من وظائف الإبداع لأميرتاج السر
عن ثقافات
تحدثت مرة عن أهمية الكتابة الإبداعية، أو السيرية، أو حتى كتابة المقالات الصحافية، في التوثيق لأحداث تاريخية، سواء كانت تلك الأحداث، اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية وفنية أيضا، جنبا إلى جنب مع كتابة التاريخ الرسمي، التي يقوم بها أكاديميون، لا يعنيهم سوى محاولة إيصال ما كان يحدث في وقتهم أو الوقت الذي سبقهم، وما يظنونه حقائق للأزمنة اللاحقة، مع الفرق أن الكتابة الإبداعية والصحافية، تحمل بهاراتها الخاصة من لغة جيدة ولمحات ساخرة وأوصاف تعجب المتلقي، وبالتالي تكون أكثر ملاءمة للقارئ من التاريخ الخشن الصارم.
بناء على ما أعتقده صوابا، أي ما راق لي كقارئ يريد أن يعرف ما كان يحدث قديما في مجتمعه ودولته، وباقي العالم، وكيف تطورت الحياة الاجتماعية للشعوب، من مجموعات صغيرة، بلا أفق، إلى جماهير عريضة، تحب الأوطان أو لا تحبها، والحياة الاقتصادية، من تجارة خرساء، ضعيفة، تحملها الدواب إلى هنا وهناك، في مساحات محدودة، إلى تلك التجارة العريضة، التي تتنقل عبر السفن والقطارات والطائرات، وعبر شاشات الإنترنت، وعبر كل ما يمكن أن يعد فكرة خلاقة، فقد اعتدت على قراءة الروايات، وكتب السيرة والرحلات، وأيضا قصائد الشعر، وخرجت بمعطيات كثيرة، حين أقارنها بالتاريخ، أجدها صادقة في معظم الأحوال، فقط انسابت إلى ذهني بسهولة، لما تحمله من جمال.
في روايات الحرب مثلا، تلك التي كتبت في زمن حدوثها، أو بعد انتهائها بفترة وجيزة، ستجد كل ما يمكن أن يعد سرا من أسرار الحرب مكشوفا أمامك، ستجد الأسلحة التي استخدمت والجيوش التي تقاتلت، وربما عدد القتلى الذين سقطوا، والجرحى الذين تم إسعافهم أو لم يتم، والناجين الذي كانوا يهللون بنصر، لم يكن في الحقيقة نصرهم شخصيا، وإنما محرقة لهم، لينتصر من أراد إشعال الحرب.
وجدت تلك المعاني المتنوعة، في رواية «ليلة لشبونة» للألماني إريك ماريا، وفي «تقشير البصلة»، السيرة الذاتية للألماني العظيم غونتر غراس، وقد عاش في الحرب وشارك فيها، مضطرا كمواطن ألماني، وكذلك في كتب بعض الإسبان واللاتينيين، والأفارقة، من الذين خاضوا حروبا أهلية، خرجوا منها سالمين، لكن كتبوا لنا إبداعا داميا، تخبط فيه أبطالهم وسقطوا ضحايا، وما زالت ترد إلى ذهني دائما، رواية «الله يفعل ما يشاء»، التي كتبها العاجي الراحل: أحمدو كروما، لتصبح من العلامات في أدب الجروح وعدم اندمالها، في أي وقت.
بالنسبة لأنظمة الحكم في زمن ما، وطريقة الأكل واللبس، والفرح والحزن، وتقاليد الأعراس والمآتم وغيرها من الأشياء المؤثرة في تاريخ الشعوب، نجدها كثيرا في مذكرات الرحالة العابرين ببلاد لم يكونوا أصلا من أهلها، ومعروف أن الرحلات الاستكشافية، تنشط منذ زمن بعيد، ولا يوجد عهد من العهود، إلا تحدث عن الكثير منها.
كان الأوروبيون، يحبون استكشاف قارات أفريقيا وآسيا، ويسيرون القوافل الضخمة من أجل الوصول إلى ذلك المجهول الذي يتخيلونه ولا يعرفون معناه إلا حين يصلون ويستكشفون، العرب يستكشفون أيضا، ويركبون البحر والخطر من أجل متعة الاستكشاف، هكذا، وفي كل تلك الحالات، نحصل على الأشياء المهمة التي ستساعدنا في حياتنا أو ربما لا تساعدنا في شيء، وفقط تمنح نشوة الاكتشاف.
لا أذكر متى قرأت كتاب «ملامح من المجتمع السوداني» للكاتب الراحل حسن نجيلة، لأول مرة، لكن قطعا منذ زمن طويل، وربما في بداية سنوات افتتاني بالقراءة، وللعم حسن كتابان معروفان، هما هذا الكتاب، وكتاب آخر رائع جدا، هو «ذكرياتي في البادية»، وربما كان ثمة كتب أخرى لكني لست متأكدا. ذكرياتي في البادية، وثق لبادية الكبايش في غرب السودان، حين ذهب الأستاذ لإنشاء مدرسة أولية لأطفال الرحل، وكيف عاش في تلك البيئة غير المرحبة بالتعليم، زمانا، مرض بأمراض أهلها، وتداوى بأدويتهم المحلية، أكل من زادهم المختلف عن زاد الحضر، وعطش وارتوى كما يعطشون ويرتوون.
ملامح من المجتمع السوداني الذي أعيدت قراءته الآن، يختلف، إنه مجموعة مقالات سياسية واجتماعية، يتجلى فيها التاريخ حيا وراقصا ومنتشيا وليس بجمود الكتب الأكاديمية، لقد أكد كثيرا على تلك العلاقات التي لم نكن نعرفها بيننا وبين الشعوب العربية الأخرى، لنكتشف أن أول صحيفة في السودان، أسسها مصريون، وأوكلوا رئاسة تحريرها لرجل سوري، وأن صحيفة «الرائد» التي كانت مهمة في بداية القرن الماضي وحتى إغلاقها في عشرينياته، كانت أول من ابتدع المسابقات الشعرية، وكان رئيس تحريرها لبنانيا، يقيم في تلك البلاد. سنقرأ عن فتيان ثورة اللواء الأبيض، التي هزت رسوخ المستعمر الإنكليزي، وخفضت من هيبته: علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وغيرهما من الأصحاب والشهداء، سنقرأ عن وجهاء المجتمع ورجال العلم والفكر ودعاة التحرر، ومنتديات الثقافة التي كانت تقام في الأندية، ويرتادها الكثيرون، وأشياء أخرى عديدة لم ترد صراحة في كتب التاريخ، لأن المؤرخين يبحثون عن الأحداث العظيمة، ولن تكون الثقافة مهما تجلت، حدثا عظيما في يوم ما. وحتى في أيامنا هذه حين باتت كل التفاهات عظيمة ولا أحد يحفل بالثقافة إلا في أضيق نطاق.
لقد اهتم الأستاذ نجيلة في كتاب مقالاته الكنز هذا، باللغة والجمال السردي، وكتبه بأسلوب كان سائدا في ما مضى، حين يذكر كاتب المقال أن فلانا أخبره بشيء وهو ينقل ما أخبر به، وأحيانا يجعل الكاتب من نفسه، مستمعا في مجلس أحدهم وهو يحكي، ويدعم ذلك بأن يقول مثلا أن الراوي، رفع عينيه ونظر إلينا، أشار بيده في اتجاهي، قال لي يا حسن.. وهذا يمنحنا فكرة عن الأساليب التي كانت موجودة في رواية الحكاية، هذا المجهول الذي لا بد من وجوده لتكتمل المعضلة السردية، وقد لاحظت هذه الطريقة عند كثيرين من أجيال قديمة، ولعلها متوارثة من الإخبار العربي القديم، حين يكتب أحدهم: حدثني فلان بن فلان بن فلان، عن جده.
عموما لعلها جزء من هواية الحكايات، أن أهتم بالكتب القديمة وما فيها، أو لعله ولع بتوظيف بعض ما جاء في تلك الكتب، مع شيء من الخيال، في ما أكتب، ولذلك أسميها الكتب الكنوز، وممكن جدا أن غيري لا يعتبرها كذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق