الأربعاء، 30 مارس 2016

تعليم الفلسفة للأطفال في بعض التجارب الدولية : بقلم رشيد العلوي

عن موقع :  مؤمنون بلا حدود 


من الأسئلة البدهية والأولية التي تطرح في كل نقاش حول تدريس الفلسفة للأطفال: هل يمكن للطفل أن يتفلسف؟ ما هي المداخل الممكنة لضمان تعليم فلسفي للأطفال؟ هل يتعلق الأمر بتدريس مفاهيم كما هو الحال في المستويات التعليمية الأخرى، أم أنّ الأمر يتعلق بتبسيط موضوعات فلسفية للطفل؟ هل للطفل أسئلة فلسفية وهو لم يتشكل وعيه الذاتي بعد؟ هل يشترط التفلسف وعياً بالذات؟ ألا يمكن أن تكون هناك انعكاسات سلبية لهذا التعليم على الطفل؟ كيف يمكن ضمان عدم أدلجة تعليم الطفل؟ ألا يستهدف تعليم الفلسفة للأطفال ترويضهم لخدمة أهداف سياسية؟
في حقيقة الأمر وبعيداً عن الديماغوجية، لا نرى مانعاً في الدفاع عن حق الطفل في التفلسف، إذا اعتبرنا أنّ التفكير الفلسفي هو تفكير نقدي ينبني على التساؤل ويعزز القدرات النقدية في التفكير وإعمال العقل، خاصة في عالم اليوم حيث غدت النزعة الاستهلاكية شراً لا بدّ منه، وحيث يتمّ تلقين الإنسان مبادئ السوق الحرة منذ الطفولة. ذلك أنّ آليات التنشئة الاجتماعية صارت معقدة للغاية، وتغلغلت إليها مبادئ كانت بالأمس القريب مرفوضة تماماً. في الوقت نفسه نجد أنّ للفكر الفلسفي حضوراً قوياً خارج المؤسسات، بفضل تنامي المقاهي الفلسفية والجامعات الشعبية وتغلغل الفلاسفة الجدد (فيما يشبه نجوم الفن) إلى وسائل الاعلام، وحيث وجدت الفلسفة أنصاراً ومريدين لها في مجالات أخرى شتى.
أمام حضور الفلسفة هذا صار البحث عن توسيع دائرة المهتمين بتدريس الفلسفة للأطفال أمراً ملحّاً. فالأصوليات الجديدة اخترقت كلّ المجالات وهيمنت على مؤسسات التربية والتعليم، وخاصة مؤسسة تربية وتكوين الناشئة. ونقصد تحديداً أصولية النيوليبرالية (الرأسمالية ونظام السوق الحرة) والأصولية الدينية، فهل يمكن السكوت أمام هذا الزحف؟
لم يكن تدريس الفلسفة للأطفال قديماً جداً، بحيث لم تظهر هذه الفكرة إلا في نهاية الستينات من القرن الماضي في أمريكا بفضل جهود ماثيو ليبمان. وخطوة خطوة حذت دول أخرى في مختلف بقاع العالم[1] حذو هذه المبادرة.
تدريس الفلسفة للأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية:
كان ماثيو ليبمان يبحث عن طريقة لتبسيط الفكر المنطقي لطلابه في المرحلة الجامعية، وفكر في أنه من المستحسن تدارك ذلك في حداثة سنهم. ولهذا السبب كتب روايته القصيرة المعنونة بـ: "اكتشاف هاري سوتلمير La découverte d’Harry Sottlemeier" والموجهة للأطفال ما بين سن العاشرة والثانية عشرة من العمر، حيث يمكن لمجموعة أطفال البحث عن قواعد التفكير السليم. وبالتعاون مع آنا مارغريت شارب كتب روايات أخرى، على منوال منهج المناقشة السقراطية (التوليد) بين التلاميذ حول الأتيقا والجماليات والسياسة، والإبستمولوجيا. وهو ما شكل في مجموعه برنامجاً للفلسفة خاصاً بالأطفال ما بين سن الخامسة والثالثة عشرة.
ترتكز منهجية ليبمان الأكثر شهرة في العالم[2] على ثلاث وسائل:
ـ تطوير ثقافة السؤال في المدرسة من خلال الانطلاق من أسئلة الأطفال نفسها.
ـ حث الأطفال على كتابة نصوص سردية تتمحور حول انتماء الطفل إلى شخصيات وحالات (تستحضر البعد الإنثربولوجي).
ـ تخصيص حيز للكلام والتبادل في القسم للمشاكل العالمية: البيئة، الفقر، اللامساواة... وتكون المناقشة حرّة، شريطة استحضار النقد والدليل والحجة.
الأرجنتين:
بدأت تجارب تدريس الفلسفة للأطفال في الأرجنتين سنة 1989 داخل مدرسة خصوصية ببوينوس آيرس. وظهر المركز الأرجنتيني لتعليم الفلسفة للأطفال سنة 1993 بجامعة بوينوس آيرس. حيث ترجم برنامج ليبمان ونشر، ونشرت معه بعض المعدات الموجهة لتدريس الفلسفة للأطفال. وهي التجربة التي دفعت إلى انطلاق تجارب أخرى في مدن أخرى من قبيل مدينة كاطامارا، ودعم المبادرة في مدارس أخرى إلى جانب تخصيص برنامج تكوين مدرسين في هذا التخصص بمدارس الأساتذة.
البرازيل:
لقي نموذج ماثيو ليبمان نجاحاً باهراً في البرازيل. حيث نشأ معهد تدريس الفلسفة للأطفال سنة 1989 بساو باولو، وتمّ تكوين آلاف الأساتذة لتدريس الفلسفة للأطفال في برنامج ليبمان قبل انطلاق التجربة في كل ربوع البلاد. ويمكن أن نؤكد وجود ما يقارب 10000 مدرس و100 ألف طفل يعيشون تجارب مختلفة في تدريس الفلسفة في المدارس العمومية والخاصة.
المملكة المتحدة:
لا توجد أية مبادرة لتدريس الأطفال في المملكة المتحدة قبل سنة 1990. ولكن كانت هناك مجموعة صغيرة من المربين، ومن ضمنهم روبير فيشر الذي يشغل منصب مدير برنامج مهارات التفكير بجامعة برونيل والذي يهتم بتدريس الفلسفة للأطفال.
ولقد أثار مشروعه الانتباه وأخذ بالاعتبار بعد الشريط الوثائقي الذي بثته قناة BBC سنة 1990 تحت عنوان "سقراط لأطفال السنة السادسة من العمر Socrates for 6-years old" والذي لقي إقبالاً واسعاً جداً. حيث تمّ سنة 1991 إنشاء مؤسسة النهوض بالفلسفة في التعليم، بهدف تعزيز تجربة الفلسفة للأطفال.
بعد ذلك بثلاث سنوات، دشنت المؤسسة تجربة تكوين أساتذة لتدريس الفلسفة للأطفال، مبنية على نموذج ماثيو ليبمان وانطلقت التجربة بالفعل.
أستراليا:
لا نملك الكثير من المعطيات عن هذا البلد، غير أنه تمّ دمج تجربة تدريس الفلسفة للأطفال في المدارس الابتدائية.
اليابان:
اشتغل الأستاذ تاكارا والأستاذ إيفا مارسال بشكل مكثف منذ سنة 2003 على مشروع بحث دولي تحت عنوان: "Das Spiel als Kulturtechnik"، والذي يعالج في جانب منه تدريس الفلسفة للأطفال. وهناك مبادرة بحث ألمانية ـ يابانية (DJFPK) تخص تدريس الفلسفة للأطفال، انطلقت في غشت من سنة 2006 بدعم من المدرسة العليا للتربية بكارلسروه Karlsruhe والغرض من هذه المبادرة هو خلق أرضية نظرية صلبة تخص تدريس الفلسفة للأطفال، حول فلاسفة الغرب من قبيل: سقراط، هيوم، غوته، روسو، كانط، نيتشه... وحول فلاسفة الشرق من قبيل: تاكاجي، هياشي، تسو كوكي والمربي توشياكي أوز. والغرض من هذه المبادرة هو تقريب المفاهيم الإنثربولوجية عند أطفال اليابان والألمان معاً. وممّا لا شك فيه أنّ هذه التجربة ستكون نوعية جداً بالنظر إلى أهدافها الكبرى، حيث تجدد اللقاء بين الشرق والغرب حول الفلسفة، فأكيد أنّ كلا البلدين يعيان جيداً حجم المبادرة.
طرق أخرى في تدريس الفلسفة للأطفال:
ليست طريقة ليبمان وحدها المنتشرة والمعروفة في هذا المجال، بل هناك طرق أخرى أهمها:
1 - طريقة أوسكار برينيفيي Oscar Brenifier:
ترتكز طريقة أوسكار برينيفيي على التوليد السقراطي، بحيث يقدّم للأطفال مفاهيم فلسفية: الرأي، الحقيقة، الوعي... بأسلوب مبسط يتوخى حصول التجريد في ذهن المتعلمين الصغار. وتقدم هذه المفاهيم في سلسلة رسوم مصوّرة تمثل وضعيات تسمح للطفل بالتعبير عن رأيه أو دهشته أو رفضه أو قبوله لبعض الأفكار أو الوضعيات المعروضة. ولقد لقيت هذه الطريقة بدورها إقبالاً واسعاً في العالم الفرنكفوني.
2 - طريقة جاك ليفين Jacques Lévine:
وهي طريقة تعتمد على مقاربة التحليل النفسي، وتستهدف تعميق حالات الذات المفكرة، حيث يطرح الأستاذ على التلاميذ في مرحلة أولى مشاكل عامة ستعنيهم مباشرة في مراحل متقدمة من عمرهم من قبيل: البلوغ والرشد.. ويطالبهم بإبداء آرائهم في الموضوع دون أن يتدخل في نقاشاتهم.
ويتمكن التلاميذ في مرحلة ثانية من التعبير عن رأيهم الخاص ويسجل في شريط لمدة عشر دقائق لكل تلميذ، وفي الأخير (المرحلة الثالثة)، يتم عرض الشريط لمناقشته مناقشة حرة مع إمكانية توقيفه في أي وقت لتعميق النقاش. وهي طريقة ترتكز أساساً على مبدأ التعبير الحر دون تدخل الأستاذ.
في الحاجة إلى تعليم الفلسفة للأطفال بالمغرب:
لا يخفى عليكم أهمية القرار التاريخي (2004) القاضي بتعميم الفلسفة في الثانويات المغربية في المستويات الثلاثة، ولكل الشعب والمسالك، ودوره في توسيع دائرة المهتمين بالفلسفة.
وصحيح أنّ هذا التعميم قد اعترضته بعض الصعوبات في السنوات الأولى من دخوله حيز التنفيذ، إلا أنّ إيجابياته كانت كبيرة جداً رغم قلة العدد الديداكتيكية والإمكانيات، وضعف التكوين في مجال تدريس الفلسفة لتلامذة الجذوع المشتركة، ونقص الاجتهادات في الخصائص النفسية والوجدانية والعاطفية لشباب 14 أو 15 ربيعاً. سيكون من السابق لأوانه الإقرار بالحاجة إلى تدريس الفلسفة في المرحلة الإعدادية، ولكنه ضرورة ما بعدها ضرورة، ويتوجب أن ترتكز الجهود وتتطور في المستقبل في هذا المجال. وسنقدم هنا بعض المقترحات التي نرى أولويتها في هذا البحث.
ليس من البساطة إعداد منهاج خاص لتعليم الفلسفة للتلاميذ في مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي، لأنّ الأمر يشترط:
ـ الإلمام بالتجارب الدولية في مجال تعليم الفلسفة لهذه الفئة من المتعلمين.
ـ فهم الروابط المعرفية والمنهجية بين مرحلتي التعليم الثانوي: الإعدادي والتأهيلي، والبحث عن مصوغات لتفادي تكرار الموضوعات والغايات والكفايات والقدرات، وعلى الأخص مراعاة مبدأ التدرج في كلتا المرحلتين.
ـ الاجتهاد في ترجمة وإعداد وصياغة موضوعات مناسبة لمختلف المراحل العمرية.
ـ مراعاة الخصائص النفسية والوجدانية في كل مرحلة على حدة.
ـ ضمان حد أدنى من تنويع الوسائل والطرق الديداكتيكية.
ـ تكوين المدرسين في المراكز الجهوية لمهن التربية، والتكوين هو ما يقتضي إعادة صياغة منهاج مادة الفلسفة الموجهة للمرحلة التأهيلية ودمج برامج المرحلة الإعدادية.
ـ تعزيز البحث العلمي والأكاديمي في الجامعات المغربية حول تدريس الفلسفة للأطفال، والتفكير في مختبرات ديداكتيكية تعمل على مراكمة الخبرات وتجريب العدد.
[1] راجع في هذا مقالة ماري فرانس دانييل على الرابط: http://www.cenestquundebut.com/autour-du-monde
[2] وتعرف بالطريقة الليبمانية: نسبة إلى ماثيو ليبمان الذي أسس سنة 1974 معهد ترقية فلسفة الأطفال (CPAI) والتي تستهدف فئة الأطفال في المستويين الابتدائي والتعليم الأولي، وتتوخى تمرّن الأطفال على التفلسف.

الثلاثاء، 29 مارس 2016

تشارلي تشابلن، توسيع دائرة السخرية والألم! : طارق عبدالله






chaplin1
لم يمثّل عبقري السينما الصامتة تشارلي تشابلن قيمة فنية عظيمة فحسب، بل تعدى ذلك ليصبح حالة فريدة من نوعها وظاهرة تخرج عن إطار المألوف في طرح القضايا والهموم الاجتماعية.

كثيرة هي المقالات والأفلام الوثائقية التي تحدثت عن ظاهرة تشارلي تشابلن، لكن أياً منها لم يتحدث عن بؤس الطفولة الذي فجّر إبداعات تشابلن، قد لا يصح أن نطلق عليه “أسطورة العصر” أو “ظاهرة العصر” دون أن ننطلق من كيفية تشكّل شخصيته منذ الطفولة في كنف والدته هانا.
بالنسبة لطفل، لم يكن من الطبيعي أن يفهم وجع الفقر وبؤسه، ولا المشاكل العائلية بين الأبوين، تلك المشاهد التي رسمت ملامح شخصية تشابلن، لم تغادره حتى في أعتى لحظات إبداعه، نعم؛ ذات الفكرة مجدداً، البؤس قد يصنع الإبداع!
عندما نتحدث عن تشارلي تشابلن لا نتحدث عن الأفلام الصامتة فحسب، بل نتحدث أيضاً عن موت مرحلة تلك الأفلام وولادة السينما الناطقة، وكلها كان لها من إبداع تشابلن نصيب.
من أين بدأ تشابلن؟
قد يكون من الضروري أن نتحدث عن طفولة تشارلي ومرحلة مراهقته لنعرف كيف جسّد كافة شخصيات أفلامه بعبقرية منقطعة النظير، وكيف تحوّل فيما بعد إلى كاتب للأفلام، العودة إلى الجذور التاريخية مهمة جداً لفهم واقع ما في الإطار العام.
لم تكن شخصية “المتشرد” التي وضعت تشارلي تشابلن على رأس قائمة المبدعين في القرن العشرين وليدة لحظة! فشخصية المتشرد تتضح معالمها كلما تعمقنا أكثر في تاريخ الفقر الذي عاشه تشارلي في لندن، وكلما بحثنا أكثر عن شخصية والده.
شارع كينينغتون عام 1901، حي الطبقة العاملة في لندن، تشارلي يبلغ من العمر 12 عاماً ويعيش فقراً مدقعاً، حاله حال جميع من في الحي، وله والدين منفصلين، نادراً ما كان يرى والده المغني الشعبي الذي كان يعيش برفقة إمرأة أخرى.
والد تشارلي كان في حالة دائمة من السُكر والاكتئاب، غارقاً في أحزانه وسُكره في كينينغتون عقب ما هجرته عشيقته!
لم يكن للمرة الأخيرة التي رأى فيها تشارلي والده أن تخرج من مفردات ذاكرته، فقد رأى تشارلي والده خارجاً من الحانة وزجاجة النبيذ في يده، وصدم لرؤية والده مريضاً ومنتفخاً وسيء المظهر، فما كان من الأب إلّا أن عانق ابنه الصغير، إبن الـ 12 صيفاً، وقبله للمرة الأولى في حياته.
فارق والد تشارلي الحياة بعد تلك الحادثة بثلاثة أسابيع بتليّف الكبد وعمره 37 عاماً.
والدته كانت أيضاً فنانة موسيقية، حاولت أن تربي ،وحدها، ولديها تشارلي وسيدني، هي لم تقدّم لولديها سوى الحنان، في مرحلة كان عنوانها لدى الطفلين الجوع والفقر، ولكن تلك العوامل لم تمنع هانا تشابلن من زرع حب المسرح والإبداع في مخيلة طفليها!
وبسبب استغلال البرجوازية للطبقة العاملة حينها أصبحت شخصية هانا غير مستقرة، وأودعت في مركز لامبيث للأمراض العقلية، ليكتشف الأطباء بأن مرضها العقلي جاء سبباً لمرض الزهري، مما زاد من بؤس تشارلي الطفل وحزنه على ألم والدته!
مرض والدته أدى إلى أن يدخل تشارلي في مرحلة ما إلى ملجأ للأيتام أو السجن، وعندما خرج كان عليه أن يعيدها إلى المصحة إثر انتكاسة صحية، لتبقى في المصحة، ويبقى تشارلي وحيداً في المنزل وهو ابن الـ 14 من العمر.
بدأ بالعمل، وكان ينام على قارعة الطريق، إلى أن عاد سيدني من جنوب أفريقيا وانتشل تشارلي -الأخ غير الشقيق- مما هو فيه.
لاحقاً أخرج تشارلي أمه من المصحة عام 1921 وجاء بها إلى الولايات المتحدة واستأجر لها شقة صغيرة أمضت فيها آخر ثمانية أعوام من عمرها.
البؤس والفقر هي معالم إبداع تشارلي تشابلن لاحقاً، والده ووالدته والمشاكل العائلية، كلها عوامل قادت تفجّر طاقات تشابلن ليكون ظاهرة العصر!
في عام 1912 جالت مسرحية موسيقية الولايات المتحدة، مسرحية بريطانية فيها شاب عمره 23 عاماً يدعى تشارلز تشابلن، شاب يمتلئ بالحيوية والنشاط، وعلى الرغم من سوء العرض، إلّا أن ذلك الشاب نجح في لفت أنظار الجميع!
حطت المسرحية في ولاية نيويورك كمحطة نهائية لذلك العرض، وفوجئ الجميع بشخص له شارب صغير يتجوّل بين الجمهور، يلبس قبعة ويرتدي ملابس ممزقة وفي يده زجاجة نبيذ، لم يكن سوى تشابلن، وكأنه يقلّد والده!
لقد ترك هذا العبقري المسرحية الرديئة ونزل بين الجمهور وكأنه واحد منهم، ليؤدي دور سكّير يقاطع الممثلين على خشبة المسرح ويفسد العرض، وغادر دون أن يعرف أحد بأنه ممثل من فريق عرض المسرحية.
جذب أنظار صنّاع السينما بعد ذلك، وانطلق في مسيرة مليئة بالإبداع، كان فيها تشابلن ممثلاً وكاتباً ومخرجاً عبقرياً!
تجربته وواقعه، سلم صعوده!
عندما بدأ تشابلن مسيرته السينمائية كان يلعب دور صحفي في أحد الأفلام، وأعقب ذلك بالعديد من الأدوار في أفلام متعددة، دون أن تفارقه صورة السكّير الذي تقمّص شخصيته في نيويورك سابقاً، وعندما طلب أحد المخرجين من تشابلن في أحد الأفلام ارتجال شخصية فورية، وجد تشابلن ضالته!
دخل إلى غرفة الملابس، وارتدى ملابس من مختلف الأحجام، فكان سرواله واسعاً جداً وسترته ضيقة جداً، وأضاف الشارب ذاته اللي استخدمه في نيويورك، وارتدى قبعة، وأمسك بعصا، وعاد إلى موقع التصوير بمشية غريبة.
كان من المفترض أن يكون تشابلن بهذه الشخصية المرتجلة إحدى الشخصيات الثانوية في الفيلم، إلّا أنه سرق الأضواء من خلال تلك الشخصية التي رآها الجميع في خانة “الشاعرية الطبيعية”.
بذلك ولدت شخصية “المتشرد” التي أصبحت سلسلة أفلام لتشابلن، في البداية كانت أفلام المتشرد التي أدى دوره فيها، ارتجالية دون نص، وهنا برزت عبقريته بشكل ملحوظ.
في أول أفلام السلسلة كان تشابلن ومصوره يتواجدان في حلبة لسباق السيارات المصنوعة من صناديق الصابون للأطفال، لم يكن للفيلم أي نص، ولم يكن لدى تشارلي ومصوره أي تصوّر عن طبيعة ما سيقدمونه من خلال الفيلم، فيما بدأ تشارلي بالقفز على الحلبة بين السيارات وأداء حركات غريبة، ليأتي رجال الشرطة لإبعاد تشارلي عن المكان!
سحر تشارلي وأدائه ذلك لم يكن إلا ليسيطر على أذهان الجمهور، الذي تحوّل اهتمامه من متابعة السباق إلى متابعة حركات المتشرد تشارلي تشابلن، فكان فيلم “أطفال يتسابقون في فينيس” عام 1914.
تعاقبت أفلام “المتشرد” بعد ذلك، وفي ذهن تشابلن كان وقع انضباط الشخصية يزيد بمرور الوقت، فصقلها بشكلها النهائي الذي أبهر العالم.
انتهى عصر الأفلام الصامتة، وبدأت حقبة الأفلام الناطقة، ولكن تشارلي أصرّ على كلاسيكيته في فيلم أضواء المدينة (City Lights) عام 1931، والذي أبصر النور في دور السينما الأمريكية بحضور صديق تشارلي الجديد؛ ألبرت آينشتاين.
سحر تشابلن عقب ذلك من خلال شخصية المتشرد من الرأسمالية عبر فيلم الأزمنة الحديثة (Modern Times)، والذي اعتبر بمثابة بيان اجتماعي!
قبيل صدور فيلم الأزمنة الحديثة كان تشابلن قد بدأ رحلته في القارة العجوز للترويج لفيلم أضواء المدينة، وضمن جولته؛ كانت برلين في انتظاره بحشود كبيرة، ولكن ذلك لم يثني النظام النازي عن كيل الشتائم له عبر الصحف بسبب صداقته مع آينشتاين!
“استقبل تشابلن اليهودي استقبالاً حاراً في برلين، يكاد الأمر لا يصدق، إذ كيف يمكن للألمان الترحيب بأجنبي من اليهود؟ العدو اللدود للعرق الآري”، بهذه الكلمات بدأت النازية الألمانية محاربة تشابلن المحارب أصلاً من قبل الولايات المتحدة، فوضع اسمه فيما كان يعرف بـ “الكتاب النازي” ضمن خانة الأشخاص اليهود المطلوب قتلهم!
لم يكن تشارلي يهودياً، ولكنه لم يرد على ادعاءات النازية!
عندما اعتلى هتلر صدارة المشهد في ألمانيا كان تشارلي في انتظاره، فدرس وتمحص في شخصية هتلر ليخرج بفيلم ناطق أسطوري، تحفة فنية تسخر من النظام النازي بعنوان الديكتاتور العظيم (The Great Dictator)، وذلك في العام 1940.
سيبقى ذلك الخطاب الأسطوري في نهاية الفيلم ملهماً لأجيال كثيرة قادمة، ذلك الخطاب الذي نزع من خلاله تشابلن ثوب الشخصية التي سخر منها في الفيلم، ليتحدث إلى البشرية كلها بإنسانية منقطعة النظير.

تشابلن، أحب مرة واحدة!

التقى تشارلي بملدريد هاريس في إحدى الحفلات وهي ابنة الـ 16 عاماً في عام 1918، فوقع تحت سحرها الأنثوي الطاغي، ولكنه لم يرى فيها نداً من حيث الذكاء، فادعت بأنها حامل منه بعد لقائهما بأسابيع خوفاً منها على رحيل تشابلن الذي كان يمثل بالنسبة لها صيداً ثميناً، ذلك بأنها كانت تطمح إلى الوصول إلى قمة النجومية، فما كان منه إلّا أن تزوجها خوفاً من السجن بتهمة تتعلق بأنها لا تزال قاصراً!
لم تكن حاملاً، ولكنها حملت بعد الزواج؛ فيما دخل تشارلي مرحلة ركود فني في تلك الفترة نظراً لارتباطه بامرأة لا يحبها! ولد نورمان ابن تشارلي وملدريد مشوهاً وتوفي بعد ثلاثة أيام على ولادته، لينفصل تشارلي عن ملدريد بعد ذلك في العام 1920.
فقدان نورمان ضرب أعماق تشابلن فراودته فكرة أن يصنع فيلماً مع طفل، فتفجرت طاقاته الإبداعية في كتابة وتمثيل فيلم الطفل (The Kid) عام 1921، مع الطفل جاكي كوجان، الذي قال عنه تشابلن عند اختياره لتمثيل الفيلم: “لا أعرف سبب اختيارنا لذلك الطفل، ولكنني كلما نظرت إليه شعرت برغبة في البكاء!”، فكانت فكرة الفيلم الذي يتبنى فيه “المتشرد” طفلاً!
يرى النقاد بأن فيلم الطفل هو من أعظم إنجازات تشابلن، فهو يجعلك تضحك وتبكي في الوقت نفسه!
بعد فيلم الطفل بثلاث سنوات بدأ تشارلي بتصوير تحفته الفنية حمى الذهب (The Gold Rush) الذي كتبه وأنتجه وأخرجه ومثله بنفسه، ليتا غراي بطلة الفيلم والتي كانت تبلغ من العمر آنذاك 15 عاماً اصطادت تشارلي، وحملت منه ليتزوجها خوفاً من السجن مجدداً، لم يحبها ولكنه تزوجها لأسباب اجتماعية، وذلك ما قاله بنفسه لها!
أصبح تشارلي والداً لطفلين من ليتا؛ تشارلز الابن وسيدني، لكن ذلك لم يمنع انفصاله عن ليتا بناءً على طلبها هي في العام 1927.
بوليت غودار بطلة فيلمه الأزمنة الحديثة، وبسبب تشابه ظروف الطفولة القاسية التي تشبه الظروف التي مر بها تشابلن، كانت ملجأً له في العام 1936، فوجد فيها كسراً لحالة الوحدة لأول مرة في حياته، ولكنها هجرته في العام 1942، ليعود تشارلي وحيداً!
جميع تلك التجارب جعلت من تشارلي مستعداً للقاء حبيبته الوحيدة، أونا أونيل، الممثلة التي خفق لها قلب تشابلن على الرغم من أنها كانت في السابعة عشر من العمر، فيما كان هو في الرابعة والخمسين!
لقد كانت أونا حب حياته الوحيد والرائع، وحبه الحقيقي، تزوّجها وأمضى حياته برفقتها حتى وفاته في العام 1977.

جائزة الأوسكار، عدو الدولة يعود إليها!

لم تكن الحماسة لتأخذ تشارلي عندما تلقى رسالة مفادها أنه سيحصل على جائزة الأوسكار في هوليوود، فتلك الجائزة بحد ذاتها لا تعني الكثير لعبقري مثل تشابلن، ولكنه أراد تحدي من أبعده عن الولايات المتحدة وأقصاه عن العمل فيها من خلال العودة بانتصار تاريخي.
لم تشعر هوليوود بالأسف عما اقترفته سابقاً بحق تشابلن عبر منحه الجائزة، ولم ترد التكفير عما ارتكبته بحقه، إنما أرادت الظهور بمنظر لائق أمام الرأي العام، للإجابة عن سؤال مفاده: “كيف لم يحصل عبقري كتشابلن على مثل هذه الجائزة؟”!
لم يبدِ تشابلن الرغبة في العودة إلى الولايات المتحدة للحصول على الجائزة، إلّا أن الرسائل التي انهالت على مكتب التحقيقات الفدرالي في واشنطن من كل حدب وصوب آنذاك كانت كفيلة بتشكل حدس لدى تشابلن بضرورة العودة إلى الولايات المتحدة للحصول على الجائزة عام 1972، من باب التأكيد على انتصاره على أعدائه ليس إلّا!
نص إحدى الرسائل التي تلقاها جون إدغر هوفر مدير مكتب التحقيقات الفدرالية آنذاك:
“إلى السيد جون إدغر هوفر،
مكتب التحقيقات الفدرالي – واشنطن العاصمة؛
سيدي العزيز،
سيعود تشارلي تشابلن إلى الولايات المتحدة، ذلك السافل الشيوعي، فلتبقوا ذلك الحقير خارج البلاد”.
نعم، على الرغم من كل هذا عاد منتصراً للولايات المتحدة لاستلام الجائزة فقط، بعد عشرين سنة قضاها ممنوعاً من دخول الولايات المتحدة، عاد منتصراً؛ تماماً كما انتصر في كافة مراحل حياته، وغادرها ووقع تصفيق الجماهير ووقوفها لتحيته ما زال أكبر شاهد على انتصاره، غادر وهو يهمس لزوجته الأخيرة أونا أونيل: “فلنعد إلى منزلنا في سويسرا، فقد اكتفيت من هذا المكان”!
تشابلن الذي حقق نجاحاً هائلاً في الولايات المتحدة رفض الحصول على الجنسية الأمريكية وهو شاب صغير، وإذا عدنا إلى الجذور التاريخية لعدائه مع الولايات المتحدة، فسنجد بأن تشارلي الشاب كيّف شخصيته ليسخر من النظام القائم في الولايات المتحدة، فوصف من قبل دوائر الحكم في الولايات المتحدة بالعنيف والفظ والفوضوي والمناهض للبرجوازية، وكأن الصفة الأخيرة عيب مشين!!!
جون إدغر هوفر الذي كان يشغل منصب مراقب الأجانب عندما دخل إلى وزارة العدل في تلك الفترة وهو شاب صغير وضع تشارلي نصب عينيه، وبالأخص عقب ما قام تشارلي بالسخرية من تلك الوظيفة في فيلم المهاجر (The Immigrant).
أخذ هوفر -الذي ترأس دائرته بعد 7 سنوات من تلك الحادثة- على عاتقه مراقبة تشارلي ومحاولة اصطياده، فبدأ البحث عن علاقات تشابلن الشخصية، نظراً لكونه لم يستطع اصطياده في أماكن أخرى كالسُكر أو المخدرات، فقد كان تشارلي مقلاً في شرابه ولم يتعاطى المخدرات أبداً، فحاول اصطياده في مكان آخر؛ النساء.
بدأ اليمين من خلال هوفر بتشويه صورة تشابلن عبر “تهم” كثيرة تلك التي وجهت لتشابلن لسنوات في الولايات المتحدة بهدف إبعاده، العلاقة مع المراهقات، الشخصية غير السوية، … إلخ!
وفي محاولة من تشابلن للرد، قام بصناعة فيلم السيد فيردو (Monsieur Verdoux) في العام 1947، جسّد من خلاله شخصية قاتل يستهدف النساء، للرد على جميع الادعاءات الشخصية التي طالته.
نجا تشابلن من كافة محاولات هوفر الذي صار رئيساً لمكتب التحقيقات الفدرالي، ومع انطلاقة الحرب الباردة والحملات الأمريكية ضد الشيوعية أواخر الأربعينات، ومع قيام السيناتور ماكارثي بالإعلان عن حملة رسمية للقضاء على الشيوعية في الولايات المتحدة، وجد هوفر ما كان يبحث عنه لسنوات.
“إن بقي شيوعي واحد في البلاد، فسنقضي حتماً على ذلك الشيوعي المتبقي” – جوزيف ماكارثي.
سجّلت مكالمات تشابلن وقام مكتب التحقيقات باستجواب معارفه، وأعاد هوفر قراءة فيلم الأزمنة الحديثة، فأثمرت محاولاته أخيراً، ليحاصر في الولايات المتحدة البروتستانتية في العام 1950 بتهمة “انتمائه لأفكار سياسية تخريبية”، فحظرت أفلامه وقيدت حركته!
أقدم تشابلن على إنهاء فيلمه الأخير تحت الأضواء (Limelight) منطوياً على نفسه برفقة زوجته أونا وأولاده في العام 1952، وعندما غادر الولايات المتحدة سراً للترويج لفيلمه في القارة العجوز، أبرق له مكتب التحقيقات الفيدرالي برسالة تفيد بإلغاء تأشيرته لدخول الولايات المتحدة الأمريكية، وفي حال حاول تشارلي الحصول على تأشيرة جديدة؛ فسيكون مطالباً بالخضوع لتحقيق جديد من قبل مكتب التحقيقات الفدرالي حول كافة التهم التي عمل عليها هوفر لسنوات!
في بريطانيا، واجه تشارلي عدم الترحيب على النطاق الرسمي، بسبب العلاقة الوثيقة التي تربط الولايات المتحدة وبريطانيا، فاتخذ قراراً بالاستقرار في سويسرا، ليموت هناك؛ وحيداً، على الرغم من أنه كان برفقة حبيبته وزوجته أونا وأولاده العشر، تشارلز الابن وسيدني من ليتا، والثمانية الآخرين من أونا.

العزلة والاغتراب!

لم تكن عزلة تشابلن في العام 1952 في سويسرا لتثنيه عن العمل والتفكير، حتى وهو برفقة زوجته الأخيرة أونا أونيل وأطفاله الثمانية، وإلى آخر يوم في حياته حمل ضغينة في قلبه تجاه الولايات المتحدة.
ولكنه البريطاني الذي عاش هناك لفترة، وحورب بشراسة إلى أن غادر عائداً إلى القارة العجوز، فلم يلقَ في بريطانيا وطناً، فكان الاغتراب عنوانه كما كان دوماً، ولكنه؛ وكما فعل مع أعماله التي لم يشعر بالاغتراب حيالها، قهر اغترابه عندما أدرك أهمية الوعي بالاغتراب وأهمية القدرة على تحمّل العزلة، قهره عندما أبقى كلمتين في رأسه “بزوغ الأمل”، وواصل حياته عندما ارتبط بالعالم والآخرين، وانتمى دوماً لفكرة “تشييد المجتمع السوي”!
هكذا قهر تشابلن مشاعر الاغتراب!
وحيداً ومتعباً وقلقاً، هكذا كان تشابلن في معظم فترات حياته!
أعمال تشابلن لم تزل حاضرة حتى اليوم في وجدان عشاق السينما، وحركاته الغريبة وشكله المميز ومشيته الغريبة لا تزال راسخة صعبة التقليد، فإذا حاولت تقليد تشابلن سأرسل لك برسالة أبرق بها تشارلز بوكوفسكي لمن يريد الكتابة من أجل المال أو الشهرة أو النساء تقول: “لا تفعلها”!
لطالما سخر النبلاء من أدوار تشابلن، وبالأخص دور “المتشرد”، مما يؤكد على أن تشابلن ضرب وتراً حساساً لدى الطبقة البرجوازية فيما يتعلق بمفهوم الصراع في المجتمعات بكونه صراعاً طبقياً!
المتشرد كان شخصاً بلا مال أو جاه أو عائلة، فكان عليه أن يناضل دوماً في سبيل الحصول على وجبة طعامه التالية، وذلك بسبب سطوة البرجوازية! المتشرد كان يسعى لإيجاد فتاة يحبها في عالم قاسٍ جداً، عالم يتعرض فيه رجال الشرطة للمتشردين حتى وهم نيام! من منّا ليس تشارلي؟ ومن منّا ليس المتشرد يا تشابلن؟
لقد كان بطلاً عاشقاً للحرية يسير عكس التيّار، فعندما نطق، جسد المعنى الحقيقي للإنسانية، وفي دقائق معدودة.
هو الذي أضحك وأبكى الجميع في ذات المشاهد، وهو الذي جعل الصور المتحركة الفن الأبرز في هذا القرن، لترجح الكفة مجدداً لصالح القديم على حساب الجديد!
هو تشارلي تشابلن إذن، العبقري الذي ما كانت إبداعاته لتولد لولا عوامل البؤس والفقر والعوز والظروف الصعبة، تلك التي حاكاها وحاكى واقعها عبر أفلامه وإبداعاته، كتابة وتمثيلاً وإخراجاً!
موتسارت مات في الثلاثينيات إثر صدمة عاطفية موجهة لفقدان أبيه، وترك خلفه قداس الموتى، قداساً لكل ميت فينا، ولكل من أراد الحياة منا. ناظم حكمت التهمته الدول مشرداً وهارباً، أو ابتلعته السجون في صدف غير سعيدة. رافاييل ألبرتي نجا من الموت أكثر من مرة، وكان حظه استنثنائياً مقارنة ببوشكين ونيرودا وبيتوفي. أما إديث بياف، فلا بد أنها التقت تشابلن، في إحدى الزقاق، ضالة، ولكن من غير مصادفة!

الاثنين، 28 مارس 2016

تحرير التعليم .. دعوة «باولو فريري» للقضاء على «التعليم البنكي»






تتردد كل مرة  الصيحة المعيارية للمعلم البرازيلي الأشهر باولو فريري (Paulo Freire ): لايوجد تعليم محايد ، بل تعليم يقهر، أو آخر يحرر. فقبل 16 عاماً ، وفي شهر مايو ، رحل فريري الذي وضع قضية التربية والتعليم في العالم الثالث على طاولة النقاش العالمي، حين نادى بالأخذ بالتعليم النقدي (الإشكالي) بدلاً عن ذلك الذي يزيد في تبعية الشعوب.
يقول «باولو فريري»: «إن قرار تعليم الشعب القراءة والكتاب هو نفسه قرار سياسي. ومهما يحدث فإنه يجب علينا أن نحذر من التلميحات التي تقال بذكاء أحياناً وخبث أحياناً لإقناعنا بأن تعليم القراءة والكتابة عمل فني محض ولا يجوز خلطه بالسياسة. ذلك أن تعليم القراءة والكتابة لا يمكن أن يكون عملاً حياديًا. فكل ضرب من التعليم يقتضي بطبيعته أن يكون له قصد سياسي».
لعل أهم ما يميز هذه النظرية أنها جاءت تعبيرًا عن أوضاع المجتمعات في العالم الثالث وقدمت تفسيرًا لما يعانونه من (الفقر والتبعية والقهر والجهل) ومن ثم استهدفت تمكين شعوب العالم الثالث من تجاوز  التخلف عن طريق التربية التي تنظر إلى التحرير وليس التبعية فهذه النظرية جعلت من «التحرير التربوي» وسيلة لتحرير المجتمع من مشاكله الاجتماعية.

من رحم المعاناة
ولد باولو فريري سنة 1921م في مدينة رصيفي في البرازيل. وهي في ذلك الوقت من أبشع مراكز الفقر في العالم الثالث. تتركز فيها خصائص النموذج البرازيلي في التنمية ومشكلاته، فهي مركز صناعي هام، وموطن حركة عمالية قوية، ومسرح اضطرابات ومصادمات دامية بين الجماهير والسلطات الدكتاتورية الحاكمة. وهو ينتمي إلى أسرة متوسطة الحال، أوقعتها الأزمة الاقتصادية في الفقر، مما جعله يعاني الجوع، ويقسم على أن يكرس حياته لمحاربة الفقر والقهر السائدين في مجتمعه. حصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة رصيفي سنة 1959م، وعمل فيها أستاذًا لتاريخ وفلسفة التربية ،حتى وفاته في الثاني من مايو عام 1997م.
نسج باولو فريري فلسفته التربوية من خيوط متنوعة: من الدراسة النظرية التي تأثرت بكتابات الثوار والراديكاليين ومن الممارسة العملية في تدريس التربية والعمل في مشروعات تعليم الكبار ومحو الأمية لمدة تزيد على خمسة عشر عامًا في المناطق الحضرية والريفية في البرازيل. ومن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة السائدة بين الجماهير، انخفاض مستوى الوعي، وسيادة الجهل. ومن الأوضاع السياسية  سيطرة الدكتاتورية في الداخل والتبعية للخارج. ثم من الأوضاع التعليمية السيئة، حيث وجد في البرازيل في الستينيات أربعة ملايين طفل في سن التعليم خارج المدارس، وستة عشر مليون أمي من البالغين.
فلسفة لم تأت نتيجة للتفكير والدراسة فقط، بل ترجع جذورها إلى مواقف محددة وهي - كما يقول - ليست فلسفة وضعت في صورة نهائية، بل هي قابلة للتعديل والإضافة مع استمرار التفكير والدراسة والممارسة العملية.
فلسفة باولو فريري ،بالتالي، لم تأت فقط من التفكير والدراسة والتنظير بقدر ما جاءت نتيجة للدراسة وللممارسة العملية والواقع الحياتي، فباولو فريري لا ينقل فلسفات الدول المتقدمة أو يخاطبها بل يفكر في بلدان العالم الثالث ويعمل من أجلها دون تجاهل لتجربة العالم المتقدمة، فأخذ منها أفضل ما فيها مما يمكن أن يناسب الوضع القائم الذي يعمل فيه.

أسس صريحة
قامت أفكار وبرامج باولو فريري التربوية على أسس فلسفية واضحة:
- الإيمان العميق بالإنسان وبجماهير الشعب وقدرتها على تغيير أوضاعها وتغيير العالم.
- النظر إلى المعرفة على أنها عملية بحث لاتلقين، وأنه لا يوجد جهل مطلق أو حكمة مطلقة.
- النظر إلى العالم على أنه عملية متجددة متغيرة وليس وضعًا ثابتًا فيزيقيًا واجتماعيًا.
- أن الوعي والنظرة الناقدة مفتاحا الطرق إلى التعليم، وفهم العالم، وتغييره.
- أن التعليم عملية تغيير وتحرير اجتماعي.
لقد كان فريري يؤكد دائمًا أن التعليم في بلد مقهور يكافح من أجل التحرر يجب أن يكون سياسيًا غير محايد، وإلا فلن ينجح في تحقيق أهدافه، وأن التعليم أداة للتغيير الاجتماعي الثوري للواقع الذي تعيشه بلدان العالم الثالث، وللتغلب على الفقر والقهر والتبعية.

تشريح القهر
نقطة الانطلاق في فلسفة باولو فريري التربوية هي تحليل عملية «القهر» التي يعانيها العالم الثالث، وإيضاح نتائجها الاجتماعية والنفسية ومحاولة اكتشاف الطريق للتغلب عليها.
لقد بين فريري في كتابه «تربية المقهورين Pedagogy of the Oppressed أن القهر أو السيطرة هو السمة الرئيسة للعصر الذي نعيشه.
ويعني فريري بالقهر في العالم الثالث: ذلك النسق من المعايير والإجراءات، والقواعد، والقوانين الذي يشكل الناس ويكيف طبيعتهم في المقام الأول، ثم يضغط بعد ذلك على عقولهم حتى يعتقدوا أن الفقر والظلم الاجتماعي حقيقتان طبيعيتان ولا يمكن تجنبهما في الوجود الإنساني ولا يتم ذلك إلا حينما يكون النفوذ والسلطة لدى قلة من الناس، والخرافة، والوهم في عقول الكل.
وقد وجه فريري فكرة إلى واقع أمريكا اللاتينية ليكشف الحقيقة التاريخية لواقع القهر، وفهم تفسير الحواجز التي تحول دون تحقيق الإنسان لآدميته ولإنسانيته الكاملة.
ويقول فريري مشخصًا هذا الواقع المعوق للتنمية والمكرس للتخلف: «إن مجتمعات أمريكا اللاتينية مجتمعات مغلقة تتميز ببنى اجتماعية صارمة الهيراركية، وبنقص السوق الداخلية لأن اقتصادياتهم تدار من الخارج، وبتصدير المواد الخام واستيراد السلع الاستهلاكية دونما أن يكون لهم أي تدخل من هاتين العمليتين، وبنظام تربوي انتقائي غير مستقر، ومدارس أداة للمحافظة على بقاء واستمرار الأمر الواقع، وبدرجة عالية من الأمية والأمراض.. كما تتميز هذه المجتمعات بتلك المعدلات الخطيرة لوفيات الأطفال. وبسوء التغذية الذي غالبًا ما يدمر الملكات العقلية للإنسان، وبالتوقعات الحياتية المتدنية وبمعدلات الجريمة العالية».
ويصدق هذا التشخيص لدول أمريكا اللاتينية وينطبق على كثير من مجتمعات العالم الثالث، وبعض جيوب التخلف في بعض الدول الصناعية الغنية.
والقهر  ليس مجرد بنية اجتماعية واقتصادية، وإنما ثقافية أيضًا ويسميها البعض «ثقافة القهر» بينما يسميها فريري «ثقافة الصمت» وهي «ثقافة مغتربة» Alienated Culture يتم فيها قبول الأمر الواقع القهري فيتأرجح الناس بين وهم التفاؤل وقهر التشاؤم غير قادرين على تغيير واقعهم وسعيهم الجاد نحو المستقبل.
ولذلك يسعى الناس في هذه المجتمعات إلى استعارة حلول لمشكلاتهم من المجتمعات الأخرى دونما فحص أو تحليل نقدي لسياقاتها التاريخية التي ظهرت وتبلورت فيها، ونتيجة ذلك أن تكون ثقافة هذه المجتمعات «ثقافة مغتربة».
إن مظاهر القهر والاغتراب التي وصفها باولو فريري أمر ملاحظ ومشاهد أينما نظر الإنسان في دول العالم الثالث وإن كان الأمر يبدو واضحًا في بعض الدول وغامضًا وغير مرئي في دول أخرى. وهو يرى أن الحل يكمن في التربية، ولكن أي نوع من التربية؟ وكيف تبدأ؟
تبدأ تربية المقهورين بإيضاح حقيقة القهر في العالم، وضرورة تغييره والسبيل إلى تحقيق ذلك. أي تبدأ بتغيير نظرة المقهورين إلى عملية القهر، وتخليصهم من الأوهام والأساطير التي صورها وصنعها النظام القديم. وبعد تغيير وضع القهر لا تصبح تربية للمقهورين فقط، بل لكل الذين يمرون بعملية التحرر الدائم.
وهنا نجد فريري يربط دائمًا بين التخلص من الجهل والتحرر من القهر وهذا لا يتم إلا بالوعي السياسي والتخلص من الأوهام والأساطير التي تصنعها وتروجها القوى المسيطرة في المجتمع.

التعليم البنكي
التعليم بصفته الحالية في بلدان العالم الثالث - بالنسبة لفريري- هو أداة للقهر يتم فيها التعامل مع المتعلمين بوصفهم أشياء أو مستودعات وهذا ما يطلق عليه فريري التعليم البنكي.
أي كم المبلغ الذي تم إيداعه بمفهوم التعليم البنكي حيث لم يعد المعلم إحدى وسائل المعرفة والاتصال بالعلم، بل مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلبة الذين تحدد دورهم في هذا النوع من التعليم كمستقبلين للمعلومات يخزنونها دون وعي لحفظها وإعادة تذكرها دون أن يعوا معانيها وفي النهاية تصبح وظيفة التعليم في هذا المجتمع تحقيق تكيف الإنسان مع المجتمع واستسلامه للقهر.

التربية الإشكالية
بدلاً من التربية «المصرفية» التقليدية التي تدعم القهر، يطرح باولو فريري مفهومًا جديدًا للتربية يدعو إلى الحرية، هو «التربية الإشكالية».
وهذا الأسلوب يعتمد على طريقة طرح المشكلات على جوهر الوعي وكشف مستمر للحقيقة والحياة.
ويمكن المقارنة بين التربية المصرفية والتربية الإشكالية على النحو التالي:
- التربية المصرفية تحاول أن تخفي الطريقة التي يعيش بها الإنسان في العالم، وذلك عن طريق وضع العالم في صورة أسطورية. أما الإشكالية فتحاول أن تنزع هالة الأسطورية عن العالم.
- التربية المصرفية تقاوم الحوار.. الإشكالية تنظر إلى الحوار على أنه وسيلة لإدراك العامل.
- التربية المصرفية تعتبر التلاميذ كائنات تستحق المساعدة، والإشكالية تصنع منهم مفكرين ناقدين.
- التربية المصرفية تحبط الإبداع، والإشكالية تقوم على أساس الإبداع والتفكير الناقد.
- التربية المصرفية لا تنظر إلى الإنسان على أنه كائن تاريخي، والإشكالية تعتبر تاريخية الإنسان نقطة الإنطلاق.
- التربية المصرفية تؤكد الثبات، وتكتسب طابعًا محافظًا، فيما تنظر الإشكالية إلى الوضع كمشكلة قابلة للتغيير.
- التربية المصرفية تؤكد القدرية. أما الإشكالية فتطرح هذا الوضع كمشكلة قابلة للتغيير.
- التربية المصرفية تهدف إلى تحقيق تكيف الإنسان مع الواقع الاجتماعي، وبقاء هذا الوضع دون تغيير. أما التربية الإشكالية فتهدف إلى تغيير الواقع الاجتماعي.

أصوات محلية من التعليم البنكي 
يمكن التعريف بسهولة على خصائص التعليم البنكي من خلال الإنصات للمقاطع التالية من أصوات المعلمات:
- «رددوا وراي بصوت واحد».
- «شوفي وشلون أنطقها وسوي مثلي بالضبط».
- «بكره يا بنات الدرس صعب جدًا وكله براهين اللي تغيب مستحيل تفهم».
- «من هي الذكية الممتازة اللي بتحفظ الأنشودة اليوم وتسمعها لي قبل ما أطلع».
- «ولا نفس، أبغي أسمع صوت القلم إذا طاح على الأرض».
- «خططوا معي - بسرعة ما وفي وقت حطي خط من أول الفقرة الثانية واكتبي هذا السؤال».
- «احفظوا الكتاب من الجلدة إلى الجلدة».
- «هذا القانون يحفظ صمتجيك المسألة في الاختبار اكتبيه وعوضي بالأرقام.. مفهوم» (المراد فهمه هنا تعليمات المعلمة وليس القانون).
- «بلاش نضيع الوقت في أسئلتكم التافهة».
- «أهم شي عندي الأخلاق».
- «بسرعة عدلي جلستك».

معلم المقهورين ـ حميد بن خيبش



Paulo Freire
يحكي الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز في مذكراته الشخصية أنه سأل جده في الصغر عن معنى كلمة "بحر"،غير أن هذا الأخير لم يعثر على صورة له في قاموسه المهترئ القديم فحاول أن يشرحها له من خلال عبارة تستحق التسجيل،قال " هناك كلمات لا يحتويها القاموس،لأن الناس جميعا تعرف معناها ".ويبدو الأمر كذلك حين نتحدث عن الاضطهاد والتحرر كما ترددا في كتابات المفكر و التربوي البرازيلي باولو فريري (1997-1921)، فللمفردتين معا دلالات خلاقة لا يمكن أن تستشفها من التعريفات المبثوثة في القواميس و المعاجم.وحده باولو فريري من خلال رؤيته الإنسانية والتناقضات التي ضج بها واقعه يمكنه أن يضعك أمام ضراوة القهر المطمور تحت ثقافة الصمت,وآلية تفجيره من الداخل لبلوغ التحرر الفعال.
لم تكن "ريسايف"،مسقط رأس باولو فريري،غير تجل آخر لأحزمة البؤس والقهر المنتشرة في البرازيل مطلع الثلاثينات من القرن الماضي.وأسهمت الأزمة الاقتصادية الشهيرة عام 1929 في تضييق الخناق على أسرة فريري ليختبر بنفسه آلام الجوع و المعاناة,وليعزز مقولاته النظرية فيما بعد بميزة الممارسة العملية والخبرة المستقاة من واقع مجرب.فكان اكتشافه لثقافة الصمت التي يلوذ بها المقهورون مدخلا لتصحيح الوضع التعليمي،لا على صعيد تعليم الكبار فحسب,بل أيضا من خلال إبداع فلسفة تربوية تضع حدا للهيمنة والغزو الثقافي،وتحرض المقهورين على الدخول في حوار ناقد مع العالم،يُسائله تمهيدا لتغييره وتجاوز مقولاته الاستعلائية.
إن ثقافة الصمت كما يعرضها فريري في الفصل الأول من كتابه "تعليم المقهورين"وليدة حالة اللا أنسنة،أي اختلال قدرة الإنسان على ممارسة وجوده على نحو متكامل.وهي ليست حتمية مصيرية بل ظاهرة تاريخية يمكن تجاوزها نحو الأنسنة عبر مسعى التحرر والنضال،مما يفرض التعرف على أسباب القهر وظروفه ليتمكن المقهور من تطوير موقف جديد تتحقق فيه إنسانيته،بمعنى أن يؤدي تفكيك القهر إلى تجسيد الحرية و التأسيس لمقومات الكرامة الإنسانية،لا إلى لعبة تبادل أدوار مقيتة:"إن بعض المقهورين،خلال مرحلة النضال،بدلا من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريتهم فإنهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين وأشباههم.وهذا المظهر في واقعه انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلوا يعيشون فيه،فقد حلم هؤلاء بأن يصبحوا رجالا ولكن صورة الرجل ظلت في مخيلتهم هي صورة القاهر" (1).غير أن استعادة الحرية و التوازن النفسي،والانتقال من حال الخضوع إلى التمرد و المجابهة يظل رهينا بتبديد عوائق ثاوية في التكوين النفسي والعقلي للمقهور. فالخوف من الحرية و الاستهانة بالذات ينجم عنهما حالة من التلاؤم و التأقلم مع الوضع السائد،وبالتالي الميل إلى التوافق وتفضيل حياة القطيع على التحرر و الإبداع.لذا حرص فريري على التأكيد بأن الأداة الفعالة التي يستهل بها المقهورون مسلسل نضالهم هي تطوير أسلوب تعليمي نقدي يكتشفون من خلاله أنفسهم.
لكن قبل المضي في عرض البدائل التي طرحها فريري لبلوغ أنسنة ممكنة لهذا الواقع غير المتحرر،لابد من الإشارة إلى أن دعوته لم تكن مجتزأة من السياق الاجتماعي والتاريخي لدول أمريكا اللاتينية ككل.فالمنطقة آنذاك كانت مسرحا لتيار لاهوتي جديد،مزج بين معطيات علم اللاهوت ومقولات التحليل الاجتماعي للتبعية و التخلف اللذين تعيشهما أمريكا اللاتينية.إنه لاهوت التحرير الذي أعلن عن ميلاده القس غوستافو غوتييريز في دولة البيرو عام 1968,واضعا بذلك الحجر الأساس للكنيسة الشعبية التي تبنت مفهوم التربية التحررية كما باشره فيما بعد باولو فريري.إذن كان المشهد يعرف نوعا من الحراك الديني والثقافي الذي استوعب آراء فريري وهيأ لها فرص النجاح قبل حدوث الانقلاب العسكري.
ينتج مجتمع القهر نظاما تربويا مكرسا لخدمته والإبقاء عليه،وبالتالي فلا صحة للمقولة السائدة لدى أغلب التربويين حول قدرة التربية على إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي وتغيير الأوضاع الراهنة.أما دور المربي أمام وضع كهذا فهو كشف الأساليب التعليمية المعتمدة في التطبيع مع القهر وإبطال مفعولها،ثم استعادة البعد الإنساني للتعليم كمدخل حيوي لاكتساب الحرية.وفي التحليل الموضوعي لعلاقة الأستاذ بالتلميذ يكشف فريري عن خصائص التعليم النابع من فلسفة القهر والعنف.فأسلوب التواصل بين الطرفين داخل فضاء الحجرة الدراسية قائم على شحن العقول بخبرات ميتة تعيد إنتاج الواقع بدل تجاوزه وتغييره،وتحض على الإذعان للهجة المتعالية وادعاء امتلاك الحقيقة و المعرفة من لدن طرف واحد سواء داخل الفصل أو حتى خارجه.إنه أسلوب يكرس الجهل عوض التصدي له،ويؤسس لتعليم قائم على إيداع المعلومات واستردادها وفق دورة لا تنتهي:"هكذا أصبح التعليم ضربا من الإيداع،تحول فيه الطلاب إلى بنوك يقوم الأساتذة فيها بدور المودعين، فلم يعد الأستاذ وسيلة من وسائل المعرفة و الاتصال،بل أصبح مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلاب في صبر ليتذكروا ما يقوله ثم يعيدوه.ذلك هو المفهوم البنكي للتعليم."(2)
في المقابل يدعو باولو فريري إلى تعليم إنساني "ثوري"يحرر التلميذ من التناقض الذي يفرزه التعليم البنكي بين المحتوى التعليمي الجامد وحركية الواقع المستمرة.
تعليم ينمي الملكة النقدية ويولد قلقا مستمرا يحفز الطلاب على التفكير و الإبداع،وحل التناقضات التي تحول دون الحرية.
تعليم لا يختزل أداء المعلم في ملء الأواني الفارغة وتعويد الطلاب السلبية والتأقلم،بل يرسم إطارا جديدا لعلاقة بين الطرفين قوامها الحوار والتعلم المستمر و المشاركة في اكتشاف حقائق العالم !
إن التعليم برأي فريري لا يمكن أن يكون محايدا مادام ضرورة إنسانية،وكل ادعاء للحياد هنا لا يخلو من زيف.فإما أن يكون عملية تحرر وتجاوز,وإما عملية أقلمة وتطويع و ملاءمة للجيل الناشئ مع الأوضاع القائمة.إننا عندما نخطط ونرسم السياسات التعليمية نكون بصدد أعمال سياسية منطوية على اختيار إيديولوجي سواء كان هذا الاختيار واضحا أو مبهما لا فرق (3).غير أن مجرد الوعي بهذه الحقيقة لن يغير من الأمر شيئا ما لم تتم إعادة الاعتبار لعلاقة الإنسان بالعالم عبر منهج تعليمي محدد وسيلته المثلى:الحوار !
يؤمن فريري بأن الحوار مواجهة سلاحها كلمة صادقة ذات بعدين:الرؤية التي تضفي على الوجود الإنساني قيمة ومعنى،والفعل المحفز على تغيير الواقع.أما الغاية منه فهي التأسيس لعلاقة تضامنية بين الطرفين (المدرس و الطالب) تحقق الأنسنة عبر التفكير المبدع،وهو ما يفرض إعادة النظر في الرؤية المتحكمة في بناء الموقف التعليمي "إن الصفة الحوارية للتعليم كمظهر للحرية لا تبدأ حين يقابل المدرس التلميذ في موقف تعليمي،بل تبدأ حين يسأل المدرس نفسه عن القضية التي سيجعلها موضوعا للحوار مع التلميذ"(4).وهذا المنهج الحواري هو قلب العملية التحررية كما تصورها فريري،والذي يُكسب الطالب وعيا نقديا يتسم بالعمق في طرح المشكلات وكشف التناقضات التي يضج بها العالم من حوله،ثم يعمل على خلق حالة حوارية دائمة تنمي ملكات الفضول المعرفي و التساؤل،و تستنهض إمكانيات التغيير و المراجعة.
ليس المنهج الحواري إذن مجرد نقل وتحويل للمعلومات والبيانات ضمن علاقة تسلطية ورأسية غير قابلة للنقاش,وإنما يتعلق الأمر بوضع تعليمي قائم على السعي المشترك بين الطرفين لمعرفة المزيد، وعلى استجاية واعية لتحقيق الحرية.إن هذا النوع من التعليم،يقول فريري،ينطلق من قناعة فحواها أن البرنامج التعليمي لا يكون تعليميا مالم يتخذ من الحوار مع الناس أساسا له.فهو يقدم أسلوب تعليم المقهورين بالطريقة التي يسهم فيها المقهورون أنفسهم وبصورة إيجابية في العملية التعليمية (5).
طور باولو فريري نظرية لتعليم الكبار وظف من خلالها مقولاته حول التربية النقدية مستلهما كلماته الدلالية وتقنياته و تصوراته من بيئة المقهورين ذاتها.وتتضمن نظريته التي أوردها بتفصيل في كتابه "التربية من أجل إثارة الوعي النقدي" الخطوات الإجرائية الآتية :
-  دراسة البيئة و رصد الموضوعات الخاصة بالمنطقة.
- حصر و انتقاء الكلمات التوليدية " أو المنتجة كما يسميها فريري" ذات البعد الانفعالي و التي تمكن من تحديد مستويات إدراكهم للواقع وللبناء الاجتماعي و السلطوي من حولهم.
- تنظيم محتوى البرنامج التعليمي انطلاقا من الموضوعات التي تثير احتياجات لدى الأفراد ،وإعداد التصنيفات و الرموز المراد استخدامها لتناول مشكلة معيشية على سبيل المثال.
- تدشين حوارات فك الرموز عبر حلقات بحث الموضوعات،والتي يشترط فريري أن تتألف من عشرين شخصا كحد أقصى،وأن تستوعب الحلقات عشرة بالمائة من سكان المنطقة موضع الدرس .
- متابعة مكملة للمستفيدين من هذه الحملة التعليمية كي لا يرتدوا مجددا إلى الأمية .
جرى لاحقا تطوير منهجية فريري لتشمل ليس فقط الكبار بل حتى الأطفال اليافعين المتسربين من المدارس. إذ تم تصميم برامج تثقيف المتسربين وفق منهجيةTCELFER،وهي اختصار ل"الفريرية المتجددة لمحو الأمية من خلال التقنيات المجتمعية".وفي مقابلة أجرتها كاترين دينيس (6)مع جواد قسوس المشرف على برنامج تعزيز ثقافة المتسربين بالأردن،يقدم هذا الأخير مثالا حيا للنتائج الإيجابية التي حققتها هذه المنهجية مع فئة من أطفال الشوارع:
" لقد استخدمنا أسلوب الحوار لتحديد المواضيع التي تهم الطلاب،فعلى سبيل المثال كان موضوع التعرض للحرارة الخارجية أثناء النهار من المواضيع التي حازت على اهتمامهم. بداية، طلبنا منهم وصف شعورهم إزاء تعرضهم لحرارة الجو ومن ثم ربطنا ملاحظاتهم ببعض المشاكل الصحية مثل الجفاف و الحروق الناجمة عن التعرض للشمس التي يمكن أن تسببها الحرارة. انتقلنا بعدها لتعلم الأجزاء المختلفة من جسم الإنسان وشرح عملية الجفاف وأهمية الماء للجسم وكيفية امتصاصه.فكنا نبدأ، على سبيل المثال، بكلمة "شمس" ومن ثم نكتب كلمات أخرى تبدأ بحرف "ش" وكلمات تبدأ بحرف "م" ثم كلمات تبدأ بحرف "س".وانطلاقا من الكلمات كنا ننتقل إلى الجمل والنصوص البسيطة.فقد أنتجنا نصا يمكن للطلاب قراءته وإعادة كتابته و التعامل معه.وبناء على ذلك تم تصميم الاختبارات،حيث شعر الطلاب لأول مرة بأن الاختبار أمر يمكن اجتيازه لأن المواضيع كانت مألوفة بالنسبة إليهم "(7).
 نجح البرنامج كذلك في إقناع المعلمين المشاركين في هذه الحملة بالتخلي عن أساليب التدريس التقليدية،واعتماد منهجية فريري في فصولهم الدراسية،مما يستدعي تبنيها كأسلوب بيداغوجي في المؤسسات التعليمية.
تطورت تربية المقهورين إلى "تربية الأمل " كما صاغ فريري مقولاتها في أواخر حياته،ملائما موقفه مرة أخرى مع لاهوت التحرر الذي تطور بدوره إلى "لاهوت الحياة".وفي الصياغة الأخيرة بدا فريري أكثر تفاؤلا وثقة بالمستقبل.لقد كان كما وصفه التربوي الأمريكي باتريك كلارك "شعلة مضيئة في ظلام الحتمية الإيديولوجية و اليأس والمنظم".
إن استحضار باولو فريري اليوم ،كرؤية إنسانية تنشد نهجا تعليميا أكثر إنصافا وعدالة،لهو أمر يستمد وجاهته من الضغط الذي تمارسه عولمة لا ترحم،ومن القهر الذي لا يكف عن ملاحقتنا وفق أكثر الصيغ تهذيبا ومراوغة.
فهل تفلح منظوماتنا التعليمية اليوم في التمسك بالتعليم كحق إنساني يتصدى للتمييز والاستبعاد, أم سيكون للمذهب النفعي و الاقتصادي الضيق كلمته الأخيرة ؟


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- باولو فريري: تعليم المقهورين.دار القلم بيروت.د.ت.ص 28
2- نفس المرجع.ص51 
3- د.سعيد إسماعيل علي: فلسفات تربوية معاصرة.المجلس الوطني للثقافة و الفنون والآداب.الكويت1995.ص 181
4- باولو فريري.مرجع سابق.ص 71   
5- نفس المرجع.ص 90
6- المديرة الإقليمية للجمعية الألمانية لتعليم الكبار في الشرق الأوسط.
7- كاترين دينيس :تعليم الكبار و التغير الاجتماعي.مؤسسة التعاون الدولي للجمعية الألمانية لتعليم الكبار.الأردن2013.ص76