأولى هو النظر في العلة الأولى لهدا الوجود من اجل الوصول إلى الحقيقة و بلوغ الحكمة وقد تناول أرسطو في هدا المبحث : على أن الإله هو  الموجود الواحد الأول غير المتغير ، وحضوره هو الذي يجعل العالم يقوم بعملية النمو الكونية كلها ، وهو  المصدر الأعلى الذي يجعل سلسة ( الصور ) الكامنة في المادة في العالم تخرج إلى التحقق الفعلي ، والإله يقف خارج مجمل عمليات العالم التي يؤدي حضوره إلى استثارتها لتقوم الطبيعة ، وهو ليس مكونا هو نفسه من مادة وصورة شأن ما ينتج في العالم ، إنما هو صورة خالصة مفردة وفعل خالص ، وليس وراءه مراحل مرّ بها تدريجيا حتى وصل إلى ما هو عليه ، فإنه موجود غير مادي على وجه الإطلاق ، وهو ضرورة لازمة لوجود العالم ، ولكنه يعلو على العالم ويقف خارجه [3] وعلى أن المحرك الأول لا تنطبق عليه تلك العلل لأن وجوده هو وجود بالقوة ولقد حدد ارسطوا للمحرك الأول صفات وهي :
الصفة الأولى :أنه لا يتحرك فهو ثابت ويحرك فقط ومعني هذا أن هذا المحرك يتحرك بذاته لأنه لو تحركبغيره فمعني هذا أنه يوجد شيء آخر يحركه فهو لا يمكن أن يكون محركا بغيره بل محركا بذاته .
الصفة الثانية:أنه أبدي لا ينقسم لأنه إذا انقسم تعدد ولو تعدد لأصبح له أجزاء وعندها لا نستطيع أن نعرف الحركة من أي جزء ، وهو لا ينقسم لأنه خالي من المادة
الصفة الثالثة : انه لا يعلم بجزئيات الموجودات مثل : أفعال الإنسان وإنما هو يعلم فقط الكليات . فالفلسفة في النظر الأرسطي قد تناولت النظر في علم الإلهيات كما سماه ابن سينا لأنها تهدف إلى  البحت والنظر في المحرك الأول للوجود ، ولكن السؤال الذي يطرح هنا  هل ستستمر هده النظرة بواسطة الفلسفة الأولى عبر التسلسل الفلسفي في الزمان ؟ أم أن موضوعات أشرف الصنع ستتغير ؟

المراجع

o        الكتب :
1.       مدخل إلى متافزيقا إمام عبد الفتاح
2.       رسائل الكندي : كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى
3.       فلسفة أرسطوج1/ 73  لـ( ألفرد إدوارد تايلور ) ترجمة : د. عزت قرني / دار الطليعة ـ بيروت ـالطبعة الأولى
o        المقالات
1.       ميتافيزيقيا أرسطو ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
2.       ولاء رشدى فوزى /الحوار المتمدن-العدد: 3119 - 2010 / 9 / 8 - 08:43 -http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=22844


[1]  رسائل الكندي : كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى
[2]ميتافيزيقيا أرسطو ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
[3] فلسفة أرسطوج1/ 73  لـ( ألفرد إدوارد تايلور ) ترجمة : د. عزت قرني / دار الطليعة ـ بيروت ـالطبعة الأولى
 النظر الأفلطوني للحقيقة ودلك من خلال الفلسفة التي توصلنا الى عالم المثل الدي هو عالم الحقيقة الكاملة [i]
[ii] وهي العلل التي توصل إليها الفلاسفة قبل سقراط لتحديد أصل الوجود فكما هو معلوم حدد طاليس أصل الوجود بالماء و بارمندس بالهواء وهرقلطس بالنار ....،

التنسيقيات أو البديل النقابي بالمغرب : نحو محاولة للفهم ـ احمد اولاد عيسى

أنفاس نت





من العادي جدا أن ينتمي الفرد لتنظيم ما, كيفما كانت طبيعة اشتغاله, سواء أكان في المجال الحقوقي أو السياسي أو النقابي....على أن يتم الانخراط على أساس البرامج أو المشاريع المعتمدة من قبل هذا التنظيم المختار.
غير أن الواقع  يعج بالكثير من المتناقضات بخصوص محددات الانتماء إلى  هذه التنظيمات واخص بالذكر التنظيمات النقابية، إذ لم يعد البرنامج أو المشروع النقابي محددا مركزيا  في تحديد الانتماء ،بل هيمنت محددات أخرى ليس لها طبيعة معينة ،غير أنها تظل هي المحدد الأساسي و الغالب في الانتماء هذه الأخيرة لها تمظهرات عدة اغلبها  تطبعها السمة النفعية و البرغماتية  بشكل صرف، سواء تعلق الأمر بعلاقة الفرد بالقيادة التنظيمية أو القيادة بالفرد.
 فعن هذه الجدلية في الارتباط والتي أملتها سياقات تاريخية اجتمعت فيها عوامل عدة، سياسية و اقتصادية وثقافية،ساهمت بشكل مباشر بتفكيك و انقسام الجسم النقابي بالمغرب، وإيصاله إلى وضعية الترهل والوهن البنيوي .
ولمحاولة فهم هده الأنساق والمسببات، يتطلب الأمر منا طرح مجموعة من الفرضيات من قبيل: هل الانتماء إلى النقابة مسألة ظرفية أم قناعة وجدانية ؟ هل بنية التنظيم قادرة على الاستمرار في فرض هذه المحددات أم أن الضرورة فرضت ذلك ؟
 فمن خلال طرح هذه الفرضيات كمدخل سنحاول مقاربة الموضوع بالتحليل من خلال الإجابة على الإشكالية المحورية والتي فحواها: إلى إي حد يمكن اعتبار النقابة في المغرب قادرة على تجديد ذاتها على ضوء التحولات الراهنة ؟؟
أولا: محددات الانتماء النقابي بالمغرب
من اليسير جدا تحديد موقع التنظيمات النقابية إذا ما نظرنا إليها من زاوية الإيديولوجية وهو ما ينسجم مع الحالة المغربية،  فالأمر لا يخرج عن توجهين، إما نقابة يسارية التوجه أو نقابة ليبرالية.
لكن من الصعب جدا حصر آليات الاشتغال التي تعتمدها الإطارات النقابية و تحديد  المعايير  المحددة للانتماء إليها .
بالرجوع إلى حقبة  ما بعد استقلال المغرب ،إبان  الدينامكية التي همت كل المجالات الحيوية في البلاد ،خصوصا في الشق الإداري (بناء الإدارة مغربية ) والشق الصناعي والحرفي... وما واكب ذلك من  تشكل الوعي النقابي الوطني،  بالتزامن  مع مطالب الأحزاب الوطنية  (حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ) بضرورة وجود النقابة العمالية قصد تأطير الطبقة العاملة، واعتماد ذلك  كمدخل لتقوية الجبهة العمالية داخل الحزب، هذا الوضع اذكي الصراع حول مسألة الاستحواذ على القرار النقابي، من قبل القيادات السياسية في الأحزاب ،  الشيء الذي ترتب عنه  خروج النقابة العمالية(الاتحاد المغربي للشغل ) عن دائرة الصراع والناي بنفسها خارج هذه البوتقة و إعلان نفسها نقابة مستقلة عن التبعية الحزبية  .
هذا الوضع المحتدم والمتسم بالرغبة في الهيمنة على القرار النقابي،  افرز مجموعة من الممارسات استمرت  طوال الحقبة التاريخية التي أعقبت هذه الإحداث،  وهو ما أفرز تعددية نقابية ضعيفة ،يغلب عليها الطابع الأحادي في اتخاذ القرارات و الرغبة في  جعل التنظيم يخدم القضايا السياسوية الحزبية، فأي تنظيم  نقابي بالمغرب كيفما كان موقعه ضمن بنية الصراع، يخضع  في تدبيره وتسييره لتلك الأنماط التي سبق وان اشرنا إلى معالمها ، ويمكن تحديدها في سبعة محددات .
-     التركيز على الاستقطاب المفتوح دون التفكير في  البناء التنظيمي والفعل النضالي (منطق الكم وليس الكيف ).
-    التركيز على الو لاءات لفائدة الزعيم على حساب الدينامكية النضالية والفعل والاقتراح والتواجد.
-    البحث عن الإطار النقابي الأكثر تواجدا بغض النظر عن البرنامج أو المشروع النضالي.
-    البحث عن الإطار النقابي الذي يعتمد الاشتغال على الملفات ذات الصبغة الفردية عن الإطار الذي يتبنى التدافع والكفاحية والشمولية .
-    اللجوء إلى وسائل بديلة (استجداء الحوارت، التوطئات ...)  عن النضال والتدافع النقابي عكس الأعراف النقابية العريقة.
-    البيروقراطية والانفراد بالقرار النقابي وعدم إنتاج القرارات انطلاقا من القاعدة .
-     تعطيل آليات التأطير والتعبئة والتواصل الدائم مع القواعد مقابل  التواجد المناسباتي والشكلي

ثانيا : مداخل تصحيح وتمتين الفعل النقابي بالمغرب
لقد أضحى الوضع النقابي في المغرب انقساميا إلى حد بعيد، ويعزا الأمر بنسبة كبيرة لما ذكرناه أنفا ، الشيء الذي أدى إلى  تفاقم الوضع بوثيرة  مطردة، هذه الوضعية لها أبعادها و  ترخي بضلالها على المشهد النقابي و تؤثر بشكل سلبي على الطبقة العاملة في مجملها، حيث أصبحت هذه الأخيرة  في وضع ارتيابي لا يمكن معه الشعور بالثقة داخل التنظيمات المنتسبة إليها ، والانسجام و التماهي مع توجهات التنظيم  وهو ما اضعف تماسك البنية الداخلية  للنقابة المغربية .
هذه الصورة التي ألت إليها النقابة المغربية بذكر ما سبق من الأسباب، قد  تجد لها مدخلات يمكن  أن تشكل محاولة نحو تصحيح الوضع  و إعادة بناء التنظيم النقابي إذا ما تم  احترام الشرط الديمقراطي, ولو في حدوده الدنيا،  وهو ما يحتم  وضع صيغ تتناغم  مع الأهداف والبرامج وطموح وانتظارات الطبقة العاملة ، وذلك في توافق مع الرؤية التأسيسية التي يتبناها التنظيم ،مما سينعكس إيجابا على الوضع النقابي، وسيسهم  في بروز  النموذج النقابي الديمقراطي الفاعل،  والمؤمن بقيم  الكفاح العمالي والتدافع والوحدة .
إن صيغ الإصلاح تفرض الالتزام بمجموعة من الشروط والضوابط ،ليس من السهل التقييد بها ، يأتي في مقدمتها استحضار البعد الأخلاقي في النضال، والابتعاد عن كل ماهو مصلحي نفعي وظرفي أني،   فطغيان البرغماتية في النضال يعني تكريس الإقصاء والتهميش داخل التنظيم بشكل غير مباشر، أضف إلى هذا العنصر عنصر أخر لا يقل أهمية عن الأول ، ويتجلى في تذويب الفروق ما بين القيادات والقواعد والسهر على الانفتاح والقرب والاستماع وليس التجدر والغطرسة والاستعلاء, فهكذا ممارسات لم يعد هناك حيز للاستمرار في نهجها ، فالجسم النقابي يلزمه البناء والتمدد والتجدد والاستمرارية .
أما فيما يخص الشرط الثاني فيكمن في هيمنة الأساليب البيروقراطية  في التدبير، هذه الأخيرة من الممارسات القاتلة داخل التنظيم ،حيث تؤدي إلى فقدان الثقة وعدم الإحساس بالمسؤولية اتجاه الإطار النقابي  من قبل القواعد، فبدل الاحتكام للكفاءة والحضور الوازن والاقتراح والفعل ... في تقلد المسؤولية, يستغنى عن ذلك على حساب عوامل الانتماء والقبيلة والقرابة أو الولاء، فهذه الصيغ أضحت هي السمة المهيمنة داخل التنظيمات النقابية، أدت بها إلى وضع هش وضعيف ،غير قادر على الاستمرار ، فالأمر يتطلب الوقوف عند هذا الحد ،والقطع مع كل هده الممارسات وإشاعة الممارسات الديمقراطية ,خصوصا  في تقلد المسؤوليات التنظيمية .
وبخصوص الشرط الثالث وهو الشرط  الرئيسي فيكمن في الضمير،  فلا يمكن القول بالإصلاح في غياب هذا المكون، فالانسجام مع الذات المناضلة في تبني أفكار وتوجهات التنظيم، والدفاع عنها دون الالتفات إلى ماهو فرداني نفعي ، فالارتماء في أحضان أي تنظيم في غياب الحس الأخلاقي والتجرد والوضوح في التعاطي مع مشاريعه، هو تكريس للوضع الراهن لا غير، كذلك الأمر بالنسبة لطبيعة العلاقة التي تحكم  القيادة مع القواعد أو العكس ،فلا بد من القطع مع منطق الولاء للشخص والتقرب وتحقيق المأرب الخاصة ،على حساب مصلحة الطبقة العاملة بانشغالاتها وهمومها وقضاياها، والتي هي جوهر العملية النقابة  ومرتكزها  .
لقد أضحى الوضع  النقابي في ترد لا يمكن معه الاستمرار وفق المنطق الراهن حيث أوصلت الطبقة العاملة  إلى درجة السخط العام، و الإحساس بانعدام الثقة ن فكان البحث عن البديل الأفضل   لذا كانت التنسيقيات  كإجابة  عملية ظرفية  على الوضع  بما يعج به من تناقضاته،  ويعود ذلك ليس إلى صلابة بنية التنسيقية وقوة تنظيمها، ولكن لانسجامها مع قضايا ومطالب أفرادها والثقة السائدة التي توفرها, سواء مابين القواعد والقيادات أو في علاقتها  بالرأي العام نوما أثبتته التجارب الميدانية كفيل بالإجابة عن كل هذا.
لكن السؤال يظل مطروحا هل التنسيقية بديل عن النقابة أم هي إفراز لاختلال طال مسار التنظيم النقابي بالمغرب  ؟؟؟؟



الاثنين، 26 ديسمبر 2016

لو كان لي مزمار


حب الشجرة


اجمل نشيد مغربي نريد السلام في عالمنا اناشيد تربوية


الحداثة المعرفية‏: مركزية العقل الإنساني المكتبة العامة



تفهم الحداثة بالمعني الأوسع علي أنها تنوير العقل‏.‏ فالعقل هنا يحتل سلطة مركزية‏,‏ لا في الفكر فقط‏,‏ وإنما في تأسيس نظم المجتمع‏.‏

ولذلك يمكن القول ببساطة أن مشروع الحداثة هو مشروع عقلي, لا يستقيم نظام, ولا ينتظم أداء أو ممارسة, إلا وكان العقل هو الأداة المحركة. وفضلا عن ذلك فقد قام العقل بدور في نقل المجتمع من حالة الجمود والاستكانة, حيث التقاليد الجامدة تعمي البصائر وتطمس العقول, إلي حالة الانطلاق نحو الآفاق الرحبة لعقل يبدع ويتأمل وينتج أفكارا تسهم في تأسيس تعاقد اجتماعي يقوم علي إرادة الإنسان الجمعية, وعلي مركزية الفرد الحر الطليق القادر علي الفعل المختلف, وعلي بلورة ثقافة للحرية والمساواة والمواطنة, وعلي تكوين نسيج للحياة مغزول حول العقل.

ولم تكن هناك عملية أصعب من بناء هذا النسيج الحياتي. فقد استغرق الأمر أكثر من ثلاثة قرون لكي يضيء نور العقل ليهزم الخرافة واستلاب القدرة الحقيقة علي الفعل. ولقد كانت نقطة الانطلاق إلي ذلك جملة مفيدة; أصبحت تعبر رمزيا عن حضور العقل: أنا أفكر فأنا أذن موجودcogitoergosum. لقد نسج ديكارت(1596-1650) حول هذه الجملة منهجا جديدا, لا للفكر فقط بل للحياة أيضا. فلم يعد العقل في المنهج الديكارتي أداه للبحث المطلق عن الحقيقة فقط, بل أصبح أيضا أداة للوجود; فالوجود يكون منقوصا إذا لم يرتبط بالقدرة علي التفكير. يبدو العقل هنا وكأنه القادر علي بعث الوعي الوجودي من مكمنه, فيصبح للوجود معني, طالما هناك ذات مفكرة تحرس هذا الوعي الوجودي وتزيده انبعاثا. وإذ يبزغ العقل الديكارتي في فرنسا, يبزغ عقل من نوع آخر في انجلترا. هنا ينحو العقل في بلد الثورة الصناعية إلي فهم الواقع علي قواعد علمية وتجريبية. فيدعونا فرانسيس بيكون(1561-1626) بقوة إلي أن نطرح خلف ظهورنا الأوهام التي تعوق الفكر وتعطله( والتي أطلق عليها أوهام الجنس والكهف والسوق والمسرح) وتحوله إلي فكر بعيد عن موضوعية العقل وحياده. فإذا كان المجتمع يتحول إلي مجتمع جديد, فإنه بحاجة إلي’ أورجانون جديد’, إلي قواعد جديدة للتفكير تسمو بالعقل وتجعله قادرا علي الترفع عن التعلق بالجنس أو المكان أو الأقوال السائرة الدائرة غير الموثوق بصحتها أو الأقوال المأثورة التي لا تقبل الجدل. وأكاد أفهم هذا المنحي الفكري الجديد لا علي أنه دعوة إلي تدقيق التجريب والبحث فحسب, بل أنه دعوة إلي عمومية العقل ومن ثم عمومية القيم الإنسانية أيضا. فالعقل الباحث عن الحقيقة لا يحده مكان ولا زمان, ولا أطر ثقافية خاصة, بل هو عقل لا يحده إلا قواعد المنطق وقوانين التجربة.

وإذ ينتشر المنهج الديكارتي ومبادئ الأورجانون الجديد في أنحاء المجتمعات الغربية, التي تصبوا إلي الفكاك من ربقة التقليد والتقديس والجمود, فإنه ينتج نماذج فكرية هنا وهناك تعمل في النهاية علي أن يصبح العقل سند الحداثة الأول الذي يضعها علي جادة الحق والصواب. وقد كان كانط(1724-1804) من أهم الفلاسفة الذين ساهموا في هذا المسعي الفكري النبيل. فالعقل قادر علي بناء مفاهيم خالصة يمكن من خلالها أن ينظم الواقع الحسي وأن يخضعه للتجربة; إنه المنظم الأول للحياة المادية المحسوسة ولخبرات التجربة. وهو إذ يعارك الحياة يتحول إلي عقل عملي ينتج القيم الأخلاقية والأخلاق المهنية, وإذ يعارك الذات الفردية فإنه ينتج أحكاما جمالية تستقيم ومنطق العقل والأخلاق. يتحول العقل عبر تجلياته المختلفة العقل الخالص والعقل العملي وملكات الحكم الجمالي إلي عقل حاكم منظم للحياة والخبرة.

وإذا كان كانط قد حول العقل إلي سلطة حاكمة تتدرج عبر سلم, يبدأ من المنطلقات الكلية وينتهي بالأحكام الجمالية مرورا بالمنطلقات العملية, فإن هيجل قد منح العقل سلطة النفي. فالفكرة تعاند الفكرة, وتدخل في تناقض معها, بحثا عن تآلف فكري جديد, في سعي دائم نحو الكمال المطلق. دعوة جديدة لأن يشمر العقل عن ساعديه, فلا يركن إلي الخمول والكسل, بل يجادل ويرفض وينتقد ويشك ويعاند, لا من أجل الجدل والرفض والنقد والشك والعناد, بل من أجل السعي نحو غاية مطلقة, نحو قيم عليا, نحو الروح الكلية أو قل العقل الكلي الذي يلم وشائج المجتمع ويصبوا به إلي الكمال. وفضلا عن هذا فإن النقد( النقض) يولد قدرة انعكاسية للعقل, تجعله يمتلك المكنة لكي يتأمل ويراجع, ولا يركن أبدا إلي صيغ جاهزة وأطر مستكينة, ولا شك أن هذا التأمل الانعكاسي يصب في النهاية في العملية الكبري للعقل: أعني البحث عن الكمال والاكتمال.

ومن نافلة القول أن نؤكد علي أن الارتفاع بالعقل والعقلانية في الفكر الحداثي الأوروبي قد ساهم مساهمة كبيرة في تحويل المجتمع لينفك عن ربقة الجمود والتخلف إلي الأفق الرحب للحداثة. فمن الناحية السياسية كان هذا الاتجاه إلي مركزية العقل دافعا إلي بناء النظريات السياسية للعقد الاجتماعي. إن فكرة التعاقد الاجتماعي علي مختلف تجلياتها عند توماس هوبز(16791588) وجون لوك(17041632) وجان جاك روسو(17781712) ما هي إلا دعوة لكي يتأسس النظام السياسي علي سلطة مستقلة وحيادية; الدولة المهيمنة أو السلطة المطلقة( هوبز) أو القانون( لوك) أو الإرادة العامة( روسو). وأكاد أفهم هذه السلطة السياسية المستقلة علي أنها سلطة تناظر سلطة العقل المستقل الحيادي. وأحسب أن هذا الفكر هو الذي قاد إلي الثورة الفرنسية التي كانت رمزا للتحرر السياسي في أوروبا, بل وفي العالم. ومن الناحية الاقتصادية فقد ساهمت الفلسفة العقلية في بلورة الاسهامات السوسيولوجية التي أعلت من شأن التفكير العقلاني والرشد, واعتبرت الفعل الرشيد القائم علي حساب الوسائل والغايات نموذجا مثاليا للفعل. قد نسترجع هنا اسهامات ماكس فيبر عن العقلانية ودورها في بناء المشروع الرأسمالي, وعن الفعل الرشيد مقارنة بالأفعال التقليدية وغير الرشيدة, وعن السلطة القانونية مقارنة بالسلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية. كما قد نسترجع أراء باريتو(19231848) حول الفعل المنطقي والفعل غير المنطقي. وهي أراء استدمجت في علم الاجتماع المعاصر وأصبحت جزءا لا يتجزأ من المشروع الحداثي الرأسمالي.

ورغم أن العقل والعقلانية قد شكلا معا أساسا قويا لبناء المشروع الحداثي الأوروبي, الذي أصبح المشروع الأكثر سيطرة في عالمنا المعاصر, نقول رغم هذا, إلا أنه ينبغي علينا أن نستدعي ونحن نختتم هذه المقالة ما آل إليه المشروع الحداثي الغربي من مشكلات نجمت عن طموحه المادي غير الملجم, ونزعته الاستهلاكية الفجة, وميله إلي التمركز حول العقل الأوروبي; الأمر الذي أفرز انتقادات عديدة للنزعة العقلانية المفرطة ربما نعود إلي الكتابة عنها فيما بعد.

تعرّف على معاني الألوان ودورها في عملية التلاعب بعواطف جمهور السينما – إعداد: أحمد صهريج

المكتبة العامة



قد يستهوي أحد صانعي الأفلام اللون الأحمر، بينما يفضل آخر أن ينقر على مشاعر الجمهور ليثير رد فعل بدائي لما يُعرض أمامه من صور في المشاهد.

تقوم السينما بإثارة المشاعر بأساليب قد لا تدركها، وإنشاء كل لقطة على حدى في الفيلم هو أمر غاية في الصعوبة، كالأفكار التي تحتويها هذه اللقطات. سواء كانت خيار جمالي يصنع بالألوان أو الأثاث الذي يملأ الكادر، من خلالها تستطيع الألوان التلاعب بعواطف المشاهدين بدرجات مختلفة من الوعي واللاوعي.

من البديهي أن تحمل الألوان الكثير من المعاني المختلفة، وتستخدم بعدة طرق أيضاً، ولا يوجد طريقة خاطئة وأخرى صحيحة لاستخدام اللون الأزرق، الأخضر، البرتقالي…الخ. لكن استخدام أسلوب فريد وجذاب لإثارة مشاعر المشاهدين من خلال توظيف الألوان هو التحدي الحقيقي.

فلنطلع على الرموز التي نحملها بعض الألوان، والمشاعر التي تستثيرها:

الأحمر:

من فيلم Ex Machina

من فيلم Ex Machina

تتفاوت المعاني التي يحملها اللون الأحمر، لكن لا يمكن الانكار أنه أحد أقوى الألوان المستخدمة في الشاشة. من جهة، يستخدم هذا اللون في إظهار العدوان، العنف، والغضب.

فكما نرى في الصورة بالأعلى، يغوص فيلم ”إكس ماشينا“ لـ”أليكس غارلاند“ في عالم الشر، اللون الأحمر هو الطاغي على المشهد، وينتقل المشاهد إلى مرحلة جديدة ويقدم إشارة منبهاً الجمهور أن حدثاً هاماً على وشك أن يحصل.

من فيلم 2001: A Space Odyssey

من فيلم 2001: A Space Odyssey

ويعتبر ”ستانلي كوبريك“ خير من أتقن هذا الأسلوب بفضل ولعه بالألوان، وأوضح مثال على الاستخدام العدواني للون الأحمر كان في فيلم ”2001: A Space Odyssey“، عندما يحاول ”دايف“ تعطيل الحاسوب ”هال“ من داخل وحدة المعالجة، فيُصور وضع الغرفة المملة على أنه جهنمي وسينتهي بكارثة، وهذا الشعور المروع والمحتوم بالموت الوشيك سيبدو مفقوداً لولا استخدام ”كوبريك“ للون الأحمر. ومن جهة أخرى، يمكن أن يمثل هذا اللون مشاعر الحب الشغف.

البرتقالي:

من فيلم Beasts of No Nation

من فيلم Beasts of No Nation

على الرغم من أنه يرتبط بالدفء، الطاقة والمرح، يمكن للبرتقالي أن يمنح شعوراً بالحذير والتنبيه، ويرتبط هذا اللون في الديانة الكونفوشيوسية بالتحوّل. والصورة الأعلى المقتطفة من فيلم ”Beasts of No Nation“ تظهر البطل بشكل مختلف تماماً، ويكاد يكون كائن غريب يمر عبر الخنادق البرتقالية المظلمة.

من فيلم Mad Max: Fury Road

من فيلم Mad Max: Fury Road

والجو العام لفيلم ”Mad Max: Fury Road“ يطغى عليه صبغة برتقالية تخدم إسهاب الشعور الإيحائي، الأجرد، الميؤوس منه واللانهائي المشابه لبيئة المريخ، ينقل المشاهد إلى عالم آخر من الفوضى المتتالية.

الأصفر:

من فيلم Hotel Chevalier

من فيلم Hotel Chevalier

يحاكي اللون الأصفر مشاعر السعادة والاسترخاء، كما أنه يعبر عن الغيرة والخداع. ويشتهر ”ويس أندرسون“ باستخدامه لهذا اللون، وصممت هذه اللقطة من فيلم ”Hotel Chevalier“ لتعكس الهدوء والسلام التي تكافح الشخصية لإظهارهما.

من فيلم Birdman

من فيلم Birdman

يطغى اللون الأصفر على الغرفة في هذا المشهد الذي تستخف فيه شخصية ”إيما ستون“ من الشخصية التي يمثلها ”ميشيل كيتون“ في فيلم Birdman، فكل غرض من المشهد تقريبا يحمل اللون الاصفر، من شعر الممثلة الى الكرسي الذي يقبع بجانبها. هذا اللون الاصفر الزائد ينقل الاحساس بالخطر والحكم على الغير وتأكيد الذات.

بحلول نهاية هذا الصراع العاطفي، يشعر المشاهد بأن مشاعر ”مايكل كيتون“ قد تمزقت الى اشلاء، وتعكس الغرفة احساسه بالحرج والخجل.

الاصفر هو لون مميز وطاغ بحد ذاته، فتكوين مشهد كامل من هذا اللون يكون دائماً بيانا صريحاً من المخرج، وفك رموز هذا البيان يرجع للمشاهد.

الأخضر:

من فيلم The Machinist

من فيلم The Machinist

في فيلم ”The Machinist“ تنتشر الدنيوية والتكرار اليومي الممل مع الألوان الكئيبة والغير حيوية. وانتشار اللون الأخضر يعمل على توطيد الرتابة والملل، كما يمكن ملاحظته في فيلم ”The Matrix“ أيضاً.

من فيلم Gravity

من فيلم Gravity

ولهذا اللون أيضاً القدرة على بثّ الحياة لدى الشخصية والجمهور، والدرجة الفاتحة منه تعطي احساساً بالبداية الجديدة والنجاة. ففي نهاية فيلم ”Gravity“ تخرج ”ساندرا بولوك“ من الماء ويظهر أمامها كادر ينتشر فيه اللون العشبي الفاتح، ومحيط مفعم بالأوكسيجين، وهذا يرمز حتماً لبداية جديدة.

الأزرق:

من فيلم Midnight Special

من فيلم Midnight Special

الولاء، الطاعة والتعجب الطفولي، كلها تتألق في فيلم الخيال العلمي ”Midnight Special“. الشخصية الرئيسية فريدة من نوعها، ومكسوة باللون الأزرق من الرأس إلى أخمص القدم، حيث يتناغم هذا اللون مع الأفكار الإيجابية، ويجسد البراءة والنقاء.

من فيلم There Will Be Blood

من فيلم There Will Be Blood

وفي فيلم ”There Will Be Blood“، يكتشف البطل في هذا المشهد أنه يقف أمام واقع صعب، محاصر بالوحدة، ومدرك تماماً أنه وحيد فعلياً.

من فيلم Only God Forgives

من فيلم Only God Forgives

وفي فيلم ”Only God Forgives“، يزداد انفصال البطل عن الواقع مع تتالي الأحداث، وينفصل هذا المشهد الموضح في الصورة عن بقية المشاهد التي طغى عليها اللون الأحمر، ويستخدم ”رايان جوسلينغ“ اللون الأزرق الفاتح ليظهر الشخصية منعزلة عن الواقع. إن تخصيص هذا اللون الغير مألوف بالنسبة لباقي مشاهد الفيلم هو طريقة مثالية لإظهار صفات الشخصية الانفصالية.

الأرجواني:

من فيلم Lost River

من فيلم Lost River

وبالحديث عن ”رايان جوسلينغ“، يتميز عمله الأول ”Lost River“ بأنه أحد أكثر مداخل الشخصيات فتنة وإثارة. حيث تتجلى هذه الفتنة بالخلفية الأرجوانية. يمنح هذا اللون انطباعاً غامضاً ويترافق غالباً مع الغموض والترف، ومعظم هذه السمات مطبقة بأساليب مختلفة في هذا الفيلم.

الوردي:

من فيلم The Grand Budapest Hotel

من فيلم The Grand Budapest Hotel

يحمل اللون الوردي لمتجر المعجنات في فيلم ”The Grand Budapest Hotel“ الكثير من الدلالات، فالرومانسية الطفولية بين الشخصيتين واضحة، والأزياء النموذجية داعمة ومثمرة، والمحيط المليء بالصناديق الوردية، وازدهار الحب العذري هو العنوان العريض للمشهد.

من فيلم It Follows

من فيلم It Follows

وفي فيلم ”It Follows“، يفتتح الفيلم بالشخصية الرئيسية التي ترتدي زي وردي، والغرفة مليئة بهذا اللون. يوحي هذا اللون بالبراءة والطهارة، وبعد تتالي الأحداث المخيفة، تختفي البراءة عند الشخصية، ويختفي اللون من اللباس والإضاءة في آن واحد.

باختصار:

البنفسجي، القرمزي، الأحمر أو الوردي، كل هذه الألوان قد تحمل معاني الحب، الرومانسية والشغف، وقد تحمل سمات ومعاني أخرى، فالإجماع والفهم العام يميز دلالاتها ومعانيها.

الخيار الذي تتخذه كصانع أفلام بأن تستخدم أو لا تستخدم الألوان بعملك هو أمر يعود إليك، فلا يوجد طريقة صحيحة وأخرى خاطئة لإظهار الحزن، السعادة أو الخوف.

مهما يكن، هناك درجات معينة من اللاوعي للمشاعر الخام التي يمكن استثارتها لدى جمهورك إن أحسنت اختيار الألوان وكأي خيار في الإنتاج، كن متأكداً أنه يخدم العمل ويستقطب الجمهور.

السبت، 24 ديسمبر 2016

اعطونا الطفولة - جوقة البراعم يافا -


موطني Mawtini – معهد ادوارد سعيد الوطني للموسيقى فرع غزه


يا ناطرين التلج ما عاد بدكن ترجعوا...صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا..


منظومة التعقيد ضد منظومة التبسيط ـ جواد الشوني

أنفاس نت 


تـــمـــهــــيـــــد
لا وجود ليقين تام بخصوص المعرفة العلمية، كل معرفة تتخللها ثقوب سوداء لا يمكن ردمها، في الليل والضباب علينا أن نراهن، وأن نعي شروط وإمكانيات وحدود المعرفة،  وترابطها مهما تضخمت وتعمقت في التخصص، لذلك يرفع فكر التعقيد التحدي بربط المجزأ ووصل المفصل وتحاور التناقض والتعايش معه. لأن معرفتنا بذاتنا والعالم أضحت مشوشة بعدما انهارت أسس التفكير في الكون بانهيار أسس الكون، فنحن لا ندرك العالم بل فقط صورته هذا ما وصل إليه التطور العلمي، فإذا كانت المعرفة العلمية كثيرة ومعقدة في عمقها وتخصصية فإنها جاهلة. لماذا؟ لأنها منفصلة، نحن نعرف ولكن هل نعرف معنى المعرفة؟ نفهم ولكن هل نعي معنى الفهم ووعي الوعي؟ مبرهنة غودل تقول "لا يمكن لنسق مركب مصورن أن يجد في ذاته برهان على صحته" في الواقع علينا الانطلاق من هذا المعطى السالب لصياغة تصور أو خطاطة معرفية نفهم من خلالها العالم.

تبدو الحقيقة بديهية لكن بمجرد ما نحاول أن نسألها تنفجر وتتفرع في اتجاهات ومناحي عدة منها ما يؤدي إلى اليقين والصدق ومنها ما يؤدي إلى الضلال والتيه والدوغمائية والوهم. من الآن فصاعدا علينا البحث عن إمكانية الحقيقة، وبالتالي الأمر مناط هنا بمعرفة المعرفة كبراديغم معرفي جديد يعي الشروط الثقافية والنفسية والاجتماعية والانتربولوجية للمعرفة، ويعي بأن الخطأ والوهم يتقدمان جنبا إلى جنب مع المعرفة.

إن فصل المعرفة وتجزيئها لا يؤثران فقط في إمكانيات المعرفة، بل يتجاوز ذلك إلى نقص في فهم ذاتنا ومحيطنا البيئي. كان حلم منظومة التبسيط-تلك المنظومة التي تعود جذورها إلى ديكارت- بناء علم إنساني يتحكم ويسيطر على الطبيعة ويجعلها في خدمة الإنسان وتلبية لمصالحه ونزواته. هذا الحلم أصبح كابوسا بعدما تم اكتشاف ثقوب سوداء في العالم قابلتها ثقوب سوداء في العلم.
لا نجد بدا إذن من الاستعانة بالابستومولوجيا المعقدة، لأنها في نظرنا هي من باستطاعتها تفهم تعقيد العالم، ببناء تعقيد على مستوى الفكر، فالرهان الذي أخذه ادغار موران على عاتقه هو"قلب أسس الكون بقلب أسس التفكير في الكون"، بهذه المقولة يمكننا تلخيص مهمة الابستمولوجية المركبة، لكن لماذا الابستمولوجية المركبة؟ لأنها مجردة من الأساس، فبدل الانطلاق من "العبارات الأساسية" أو "عبارات البرتوكول" كأساس للمعرفة يمكننا الانطلاق من كل مكان ومن اللامكان، من الواحد والمتعدد، من بنية شبكتها ليست تراتبية ولا هي منسقة ومنظمة، فالمنهج ليس خطا مرسوما مسبقا في فكر التعقيد بل مجرد دليل يمكن من لمس الطريق، وإعادة تنظيم المعرفة دون ادعاء امتلاك المعرفة، ويمكن أن ننعت ابستومولوجيا التعقيد بأنها ابستومولوجيا فوقية، لأنها تتجاوز الابستومولوجيا التقليدية وتتضمنها في نفس الوقت.

فبراديغم التعقيد براديغم معرفي جديد يقيم فهما مغايرا للعالم والإنسان في وحدته وتفرده وترابطيته وتصاله في نظامه وتشتته وتبعثره، ويحاول أن يعي محددات المعرفة والتصور، ويضع المعرفة في العقدة الإشكالية للحقيقة، بالتالي يمكن اعتبارها تصورا علميا للعالم يقدم نظرة عقلانية فلسفية تمكن من يضطلع عليها من فهم أبعاد جديدة لذاته ولمجتمعه ويطمح إلى التطور وإقامة التغيير ذاتيا أولا ثم موضوعيا، ولكن كيف يمكن تعميق الفكر المركب في مجتمع طبع عليه الأفكار البسيطة والسهلة؟ ذلك هو التحدي الذي يرفعه المثقف العضوي الذي يرتبط بإشكالات واقعه الإجتماعي وقلقه النفسي والوجودي.

كما أن الفكر المركب ينفتح على علوم الدماغ؛ والدماغ آلة كيمائية بيولوجية، تتضمن عالما ميكروسكوبيا بداخلها، فالعقل الإنساني يتشكل من ملايين العصبونات والمشابك العصبية التي تقوم بوظائف كثيرة ومتنوعة ومتناقضة، فالمعلومات تنقل عبر مسالك عصبية. من خلية عصبية (النورون) إلى أخرى فتقوم هاته الأخيرة بإحتسابها وترجمتها وتنظيمها، والبحث عن صورة ملائمة لها عن طريق الرجوع إلى الذاكرة والمعطيات المخزنة وعن المماثلة والمحاكاة بين بنيات الدماغ وبنيات الواقع، فتتحول عن طريق الوعي والعقل والذهن إلى تصور يوضع في لغة وثقافة. فهي عملية معقدة مغلوقة ومفتوحة في نفس الوقت.





  المبحث الأول : البراديغم الجديد

يمثل فكر التعقيد براديغما جديدا تولد عن حدود العلوم المعاصرة و تطورها معا. ولا يتخلى عن مبادئ العلم التقليدي،  بل يدمجها في خطاطة أوسع وأغنى. فالتعقيد هو التحدي الأعظم للفكر المعاصر، لأنه يستلزم إصلاحا لنمط تفكيرنا. ويقدم انتقادا جذريا للفكر المبسط أو الفكر التبسيطي، وتعود جذور هذا الفكر(التبسيط) حسب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران إلى رونييه ديكارت «إننا نحيا تحت سلطان مبادئ الفصل والاختزال والتجريد التي تشكل في مجموعها ما أسميه ب«منظومة التبسيط».صاغ ديكارت هذه المنظومة المسيطرة على الغرب عن طريق الفصل بين الذات المفكرة((ego-cogitans والشئ الممدود (res-extensa)أي الفصل بين السلطة و العلم، وكذا عن طريق وضع الأفكار "الواضحة والمميزة" كمبدأ للحقيقة، أي الفكر الفاصل نفسه. ولا شك أن هذه المنظومة التي تراقب مغامرة الفكر الغربي منذ القرن السابع عشر سمحت بحدوث تقدم كبير على صعيد المعرفة العلمية والفكر الفلسفي،  ولم تبدأ مخلفاتها الضارة الأخيرة في الانكشاف إلا في القرن العشرين»[1] .

ففكر التبسيط متغلغل في لاوعي الفكر الغربي،  لذا يتوجب على فكر التعقيد المراهنة والتحدي بل ورفع التحدي لكي نتمكن من أن نلج مملكة الفكر المعقد ونترك النظرة التبسيطية التي تضلل معرفتها وخصوصا معرفتنا بمصادر معرفتنا.

تاريخ فكرة التعقيد

أدرك العديد من كبار فلاسفة الغرب(هيراقليطس، كانط، هيغل، نيتشه، هوسرل) أهمية فكرة التعقيد وحدود "العقل الخالص" ولا شك في أن باسكال هو الذي أدرك بشكل أفضل التناقضات المنطقية المؤسسة للواقع الفيزيائي والإنساني، واستحالة اختزال هذا العالم إلى مجموعة من المكونات البسيطة. ويعد هؤلاء الرواد هم من أعطوا الشرارة الأولى لفكرة التعقيد. بالإضافة إلى نظرية الأنساق الربانية(إذ حدث نقاش فكري حاد في نهاية الأربعينات بالولايات المتحدة الأمريكية المتحدة التي أبدعت الربانية (نور برت فينار)، ونظرية الأنساق،  ونظرية الإعلام (كلود شانون Claude Shannon). وبالموازاة تم ابتكار الحاسوب والإعلاميات، والأجهزة الأولى للتحكم الالكتروني. بالإضافة إلى ندوات ماسيMacy1 التي ناقشت الأنساق والربانية و علوم العقل...[2]

أزمة الأسس

كلما ارتفعت معارفنا، ارتفعت بالموازاة معه أزمات معرفية. بدأت هذه الأزمة مع الفلسفة وذلك من قبل جدلية تحيل البحث عن أساس يقيني للمعرفة كان هذا الحدث في القرن التاسع عشر، وهو دخول فكرة الأساس في أزمة، فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية بلوغ "الشئ في ذاته"، قام نيتشه بالإعلان عن قدرية النزعة العدمية، أما في القرن العشرين، أعاد هايدغر النظر في أساس الأسس وفي طبيعة الموجود، والذي كرس إشكالاته"الأساس من دون أساس". لم تعد الفلسفة المعاصرة تقوم ببناء أنساق لنفسها على أسس متينة، بل التفكيك المعمم، والتساؤل الذي ينسبن كل معرفة.

أما العلم فلم يتوقف عن التأكيد على أنه وجد الأساس التجريبي والمنطقي اليقيني لكل حقيقة. في ظل هذه الشروط شرعت جماعة من الفلاسفة والعلماء الذين أخذوا على عاتقهم القضاء على ثرثرة الميتافيزيقا وعشوائيتها، من خلال تحويل الفلسفة إلى علم عبر تأسيس قضاياها على عبارات متحققة ومتسقة. هنا تجد رغبة "الوضعية المنطقية" بالموازاة مع ذلك قام فيتغنشتاين وهيلبرت بمشروع خاص على مستوى اللغة وعلى مستوى تنسيق النظريات العلمية.

إلا أن تطهير الفكر عبر إقصاء الحثالات والتلوث والبذاءات بدا تنظيفا يجرف معه الأخضر واليابس، وانهار حلم إيجاد أسس مطلقة مما أدى إلى غياب هاته الأسس، دخل إلى هذا الصراع حول أزمة الأسس "كارل بوبر" والذي برهن على أن "التحقق" لا يكفي لضمان حقيقة النظرية العلمية، وأعلن بوبر خاصية علمية تكمن في "القابلية للخطأ" وبالتالي إلى عدم كفاية الاستقراء كبرهان منطقي، غير أن المنطق الاستنباطي حافظ حتى من منظور بوبر على قيمة البرهان الحاسم، فشكل أساسا متينا للحقيقة، في حين كان يفترض أن هذه القاعدة المنطقية ذاتها غير كافية. بلغت تطورات الميكروفزياء، من ناحية، نوعا من الواقع أخفق أمامه مبدأ عدم التناقض وأثبتت مبرهنة غودل (Gödel)، من ناحية أخرى عدم القابلية للبث المنطقي في أنساق مصورنة مركبة. لذلك لا يكفي التحقق التجريبي والمنطقي لإنشاء أساس يقيني للمعرفة؛ لذلك وجدت هذه الأخيرة ذاتها محكومة بتضمن فجوة في قلبها لا تغلق. في اللحظة نفسها سقط الواقع ذاته في أزمة... بذلك تنظم أزمة الأسس المعرفة العلمية إلى الأسس المعرفة الفلسفية،  لقد صار الوجود سكونا أو فجوة، وبدا المنطق متصدعا؛ لذا يتساءل العقل ويتخوف، فاللايقين يتلبد وراء كل اليقينيات الجهوية، لا توجد قاعدة اليقين ولا وجود لحقيقة مؤسسة.  بالتالي لا وجود لفكرة الأساس.


إعادة التنظيم الإبستمولوجي

سيكون للإبستومولوجيا المعقدة كفاءة أوسع من التقليدية، لكن من دون أن تتوفر على أساس وموقع امتيازي، وعلى قدرة المراقبة أحادية الجانب، ستكون أولا منفصلة على عدد من المشاكل المعرفية الجوهرية التي أثارتها سابقا ابستومولوجيا بشلار(التعقيد) وبياجي( بيولوجيا المعرفة، الترابط بين المنطق وعلم النفس، والذات المعرفية).

وستقترح، ثانيا، على نفسها فحص ليس أدوات المعرفة في ذاتها فقط، بل شروط إنتاج أدوات المعرفة(الشروط العصبية الدماغية،  الشروط الاجتماعية الثقافية). وبالتالي تتوقف معرفة المعرفة مجددا على المعارف العلمية الكثيرة والمشتتة، غير أن صلاحية هذه المعارف الكثيرة والمشتتة تتوقف على معرفة المعرفة. وجدير بالذكر أن الابيسمتمولوجيا المعقدة ستحدث ثورة هوبلية، لأنها مجردة من الأساس، فبدل الانطلاق من"عبارات الأساسية" أو "عبارات البروتوكول"، يتصور «رويشرRescher « نسقا على شكل شبكة بنيتها ليست تراتبية، ويضيف ادغار موران فكرة ديناميكية التكرار الدائري، أي أن الابيستمولوجيا ليست مركز الحقيقة بل يجب أن تدور حول مشكل الحقيقة، وعبر هذا الدوران يأمل موران في إعادة تمفصل/إعادة تنظيم المعرفة، تكون هي نفسها ملازمة لجهد التفكير الأساسي، وبالتالي فمعرفة المعرفة هي ابستومولوجيا فوقية،  لأنها تتجاوز أطر الابستومولوجيا التقليدية وتتظمنها في الوقت ذاته، ورغم اهتمامها بالمسائل العلمية فإنها تسائل المعارف الغير العلمية، فهي تتبنى وجهة النظر العقلانية، ولكن ترفض المعارف الغير العقلانية، أي أنها تحتفظ بإشكالية الحقيقة مفتوحة على الدوام، فكل معرفة تدعي الصدق، إلا أنها في طياتها تحمل الخطأ  الوهم والجهل أيضا.

كما أن الابستومولوجيا المعقدة ابستومولوجيا شاملة لأنها لا تستطيع الإشراف على المعارف بل تندمج في مسار معرفي يحتاج إلى التفكير في ذاته والتعرف عليها وموضعتها وأشكلتها.


 الــمبــحث الثاني:التعقيد ضــد التبسيط

ففي سياق قراءته للحقل الفلسفي والعلمي والإبستمولوجي (المعرفي) المعاصر، يقر إدغار موران بهيمنة منظومة التبسيط والاختزال إلى الوحدات الأولية لمختلف الحقول المعرفية كالذرة في الفيزياء، والخلية في علوم الحياة، والتركيب (Structure) في قواعد اللغة على أساس أن الوحدة غير قابلة للتفكيك، ووحدها القابلة للضبط والقياس، فقامت منظومة التبسيط بتنظيم الكون عن طريق اختزاله في كيانات وجواهر مغلقة وثابتة، عذرية وخالدة، لا تعرف التناقض والاختلال. وبذلك شكلت لاوعي الفكر الغربي، وحكمت نظرياته وخطاباته.

إن منظومة التبسيط باختيارها ذاك النظام، والعذرية، والثبات، والخلود، والأصل، والهوية، والاستمرارية، قامت بحرب تاريخية وتجاهل هائل لأسئلة لا يجاب عنها بصدد التحوّل، والفوضى، والتجدد، والخلق، والتعقد، والصدفة، والاختلال، واللانهائي، واللايقيني «فأكبر خطر شكلته منظومة التبسيط ولا زالت تشكله هي أنها تحاول فهم العالم-ذلك المجموع الهائل من المركبات الدينامية والتشيدية والمعقدة واللايقينية والصدفوية والمفتوحة والمتحولة، كما تقدمه لنا العلوم والابيستمولوجيات المعاصرة-بأدوات الابستمولوجيا التقليدية، إبستومولوجيا القرن التاسع عشر: إبستمولوجيا الاختزال والتبسيط والثبات والوضوح وحجب تعقد العالم. ذلك أن العالم هنا والآن، وبعد الاكتشافات الأساسية لفيزياء الكوانطا  وفيزياء الأنظمة المختلة والفلسفات والابستمولوجيات والعلوم النسقية عموما، أصبح يتطلب أدوات وأطرا وفلسفات وعلوما جديدو لفهمه. وهي الغائبة كليا عن الابستمولوجيا التقليدية»[3].

من هنا يظهر لنا أن كبح تلك الأسئلة يُعقّد من فهم ومعرفة أدق للعالم والكون بعد الاكتشافات الفيزيائية الكوانتم الطاقة وللأنظمة المختلة والعلوم النسقية عموماً، التي تتطلب أدوات وأطراً ينظمها الفكر المركب القادر على تمثل الوجه الجديد لعالم دينامي، صدفوي، متنوع، ومتحول، ولانهائي. إن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم الذي ارتكز فهمنا له على منجزات العلم الكلاسيكي.

يكمن التغيير المنشود في أدوات فهمنا للعالم التي تميزت بأنها مقطّعة ومفصولة في الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وعلم الاجتماع والآداب والإبستومولوجيا. لكن ما هو فكر التعقيد عند إدغار موران؟

يقول موران«ما هو التعقيد؟ من أول وهلة، نقول إن التعقيد هو نسيج(complexus: ما نسج ككل) من المكونات المتنافرة المجمعة بشكل يتعذر معه التفريق بينهما. إنه يطرح مفارقة الواحد والمتعدد. ثانيا، بالفعل إن التعقيد هو نسيج من الاحداث والافعال والتفاعلات والارتدادات والتحديدات والمصادفات التي تشكل عالمنا الظاهراتي. لكن في هذه الحالة يحمل التعقيد بشكل مقلق سمات الخليط وغير القابل للفصل والاختلال والغموض واللايقين...»[4]

 يرى موران في كتابه مدخل إلى الفكر المركب أن التعقيد ظاهرة كمية للتفاعلات والتداخلات بين عدد كبير من الوحدات، كما هو الحال في الخلية، والذرة، حيث تشتمل الواحدة على عدد من اللايقينيات واللاتحديدات والظواهر الصدفوية.

إن التعقيد هو ذاته اللايقين، وهذا تضاد الحتمية في العلم الكلاسيكي. بفضل تطور علم الفلك على المستوى الماكروفيزيائي والمايكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في أجسامنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون، فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا، إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي.

ظهر التعقيد في العلم الحديث، ذلك أن المايكروفيزياء لم تفتح الطريق أمام علاقة مركبة بين الملاحظ والملحوظ فحسب، ولكن أيضاً على مقولة مركبة ومضللة جداً، وهي الجزئية الأولية التي تقدم نفسها للملاحظ تارة كموجة، وتارة كجسيم.

 إن للتعقيد دائماً صلة بالصدفة، إنه اللايقين بعينه المترسخ داخل الأنساق المنظمة بشكل ثريّ، إنه مرتبط بنوع من الخليط العميق بين الاستقرار والاختلال.

يضع موران الذات والموضوع في علاقة تبادل وثيق، ولا وجود لموضوع إلا بالموازاة مع ذات (تلاحِظ، تَعزل، تَعرف، تُفكر). إن نمط تفكيرنا يقصي الواحد بواسطة الآخر. لقد تمّ شق طريقنا من جهة بواسطة الماكروفيزياء، حيث أصبحت الذات والموضوع متعالقين،  لكنهما غير ملائمين لبعضهما البعض. وإذا انطلق المرء من ذاته المفكرة من أجل العثور على أصلها، فإنه يعثر على مجتمعه وعلى تاريخ هذا الموضوع داخل تطور البشرية، وعلى الإنسان المنظم بذاته في علاقته مع محيطه. وبناء على ذلك، يوجد العالم داخل فكرنا الذي يوجد داخل العالم.

منظومة البساطة

ولكي نفهم مشكلة التعقيد، يجب أن نعلم أن هناك منظومة خاصة بالبساطة، وهي منظومة تقوم بتنظيم الكون بإقصاء الاختلال من داخله، وهنا يتم اختزال النظام في قانون ومبدأ معينين. إن البساطة ترى إما الواحد وإما المتعدد، ولكنها لا ترى أن الواحد قد يكون في الوقت ذاته متعدداً. لنأخذ الإنسان مثالاً، فهو كائن بيولوجي، وهو في الوقت ذاته ثقافي يعيش داخل كون من اللغة والأفكار والوعي.

لقد كانت مهمة المعرفة العلمية مدعومة بهذه الإرادة في التبسيط، وهي الكشف عن البساطة المختفية وراء التعددية الظاهرة والاختلال الظاهر للظواهر؛
اعتقد العلماء أن الجزيئة هي الوحدة الأولية، ثم تبين أنها عبارة عن نسق معقد جداً يتعذر عزلها عن محيطها، إضافة لذلك تبين انبعاث الاختلال داخل الكون الفيزيائي، وأن ما تدعوه الحرارة هي في الواقع إثارة فوضوية لجزيئات أو لذرات. فعند تسخين الماء تبدأ الجزيئات في التزوبع لتتبخر وتتشتت.

إن التطور يؤدي إلى نشوء أنواع في الطبيعة وموتها... وإن التبدد والاختلال يتعاقبان بشكل ما مع أن كل واحد عدوّ للآخر. قال هيراقليطس: "إننا نحيا بواسطة الموت، ونموت بواسطة الحياة".

"إننا نحيا بموت خلايانا،  تماماً كما يحيا مجتمع بموت أفراده".

يجب أن نعيد النظر في كل ما يبدو لنا بديهيا، وفي كل ما يؤسس حقائقنا. حققت العلوم تقدما معرفيا عظيما، غير أن تقدم العلم الأكثر تطورا، (الفيزياء) يقربنا من مجهول يتحدى مفاهيمنا ومنطقنا وذكائنا (الميكروفيزياء و الماكروفيزياء)،  ويضع أمامنا مشكل ما لا يقبل المعرفة، وتلك الثقة العمياء حول "العقل" الذي يشكل الوسيلة المعرفية الأكثر أمانا، ألا يمكن أن يحمل في ذاته مهمة عمياء؟ هنا يتساءل موران في المنهج3" ما هو عقلنا؟ هل هو كوني؟ عقلاني؟ ألا يمكن أن يتحول إلى ضده من دون أن يعي ذلك؟ ألم نبدأ في فهم أن الاعتقاد في كونية عقلنا يخفي عقلنه غريبة متمركزة وتشويهية؟ ألم نبدأ اكتشاف تجاهلنا واحتقارنا وهدمنا لكنوز المعرفة باسم محاربة الجهل؟..."[5]. فالبحث عن الحقيقة الآن أصبح مرتبطا بالبحث عن إمكانياتها، هل معنى هذا أنه علينا ترك فكرة الحقيقة( الاعتراف بغياب الحقيقة كحقيقة)؟ ووضع المعرفة من أجل الحقيقة في العقدة الإستراتيجية لمعرفة المعرفة؟

مجهول المعرفة

مفهوم الحقيقة واحد بديهي، ولكن ما إن نحاول مسائلته حتى ينفجر ويتنوع ويتكاثر إلى مفاهيم غير محدودة(يبين ادغار موران ذلك بدقة في المنهج 3 ت.:يوسف تيبس ص22) كل واحد يضع تساؤلا جديدا، فنحن نفهم ولكن هل نفهم معنى الفهم؟ ونفكر، لكن هل نعرف التفكير في معنى التفكير؟ وبالتالي نحن هنا أمام مفارقة المعرفة التي لا تنفجر إلى شظايا أمام أول تساؤل، بل تكتشف المجهول في ذاتها«يمكن أن نأكل دون معرفة بقوانين الهضم، وأن نتنفس دون معرفة بقوانين التنفس، ويمكن أن نفكر دون أن معرفة بقوانين أو طبيعة الفكر، ويمكن أن نعرف من غير أن نعرف المعرفة»[6].

إذن سنسقط لا محالة في باطالوجيا معرفية، تشوه معرفتنا بهذا العالم«في الوقت الذي نشعر مباشرة بالاختناق في التنفس والتسمم في الهضم، يتميز الخطأ والوهم بعدم ظهورهما كخطأ أو وهم "لا يتجلى الخطأ إلا في كونه لا يظهر كذلك"(ديكارت).»[7]

باطولوجيا المعرفة

يتحدث موران في المنهج3 عن باطولوجيا معرفية مصدرها التجزيء والفصل بين مختلف التخصصات المعرفية. إن الاختصاصيين والخبراء قد يحرزون كشوفات لكنهم غير واعون بالجوانب المدمرة المرتبطة بكشوفاتهم، وهنا يريد كارل بوبر أن ثقة الاختصاصيين المفرطة  في كشوفاتهم أجل محتوم للمعرفة، وينظر بوبر إلى الشخص الذي لا يقبل تغيير وجهة نظره العصبي أو المجنون.

وفي كتابه مدخل الى الفكر المركب يتحدث موران عن باطولوجيا معرفية"تعود جذورها إلى ديكارت الذي صاغ منظومة تبسيطية هيمنت على تاريخ الفكر الحديث، ومنعت العلم من التفكير في ذاته"، والحل هنا ليس التبيسط ولا التجزيء إنما تجميع المعارف لمعرفة المعرفة.[8]

بيولوجيا المعرفة

ففلسفة التعقيد تنفتح على التطور الذي تعرفه البيولوجيا، ف«تقحمنا معرفة الحياة في حياة المعرفة بشكل حميمي رائع:"إن العيش، بإعتباره صيرورة معرفة"(ماتورانا).»[9] ، كما تنفتح على علوم الدماغ؛ والدماغ آلة كيمائية بيولوجية، تتضمن عالما ميكروسكوبيا بداخلها، فالعقل الإنساني يتشكل من ملايين العصبونات والمشابك العصبية التي تقوم بوظائف كثيرة ومتنوعة ومتناقضة، فالمعلومات تنقل عبر مسالك عصبية. من خلية عصبية (النورون)إلى أخرى فتقوم هاته الأخيرة باحتسابها وترجمتها وتنظيمه. وبالتالي لن تبقى المعادلة" أنا أفكر إذن أنا موجود" (الديكارتية) بل ستصبح "أنا أحتسب إذن أنا موجود" لكن ما هو الاحتساب computation؟ «يعني الحساب والمقارنة والفهم والمواجهة والتقييم...فهو فاعلية إدراكية، تعمل على الإشارات والرموز حيث تفصل وتربط وتحتوي على حاكمية معلوماتية ورمزية وذاكرة وعلى حبكة إعلامية وهي مجموعة البرامج والإجراءات والقواعد والمستندات التي تعود إلى وظيفة المجموعة العلاجية لأية معلومة»[10].

استنتاج

في ختام هذا الفصل لن نجد أفضل من قول لإدغار موران يلخص ما ذكرناه سلفا، إذ يقول في كتابه مدخل إلى الفكر المركب «اكتسبنا معارف هائلة حول العالم الفيزيائي والبيولوجي والبسيكولوجي والسوسيولوجي.أعطى العلم الغلبة شيئا فشيئا وعلى نطاق واسع، لمناهج التحقق الامبريقي والمنطقي. ويبدو أن أنوار العقل تكبت في الأعماق الدنيا للروح عدة أساطير وظلمات. ومع ذلك، يتقدم الخطأ والجهل والعمى في كل مكان في نفس الوقت الذي تتقدم فيه معارفنا.

من الضروري أن يصير لنا وعي جذري بالأمور التالية:

1.     لا يكمن السبب العميق للخطأ في الخطأ بالفعل(إدراك خاطئ) أو الخطإ المنطقي(عدم الانسجام)، بل في صيغة تنظيم معرفتنا في شكل نسق من الأفكار(نظريات، إيديولوجيات)؛
2.     هناك جهل جديد مرتبط بتطور العلم نفسه؛
3.     ترتبط عمى جديد مرتبط بالاستعمال المنحط للعقل؛
4.     ترتبط أخطر التهديدات التي تتربص بالبشرية بالتقدم الأعمى وغير المتحكم فيه للمعرفة(أسلحة حرارية-نووية؛ تلاعبات في كل الأنواع، خطأ بيئي، الخ).
5.     أريد أن أبين بأن هذه الأخطاء والجهالات والعمى والأخطار لها طابع مشترك يكمن في كونها ناجمة عن صيغة مشوهة لتنظيم المعرفة، غير قادرة على الاعتراف وعلى وضع اليد على تعقيد الواقع.»

 من هذا القول نخلص على ضرورة تخطي منظومة التبسيط التي قامت بنشر أوهام وجهالات وأخطاء على الصعيد الابستمولوجي، والانتربولوجي، والمنطقي، والسياسي، والتي جعلت العالم يحيا، ويترنح، ويتدحرج، ويتجشأ، ويمكن القول جعلته في حالة فواق وحزاق يومي، والغوص في بحر التعقيد لأنه الوحيد القادر على تمثل الوجه الجديد العالم.
هكذا يظهر أن إصلاح الفكر ونقد الفكر الاعمى هو المهمة الاستعجالية للفكر. يعني إصلاح الفكر أنطولوجيا/إبستمولوجيا/منهج/منطق جديد تكون مهمته الجوهرية الوقوف عند تنوع/تعقد/صدفوية/دينامية/تاريخية العالم وأدوات فهم العالم.

إن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم، وهذا التغيير يكون في تغيير أدوات فهم العالم التي لا توجد في أي علم؛ أي أن هذه الأدوات لا توجد في المعارف المجزأة والمقطعة والمفصولة عن بعضها البعض؛ أي أن الفكر المركب لا الفيزياء ولا البيولوجيا ولا الكيمياء ولا علم الاجتماع ولا الآداب ولا الابستمولوجيا، فالفكر المركب هو مجموع هذه العلوم المباحث وقد توحدت في أفق التعقيد، فهو فكر يؤمن بإمكانية تجميع وتوحيد المتعدد، وهدفه هو تفجير المباحث ولمها داخل أفق مركب جديد.

[1] موران،  إدغار[2004]،  الفكر و المستقبل  مدخل إلى الفكر المركب ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي،  دار توبقال للنشر،  ط.1،  الدار البيضاء-المغرب، ص.15
[2] موران، إدغار:[2009]، نحو براديغم جديد، ترجمة وتقديم، د.يوسف تيبس، مجلة رؤى، عدد29، ص.121.
 [3]  الفكر والمستقبل: مدخل إلى الفكر المركب، ص. 6
[4]الفكر والمستقبل: مدخل الى الفكر المركب، ص.17
[5] موران، إدغار[2013]، المنهج الجزءان الثالث و الرابع ت.: د.يوسف تيبس، أفريقيا الشرق، ب. ط. ، شارع يعقوب المنصور-الدار البيضاء- المغرب، ص21
[6]  المنهج 3 ص.21.
[7] المصدر نفسه.
[8] تريعي، حمدي:[2012]: ترجمة الفصل الأول من كتاب معرفة المعرفة لادغار موران المنهج3، ص.126.
[9]  المنهج3، ص. 56.
[10] تريعي، حمدي:[2012]: ترجمة الفصل الأول من كتاب معرفة المعرفة لادغار موران المنهج3، ص. 14.

حق اللجوء...حق من حقوق الإنسان الأساسية حوار خاص مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس

عن قنطرة



يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني الشهير يورغن هابرماس أن على ألمانيا وفرنسا أن تصوغا سياسة أوروبية أكثر فعالية وذات منظور مستقبلي إزاء أزمة اللاجئين الحالية، ويقول في حواره التالي مع الصحفي شتيفان ريكيوس إنه لا بد أيضا من أن ينصب تركيز هذه السياسة على التعاون بشكل أفضل في قضية اللاجئين.

بروفيسور هابرماس، يتعرض العالم الحديث للاضطرابات بشكل متواصل وبالتالي يواجه باستمرارٍ تحدياتٍ جديدةً، لنأخذ موجات اللاجئين الحاليَّة من منطقة الشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا أو من غرب البلقان إلى أوروبا، كيف ينبغي أنْ تكون ردَّة الفعل من منظور فلسفي؟
يورغن هابرماس: حق اللجوء حقٌ من حقوق الإنسان، وكلُّ من يتقدَّم بطلب لجوءٍ سياسيٍ ينبغي أنْ يُعامل بإنصافٍ وأنْ يُستقبلَ، مع كل ما يترتَّب على ذلك. هذا هو الجواب المبدئي، إلا أنَّه ليس لافتًا في مثل هذه الحالة على وجه الخصوص.
الاتحاد الأوروبي منقسمٌ في أزمة اللاجئين كما لم يحدث لفترة طويلة، فهل يهدِّد ذلك بتآكل القيم والقناعات التي تعتقد أنت أيضًا بوجودها في الاتحاد الأوروبي؟
يورغن هابرماس: ما يحدث هو الفصل بين بريطانيا وبعض دول أوروبا الشرقيَّة من جهة ونواة الاتحاد النقدي من جهة أخرى. ولكن هذا النزاع متوقَّع، وللأمر ارتباطٌ بتاريخ الانضمام للاتحاد. وبصرف النظر عن الفوارق الاقتصاديَّة الكبيرة التي لا تزال قائمة، فإنَّ البلدان الشرقيَّة الكثيرة الجديدة المرشحة للانضمام لم يكُن لديها الوقت الكافي لاجتياز عمليَّة تكيُّف سياسيَّة-فكريَّة، بينما كان لدينا (في ألمانيا) بين سنتي 1949 و 1989 أربعون عامًا لاجتيازها. إذن، المدة الزمنيَّة كانت كافية لدينا.
ألمانيا وفرنسا اللتان كان عليهما، قبل اليوم بكثير، أنْ تمارسا سياسةً أوروبيَّةً أكثر فعاليَّةً وذات منظورٍ مستقبلي، ينبغي عليهما الآن المبادرة وتطوير سياسةٍ أوروبيَّةٍ، لا بدَّ وأنْ تشمل في إطارها التعاون في قضيَّة اللاجئين أيضًا! لقد جرى إغفال الأزمة. لكنْ لا بدَّ لي في هذا السياق من أن أقول إنني منذ نهاية شهر أيلول/سبتمبر (2015) راضٍ عن حكومتنا كما لم أكُن منذ سنوات كثيرة. فاجأتني جملة السيدة ميركل: "في حال كان علينا الآن أن نعتذر إذا ابتسمنا لأولئك الذين يحتاجون إلى مساعدتنا، فهذا يعني أن هذا البلد لم يعد بلدي"، وقدَّرتُ تلك الجملة تقديرًا عاليًا.
عندما يأتي مئات الآلاف البشر، كثيرٌ منهم من عوالم حياةٍ دينيَّةٍ وثقافيَّةٍ مختلفة، إلى بلدٍ في الاتحاد الأوروبي، يكون الاندماج جوهر الخطوة التالية، فهل ثمة مفتاحٌ فلسفيٌ للاندماج الناجح؟
يورغن هابرماس: هناك أساسٌ مشتركٌ يجب أنْ يقومَ الاندماج عليه، ألا وهو الدستور. هذه المبادئ ليست منقوشة على الحجر، إنما يجب طرحها ضمن نقاشٍ ديمقراطيٍ واسعٍ، وأعتقد أن هذا النقاش سينطلق مجددًا لدينا. لا بدَّ لنا من أنْ نتوقَّع من كلِّ شخصٍ نستقبله أنْ يلتزم بقوانيننا وأنْ يتعلم لغتنا. ولا بدَّ لنا فيما يخص الجيل الثاني على الأقل أنْ ننتظر منه أن يكون قد رسخ مبادئ ثقافتنا السياسيَّة عمومًا.
دَافعتَ في سنة 1999 عن تدخُّل حلف شمال الأطلسي في حرب كوسوفو، فهل لديك موقفٌ مشابهٌ إزاء التدخل العسكري الذي يقوم به حلف شمال الأطلسي والغرب ضد نظام الأسد في سوريا أو ضد تنظيم الدولة الإسلاميَّة؟
يورغن هابرماس: هذا سؤالٌ صعبٌ، ولا أستطيع الإجابة عنه بنعم أو لا. حرب العراق، التي انتقدتها من اليوم الأول، وكذلك حروب أفغانستان ومالي وليبيا جعلتنا ندرك أنَّ القوى المتدخِّلة ليست مستعدِّة لتأدية الواجبات المترتبة عليها بعد التدخُّل، أقصد بناء وتعزيز هياكل الدولة في هذه البلدان، الأمر الذي يستغرق عقودًا من الزمن. ونتيجة لذلك، علمتنا التجربة أنَّ هذه التدخُّلات قد زادت من سوء الظروف في البلدان المعنيَّة في أغلب الأحيان بدلًا من تحسينها. كنتُ قد أيَّدتُ التدخُّل في سنة 1999 مرفقًا بالكثير من التحذيرات والتحفظات، الأمر الذي يجري نسيانه مع مرور الزمن. أما إذا كان من شأن موقفي أن يكون مختلفًا إذا قمتُ بنظرةٍ استرجاعيَّةٍ، فذلك أمرٌ يتطلب تفكيرًا مطوَّلاً.
تنبَّأ بيتر شول-لاتور بعد ضربات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 بأنَّ الصراعات الكبرى القادمة ستكون ذات طابع ديني، ويبدو أن التاريخ يؤكد تنبؤه. لنأخذ تيارات الإسلام المتطرفة مثلاً، كيف ينبغي مواجهتها؟
يورغن هابرماس: هذه الصراعات ليست صراعات دينيَّة في جوهرها، بل يتمُّ تعريف الصراعات السياسيَّة على أنها دينيَّة. الأصوليَّة الدينيَّة هي رد فعلٍ على ظواهر الاقتلاع، التي جاءت عمومًا مع الحداثة من خلال سياسات الاستعمار وما بعد الاستعمار. وبالتالي فإنه من السذاجة بعض الشيء أنْ نقول إنَّ هذه صراعاتٌ دينيَّةٌ.

حاوره: شتيفان ريكيوس
ترجمة: يوسف حجازي

نقاش فتجنشتاين مع مدرسة الجشطلت حول مفهوم الصورة ـ عبد الله الخمسي

أنفاس نت


تعتبر اللغة ذات مكانة بارزة داخل الفلسفة التحليلية ، باعتبارها الموضوع الجدير بالبحث والاهتمام ، حيث أضحت كل التوجهات التحليلية هي توجهات لغوية همها الأساسي هو البحث في معاني العبارات اللغوية ، وإذا كان القرن 20 هو قرن العلم في نظر الابستمولوجيين وفلاسفة العلم ، فإن هذا القرن هو في نظر الفلاسفة التحليليين قرن التحليل والبحث عن المعنى في القضايا اللغوية ، ولعل هذا ما عبر عنه المفكر الأمريكي  Morton White بالقول "عصرنا هو عصر التحليل والمعنى" ، واللغة في منظور الفلاسفة التحليليين ليست فقط وسيلة للتخاطب والتواصل وإنما تشكل أيضا هدفا للبحث الفلسفي، وكانت هذه العناية الخاصة باللغة من قبل فلاسفة التحليل من أمثال مور ورسل وفتجنشتاين بمثابة تجسيد فعلي لتقليد فلسفي معاصر يتخذ من اللغة الموضوع الجدير بالعناية والتنقيب ، إلا أن مسألة المعنى والتحليل لم تكن وليدة الصدفة بقدر ما أنها وليدة مخاض عسير ونقاش خاضه رواد فلسفة التحليل مع الفلاسفة السابقين عليهم ، ونقصد الفلاسفة الكلاسيكيين الذين هم في نظرهم مسؤولون عن الانغلاق الذي طرأ على موضوع الفلسفة ، وذلك من خلال مغالاتهم في منهج التركيب الذي أعطانا أفقا مسدودا في الفلسفة ، ومن أجل الخروج من هذا الانغلاق اقترح رواد التحليل طريقة أو منهج للخروج من هذه التخمة التي لحقت الفلسفة، وكان  هيجل مسؤولا عنها ومن حدا حدوه ، وهذا المنهج كان طبعا هو التحليل كرد فعل مباشر ضد التركيب ، والمحاولات الأولى التي كانت ضد هذا المنهج كانت من قبل جورج مور من خلال نشره مقال حول "تفنيذ المثالية" سنة 1903، مقترحا منهجا جديدا للتعامل مع موضوعات الفلسفة ألا وهو منهج التحليل .
غير أن مور بقي وفيا للغة الطبيعية ولم يخض خوضا منطقيا في معالجة مشكل التركيب في الفلسفة ، غير أن كل من فريجه وراسل بالإضافة إلى فتجنشتاين ، سيجعلون من الصورنة مدخلا لحل مشكلات الفلسفة التقليدية ، وذلك بالاعتماد على أدوات منطقية وجبرية كرائز من أجل تدقيق موضوع الفلسفة الذي أصبح في نظرهم هو التحليل المنطقي للغة وذلك من أجل تفسير فلسفي للفكر، والذي استقام اشتغاله مع هذا الطرح هو الفيلسوف النمساوي فتجنشتاين من خلال كتابه الرسالة المنطقية – الفلسفية ، وهذا الكتاب جعله فتجنشتاين بأكمله عبارة عن نقد للغة، بمعنى أن مشروع فتجنشتاين في هذه الرسالة ينصب على نقد اللغة الطبيعية وتنصيب لغة منطقية محلها  لأجل قول فقط ما يمكن قوله كخطاب مشروع في اللغة وخطاب آخر مما لا يقال ، إما لافتقاره لأدوات التركيب المنطقي و إما لعدم قابلية هذه اللغة لتمثيل ما يوجد في العالم الخارجي ، لكن ما هو مسؤول عن المعنى في اللغة عند فتجنشتاين هو كذلك مما لا يقال فيها وهي الصورة المنطقية  التي شكلت ما يسمى بميتافيزيقا الصورة المنطقية في فلسفة فتجنشتاين بعدما خاض نقاشا مع سيكولوجية الجشطلت، وهذا هو مربط الفرس في هذه الدراسة التحليلية لفلسفة التحليل .

 لا يخفى عن أي متصفح لرسالة فتجنشتاين - المنطقية على كون فيلسوفنا  يميز بشكل واضح بين مجال القول ومجال آخر لا نملك  إلا القدرة  على إظهاره أو الإشارة إليه فقط، وإذا كانت قضايا المنطق والرياضيات بالإضافة إلى قضايا الميتافيزيقا مما لا يمكن قوله، فإن الصورة المنطقية لا تخرج عن باقي هذه القضايا التي لا يجب أن تقال في اللغة ، نظرا لكونه قد حدد أن طبيعة اللغة هي أن تقول ما هو عليه العالم ، والصورة المنطقية  لا توجد في العالم ، لذلك ضمنيا لا يمكن أن تقال ، كما أننا  لا نجد في الرسالة قضايا تقول الصورة المنطقية لأن ما يظهر نفسه في اللغة لا تستطيع اللغة أن تعبر عنه ، إلا أن ما يثير الانتباه بخصوص هذه الصورة  هو كونها لا توجد في العالم كما لا توجد في اللغة ، لكنها ضرورية للربط بين اللغة والعالم من أجل أن يكون للغة معنى،  ثم وجودها كهوية تربط بين الاثنين ، لكن إذا سألنا فتجنشتاين أين توجد هذه الصورة المنطقية ؟ فهو يجيب أنها لا توجد لا في اللغة ولا في العالم ولا حتى في الذات ، وهذا له ما يبرره عند فتجنشتاين الذي أراد إنقاذ الصورة  المنطقية مما ألصقته بها نظرية الجشطلت لأنها حاولت جعل الشكل أو الصورة مرتبطة أشد ارتباطا بالإدراكات الحسية.

إذن كيف جعل فتجنشتاين الصورة المنطقية مستقلة عن العالم وعن اللغة ثم عن الذات ، في أفق إنقاذها من الإدراكات الحسية التي حاولت نظرية الجشطلت أن تجعلها كبديل لعلم نفس القرن 19 وخاصة النزعة التحليلية منه؟

        لقد جعل فتجنشتاين من الصورة المنطقية البراديغم الأساسي الذي به يمكن الحديث عن المعنى في اللغة ، وكما نعلم أن نظرية المعنى عنده ترتبط أساسا بالقضايا الحقيقية أي قضايا العلم الطبيعي ، الذي يسمح لنا قولها ، وما يسمح لنا قوله رهين بتطابق القضية مع الواقعة ، وهذا التطابق أوضحه فتجنشتاين من خلال نظرية التمثيل ، أي تمثيل القضية للواقعة الأولية الذي لن يقوم إلا إذا كان هناك شيئا مشتركا بين الواقعة والقضية ، وهذا ما عبر عنه من خلال القول " لكي تكون إحدى الوقائع رسما ينبغي أن يكون بينها وبين ما ترسمه شيئا مشتركا"[1] .

بمعنى أن يكون هناك شيء ثابت بين كل من الواقعة والقضية حتى يسمح للقضية أن تصور ما يوجد في العالم الخارجي من وقائع وكأن شيئا من الهوية بينها، ولعل هذا ما أكدت عليه الرسالة ذاتها في إحدى شذراتها "لا بد أن يكون هناك شيء من الهوية بين الرسم والمرسوم حتى يتسنى لأحدهما أن يكون رسما للآخر "[2]

إذن؛ فتجنشتاين يؤكد على ضرورة وجود هوية بين الرسم وما جاء ليرسمه ، لكن ما هو هذا الشيء المشترك أو هذا النوع من الهوية الذي يكون بين القضية والواقعة حتى تقوم عملية التمثيل هذه؟  فالجواب عن هذا السؤال يكون من خلال الرسالة التي تجيبنا من بإحدى شذراتها "والذي لابد أن يكون في الرسم مشتركا بينه وبين الوجود الخارجي لكي يتسنى له أن يمثله بطريقته الخاصة صوابا أو خطأ هو صورة هو صورة ذلك التمثيل"[3]. وبذلك الذي يسمح بعملية التمثيل هو صورة ذلك التمثيل، وهذه الصورة جعلها فتجنشتاين بمثابة الجندي الذي يحمي وطنه من الغزو الخارجي لبلد آخر، وذلك من أجل ألا يضيع بلده في التشرذم ، وهذا التشرذم والضياع هو الذي يجعل اللغة تائهة في اللامعنى ، ولكي لا تتيه هذه اللغة في اللامعنى يجب أن تكون بينها وبين ما جاءت لتمثله صورة ذلك التمثيل، لكن ما هي هذه الصورة في عرف فتجنشتاين؟ "فالصورة هي إمكان قيام البنية[4] ، ثم يضيف "الطرقة التي تتشابك بها الأشياء في الواقعة الذرية، هي ما يصبح بنية الواقعة الأولية"[5].

        القضية  في عرف فتجنشتاين هي التي تبنى من أسماء وحدود مفردة ، وهي الأخرى لا تدل لوحدها ، ثم تشابك هذه الحدود فيما بينها  لتشكل القضية البسيطة باعتبارها بنية ، وإذا كانت إمكانية لقيام هذه البنية بالنسبة للواقعة كما بالنسبة للقضية تكون لدينا الصورة المنطقية كعنصر مشترك بينهما ، والتي بدونها لا يكون لعملية التمثيل وجود ، ولعل هذا ما قصده فتجنشتاين من الشذرة التالية " وما يجب أن يكون مشتركا بين أي رسم مهما كانت صورته وبين الوجود الخارجي حتى يمكن أن يمثله على الإطلاق سواء صوابا أو خطأ، هي الصورة المنطقية أي صورة الوجود الخارجي"[6] .

        وإذا كانت الصورة المنطقية هي ما هو مشترك بين القضية البسيطة والواقعة الأولية والتي من دونها لا تتم عملية التمثيل أو التصوير، فهل يمكن تمثيل الصور المنطقية بواسطة قضايا؟

        فإجابة فتجنشتاين على هذا السؤال تكون بالرفض وذلك من خلال قوله "القضايا يمكن أن تمثل ما يجب أن يكون مشتركا بينها وبين الوجود الخارجي حتى يتسنى لها أن تمثله وهو الصورة المنطقية ، ولكي يمكن تمثيل الصورة المنطقية ، يجب أن يكون في مستطاعنا أن نضع أنفسنا نحن والقضايا خارج المنطق، أي خارج العالم"[7] ، وعدم تمثيل الصورة المنطقية فهو غير متناقض مع فلسفة فتجنشتاين الأولى التي تقر بأن حدود المنطق هي حدود العالم ، وبذلك لا يمكن أن تكون  القضايا التي هي من صميم المنطق خارج المنطق وخارج العالم من أجل تمثيل الصورة المنطقية ، هذا بالإضافة إلى كون الصورة المنطقية ليست واقعة من وقائع العالم حتى يتسنى للقضايا أن تمثلها وهذا ما ذهب إليه فتجنشتاين ذاته عندما قال بأن "القضايا لا تستطيع أن تمثل الصورة المنطقية ، إنما تعكس هذه الصورة نفسها في القضايا"[8].  ولكي نفهم الأمر جيدا سأسوق مثالا إن سمح لي فتجنشتاين بذلك حول الصورة المنطقية فأقول "عثمان و يسين" فهذه قضية بسيطة لها معنى لأنها سليمة من ناحية التركيب المنطقي نظرا لكونها تتكون من حدين مفردين هما عثمان ثم يسين ، و هذه القضية صادقة لأنها تقول واقعة أولية موجودة في العالم ، وبذلك  فهذه القضية تمثل واقعة أولية ، لكن هناك رابط منطقي بين هذين الحدين وهو " و" ، وهذا الرابط المنطقي لا يمكن تمثيله لأنه لا يمثل شيئا وهذا ما أوضحته الرسالة في إحدى شذراتها "إن إمكان القضايا إنما يقوم على مبدأ تمثيل الأشياء بواسطة الألفاظ، وفكرتي الرئيسية في هذا الصدد أن الثوابت المنطقية لا تمثل شيئا، بمعنى منطق الوقائع لا يمكن تمثيله"[9] .

        وأهمية فتجنشتاين هو أنه يركز على الثوابت المنطقية أكثر من تركيزه على القضايا فهو لا يأخذ بالقضية وإنما بصورة القضية أي ما يجب أن يكون متسقا ليس هو القضية وإنما صورة القضية ، والدليل على أهمية الصورة المنطقية رغم أنها لا تمثل واقعة من الوقائع كما أنها لا يمكن أن تقال ، إلا أنا هي المسؤولة عن التطابق بين اللغة والعالم وبذلك لا يوجد مكان خارج هذا التطابق يمكن أن نضع فيه أنفسنا كي نستطيع أن نرسم تلك الصورة المنطقية نظرا لكون هذه الأخيرة تظهر في صورة كل القضايا ، وما يظهر نفسه في القضايا لا يمكن للغة أن تمثله أو أن تقوله ، وفتجنشتاين يقول لنا "بأنه من غير الممكن أن نتحدث بطريقة منطقية عن الصورة المنطقية في إطار فهم صحيح للغة وفي هذه الحالة لا يمكن سوى إظهارها"[10]، والإظهار يتعلق بما يعبر عن نفسه في اللغة ، والصورة المنطقية هي من ضمن ما يتجلى بنفسه في القضية لأنها صفة داخلية للقضايا وهذا أكده فتجنشتاين بقوله "ووجود صفة داخلية لأمر ممكن من أمور الواقع ، لا تعبر عنه بواسطة قضية ما بل هي تعبر عن نفسها في القضية التي تمثل الشيء بواسطة الصفة الداخلية الخاصة بهذه القضية"[11] ، وهي تفيد حسب رأي بلاك "أن مظاهر الصورة المنطقية يتم إظهارها بواسطة المظاهر الصورية للقضايا"[12].

                والصورة المنطقية عند فتجنشتاين فهي تشبه إلا حد ما آلة التصوير الفوتوغرافية ، فنحن عندما نلتقط صورة لمنظر معين ، فهذه الصورة تظهر ذلك المنظر التي التقطته وكأنها الإطار الذي يحتويه ، وهذا الإطار أو شكل المنظر وهو المهم في نظر فتجنشتاين لأنه هو القالب الذي توجد فيه القضية ، وهذه الأخيرة رغم أنها مرآة عاكسة لواقعة من الوقائع ولكنها أيضا عاكسة لصورتها المنطقية من خلال الرموز التي تتكون منها القضية ، وهذا الاختيار لفتجشتاين يوافق منطلق فلسفته التي تطفو عليها الصبغة المنطقية وهذا راجع إلى خصوصية التوجه التحليلي من أجل نقد النزعة السيكولوجية التي خيمت في تناول موضوعات الفلسفة ، فنجد فريجه قد انتقد هذه النزعة وذلك بالعودة إلى منطلقات أفلاطونية ، فكذلك فتجنشتاين لا يخرج عن هذا التوجه النقدي ، إلا أنه ينتقد توجه مخصوص في هذه النزعة السيكولوجية ، وهي نظرية الجشطلت التي هي بدورها أسالت مدادا كثيرا حول تنظيرها لمفهوم الصورة ، إلا أن الاختلاف بينهما نابع من كون نظرية الجشطلت هي تخصص في علم النفس وهي ذات مساهمات عيانية و تجريبية في نظرتها إلى الصورة كإدراك حسي ، في حين فتجنشتاين لا يضع الصورة المنطقية في الإدراك الحسي بل هي تبقى معلقة ، لكن قبل أن نحكم على  نظرية الجشطلت هذا الحكم السريع علينا أن نلقي نظرة  ولو خاطفة على مرتكزات هذه النظرية المعاصرة في علم النفس، فما هي المرتكزات التي تقوم عليها نظرية الجشطلت؟ وكيف جعلت الصورة أو الشكل ذا ارتباط  بالإدراكات الحسية؟

        أولا علينا اعطاء نبذة عن هذه النظرية الجشطلتية التي جاءت هي بدورها كرد فعل ضد اتجاه سيكولوجي عاصف في الحضارة الألمانية و هو الاتجاه الترابطي أو الاستبطاني في علم النفس الذي يركز على تحليل السلوك الانساني، وهذا الاتجاه التحليلي كان يحاكي الفيزياء والكيمياء في نظرتهما  التجزيئية للواقع  "...الذي فرض عليه هذا المنهج التحليلي هو أسلوب الفيزياء والكيمياء التي كانتا تحللان الأجسام إلى جزيئات وذرات كما كانت حتى الفسيولوجيا تعزل أعضاء وتفككها إلى أنسجة، وخلايا ومن هنا كان على علم النفس هو الآخر أن يعزل عناصر ، وأن يكتشف قوانين لإتلافه "[13].  وهذا ما رفضته نظرية الجشطلت بتركيزها على نظرة كلية أو جشطلتيةّ(*) للسلوك الإنساني ، وتزامن ظهور هذه المدرسة نتاج تشعب أفكار برنتانو المؤرخ المشهور لفلسفة أرسطو، و من بين أقطاب هذا التشعب نجد ( Carl Stumpf 1848 - 1936) الذي وضع على كاهله انشاء مختبر لعلم النفس، وقد كان هذا المعهد هو مهد مدرسة الجشطلت التي بلورها stumpf هو وتلامذته المقربون مثل Wertheimer  و Koehler وKurt Kofka  وKurt   Loewin"[14].

        "ومدرسة الجشطلت تنكر على أن يكون الكل هو مجرد حاصل زائد عن مجموع العناصر، وخاصية الجشطلت ليست صفة جديدة مضافة إلى المجموع الذي نستطيع إدراك أحاده بصورة مستقلة ولا يتمتع مجموع العناصر بوجود فعلي فهو دو صفة جشطلتية منذ الوهلة الأولى"[15] ، وهذه النظرة الكلية للسلوك كانت ضد الاتجاه التحليلي في علم النفس الذي خيم على الاتجاهات السيكولوجية في القرن 18 ، وهذا النقد نتاج خصوصية هذه المدرسة نظرا لتشعب وجهة اشتغالها ، ولكونها عملت في حقل التجربة وفي عالم المادة العضوية ثم في العالم الفيزيائي الخالص ، ولعل البداية الأولى لهذه النظرية وبوادرها الجنينية تزامنت مع أعمال Von Ehrenfels الذي نشر مقالا حول "سيكولوجية الجشطلت" وأقر بأن صفة الشكل هي خاصية يملكها الكل و لا يملكها أي جزء من الأجزاء التي تكون هذا الشكل ، وبذلك يمكن القول بأن الجشطلت هي شيء آخر أو شيء يزيد على حاصل جمع أجزائه ، أي خصائص لا تنتج من مجرد جمع خصائص عناصرها لأن الجشطلتات هي متاحة التبدل الوضعي غير مستقرة أو ثابتة في مكان بعينه ، وبذلك تصبح الوقائع النفسية في منظور هذه المدرسة جشطلتات ، لأن المنطلق الذي انطلقت منه هذه الأخيرة هو البنيات بوصفها معطيات أولية " إنها لا تعترف بمادة خلوة من الصيغة بكثرة عمائية خالصة لتبحث بعد ذلك عن القوى الخارجية الغريبة، عن هذه المواد الجرداء، التي بفعلها تتجمع هذه المواد وتنتظم، فليست هناك مادة بغير صيغة"[16] ، وهذه الصيغة أو الشكل التي نادت به نظرية الجشطلت لم تحصر مجاله فقط في علم النفس بل ربطته بالمجال الفيزيائي الخالص والمجال البيولوجي ، لأن أهم ما تركز عليه هذه المدرسة هو الصيغة و البنية ثم الانتظام وهذه المفاهيم هي قريبة من حقل البيولوجا كما أقر غيوم ذاته "إن مفاهيم الجشطلت والبنية والانتظام تنتمي إلى لغة البيولوجيا بقدر ما تنتمي إلى لغة علم النفس فالكائن الحي هو كائن عضوي، هو فرد متمايز عن البيئة، على الرغم من المبادلات المادية والطاقية فيما بينهما، إنه جهاز تتوقف أجزائه من أنسجة وأعضاء على الكل الذي يحدد فيما يبدو خصائص الأجزاء"[17].

        اذن؛ حاولت هذه النظرية أن تجعل من الصيغة ، الشكل ، الانتظام ، البنية ، هي منطلق النظر في كل ما يوجد في العالم الخارجي أي العالم الفيزيائي الذي يظهر ، لأجل تحقيق التوازن الداخلي النفسي بنفس الصيغة ، أي  من أجل تحقيق الانتظام والانسجام بين الإدراك والشيء المدرك ، وإدراك شكل ما هو الذي شكل لب وجوهر ما تدور عليه هذه النظرية ، ولعل السؤال الذي كان يؤرقهم ، كما كان هو منطلقهم هو ما هي الشروط التي يجب توفرها لحدوث جشطلت ما ثم ما هي القوانين التي تحكم تغيراتها؟ هذا بالإضافة إلى "مشكلة الإدراك التي تنحصر في تحديد الانتشار الفيزيائي المثيرات الذي يناظر كل صيغة من الصيغ موضوع الإدراك، ثم تحديد التغيرات التي تطرأ على هذه المثيرات فتغير من بنية الصيغة"[18]،  فنظرية الجشطلت حاولت أن تضع شروط محددة  لإدراك أشكال وصور منتظمة ، وقبل أن نبدأ بتحديد هذه الشروط علينا أن نعرف أن هذه النظرية  تركز  أولا   على واقعية التجربة المباشرة ، أي تبدأ من الظواهر أو التجربة الساذجة ، وهذا الاختيار يتوافق مع الطرح الذي جاءت به هذه النظرية ، لكونها حاولت استبعاد دور الذاكرة المسرف في إدراك الأشكال ، أي استبعاد معرفتنا السابقة عن الشيء الذي ندركه وهذا ما جعلهم يتخذون أنموذجهم الانتظام التلقائي الضروري الذي يتحقق في انتظام فيزيائي أو كيميائي . والشروط التي حددتها هذه النظرية كانت انطلاقا من عدة تجارب أجرتها بخصوص  علاقة الصورة أو الشكل بالقاع أو الأرضية ، لتميز بين الصورة والحقل التي توجد عليه  الصورة ، وهذا من أجل أن يكون الإدراك واضحا ومتميزا ، ولن يحدث هذا الوضوح والتميز إلا إذا كان هناك اختلاف ذاتي بين الشيء الذي ندركه والخلفية التي يوجد عليها هذا الشيء ، ولقد ابرز بول غيوم مثالا ل Rubin  الذي ميز بين الشكل والقاع، وتوصل إلى كون الشكل له صيغة أما القاع فلا صيغة له ، لأننا في نظره لا نستطيع أن نرى في نفس الوقت كل من الصورة والقاع ، لذلك نجد "الصورة عادة موحدة الأجزاء تبدو ذات شكل وحدود ، في حين تبدو الخلفية مساحة لا حدود لها ، ولذلك فالصورة أقدر على اجتذاب الانتباه من الخلفية"[19] ، التمييز بين الصورة والخلفية لا يقتصر فقط على الأشكال المرئية ولكنها خاصة بالنسبة لكل الحواس وحتى الأصوات الموسيقية وهذا ما أوضحه غيوم من خلال  عرضه لتجارب ليمان وأردف قائلا" فكل شيء نحسه لا يمكن أن يوجد إلا بالنسبة إلى قاع ما، وهذا القول ينطبق ليس فحسب على الأشياء المرئية وإنما أيضا على كل ضرب من الأشياء والوقائع المحسوسة، فالصوت الموسيقي ينسلخ متميزا فوق قاع يتكون من أصوات أخرى أو فوق قاع من الضجيج أو السكينة، كما ينسلخ الشيء المرئي متميزا فوق قاع مضيء أو مظلم"[20] ، وهذا التمييز يجعل إدراكنا الحسي أكثر وضوحا ، كما يجعلنا نركز أكثر على الصورة التي تطفو على الخلفية كشكل أو كصيغة أكثر انتظاما ، وليس هذا فحسب ، بل تذهب نظرية الجشطلت أكثر من ذلك إلى الانتظام الداخلي للشكل الذي يتعلق بمعرفة الشروط الضرورية لتكوّن مجموعة ما وقد، أورد غيوم مثال حول مجموعة النقط لفرتهايمر، لكي يوضح هذه الشروط التي قد أوردت في ثلاث شروط أولها وجوب تقارب لهذه النقاط ثم ثانيها تشابه النقاط ، وذلك راجع إلى كون الخلفية أو القاع إذا احتوى على نقاط مختلفة اللون فإن المتشابهة منها ترى وكأنها تكون مجموعة، ثالثا وجوب تكوين النقاط شكلا مغلقا أي متناسقا وخاليا من الثغرات "إن الجشطلتي لا يفسر النزعة الطبيعة نحو إغلاق الثغرات كما يفسرها الآخرين على أنها نتيجة لخبراتنا الماضية وتعاملنا بالكليات ، بل إنه يعتقد أنها تمثل الديناميكية الداخلية للدماغ في استقبالها كتلة مؤثرة عن طريق العين ، إنه يعتقد أن العمليات الدماغية تسد الثغرات"[21] ، وهذه النزعة التي تدعو إلى تجاوز الثغرات تواز الطرح إلى تجاوز عدم الانتظام من أجل تقديم صورة على أحسن حال ممكن من الانتظام.

 ان ما ينبغي التأكيد عليه بخصوص نظرية الجشطلت وأصالتها في علم النفس هو تركيزها الأساسي على الصورة التي تظهر من خلال مجال الرؤية بقطع النظر عن معاني تلك الصور كأشياء أي علينا أن ندرك فقط ما تظهر لنا أعيننا ، هذا بالإضافة إلى كون هذه النظرية قد ربطت الصورة بمجال الإدراك الحسي ، أي الذي يعطينا الصور هو الإدراك الحسي من خلال شروط قد حددتها هذه النظرية ، وارتباط الصورة أو الشكل بالإدركات الحسية هو راجع إلى اقتران العين بما تدركه ، وهذه الأخيرة حتى لو لم تجد الشكل أو الصورة فهي تلصق صورة على الشيء المرئي وهذا، ما يظهر من خلال رؤيتنا لأشياء تتحرك بسرعة.

اذن؛ نظرية الجشطلت جعلت الصورة في الادراك الحسي من أجل تجاوز النزعة التحليلية في علم النفس ، واعتبار الصورة أو الشكل في الادراك الحسي هو ما انزعج له فتجنشتاين الذي رفض أن يلطخ الصورة المنطقية بكل ما هو عياني أو تجريبي ، هذا راجع إلى المنطلق المنطقي الذي تبناه من أجل نقد النزعة السيكولوجيا التي ترجح جانب الذات في ادراكها للأشكال ، والذات عند فتجنشتاين تختلف عن نظرة السيكولوجيين لها فهو ينكر الذات بالمعنى السيكولوجي من خلال قوله" أنه لا وجود لشيء مثل الروح ، أو الذات كما هي معروفة في علم النفس السطحي المعاصر"[22] ،  نظرة فتجنشتاين للذات مختلفة عن رواد هذه المدرسة  لذلك تعد  حد للعالم ، "إن الذات لا تتصل بالعالم بقدر ما هي حد للعالم"[23] ، وهو يشبه الذات بالعين ومجال الرؤية، فالعين لا يمكن أن نراها ولا يمكن أن نستدل على أن الذي رأيناه هو العين ، هذا دليل على كون الذات حد للعالم وليس جزء فيه، وكان هذا الاختيار لفتجنشتاين من أجل أن يعطي أنا غير سيكولوجي أكدته إحدى شذرات الرسالة التي تقول " فهناك في الحقيقة معنى في الفلسفة ، على أساسه نستطيع أن نتحدث عن أنا غير سيكولوجي، فالأنا ترد في الفلسفة من خلال الحقيقة التي تجعل العالم عالمي ، والأنا الفلسفية ليست هي الإنسان ، ولا الجسم الإنساني ، أو الروح الإنسانية التي يتناولها علم النفس ، إنما هي ذات ميتافيزيقية ، إنها حد للعالم لا جزء عنه"[24] ، ففتجنشتاين يتبنى تصورا مخالفا للذات عن ما هو عليه تصور علماء النفس لها ، هذا بالإضافة إلى نظرته المختلفة عن سيكولوجية الجشطلت في جانب الإدراك ويتجلى هذا الاختلاف من خلال الرسالة التي تقول في إحدى شذراتها "ولئن تدرك مركب ما- فإن هذا يعني أن تدرك أن مكوناته قد ارتبطت على نحو معين هو كذا وكذا"[25] ، وارتباط مكونات هذا المركب على نحو معين هو ما يسمى بالبنية ، أي إدراك طريقة ترابط مكونات هذا المركب وهذا الإدراك ليس حسي بل هو منطقي أي إدراك مكونات هذا المركب المنطقية، وبذلك فالصورة المنطقية لدى فتجنشتاين لا ترتبط بالإدراكات الحسية ولا حتى بالذات لأن الذات هي في نظره حدا للعالم ، ونعلم أن هذه الأخيرة (أي الصورة المنطقية) هي التي تجعل التطابق بين اللغة والعالم ممكنا إلا أنها لا توجد في العالم ولا في اللغة ولا في الذات، وهذا ما يجعل الصورة المنطقية عند فتجنشتاين معلقة على العكس من مما فعلته نظرية الجشطلت التي ربطت الصورة بالإدراكات الحسية ، و فتجنشتاين قد تعمد على أن يعلق الصورة المنطقية لكي لا تخضع إلى مفاهيم سيكولوجيا، وهذا التعليق هو ما أنتج له ميتافيزيقا الصورة المنطقية ، رغم أنها هي التي تعطينا معنى في اللغة إلا أنها لا تحمل معنى وما لا يحمل معنى هو يظهر بذاته ، وكان الأهم في نظره هو الصورة المنطقية لأنها هي التي تعطينا شكل القضية ومن خلالها نحكم على القضية هل هي تحمل معنى أو لا، لكن على الرغم من أن الصورة المنطقية هي التي تعطينا معنى إلا أنها لاتحمل معنى، ولعل هذا ما جعل فتجنشتاين يختم الرسالة بالقول "إن قضاياي لتوضيح الموقف على النحو التالي ، إن من يفهمني سيعلم آخر الأمر أن قضايا كانت بغير معنى، وذلك بعد أن يكون قد استخدمها سلما في الصعود ، أي صعد عليها ليتجاوزها"[26].
إذن؛ فتجنشتاين بقي وفيا لتصوره للغة وخاصة الصورة المنطقية التي لا تمثل شيئا، وهي بذلك من مما لا يقال في اللغة وما لا يقال لا معنى له في نظر صاحب الرسالة بل فقط نكتفي بإظهاره ومن الإظهار انتقل فتجنشتاين إلى الصمت كما عبرت عنه آخر قضية في الرسالة.
خلاصة القول أن النقاش الذي خاضه فتجنشتاين مع نظرية الجشطلت بخوص الصورة أو الشكل الذي جعلته نظرية الجشطلت ذا ارتباط بالإدراك الحسي وهذا الآخير هو ما وضعت فيه نظرية الجشطلت الشكل أوالصورة ، في  حين ذهب فتجنشتاين على العكس من ذلك لكونه لم يخصص مكان ما لكي يضع فيه الصورة المنطقية وهذا نابع من توجهه المنطقي الذي يركز على صورة القضية بغض النظر عن مضمونها وهذه ما انتج لديه ميتافيزيقا الصورة المنطقية لدى فتجنشتاين باعتبارها تفهم ولا تقال.

فتجنشتاين( لودفيج)، رسالة منطقية - فلسفية ،تر،ع زمي إسلام، مراجعة زكي نجيب محمود، مكتبة الانجلو مصرية القاهرة، 1968، العبارة 2 ,16 [1] .                                                                                                                                                         
المرجع نفسه ، العبارة ، 2,161. [2]
. 2.17 المرجع نفسه، العبار ة، [3]
المرجع نفسه، العبارة 2,033. [4]
المرجع نفسه، العبارة 2,032. [5]
المرجع نفسه، العبارة 2,18 . [6]
المرجع نفسه ، العبارة 4,12. [7]
 المرجع نفسه، العبارة 4,121. [8]
 المرجع نفسه، العبارة 4,0312. [9]
 حمود (جمال)، فلسفة اللغة عند لدفيج فتجنشتاين، منشورات الاختلاف، الجزائر العاصمة،ط1، 2009 ، ص224. [10]
  الرسالة، مرجع سبق ذكره، العبارة 4,124.  [11]
حمود جمال، فلسفة اللغة عند لدفيج فتجنشتاين ، مرجع سبق ذكره، ص224. نقلا عن:                                                                 :
Black.M :A Companion to Wittgenstein’s Tractatus, Cambridge University Press,1971,p.197 [12]
 غيوم( بول)،علم نفس الجشطلت،ترجمة، صلاح مخيمروعبده ميخائيل، مراجعة يوسف مراد، مؤسسة سجل العرب القاهرة،1963 ،ص17.  [13]
 الجشطلت بالألمانية على الرغم من أنها لا تناظر تماما الكلمة الألمانية  Gestltheorie وفي الفرنسية تستخدم كلمة Forme  بمعنى الصيغة  (*(
    "جشطلت"، وقد يكون من الأفضل ترجمتها بالفرنسة.   Structture بمعنى بنية أو  Organisation بمعنى انتظام.
بناني (عز العرب لحكيم )، الظاهراتية وفلسفة اللغة، (تطور مباحث الدلالة في الفلسفة النمساوية)، إفريقيا الشرق-المغرب 2003ص9. [14]
 المرجع نفسه، ص9-10.  [15]
غيوم بول، علم نفس الجشطلت، مرجع سبق ذكره، ص33. [16]
المرجع نفسه، ص35.   [17]
المرجع نفسه، ص34. [18]
 عاقل (فاخر)، مدارس علم النفس، دار العلم للملايين، بيروت-لبنان، ط7، 1987،ص155.[19]
 غيوم بول، علم نفس الجشطلت، مرجع سبق ذكره، ص86. [20]
 عاقل فاخر، مدارس علم النفس، مرجع سبق ذكره، ص156. [21]
 الرسالة، مرجع سبق ذكره، العبارة 5,5421.[22]
 المرجع نفسه ، العبارة 5,632.[23]
المرجع نفسه، العبارة 5,641.[24]
 المرجع نفسه، العبارة5,5423 .[25]
 المرجع نفسه، العبارة6,54 . [26]