الخميس، 2 يونيو 2016

إلى أين تسير قاطرة إصلاح التعليم؟ : تفكيك خطاب الحكومة حول الاصلاحات التعليمية. بوبكر بوعزة

أنفاس نت




إن المتتبع للشأن التعليمي سيرى أن الإصلاحات المتتالية للمنظومة التعليمية المغربية تستهدف حق أبناء الشعب في مجانية التعليم، وهذا ما أوضحناه في مقال سابق منشور على موقع أنفاس بعنوان"إلى أين يرمي إصلاح التعليم". أما مقالنا هذا فسيتوقف عند الاصلاحات التي تستهدف الفكر الحر والنقدي، والتي تهدف خلق مجتمع هجين مروض تقني لا يعرف سوى العمل التقني دون أن يكون ملما بالفكر النقدي والحس الاجتماعي والمعرفي والثقافي الواسع.

لقد ذكرنا في مقالنا السابق أن ما يحدث الآن في مراكز التربية والتكوين ليس وليد الصدفة، ولا اليوم، بل هو تصريف لبنود الميثاق الوطني للتربية والتكوين ومواده. لهذا فالانطلاق من الميثاق يبقى ضرورة ملحة باعتبار ان كل ما جاء بعده سواء تعلق الأمر ب"المخطط الاستعجالي" أو ب"الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية" ليس سوى تصريف له ولبنوده. كما أن الميثاق نفسه هو استمرارية لسياسة الاصلاحات التي بدأت من ستينيات القرن الماضي ك"مشروع بلعباس" سنة 65، و"مشروع إصلاح التعليم" لسنة 75. لكن وتيرة استهداف التعليم ستزيد من حدتها مع ثمانينيات القرن الماضي، حيث طرحت عدة مشاريع إصلاحية، منها "مشروع إصلاح بيداغوجي يعتمد نظام والوحدات والمسالك كطريقة للتدريس" والذي طُبق في الكليات التقنية، في حين ثم التصدي له في باقي الكليات وبعد تعديل طفيف ثم طرحه في موسم 92-93 تحت إسم "من أجل إصلاح جامعي شامل" لكنه باء بالفشل. وفي 94 ثم طرح مشروع "الميثاق الوطني للتعليم العالي" وبعد نقاشات حادة بين جميع الأطراف السياسية منها والنقابية ..انتهت بطرح "الميثاق الوطني للتربية والتكوين."

 لقد حدد الميثاق الوطني بعض الغايات الكبرى التي يجب أن تضطلع بها الجامعة المغربية فيما يلي؛ المادة 10:"ينبغي أن تسير الجامعة أو حري بها أن تكون مؤسسة منفتحة وقاطرة للتنمية على مستوى كل جهة من جهات البلاد وعلى مستوى الوطن كذلك:

أ‌-        جامعة منفتحة ومرصدا للتقدم الكوني العلمي والتقني، وقبلة للباحثين الجادين من كل مكان، ومختبرا للاكتشاف والإبداع، وورشة لتعلم المهن، يمكن لكل مواطن من ولوجها أو العودة إليها، كلما حاز الشروط المطلوبة والكفاية اللازمة"[1] إن الغايات الكبرى التي  تصرح بها هذه الدعامة تكمن في جعل الجامعة "مختبرا للاكتشاف والإبداع وورشة لتعلم المهن" مما يعني أن الجامعة لم تعد حاضنة للفكر والثقافة، منفتحة على الفنون والعلوم الانسانية والاجتماعية والأدب والقيم الانسانية العليا، وتربية الذوق الرفيع والإحساس المرهف والفكر النقدي....بل أصبحت تكوّن التقنيين والحرفيين والمهنيين. إن دل هذا على شيء فإنه يدل على ضرب الفكر والعقل la raison  باعتباره عقلا يعلم الطلبة فن العيش والتعايش، وينمي الحس المرهف وتعليم التفكير، والاهتمام بالعقل ratio العقل التقني الذي يُحوسبُ الطبيعة والفاقد للقدرة على التفكير والنقد. قد يقول قائل ما الغاية من الرجوع إلى الميثاق الوطني الذي انتهت عشريته؟  ونحن نجيبه بأنه مخطئ من يعتقد أن الميثاق الوطني تم تجاوزه، بل هو في طور التصريف مع حكومة تمرير المخططات الخطيرة التي تصيب أبناء الشعب في مقتل، وإلا كيف نفهم كلام وزير التعليم العالي "الحسن الداودي" الذي بخس الشعب الأدبية وأعتبرها مجرد شعب تنتج العاطلين الذين يصبحون عالة على آبائهم  لافتقادهم  للتكوني التقني المؤهل لسوق الشغل، وكأن التقنية هي العلامة المميزة للتعليم الجيد في نظره؟ إن فهم هذا الكلام لا يتم إلا في سياق بنود الميثاق التي تؤكد أن غاية الجامعة هي أن تصبح ورشة لتعلم المهن. لكن أي مهن علينا تعلمها؟ أهي المهن التقليدية (الصناعة التقليدية) التي أصابها الكساد بحكم تخلي الدولة عن دعمها؟ أم أن الجامعة مطالبة بتكوين الطلبة تكوينا مهنيا وجعلهم أياد رخيصة للعمل في الورشات الصناعية التي تفتحها الشركات الكبرى بأثمنة بخسة وفي شروط لا تحترم أدمية البشر لغياب قانون يلزم الشركات بإعطاء العامل كامل حقوقه؟ لنساير السيد الوزير في كلامه ونتساءل معه: هل حملة الشهادات والدبلومات التقنية ليسوا عالة على آبائهم؟ وهل وفرتم السيد الوزير الوظائف لحملة الشهادات العليا في الفيزياء النووية والرياضيات التطبيقية وخريجي مراكز التكوين المهني...أم تركتهم عرضة للعطالة والضرب أمام باب البرلمان؟  ألا تجعل هذه الشعب الذي يتغنى بها السيد الوزير من  الطلبة عالة على آبائهم كما وصفهم بحكم تفكير حكومته في التخلص من التعليم العمومي وعدم تفكيره في حلول لعطالة العقول وهجرتها؟ هذا من جهة، أما من جهة أخرى فقول السيد الوزير أن المغرب في حاجة إلى الشعب العلمية وأن خطأ الدولة في عدم توجيه التلاميذ للمواد العلمية سيعرضها للخطر، هو قول متضمن في الميثاق الوطني؛ ففي الدعامة الأولى المتعلقة بتعميم التعليم نجد في المادة 50 مايلي:"ب-تقوية التوجيه إلى الشعب العلمية والتقنية والمهنية لتستقبل على الأقل الثلثين، من مجموع تلاميذ التعليم الثانوي وطلبة التعليم العالي، في أفق السنوات الخمس القادمة، استنادا إلى التوجهات التي ينص عليها الميثاق."[2] ما صرح به وزير التعليم العالي يوجد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين. والسيد الوزير وحكومته لا يعملان إلا على تصريف وتمرير المخططات التي ثم اقرارها من قبل، والتي عجزت الحكومات السابقة عن تمريرها بحكم الهبة الطلابية في جميع المواقع الجامعية سابقا. لكن السؤال المطروح هو: هل تتوفر مؤسساتنا الإعدادية والثانوية و الجامعية على بنيات تحتية تؤهلها لاستقبال واستقطاب التلاميذ والطبلة في التخصصات التقنية؟ هل مدارسنا وجامعاتنا مجهزة بالمختبرات والأدوات العلمية التي  تجعل طلابنا يجربون ويختبرون ويبحثون ويبتكرون؟ وهل لنا بنايات جامعية مجهزة بالمختبرات العلمية وقادرة على استقطاب عدد وفير من الطلبة العلميين والتقنيين؟ وهل تمتلك الدولة القدرة على توظيف هؤلاء الطلبة الذين سيتخرجون من هذه الكليات أم سيكون مصيرهم كمصير حملت دبلومات التكوين المهني؟

إذن ما هي الوظائف التي تطلع بها الجامعة المغربية؟ نجد في الميثاق الوطني، الدعامة الرابعة،  مجال التعليم العالي المادة 77:"يرمي التعليم العالي إلى تحقيق الوظائف الآتية:

-          التكوين الأساسي والمستمر؛
-          -إعداد الشباب للاندماج في الحياة العملية؛
-          -البحث العلمي والتكنولوجي، مع مراعاة ما تنص عليه المادة 126 من هذا الميثاق؛
-          -نشر المعرفة."[3]

 لنتوقف عند هذه النقطة قليلا التي تتناول وظائف الجامعة. إن نشر المعرفة هي آخر وظيفة يمكن أن تضطلع بها الجامعة هذا شيء له دلالة خاصة، تفيد تهميش ريادة الجامعة في نشر الفكر والمعرفة. اما جعل التكوين الأساسي والمستمر على رأس الوظائف التي تضطلع بها الجامعة فهو ما لا يخلو من دلالة ويدفعنا إلى التساؤل عن السبب الذي جعل الدولة تعطي كل هذه الأولية للتكون الأساسي والمستمر. فلماذا أُعطيت لهذه الوظيفة الأولوية على حساب باقي الوظائف؟ الجواب تقدمه المادة 56 التي تتحدث عن التكوين المستمر:" يتمفصل نظام التكوين المستمر بناء على منطق السوق الذي يعد وحده القمين بمواكبة حاجات المقاولات من الكفايات بطريقة فعالة. ويشجع هذا النظام مؤسسات التربية والتكوين على اندماج أقوى في مجال الشراكة مع المقاولات والإدارات. كما يحفز على تنمية وحدات للتكوين المستمر والاستشارة على مستوى الجمعيات المهنية، وييسر كذلك الاعتراف بموقع العمل كمجال للتكوين."[4] إذن لا يمكن فهم تصريحات وزير التعليم العالي السيد الداودي إلا في هذا الاطار وهو إخضاع التعليم لمنطق السوق لا إلى منطق الميولات الفردية والفكرية للطلاب وكذا انفتاحهم على المواد الروحية والإنسانية والاجتماعية التي أصبح الجدال في أهميتها ضربا من العماء والغوغاء لا أقل ولا أكثر. وهذا التمرير لقرارات الميثاق الوطني وللقوانين المنبثقة عنها لا تتجلى في خطابات السيد "الحسين الداودي" فقط، بل حتى في قرارات وزير التربية الوطنية والتكوين المهني السيد "رشيد بلمختار"، فقراره المتعلق بتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية ما هو إلا تطبيقا للمادة 114 من الميثاق الوطني التي تصرح بمايلي:"حرصا على إرساء الجسور الصالحة واللائقة من التعليم الثانوي إلى التعليم العالي، واعتمادا على توجيه تربوي قويم وفعال، وضمانا لأفر حظوظ النجاح الأكاديمي والمهني للمتعلمين، يتم تدريس الوحدات والمجزوءات العلمية والتقنية الأكثر تخصصا من سلك البكالوريا باللغة المستعملة في الشعب والتخصصات المتاحة لتوجيه التلاميذ إليها في التعليم العالي."[5] قد تكون هذه النقطة ايجابية ليس من حيث اختيار اللغة الفرنسية، ولكن من حيث تجاوز الهوة التي يسقط فيها الطالب الذي تلقى تعليمه باللغة العربية في التعليم الثانوي ويجد نفسه ملزما بمتابعة تعليمه الجامعي باللغة الفرنسية، وهو ما كان يعرقل مساره التعليمي ويؤدي به إلى الرسوب والهذر. لكن من ناحية أخرى تُفسر هذه النقطة أن ما تقوم به هذه الحكومة هو تصريف وتمرير لجميع البنود التي تضمنها الميثاق والتي تم التصدي لها في وقت من الأوقات، وهو ما يؤكد على أن هذه الحكومة لا تملك سلطة القرار وإلا كيف نفهم أن من ثوابت الحزب الحاكم الحفاظ على اللغة العربية في التدريس وتقويتها والحفاظ على الثوابت الوطنية والهوية العربية الإسلامية وفي نفس الوقت تعمل على فرنسة التعليم والارتماء في أحضان الرأسمالية والاستعمار الجديد؟ ألا يبرهن هذا التناقض على أن الحكومة الحالية مجرد حكومة تصريف وتمرير لما عجزت عن تصريفه باقي الحكومات؟

   يتبين مما سبق أن ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي يعني جعل التعليم في يد المقاولات الرأسمالية الشرسة وجعل الجامعة معهدا للتكوين المهني وليست مؤسسة عليا لتحصيل العلم والمعرفة. فربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي سيجعل مهمة تحديد المقررات والبرامج التعليمية في يد المقاولات وهو ما يصرح به الميثاق في المادة 126 :" توطد "الوجائه " interface" بين الجامعات والمقاولات لترسيخ البحث في عالم الاقتصاد وإفادة المقاولات بخبرات الجامعات، وتيسر إضفاء القيمة المستحقة على نتائج البحث وتعميمها."[6] بمعنى أن الجامعة حسب هذه المادة ستصبح حاضنة للمقاولات وتابعة لها في برامجها. فلا يجب على الجامعات أن تدرس سوى ما ترغب فيه المقاولات حسب حاجياتها ومتطلباتها. هكذا إذن تصير الجامعة عبارة عن مؤسسة لتكوين اليد العاملة وصقلها، لا مؤسسة لإنتاج المعرفة ونشرها. بل حتى اعتمادات "صندوق دعم البحث والإبداع" لا يمول إلا المشاريع التي تنشئها المقاولات، وهو ما يؤكد عليه الميثاق في المادة 128:"تعطى الأولوية في مجال منح الاعتمادات من لدن هذا الصندوق(صندوق وطني لدعم البحث والإبداع يمول بمعونات الدولة، وإسهامات المقاولات العمومية والخاصة، وهبات الخواص والمنح الواردة من التعاون الدولي)، للمشاريع الداعمة للتعاون بين الجامعات والمقاولات. ومن ذلك، تمويل مشاريع البحث والتنمية التي بادرت إلى إنشائها المقاولات وتشارك فيها مختبرات للبحث العلمي الجامعي، وتمويل أطروحات للدكتوراة تخص المقاولات التي عليها أن تشارك في هذا التمويل."[7] فالبحوث العلمية وأطروحات الدكتوراه تخضع لمنطق المقاولات.

أما فيما يتعلق باستقلالية الجامعة فإن الميثاق يصرح في المادة 150 ب:"يتم الارتقاء بالجامعة إلى مستوى مؤسسة مندمجة المكونات، ذات استقلال مالي فعلي وشخصية علمية ومتميزة، وتنظم على صعيد الجامعة الجذوع المشتركة والجسور، ومشاريع البحث المتعددة التخصص التي تمكن من جلب موارد إضافية؛ وتستعمل هذه الموارد على الوجه الأمثل ويتم حسن توزيعها على جميع المؤسسات التابعة للجامعة أو المرتبطة بها، أو الفاعلة معها في إطار الشراكة. وتستفيد الجامعة من ميزانية تمنحها الدولة تحدد حسب معايير واضحة وعلنية، وتدبر مواردها البشرية في جميع مكوناتها."[8] استقلالية الجامعية إداريا وماديا وبيداغوجيا يعني أن الجامعة من الناحية البيداغوجية ستختلف مقرراتها من جامعة إلى أخرى تبعا للمحيط الاقتصادي لكل جامعة. إن استقلال الجامعة ماليا وادرايا وبيداغودجيا  يعني فتح المجال للرأسمالية من أجل الاستحواذ عليها وعلى خيرات البلاد والعباد وتحويلها إلى مشتل خصب للأيادي العاملة الرخيصة، من ناحية، ومن ناحية أخرى وإفقاد الجامعة ذلك الطابع الانساني الكوني المتمثل في التكوين الثقافي والفكري المشترك والمنفتح.

رمي الجامعة في أحضان المقاولات دليل قاطع على خوصصتها وبذلك لا يمكن ولوج الجامعة إلا بدفع رسوم التسجيل، وهو ما يؤكد عليه الميثاق في المادة 173 في المبدأ الثالث:"تفعيل التضامن الاجتماعي بإقرار رسوم التسجيل في التعليم العالي، وفي مرحلة لاحقة في التعليم الثانوي حسب ما تنص عليه المادتان 174 و175."[9] أي استضعاف الشعب من أجل استعباده. لا أجد أفضل من هذه القول لنيتشه لإنهاء مقالي هذا:"لا تخلطوا إذن، أيها الأصدقاء بين هذه الثقافة، هذه الآلهة الأثرية ذات الأرجل الرشيقة والحس المرهف، وتلك الخادمة الخانعة والتي تدعى هو الأخرى في غالب الأحيان ال"ثقافة" والتي ليست سوى خاضعة وتابعة وناصحة لبؤس الحياة في شكل "ثقافة" إن كل تربية من أجل الوظيفة والمعاش ليست تربية من أجل الثقافة-كما نفهمها- فهي تضع فقط العلامة على الطريق الذي ينقذ الذات ويحميها في صراع البقاء"[10]

[1] -الميثاق الوطني للتربية والتكوين، سلسلة التشريع التربوي، الطبعة الأولى أكتوبر 2007، دار الحرف للنشر والتوزيع، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، ص:7.
[2] -الميثاق الوطني، ص:20.
[3] -الميثاق الوطني للميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص:46.
[4] -الميثاق الوطني، ص33.
[5] -الميثاق الوطني، ص:65.
[6] -الميثاق الوطني، ص:72.
[7] -الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص:73.
[8] -الميثاق الوطني، ص:90.
[9] -الميثاق الوطني، ص: 105.
[10]-نيتشه:حول مؤسساتنا التعليمية، المحاضرة الرابعة، ترجمة مصطفى كاك وعائشة أنوس:"نيتشه المربي" مجلة الجدل العدد 1 -ص:99.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق