العرب سعيد ناشيد [نُشر في 06/06/2016، العدد: 10298، ص(9)]
الإنسان كائن محارب بطبعه، لا يتحمل العيش من دون معارك، وحين نحرمه من معارك بناء الحضارة سيبحث عن معارك الوهم المدمر. هذا هو الشرط الإنساني الذي يغفله أنصار تدبير التفاهة.
في بلد كفرنسا على سبيل المثال أو الاستدلال، يُعتبر ظهور أحد المفكرين البارزين على شاشة التلفزيون ظاهرة اعتيادية وممارسة شبه يومية. أكثر من ذلك، لا يمكن أن يمر أسبوع واحد على الأقل دون أن يظهر على شاشة التلفزيون أحد كبار فلاسفة فرنسا ممن لا يزالون على قيد الحياة. بكل تأكيد، لا أتحدث عن القنوات الموجهة إلى أهل الخارج والتي يبدو كأنها تخاطب بعض أهل الخارج على قدر عقولهم، مثل فرانس 24 مثلا، غير أنني أتحدث عن القنوات الموجهة بالأولى إلى الرأي العام الفرنسي. لائحة الفلاسفة الذين يحضرون إلى بلاتوهات القنوات التلفزيونية طويلة في بلد الألف فيلسوف. فإذا استثنينا بعض الأسماء المثيرة للجدل والمشكوك في قيمتها الفلسفية من أمثال برنارد هنري ليفي، وممن يشكلون ظاهرة غوغائية تدل في آخر المطاف على أن النجومية مهما بلغ بريقها لا تصنع المفكر أو الفيلسوف، ستبقى اللائحة متضمنة لفلاسفة من العيار الثقيل: آلان باديو، مشيل أونفراي، أندريه كومت سبونفيل، لوك فيري، إلخ. هذا دون احتساب البرامج حول الفلاسفة الذين غادروا الحياة قبل سنوات مضت، أو قبل عقود خلت: جان بول سارتر، ميشال فوكو، جاك د ريدا، إلخ. وكذلك دون احتساب البرامج التي تسترجع فلاسفة العصر اليوناني على خلفية القيم التي يحتاجها إنسان اليوم: الحس النقدي عند سقراط، القدرة على الاستمتاع بالحياة عند الأبيقوريين، القدرة على تحمل الآلام والمحن عند الرواقيين إلخ.
لكن، في أوطاننا المباركة يُعتبر مثل ذلك الظهور للفكر وللمفكرين، للفلسفـة والفلاسفة، حدثا نادرا جدا، بل يكاد يكون منعدما. الأدهى والأمرّ من هذا الغياب أو التغييب أن ثمة اعتقادا شائعا وسط عموم الإعلاميين ومعظم الساسة والسياسيين بأنّ التلفزيون ليس المكان المناسب لإبراز الفكر وإظهار الثقافة وإعمال العقل وما شابه ذلك من “كماليات” يصعب إدراكها ويحسُن تركها، بل التلفزيون مكان الهرج والمرج، مكان الفرجة والبهرجة، مكان الضجيج والتهريج، وبمعنى أصدق تعبيرا وأدقّ تصويرا، التلفزيون مكان صناعة التفاهة. هكذا، لم يعد التلفزيون عندنا أكثر من مكان للمزايدة على التفاهة بتفاهة أكبر، انطلاقا من مبدأ متهافت يقول “هذا ما يريده الجمهور”. لربما علينا الاعتراف بأن الجمهور عندنا سيفضل، بالفعل، مشاهدة آراب إيدول، وإكس فاكتر، وأهداف ميسي المرفقة بالتعليق الحماسي، على الإصغاء لمحاضرة أو مناظرة حول مستقبل الحضارة الإنسانية أو مصير النوع البشري. أليس الجمهور هو الأحق بأن يقرر ما يريد مشاهدته – ويا له مـن تواضع؟ أما إن كان لا بد من هامش يحتضن بعض “الجدية” في بعض الأحيان، فالشيخ الواعظ سيقوم باللازم. ومرة أخـرى، بمحض الصدفة، يتعلق الأمر بمطلب يباركه الجمهور.
لكن، هل قدر التلفزيون أن يكون بهذا النحو من الفراغ الثقافي والخواء الفكري؟ أم – لكي نتابع التساؤل – لا يعدو أن يكون الأمر أكثـر من سياسة إعلاميـة تعمـل – سواء عـن وعـي أو دون وعـي – على تنفير الجمهور من كل ما يتعلق بالثقافة والفكر، قبـل أن يصبـح النفـور حجة لإقصـاء البـرامج الثقـافية؟ ها نحن قد تابعنا السؤال، وها نحن بدأنا نقترب من الإجابة ولو قليلا.
صدقا، لا أستبعد أن يكون الأمر بذلك النحو.. وسأحاول البرهنة.
ليس مصادفة أن تحظى معظم البرامج الثقافية والفكرية عندنا بظهور شاحب يصحبه إخراج فني باهت، فيجعلها باعثة على النفور والملل، وبهذا النحو لا تعمر طويلا، سنة أو سنتين على أبعد تقدير، وغالبا ما يكون مبرر إلغائها هو نفس المبرر، تراجع نسبة المشاهدة. أما الاستنتاج فهو جاهز في كل أحواله دونما حاجة إلى أي دراسة سوسيولوجية ميدانية. الاستنتاج يقول: الجمهور لا يريد الثقافة، الجمهور لا يريد الفكر، الجمهور يريد فرجة فارغة، فنا فارغا، وتدينا فارغا. هذا بالذات ما نقدمه له على طبق من ذهب. أي نعم، الطبق فارغ لكنه من ذهب.. إيه.
في واقع الحال، يصعب افتراض حسن النية أمام هكذا استنتاج، لكن، حتى على افتراض حسن النية، وهذا مستبعد، ثمة مبدأ إعلامي يتم التغاضي عنه مقابل رد فعل غريزي معاد للفكر والثقافة، مبدأ يقول: العمل الإعلامي هو بعد كل شيء عمل فني، وشأن كل عمل فني فلا يكفي أن تكون الفكرة قويـة، بل يجب أن تكون الصياغة قوية أيضا. الصياغة هي الإخراج الفني بكل جوانبه ومؤثراته. على سبيل المثال، لا يكفي أن تكون الرواية جيدة حتى يكون الفيلم جيدا، لا يكفي أن تكون القصيدة جيدة حتى تكون الأغنية جيدة، لكن المهارات الفنية في الغناء قد تجعل أرقى القصائد وأغناها فكرا وثقافة تخترق وجدان عموم الناس. ولنتذكر ما فعلته أم كلثوم برباعيات الخيام على سبيل المثال. كذلك فإن المهارات الفنية في السينما قد تجعل أرقى الروايات وأغناها فكرا وثقافة تخترق وجدان عموم الناس. يمكننا أن نتذكر رواية اسم الوردة لأمبرتو إيكو بعد تحويلها في سنوات الثمانين من القرن الماضي إلى عمل سينمائي عالمي. ولستُ أقوم هنا بغير التذكير لعل التذكير ينفع بعض الغـافلين: النـاس ليسـوا مجبولين على التفاهة. فعلا، فإن الإخراج الفني والتقني حاسم بكل المقاييس، لكن، حين يتعلق الأمر بالأعمال السينمائية والغنائية الأكثر نجاحا في العالم والأكثر قدرة على استقطاب الرأي العام والنخب على حد سواء، فإن قوة المحتوى الفكري والمضمون الثقافي شرط ضروري لا محيد عنه.
على أننا لا ننكر وجود اعتراض وجيه في بعض الأحيان: مثقفونا لا يتقنون مهارات التواصل الإعلامي. لكن الأصح أيضا أن تلك المهارات ليست فطرية وإنما تكتسب عندما تتاح الفرصة. هل الفرصة متاحة؟
رأينا هو كالتالي: بدل اعتماد رد الفعل الغـريزي المعـادي للفكـر والثـقافة، والميـال إلى إلغاء البرامج الثقـافية أو الفكرية بدعوى انخفاض نسبة المشاركة، أمامنا فـرصة للتفكير بنحـو إيجـابي وبنـاء: إعـلاميا لا تكفي أن تكون الفكرة قوية وجذابة، بل يجب أن يكون الإخراج الفني للفكرة قويا وجذابا أيضا، اللهم إذا كانت النية أن نقتل الفكرة. فهل توجد نوايا من هذا القبيل ولو في مستويات اللاوعي الجمعي لدى بعض المسؤولين؟ السؤال معلق.
إن النجاح الذي تحرزه قنوات فرنسية أثناء محاورة فلاسفة كبار يؤكد بما لا يدع مجالا للشك كيـف تلعب عوامل الإخـراج الفني دورا حـاسما في النجاح الإعـلامي لتلك البرامج: قوة الإنارة، جـاذبية المـوسيقى، جمال الخلفية، تنوع زوايا التصوير، وجود محاورين خفيفي الظل وأذكيـاء، وجود محاورات – لكي لا ننسى دور المرأة – رشيقات أنيقات وذكيات، ثم طبيعـة الأسئلة، وأيضا لكـي لا ننسى، صيغـة طرح السؤال: الدقة واللباقة والتشويق. أما الرهان على الفراغ الثقافي فهو مجرد رهان على خواء الكينونة والمعنى، خواء قد تملؤه على الأرجح قوى خراب العمران ودمار الأوطان وفساد الأذهان وهلاك الإنسان.
إننا إذا لم نُعلم الناس كيف يخوضون معاركهم الحقيقية في بناء الفضاء العمومي، وتدبير التوافقات الحيوية والعيش المشترك، والاستعمال العمومي للحس النقدي، والعمل على تحسين جودة الحياة، وحفظ حقوق الأجيال القادمة، فالنتيجة أنهم سيبحثون عن معارك وهمية بديلة قد تُدمر كل شيء. لماذا؟ لأن الإنسان كائن محارب بطبعه، لا يتحمل العيش من دون معارك، وحين نحرمه من معارك بناء الحضارة سيبحث عن معارك الوهم المدمر.
هذا هو الشرط الإنساني الذي يغفله أنصار تدبير التفاهة.
شيء آخر، لربما يغفل صناع التفاهة أيضا عن أن الفن من دون مضامين ثقافية أو رسالة تثقيفية يبقى مجرد بهرجة انفعالية قد تفضي إلى نتائج عكسية. إن الفرح نفسه إذا لم يكن ثقافة راسخة في النفوس فإنه يغدو مجرد حالة انفعالية عرضية وعابرة مهما بلغت كلفة التمويل. والواقع أن الحالات الانفعالية لا يعول عليها. الفرح مطلوب إنسانيا وحضاريا وطبيعيا وفطريا، لكن العيب كل العيب ألا نمنح للفرح أي عمق ثقافي، إذ نجعله مجرد حالة انفعالية قد تبدو مدوية لكن صداها يتلاشى بسرعة فائقة، وقد لا يخلف غير ظلال من الكآبة في الأخير.
هل بقي لدينا ما نضيف؟ بالتأكيد، إذا كان الإعلام السمعي البصري قادرا على جذب الكثير من الناس إلى الأفكار الفارغة باستعمال الكثير من وسائل الإثارة والتشويق والحماس، فإنه قادر، لا محالة، على جذب أوسع شريحة من الناس إلى الأفكار الجيدة باستعمال نفس وسائل الإثارة والتشويق والحماس. فلماذا نستبعد هذا الخيار؟ القشور الجذابة بلا مضامين ذكية ستبقى جذابة حتى بعد أن نملأها بالمضامين الذكية، بل ستكون الإثارة أفضل وأجمل لأن الناس لن يشعروا بذنب ضياع وقت ثمين في إثارة بلهاء، فتغدو نتائج الإثارة عكسية، وهذا ما يحدث عندنا بالفعل، متى سننتبه؟ لعل البلاهة بالفعل أن نغفل النتائج العكسية والمدمرة للرهان على البلاهة.. لكن، في كل الأحوال، لربما يصح القول: فاقد الشيء لا يعطيه.
كاتب مغربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق