أنفاس نت
تـــمـــهــــيـــــد
لا وجود ليقين تام بخصوص المعرفة العلمية، كل معرفة تتخللها ثقوب سوداء لا يمكن ردمها، في الليل والضباب علينا أن نراهن، وأن نعي شروط وإمكانيات وحدود المعرفة، وترابطها مهما تضخمت وتعمقت في التخصص، لذلك يرفع فكر التعقيد التحدي بربط المجزأ ووصل المفصل وتحاور التناقض والتعايش معه. لأن معرفتنا بذاتنا والعالم أضحت مشوشة بعدما انهارت أسس التفكير في الكون بانهيار أسس الكون، فنحن لا ندرك العالم بل فقط صورته هذا ما وصل إليه التطور العلمي، فإذا كانت المعرفة العلمية كثيرة ومعقدة في عمقها وتخصصية فإنها جاهلة. لماذا؟ لأنها منفصلة، نحن نعرف ولكن هل نعرف معنى المعرفة؟ نفهم ولكن هل نعي معنى الفهم ووعي الوعي؟ مبرهنة غودل تقول "لا يمكن لنسق مركب مصورن أن يجد في ذاته برهان على صحته" في الواقع علينا الانطلاق من هذا المعطى السالب لصياغة تصور أو خطاطة معرفية نفهم من خلالها العالم.
تبدو الحقيقة بديهية لكن بمجرد ما نحاول أن نسألها تنفجر وتتفرع في اتجاهات ومناحي عدة منها ما يؤدي إلى اليقين والصدق ومنها ما يؤدي إلى الضلال والتيه والدوغمائية والوهم. من الآن فصاعدا علينا البحث عن إمكانية الحقيقة، وبالتالي الأمر مناط هنا بمعرفة المعرفة كبراديغم معرفي جديد يعي الشروط الثقافية والنفسية والاجتماعية والانتربولوجية للمعرفة، ويعي بأن الخطأ والوهم يتقدمان جنبا إلى جنب مع المعرفة.
إن فصل المعرفة وتجزيئها لا يؤثران فقط في إمكانيات المعرفة، بل يتجاوز ذلك إلى نقص في فهم ذاتنا ومحيطنا البيئي. كان حلم منظومة التبسيط-تلك المنظومة التي تعود جذورها إلى ديكارت- بناء علم إنساني يتحكم ويسيطر على الطبيعة ويجعلها في خدمة الإنسان وتلبية لمصالحه ونزواته. هذا الحلم أصبح كابوسا بعدما تم اكتشاف ثقوب سوداء في العالم قابلتها ثقوب سوداء في العلم.
لا نجد بدا إذن من الاستعانة بالابستومولوجيا المعقدة، لأنها في نظرنا هي من باستطاعتها تفهم تعقيد العالم، ببناء تعقيد على مستوى الفكر، فالرهان الذي أخذه ادغار موران على عاتقه هو"قلب أسس الكون بقلب أسس التفكير في الكون"، بهذه المقولة يمكننا تلخيص مهمة الابستمولوجية المركبة، لكن لماذا الابستمولوجية المركبة؟ لأنها مجردة من الأساس، فبدل الانطلاق من "العبارات الأساسية" أو "عبارات البرتوكول" كأساس للمعرفة يمكننا الانطلاق من كل مكان ومن اللامكان، من الواحد والمتعدد، من بنية شبكتها ليست تراتبية ولا هي منسقة ومنظمة، فالمنهج ليس خطا مرسوما مسبقا في فكر التعقيد بل مجرد دليل يمكن من لمس الطريق، وإعادة تنظيم المعرفة دون ادعاء امتلاك المعرفة، ويمكن أن ننعت ابستومولوجيا التعقيد بأنها ابستومولوجيا فوقية، لأنها تتجاوز الابستومولوجيا التقليدية وتتضمنها في نفس الوقت.
لا وجود ليقين تام بخصوص المعرفة العلمية، كل معرفة تتخللها ثقوب سوداء لا يمكن ردمها، في الليل والضباب علينا أن نراهن، وأن نعي شروط وإمكانيات وحدود المعرفة، وترابطها مهما تضخمت وتعمقت في التخصص، لذلك يرفع فكر التعقيد التحدي بربط المجزأ ووصل المفصل وتحاور التناقض والتعايش معه. لأن معرفتنا بذاتنا والعالم أضحت مشوشة بعدما انهارت أسس التفكير في الكون بانهيار أسس الكون، فنحن لا ندرك العالم بل فقط صورته هذا ما وصل إليه التطور العلمي، فإذا كانت المعرفة العلمية كثيرة ومعقدة في عمقها وتخصصية فإنها جاهلة. لماذا؟ لأنها منفصلة، نحن نعرف ولكن هل نعرف معنى المعرفة؟ نفهم ولكن هل نعي معنى الفهم ووعي الوعي؟ مبرهنة غودل تقول "لا يمكن لنسق مركب مصورن أن يجد في ذاته برهان على صحته" في الواقع علينا الانطلاق من هذا المعطى السالب لصياغة تصور أو خطاطة معرفية نفهم من خلالها العالم.
تبدو الحقيقة بديهية لكن بمجرد ما نحاول أن نسألها تنفجر وتتفرع في اتجاهات ومناحي عدة منها ما يؤدي إلى اليقين والصدق ومنها ما يؤدي إلى الضلال والتيه والدوغمائية والوهم. من الآن فصاعدا علينا البحث عن إمكانية الحقيقة، وبالتالي الأمر مناط هنا بمعرفة المعرفة كبراديغم معرفي جديد يعي الشروط الثقافية والنفسية والاجتماعية والانتربولوجية للمعرفة، ويعي بأن الخطأ والوهم يتقدمان جنبا إلى جنب مع المعرفة.
إن فصل المعرفة وتجزيئها لا يؤثران فقط في إمكانيات المعرفة، بل يتجاوز ذلك إلى نقص في فهم ذاتنا ومحيطنا البيئي. كان حلم منظومة التبسيط-تلك المنظومة التي تعود جذورها إلى ديكارت- بناء علم إنساني يتحكم ويسيطر على الطبيعة ويجعلها في خدمة الإنسان وتلبية لمصالحه ونزواته. هذا الحلم أصبح كابوسا بعدما تم اكتشاف ثقوب سوداء في العالم قابلتها ثقوب سوداء في العلم.
لا نجد بدا إذن من الاستعانة بالابستومولوجيا المعقدة، لأنها في نظرنا هي من باستطاعتها تفهم تعقيد العالم، ببناء تعقيد على مستوى الفكر، فالرهان الذي أخذه ادغار موران على عاتقه هو"قلب أسس الكون بقلب أسس التفكير في الكون"، بهذه المقولة يمكننا تلخيص مهمة الابستمولوجية المركبة، لكن لماذا الابستمولوجية المركبة؟ لأنها مجردة من الأساس، فبدل الانطلاق من "العبارات الأساسية" أو "عبارات البرتوكول" كأساس للمعرفة يمكننا الانطلاق من كل مكان ومن اللامكان، من الواحد والمتعدد، من بنية شبكتها ليست تراتبية ولا هي منسقة ومنظمة، فالمنهج ليس خطا مرسوما مسبقا في فكر التعقيد بل مجرد دليل يمكن من لمس الطريق، وإعادة تنظيم المعرفة دون ادعاء امتلاك المعرفة، ويمكن أن ننعت ابستومولوجيا التعقيد بأنها ابستومولوجيا فوقية، لأنها تتجاوز الابستومولوجيا التقليدية وتتضمنها في نفس الوقت.
فبراديغم التعقيد براديغم معرفي جديد يقيم فهما مغايرا للعالم والإنسان في وحدته وتفرده وترابطيته وتصاله في نظامه وتشتته وتبعثره، ويحاول أن يعي محددات المعرفة والتصور، ويضع المعرفة في العقدة الإشكالية للحقيقة، بالتالي يمكن اعتبارها تصورا علميا للعالم يقدم نظرة عقلانية فلسفية تمكن من يضطلع عليها من فهم أبعاد جديدة لذاته ولمجتمعه ويطمح إلى التطور وإقامة التغيير ذاتيا أولا ثم موضوعيا، ولكن كيف يمكن تعميق الفكر المركب في مجتمع طبع عليه الأفكار البسيطة والسهلة؟ ذلك هو التحدي الذي يرفعه المثقف العضوي الذي يرتبط بإشكالات واقعه الإجتماعي وقلقه النفسي والوجودي.
كما أن الفكر المركب ينفتح على علوم الدماغ؛ والدماغ آلة كيمائية بيولوجية، تتضمن عالما ميكروسكوبيا بداخلها، فالعقل الإنساني يتشكل من ملايين العصبونات والمشابك العصبية التي تقوم بوظائف كثيرة ومتنوعة ومتناقضة، فالمعلومات تنقل عبر مسالك عصبية. من خلية عصبية (النورون) إلى أخرى فتقوم هاته الأخيرة بإحتسابها وترجمتها وتنظيمها، والبحث عن صورة ملائمة لها عن طريق الرجوع إلى الذاكرة والمعطيات المخزنة وعن المماثلة والمحاكاة بين بنيات الدماغ وبنيات الواقع، فتتحول عن طريق الوعي والعقل والذهن إلى تصور يوضع في لغة وثقافة. فهي عملية معقدة مغلوقة ومفتوحة في نفس الوقت.
المبحث الأول : البراديغم الجديد
يمثل فكر التعقيد براديغما جديدا تولد عن حدود العلوم المعاصرة و تطورها معا. ولا يتخلى عن مبادئ العلم التقليدي، بل يدمجها في خطاطة أوسع وأغنى. فالتعقيد هو التحدي الأعظم للفكر المعاصر، لأنه يستلزم إصلاحا لنمط تفكيرنا. ويقدم انتقادا جذريا للفكر المبسط أو الفكر التبسيطي، وتعود جذور هذا الفكر(التبسيط) حسب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران إلى رونييه ديكارت «إننا نحيا تحت سلطان مبادئ الفصل والاختزال والتجريد التي تشكل في مجموعها ما أسميه ب«منظومة التبسيط».صاغ ديكارت هذه المنظومة المسيطرة على الغرب عن طريق الفصل بين الذات المفكرة((ego-cogitans والشئ الممدود (res-extensa)أي الفصل بين السلطة و العلم، وكذا عن طريق وضع الأفكار "الواضحة والمميزة" كمبدأ للحقيقة، أي الفكر الفاصل نفسه. ولا شك أن هذه المنظومة التي تراقب مغامرة الفكر الغربي منذ القرن السابع عشر سمحت بحدوث تقدم كبير على صعيد المعرفة العلمية والفكر الفلسفي، ولم تبدأ مخلفاتها الضارة الأخيرة في الانكشاف إلا في القرن العشرين»[1] .
ففكر التبسيط متغلغل في لاوعي الفكر الغربي، لذا يتوجب على فكر التعقيد المراهنة والتحدي بل ورفع التحدي لكي نتمكن من أن نلج مملكة الفكر المعقد ونترك النظرة التبسيطية التي تضلل معرفتها وخصوصا معرفتنا بمصادر معرفتنا.
تاريخ فكرة التعقيد
أدرك العديد من كبار فلاسفة الغرب(هيراقليطس، كانط، هيغل، نيتشه، هوسرل) أهمية فكرة التعقيد وحدود "العقل الخالص" ولا شك في أن باسكال هو الذي أدرك بشكل أفضل التناقضات المنطقية المؤسسة للواقع الفيزيائي والإنساني، واستحالة اختزال هذا العالم إلى مجموعة من المكونات البسيطة. ويعد هؤلاء الرواد هم من أعطوا الشرارة الأولى لفكرة التعقيد. بالإضافة إلى نظرية الأنساق الربانية(إذ حدث نقاش فكري حاد في نهاية الأربعينات بالولايات المتحدة الأمريكية المتحدة التي أبدعت الربانية (نور برت فينار)، ونظرية الأنساق، ونظرية الإعلام (كلود شانون Claude Shannon). وبالموازاة تم ابتكار الحاسوب والإعلاميات، والأجهزة الأولى للتحكم الالكتروني. بالإضافة إلى ندوات ماسيMacy1 التي ناقشت الأنساق والربانية و علوم العقل...[2]
أزمة الأسس
كلما ارتفعت معارفنا، ارتفعت بالموازاة معه أزمات معرفية. بدأت هذه الأزمة مع الفلسفة وذلك من قبل جدلية تحيل البحث عن أساس يقيني للمعرفة كان هذا الحدث في القرن التاسع عشر، وهو دخول فكرة الأساس في أزمة، فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية بلوغ "الشئ في ذاته"، قام نيتشه بالإعلان عن قدرية النزعة العدمية، أما في القرن العشرين، أعاد هايدغر النظر في أساس الأسس وفي طبيعة الموجود، والذي كرس إشكالاته"الأساس من دون أساس". لم تعد الفلسفة المعاصرة تقوم ببناء أنساق لنفسها على أسس متينة، بل التفكيك المعمم، والتساؤل الذي ينسبن كل معرفة.
أما العلم فلم يتوقف عن التأكيد على أنه وجد الأساس التجريبي والمنطقي اليقيني لكل حقيقة. في ظل هذه الشروط شرعت جماعة من الفلاسفة والعلماء الذين أخذوا على عاتقهم القضاء على ثرثرة الميتافيزيقا وعشوائيتها، من خلال تحويل الفلسفة إلى علم عبر تأسيس قضاياها على عبارات متحققة ومتسقة. هنا تجد رغبة "الوضعية المنطقية" بالموازاة مع ذلك قام فيتغنشتاين وهيلبرت بمشروع خاص على مستوى اللغة وعلى مستوى تنسيق النظريات العلمية.
إلا أن تطهير الفكر عبر إقصاء الحثالات والتلوث والبذاءات بدا تنظيفا يجرف معه الأخضر واليابس، وانهار حلم إيجاد أسس مطلقة مما أدى إلى غياب هاته الأسس، دخل إلى هذا الصراع حول أزمة الأسس "كارل بوبر" والذي برهن على أن "التحقق" لا يكفي لضمان حقيقة النظرية العلمية، وأعلن بوبر خاصية علمية تكمن في "القابلية للخطأ" وبالتالي إلى عدم كفاية الاستقراء كبرهان منطقي، غير أن المنطق الاستنباطي حافظ حتى من منظور بوبر على قيمة البرهان الحاسم، فشكل أساسا متينا للحقيقة، في حين كان يفترض أن هذه القاعدة المنطقية ذاتها غير كافية. بلغت تطورات الميكروفزياء، من ناحية، نوعا من الواقع أخفق أمامه مبدأ عدم التناقض وأثبتت مبرهنة غودل (Gödel)، من ناحية أخرى عدم القابلية للبث المنطقي في أنساق مصورنة مركبة. لذلك لا يكفي التحقق التجريبي والمنطقي لإنشاء أساس يقيني للمعرفة؛ لذلك وجدت هذه الأخيرة ذاتها محكومة بتضمن فجوة في قلبها لا تغلق. في اللحظة نفسها سقط الواقع ذاته في أزمة... بذلك تنظم أزمة الأسس المعرفة العلمية إلى الأسس المعرفة الفلسفية، لقد صار الوجود سكونا أو فجوة، وبدا المنطق متصدعا؛ لذا يتساءل العقل ويتخوف، فاللايقين يتلبد وراء كل اليقينيات الجهوية، لا توجد قاعدة اليقين ولا وجود لحقيقة مؤسسة. بالتالي لا وجود لفكرة الأساس.
إعادة التنظيم الإبستمولوجي
سيكون للإبستومولوجيا المعقدة كفاءة أوسع من التقليدية، لكن من دون أن تتوفر على أساس وموقع امتيازي، وعلى قدرة المراقبة أحادية الجانب، ستكون أولا منفصلة على عدد من المشاكل المعرفية الجوهرية التي أثارتها سابقا ابستومولوجيا بشلار(التعقيد) وبياجي( بيولوجيا المعرفة، الترابط بين المنطق وعلم النفس، والذات المعرفية).
وستقترح، ثانيا، على نفسها فحص ليس أدوات المعرفة في ذاتها فقط، بل شروط إنتاج أدوات المعرفة(الشروط العصبية الدماغية، الشروط الاجتماعية الثقافية). وبالتالي تتوقف معرفة المعرفة مجددا على المعارف العلمية الكثيرة والمشتتة، غير أن صلاحية هذه المعارف الكثيرة والمشتتة تتوقف على معرفة المعرفة. وجدير بالذكر أن الابيسمتمولوجيا المعقدة ستحدث ثورة هوبلية، لأنها مجردة من الأساس، فبدل الانطلاق من"عبارات الأساسية" أو "عبارات البروتوكول"، يتصور «رويشرRescher « نسقا على شكل شبكة بنيتها ليست تراتبية، ويضيف ادغار موران فكرة ديناميكية التكرار الدائري، أي أن الابيستمولوجيا ليست مركز الحقيقة بل يجب أن تدور حول مشكل الحقيقة، وعبر هذا الدوران يأمل موران في إعادة تمفصل/إعادة تنظيم المعرفة، تكون هي نفسها ملازمة لجهد التفكير الأساسي، وبالتالي فمعرفة المعرفة هي ابستومولوجيا فوقية، لأنها تتجاوز أطر الابستومولوجيا التقليدية وتتظمنها في الوقت ذاته، ورغم اهتمامها بالمسائل العلمية فإنها تسائل المعارف الغير العلمية، فهي تتبنى وجهة النظر العقلانية، ولكن ترفض المعارف الغير العقلانية، أي أنها تحتفظ بإشكالية الحقيقة مفتوحة على الدوام، فكل معرفة تدعي الصدق، إلا أنها في طياتها تحمل الخطأ الوهم والجهل أيضا.
كما أن الابستومولوجيا المعقدة ابستومولوجيا شاملة لأنها لا تستطيع الإشراف على المعارف بل تندمج في مسار معرفي يحتاج إلى التفكير في ذاته والتعرف عليها وموضعتها وأشكلتها.
الــمبــحث الثاني:التعقيد ضــد التبسيط
ففي سياق قراءته للحقل الفلسفي والعلمي والإبستمولوجي (المعرفي) المعاصر، يقر إدغار موران بهيمنة منظومة التبسيط والاختزال إلى الوحدات الأولية لمختلف الحقول المعرفية كالذرة في الفيزياء، والخلية في علوم الحياة، والتركيب (Structure) في قواعد اللغة على أساس أن الوحدة غير قابلة للتفكيك، ووحدها القابلة للضبط والقياس، فقامت منظومة التبسيط بتنظيم الكون عن طريق اختزاله في كيانات وجواهر مغلقة وثابتة، عذرية وخالدة، لا تعرف التناقض والاختلال. وبذلك شكلت لاوعي الفكر الغربي، وحكمت نظرياته وخطاباته.
إن منظومة التبسيط باختيارها ذاك النظام، والعذرية، والثبات، والخلود، والأصل، والهوية، والاستمرارية، قامت بحرب تاريخية وتجاهل هائل لأسئلة لا يجاب عنها بصدد التحوّل، والفوضى، والتجدد، والخلق، والتعقد، والصدفة، والاختلال، واللانهائي، واللايقيني «فأكبر خطر شكلته منظومة التبسيط ولا زالت تشكله هي أنها تحاول فهم العالم-ذلك المجموع الهائل من المركبات الدينامية والتشيدية والمعقدة واللايقينية والصدفوية والمفتوحة والمتحولة، كما تقدمه لنا العلوم والابيستمولوجيات المعاصرة-بأدوات الابستمولوجيا التقليدية، إبستومولوجيا القرن التاسع عشر: إبستمولوجيا الاختزال والتبسيط والثبات والوضوح وحجب تعقد العالم. ذلك أن العالم هنا والآن، وبعد الاكتشافات الأساسية لفيزياء الكوانطا وفيزياء الأنظمة المختلة والفلسفات والابستمولوجيات والعلوم النسقية عموما، أصبح يتطلب أدوات وأطرا وفلسفات وعلوما جديدو لفهمه. وهي الغائبة كليا عن الابستمولوجيا التقليدية»[3].
من هنا يظهر لنا أن كبح تلك الأسئلة يُعقّد من فهم ومعرفة أدق للعالم والكون بعد الاكتشافات الفيزيائية الكوانتم الطاقة وللأنظمة المختلة والعلوم النسقية عموماً، التي تتطلب أدوات وأطراً ينظمها الفكر المركب القادر على تمثل الوجه الجديد لعالم دينامي، صدفوي، متنوع، ومتحول، ولانهائي. إن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم الذي ارتكز فهمنا له على منجزات العلم الكلاسيكي.
يكمن التغيير المنشود في أدوات فهمنا للعالم التي تميزت بأنها مقطّعة ومفصولة في الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وعلم الاجتماع والآداب والإبستومولوجيا. لكن ما هو فكر التعقيد عند إدغار موران؟
يقول موران«ما هو التعقيد؟ من أول وهلة، نقول إن التعقيد هو نسيج(complexus: ما نسج ككل) من المكونات المتنافرة المجمعة بشكل يتعذر معه التفريق بينهما. إنه يطرح مفارقة الواحد والمتعدد. ثانيا، بالفعل إن التعقيد هو نسيج من الاحداث والافعال والتفاعلات والارتدادات والتحديدات والمصادفات التي تشكل عالمنا الظاهراتي. لكن في هذه الحالة يحمل التعقيد بشكل مقلق سمات الخليط وغير القابل للفصل والاختلال والغموض واللايقين...»[4]
يرى موران في كتابه مدخل إلى الفكر المركب أن التعقيد ظاهرة كمية للتفاعلات والتداخلات بين عدد كبير من الوحدات، كما هو الحال في الخلية، والذرة، حيث تشتمل الواحدة على عدد من اللايقينيات واللاتحديدات والظواهر الصدفوية.
إن التعقيد هو ذاته اللايقين، وهذا تضاد الحتمية في العلم الكلاسيكي. بفضل تطور علم الفلك على المستوى الماكروفيزيائي والمايكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في أجسامنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون، فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا، إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي.
ظهر التعقيد في العلم الحديث، ذلك أن المايكروفيزياء لم تفتح الطريق أمام علاقة مركبة بين الملاحظ والملحوظ فحسب، ولكن أيضاً على مقولة مركبة ومضللة جداً، وهي الجزئية الأولية التي تقدم نفسها للملاحظ تارة كموجة، وتارة كجسيم.
إن للتعقيد دائماً صلة بالصدفة، إنه اللايقين بعينه المترسخ داخل الأنساق المنظمة بشكل ثريّ، إنه مرتبط بنوع من الخليط العميق بين الاستقرار والاختلال.
يضع موران الذات والموضوع في علاقة تبادل وثيق، ولا وجود لموضوع إلا بالموازاة مع ذات (تلاحِظ، تَعزل، تَعرف، تُفكر). إن نمط تفكيرنا يقصي الواحد بواسطة الآخر. لقد تمّ شق طريقنا من جهة بواسطة الماكروفيزياء، حيث أصبحت الذات والموضوع متعالقين، لكنهما غير ملائمين لبعضهما البعض. وإذا انطلق المرء من ذاته المفكرة من أجل العثور على أصلها، فإنه يعثر على مجتمعه وعلى تاريخ هذا الموضوع داخل تطور البشرية، وعلى الإنسان المنظم بذاته في علاقته مع محيطه. وبناء على ذلك، يوجد العالم داخل فكرنا الذي يوجد داخل العالم.
منظومة البساطة
ولكي نفهم مشكلة التعقيد، يجب أن نعلم أن هناك منظومة خاصة بالبساطة، وهي منظومة تقوم بتنظيم الكون بإقصاء الاختلال من داخله، وهنا يتم اختزال النظام في قانون ومبدأ معينين. إن البساطة ترى إما الواحد وإما المتعدد، ولكنها لا ترى أن الواحد قد يكون في الوقت ذاته متعدداً. لنأخذ الإنسان مثالاً، فهو كائن بيولوجي، وهو في الوقت ذاته ثقافي يعيش داخل كون من اللغة والأفكار والوعي.
لقد كانت مهمة المعرفة العلمية مدعومة بهذه الإرادة في التبسيط، وهي الكشف عن البساطة المختفية وراء التعددية الظاهرة والاختلال الظاهر للظواهر؛
اعتقد العلماء أن الجزيئة هي الوحدة الأولية، ثم تبين أنها عبارة عن نسق معقد جداً يتعذر عزلها عن محيطها، إضافة لذلك تبين انبعاث الاختلال داخل الكون الفيزيائي، وأن ما تدعوه الحرارة هي في الواقع إثارة فوضوية لجزيئات أو لذرات. فعند تسخين الماء تبدأ الجزيئات في التزوبع لتتبخر وتتشتت.
إن التطور يؤدي إلى نشوء أنواع في الطبيعة وموتها... وإن التبدد والاختلال يتعاقبان بشكل ما مع أن كل واحد عدوّ للآخر. قال هيراقليطس: "إننا نحيا بواسطة الموت، ونموت بواسطة الحياة".
"إننا نحيا بموت خلايانا، تماماً كما يحيا مجتمع بموت أفراده".
يجب أن نعيد النظر في كل ما يبدو لنا بديهيا، وفي كل ما يؤسس حقائقنا. حققت العلوم تقدما معرفيا عظيما، غير أن تقدم العلم الأكثر تطورا، (الفيزياء) يقربنا من مجهول يتحدى مفاهيمنا ومنطقنا وذكائنا (الميكروفيزياء و الماكروفيزياء)، ويضع أمامنا مشكل ما لا يقبل المعرفة، وتلك الثقة العمياء حول "العقل" الذي يشكل الوسيلة المعرفية الأكثر أمانا، ألا يمكن أن يحمل في ذاته مهمة عمياء؟ هنا يتساءل موران في المنهج3" ما هو عقلنا؟ هل هو كوني؟ عقلاني؟ ألا يمكن أن يتحول إلى ضده من دون أن يعي ذلك؟ ألم نبدأ في فهم أن الاعتقاد في كونية عقلنا يخفي عقلنه غريبة متمركزة وتشويهية؟ ألم نبدأ اكتشاف تجاهلنا واحتقارنا وهدمنا لكنوز المعرفة باسم محاربة الجهل؟..."[5]. فالبحث عن الحقيقة الآن أصبح مرتبطا بالبحث عن إمكانياتها، هل معنى هذا أنه علينا ترك فكرة الحقيقة( الاعتراف بغياب الحقيقة كحقيقة)؟ ووضع المعرفة من أجل الحقيقة في العقدة الإستراتيجية لمعرفة المعرفة؟
مجهول المعرفة
مفهوم الحقيقة واحد بديهي، ولكن ما إن نحاول مسائلته حتى ينفجر ويتنوع ويتكاثر إلى مفاهيم غير محدودة(يبين ادغار موران ذلك بدقة في المنهج 3 ت.:يوسف تيبس ص22) كل واحد يضع تساؤلا جديدا، فنحن نفهم ولكن هل نفهم معنى الفهم؟ ونفكر، لكن هل نعرف التفكير في معنى التفكير؟ وبالتالي نحن هنا أمام مفارقة المعرفة التي لا تنفجر إلى شظايا أمام أول تساؤل، بل تكتشف المجهول في ذاتها«يمكن أن نأكل دون معرفة بقوانين الهضم، وأن نتنفس دون معرفة بقوانين التنفس، ويمكن أن نفكر دون أن معرفة بقوانين أو طبيعة الفكر، ويمكن أن نعرف من غير أن نعرف المعرفة»[6].
إذن سنسقط لا محالة في باطالوجيا معرفية، تشوه معرفتنا بهذا العالم«في الوقت الذي نشعر مباشرة بالاختناق في التنفس والتسمم في الهضم، يتميز الخطأ والوهم بعدم ظهورهما كخطأ أو وهم "لا يتجلى الخطأ إلا في كونه لا يظهر كذلك"(ديكارت).»[7]
باطولوجيا المعرفة
يتحدث موران في المنهج3 عن باطولوجيا معرفية مصدرها التجزيء والفصل بين مختلف التخصصات المعرفية. إن الاختصاصيين والخبراء قد يحرزون كشوفات لكنهم غير واعون بالجوانب المدمرة المرتبطة بكشوفاتهم، وهنا يريد كارل بوبر أن ثقة الاختصاصيين المفرطة في كشوفاتهم أجل محتوم للمعرفة، وينظر بوبر إلى الشخص الذي لا يقبل تغيير وجهة نظره العصبي أو المجنون.
وفي كتابه مدخل الى الفكر المركب يتحدث موران عن باطولوجيا معرفية"تعود جذورها إلى ديكارت الذي صاغ منظومة تبسيطية هيمنت على تاريخ الفكر الحديث، ومنعت العلم من التفكير في ذاته"، والحل هنا ليس التبيسط ولا التجزيء إنما تجميع المعارف لمعرفة المعرفة.[8]
بيولوجيا المعرفة
ففلسفة التعقيد تنفتح على التطور الذي تعرفه البيولوجيا، ف«تقحمنا معرفة الحياة في حياة المعرفة بشكل حميمي رائع:"إن العيش، بإعتباره صيرورة معرفة"(ماتورانا).»[9] ، كما تنفتح على علوم الدماغ؛ والدماغ آلة كيمائية بيولوجية، تتضمن عالما ميكروسكوبيا بداخلها، فالعقل الإنساني يتشكل من ملايين العصبونات والمشابك العصبية التي تقوم بوظائف كثيرة ومتنوعة ومتناقضة، فالمعلومات تنقل عبر مسالك عصبية. من خلية عصبية (النورون)إلى أخرى فتقوم هاته الأخيرة باحتسابها وترجمتها وتنظيمه. وبالتالي لن تبقى المعادلة" أنا أفكر إذن أنا موجود" (الديكارتية) بل ستصبح "أنا أحتسب إذن أنا موجود" لكن ما هو الاحتساب computation؟ «يعني الحساب والمقارنة والفهم والمواجهة والتقييم...فهو فاعلية إدراكية، تعمل على الإشارات والرموز حيث تفصل وتربط وتحتوي على حاكمية معلوماتية ورمزية وذاكرة وعلى حبكة إعلامية وهي مجموعة البرامج والإجراءات والقواعد والمستندات التي تعود إلى وظيفة المجموعة العلاجية لأية معلومة»[10].
استنتاج
في ختام هذا الفصل لن نجد أفضل من قول لإدغار موران يلخص ما ذكرناه سلفا، إذ يقول في كتابه مدخل إلى الفكر المركب «اكتسبنا معارف هائلة حول العالم الفيزيائي والبيولوجي والبسيكولوجي والسوسيولوجي.أعطى العلم الغلبة شيئا فشيئا وعلى نطاق واسع، لمناهج التحقق الامبريقي والمنطقي. ويبدو أن أنوار العقل تكبت في الأعماق الدنيا للروح عدة أساطير وظلمات. ومع ذلك، يتقدم الخطأ والجهل والعمى في كل مكان في نفس الوقت الذي تتقدم فيه معارفنا.
من الضروري أن يصير لنا وعي جذري بالأمور التالية:
1. لا يكمن السبب العميق للخطأ في الخطأ بالفعل(إدراك خاطئ) أو الخطإ المنطقي(عدم الانسجام)، بل في صيغة تنظيم معرفتنا في شكل نسق من الأفكار(نظريات، إيديولوجيات)؛
2. هناك جهل جديد مرتبط بتطور العلم نفسه؛
3. ترتبط عمى جديد مرتبط بالاستعمال المنحط للعقل؛
4. ترتبط أخطر التهديدات التي تتربص بالبشرية بالتقدم الأعمى وغير المتحكم فيه للمعرفة(أسلحة حرارية-نووية؛ تلاعبات في كل الأنواع، خطأ بيئي، الخ).
5. أريد أن أبين بأن هذه الأخطاء والجهالات والعمى والأخطار لها طابع مشترك يكمن في كونها ناجمة عن صيغة مشوهة لتنظيم المعرفة، غير قادرة على الاعتراف وعلى وضع اليد على تعقيد الواقع.»
من هذا القول نخلص على ضرورة تخطي منظومة التبسيط التي قامت بنشر أوهام وجهالات وأخطاء على الصعيد الابستمولوجي، والانتربولوجي، والمنطقي، والسياسي، والتي جعلت العالم يحيا، ويترنح، ويتدحرج، ويتجشأ، ويمكن القول جعلته في حالة فواق وحزاق يومي، والغوص في بحر التعقيد لأنه الوحيد القادر على تمثل الوجه الجديد العالم.
هكذا يظهر أن إصلاح الفكر ونقد الفكر الاعمى هو المهمة الاستعجالية للفكر. يعني إصلاح الفكر أنطولوجيا/إبستمولوجيا/منهج/منطق جديد تكون مهمته الجوهرية الوقوف عند تنوع/تعقد/صدفوية/دينامية/تاريخية العالم وأدوات فهم العالم.
إن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم، وهذا التغيير يكون في تغيير أدوات فهم العالم التي لا توجد في أي علم؛ أي أن هذه الأدوات لا توجد في المعارف المجزأة والمقطعة والمفصولة عن بعضها البعض؛ أي أن الفكر المركب لا الفيزياء ولا البيولوجيا ولا الكيمياء ولا علم الاجتماع ولا الآداب ولا الابستمولوجيا، فالفكر المركب هو مجموع هذه العلوم المباحث وقد توحدت في أفق التعقيد، فهو فكر يؤمن بإمكانية تجميع وتوحيد المتعدد، وهدفه هو تفجير المباحث ولمها داخل أفق مركب جديد.
[1] موران، إدغار[2004]، الفكر و المستقبل مدخل إلى الفكر المركب ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر، ط.1، الدار البيضاء-المغرب، ص.15
[2] موران، إدغار:[2009]، نحو براديغم جديد، ترجمة وتقديم، د.يوسف تيبس، مجلة رؤى، عدد29، ص.121.
[3] الفكر والمستقبل: مدخل إلى الفكر المركب، ص. 6
[4]الفكر والمستقبل: مدخل الى الفكر المركب، ص.17
[5] موران، إدغار[2013]، المنهج الجزءان الثالث و الرابع ت.: د.يوسف تيبس، أفريقيا الشرق، ب. ط. ، شارع يعقوب المنصور-الدار البيضاء- المغرب، ص21
[6] المنهج 3 ص.21.
[7] المصدر نفسه.
[8] تريعي، حمدي:[2012]: ترجمة الفصل الأول من كتاب معرفة المعرفة لادغار موران المنهج3، ص.126.
[9] المنهج3، ص. 56.
[10] تريعي، حمدي:[2012]: ترجمة الفصل الأول من كتاب معرفة المعرفة لادغار موران المنهج3، ص. 14.