الأربعاء، 1 فبراير 2017

قراءة في كناب"الحداثة والقرآن" للدكتور سعيد ناشيد بقلم: يوسف هريمة

عن مؤمنون بلا حدود



"معضلة النّصوص الدّينية لكافّة الأديان أنّها كُتبت في مرحلة كان المجتمع بلا مؤسّسات، والسّلطة بلا قوانين، والمعرفة بلا مناهج، واللّغة بلا قواعد. وبالتالي طبيعيّ أنْ تبدو تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج أيّ نظام قيَمي أو معرفيّ فعّال، بقدْر ما تبدو للبعض أنّها قابلة لكلّ التأويلات والتفسيرات مهْما بدتْ متناقضة". القرآن والحداثة ص25.
شكّل النصّ القرآني منذ لحظة النّزول الأولى مثار اهتمام الرّعيل الأوّل، ومنْ عاصر الرّسالة، وكذلك كان التّابعون ومن سار على درب تشكُّل بنية الإسلام في شكْله المعاصر. لقد كان نقطة التقاء الباحثين والدّارسين والمفسّرين والفقهاء والكلاميين، باختلاف مداركهم، ومستويات تفكيرهم، وتنوّع مشاربهم الدينية والفلسفية. ولم يكن هناك ما يؤشّر على هامشية النصّ إلا ما اصطلح عليه بالتفسير بالمأثور. فبالرغم من المكانة الهامّة التي أولاها المفسّرون الأوائل للنصّ القرآني، ومركزيته داخل المنظومة الفكرية الإسلامية في أبعادها المختلفة، إلا أنّ القواعد والتّأصيلات التي وضعها المفسّرون لتفسير هذا النصّ ضيّقت من مركزية القرآن، وبدل أنْ يكون محور الاهتمام، ونقطة التجمّع الأولى، صار محورًا للاختلاف، والتوظيف الإيديولوجي الذي تستند إليه المؤسستان الكهنوتية والسياسية.
لم يدرك البعض خطورة الوحييْن، وأنْ تصير ما سمّي بالسنّة قاضية على القرآن، مع أنّ لفظ السنّة ملتبس إلى حدّ كبير عند هؤلاء. فكلّ المرويات التي تمّ تصحيحها بآليات منقوصة - تركِّز على السّند دون الانتباه إلى متْنها- صارت نصوصًا موازيةً للنصّ الأصلي مع أنّ هناك روايات كثيرة يمنع فيها النبيّ محمّد كتابة أيّ شيء عنه غير القرآن. ومع ذلك فالرّوايات والأحاديث صارت توازي النصّ الأصلي، بل أخذتْ مكانه في الكثير من الأحيان، حينما وطَّنت نفسها وحياً ثانيًا. وهنا اختفت ملامح النصّ القرآني، وانمحتْ بشرية الرّسول محمد، وصار التوظيف وقراءة النصوص في سياقات مصلحية هي الثقافة المهيمنة على الفكر الإسلامي منذ ذلك الحين. وبدل أنْ يكون النصّ الدّيني هادياً، أو آيات وإشارات وعلامات تهدي للتي هي أقوم توقّف الاجتهاد، وصار النص مانعاً من التغيير، كلّ يدركه بالقدْر الذي يمنحه إيّاه من المصلحة.
لم يتوقّف الأمر عند ذلك الزمان، ولا عند من أسّس لأصول التّفسير وقواعده. بل تعدّاه ليصل إلينا النص الديني أيضاً مثار جدل وخلاف بين قراءات معاصرة تستلهم كلّها من النص القرآني، ولكنّها في مجملها غير منسجمة، إلى الحدّ الذي يصعب فيه تجميعها، أو إيجاد المشترك فيما بينها. هذا يحيلنا إلى قول الجبران: "إنّ الإسلام التاريخي دين الفقه وليس دين الإسلام، وبالتأكيد هو دين الساسة والسلاطين والأعراف والمذاهب والمدرسة والقومية وليس دين النبي"[1]. وهو ما أشرنا إليه سابقًا، من أنّ استمرارية هذا النّهج والتّعامل مع النصّ الديني الأوّل كان بدافع من المؤسّسة السّياسية التي وطَّدت دعائم هذا التوجّه، لتصل إلينا بإشكالياتها وتناقضاتها، خاصّة أنّ كلّ هذه المعارف كانت تنهل من عصر ما قبل دولة المؤسّسات، وظهور عصر الحداثة وما بعدها.
يأتي كتاب "القرآن والحداثة" في هذا السّياق الإشكالي لقضية تؤرّق العقل الإسلامي، وتضعه على المحكّ. فالعنوان يجمع بين مفهومين متناقضين، ويحدّد معالم الأزمة قبل أنْ نخوض غمار فصوله وأحداثه، وأهمّ خلاصاته ونتائجه. ويحيلنا هذا التناقض إلى ما أشار إليه داريوش شايغان وهو يتناول بالبحث كلمتي "الثورة الإسلامية"، حيث أكّد "أنّ هذين المصطلحين يتحرّكان في مدارات مختلفة، وليس لهما نقاط الارتكاز نفسها، ولا المحور المركزي نفسه الذي تنتظم حوله الأفكار المرتبطة بهما. إذ تحيل نقاط الارتكاز هذه على مضامين مختلفة ومتناقضة."[2].
وإذا ما أردنا أنْ نطبّق الشّيء نفسه مع عنوان الكتاب قيد الدراسة فسنجد أنّ كلمتيْه تدوران أيضًا في أفلاك مختلفة. فالقرآن نصٌّ مقدّس ينتمي لعوالم الروح والسماء والألوهية والرسالة. أمّا الحداثة فتشير إلى التصنيع. كما يمكن فهمها إلى حدّ كبير بوصفها تمجيدًا وإقرارًا بالوعي باعتباره قوّة في حدّ ذاتها. وإنّ قول بودلير بأنّ الحداثة هي العابر والزّائل والطارئ يمكن فهمه بهذا المعنى[3]فالكتاب يجمع بين متقابلات يصعب الجمع بينها، وإنْ كان واضع العنوان يدرك جيّدًا أنّ عمق الإشكالية التي يريد الإجابة عنها بنوع من التّقابل هي: إلى متى يبقى النصّ الدّيني حتى لو كان قرآنًا عائقاً أمام انخراطنا في مسلسل الحداثة؟. وهنا تنبع أهمية الكتاب وخطورته في آنٍ واحد. فأهمّيته نابعة من محاولته تحرير الوعي الإسلامي، وفسْح المجال للسّؤال لمناقشة المقدّس. وخطورته هو أنّه جاء ليلامس جانبًا من جوانب اللامفكر فيه داخل تراثنا الفكري والإسلامي.
صدر كتاب القرآن والحداثة في طبعته الأولى سنة 2015، عن دار التنوير للطّباعة والنّشر، في 248 صفحة. وكما أكّد الباحث نفسه فالعثور على ناشرٍ لهذا الكتاب في بيئة منغلقة على ذاتها يعدّ خرْقاً لهذا الواقع في مستوى من مستوياته الفكرية. خاصة إذا كان الكتاب يحمل في طيّاته قضايا وأفكارًا يعتبرها الجمهور القارئ جرأةً في حدودها القصوى على النصّ القرآني المقدّس. وهذا لا يعني أنّ الكاتب يدّعي بأنّ مقاربته لهذا الموضوع بدْع من القول لم يسبقه إليه أحد. ففي تقديمه للكتاب يشير بأنّ نظرته قد استلهمتْ مجموعة من المقاربات التي جاء بها الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا، وكذلك من بعض المصلحين الإيرانيين كعبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري والكاتب العراقي أحمد القبانجي.
يبتدئ سعيد ناشيد كتابه بسؤال يبدو للوهلة الأولى بديهياً: ما القرآن؟ والغاية من ذلك هي مساءلة المسلَّمة التي تقول: كلٌّ من عند الله. فهل المقصود بهذه العبارة أنّ المصحف الذي بين أيدينا اليوم بترتيبه وتبويبه وقواعد كتابته ورسمه وخطّه وتنقيطه وتنوينه هو أيضًا من عند الله؟. للجواب عن هذا السّؤال يحكي سعيد ناشيد قصّته مع أستاذ للتربية الإسلامية كان يدرِّسه في مرحلة الإعدادي، حين سأله يومًا: هل يمكن أنْ نضع الهمزة فوق آية: "سال سائل"برواية ورش التي يقرأ بها المغاربة لتصير: "سأل سائل"، فما كان جواب أستاذه إلا أنْ قال له لا يجوز ذلك. فكان الرد من التلميذ: ومن أدرانا أنّ الله لم يمْلها بالهمزة. فكان جواب الأستاذ الصفع والطرد من القسم.
إنّ ما تؤشّر إليه هذه الحادثة بحسب الكاتب هو أنّ الله لا علاقة له بالكثير من التفاصيل الإملائية والكلامية والنصّية، وما لم نستطع أنْ نتجاوز هذه الأساطير السّلفية فليس هناك أملٌ في التّجديد.
إنّ القرآن الكريم يشير إلى ثلاث ظواهر متباينة لا يجوز الخلط بينها:
1- الوحي الرباني: وهو يحيل إلى الصور الوحيانية التي استشعرها الرسول وتمثّلها، إمّا عبر قوّته التّخييلية كما يقول الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا عن تجارب النّبوة، أو عن طريق القلب كما يقول أحمد القبانجي.
2- القرآن المحمدي: وهو ثمرة جهد الرسول في تأويل الوحي وترجمة الإشارات الإلهية إلى عبارات بشرية، انطلاقًا من وعيه وثقافته وشخصيته وقدرته التأويلية. وهذا الرأي قد أشار إليه كلّ من عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري.
3- المصحف العثماني: وهو ثمرة جهد المسلمين في تحويل القرآن المحمدي من آيات شفهية متناثرة إلى مصاحف متعدّدة، ثمّ من مصاحف متعدّدة إلى مصحف واحد جامع.
هذه هي تمظهرات القرآن كما يؤكد على ذلك الكاتب، غير أنّ التعامل مع القرآن لم يعد ممكنًا إلا من خلال تمظهره الأخير أيْ المصحف العثماني. بل حتى هذا المستوى لا ندركه إلا تجاوزًا طالما أنّ النسخ الأصلية لمصحف عثمان كانت ولا تزال في حكم المفقود، ولسنا نملك اليوم من أمرها سوى النّسخ المتأخرة، وهي نسخ تمّت إعادة كتابتها عقب تقعيد اللغة والكتابة والخط، وعلى الأرجح في زمن خلافة عبد الملك بن مروان(ص19/20(ومفاد هذا الكلام بأنّنا لا نملك من كلام الله إلا كلام رسول الله.
لتأكيد هذه الفرضية احتاج سعيد ناشيد أنْ يضرب مثلاً لتسهيل الفهم وتيسيره، وهو على الشّكل التّالي: لولا القمح لما كان هناك خبز. لكنْ هل هذا يكفي لنقول بأنّ المزارع هو من صنع الخبز؟. ليس ثمة شكّ في أنّ صانع الخبز هو الخبّاز، ولكنْ لولا المزارع ومادة القمح لما استطاع الخباز أنْ يصنع الخبز. فإذا قلبنا الصورة نحو القرآن كما يؤكّد الكاتب، فإنّ القرآن ليس كلام الله، كما أنّ الخبز ليس صنيعة المزارع، لأنّ الله: "هو منتج المادة الخام التي هي الوحي، مثلما أنّ المزارع هو منتج المادة الخام التي هي القمح. وكما أنّ الخباز هو الذي حوّل القمح إلى خبز وفق رؤيته الخاصّة ومهاراته الفنية وقدراته الإبداعية، كذلك فإنّ الرسول هو من قام بتأويل الوحي وتحويله إلى عبارات وكلمات وفق رؤيته الخاصة" ص21.
إنّ هذه النتيجة تطرح أمامنا تساؤلاً آخر وهو: هل القرآن نصٌّ مقدّس؟. وهنا يبيّن الكاتب بأنّ الأديان كانت لها وظيفة أساسية وهي الارتقاء بالإنسان، لذلك جاءت موسومة بسمة القدامة، والانتماء إلى عالم ما قبل الحداثة، وعالم ما قبل الدّولة. وهذا يضع المستمسكين بالنصّ القرآني وصلاحيته لكلّ زمان ومكان أمام معضلة يصعب حلّها. فالتردّد في الدخول إلى عصر الحداثة رهين بالانعتاق من هذه القداسة، التي حوّلتْ النصّ إلى شيءٍ متعالٍ في الزّمان والمكان، يرافق الإنسانية في مختلف مراحل تكوينها. وهي إشكالية تمنع من تحقيق هذا الانخراط بسبب الإيمان بنصوص تنتمي إلى عالم القدامة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، نصوص تشلّ العقل، وتقتل الإبداع، ثمّ نقول عنها إنّها نصوص الله بتعبير الكاتب.
إنّ التّأكيد على عدم قدسية القرآن كما يؤكّد الكاتب ليس هدفه الانتقاص من الكتاب ولكنّه تأكيد على حقيقة أنّ الكمال للخالق وليس المخلوق. وهنا نستحضر الأزمة التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي وعرفت باسم محنة القرآن. فالقرآن مخلوق حسب توصيف الكاتب، وبما أنّه مخلوق، فكلّ النواقص يمكنها أنْ تعتوره شأنه شأن باقي المخلوقات. فهو نصّ كتب بلغة بشرية كما سبق وأنْ أكّد الباحث، وكذلك هو خطاب يعكس في مضمونه مضامين القدامة، وقيَم العالم ما قبل ظهور المؤسسات.
لكي يتأكّد الإنسان من خطورة تقديس النصّ، يكفي أنْ ينظر إلى واقعنا، حيث انغلاق الإنسان على تحيّزاته، وتسلّطه على البشرية باسم الدين، واستشراء داء الأصولية، التي صارت بفعل هذا العقل المنغلق خطرًا وجوديًّا، تنذر بمعركة يكون الصّدام الحضاري والديني والثقافي مسرحاً لها. فكلّ القيم اندثرت، ولم يعد من الدين شيءٌ بعد أنْ حوّلته العقيدة إلى ساحة حرب. إنّ أهمّ ما جاء به الدين هو فكرة التوحيد الربوبي، ولو أنّه تحوّل بفعل التطرف إلى إيديولوجية لا تسمح للآخر أن يمارس طقوسه أو فكره في سياق اللاإكراه، واللاعنف: "فما معنى عبارة الله أكبر إن لم تكن تعني أنّ الله أكبر من كلّ الكلمات والأشياء، وأكبر من التراث والأصحاح والمصاحف، وأكبر من مكتسبات السلف خيرها وشرها" ص32.
يطرح سعيد ناشيد سؤال ما الوحي؟، ويؤكد من جديد أنّ النص الديني مهما حاول بعضهم أنْ يصوّر قداسته، فهو ينتمي إلى عالم القدامة بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وبالرغم من محاولات فتح هذا النص على تأويلات عقلانية مثلتها بعض القراءات المعاصرة كالتي قام بها محمد عابد الجابري ومحمد شحرور، وغيرهما، إلا أنّ هذه المقاربات لا تعدو أنْ تكون التفافًا على عمق الإشكالية. ومن ينظر في قضية الإرث والمساواة بين الأنثى والذكر يجدها خير دليل على ذلك، إذ هي تعبير عن الواقع الفعلي زمن الرسول.
ما مصير النص الديني بعد أنْ ننزع عنه القداسة؟
سؤال يمكن أنْ يتبادر لأيّ قارئ لمسار هذا الكتاب، وهنا يؤكّد ناشيد أنّ وظيفة القرآن الأساسية تعبّدية، نتلوه، ونرتّله، ونتعبّد به. وعندما نخرج به عن هذه الخاصية فإنّنا نربط واقعنا بواقع ينتمي إلى زمن القدامة، وبمفاهيم وتصورات لم يعد لها أثر في واقع اليوم. إذ لم نعد نعيش في زمن السّبي والفيء والجزية، والنفث في العقد، لهذا يشعر الإنسان كما يؤكّد الكاتب بأنّه أمام غربة النص الديني عن واقعه.
هنا يقترح ناشيد فرضيات في النص الديني على الشكل التالي:
إنّ القرآن صادِرٌ عن نور إلهي، لكنّه ليس كلامًا لله في الأخير. وبالتّالي هو وحي نابع من وجدان الرّسول. هذه الفرضية سبق أنْ أشار إليها الكثيرون خاصة عبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، وأحمد القبانجي. وليزيد الأمر توضيحًا يضرب مثالاً على ذلك. ليس الله تعالى مثلاً هو الذي قال حرفيًّا: "ويل لكل همزة لمزة" كما وردت في القرآن المحمدي، لكنْ مثل هذا الأسلوب يظلّ الصياغة اللغوية التي اختارها الرّسول للتعبير عن إشارات الوحي كما تمثلها الرسول.
ترغب هذه الأطروحة في تحرير الوعي الإسلامي من سحرية العالم، واعتبار أنّ الوحي كما تلقّاه محمّد جاء شاملاً لكلّ ذلك التنوّع في الخيال والمشاعر والانفعالات، وذلك بسبب شخصية النبيّ محمد الحسّاسة التي جعلته سريع التّفاعل مع مختلف الظواهر الاجتماعية التي كان يعاينها. وبالتالي فالنصّ القرآني حسب هذا الطرح ليس نصًّا مكتوبًا في لوحٍ محفوظ، بل هو خطاب لغويّ وبشريّ للوحي الرباني، عبّر به النّبيّ عن واقعه ومجتمعه.
وفي ذلك يلاحظ الكاتب وجود أربع سمات طبعتْ آيات القرآن:
1-  أنّها لم تكن على المرتبة نفسها من القوّة والإيمان. وهذا ما يفسّر وجود المُحكم والمتشابه.
2- أنّها ليست دوماً على مستوى واحد من الأفضلية والقيمة. بحسب ما تعبّر عنه الآية: "وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" البقرة 106.
3- إنّها ليست معصومة من الخطأ، سواء بسبب الصّراع النّفسي للرّسول، أو جرّاء ظروف إملاء المصاحف وكتابتها قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية.
4- أنّ الرسول قد اكتفى أحيانًا لدى صياغة بعض الآيات بما بلغ إلى مسامعه من عبارات قالها آخرون من الصحابة في ما اصطلح عليه: "ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة".
في مبحث آخر ينتقل بنا سعيد ناشيد إلى منطقة أخرى، لا تخلو أيضًا من استنتاجات لها وقعُها في المخيال الجمعي الإسلامي، حين يعتبر بأنّ القرآن ليس هو الوحي. فيؤكّد أنّ كل الآراء في هذا الموضوع قديمًا وحديثًا انبنت على عالم القدامة بكلّ مستوياته، إلا إذا استثنينا اجتهادات المفكرين الإيرانيين سروش وشبستري كما أشرنا سابقًا. وهي نظرة لم تخرج عن سحرية العالم، وأسطرة الدين، وربّما هذا هو الدّافع الذي منَح بعض المعاصرين الجرأة في تصنيف القرآن خارج التراث، كمحمد عابد الجابري من خلال كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم"، ومحمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن".
إنّ ما يعاب على المفكرين السابقين، والذين تميزت نظرتهم للقرآن بالقدامة كما يؤكّد الكاتب، هو البناء النّظري الذي بنوا عليه تأصيلاتهم واستنتاجاتهم. لأنّ القرآن الكريم هو ثمرة قدرة النّفس على الصّعود والارتقاء لغاية تحقيق الاتصال. إلا أنّ الصّعود هنا بخلاف الفلسفة لا يكون برهانيًّا، بل حدسيًّا مستندًا إلى ملكة الخيال(ص54).
ينتقل بنا ناشيد إلى مستوى آخر من السّؤال: هل المصحف هو القرآن. الجواب يؤكّده الكاتب بالنفي وبالخط العريض للأسباب التالية:
1-   أنّ قرار جمع القرآن وتبويبه وترتيبه اتّخذه المسلمون في عصر خلافة أبي بكر. وتمّ إنجازه في خلافة عثمان بن عفان. ثمّ خضع النصّ العثماني بعد ذلك لتقلّبات كتابية وخطّية كثيرة على مر العصور.
2-   أنّ حجم المصحف الذي وصلنا أصغر بكثير من حجم القرآن المحمدي، أيْ أقلّ من مجموع الآيات التي نزلت على الرسول. حيث تؤكّد الدراسات القرآنية أنّ بعض الآيات والسور قد ضاعت.
إنّ كل ما سبق ذكره حسب ناشيد سيفضي بالضّرورة إلى أنّ القرآن هو تأويل نبويّ للوحي الإلهي، لهذا جاء موسوماً بشخصية النّبي، ومعبّرًا عن واقعه بكلّ معانيه، واقع اليتم والتجارة والقتال.
-   يُتْم النّبي: انعكست حياة النّبي اليتيمة على وصاياه وأخلاقه وأوامره. والتي فيها يقدم اليتيم على المسكين كما تؤكّد الكثير من الآيات.
-       النبي التاجر: ويتّضح الأمر من خلال القاموس المستعمل، والذي تغلب عليه لغة التجارة.
-       عقيدة القتال: ويؤكّد عليها الخطاب القرآني.
وانطلاقًا من هذه المقدّمات فإنّ القرآن ليس دستوراً بحسب ناشيد، فهو كلام تعبديّ خالص. وأيّ علاقة يمكنها أنْ تجمع بين المرء والقرآن على هذا الأساس فهي علاقة ملتبسة، مغرضة، لها هدف واضح وهو التّوظيف الإيديولوجي، والسّيطرة والتسلّط على النّاس باسم المقدّس. كما أنّه ليس كتاباً علميًّا يحوي بين طيّاته نظريات علمية كما يزعم بعضهم تحت مسمّى الإعجاز العلمي، لأنّ خطابه ينتمي إلى العالم الوسيط، ومفاهيم ما قبل الثّورة الكوبرنيكية. وحين العودة إلى القرآن يمكن استنتاج ثلاث خصائص:
-       الأرض ليست كوكبًا في السماء.
-       الشمس تجري والأرض مستقرة
-       الكون امتداد عمودي
إنّ المقابل الطّبيعي لعالم القدامة الذي استفاض فيه ناشيد، هو عالم الحداثة وهو أحد الأوجه التي يشير إليها عنوان الكتاب. ومن الطّبيعي وكما تأكّد في البداية أنّ القرآن والحداثة عالَمان منفصلان، يدوران في فلَكيْن متناقضيْن. ففي الوقت الذي تكون فيه الحداثة ذلك الأفق الإنساني الذي ينشد التّغيير والتنوير والعقلنة، فإنّ عالم القدامة هو عالم الرؤية السحرية، وعالم الثبات والأصوليات والدوران اللانهائي على قدسية الذات. لهذا كان يقول هابرماس: الحداثة مشروع لم يكتمل بعد. فالأخلاق من المنظورين السابقين تختلف بالكلية.
ففي الوقت الذي تعتبر فيه أخلاق القدامة الطّاعة المطلقة فضيلة أخلاقية، فإنّ الحداثة تعتبرها مجرّد بؤس وضعف. وفي الوقت الذي تعبّر فيه أخلاق القدامة على مِلك اليمين، فإنّ الحداثة تعتبرها تلاشيًا لذاتية المرأة في سياق العبودية المتاحة أو المباحة. كما أنّ تزويج طفلة في سن الرابعة عشرة، كان يُعدّ، في المجتمعات القديمة، بطولة، مثلما كان يُعدّ القتل والاغتصاب فضيلة، وتنفيذ الإعدام أمام النّاس نوعاً من الإنصاف. لكن كلّ هذه العناصر تلاشت في عالم صارت فيه كلّ هذه المظاهر نوعاً من اللامعقول، وتعبيرًا تاريخيًّا لم يعد صالحًا للتّطبيق أو التّنفيذ.
ختامًا
فالكتاب هو دعوة لتحرير الوعي الإسلامي كما يراه صاحبه من سحرية العالم، والتخلّص من تراكمات التخلّف والجهل الذي أصابت هذا الوعي. ولا يمكن أنْ يتمّ هذا الوعي إلا من خلال تحرير السّؤال نفسه، ومنْح هامش أكبر لمن يرغب في النّقد والنّقد المضاد، في تدافعٍ هدفه خلق توتّرات معرفية، تنتهي في الأخير إلى الاعتراف بحق الآخر المختلف عنّا في التّفكير والثّقافة والرّؤية.
غير أنّ النّظرة السّطحية للواقع الإسلامي في شقّه الأصولي، وفي تعبيراته الحركية، لم يكن يوماً مستوعباً للحقّ في الاختلاف، بل كان دوماً يصادر هذا الحقّ بتبريرات مختلفة، هدفها دوماً إسكات صوت الآخر، وتسييج النصّ بكلّ السّياجات المعرفية الممكنة. وبدل أنْ يتلمس الإنسان حيوية دينه في هذه الانطلاقة نحو المتعالي، ينحسر في حركة دائبة نحو المنحدر الأخلاقي والسياسي والاجتماعي.
إنّه الواقع الملتبس الذي ساهمت في تشكيله عوامل كثيرة، أهمّها المؤسّسة الكهنوتية في شقّها الأصولي. فالقرآن والدين والرسالة والنبوة في أسُسها هي ثورات دينية وفكرية على الواقع كما أشار إلى ذلك غوستاف لوبون[4]. ومن معاني الثّورة هي هذا الأفق الذي ينطلق منه الإنسان في مساءلة ذلك اللاّمفكر فيه كما تمثله العقيدة الصمّاء. وهذا هو الأساس الذي أنبت لوثة الأصولية والدوغمائيات الدينية والسياسية، ولم نعد نرى من الدّين إلا ذلك الأفق الذي تعبّر فيه بعض الحركات المتطرّفة عن نفسها، مستفيدة من واقع عربي إسلامي مهترئ.

[1]- الجبران، عبد الرزاق. جمهورية النبي: عودة وجودية. ص 8
[2]- شايغان، درايوش. ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة. ترجمة محمد الرحموني. مراجعة مروان الداية. المؤسسة العربية للتحديث الفكري، دار الساقي. ص 243
[3]- ليشته، جون. خمسون مفكرًا أساسيًّا معاصرًا من البنيوية إلى عالم ما بعد الحداثة. ترجمة فاتن البستاني. مراجعة محمد بدوي. المنظمة العربية للترجمة. ص 405
[4]- انظر ما كتبه غوستاف لوبون حول محمد وثورته الدينية. لوبون، غوستاف. روح الثورات والثورة الفرنسية. ترجمة عادل زعيتر. كلمات عربية للترجمة والنشر. ص 37

الأربعاء، 25 يناير 2017

المدرسة و مهام البناء الديمقراطيّ ـ عبدالله عطيّة

عن أنفاس نت



توطئــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
يقتضي منطق الاهتمام بالعلاقة بين النّظم التربويّة وموادها التعليميّة وبين البناء المؤسسيّ الديمقراطيّ الانطلاق من استشكال طبيعة هذه العلاقة ومشروعيتها، فلئن كان من البديهيّ- أي في مستوى المتصوّر العام- اعتبار غائيّة الفعل التربويّ تمرير المعارف ودحر الجهل وتوفير الكوادر التي يحتاجها المجتمع في شتّى مناحي الحياة ،فإن مثل هكذا تصوّرا غدا لا معنى له في خضمّ التحوّلات التي ترافق الوجود البشريّ وتخصيصا ما كان منها موصولا بالقيم وطرائق السّلوك والعلاقة بالآخر المحلّي والعالمي. وعليه فإن المؤسّسة التربويّة اليوم و في ظلّ الثورة المعلوماتية وتنوّع تكنولوجيات الاتّصال الحديثة والمتجدّدة تبدو فضاء ينشد فيه المتعلم صورة للمربّي لا يصادفها إلا نادرا ،وفضاء يبحث فيه المربّي عن متعلّم لا يكون غريبا عنه فلا يعثر عليه .المتعلم لم يعد - كما كان طويلا – منتوجا مدرسيّا خالصا والمدرّس كذلك ما عاد المحتكر الوحيد للعلم والمعرفة، بل إنّ حاجات أجيال المتعلمين اليوم مشدودة إلى ما هو كونيّ مشترك لا مجال لإنكاره أو تجاهله يتمثل في حقّها في أن تساهم في صياغة مواطنة وطنيّة وعالمية تتأسّس على منظومة حقوقية يكون الإنسان وسيلتها وغايتها. فلقد أضحى من المتأكد وجود علاقة وثيقة بين حقوق الانسان من جهة ، وبين التنمية بأبعادها المتنوّعة من جهة ثانية .ذلك أن حقوق الانسان كلّ مركب لا يحتمل التجزئة ،وهي تستدعي التعامل معها في شموليتها: السياسية والتربويّة والمدنيّة والاقتصاديّة والثقافيّة وأيضا الحقوق الجماعية باعتبارها آخر أجيال هذه الحقوق ،ونعني بها الحقّ في الأمن والسّلم والتضامن وفي البيئة السليمة.
التلازم وثيق إذن بين التربية على المواطنة وبين أسس الدّيمقراطية أعني بين الحقل المعرفيّ والبيداغوجي(المدرسيّ-التربوي) وبين الحقل السّياسيّ والمدنيّ (نظم الحكم) فكيف تتجلّى هذه العلاقة ؟ وما هي مرتكزاتها؟
الإطار الاستراتيجيّ للتربية على الديمقراطيّة:
 إنّ الضمانة الأساسيّة لتحقيق مواطنة ديمقراطية في المؤسّسة التربويّة وفي خارجها أيضا على المدى المنظور والبعيد هي المعرفة، "فالعلم قوة" والرّهان على المؤسسة التربوية متأكد والمدرسة أضحت اليوم مجال تنافس بين الأمم والشعوب ، فلقد" ذاعت في أقطار الأرض كلّها وفي الأقطار المتحضّرة فيها بنوع خاصّ حقوق الإنسان ومنها الحرية والعدل والمساواة ...فالخير أن نتدبّر الخير بأنفسنا وأن نسعى إليه طائعين قبل أن ندفع إليه كارهين" (1) وبهذا التصوّر"الحسينيّ" الاستباقي لعلاقة التربية بحقوق الإنسان وبالممارسة الديمقراطيّة يتضح أنّ التربية على المواطنة إنما هي تربية على القيم، وأنه يمكن اعتبارها أحد أسس جوهر رسالتها.
إنّ دور المدرسة حاضرا ومستقبلا لن يكون في كلّ الأحوال دورها الذي اعتادت أن تؤديه على مرّ الأجيال، فهي مدعوّة إلى التفاعل مع التحوّلات العميقة التي تطرأ على تركيبة المجتمعات وعلى بنية المعرفة وأساليب العمل ووسائل الإنتاج.صحيح أنّ الجهود المجتمعيّة والسياسيّة كانت منصبّة بدرجة أولى على إعادة البناء ولملمة جراح عقود المرحلة الاستعمارية المباشرة في مستوى مؤسسي وهيكلي (العمل على نشر نواتات المعرفة والتثقيف الصحّي وإحداث مواطن الشغل...) بحيث أن المهمّة الرئيسية للنظام التربويّ حينها تمثّلت في محاربة الأميّة وتحقيق نسب تمدرس معقولة .إلا أن التعلّم للمعرفة اليوم لا معنى له إذا لم يرتبط بالتعلّم للعمل، وبالوعي باستحقاقات العيش مع الآخرين، وبهذا المعنى غدت المعرفة ليست غاية في حدّ ذاتها وإنما هي وسيلة لبناء الإنسان في أبعاده المختلفة. إنّ النظم التربويّة تجد نفسها اليوم أمام تحدّ هيكليّ في تقديرنا وهي، متى أخذته بعين الاعتبار وسعت إلى توفير شتىّ مستلزمات تجاوزه وضمانات تذليله أمكن حينها الحديث عن مقاربة عقلانية للفعل التربوي، يتمثّل هذا التحدّي في مدى وعي استرتيجيّي الشأن التربوي بالأبعاد التالية للوظيفة التربويّة والتعليميّة للمدرسة:
  _" أن يقوم التعلم على الشمول، أي أن يتحاشى نزعة تفتيت المعارف وتجزئتها إلى تخصّصات تنحو إلى استقلال المواد التعليمية عن بعضها البعض بل وأحيانا تغفل عمّا بين دروس المادة التعليمية الواحدة من ترابط، ولهذا يكون من المفيد جدّا الاستفادة من المدد الذي توفره المواد التعليمية المختلفة وتوظيف المكتسبات المتأتّية من جميع التعلّمات والتنسيق بينها.
 _ أن يقوم التعلّم على النفع فيستجيب لحاجات المتعلمين ومتطلّبات الحياة المهنيّة والاجتماعيّة، ولهذا ينبغي أن ينتقي المدرّس من المعارف والمحتويات ما يناسب قدرات المتعلّم ويلائم رغباته ،ويتجنّب المسائل التي لاتنفع في الحياة المهنية والاجتماعيّة.
 _ أن يقوم التعلّم على الفعل فيجعل من المتعلّم فاعلا يقدر على تملّك المعرفة ذاتيّا ، ويكتسب المهارات فرديّا وجماعيّا من أجل إيجاد الحلول لما يعترضه من صعوبات ومشكلات في حياته اليوميّة."(2)
إنّ تصوّرا استراتيجيا كهذا من شأنه أن ينأى بكل ممارسة تعليمية عن الارتجال والضبابيّة ويرسم للمربيّ وللمتعلّم أيضا" خارطة طريق " تحدّد التمشّيات البيداغوجيّة المتأكّدة ومجمل العمليّات والأنشطة والتقنيات المتفاعلة التي تقوم عليها عمليّات التعلّم.فمبدأ فاعليّة المتعلم يبدو مشغلا تعليميّا، وهو كذلك فعلا ، وهو ينطوي على عديد القيم المدنية التي تستهدف الجانب الموقفيّ والنقديّ والسّلوكيّ في شخصيّة المتعلم باعتباره مواطنا نذكر من هذه القيم المترتبة عن تفعيل هذا المبدإ: 
*المبادرةl’initiative) (، وتعني ان يتوصّل المتعلّم الى اقتراح أنشطة ومشاريع وأفكار تنبع من تصوّراته وتعبّر عن مواقفه.
*الحريّةla liberté) ) ، حين تتاح للمتعلّم فرص اختيار ما يلائم قدراته وكفاياته ويهتدي إلى تقديم منتوجه الخاصّ في مناخ من الأمان التربويّ بعيدا عن كل تسلّط أو خوف،"فالخوف هو العدوّ الأكبر للإنسان" على حدّ تعبير غاندي.
*تحمّل المسؤولية( la responsabilisation)، بمعنى إقدار المتعلّم على بناء معارفه بنفسه والمشاركة في إنجاز مراحلها وعلى إعادة تنظيم مقارباته وتعديلها على ضوء الأخطاء التي تعتبر من صميم تمشيات التعلّم.
*التعاون(la coopération) ، من خلال التركيز على المواقف والاستعدادات فيدرك المتعلّم أن وجاهة الأداء الفردي لا تجد معناها خارج سياق التفعيل الجماعيّ، فضلا على أنّ التواصل مع الآخر من مقوّمات العيش المشترك.
*التواصل(la communication) ، وهو المظهر الأوّلي للتفاعل البشريّ الذي يعرّفه "شارل كولي" بكونه"الآلية التي بواسطتها تنشأ العلاقات الإنسانية وتتطوّر" .إنه ليس مجرّد نشاط شفويّ أو حركيّ بل هو فعل اجتماعي(action sociale) يكشف عن مكانة صاحبه الاجتماعية ويموضعه.فهو مدخل هامّ لمعرفة شخصية الفرد ومؤشر على مدى نضجه وموضوعيّته.
يبدو الارتباط دقيقا إذن بين فلسفة النظم التربوية وبين التربية على المواطنة والبناء الديمقراطيّ. فالنظام التربويّ لا ينبغي النظر إليه باعتباره مجرّد ميكانيزم أو إطار شكليّ وإنما هو في حقيقة الأمر بناء اجتماعي وإنساني يشبع حاجات مواطنيّ المستقبل ويحدّد ملامحهم، وعلى هذا الأساس فإن علاقة الفاعلين- المربين والمتعلمين- بهذا البناء هي وجه من وجوه علاقة الشعب بنظامه السياسيّ وبحاكميه.
إن التربية على المواطنة في الفضاء المدرسيّ إعداد للناشئة لتدبّر استحقاقات العيش معا (le vivre ensemble) وإسهام في إنتاج وعي يكرّس قيم الحريّة والإنصاف والمشاركة والمساواة بحيث ينمو لدى مواطنيّ الغد إدراك بالتلازم بين الحريّة والمسؤولية، وبين الحقّ والواجب...
الديمقراطية مفهوم سحريّ دون شك، أنتجه الفكر البشريّ خلال مراحل طويلة وإن كان ذلك بمسمّيات ومضامين متباينة أحيانا. هي مناخ وتدابير وضمانات لممارسة السلطة باعتبار هذه الأخيرة- أي السلطة - "مفهوما يختزل ثلاثة مرتكزات: أوّلها أنه لا سلطة بلا موارد، وثانيها أنه لا سلطة بلا قدرة على استخدام هذه الموارد، وآخرها أنه لا سلطة بلا تدبير استراتيجيّ"(3).                                 
  ( أ ) موارد السّلطة مختلفة وهي ماديّة ولكنّها بالأساس معنويّة أعني مضامين وبرامج ومعارف، غير أنّ معظم هذه المحتويات المعرفية تتّسم بهيمنة المنحى الكميّ الموسوعيّ بما يجعل من الصّعوبة بمكان التمييز بين ما هو ضروريّ وجوهريّ وبين ما هو ثانويّ وعرضيّ. فضلا عن أنّ هذه البرامج التعليميّة غالبا ما تكون مصبغة بالتلوين الإيديولوجيّ السلطويّ.
  (ب) القدرة على استخدام الموارد تختلف من منظومة تربويّة إلى أخرى،سواء من زاوية تسيير المؤسّسة التربويّة حيث أدّت عديد الممارسات القائمة على مركزية القرار إلى ظهور سلوكيّات رتيبة وتقاليد تركن إلى تنفيذ التعليمات دون مبادرة ذاتيّة فانتفى بذلك الاجتهاد وتعطّل التجديد، أو من زاوية التمشيات البيداغوجيّة المغيّبة لكلّ تحليل وتعليل ومساءلة نقدية متبصّرة في مقابل سيطرة نسق يشجّع على الحفظ والاسترجاع والتطبيق الآليّ للقواعد.
 (ج) التدبير الاستراتيجيّ :السّلطة يمكن أن تكون سياسيّة كما يمكنها أن تكون كذلك معرفية تعليميّة والعلاقة بين السّلطتين وثيقة وليست بالضرورة منسجمة .هي علاقة بين الماكرو macro)  (le   والميكرو(le micro) أي بين المؤسّسة السياسيّة وبين المؤسّسة التربوية،وإن كلّ رهان ديمقراطيّ يظلّ محكوما بإرادة سياسيّة ذات بعد استرتيجي جوهره بناء الإنسان المواطن .
إن المواطنة في أبسط معانيها لا تعدو أن تكون الكيفيّة التي يتصوّر بها الفرد انتسابه إلى تجمّع اجتماعيّ-سياسيّ. فالمواطن هو الفرد المنخرط في قواعد المدنيّة ،وفي كلّ ما يتيح له التمتّع بحقوقه والقيام بواجباته، والفرد لا يولد مواطنا وإنما ينشأ على قيم المواطنة والمبادئ الديمقراطية عبر عمليّة التنشئة الاجتماعية التي تمثل المؤسسة التربوية أحد فضاءاتها."لأنه كلما أنتجت المدرسة فشلا فإنها تكون بذلك لا تربيّ على المواطنة" على حدّ تعبير أحد خبراء الشأن التربوي(فيليب بيرينو). “ chaque fois qu’elle fabrique de l’échec, l’école n’éduque pas à la citoyenneté »    
لماذا التربية على حقوق الإنسان في النّظم التربويّة ؟
عدة أسباب تحتّم تنزيل هذا المبحث الحقوقيّ في البرامج الدراسيّة منها على سبيل الذكر لا الحصر:
- نسبة الأميّة المرتفعة بمفهومها الحديث المتمثّل في الجهل باستثمار الوسائل التكنولوجية والتي تصل في بعضها إلى أكثر من نصف السّكان.
- هيمنة النماذج التقليديّة وعادات السّلوك المتعارضة مع حقوق الإنسان في الحياة اليوميّة للكثير من الأسر والجماعات.
- استمرار البنى والعلاقات التقليديّة سواء داخل الأسرة أو المجتمع.(4)
- تحدّيات العولمة ذات الوجوه المتعدّدة وخصوصا ما كان متّصلا بالمعرفة والثورة الاتّصالية والمعلوماتيّة وكذلك بالمسألة الحقوقية التي أضحت سبيلا للإملاءات الاستعماريّة وتغيير أنظمة الحكم.
إن الديمقراطية ضرورة مجتمعيّة، وهي ليست حقنة يحقن بها المجتمع فيصبح سريعا ديمقراطيّا، مثلما أنها ليست عمليّة فوقيّة مسقطة على الشعوب سواء من الخارج أو من الدّاخل، هي "ليست عملية استزراعية. فالديمقراطية لا تُنقَل والبناء الديمقراطيّ لا يُستورَد. فالديمقراطية مُمارسةٌ مَحلّيةٌ وتَخلّقٌ ذاتيٌّ "(5) فأن تكون الديمقراطية ممارسة محلّية يعني أن التصوّر التربويّ والبيداغوجيّ ينبغي أن ينزع نحو التأكيد على أنّه ليس من المتيسّر بناء مجال ديمقراطيّ (مدرسيّ أو سياسيّ) بمجرّد إدراج مدارات اهتمام دراسيّة تتطرّق إلى هذا المشغل، وإنمّا الأهمّ من كلّ ذلك أن يَصْحَبَ هذا التعلّم والتعليم تصرّفٌ ديمقراطيٌّ وسلوكٌ رشيدٌ يَصل التربية على الديمقراطية بالتزام شخصيّ من جانب الفاعلين من ناحية الأداء والتواصل ، وبهذه الكيفية تكون الممارسة التربويّة مساعدة للأجيال المتعلّمة على فهم قواعد اللّعب الجماعيّ بمختلف ضغوطاته ومقتضياته ومناسباته وفُرصه من خلال سلوكات ديمقراطيّة مرافقة لها في الحوار والتفكير والمساءلة والنقد وإبداء الرأي والمشاركة.
إنّ مقولة المواطنة كمفهوم مركّب تُحيل على عدة عناوين منها أنها :
-  قيم ومبادىء ومضامين ذات أبعاد قانونية وإداريّة وسياسيّة واجتماعية.
- وهي كذلك سلوك وممارسة تستند إلى قيم الحرّية والمسؤولية والحقّ والواجب في الفضاءات المتعدّدة (المجتمع والعائلة والمدرسة..) ولهذا الاعتبار فإنّ الارتباط وثيق بين الثقافة المؤسّسيّة السائدة في المجتمع وبين طبيعة النظام السياسيّ القائم في ذلك المجتمع.
التربية المدرسيّة والثقافة المدنيّة:
التربية المدرسيّة محتويات معرفيّة متنّوعة وطرائق في التّواصل وتبليغ المعارف، وهي أيضا تنشئة للأجيال على القيم الوطنية والإنسانية المشتركة.هذه التربية تستهدف إعداد الناشئة لحياة فاعلة تجعل انخراطها فيها ايجابيّا ومنسجما مع ما توفّر لديها من التّحصيل العلميّ والعمليّ والسلوكيّ.
غير أنّ عديد التقييمات الداخليّة المنجَزة للأنظمة التربويّة ( ذات الصّلة بمبحثنا) تنتهي إلى استنتاجات لا تسهّل عمليّة البناء الدّيقراطيّ المنشود منها:
" - غلبة البعد المعرفيّ والنظريّ على التعلّمات.
 - غياب شبه كلّي للتدرّب على مناهج العمل.
 - طغيان المنحى الكمّي والتراكميّ على البرامج.
 - صرامة البرامج وعدم قابليتها للاجتهاد والتّطويع من قبل المدرّس.
 - تواضع قدرات التّلاميذ على البحث عن المعلومة والتحليل والتأليف.                                - ضعف التلاميذ في التعبير الكتابيّ في اللّغتين العربيّة والفرنسيّة (6) "
إنّ مثل هذه الاستنتاجات الدّقيقة تجرّنا إلى القول أنّ تأهيل النّظم التربويّة ضرورةٌ تحتّمها التحوّلات السريعة والمتسارعة في الاقتصاد والمعرفة والمجتمع ، والمتمثّلة في بروز أنماط جديدة في أساليب التعلّم والتفكير والعمل والإنتاج والترفيه. فمجتمعاتنا اليوم تواجه "صدمة المستقبل" بل لنقل بتواضع " صدمة الحاضر" لأن ما عليه أحوالها التربويّة والحقوقيّة يدفع إلى الاعتقاد أنّ ما لم يُنجز أكثرُ بكثير ممّا قد يكون أُنجز.
"الإنسانية إنشاء تربويّ " مثلما عرّفها الفيلسوف كانط ، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي ينتج رموزه الثقافية "وأنّ عالم الرّموز الثقافية يمثّل مركز الثّقل في تركيبة الإنسان ومجتمعه...فهي جوهر الإنسان وأهمّ ما تنطوي عليه ذاته"(7) ولهذا الاعتبار فإنّ النظم التربوية هي المسؤولة بدرجة أولى على إنتاج إمّا مواطنة مسؤولة أو قطيع تابع ومستعبد تمارس عليه شتى أشكال التسلّط.
إن من مؤشّرات السّلطوية في النّظم التربويّة" قلّة أهميّة الإقناع والمكافأة، والتركيز على العقاب الجسديّ... وإضعاف قدرة الفرد على الابتكار والتّجديد والتعلّم الذاتيّ ..والتّشجيع على الاتّكاليّة والانتظار بدل التفرّد والحضور وإثبات الذات...وإهمال حاجات المتعلّمين واهتماماتهم وتجاهل الفروق الفرديّة بينهم" (8).فإذا كان مناخ المدرسة بمثل هذه الصّورة المغيّبة لكل مبادرة وتصرّف إراديّ فلا غرابة أن تنشأ الأجيال مسكونة بهاجس الشكّ والحذر والسلبيّة، فيفتُر اهتمامها بالشأن العام ّوتتعمّق الهوّة بينها وبين امكانية الانتظام والتنظّم سواء كان مدنيّا أو سياسيّا. وعديدة هي الدراسات والبحوث التي ترصد عزوف الشباب خاصّة عن كلّ إمكانيّة فعلٍ سياسيّ رغم الإحساس الداخليّ الدفين بالحاجة إليه ،إلا أنها تبقى تتصيّد الظرف للتعبير عنه في شكل تحرّكات احتجاجيّة غير مؤطّرة ومنظمّة.
ومن هنا تتأكّد حاجة الشّبيبة المدرسيّة إلى الثقافة السّياسيّة والمدنيّة وضرورة إدراجها في البرامج الدراسيّة بحيث تصبح من المسائل المألوفة والمؤثّرة في المواقف والقناعات والسلوكيات. لقد "تربّت" أجيال كثيرة على اعتبار الاشتغال في المجال السّياسيّ والمدنيّ هو من اهتمامات الكهول، وأن الحديث عن الدّيمقراطية وحقوق الإنسان والتّوزيع العادل للثّروات والتضامن مع قضايا الشّعوب والأقليّات المضطهدة هي موضوعات تخصّ تنظيمات دون غيرها، بل حتى هذه التنظيمات (الأحزاب والمنظمات) مطالبة بعدم تخطّي حدود معينة مضبوطة سلفا من قبل السلطة.إن المسائل الحقوقيّة في مؤسّساتنا التربويّة مازالت لم تحظ بالعناية المطلوبة ومازال تجاهلها من جانب ذوي القرار السياسيّ يبرّر بأنها من "الشواغل الترفيّة والكماليّة "، وإن الشّعوب محتاجة إلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية (إحداث مواطن الشغل وتوفير أساسيّات العيش مثل الغذاء والصحة والتعليم...).
إنّ هكذا دعاوى لا تحجب عنّا رغبة سياسيّة في حصْر مطالب الناشئة في غذاء الفم والبطن، وهي بذلك لا فرق بينها وبين السّوائم، بينما تؤكد التجارب الحديثة والمعاصرة (الثورات العربية المتعاقبة مثلا..) أنّ ديمقراطية مجتمع ما هي محكّ ديمقراطيّة نظامه السياسي وإنّ ديمقراطيّة نظامه السّياسيّ هي ضمانة ديمقراطيّة مجتمعه، وهكذا" فإن الدّيمقراطية ليست تعبيرا عن حقيقة بنائيّة ومؤسّسيّة فقط ، ولكنّها أيضا مجموعة قيم واتجاهات ومشاعر تشجّع على الممارسة الديمقراطيّة الفاعلة من جانب الحكّام والمحكومين "(9).
وفي هذا السّياق يكون مضمون الثقافة السياسيّة الديمقراطيّة متمثّلا في" الشعور بالاقتدار السياسيّ والاستعداد للمشاركة السياسيّة والتسامح الفكريّ المتبادل وتوفّر روح المبادرة واللاّشخصانية والثقة السياسيّة المتبادلة بين المواطن والنظام السياسيّ " (10)
نكاد نجزم أنه كيفما تكن مضامين أنظمتنا التربوية ومحتوياتها تكن ملامح الأجيال المتخرّجة من مؤسّساتنا التربويّة. فلا غرابة أن تؤكّد الدّراسات السّوسيولوجيّة الحديثة على خطورة النّظم التربويّة في إعادة انتاج منظومة الاستبداد والسّلطوية وتكفي الإشارة الى مساهمات "بيير بورديو وكلود باسرونPierre Bourdieu/Claude Passeron " في هذا الصّدد .

 البناء الديمقراطيّ في المؤسّسة التربويّة كيف يكون؟
لا شكّ أنّ المدرسة مجال من مجالات التّربية والتثقيف، وهي ليست بمعزل عن باقي فضاءات المحيط المجتمعيّ، غير أنّ طبيعة الأدوار الموكولة إليها ونوعيّة حرفائها يجعلانها محلّ توظيف قد يعيق تحقّق رسالتها . فهي المؤتمنة على تنفيذ السّياسة التربويّة للسّلطة الحاكمة، لهذا فإنّ انتظارات المجموعة الوطنيّة من مردودها مشروعة، فالرّهانات كبيرة والكلفة الماديّة والمعنويّة باهضة. غير أنّ الحاجة اليوم تدعو إلى إعادة النّظر في وظائف المدرسة على ضوء التحوّلات المعرفيّة والقيميّة المستجدّة على المستوى الكونيّ. ويكون ذلك بالارتقاء بوظائفها التربويّة والتعليميّة والتأهيليّة إلى المساهمة الفاعلة في الاعتراف بالمتعلّمين كذوات       لها حقوق وعليها واجبات .إنّ الأنشطة التعليميّة ينبغي أن تهتمّ لا فقط بإبستيمولوجيا الموادّ المدرّسة بل أيضا بسيكولوجيّة المتعلّمين وشواغلهم واحتياجاتهم بحيث يتمّ التخلّي عن التّواصل العموديّ الذي حكم ولا زال يحكم العلاقات التربويّة ، فليس المهمّ في كلّ الأحوال التحصيل المعرفيّ الذي يكتسبه المتعلّم وإنّما الأهمّ طريقة تحصيله وسياقاته وكيفيّاته.
 في التربية على المواطنة:
يمكن الوقوف عند جملة من المتغيّرات نعتبرها متأكّدة لمباشرة اشكاليّة التربية على المواطنة سواء في الفضاء المدرسيّ أو الفضاء المجتمعيّ العامّ:                                          
     (أ)تغييرات سوسيو-سياسيّة: ضرورة تثبيت تنزيل سنّ الرّشد إلى ثمان عشرة سنة كعلامة على نضج ليس سيكولوجيًا فحسب ولكن ايضا سياسيّا . فالتّلميذ ليس مجرّد مشروع مواطن يتمّ إعداده من قبل الكهول، وإنّما هو مواطن حقوقه في نفس درجة واجباته. وبذلك يتمّ التخلّص من منطق الوصاية الذي يحكم علاقة المعلّم بالمتعلّم إلى تفعيل عقد تربويّ ومدنيّ يراعي حاجات كلّ طرف.
(ب) تغييرات مؤسّساتيّة: ويكون ذلك بالتخلّي عن المركزيّة المفرطة في تسيير النظام التربويّ ، وفتح المجال أمام المعنيين المباشرين بإنجازه واستنباط الحلول الملائمة لمشاكلهم، فتتحرّر المبادرة وتضعف ميكانيزمات الرّقابة ويتحسّن مردود المؤسّسة التربويّة.( بعث مجالس المؤسّسات مثلا..) فإجراء كهذا يضمن مناخا سليما من التواصل الأفقي بين مكوّنات المؤسّسة، ويتيح للجميع المشاركة في تدبير الشأن التربويّ مباشرة ودون مراتبية بيروقراطيّة سلطويّة.
(ج) تغييرات بيداغوجيّة: إنّ البحوث التربويّة في علمي البيداغوجيا والتعلّميّة (البيداغوجيا الفارقيّة، الصّراعات المعرفيّة ، بيداغوجيا الكفايات...) تنتظر من التمشّيات البيداغوجيّة المطلوبة أن لا تحصر مجال اهتمامها في تعليم مبادىء الديمقراطيّة والمواطنة وإنما أيضا بالوعي بضرورة التصرّف الديمقراطيّ في التعلّمات. فالكفاية المهنيّة للمدرّسين تقنيّة وديداكتيكيّة بطبيعة الحال ، و هي كذلك إيتيقيّة أخلاقيّة تصل تربية النّاشئة على قيم المواطنة بانخراط شخصيّ من لدنهم.
(د) تغييرات ثقافيّة وعلائقيّة: فالأولياء شركاء المدرسة، والشراكة بين الأسرة والمؤسّسة التربويّة في التربية على الديمقراطيّة متأكّدة . الأسرة باعتبارها البيئة الأولى المنشّئة للمتعلّمين والمدرسة من حيث كونها البيئة الثانية التي تكمّل تأدية هذا الدّور. لذا فإنّ تجسيم الأهداف التربويّة الوطنيّة يتمّ بمجهود مشترك وفي تفاعل إيجابيّ مع الأولياء والمحيط أي مع ما اصطلح عليه بالحوض البيداغوجيّ.
(ه) تغييرات سياسيّة وهيكليّة: وتحديدا في علاقة الدّولة بالمواطن، "فالدّولة مربّية المربّين" بتعبير المفكّر" عبداللّه العروي" و" لكي يصبح المرء مواطنا واعيا بكينونة مواطنته يحتاج إلى " مؤسّسة المؤسّسات" أي الدّولة، بتعبير "أندريه هوريو".ففي كنفها نتعلّم أوّليّات الانتماء إلى الجماعة السّياسيّة والمدنيّة...فالدّولة المشروعة (légitime)هي القادرة وحدها على استنبات قيم المواطنة، والإحساس بالجماعة، والاقتناع بالعيش المشترك"(11)  فالقانون يحدّد ضوابط العيش المشترك وقواعده ، والديمقراطيّة نظام قيم وشكل من أشكال التنظّم السياسيّ وأسلوب في إدارة المجتمع، غير أنّ هذه الثقافة السياسيّة والحقوقيّة لا معنى لها لدى الشبيبة إن لم تكن مؤسّسة الدولة ،من خلال أجهزتها وعبر دواليبها المتعدّدة ،الأحرص على تجسيمها والالتزام بها " فشرعيّة الدّولة تتأسّس بالضرورة على عنصري الرّضى والقبول الطّوعي، والاستعداد الواعي والإراديّ للمساهمة والمشاركة في مؤسّساتها..." وإلاّ ستستمرّ " في المخيال الجماعيّl’imaginaire collectif  كيانا قهريّا ليس إلاّ "(12) 



 ضمانات البناء الديمقراطيّ في المجال التربويّ:
نورد بعض هذه الضمانات وهي باختزال شديد:
- اقتناع جميع الأطراف المعنيّة بالتربية على الدّيمقراطيّة بأنّ الأنظمة التّربويّة  قادرة على تأهيل برامج تعليميّة تمكّن الأجيال المتعلّمة من وعي أفضل بواقعها، يحصّنها من التّسطيح الفكري ويقيها الانخرط العفويّ في السّائد ويكسبها حسّا نقديّا وسلوكا مدنيّا مسؤولا .
- اقتناع الطبقة السياسيّة الحاكمة بأنّ دور المعرفة في زمن العولمة والتحدّيات المتسارعة هو تحرير المؤسّسة التربويّة ، وبالتالي المجتمع، من منطق النّجاعة والمردوديّة (نسب النجاح المرتفعة والمضخّمة في الامتحانات الوطنيّة..) والذي لا يعترف في الجودة إلاّ بوجهها الكمّي، وذلك بتفعيل تعاقد اجتماعيّ ومدنيّ يعترف بحقوق الأفراد/المواطنين في الكرامة والحرّية." فالوعي هو الوسيلة إلى التحرّر وبالتّالي لضمان الحقوق: الوعي أوّلا بأنّ للإنسان حقوقا لأنّه إنسان، ثانيا أنّه يجب أن يكون حرّا ويتساوى في الحقوق مع الآخرين ، ثالثا بأنّ الحقوق التي صيغت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي ضمنتها الشرائع والمواثيق هي حقوق الإنسان وليست حقوقا للإنسان "(13) .

الإحـالات:
  (1) طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، دار الكتاب اللّبنانيّ 1982، ص(156).                                                                                         (2) برامج التّربية المدنيّة بالمرحلة الثانويّة، الإدارة العامّة للبرامج والتكوين المستمرّ، تونس، سبتمبر 2008 ص(4).
     (3) د.خليل أحمد خليل، المفاهيم الأساسيّة في علم الاجتماع، دار الحداثة للطّباعة والنشر والتوزيع، لبنان، الطبعة الأولى 1984.
     (4) دليل المدرّس في التّربية على حقوق الإنسان، منشورات المعهد العربيّ لحقوق الإنسان، تونس   2001 ص(12).
(5) الاقتباس عن مجلّة الوحدة، المجلس القوميّ للثقافة العربيّة، السنة الرّابعة، العدد 45 حزيران يونيو 1988 ص(5).
    (6) الإصلاح التّربويّ الجديد ، وزارة التّربية ،الجمهوريّة التونسيّة،جوان 2002 ص(48).
  (7) د.محمود الذوّادي ،التخلّف الآخر:عولمة أزمة الهويّات الثقافيّة في الوطن العربيّ والعالم الثالث،الأطلسيّة للنشر،ط (1) ،جانفي 2002 ص(14).
  (8) د. يزيد عيسى السّورطيّ ،السّلطويّة في التربية العربيّة ،سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب ،الكويت،العدد362 ،أبريل2009،ص.ص(16-19).
 (9) د. عبدالسّلام علي نوير، الاتجاهات المعاصرة في دراسة الثقافة السياسيّة، عالم الفكر،العدد الأوّل،المجلّد(40) يوليو-سبتمبر 2011ص(23).
(10) نفس المصدر، عن كمال المنوفي، ص(25).
(11) د. محمد مالكي، هل انحسر الانتماء الوطنيّ والقوميّ لصالح الانتماء الدّينيّ؟ تأمّلات في ترتيب أولويّات الانتماء.مجلّة شؤون عربيّة ،الأمانة العامّة لجامعة الدّول العربيّة، العدد128 ، شتاء2006 ص(53).
(12) نفس المصدر ،ص (58).
(13) د.عبدالرّحمان التليلي، الحقّ كإقصاء للعنف،عالم الفكر ،العدد (4) أبريل-يونيو 2003 ص(82).

مفهوم العقل العربي: أو الدعامة الفكرية للاستبداد موليم لعروسي


عن ثقافات


لا أعرف كيف أشرح أن ينخرط الشباب، جسدياً وعملياً، في الإقبال على منتوجات التكنولوجيا الحديثة، وأن يستهلك آخر ما أنتج على مستوى الصورة والموسيقى واللباس، ولكنه يتوقف في قراءاته عند حدود القرن التاسع عشر الأوروبي ويحتمي في الغالب بملاءمة الفكر العربي التقليدي مع الفكر الحديث الذي أنتج في القرن الثامن عشر؟
يسألني طلبتي، بكثير من المكر، عن كيفية ملاءمة الحداثة وما بعد الحداثة مع حياتنا اليومية، وكيف يمكن لأمهاتهم وجداتهم فهم الحياة وفق هذا المنظور؟ يسألونني، وفي عيونهم حيرة عميقة، حيرة ذلك الذي يجد نفسه أمام طريقين، لكنه لا يزال يتردد في الأخذ بأحدهما.
أعرف جيداً أن الأمر لا يتعلق لا بأمهاتهم ولا بجداتهم ولكن الأمر يتعلق بهم هم، وصعوبة التخلص من منظومة تربوا فيها ولا يعرفون شيئاً غيرها. هذه المنظومة صنعتها المدرسة المغربية كما خُطِّطَ لها بِتأَنٍّ ومكر مكيافليين. ابتدأ مشروع التحول في التعليم المغربي من سنة 1965. فبعدما تم التراجع عن المشروع التحديثي السياسي الذي نادى به الجناح اليساري للحركة الوطنية واسترجاع الملكية على عهد محمد الخامس لغريزتها السلطوية التي كانت قد تخلت عنها مضطرة بحكم ظروف الاستعمار، أصبح الباب مشرعاً لإقامة نظام تعليمي يعيد إنتاج الخضوع والعبودية. ولم تجد الدولة أحسن من العودة للتراث لإعادة تنشيط الفكر السلطوي.
تزامن هذا مع حرب أكتوبر العربية الإسرائيلية، والتي وجد فيها دعاة العودة للماضي في العالم العربي، فرصة المطالبة بالتخلص من بقايا الاستعمار ومنها اللغة. ولكن العودة للغة العربية التي كانت تعني بالنسبة لبعضهم العودة للثقافة العربية، عنت للسلطة العودة إلى التقاليد وغربلتها من كل ما من شأنه أن يمس بالعمود الفقري للسلطة الأبوية الذكورية البطريكية الاستبدادية بصفة عامة. وكان النظام يعرف جيداً أن اللغات الأجنبية (الإنكليزية والفرنسية) تحمل في طياتها فكراً لا يتلاءم مع تكوين الرعية التي يريد، لذا قدم نفسه مسانداً لأؤلئك الذين يطالبون بالعودة للماضي. وبطريقة غريبة تحولت اللغات الأوروبية في التعليم إلى تقنية فقط تنتج التكنوقراط والتكنولوجيين لتبقى روح العربي مرتبطة بالفكر التقليدي. كل ما يعيد النظر في السلطة البطريكية التي هي أساس الاستبداد كان من اللازم أن يبقى خارج التعليم التقليدي. لذا حرص حراس النظام، وهم جيش من رجال التربية والتكوين، على أن تبقى بنية التفكير أبوية تقليدية، من هؤلاء من كان يعي ما يقوم به، ومنهم من كان يقوم بهذا مدفوعاً بغريزته الرجعية.
تعود بي الذاكرة إلى استجواب مطوَّل كانت أنجزته مجلة “الثقافة الجديدة”، في ملف خاص عن الثقافة المغربية ونشرته مجلة “الكرمل” الفلسطينية، نظراً لأن السلطات المغربية كانت قد قررت توقيف “الثقافة الجديدة” من جملة مجلات أخرى. في هذا الاستجواب أكد محمد عابد الجابري أنه يرفض سيغموند فرويد والسبب “أنه (أي فرويد) يهتك أعراضنا” (هكذا). علم النفس التحليلي (رغم ما يعتريه من هفوات) بالطبع يخلخل بنية النظم البطريكية؛ لذا أفهم موقف العابدي، الذي وضع، هو نفسه، برنامجاً مُعَرَّبََا للفلسفة سارت عليه أجيال، وأظنها ما زالت عليه إلى اليوم. وهو نفسه الذي وضع تصور تدريس الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع بالجامعات المغربية منذ تعريب الفلسفة (والذي كان عرابها أيضاً) إلى حدود الإصلاح الجامعي في بداية سنة 2000. وبعملية حسابية بسيطة سوف نرى أن جل ممتهني الفلسفة اليوم هم من نتاج برامج عابد الجابري. لا غرابة إذن في أن تتلقف الأجيال هذ النوع من التفكير على أساس أنه أحدث ما وصل إليه الفكر الإنساني. فلقد تربت عليه أجيال لتعتبر في النهاية أن أرقى ما يمكن أن تصل إليه هو هذا النمط من التفكير.
أتذكر في بداية الثمانينات، وأنا مدرس مبتدئ بجامعة الدار البيضاء، كان طلبتي يأتونني بنص جميل لغوياً وذي رنة غريبة بعنوان الأدب والغرابة. كنت حينها أدرس الحقيقة عند أفلاطون. كل ما كان يهم الطلبة حينها هو الافتخار بالفكر العربي الذي وصل حسب قولهم إلى مستوى عال قبل الفكر الغربي. كنت أقول لهم إن الرجوع إلى أفلاطون لا يعني، بالمرة، الاستنجاد بالماضي، لكي يمدنا بحلول لمعضلاتنا الآنية. الأمر كان يتعلق بتفكيك نظرية الاستعارة وردها إلى أصولها الميتافزيقية حتى يتبين لأولئك الذين كانوا يعتبرون أن العرب كانوا سباقين في علوم برع فيها الغرب، لاحقاً، لم يكونوا على صواب. لم نكن نقدس النص الإغريقي ولا النص العربي، كنا نفكك النص، نبحث في ثناياه عن ذاك الذي يتسلل إلى فكرنا دون وعي منا.
كنا وقتها بالمغرب خارجين للتو من ضربة قاسية أنزلتها السلطة على انتفاضة الدار البيضاء في يونيو 1981. وعلى المستوى العالمي كانت هناك النشوة المفرطة للإسلاميين بفعل نجاح ما كان يسمى في الأدبيات الإعلامية بـ “الثورة الإسلامية الإيرانية”. كان الجميع يقدم مقترحاته للخروج من الباب المسدود. لكن فُرِض في الآن نفسه على الفلسفة في تلك السنة، كما قلت، أن تنكمش وتنسحب من ساحة المقترحات. أصاب السياسة نوع من التشتت المذهبي والشك المنهجي وبقي الفكر يقاوم الاستبداد الذي أحسسنا بزحفه على أصعدة متعددة.
لكن قبل كل هذا، كان الفكر المغربي يتجه إلى التعبير عن نفسه من خلال ثلاثة تيارات : تيار تقليداني تقوده الدولة (وكان مهندسه هو الحسن الثاني)، ويلتقي في خطوطه الكبرى مع الوهابية والنظرة الأميركية للصراع، أو للطريقة التي يجب أن يتحول إليها الصراع العقدي في المنطقة ضد الشيوعية والتيارات الشيعية؛ تيار يتبنى ما كان يعبر عنه المفكر المغربي، عبد الكبير الخطيبي، بالنقد المزدوج أي نقد الثراث العربي والإسلامي من جهة ونقد الفكر الغربي وخصوصاً الاستعماري منه المتحول إلى إمبريالية من جهة أخرى وبناء فكر آخر مختلف Pensée Autree. من هنا كان التأكيد على اليُتمِ، هذا المفهوم الذي لم يستوعبه كثيرون لحد الآن والذي سوف نعود إلى تحليله لاحقاً. ومحور ثالث كان يظن، ولا يزال، أن الحل في التراث. هذا التيار هو الذي سيطر على الجامعة المغربية نظراً لتحالفه، عن غير وعي ربما، مع بعض التيارات الدينية ونظراً لدعمه من طرف الاستبداد العربي (البترودولار والقومية) وهذا هو تيار الخصوصية.
يعتبر هذا التيار أن للعرب حضارة وثقافة خاصة مختلفة عن شعوب العالم وهذا صحيح. هذه الخصوصية في نظر هذا الفكر تجعل من العقل العربي شيئاً مختلفاً تماماً عن العقول الأخرى. بادر هؤلاء إلى اعتبار العقل الكوني مجرد عقل غربي، جهوي وسارعوا، على شاكلة الفلاسفة الغربيين الذين حاولوا تحليل آليات العقل (الحديث هنا عن إيمانويل كانط وهيغل) إلى البحث عن خصوصيات عقل عربي خالص. لا يعترفون إذن بكونية العقل بل بجهويته ومن منطقهم هذا يمكن أن نعتبر أن ما أنتجه العقل الغربي (الكوني) لا يمكنه أن يتلاءم مع العقل العربي. هذا العقل العربي الذي صدر عن نص، هو القرآن، وعن نصوص قامت بتحليله وشرحه والتعليق عليه والتفاعل معه يمكنه، في نظر هؤلاء، أن يكون خاصية لمنطقة جغرافية لا أدري من سماها بالعالم العربي. لذا سحب هؤلاء منظومة فكرية نابعة من نص على أعراق وأجناس وثقافات لا تتكلم حتى العربية أحياناً.
هذا المنحى، والذي ما زال يبحث في التراث النصي الذي يتردد صداه من الماضي عن معضلات شعوب المنطقة، هو الذي سيطر بالمغرب والعالم العربي وما زال وهو الذي أَمَدَّ الأصولية الدينية من جهة والاستبداد السياسي من جهة أخرى بالأسس النظرية للدفاع عن أطروحة الخصوصية. فكل من الأصولية الدينية والاستبداد يعتبران أن مفهوم العقل ومفهوم الإنسان، ومن ثم مفهوم الحرية والديمقراطية دخيلة على المنظومة الفكرية والروحية العربية لذا لا يمكن الأخذ بها، ووجب تطوير مفاهيم نابعة من الأرضية الفكرية لهذه الأمة العربية.
هذا التيار يبحث في التراث البعيد عن مخرج لمعضلة آنية.

أطروحات حول الفكر والحرية *د. حسن مدن

ثقافات


حظيت مسألة الحرية باهتمام بالغ في التاريخ الفكري والفلسفي، بما في ذلك من زاوية علاقتها بالتاريخ، حيث جرى النظر إلى أن مجرى هذا التاريخ ذاهب نحو خلاص الانسان من القيود والكوابح الكثيرة التي تعيق حريته، وأن لحظة تاريخية، آتية لا ريب فيها، من وجهة نظر المفكرين القائلين بالمنحى التصاعدي /‏ التقدمي للتاريخ، سينجز فيها الانسان كامل حريته، ويغدو حراً من ثقل القيود التي فرضت عليه في المسار التاريخي المعقد والطويل.

وفي هذا اتفق الليبراليون والماركسيون، على ما بينهم من خلافات جذرية كثيرة في العديد من المسائل. وكان المفكر الليبرالي اللورد اكتن من بين الدعاة الليبراليين المؤمنين بهذا المسار التصاعدي للتاريخ، الذي هو من وجهة نظره سجلاً للتقدم وامتداداً مستمرا للحرية، رغم أنه كتب ذلك قبل ما عرفه التاريخ الحديث من نهوض الحركات التحررية في العالم، وخاصة في البلدان التي خضعت طويلاً للاستعمار والعبودية.(1)

هيغل المُشبع بالمركزية الأوروبية، وفكرة الشعب المختار نظر، هو الآخر، إلى التاريخ بصفته مساراً تقدمياً، لكنه  يقف عند تلك اللحظة التي أزفت بنشوء الدولة البروسية، التي هيمن وجهة نظره ذروة التقدم الانساني، وفيها سينال الانسان ما تاق إليه من حريات، لأنه رأى في تلك الدولة كمال العقل والمنطق.
وما أكثر ما سرقت فكرة هيغل هذه في عصرنا الحديث، لاسقاطها على سياقات مجتمعية وثقافية أخرى، غير الدولة البروسية التي باتت في ذمة التاريخ، على خلاف ما كان هيغل يظنها كنهاية للتاريخ، ففي عهد الرئيس الأمريكي كيندي في ستينات القرن العشرين أحاط به مجموعة من أساتذة جامعة هارفرد في الاقتصاد والفلسفة الذين روجوا لانتصار الحلم الأمريكي الذي يتوج مسيرة البشر.
لكن التاريخ لم ينته عند هيغل ولا عند أساتذة هارفرد. ظلَّ هذا التاريخ يشق طريقه صعوداً وسط تخبطات وحروب ومآسي وكوارث، وكذلك نجاحات وانتصارات هنا وهناك. وبعد نهاية الحرب الباردة بهزيمة الاتحاد السوفيتي وتفككه وانهيار الأنظمة الحليفة له في شرقي أوروبا، أطلق فرانسيس فوكاياما أطروحته حول «نهاية التاريخ» بالانتصار المبين لليبرالية الرأسمالية، التي تمثل الولايات المتحدة الأمريكية نموذجها التاريخي الأرقى الذي يضمن الحريات العامة والفردية بصورة غير مسبوقة في التاريخ، ورغم أن نظرية فوكاياما هاته بدت أمراً شاحباً بالقياس للمنظومة الفلسفية المعقدة لهيغل، لكن الآلة الدعائية التي توفرت لفوكاياما لم تتوفر لهيغل في زمنه.
النابهون من الناس وبعيدو البصر والبصيرة أدركوا، منذ ذلك الحين، أن هذه الأطروحات إنما كانت تؤسس لشمولية جديدة أشد خطورة، شمولية كونية، تجعل الشعوب كلها أمام خيار أوحد، لا ثاني أو ثالث له. هؤلاء النابهون قالوا أيضا إن هذه حال مؤقتة، لأن الأحادية هي نقيض لمنطق الأشياء وللطبيعة السوية. كل شيء في الحياة، بما في ذلك أصغر الظواهر وأكثرها بساطة قائمة على التنوع والتعدد، فما بالنا بالمجتمع البشري الذي يعج بالتناقضات على مختلف المستويات؟
على خلاف هيغل ركز كارل ماركس على المستقبل أكثر، فمفهومه لهدف التاريخ واتجاهه كان قريباً من مفهوم اكتن الليبرالي. بمعنى من المعاني يمكن القول إن ماركس واكتن نظرا إلى التاريخ على أنه يسير نحو تحقيق الحد الأقصى من الحرية الانسانية. كانت تصوراتهما عن المرحلة الوسيطة من الحرية شديدة الاختلاف، بيد أن تصورهم للمرحلة النهائية من الحرية كان أكثر تقارباً.(2)

تحمل الليبرالية والماركسية ارتيابا عميقا في الدولة بوصفها أداة للقهر، فماركس ينظر للدولة على أنها، أساساً، أداة للاضطهاد الطبقي، والدولة بالنسبة لليبراليين تشكل دائماً تهديداً للحرية الفردية، مع ذلك فان الرؤية الماركسية المستقبلية لمجتمع خالٍ من الطبقات تفترض وجود أفراد يتمتعون بقدرٍ عال من الاستقلالية غير مثقلين بإدارة الدولة أو بمطالب الاحتياجات الاقتصادية وقيودها. (3)

اهتم ماركس بدراسة الاستلاب بصفته عائقاً بوجه بلوغ الإنسان لحريته، حيث رأى أن الإنسان يعاني في مظاهر حياته من هذا الاستلاب الذي يأخذ ثلاثة مظاهر: استلاب أيديولوجي يتمثل في خضوع الانسان لعالم الوهم وانفصال ماهيته عنه، واستلاب سياسي يتمثل في انفصال عالم السلطة السياسية عن الإنسان، واستلاب اقتصادي يتمثل في تبعية العمل لرأس المال وغربة العامل عن منتوج عمله وخضوعه للقوة الاجتماعية للمنتوج تلك القوة التي تتحول مباشرة من العامل إلى المالك، والعلاقة بين هذه المظاهر هي علاقة عللية، بمعنى أن الاستلاب الاقتصادي هو علة مظاهر الاستلاب الأخرى كافة أو أنها مشتقة عنه، ومن أجل بلوغ الحرية المنشودة يجب تحرير الانسان من مظاهر الاستلاب هاته.(4)

(2)
أحد أوجه محنة الفيلسوف الاغريقي سقراط، الذي انتهى به الأمر، محكوما بالإعدام بتجرع السم، هو قراره بتجنب الحياة السياسية والانصراف إلى الفكر. رأى الرجل أنه مفكر عليه أن يعيش بالفكر وللفكر، ولكن الانحياز لهذا الموقف كان محالاً، لأنه ينطوي على نقض لميثاق الديمقراطية في أثينا القديمة التي كانت تجعل الاشتغال بالسياسة واجباً على كل مواطن.
بدا مُسْتهجنا في أعين الكثيرين يومها أن سقراط المحارب، الذي خاض المعارك، ورأى ان الذود عن الديمقراطية في أثينا في مقدمة أولوياته أن يترك السياسة وينشغل بالحكمة والفلسفة.
كيف يمكن إقناع بسطاء الناس الذين لا يكترثون لا بالفلسفة ولا الحكمة بصواب قراره، وبأن للفكر رجاله وللسياسة رجالها، وللحرب رجالها؟
تبدو هذه مفارقة في مجتمع أنتج الفلسفة وقدم للبشرية كبار رموزها عبر التاريخ، بحيث أن الفلاسفة في العصور اللاحقة لم يكن بوسعهم أن يكونوا كذلك لو لم يعودوا إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو وسواهم من فلاسفة الاغريق، ومع ذلك فإن الشعب كان يزدري الفلسفة، وكان مستعداً لأن يقبل باعدام سقراط.
محنة سقراط ليست محنة فردية، أنها محنة عامة طبعت تاريخ العلاقة المعقدة بين الساسة والمفكرين والمبدعين. حين انغمس إدوارد سعيد في العقود الأخيرة من حياته في السياسة، نصحته أمه، حسما روى في مذكراته :«خارج المكان»، بأن يكف عن ذلك: أنت مفكر، ولم تخلق للسياسة.
اناييس ين في يومياتها التي نقلتها الى العربية لُطفية الدليمي (5) تتحدث عن أمر مشابه، من واقع تجربتها الشخصية حين وضع أحد أصدقائها المثقفين إسمها ضمن قائمة من الأدباء المدعوين لاجتماع للبحث في نصرة الجمهوريين الاسبان في حربهم ضد الفاشية. حين كان الداعي للاجتماع يتحدث للحاضرين، وكان من بينهم بابلو نيرودا وأسماء اخرى كبيرة عن دور المبدع في عالم متغير، سألته اناسيس ين وبتهذيب: «لأي نفع ترجوني. انني فكرت بتغيير العالم والغاء البؤس عندما كنت في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمري، وأدركت فيما بعد عدم جدوى ذلك، وعملت بإصرار على بناء عالم فردي مطلق».
لكن صديقها أوضح: ثمة لحظة تجيء ينهار فيها عالمك الفردي أمام ما يحدث في العالم حولك. ولم تجادل المرأة في ذلك. بل سجلت في اليوميات: «ذلك حق. عند نقطة محددة يرتطم عالمي الفردي بجدار الواقع»، فلا يعود بالوسع حمايته من سطوته.
مهما سعى الفكر للتجرد من الواقع الذي يضج بالمظالم والتعقيدات من حوله، لن يفلح في ذلك. سيجد نفسه متورطاً فيه أراد ذلك، أم لم يرد. «إن تحويل اي شيء لا سياسياً هو فعل سياسي بحد ذاته» (6)، «والكاتب يصبح سياسيا حتى لو لم يرد ذلك» (7)

الهوامش:

1-علي الأمين المزروعي: «براهمة العالم.. ومنبوذوه» – ترجمة: أحمد حسن المعيني، مسقط . ص 104
2-المصدر السابق ص 104
3-المصدر السابق ص 104
4- محمد سبيلا:«مدارات الحداثة»- بيروت ص 29
5- أناييس ين: «اليوميات: – ترجمة لطفية الدليمي – بيروت ص 120 – 121
6- حسن مدن: «الكتابة بحبرٍ أسود» – الطبعة الثانية – البحرين ص 107
7- المصدر السابق ص 109



الأحد، 22 يناير 2017

لمن تقرأ؟ لمن تكتب؟… مأزق المثقف العربي لمحمد الأسعد

عن ثقافات



حسب التصنيف المستقر حتى الآن، يمثلُ «المثقفُ» في ثلاث صور، التقليدي والعضوي والمتنبئ. الأول صورة مكرورة تواصل نشاطها بحدود وظيفة لا تتجاوزها، نشر المعروف من ثقافات تقليدية، والثاني صورة مغايرة ذات طابع صراعي، إما أن تكون ملتحمة بسلطة تحافظ عليها وتخدمها (ماسح أحذية كل صاحب سلطة)، أو معارضة تسعى إلى التغيير وتشارك في فعاليته وتتمتع بروح نقدية (المنخرط في نضال تغيير الوضع الإنساني)، والثالث صورة نائية بنفسها لا زمنية تمسك بمعايير مطلقة تقيس بها من دون انحياز إلى طرف دون طرف، معنية بما هو حق وعدل خالصين (المراقب من خارج الأزمنة).

هذه الصور حلل سماتها وأدوارها د. إدوارد سعيد (1935-2003) على خطى الإيطالي «أنطونيو غرامشي» (1891-1937) محلل شخصية المثقف العضوي بنوعيه، ولكن هناك شخصية رابعة تمثلُ في الذهن حين نتطلع إلى الوسط العربي بخاصة، شخصية شبه المثقف، منتحل صورة المثقف، وسماتها التلون والتحول حسب المناسبة. على هذه الشخصية تطلق تسمية «الانتهازي» عادة، وإن كانت السمة الأدق هي سمة الكائن الأميبي الذي يتحول ويتلون غريزياً حسب كل حالة، هلامي لا قوام له يمكن أن يكون اليوم شيئاً ويكون عكسه في يوم آخر. وأظن أنه هو من اخترع مقولة «لكل مقام مقال»، وكأنه يقول اليوم «لكل حالة لبوسها».
ما يعنينا هنا هو مأزق المثقف.. الكاتب.. العربي، ونعني به العضوي المنخرط في صراع تغيير الوضعية الإنسانية تحديداً، لا ماسح الأحذية ولا التقليدي ولا الساكن في عالم الأزمنة والأمكنة المجرد، ولا شبيه الكائن الأميبي المتقلب من حال إلى حال تدفعه غرائزه، وحاجاته العضوية في المقام الأول، لأن لا واحداً من هؤلاء يعيش مأزقاً، فهو الطاعم الكاسي بالأمس واليوم وغداً.
مأزق المثقف العضوي الكاتب، والحداثي بخاصة، المنخرط في مهمة التغيير هو الذي يعنينا هنا، لأن وضعيته، على رغم نبل غايته وحماسه، تحمل مفارقة قلما يُشار إليها، فهو يتطلع من جهة إلى التأثير في مجتمعه ووسطه الثقافي، أي أن يكون فعالاً، إلا أنه من جهة أخرى، لا يعرف سر انعدام فعاليته في الوسط الذي يعمل فيه، وحتى حين يتعرض للقمع والسجن أحياناً تصيبه الدهشة وهو يرى اللامبالاة تحكم الجمهور الذي يقدسه في أعماقه، فيعبر عن يأس وإحباط يشلان قدراته، وحين يتعرض للاغتيال ترثيه قلة ممن يعرفونه، وترى وحدها في جهده الفكري قيمة عليا، وتأسف على غيابه أو تغييبه.

هذه المفارقة ناجمة كما نرى عن تصور غير واقعي ماثل في أذهان غالبية مثقفينا العضويين. تصور أن ما يمتلكه المثقف من وصلات، أو مراجع ثقافية، متنوعة عادة وعديدة، تصله بما تيسر له في عالم المعرفة بجهده وغزارة إطلاعه شرقاً وغرباً، هي وصلات يمتلكها الجمهور الذي يكتب له أو يخاطبه أيضاً. مثقفنا هذا، لا يعرف، وسط اندفاعه وإيمانه البريء بإمكانيات الجمهور، أن لهذا الجمهور العام، أو الوسط الاجتماعي، وصلاته ومراجعه الخاصة بثقافته التقليدية التي نشأ عليها، وتدرب على السير في طرقاتها آمناً على يد مثقفيه التقليديين، ولا يمتلك حشد الوصلات أو المراجع التي يمتلكها المثقف الحداثي، والتي قد تكون ذات صلة بثقافات عوالم ومشاغل أخرى وبلغات مختلفة. مثل هذا الجمهور العام، ونحن نتحدث هنا عن الأغلبية الساحقة، لا يمكنه الوصول إلى وصلات ومراجع مثقفيه الحداثيين، سواء كانوا عضويين أو متنبئين، واستيعاب وفهم ما يقولون أو التأثر به. من هنا لن يكون لجهدهم فاعلية. وتجربة مثقفي الأحزاب والجماعات العربية المتقدمة، أو السابقة على عصرها كما يقال، من ماركسية وقومية، تدل على هذه المفارقة، ويمكن أن تكون السبب الجوهري وراء انحسار ما كان يتصوره الكثيرون من نفوذ على مخيلة وواقع المجتمعات العربية، ذاك الذي يسمونه فشلاً بالتعبير السياسي.
على الرصيف المقابل، نجد تجربة معاكسة؛ تجربة الجماعات والحركات التقليدية فكراً وسلوكاً، وأشهرها الحركات والأحزاب التي تتبنى الخطاب التقليدي بخاصة. فهذه الجماعات والحركات لم تنجح في مخاطبة الجمهور العام فقط، بل والتأثير فيه، واكتسبت كتاباتها وخطبها نفوذاً وفاعلية، ليس لأن كتابات وخطب الجماعات والأحزاب المستنيرة والحداثية فقدت السند السياسي بعد تدمير النظم والدول التي تبنت أفكارها، بل لأن جماعات وحركات الجانب الآخر من الرصيف خاطبت جمهوراً يمتلك وصلات تصله بعوالمها، ولديها وصلات تصلها بعالمه. ولهذا بدا التقليدي الآتي من أزمنة أخرى، لا علاقة لها بالزمن الراهن، مؤثراً وفعالاً حتى وإن لم يكن عقلانياً ومستنيراً، وعُدّ متخلفاً قياساً بما وصلت إليه البشرية عقلاً وسلوكاً في العصر الحديث. ولأن هذا التقليدي متخلف عن زمننا هذا الذي نعيشه، ولا شأن له بمشكلاته وقضاياه هو العائش، فعلاً لا مجازاً، في عصور بادت بأعرافها وعاداتها ونظمها، فسيظل الجمهور تحت تأثيره منخفض الوعي، مقاوماً بعنف لكل تغيير وتحديث، لأنه ينتقل مع «مثقفه» التقليدي هذا تحت سطوة أو هامه إلى عصور زاهية كان فيها سيداً ومتنعماً، وسيظل غافلاً عما يحدث له في عالمه المعاصر من بؤس وشقاء.
الوصلات التي وضعها في متناول الجمهور وهؤلاء التقليديين، المتوارثُ والاعتيادُ وسهولة الوصول إليها بلا عناء والثقافة الشائعة، هي عبارة عن مرجعيات مبذولة ومعروفة، فالجمهور يفهمك تماماً حين تكون إشاراتك المرجعية مبثوثة في زوايا عقليته، ولن يفهمك حين تكون إشاراتك مما لم يعرف ولم يألف، مثل مرجعيات المثقف العضوي الحداثي التي تصلك بالعالم المعاصر، بفنونه وثقافته ورموزه وسياساته وبآخر منجزاته، فهذه تظل خاصة بهذا المثقف أو القلة التي توفر لها ما توفر له من وصلات، وستكون نصوصه المكتوبة والمنطوقة (التي نصادفها أحياناً في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة) أشبه ببوابات مغلقة أمام الجمهور الواسع.

الوصلات، وهي شبيهة بوصلات الحاسوب التي يصادفها المتصفح للمواقع الإلكترونية، تعمل عملها في دماغ الإنسان أيضاً، فما أن يُذكر اسم أو مكان أو حدث حتى يحدث ما يشبه الضغط على كلمة «وصلة» أو «Link» بالإنجليزية، فنجد الذهن ينتقل إلى مجال اسم ومكان وحدث مألوف. والثقافة هي التي توفر عادة عناوين هذه الوصلات، وتجعلها في متناول ابن هذه الثقافة. وميزة المثقف العضوي، المتطلع إلى تغيير عالمه والمساهمة في تغيير أساسيات ثقافته، أنه يحشد أكبر عدد من وصلات تكون بعيدة وغريبة في الوقت نفسه عن الجمهور العام وثقافته، وتشكل هذه الوصلات مراجع معرفته التي يستنير بها، والتي يشير إليها خطابه مباشرة أو ضمناً.

إلى هذه الوصلات، والفرق بين ما لدى الجمهور منها وما لدى المثقف، لم يلتفت أحد من المتحدثين عن أزمة الثقافة وانعدام فاعلية خطاب المثقف، أو فشل الفكر التنويري وسيادة الأفكار الظلامية، وتركز النظر والجهد على تفسيرات تتجاهل زوايا المشكلة الأربع؛ ثقافة الجمهور وأساسياتها، واختلاف المرجعيات، وقلاع الأيديولوجية التقليدية التي تظل فاعلة في وجه أي إخصاب ثقافي حتى في ظل نظام ساع إلى التغيير، وعدم إدراك غالبية المثقفين أنهم يخاطبون قارئاً أو مستمعاً أو مشاهداً لا يمتلك ما يمتلكون من وصلات.

ما يبدو مسلمات في وسط المثقفين، أي أن عليهم أن يقولوا وعلى الجمهور أن يرتفع إلى مستواهم، ليست مسلمات بقدر ماهي أوهام مضللة. إن انعدام الانسجام والتناغم بين مراجع الكاتب ومراجع مجتمعه الأوسع لا تعمق مأزقه فقط، بل ومأزق المجتمع ذاته حين لا يجد مساعدة واعية وكافية من مثقفين يشتم بعضهم مجتمعه أو يمعن في التعالي عليه والابتعاد عنه. قد نجد هذا التناغم والانسجام في بنى اجتماعية بدائية حيث يجد شاعر القبيلة من يفهمه ويتأثر بأقواله، ونجده في نظم أقدم حيث يقود السحرة والعرافون مجتمعاتهم بمجرد التلفظ بتعاويذ يعرفها ويتأثر بها الجميع، ولكن في البنى الاجتماعية المتطورة، وخاصة في العصور الحديثة، لم تعد العلاقات الإنسانية بهذه البساطة، ولم يعد العالم ذاته؛ عالم قبيلة أو قرية أو حتى مدينة، بل أصبح عالماً متنوعاً ومتعدداً، أو عالماً يحتشد بملايين الوصلات والمنافذ إلى ثقافات ولغات وأمكنة تحضر بالضرورة في ذهن المثقف الحديث، تثريه وتغنيه ولكنها تبعده و «تغربه» أيضاً عن عالمه سواء كان قبيلة أو مدينة أو دولة، وبالتالي عن الجمهور المفترض أنه يخاطبه ويطمح إلى أن يغيره أو يحدث فيه تأثيراً.

إذا أخذنا هذه الواقعة في الاعتبار، سنقول للكاتب ببساطة: عليك أن تعرف أنك تخاطب قارئاً حين تكتب.

من وظائف الإبداع لأميرتاج السر

عن ثقافات


تحدثت مرة عن أهمية الكتابة الإبداعية، أو السيرية، أو حتى كتابة المقالات الصحافية، في التوثيق لأحداث تاريخية، سواء كانت تلك الأحداث، اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية وفنية أيضا، جنبا إلى جنب مع كتابة التاريخ الرسمي، التي يقوم بها أكاديميون، لا يعنيهم سوى محاولة إيصال ما كان يحدث في وقتهم أو الوقت الذي سبقهم، وما يظنونه حقائق للأزمنة اللاحقة، مع الفرق أن الكتابة الإبداعية والصحافية، تحمل بهاراتها الخاصة من لغة جيدة ولمحات ساخرة وأوصاف تعجب المتلقي، وبالتالي تكون أكثر ملاءمة للقارئ من التاريخ الخشن الصارم.
بناء على ما أعتقده صوابا، أي ما راق لي كقارئ يريد أن يعرف ما كان يحدث قديما في مجتمعه ودولته، وباقي العالم، وكيف تطورت الحياة الاجتماعية للشعوب، من مجموعات صغيرة، بلا أفق، إلى جماهير عريضة، تحب الأوطان أو لا تحبها، والحياة الاقتصادية، من تجارة خرساء، ضعيفة، تحملها الدواب إلى هنا وهناك، في مساحات محدودة، إلى تلك التجارة العريضة، التي تتنقل عبر السفن والقطارات والطائرات، وعبر شاشات الإنترنت، وعبر كل ما يمكن أن يعد فكرة خلاقة، فقد اعتدت على قراءة الروايات، وكتب السيرة والرحلات، وأيضا قصائد الشعر، وخرجت بمعطيات كثيرة، حين أقارنها بالتاريخ، أجدها صادقة في معظم الأحوال، فقط انسابت إلى ذهني بسهولة، لما تحمله من جمال.
في روايات الحرب مثلا، تلك التي كتبت في زمن حدوثها، أو بعد انتهائها بفترة وجيزة، ستجد كل ما يمكن أن يعد سرا من أسرار الحرب مكشوفا أمامك، ستجد الأسلحة التي استخدمت والجيوش التي تقاتلت، وربما عدد القتلى الذين سقطوا، والجرحى الذين تم إسعافهم أو لم يتم، والناجين الذي كانوا يهللون بنصر، لم يكن في الحقيقة نصرهم شخصيا، وإنما محرقة لهم، لينتصر من أراد إشعال الحرب.
وجدت تلك المعاني المتنوعة، في رواية «ليلة لشبونة» للألماني إريك ماريا، وفي «تقشير البصلة»، السيرة الذاتية للألماني العظيم غونتر غراس، وقد عاش في الحرب وشارك فيها، مضطرا كمواطن ألماني، وكذلك في كتب بعض الإسبان واللاتينيين، والأفارقة، من الذين خاضوا حروبا أهلية، خرجوا منها سالمين، لكن كتبوا لنا إبداعا داميا، تخبط فيه أبطالهم وسقطوا ضحايا، وما زالت ترد إلى ذهني دائما، رواية «الله يفعل ما يشاء»، التي كتبها العاجي الراحل: أحمدو كروما، لتصبح من العلامات في أدب الجروح وعدم اندمالها، في أي وقت.
بالنسبة لأنظمة الحكم في زمن ما، وطريقة الأكل واللبس، والفرح والحزن، وتقاليد الأعراس والمآتم وغيرها من الأشياء المؤثرة في تاريخ الشعوب، نجدها كثيرا في مذكرات الرحالة العابرين ببلاد لم يكونوا أصلا من أهلها، ومعروف أن الرحلات الاستكشافية، تنشط منذ زمن بعيد، ولا يوجد عهد من العهود، إلا تحدث عن الكثير منها.
كان الأوروبيون، يحبون استكشاف قارات أفريقيا وآسيا، ويسيرون القوافل الضخمة من أجل الوصول إلى ذلك المجهول الذي يتخيلونه ولا يعرفون معناه إلا حين يصلون ويستكشفون، العرب يستكشفون أيضا، ويركبون البحر والخطر من أجل متعة الاستكشاف، هكذا، وفي كل تلك الحالات، نحصل على الأشياء المهمة التي ستساعدنا في حياتنا أو ربما لا تساعدنا في شيء، وفقط تمنح نشوة الاكتشاف.
لا أذكر متى قرأت كتاب «ملامح من المجتمع السوداني» للكاتب الراحل حسن نجيلة، لأول مرة، لكن قطعا منذ زمن طويل، وربما في بداية سنوات افتتاني بالقراءة، وللعم حسن كتابان معروفان، هما هذا الكتاب، وكتاب آخر رائع جدا، هو «ذكرياتي في البادية»، وربما كان ثمة كتب أخرى لكني لست متأكدا. ذكرياتي في البادية، وثق لبادية الكبايش في غرب السودان، حين ذهب الأستاذ لإنشاء مدرسة أولية لأطفال الرحل، وكيف عاش في تلك البيئة غير المرحبة بالتعليم، زمانا، مرض بأمراض أهلها، وتداوى بأدويتهم المحلية، أكل من زادهم المختلف عن زاد الحضر، وعطش وارتوى كما يعطشون ويرتوون.
ملامح من المجتمع السوداني الذي أعيدت قراءته الآن، يختلف، إنه مجموعة مقالات سياسية واجتماعية، يتجلى فيها التاريخ حيا وراقصا ومنتشيا وليس بجمود الكتب الأكاديمية، لقد أكد كثيرا على تلك العلاقات التي لم نكن نعرفها بيننا وبين الشعوب العربية الأخرى، لنكتشف أن أول صحيفة في السودان، أسسها مصريون، وأوكلوا رئاسة تحريرها لرجل سوري، وأن صحيفة «الرائد» التي كانت مهمة في بداية القرن الماضي وحتى إغلاقها في عشرينياته، كانت أول من ابتدع المسابقات الشعرية، وكان رئيس تحريرها لبنانيا، يقيم في تلك البلاد. سنقرأ عن فتيان ثورة اللواء الأبيض، التي هزت رسوخ المستعمر الإنكليزي، وخفضت من هيبته: علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وغيرهما من الأصحاب والشهداء، سنقرأ عن وجهاء المجتمع ورجال العلم والفكر ودعاة التحرر، ومنتديات الثقافة التي كانت تقام في الأندية، ويرتادها الكثيرون، وأشياء أخرى عديدة لم ترد صراحة في كتب التاريخ، لأن المؤرخين يبحثون عن الأحداث العظيمة، ولن تكون الثقافة مهما تجلت، حدثا عظيما في يوم ما. وحتى في أيامنا هذه حين باتت كل التفاهات عظيمة ولا أحد يحفل بالثقافة إلا في أضيق نطاق.
لقد اهتم الأستاذ نجيلة في كتاب مقالاته الكنز هذا، باللغة والجمال السردي، وكتبه بأسلوب كان سائدا في ما مضى، حين يذكر كاتب المقال أن فلانا أخبره بشيء وهو ينقل ما أخبر به، وأحيانا يجعل الكاتب من نفسه، مستمعا في مجلس أحدهم وهو يحكي، ويدعم ذلك بأن يقول مثلا أن الراوي، رفع عينيه ونظر إلينا، أشار بيده في اتجاهي، قال لي يا حسن.. وهذا يمنحنا فكرة عن الأساليب التي كانت موجودة في رواية الحكاية، هذا المجهول الذي لا بد من وجوده لتكتمل المعضلة السردية، وقد لاحظت هذه الطريقة عند كثيرين من أجيال قديمة، ولعلها متوارثة من الإخبار العربي القديم، حين يكتب أحدهم: حدثني فلان بن فلان بن فلان، عن جده.
عموما لعلها جزء من هواية الحكايات، أن أهتم بالكتب القديمة وما فيها، أو لعله ولع بتوظيف بعض ما جاء في تلك الكتب، مع شيء من الخيال، في ما أكتب، ولذلك أسميها الكتب الكنوز، وممكن جدا أن غيري لا يعتبرها كذلك.