عن موقع : مؤمنون بلا حدود
من الأسئلة البدهية والأولية التي تطرح في كل نقاش حول تدريس الفلسفة للأطفال: هل يمكن للطفل أن يتفلسف؟ ما هي المداخل الممكنة لضمان تعليم فلسفي للأطفال؟ هل يتعلق الأمر بتدريس مفاهيم كما هو الحال في المستويات التعليمية الأخرى، أم أنّ الأمر يتعلق بتبسيط موضوعات فلسفية للطفل؟ هل للطفل أسئلة فلسفية وهو لم يتشكل وعيه الذاتي بعد؟ هل يشترط التفلسف وعياً بالذات؟ ألا يمكن أن تكون هناك انعكاسات سلبية لهذا التعليم على الطفل؟ كيف يمكن ضمان عدم أدلجة تعليم الطفل؟ ألا يستهدف تعليم الفلسفة للأطفال ترويضهم لخدمة أهداف سياسية؟
في حقيقة الأمر وبعيداً عن الديماغوجية، لا نرى مانعاً في الدفاع عن حق الطفل في التفلسف، إذا اعتبرنا أنّ التفكير الفلسفي هو تفكير نقدي ينبني على التساؤل ويعزز القدرات النقدية في التفكير وإعمال العقل، خاصة في عالم اليوم حيث غدت النزعة الاستهلاكية شراً لا بدّ منه، وحيث يتمّ تلقين الإنسان مبادئ السوق الحرة منذ الطفولة. ذلك أنّ آليات التنشئة الاجتماعية صارت معقدة للغاية، وتغلغلت إليها مبادئ كانت بالأمس القريب مرفوضة تماماً. في الوقت نفسه نجد أنّ للفكر الفلسفي حضوراً قوياً خارج المؤسسات، بفضل تنامي المقاهي الفلسفية والجامعات الشعبية وتغلغل الفلاسفة الجدد (فيما يشبه نجوم الفن) إلى وسائل الاعلام، وحيث وجدت الفلسفة أنصاراً ومريدين لها في مجالات أخرى شتى.
أمام حضور الفلسفة هذا صار البحث عن توسيع دائرة المهتمين بتدريس الفلسفة للأطفال أمراً ملحّاً. فالأصوليات الجديدة اخترقت كلّ المجالات وهيمنت على مؤسسات التربية والتعليم، وخاصة مؤسسة تربية وتكوين الناشئة. ونقصد تحديداً أصولية النيوليبرالية (الرأسمالية ونظام السوق الحرة) والأصولية الدينية، فهل يمكن السكوت أمام هذا الزحف؟
لم يكن تدريس الفلسفة للأطفال قديماً جداً، بحيث لم تظهر هذه الفكرة إلا في نهاية الستينات من القرن الماضي في أمريكا بفضل جهود ماثيو ليبمان. وخطوة خطوة حذت دول أخرى في مختلف بقاع العالم[1] حذو هذه المبادرة.
تدريس الفلسفة للأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية:
كان ماثيو ليبمان يبحث عن طريقة لتبسيط الفكر المنطقي لطلابه في المرحلة الجامعية، وفكر في أنه من المستحسن تدارك ذلك في حداثة سنهم. ولهذا السبب كتب روايته القصيرة المعنونة بـ: "اكتشاف هاري سوتلمير La découverte d’Harry Sottlemeier" والموجهة للأطفال ما بين سن العاشرة والثانية عشرة من العمر، حيث يمكن لمجموعة أطفال البحث عن قواعد التفكير السليم. وبالتعاون مع آنا مارغريت شارب كتب روايات أخرى، على منوال منهج المناقشة السقراطية (التوليد) بين التلاميذ حول الأتيقا والجماليات والسياسة، والإبستمولوجيا. وهو ما شكل في مجموعه برنامجاً للفلسفة خاصاً بالأطفال ما بين سن الخامسة والثالثة عشرة.
ترتكز منهجية ليبمان الأكثر شهرة في العالم[2] على ثلاث وسائل:
ـ تطوير ثقافة السؤال في المدرسة من خلال الانطلاق من أسئلة الأطفال نفسها.
ـ حث الأطفال على كتابة نصوص سردية تتمحور حول انتماء الطفل إلى شخصيات وحالات (تستحضر البعد الإنثربولوجي).
ـ تخصيص حيز للكلام والتبادل في القسم للمشاكل العالمية: البيئة، الفقر، اللامساواة... وتكون المناقشة حرّة، شريطة استحضار النقد والدليل والحجة.
الأرجنتين:
بدأت تجارب تدريس الفلسفة للأطفال في الأرجنتين سنة 1989 داخل مدرسة خصوصية ببوينوس آيرس. وظهر المركز الأرجنتيني لتعليم الفلسفة للأطفال سنة 1993 بجامعة بوينوس آيرس. حيث ترجم برنامج ليبمان ونشر، ونشرت معه بعض المعدات الموجهة لتدريس الفلسفة للأطفال. وهي التجربة التي دفعت إلى انطلاق تجارب أخرى في مدن أخرى من قبيل مدينة كاطامارا، ودعم المبادرة في مدارس أخرى إلى جانب تخصيص برنامج تكوين مدرسين في هذا التخصص بمدارس الأساتذة.
البرازيل:
لقي نموذج ماثيو ليبمان نجاحاً باهراً في البرازيل. حيث نشأ معهد تدريس الفلسفة للأطفال سنة 1989 بساو باولو، وتمّ تكوين آلاف الأساتذة لتدريس الفلسفة للأطفال في برنامج ليبمان قبل انطلاق التجربة في كل ربوع البلاد. ويمكن أن نؤكد وجود ما يقارب 10000 مدرس و100 ألف طفل يعيشون تجارب مختلفة في تدريس الفلسفة في المدارس العمومية والخاصة.
المملكة المتحدة:
لا توجد أية مبادرة لتدريس الأطفال في المملكة المتحدة قبل سنة 1990. ولكن كانت هناك مجموعة صغيرة من المربين، ومن ضمنهم روبير فيشر الذي يشغل منصب مدير برنامج مهارات التفكير بجامعة برونيل والذي يهتم بتدريس الفلسفة للأطفال.
ولقد أثار مشروعه الانتباه وأخذ بالاعتبار بعد الشريط الوثائقي الذي بثته قناة BBC سنة 1990 تحت عنوان "سقراط لأطفال السنة السادسة من العمر Socrates for 6-years old" والذي لقي إقبالاً واسعاً جداً. حيث تمّ سنة 1991 إنشاء مؤسسة النهوض بالفلسفة في التعليم، بهدف تعزيز تجربة الفلسفة للأطفال.
بعد ذلك بثلاث سنوات، دشنت المؤسسة تجربة تكوين أساتذة لتدريس الفلسفة للأطفال، مبنية على نموذج ماثيو ليبمان وانطلقت التجربة بالفعل.
أستراليا:
لا نملك الكثير من المعطيات عن هذا البلد، غير أنه تمّ دمج تجربة تدريس الفلسفة للأطفال في المدارس الابتدائية.
اليابان:
اشتغل الأستاذ تاكارا والأستاذ إيفا مارسال بشكل مكثف منذ سنة 2003 على مشروع بحث دولي تحت عنوان: "Das Spiel als Kulturtechnik"، والذي يعالج في جانب منه تدريس الفلسفة للأطفال. وهناك مبادرة بحث ألمانية ـ يابانية (DJFPK) تخص تدريس الفلسفة للأطفال، انطلقت في غشت من سنة 2006 بدعم من المدرسة العليا للتربية بكارلسروه Karlsruhe والغرض من هذه المبادرة هو خلق أرضية نظرية صلبة تخص تدريس الفلسفة للأطفال، حول فلاسفة الغرب من قبيل: سقراط، هيوم، غوته، روسو، كانط، نيتشه... وحول فلاسفة الشرق من قبيل: تاكاجي، هياشي، تسو كوكي والمربي توشياكي أوز. والغرض من هذه المبادرة هو تقريب المفاهيم الإنثربولوجية عند أطفال اليابان والألمان معاً. وممّا لا شك فيه أنّ هذه التجربة ستكون نوعية جداً بالنظر إلى أهدافها الكبرى، حيث تجدد اللقاء بين الشرق والغرب حول الفلسفة، فأكيد أنّ كلا البلدين يعيان جيداً حجم المبادرة.
طرق أخرى في تدريس الفلسفة للأطفال:
ليست طريقة ليبمان وحدها المنتشرة والمعروفة في هذا المجال، بل هناك طرق أخرى أهمها:
1 - طريقة أوسكار برينيفيي Oscar Brenifier:
ترتكز طريقة أوسكار برينيفيي على التوليد السقراطي، بحيث يقدّم للأطفال مفاهيم فلسفية: الرأي، الحقيقة، الوعي... بأسلوب مبسط يتوخى حصول التجريد في ذهن المتعلمين الصغار. وتقدم هذه المفاهيم في سلسلة رسوم مصوّرة تمثل وضعيات تسمح للطفل بالتعبير عن رأيه أو دهشته أو رفضه أو قبوله لبعض الأفكار أو الوضعيات المعروضة. ولقد لقيت هذه الطريقة بدورها إقبالاً واسعاً في العالم الفرنكفوني.
2 - طريقة جاك ليفين Jacques Lévine:
وهي طريقة تعتمد على مقاربة التحليل النفسي، وتستهدف تعميق حالات الذات المفكرة، حيث يطرح الأستاذ على التلاميذ في مرحلة أولى مشاكل عامة ستعنيهم مباشرة في مراحل متقدمة من عمرهم من قبيل: البلوغ والرشد.. ويطالبهم بإبداء آرائهم في الموضوع دون أن يتدخل في نقاشاتهم.
ويتمكن التلاميذ في مرحلة ثانية من التعبير عن رأيهم الخاص ويسجل في شريط لمدة عشر دقائق لكل تلميذ، وفي الأخير (المرحلة الثالثة)، يتم عرض الشريط لمناقشته مناقشة حرة مع إمكانية توقيفه في أي وقت لتعميق النقاش. وهي طريقة ترتكز أساساً على مبدأ التعبير الحر دون تدخل الأستاذ.
في الحاجة إلى تعليم الفلسفة للأطفال بالمغرب:
لا يخفى عليكم أهمية القرار التاريخي (2004) القاضي بتعميم الفلسفة في الثانويات المغربية في المستويات الثلاثة، ولكل الشعب والمسالك، ودوره في توسيع دائرة المهتمين بالفلسفة.
وصحيح أنّ هذا التعميم قد اعترضته بعض الصعوبات في السنوات الأولى من دخوله حيز التنفيذ، إلا أنّ إيجابياته كانت كبيرة جداً رغم قلة العدد الديداكتيكية والإمكانيات، وضعف التكوين في مجال تدريس الفلسفة لتلامذة الجذوع المشتركة، ونقص الاجتهادات في الخصائص النفسية والوجدانية والعاطفية لشباب 14 أو 15 ربيعاً. سيكون من السابق لأوانه الإقرار بالحاجة إلى تدريس الفلسفة في المرحلة الإعدادية، ولكنه ضرورة ما بعدها ضرورة، ويتوجب أن ترتكز الجهود وتتطور في المستقبل في هذا المجال. وسنقدم هنا بعض المقترحات التي نرى أولويتها في هذا البحث.
ليس من البساطة إعداد منهاج خاص لتعليم الفلسفة للتلاميذ في مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي، لأنّ الأمر يشترط:
ـ الإلمام بالتجارب الدولية في مجال تعليم الفلسفة لهذه الفئة من المتعلمين.
ـ فهم الروابط المعرفية والمنهجية بين مرحلتي التعليم الثانوي: الإعدادي والتأهيلي، والبحث عن مصوغات لتفادي تكرار الموضوعات والغايات والكفايات والقدرات، وعلى الأخص مراعاة مبدأ التدرج في كلتا المرحلتين.
ـ الاجتهاد في ترجمة وإعداد وصياغة موضوعات مناسبة لمختلف المراحل العمرية.
ـ مراعاة الخصائص النفسية والوجدانية في كل مرحلة على حدة.
ـ ضمان حد أدنى من تنويع الوسائل والطرق الديداكتيكية.
ـ تكوين المدرسين في المراكز الجهوية لمهن التربية، والتكوين هو ما يقتضي إعادة صياغة منهاج مادة الفلسفة الموجهة للمرحلة التأهيلية ودمج برامج المرحلة الإعدادية.
ـ تعزيز البحث العلمي والأكاديمي في الجامعات المغربية حول تدريس الفلسفة للأطفال، والتفكير في مختبرات ديداكتيكية تعمل على مراكمة الخبرات وتجريب العدد.
[1] راجع في هذا مقالة ماري فرانس دانييل على الرابط: http://www.cenestquundebut.com/autour-du-monde
[2] وتعرف بالطريقة الليبمانية: نسبة إلى ماثيو ليبمان الذي أسس سنة 1974 معهد ترقية فلسفة الأطفال (CPAI) والتي تستهدف فئة الأطفال في المستويين الابتدائي والتعليم الأولي، وتتوخى تمرّن الأطفال على التفلسف.