عن أكاديمية
مدونة لعرض مساهمات الفكر الإنساني في مجال الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع.
1. تعريف الإبستمولوجيا:
تعني الإبستمولوجيا اشتقاقيا ” دراسة العلم ” ، وهي ابتكار جديد كفرع من فروع الدراسات الفلسفية ، ويبدو أن لا ضرورة لهذا المبحث ؛ ففي عصرنا يتم تقديم العلم لكل واحد منا باعتباره مجموعة واضحة ، منظمة ومنسجمة من النتائج التي تفرض ذاتها علينا كحقائق، وإذا قبلنا بدون فحص ، تعريفا كهذا للعلم ، فإننا لن نستطيع أن نفهم لماذا يتحتم اعتبار العلم موضوعا للدراسة؛ فقانون سقوط الأجسام ، متى تم التوصل إلى المعادلة الرياضية المعبرة عنه ، ومتى تم التأكد منه تجريبيا عن طريق ( جهاز نيوتن للسقوط الحر ) ، بحيث يضحي قانونا عاما ، فإنه لا يستدعي بعد ذلك أية تعاليق أو أبحاث أخرى.
ومع ذلك ، فالعلم لا يعطينا ـ ما عدا في المقررات الدراسية التي هي بالضرورة بيداغوجية ودوغماطيقية ـ طابع اليقين والموضوعية المطلقين دائما : فلا وجود لنظرية علمية تقوم على مبادئ مصاغة بشكل دقيق ومنسجمة فيما بينها، و لا يهتم العلم بما إذا كان من الممكن أن تعرف كل مناهج الاكتشاف والتجربة بدون نقد سابق ذي علاقة بموضوعها. وأخيرا ، فإن النتائج التي يستخلصها العالم من بحث علمي ما ، وكذا التعميمات التي يقوم بها انطلاقا من اكتشاف ما ، هي دائما أبعد من أن تكون مؤسسة ، وإنه لعلى هذه المستويات الثلاث من البحث العلمي تحتل أولا الإبستمولوجيا مكانتها ، مما يمكن من تعريفها بأنها الدراسة النقدية لمبادئ العلوم ومناهجها ونتائجها: ” إن معرفة الواقعي ـ كتب جاستون باشلار ـ هي نور يلقي دائما ، وفي مكان ما بعض الظلال ” [ ” تكوين الروح العلمية ” ص 13] ، إن هذه الظلال هي التي تستخدم الإبستمولوجيا النقدية لاكتشافها وإماطة اللثام عنها.
غير أنه يوجد شكل ثان من الإبستمولوجيا يمكن أن نسميه بكل بساطة بالإبستمولوجيا التكوينية Constitutive : حيث إن العمل النقدي للإبستمولوجيا لا يبدأ فقط عندما ينتهي العلم ، إنه ليس عمل فيلسوف العلم خاصة ، إذ إنه يعلن عن ذاته أيضا أثناء عملية الصياغة ذاتها للنظرية ، هذه الإبستمولوجيا التكوينية هي مرتبطة بشكل جوهري بالممارسة العلمية : فلم يكن بمستطاع جاليلي مثلا أن يصوغ قانون سقوط الأجسام ما لم يكن ، وبشكل مواز ، قد قام بنقد المفهوم الأرسطي ل ” الجاذبية ” وأسس أيضا الديناميكا المعاصرة على أساس مفهوم جديد للحركة.
إن الدراسة النقدية للعلم ، والتي تمثلها الإبستمولوجيا ، بعيدة عن أن تكون سلبية بشكل خالص ، وعن أن تؤدي بنا إلى الشك ؛ فهي تظهر كمساهمة ضرورية وكعمل مجد بالنسبة للعمل العلمي.
وتأسيسا على ما سبق وقيل ، فإننا نرى على أن الإبستمولوجيا تنتمي في آن واحد إلى كل من الفلسفة والعلم : إنها تنتمي للفلسفة باعتبارها دراسة للفكر والبحث العلميين ( الفيلسوف هنا يلاحظ عمل العالم لمعرفة خصوصية المعرفة العلمية وما يميزها عن الحس المشترك ) ، وتنتمي إلى العلم باعتبارها تدعي القيام بدراسة علمية للعلم ، والقدرة على تحقيق صرامة مشابهة لصرامة العلم فيما يخص بناء مفاهيمه وطرق استدلاله ، إن لم يكن بنفس موضوعية العلم ذاته ، وأيضا باعتبار رغبتها في أن تكون معيارا لصلاحية مفاهيمه ومناهجه ، بل ونتائجه أيضا.
ولو أن هذه التعددية في اهتمامات الإبستمولوجيا شكلت غالبا نقطة اصطدام في ما بين الفلاسفة والعلماء ، فإنها سمحت بإدراك أن الإبستمولوجيا ليست مبحثا موحدا أو واحدا ، وإنما هو مبحث شديد التنوع بالنظر لتنوع مقترباته : والدليل على ذلك هو استنادها لمباحث جد مختلفة وغالبا علمية لممارسة إجراءاتها؛ ألن يدهشنا كون موسوعة للإبستمولوجيا يمكن أن تتضمن عناوين مختلفة لها من قبيل ” منطق الاكتشاف العلمي ” ، ” الأسس الفلسفية للفيزياء ” ، ” العلم والمجتمع ” ، ” مساهمة في تحليل نفسي للمعرفة الموضوعية ” ، ” عناصر تاريخ الرياضيات ” . . . الخ.
إننا نرى بفعل هذا التعداد البسيط أن الإبستمولوجيا مبحث متعدد الأشكال ، وأنه تبعا للحاجة يقدم على أنه ” منطق ” ، ” فلسفة المعرفة أو نظرية للمعرفة ” ، ” علم اجتماع ” ، ” علم نفس ” ، ” تاريخ ” . . . الخ.
سنلامس في بحثنا هذا كل هذه المقاربات ، وأهمية كل واحدة منها ستقاس بمدى خصوبتها ، ومن اللائق أن نفرد مكانا خاصا على حدة لتاريخ الفكر العلمي : هذا المبحث الذي هو مبحث حديث ، لا يستجيب فقط لشغف بالوقائع أو أفكار الماضي ، وإنما وأيضا ، وفي الغالب ، لأهداف التنقيب والاكتشاف والبيداغوجيا.
للاكتشاف : لأننا نرى جيدا وغالبا علماء يصعدون مجرى التاريخ والعصور للكشف عن / أو لتأكيد مبادئ علمهم ، أو لاكتشاف سند تاريخي لهذه المبادئ ( إنها حالة نعوم شومسكي مؤسس علم اللغة العقلاني ) .
للبيداغوجيا : لأن ما يدرس من العلم ليس في غالب الأحيان إلا نتيجة المحاولة والأخطاء المصححة.
إذا كان من غير الممكن التقليل من قيمة ما يسميه ج.باشلار ( العلم المدرَس ) والذي يمكن التلميذ ، بفضل بساطته وصوريته الرائعة غالبا ، باقتصاد المراحل الطويلة التي كان على العلم أن يقطعها لكي يكتمل بناؤه ، فإنه سيكون مثمرا أن المتعلمين كالمعلمين يستطيعون تقديم العلم لا كمجموعة نتائج موضوعية ونهائية بشكل مطلق توفرت من حقيقة لا تاريخية مجهولة ، غباء القرون الأولى هو الذي حال وحده ذون اكتشافها مبكرا، ولكن كما هو في الواقع ؛ أي بحث يقود نحو الخطأ أكثر مما يقود نحو الحقيقة ، تلك الحقيقة التي لم تكتمل أبدا ، والتي عليها تجاوز عوائق هي متجددة على الدوام.
من جهة أخرى ، يملك تاريخ العلم صلاحية توضيح أن الأبحاث ، كالاكتشافات العلمية ، هي دائما مرتبطة بتصور للعالم محدد تاريخيا ، وأنه بالعكس ، لا تظهر الثورات العلمية أبدا إلا كنتيجة لقطائع تخص هذه التصورات عن العالم ذاتها.
سنحاول فيما يلي أن نمثل لهذه الأبعاد المختلفة للإبستمولوجيا .
1. ضرورة الإبستمولوجيا:
ليس العلم إيجابيا بشكل تام .
إذا كانت الإبستمولوجيا النقدية ، كما هو شأن الإبستمولوجيا التكوينية ، تبدو اليوم كضرورة ، وإذا كان العلماء ، وكذا الفلاسفة ، منذ وجد العلم ، عن وعي منهم أو بدونه ، لم يتوقفوا عن ممارستها ؛ فذلك لأن المعرفة الإيجابية ، أي تلك التي ننظر إليها كما لو كانت نهائية و لا يمكن المساس بها ، بمقدار ما لا يمكن أيضا أن تكون في يوم من الأيام موضوع تساؤل أو إعادة بناء على قواعد جديدة ، هي أبعد عن أن تكون كل المعرفة العلمية التي ليست حقلا مغلقا ، وإنما هي على العكس من ذلك مجال مفتوح بشكل واسع أمام عمليات الدحض والتفنيد.
إن روبير بلانشي يعبر بامتياز عن هذه الفكرة في النص التالي، وسنكتفي بإضافة مثالين بسيطين لهذا النص : ففي نهاية القرن الأخير ، تم إخضاع الميكانيكا النيوتونية للتساؤل عن طريق تجارب ونظرية معينين يبدوان على الأقل متناقضين معا ، إلى حد أن أدى ذلك إلى خلق ما سمي تاريخيا بـ ” أزمة الفيزياء “. ونحن نعلم من جهة أخرى أن القرن 19 كله اتسم بصراعبلا هوادة بين نظريتين متناقضتين حول التطور ، وأنه لم يتم التخلي عن إحدى هاتين النظريتين إلا مؤخرا ـ وهي النظرية اللاماركية ـ لصالح النظرية الأخرى ، أي النظرية الداروينية. لا يجب أن يقودنا هذان المثالان نحو تشاؤمية جذرية ، باسكالية بمعنى من المعاني ، تشاؤمية تزيح عن العلم إمكانية ” المعرفة المؤكدة ” : إن اكتشافا ما أو نظرية علمية ليسا أبدا ، وبشكل تام مكذبين ، عندما يتم اختبارهما بشكل كاف عن طريق الزمن والتجربة ، ولكنهما دائما خاضعان لعملية إعادة النمذجة والتكوين ليتم إدراجهما ، بصفتهما معرفة خاصة ، في مجموع أوسع من المعارف ، ومهمة افبستمولوجيا هي أيضا المساهمة في إعادة البناء تلك للمعرفة.
2.الإبستمولوجيا : دراسة المبادئ.
1.2. المبادئ الميتافيزيقية:
يقوم كل علم على مبادئ غير مبرهن عليها ، وذلك إما بشكل ضمني أو صريح ، ويقبلها العالم كبديهيات : وأولى اهتمامات الإبستمولوجيا النقدية هي إخضاع هذه المبادئ ذاتها للفحص النقدي.
ولتوضيح هذه المسألة اخترنا المثال الآتي نظرا لبساطته النسبية ، وهو يتعلق بدراسة الحركة. في هذا الميدان الفيزيائي يمكن الإشارة إلى عالمين بارزين هما : أرسطو ( 384 ـ 322 ق.م ) والذي استمر تأثيره في أوربا حتى القرن 16 . وجاليلي ( 1564 ـ 1642 ) والذي يعتبر مؤسس الميكانيكا الكلاسيكية . وستبين قراءة نصوصهما كيف أن نظرياتهما مؤسسة على مفاهيم وتصورات للطبيعة تتجاوز بعموميتها الميتافيزيقية إطار موضوعهما العلمي الخالص.
أ. أرسطو أو فيزياء الكيفيات:
للحركة المحلية (= ما يؤدي بشيء ما لتغيير مكانه ) بالنسبة لأرسطو ، بادئ ذي بدء ، علة داخلية (= تقيم بداخل الجسم الذي هو في حالة حركة ) ، وهذا ما يميز نظريته عن نظرية الفيزياء الكلاسيكية التي انشغلت بوصف الظواهر ، أكثر مما انشغلت بالبحث عن أسبابها : لقد قرر أرسطو أن كل الأشياء تنحو وتنزع من تلقاء ذاتها نحو ” مكانها الخاص ” (= مكانها الأصلي ) ، وهكذا تنحو الأجسام الثقيلة نحو الأسفل ( الأرض ) ، وتنحو الأجسام الخفيفة نحو الأعلى ( السماء ) . والأجسام التي لا تتواجد في مكانها الطبيعي ليست ثقيلة أو خفيفة إلا بالقوة ( حيث يمكن أن تصعد إذا كانت خفيفة أو تنزل إذا كانت ثقيلة)، وليست هي كذلك بالفعل ( ولن تستطيع أن تحقق طبيعتها ) إلا عندما تلتحق بمكانها الأصلي.
وبجانب هذه العلة الذاتية للحركة (= المرتبطة بطبيعة الأشياء وبجوهرها وماهيتها ، ومن هنا ارتباطها بميدان الضرورة ) ، يميز أرسطو علة خارجية (= غير مرتبطة بذاتية الأشياء) : فوضعية الأجسام الثقيلة غير الساقطة ، والأجسام الخفيفة غير الصاعدة ، ليست إلا وضعية متأتية عن عائق يعوق حركتها الطبيعية ( فيمكن مثلا الاحتفاظ بتمثال معلق بواسطة عمود . . . إلخ) . إن العلة العرضية للحركة هي تلك التي تقصي هذا العائق أو تلك التي تعارض الحركة الطبيعية ( فعل إطلاق حجر وتركه يسقط أو رميه في الفضاء).
سنلاحظ من خلال قراءتنا للنص التالي أن هذه النظرية المتأتية عن الحس المشترك ، والتي تتوصل مع ذلك إلى تفسير مجموع الظواهر الملاحظة بصورة متماسكة ، تستند بشكل كلي على عدة مبادئ :
– مبدأ جوهري ( الجوهر ) يعزو علة الحركة إلى بعض الخصائص الذاتية للأجسام: فالأجسام تسقط لأنها ثقيلة. و لا يحدد هذا المبدأ فقط كل فيزياء أرسطو ، وإنما أيضا كل الفلسفة الأرسطوطاليسية. إن الخاصية الذاتية أو الجوهرية تفسر كل شيء : الرخام بارد بسبب ” برودته ” ، العبد عبد بسبب ” عبوديته ” . . . إلخ.
– مبدأ غائي: بفضله نعتبر كل الأشياء، طبيعية كانت أم اصطناعية، موجودة بغرض تحقيق غاية معينة (=هدف): ورقة الفاكهة لحماية الفاكهة، المنشار من أجل النشر. . إلخ.
– مبدأ كوسمولوجي: (= يحدد نظرة منظمة للكون ) وفق هذا المبدأ لكل شيء في الطبيعة مكانه ووظيفته المحددين مرة واحدة وبشكل نهائي. هكذا يتم تصور الحركة كمعبر بين حالتين أو شكلين من أشكال الوجود : أي العبور من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل ، وكل شيء بالنسبة لأرسطو يوجد في مكانه وإليه يعود.
2.تصعد الأجسام أو تسقط حسب نزوعها الطبيعي.
” لنبحث لماذا تتحرك الأجسام الخفيفة والأجسام الثقيلة نحو مكانها الطبيعي؟ .. إن سبب هذه الظاهرة هو أن الثقيل والخفيف هما بالطبع والجوهر محددين أحدهما بالأسفل والآخر بالأعلى. ‘ن الأجسام خفيفة أو ثقيلة بالقوة وبأشكال متعددة: ( . . . ) إن جسما في الحالة السائلة ليس خفيفا بداهة إلا بالقوة. وفي الحالة الغازية هو ليس كذلك أيضا إلا بنفس الصورة ( لأنه من الممكن أن يحال دونه والصعود ) ، لكن إذا ما أزيح هذا العائق ، فغننا سنراه خفيفا بالفعل، ما دام سيوجد في الأعلى. وهكذا أيضا، فإن الكيفية بالقوة تصبح كيفية بالفعل ـ كما أن ملكة المعرفة تتحول إلى معرفة في حالة إذا لم يكن هناك ما يعارضها ـ والكمية تتحول بنفس الطريقة.
إن إزاحة مقاومة العائق للحركة هي بمعنى من المعاني سبب الحركة، وهي بمعنى آخر ليست كذلك ، مثلا : إن من يقوض عمودا أو ينتزع ثقلا من على قربة هوائية في الماء ليس إلا سببا عرضيا للحركة ، مماثلا لكون أن رامي الكرة هو سبب حركة هذه الأخيرة ، وليس الحائط الذي يعكس حركتها.
إن أيا من هذه الأجسام لا يتحرك من تلقاء ذاته، وهذا بديهي، إنها ( الأجسام ) تمتلك في ذاتها مبدأ للحركة ليس فعالا ولكنه منفعل، ليس من أجل الحركة أو إنتاجها، ولكن لتلقيها. وبما أن كل الأجسام موضوع الحركة هي متحركة إما بحركة ناشئة عن عنف مضاف إلى طبيعتها ، وإما بحركة طبيعية ، وما دامت الأجسام الأوائل متحركة كلها بواسطة سبب غريب عنها ، في حين أن الأجسام الثواني ، سواء كانت متحركة أو غير متحركة من تلقاء ذاتها ، تتحرك هي أيضا بواسطة سبب خارجي ـ وهكذا تحدث حركة الأجسام الخفيفة والأجسام الثقيلة التي تتمثل أصول حركتها في العلة المولدة والفاعلة لخفتها أو ثقلها ، أو في العلة التي تزيح العائق والحائل دون حركتها ـ ، فلكل حركة إذن علة خارجية غريبة”.
ب. جاليلي أو فيزياء الكميات:
لقد رأينا مع أرسطو كيف يمكن أن تقود مبادئ مغلوطة نحو معارف مغلوطة ، ومن المثير الوقوف على أنه يمكن أحيانا أن يصاغ قانون علمي بصورة صحيحة انطلاقا من مبادئ هي أكثر قابلية للتنازع والاعتراض.
وهاك مثالا على ذلك : في النص الموالي ، يفسر جاليلي ( 1564 ـ 1642 ) كيف اكتشف أن الأجسام تسقط تبعا لحركة متسارعة بانتظام، هذا الاكتشاف الذي هو نتيجة ملاحظة أمبريقية (= مؤسسة على التجربة ) ( ويمكن لأي شخص أن يرى بعينيه أنه كلما سقط جسم ما من مكان أكثر علوا ، كلما كانت سرعته أكبر عند الوصول) من جهة ، ونتيجة استنتاج منطقي من جهة أخرى ، انطلاقا من مبدأ ميتافيزيقي يقول : إن الله أو الطبيعة ” تحب ” اليسر والبساطة. وهذا دليل على أن العلم ، وحتى العلم الأفضل ( جاليلي هو مؤسس الفيزياء المعاصرة) ، لا يمكن أن يستغني عن الافتراضات.
سنلاحظ أن المبدأ الذي تقوم عليه الفيزياء الجاليلية هو في نفس الآن منبع ومصدر الاكتشاف ، وحد يرسم حدود المعرفة : فهو مصدر للاكتشاف لأن جاليلي استنبط منه إمكانية التعبير الرياضي عن القوانين الفيزيائية عموما ، وهو حد للمعرفة ؛ لأن هذا المبدأ يحرم ويحظر توضيح الظواهر المعقدة والمركبة ( اعتقد جاليلي أن الكواكب ترسم مدارات دائرية بدعوى أن الدائرة والخط المنحني المغلق هما الأكثر بساطة).
3. تحب الطبيعة القوانين البسيطة.
” إن التفكير ، أو إن شئنا ، الاتجاه العقلي لدى جاليلي ليس رياضيا خالصا ، إنه فيزيائي ـ رياضي. لقد انطلق جاليلي بدون شك من فكرة متصورة مسبقا ، لكنها تشكل عمق فلسفته الطبيعية ، وهي أن قوانين الطبيعة هي قوانين رياضية ، وأن الواقعي يجسم الرياضي. أليس لدى جاليلي أيضا مسافة بين التجربة والنظرية . إن النظرية، المعادلة، لا تنطبق على الظواهر الخارجية، إنها ” تنقذ ” هذه الظواهر، إنها تعبر عن جوهرها. إن الطبيعة لا تجيب أبدا إلا على أسئلة مصاغة بلغة رياضية؛ ذلك لأن الطبيعة هي مملكة القياس والنظام، وإذا كانت التجربة تقود هكذا ( كشخص يقودك بشد يدك ) المحاكمة العقلية والاستدلال ، فإنه في التجربة الممارسة بإحكام ، أي على مسألة موضوعة بشكل جيد ، تكشف الطبيعة جوهرها العميق والذي لا يستطيع تفهمه إلا المثقف العارف بالأمور.
يخبرنا جاليلي بأنه ينطلق من التجربة ، ولكنها ليست ” التجربة ” الخالصة للحواس ، هذا المعطى الذي عليه أن يطابقه أو يلائمه مع التعريف الذي يبحث عنه ، إنها ليست شيئا آخر سوى القانونين الوصفيين ـ قانونا علامات ـ السقوط واللذين هما في حوزته مسبقا.
يخبرنا جاليلي أيضا أنه منقاد بواسطة فكرة البساطة ( . . . ) بساطة واقعية إن صح التعبير، تطابق داخلي مع الطبيعة الجوهرية للظاهرة المدروسة.
هذه الظاهرة الواقعية هي الحركة، وجاليلي لا يعرف كيف تحدث ، و لا كيف ـ وتحت تأثير أية قوة ـ يحدث التسارع ( . . . ) كيفما كان الأمر، فإن المسألة تتعلق بظاهرة واقعية، بظاهرة تحدثها الطبيعة واقعيا، الأمر الذي يعني حدوثها بفعل شيء يحدث في الزمن.
إن الحركة قبل كل شيء هي ظاهرة زمنية ، إنها تحدث في الزمن ، وانطلاقا من الزمن سيحاول جاليلي أن يعرف جوهر الحركة المتسارعة، ليس بعامل المسافة المقطوعة ؛ فالمسافة ليست إلا ناتجا ، ليست إلا حادثة سير ، ليست إلا علامة على حقيقة جوهرية زمنية.
إننا لا يمكننا، وتلك حقيقة، تخيل الزمن، وكل تمثل بياني سيقارب دائما خطر الانزلاق إلى هندسة مبالغ فيها. غير أن المجهود المسنود للعالم من طرف الفكرة المتصورة والمتفهمة لخاصية الاستمرارية في الزمن، يمكنه وبدون خطر، أن يرمز إليه بالمسافة. إن الحركة ذات التسارع المنتظم ستكون إذن كما ستكون بالعلاقة مع الزمن.
إن كون جاليلي استطاع ، أو عرف ، كيف يتجاوز كل تمثيل تجسيدي لنمط حدوث الحركة أو التسارع ( قوة ت جاذبية . . . إلخ) مكنه من الحفاظ على توازنه في هذه الحدود الضيقة كحدود شفرة ، أو إنه في فعل الحركة يلتقي كل من الواقعي والرياضي”.