الأربعاء، 12 أبريل 2017

العنف الرقمي سعيد يقطين



أفتح بين الفينة والأخرى بعض مواقع التواصل الاجتماعي لمتابعة ما يجري فيها من نقاشات، للتعرف على الجديد، أو الاطلاع على ما يصلني من رسائل. تبين لي، من خلال المتابعة، أن ما أسميته «الإحماض» سائد في العديد من الرسائل المتوصل بها. فأضحك وأشارك. ولما كان نادرا ما تصلني معلومات جديدة ومفيدة، استنتجت أن ذلك الإحماض لا يوازيه، كما ونوعا، سوى العنف وخطابه.
وفي بعض الفترات التي يهيمن فيها حدث طارئ يثير تناقض التصورات وتعددها لا أجد نفسي إلا مكرها على عدم متابعة ما يجري. فما كان ضحكا مستحبا، مع الإحماض، يصبح حزنا وتقززا مع العنف.
بين الضحك الذي يولده الإحماض، والحزن الناجم عن العنف مسافة ضيقة، فهما دالان لمدلول واحد: رد فعل تجاه حدث، يعكس ذهنية اجتماعية ونفسية مشتركة. فعندما يكون حدث سياسي أو اجتماعي ما مثيرا لردود أفعال أجدني أمام صور وتعليقات، أو فيديوهات تعرض خطابات «غرائبية» لسياسيين أو وعاظ؟ لا يمكن سوى أن تدفع إلى الابتسام الذي يخفي سخرية، أو الضحك الذي يوصل إلى الانفجار. وبإزاء حدث آخر، أراني أتابع تعليقات طويلة هدفها الإقناع والإفحام، ويكون الصوت والصدى، فلا تشتم من وراء الخطاب إلا القذف والشتم والتحقير والتشهير.
إن نشر خطاب أو صورة من أجل إثارة «الضحك» أو السخرية، أو التعليق على حدث أو خطاب من خلال «القذف» لا يعنيان سوى شيء واحد: تفريغ شحنات مكبوتة، ننفجر عبرها في وجه ما يزدحم به واقعنا الذي نعجز عن الفعل فيه. إننا بذلك نمارس نوعا من الانتقام الذي نبحث فيه عن نوع «العزاء» مما نعاني منه من احتقار وسوء اعتبار في حياتنا المزرية، وليس السباب والشتم سوى وجه آخر للضحك والسخرية. فكما نتحدث مع إنسان، قد نتحدث عليه. وكما نضحك مع إنسان قد نضحك عليه. فإذا كانت «مع» تعني «التواصل» على قدر المساواة، ولكل بيانه في التبيين عن مواقفه؛ فإن «على» لا تدل إلا على «التنافر» الذي نسعى من خلاله التقليل من الآخر، وممارسة العنف عليه، عبر تسفيه خطابه والدعوة إلى محوه.
فعل التواصل دال على الحوار، أما التنافر فقائم على الإلغاء. وما دامت علاقاتنا غير مبنية على التواصل والحوار، فإن التنافر والإلغاء يصبحان قاعدة تعاملنا مع أنفسنا ومع الأشياء من حولنا. فلا نكون إلا أمام العنف والعنف المضاد اللذين يتخذان صورا وأشكالا لا حصر لها. وهذا العنف نمارسه في الحياة الواقعية والافتراضية أيضا، مع تأكيد أن الواقع الافتراضي يتيح مساحة أكبر مما يحتمله الواقع الآخر، الذي يفترض المواجهة المباشرة والحضور العيني، مما يجعلنا أمام بروز ظاهرة العنف الرقمي.
قبل ظهور الوسائط الجديدة، كانت النكت تُسرَد في المجالس السرية، وكان العنف اللفظي يتم في غياب المتحدث عنه، لكن الوسائط الجديدة، أتاحت للجميع إمكانية تقديم أي خطاب، على مسافة، وبكيفية غير مرئية، فأفسحت المجال على مصراعيه أمام المكبوتات لتنفجر بالأشكال التي يضيق عنها الوصف، فكان العنف الرقمي واحدا من أهم ما تحقق في الفضاء الشبكي من خلال هذه المجالس الافتراضية.
تطالعني، أمثلة كثيرة من هذا العنف الذي تستفرغ فيه، من خلال اللغة، كل ما تختزنه الذوات من احتقان يفرضه الواقع الذي نعيش فيه، وبدل التواصل مع واقعنا بالكيفية التي تمكننا من فهمه والمشاركة في تغييره، نعبر عن رفضنا له بطرق ملتوية: ممارسة الإحماض والعنف. ومن خلالهما قد نتوهم أننا نحقق نوعا من الانتقام لأنفسنا مما يجري، لكننا في واقع الأمر لا نعمل إلا على تكرسيه بصورة أشد، ونعمل على إدامته بطريقة لا تُحد.
ما أكثر الأمثلة التي تطالعنا بخصوص هذا العنف الرقمي، وهو يتسع لخطابات متعددة تتعلق بمختلف نواحي الحياة، من الرياضة إلى السياسة، مرورا بالاجتماع والثقافة والاقتصاد، حدثت ضجة إعلامية في بعض وسائل الإعلام المصرية بسبب زيارة الشيخة موزة القطرية إلى أهرام البجراوية في السودان. يبدو الحدث بسيطا. أميرة قطرية تزور أهراما في السودان. واكب الإعلام المصري الحدث بتأويلاته الخاصة، ينتقل الخبر من الإعلام السمعي البصري إلى المجالس الافتراضية محملا بالاحتقان، فينتقل الاختلاف بين نظامين إلى الخلاف بين شعبين. صارت الاختلافات بين البلدين المتجاورين في وطننا العربي مناسبات لتهريب المشاكل الداخلية إلى الخارج، ويلعب الإعلام الرسمي دورا كبيرا في تغذية هذه الخلافات. وما دمنا لا نستوعب جيدا هذه القاعدة، يجرنا «الحماس» القطري إلى تفجير مكبوتاتنا التي يفرضها علينا واقعنا في المجالس الافتراضية، فنوسع دائرة الحديث «على»، والضحك «على» الآخر، وقد صار الشعب، فنستعمل كل ما تختزنه لغتنا وذاكرتنا وتاريخنا من عنف فنقذف به، معبرين ليس على ما يدور حولنا، ولكن حول ما يقال «علينا».
من خلال متابعتي لما كتب، انتابني حزن شديد بسبب ما صار يقال «على» الشعبين المصري والسوداني من لدن السودانيين والمصريين معا. واستخلصت أن العنف ضد الآخر لا يقل عنفا عما يمارس على الشعوب.

___
*القدس العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق