عن مؤمنون بلا حدود
"معضلة النّصوص الدّينية لكافّة الأديان أنّها كُتبت في مرحلة كان المجتمع بلا مؤسّسات، والسّلطة بلا قوانين، والمعرفة بلا مناهج، واللّغة بلا قواعد. وبالتالي طبيعيّ أنْ تبدو تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج أيّ نظام قيَمي أو معرفيّ فعّال، بقدْر ما تبدو للبعض أنّها قابلة لكلّ التأويلات والتفسيرات مهْما بدتْ متناقضة". القرآن والحداثة ص25.
شكّل النصّ القرآني منذ لحظة النّزول الأولى مثار اهتمام الرّعيل الأوّل، ومنْ عاصر الرّسالة، وكذلك كان التّابعون ومن سار على درب تشكُّل بنية الإسلام في شكْله المعاصر. لقد كان نقطة التقاء الباحثين والدّارسين والمفسّرين والفقهاء والكلاميين، باختلاف مداركهم، ومستويات تفكيرهم، وتنوّع مشاربهم الدينية والفلسفية. ولم يكن هناك ما يؤشّر على هامشية النصّ إلا ما اصطلح عليه بالتفسير بالمأثور. فبالرغم من المكانة الهامّة التي أولاها المفسّرون الأوائل للنصّ القرآني، ومركزيته داخل المنظومة الفكرية الإسلامية في أبعادها المختلفة، إلا أنّ القواعد والتّأصيلات التي وضعها المفسّرون لتفسير هذا النصّ ضيّقت من مركزية القرآن، وبدل أنْ يكون محور الاهتمام، ونقطة التجمّع الأولى، صار محورًا للاختلاف، والتوظيف الإيديولوجي الذي تستند إليه المؤسستان الكهنوتية والسياسية.
لم يدرك البعض خطورة الوحييْن، وأنْ تصير ما سمّي بالسنّة قاضية على القرآن، مع أنّ لفظ السنّة ملتبس إلى حدّ كبير عند هؤلاء. فكلّ المرويات التي تمّ تصحيحها بآليات منقوصة - تركِّز على السّند دون الانتباه إلى متْنها- صارت نصوصًا موازيةً للنصّ الأصلي مع أنّ هناك روايات كثيرة يمنع فيها النبيّ محمّد كتابة أيّ شيء عنه غير القرآن. ومع ذلك فالرّوايات والأحاديث صارت توازي النصّ الأصلي، بل أخذتْ مكانه في الكثير من الأحيان، حينما وطَّنت نفسها وحياً ثانيًا. وهنا اختفت ملامح النصّ القرآني، وانمحتْ بشرية الرّسول محمد، وصار التوظيف وقراءة النصوص في سياقات مصلحية هي الثقافة المهيمنة على الفكر الإسلامي منذ ذلك الحين. وبدل أنْ يكون النصّ الدّيني هادياً، أو آيات وإشارات وعلامات تهدي للتي هي أقوم توقّف الاجتهاد، وصار النص مانعاً من التغيير، كلّ يدركه بالقدْر الذي يمنحه إيّاه من المصلحة.
لم يتوقّف الأمر عند ذلك الزمان، ولا عند من أسّس لأصول التّفسير وقواعده. بل تعدّاه ليصل إلينا النص الديني أيضاً مثار جدل وخلاف بين قراءات معاصرة تستلهم كلّها من النص القرآني، ولكنّها في مجملها غير منسجمة، إلى الحدّ الذي يصعب فيه تجميعها، أو إيجاد المشترك فيما بينها. هذا يحيلنا إلى قول الجبران: "إنّ الإسلام التاريخي دين الفقه وليس دين الإسلام، وبالتأكيد هو دين الساسة والسلاطين والأعراف والمذاهب والمدرسة والقومية وليس دين النبي"[1]. وهو ما أشرنا إليه سابقًا، من أنّ استمرارية هذا النّهج والتّعامل مع النصّ الديني الأوّل كان بدافع من المؤسّسة السّياسية التي وطَّدت دعائم هذا التوجّه، لتصل إلينا بإشكالياتها وتناقضاتها، خاصّة أنّ كلّ هذه المعارف كانت تنهل من عصر ما قبل دولة المؤسّسات، وظهور عصر الحداثة وما بعدها.
يأتي كتاب "القرآن والحداثة" في هذا السّياق الإشكالي لقضية تؤرّق العقل الإسلامي، وتضعه على المحكّ. فالعنوان يجمع بين مفهومين متناقضين، ويحدّد معالم الأزمة قبل أنْ نخوض غمار فصوله وأحداثه، وأهمّ خلاصاته ونتائجه. ويحيلنا هذا التناقض إلى ما أشار إليه داريوش شايغان وهو يتناول بالبحث كلمتي "الثورة الإسلامية"، حيث أكّد "أنّ هذين المصطلحين يتحرّكان في مدارات مختلفة، وليس لهما نقاط الارتكاز نفسها، ولا المحور المركزي نفسه الذي تنتظم حوله الأفكار المرتبطة بهما. إذ تحيل نقاط الارتكاز هذه على مضامين مختلفة ومتناقضة."[2].
وإذا ما أردنا أنْ نطبّق الشّيء نفسه مع عنوان الكتاب قيد الدراسة فسنجد أنّ كلمتيْه تدوران أيضًا في أفلاك مختلفة. فالقرآن نصٌّ مقدّس ينتمي لعوالم الروح والسماء والألوهية والرسالة. أمّا الحداثة فتشير إلى التصنيع. كما يمكن فهمها إلى حدّ كبير بوصفها تمجيدًا وإقرارًا بالوعي باعتباره قوّة في حدّ ذاتها. وإنّ قول بودلير بأنّ الحداثة هي العابر والزّائل والطارئ يمكن فهمه بهذا المعنى[3]. فالكتاب يجمع بين متقابلات يصعب الجمع بينها، وإنْ كان واضع العنوان يدرك جيّدًا أنّ عمق الإشكالية التي يريد الإجابة عنها بنوع من التّقابل هي: إلى متى يبقى النصّ الدّيني حتى لو كان قرآنًا عائقاً أمام انخراطنا في مسلسل الحداثة؟. وهنا تنبع أهمية الكتاب وخطورته في آنٍ واحد. فأهمّيته نابعة من محاولته تحرير الوعي الإسلامي، وفسْح المجال للسّؤال لمناقشة المقدّس. وخطورته هو أنّه جاء ليلامس جانبًا من جوانب اللامفكر فيه داخل تراثنا الفكري والإسلامي.
صدر كتاب القرآن والحداثة في طبعته الأولى سنة 2015، عن دار التنوير للطّباعة والنّشر، في 248 صفحة. وكما أكّد الباحث نفسه فالعثور على ناشرٍ لهذا الكتاب في بيئة منغلقة على ذاتها يعدّ خرْقاً لهذا الواقع في مستوى من مستوياته الفكرية. خاصة إذا كان الكتاب يحمل في طيّاته قضايا وأفكارًا يعتبرها الجمهور القارئ جرأةً في حدودها القصوى على النصّ القرآني المقدّس. وهذا لا يعني أنّ الكاتب يدّعي بأنّ مقاربته لهذا الموضوع بدْع من القول لم يسبقه إليه أحد. ففي تقديمه للكتاب يشير بأنّ نظرته قد استلهمتْ مجموعة من المقاربات التي جاء بها الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا، وكذلك من بعض المصلحين الإيرانيين كعبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري والكاتب العراقي أحمد القبانجي.
يبتدئ سعيد ناشيد كتابه بسؤال يبدو للوهلة الأولى بديهياً: ما القرآن؟ والغاية من ذلك هي مساءلة المسلَّمة التي تقول: كلٌّ من عند الله. فهل المقصود بهذه العبارة أنّ المصحف الذي بين أيدينا اليوم بترتيبه وتبويبه وقواعد كتابته ورسمه وخطّه وتنقيطه وتنوينه هو أيضًا من عند الله؟. للجواب عن هذا السّؤال يحكي سعيد ناشيد قصّته مع أستاذ للتربية الإسلامية كان يدرِّسه في مرحلة الإعدادي، حين سأله يومًا: هل يمكن أنْ نضع الهمزة فوق آية: "سال سائل"برواية ورش التي يقرأ بها المغاربة لتصير: "سأل سائل"، فما كان جواب أستاذه إلا أنْ قال له لا يجوز ذلك. فكان الرد من التلميذ: ومن أدرانا أنّ الله لم يمْلها بالهمزة. فكان جواب الأستاذ الصفع والطرد من القسم.
إنّ ما تؤشّر إليه هذه الحادثة بحسب الكاتب هو أنّ الله لا علاقة له بالكثير من التفاصيل الإملائية والكلامية والنصّية، وما لم نستطع أنْ نتجاوز هذه الأساطير السّلفية فليس هناك أملٌ في التّجديد.
إنّ القرآن الكريم يشير إلى ثلاث ظواهر متباينة لا يجوز الخلط بينها:
1- الوحي الرباني: وهو يحيل إلى الصور الوحيانية التي استشعرها الرسول وتمثّلها، إمّا عبر قوّته التّخييلية كما يقول الفارابي وابن سينا وابن عربي واسبينوزا عن تجارب النّبوة، أو عن طريق القلب كما يقول أحمد القبانجي.
2- القرآن المحمدي: وهو ثمرة جهد الرسول في تأويل الوحي وترجمة الإشارات الإلهية إلى عبارات بشرية، انطلاقًا من وعيه وثقافته وشخصيته وقدرته التأويلية. وهذا الرأي قد أشار إليه كلّ من عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري.
3- المصحف العثماني: وهو ثمرة جهد المسلمين في تحويل القرآن المحمدي من آيات شفهية متناثرة إلى مصاحف متعدّدة، ثمّ من مصاحف متعدّدة إلى مصحف واحد جامع.
هذه هي تمظهرات القرآن كما يؤكد على ذلك الكاتب، غير أنّ التعامل مع القرآن لم يعد ممكنًا إلا من خلال تمظهره الأخير أيْ المصحف العثماني. بل حتى هذا المستوى لا ندركه إلا تجاوزًا طالما أنّ النسخ الأصلية لمصحف عثمان كانت ولا تزال في حكم المفقود، ولسنا نملك اليوم من أمرها سوى النّسخ المتأخرة، وهي نسخ تمّت إعادة كتابتها عقب تقعيد اللغة والكتابة والخط، وعلى الأرجح في زمن خلافة عبد الملك بن مروان(ص19/20(. ومفاد هذا الكلام بأنّنا لا نملك من كلام الله إلا كلام رسول الله.
لتأكيد هذه الفرضية احتاج سعيد ناشيد أنْ يضرب مثلاً لتسهيل الفهم وتيسيره، وهو على الشّكل التّالي: لولا القمح لما كان هناك خبز. لكنْ هل هذا يكفي لنقول بأنّ المزارع هو من صنع الخبز؟. ليس ثمة شكّ في أنّ صانع الخبز هو الخبّاز، ولكنْ لولا المزارع ومادة القمح لما استطاع الخباز أنْ يصنع الخبز. فإذا قلبنا الصورة نحو القرآن كما يؤكّد الكاتب، فإنّ القرآن ليس كلام الله، كما أنّ الخبز ليس صنيعة المزارع، لأنّ الله: "هو منتج المادة الخام التي هي الوحي، مثلما أنّ المزارع هو منتج المادة الخام التي هي القمح. وكما أنّ الخباز هو الذي حوّل القمح إلى خبز وفق رؤيته الخاصّة ومهاراته الفنية وقدراته الإبداعية، كذلك فإنّ الرسول هو من قام بتأويل الوحي وتحويله إلى عبارات وكلمات وفق رؤيته الخاصة" ص21.
إنّ هذه النتيجة تطرح أمامنا تساؤلاً آخر وهو: هل القرآن نصٌّ مقدّس؟. وهنا يبيّن الكاتب بأنّ الأديان كانت لها وظيفة أساسية وهي الارتقاء بالإنسان، لذلك جاءت موسومة بسمة القدامة، والانتماء إلى عالم ما قبل الحداثة، وعالم ما قبل الدّولة. وهذا يضع المستمسكين بالنصّ القرآني وصلاحيته لكلّ زمان ومكان أمام معضلة يصعب حلّها. فالتردّد في الدخول إلى عصر الحداثة رهين بالانعتاق من هذه القداسة، التي حوّلتْ النصّ إلى شيءٍ متعالٍ في الزّمان والمكان، يرافق الإنسانية في مختلف مراحل تكوينها. وهي إشكالية تمنع من تحقيق هذا الانخراط بسبب الإيمان بنصوص تنتمي إلى عالم القدامة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، نصوص تشلّ العقل، وتقتل الإبداع، ثمّ نقول عنها إنّها نصوص الله بتعبير الكاتب.
إنّ التّأكيد على عدم قدسية القرآن كما يؤكّد الكاتب ليس هدفه الانتقاص من الكتاب ولكنّه تأكيد على حقيقة أنّ الكمال للخالق وليس المخلوق. وهنا نستحضر الأزمة التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي وعرفت باسم محنة القرآن. فالقرآن مخلوق حسب توصيف الكاتب، وبما أنّه مخلوق، فكلّ النواقص يمكنها أنْ تعتوره شأنه شأن باقي المخلوقات. فهو نصّ كتب بلغة بشرية كما سبق وأنْ أكّد الباحث، وكذلك هو خطاب يعكس في مضمونه مضامين القدامة، وقيَم العالم ما قبل ظهور المؤسسات.
لكي يتأكّد الإنسان من خطورة تقديس النصّ، يكفي أنْ ينظر إلى واقعنا، حيث انغلاق الإنسان على تحيّزاته، وتسلّطه على البشرية باسم الدين، واستشراء داء الأصولية، التي صارت بفعل هذا العقل المنغلق خطرًا وجوديًّا، تنذر بمعركة يكون الصّدام الحضاري والديني والثقافي مسرحاً لها. فكلّ القيم اندثرت، ولم يعد من الدين شيءٌ بعد أنْ حوّلته العقيدة إلى ساحة حرب. إنّ أهمّ ما جاء به الدين هو فكرة التوحيد الربوبي، ولو أنّه تحوّل بفعل التطرف إلى إيديولوجية لا تسمح للآخر أن يمارس طقوسه أو فكره في سياق اللاإكراه، واللاعنف: "فما معنى عبارة الله أكبر إن لم تكن تعني أنّ الله أكبر من كلّ الكلمات والأشياء، وأكبر من التراث والأصحاح والمصاحف، وأكبر من مكتسبات السلف خيرها وشرها" ص32.
يطرح سعيد ناشيد سؤال ما الوحي؟، ويؤكد من جديد أنّ النص الديني مهما حاول بعضهم أنْ يصوّر قداسته، فهو ينتمي إلى عالم القدامة بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وبالرغم من محاولات فتح هذا النص على تأويلات عقلانية مثلتها بعض القراءات المعاصرة كالتي قام بها محمد عابد الجابري ومحمد شحرور، وغيرهما، إلا أنّ هذه المقاربات لا تعدو أنْ تكون التفافًا على عمق الإشكالية. ومن ينظر في قضية الإرث والمساواة بين الأنثى والذكر يجدها خير دليل على ذلك، إذ هي تعبير عن الواقع الفعلي زمن الرسول.
ما مصير النص الديني بعد أنْ ننزع عنه القداسة؟
سؤال يمكن أنْ يتبادر لأيّ قارئ لمسار هذا الكتاب، وهنا يؤكّد ناشيد أنّ وظيفة القرآن الأساسية تعبّدية، نتلوه، ونرتّله، ونتعبّد به. وعندما نخرج به عن هذه الخاصية فإنّنا نربط واقعنا بواقع ينتمي إلى زمن القدامة، وبمفاهيم وتصورات لم يعد لها أثر في واقع اليوم. إذ لم نعد نعيش في زمن السّبي والفيء والجزية، والنفث في العقد، لهذا يشعر الإنسان كما يؤكّد الكاتب بأنّه أمام غربة النص الديني عن واقعه.
هنا يقترح ناشيد فرضيات في النص الديني على الشكل التالي:
إنّ القرآن صادِرٌ عن نور إلهي، لكنّه ليس كلامًا لله في الأخير. وبالتّالي هو وحي نابع من وجدان الرّسول. هذه الفرضية سبق أنْ أشار إليها الكثيرون خاصة عبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، وأحمد القبانجي. وليزيد الأمر توضيحًا يضرب مثالاً على ذلك. ليس الله تعالى مثلاً هو الذي قال حرفيًّا: "ويل لكل همزة لمزة" كما وردت في القرآن المحمدي، لكنْ مثل هذا الأسلوب يظلّ الصياغة اللغوية التي اختارها الرّسول للتعبير عن إشارات الوحي كما تمثلها الرسول.
ترغب هذه الأطروحة في تحرير الوعي الإسلامي من سحرية العالم، واعتبار أنّ الوحي كما تلقّاه محمّد جاء شاملاً لكلّ ذلك التنوّع في الخيال والمشاعر والانفعالات، وذلك بسبب شخصية النبيّ محمد الحسّاسة التي جعلته سريع التّفاعل مع مختلف الظواهر الاجتماعية التي كان يعاينها. وبالتالي فالنصّ القرآني حسب هذا الطرح ليس نصًّا مكتوبًا في لوحٍ محفوظ، بل هو خطاب لغويّ وبشريّ للوحي الرباني، عبّر به النّبيّ عن واقعه ومجتمعه.
وفي ذلك يلاحظ الكاتب وجود أربع سمات طبعتْ آيات القرآن:
1- أنّها لم تكن على المرتبة نفسها من القوّة والإيمان. وهذا ما يفسّر وجود المُحكم والمتشابه.
2- أنّها ليست دوماً على مستوى واحد من الأفضلية والقيمة. بحسب ما تعبّر عنه الآية: "وما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" البقرة 106.
3- إنّها ليست معصومة من الخطأ، سواء بسبب الصّراع النّفسي للرّسول، أو جرّاء ظروف إملاء المصاحف وكتابتها قبل ظهور قواعد جامعة للغة العربية.
4- أنّ الرسول قد اكتفى أحيانًا لدى صياغة بعض الآيات بما بلغ إلى مسامعه من عبارات قالها آخرون من الصحابة في ما اصطلح عليه: "ما نزل من القرآن على لسان بعض الصحابة".
في مبحث آخر ينتقل بنا سعيد ناشيد إلى منطقة أخرى، لا تخلو أيضًا من استنتاجات لها وقعُها في المخيال الجمعي الإسلامي، حين يعتبر بأنّ القرآن ليس هو الوحي. فيؤكّد أنّ كل الآراء في هذا الموضوع قديمًا وحديثًا انبنت على عالم القدامة بكلّ مستوياته، إلا إذا استثنينا اجتهادات المفكرين الإيرانيين سروش وشبستري كما أشرنا سابقًا. وهي نظرة لم تخرج عن سحرية العالم، وأسطرة الدين، وربّما هذا هو الدّافع الذي منَح بعض المعاصرين الجرأة في تصنيف القرآن خارج التراث، كمحمد عابد الجابري من خلال كتابه "مدخل إلى القرآن الكريم"، ومحمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن".
إنّ ما يعاب على المفكرين السابقين، والذين تميزت نظرتهم للقرآن بالقدامة كما يؤكّد الكاتب، هو البناء النّظري الذي بنوا عليه تأصيلاتهم واستنتاجاتهم. لأنّ القرآن الكريم هو ثمرة قدرة النّفس على الصّعود والارتقاء لغاية تحقيق الاتصال. إلا أنّ الصّعود هنا بخلاف الفلسفة لا يكون برهانيًّا، بل حدسيًّا مستندًا إلى ملكة الخيال(ص54).
ينتقل بنا ناشيد إلى مستوى آخر من السّؤال: هل المصحف هو القرآن. الجواب يؤكّده الكاتب بالنفي وبالخط العريض للأسباب التالية:
1- أنّ قرار جمع القرآن وتبويبه وترتيبه اتّخذه المسلمون في عصر خلافة أبي بكر. وتمّ إنجازه في خلافة عثمان بن عفان. ثمّ خضع النصّ العثماني بعد ذلك لتقلّبات كتابية وخطّية كثيرة على مر العصور.
2- أنّ حجم المصحف الذي وصلنا أصغر بكثير من حجم القرآن المحمدي، أيْ أقلّ من مجموع الآيات التي نزلت على الرسول. حيث تؤكّد الدراسات القرآنية أنّ بعض الآيات والسور قد ضاعت.
إنّ كل ما سبق ذكره حسب ناشيد سيفضي بالضّرورة إلى أنّ القرآن هو تأويل نبويّ للوحي الإلهي، لهذا جاء موسوماً بشخصية النّبي، ومعبّرًا عن واقعه بكلّ معانيه، واقع اليتم والتجارة والقتال.
- يُتْم النّبي: انعكست حياة النّبي اليتيمة على وصاياه وأخلاقه وأوامره. والتي فيها يقدم اليتيم على المسكين كما تؤكّد الكثير من الآيات.
- النبي التاجر: ويتّضح الأمر من خلال القاموس المستعمل، والذي تغلب عليه لغة التجارة.
- عقيدة القتال: ويؤكّد عليها الخطاب القرآني.
وانطلاقًا من هذه المقدّمات فإنّ القرآن ليس دستوراً بحسب ناشيد، فهو كلام تعبديّ خالص. وأيّ علاقة يمكنها أنْ تجمع بين المرء والقرآن على هذا الأساس فهي علاقة ملتبسة، مغرضة، لها هدف واضح وهو التّوظيف الإيديولوجي، والسّيطرة والتسلّط على النّاس باسم المقدّس. كما أنّه ليس كتاباً علميًّا يحوي بين طيّاته نظريات علمية كما يزعم بعضهم تحت مسمّى الإعجاز العلمي، لأنّ خطابه ينتمي إلى العالم الوسيط، ومفاهيم ما قبل الثّورة الكوبرنيكية. وحين العودة إلى القرآن يمكن استنتاج ثلاث خصائص:
- الأرض ليست كوكبًا في السماء.
- الشمس تجري والأرض مستقرة
- الكون امتداد عمودي
إنّ المقابل الطّبيعي لعالم القدامة الذي استفاض فيه ناشيد، هو عالم الحداثة وهو أحد الأوجه التي يشير إليها عنوان الكتاب. ومن الطّبيعي وكما تأكّد في البداية أنّ القرآن والحداثة عالَمان منفصلان، يدوران في فلَكيْن متناقضيْن. ففي الوقت الذي تكون فيه الحداثة ذلك الأفق الإنساني الذي ينشد التّغيير والتنوير والعقلنة، فإنّ عالم القدامة هو عالم الرؤية السحرية، وعالم الثبات والأصوليات والدوران اللانهائي على قدسية الذات. لهذا كان يقول هابرماس: الحداثة مشروع لم يكتمل بعد. فالأخلاق من المنظورين السابقين تختلف بالكلية.
ففي الوقت الذي تعتبر فيه أخلاق القدامة الطّاعة المطلقة فضيلة أخلاقية، فإنّ الحداثة تعتبرها مجرّد بؤس وضعف. وفي الوقت الذي تعبّر فيه أخلاق القدامة على مِلك اليمين، فإنّ الحداثة تعتبرها تلاشيًا لذاتية المرأة في سياق العبودية المتاحة أو المباحة. كما أنّ تزويج طفلة في سن الرابعة عشرة، كان يُعدّ، في المجتمعات القديمة، بطولة، مثلما كان يُعدّ القتل والاغتصاب فضيلة، وتنفيذ الإعدام أمام النّاس نوعاً من الإنصاف. لكن كلّ هذه العناصر تلاشت في عالم صارت فيه كلّ هذه المظاهر نوعاً من اللامعقول، وتعبيرًا تاريخيًّا لم يعد صالحًا للتّطبيق أو التّنفيذ.
ختامًا
فالكتاب هو دعوة لتحرير الوعي الإسلامي كما يراه صاحبه من سحرية العالم، والتخلّص من تراكمات التخلّف والجهل الذي أصابت هذا الوعي. ولا يمكن أنْ يتمّ هذا الوعي إلا من خلال تحرير السّؤال نفسه، ومنْح هامش أكبر لمن يرغب في النّقد والنّقد المضاد، في تدافعٍ هدفه خلق توتّرات معرفية، تنتهي في الأخير إلى الاعتراف بحق الآخر المختلف عنّا في التّفكير والثّقافة والرّؤية.
غير أنّ النّظرة السّطحية للواقع الإسلامي في شقّه الأصولي، وفي تعبيراته الحركية، لم يكن يوماً مستوعباً للحقّ في الاختلاف، بل كان دوماً يصادر هذا الحقّ بتبريرات مختلفة، هدفها دوماً إسكات صوت الآخر، وتسييج النصّ بكلّ السّياجات المعرفية الممكنة. وبدل أنْ يتلمس الإنسان حيوية دينه في هذه الانطلاقة نحو المتعالي، ينحسر في حركة دائبة نحو المنحدر الأخلاقي والسياسي والاجتماعي.
إنّه الواقع الملتبس الذي ساهمت في تشكيله عوامل كثيرة، أهمّها المؤسّسة الكهنوتية في شقّها الأصولي. فالقرآن والدين والرسالة والنبوة في أسُسها هي ثورات دينية وفكرية على الواقع كما أشار إلى ذلك غوستاف لوبون[4]. ومن معاني الثّورة هي هذا الأفق الذي ينطلق منه الإنسان في مساءلة ذلك اللاّمفكر فيه كما تمثله العقيدة الصمّاء. وهذا هو الأساس الذي أنبت لوثة الأصولية والدوغمائيات الدينية والسياسية، ولم نعد نرى من الدّين إلا ذلك الأفق الذي تعبّر فيه بعض الحركات المتطرّفة عن نفسها، مستفيدة من واقع عربي إسلامي مهترئ.
[1]- الجبران، عبد الرزاق. جمهورية النبي: عودة وجودية. ص 8
[2]- شايغان، درايوش. ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة. ترجمة محمد الرحموني. مراجعة مروان الداية. المؤسسة العربية للتحديث الفكري، دار الساقي. ص 243
[3]- ليشته، جون. خمسون مفكرًا أساسيًّا معاصرًا من البنيوية إلى عالم ما بعد الحداثة. ترجمة فاتن البستاني. مراجعة محمد بدوي. المنظمة العربية للترجمة. ص 405
[4]- انظر ما كتبه غوستاف لوبون حول محمد وثورته الدينية. لوبون، غوستاف. روح الثورات والثورة الفرنسية. ترجمة عادل زعيتر. كلمات عربية للترجمة والنشر. ص 37