الأربعاء، 25 يناير 2017

أطروحات حول الفكر والحرية *د. حسن مدن

ثقافات


حظيت مسألة الحرية باهتمام بالغ في التاريخ الفكري والفلسفي، بما في ذلك من زاوية علاقتها بالتاريخ، حيث جرى النظر إلى أن مجرى هذا التاريخ ذاهب نحو خلاص الانسان من القيود والكوابح الكثيرة التي تعيق حريته، وأن لحظة تاريخية، آتية لا ريب فيها، من وجهة نظر المفكرين القائلين بالمنحى التصاعدي /‏ التقدمي للتاريخ، سينجز فيها الانسان كامل حريته، ويغدو حراً من ثقل القيود التي فرضت عليه في المسار التاريخي المعقد والطويل.

وفي هذا اتفق الليبراليون والماركسيون، على ما بينهم من خلافات جذرية كثيرة في العديد من المسائل. وكان المفكر الليبرالي اللورد اكتن من بين الدعاة الليبراليين المؤمنين بهذا المسار التصاعدي للتاريخ، الذي هو من وجهة نظره سجلاً للتقدم وامتداداً مستمرا للحرية، رغم أنه كتب ذلك قبل ما عرفه التاريخ الحديث من نهوض الحركات التحررية في العالم، وخاصة في البلدان التي خضعت طويلاً للاستعمار والعبودية.(1)

هيغل المُشبع بالمركزية الأوروبية، وفكرة الشعب المختار نظر، هو الآخر، إلى التاريخ بصفته مساراً تقدمياً، لكنه  يقف عند تلك اللحظة التي أزفت بنشوء الدولة البروسية، التي هيمن وجهة نظره ذروة التقدم الانساني، وفيها سينال الانسان ما تاق إليه من حريات، لأنه رأى في تلك الدولة كمال العقل والمنطق.
وما أكثر ما سرقت فكرة هيغل هذه في عصرنا الحديث، لاسقاطها على سياقات مجتمعية وثقافية أخرى، غير الدولة البروسية التي باتت في ذمة التاريخ، على خلاف ما كان هيغل يظنها كنهاية للتاريخ، ففي عهد الرئيس الأمريكي كيندي في ستينات القرن العشرين أحاط به مجموعة من أساتذة جامعة هارفرد في الاقتصاد والفلسفة الذين روجوا لانتصار الحلم الأمريكي الذي يتوج مسيرة البشر.
لكن التاريخ لم ينته عند هيغل ولا عند أساتذة هارفرد. ظلَّ هذا التاريخ يشق طريقه صعوداً وسط تخبطات وحروب ومآسي وكوارث، وكذلك نجاحات وانتصارات هنا وهناك. وبعد نهاية الحرب الباردة بهزيمة الاتحاد السوفيتي وتفككه وانهيار الأنظمة الحليفة له في شرقي أوروبا، أطلق فرانسيس فوكاياما أطروحته حول «نهاية التاريخ» بالانتصار المبين لليبرالية الرأسمالية، التي تمثل الولايات المتحدة الأمريكية نموذجها التاريخي الأرقى الذي يضمن الحريات العامة والفردية بصورة غير مسبوقة في التاريخ، ورغم أن نظرية فوكاياما هاته بدت أمراً شاحباً بالقياس للمنظومة الفلسفية المعقدة لهيغل، لكن الآلة الدعائية التي توفرت لفوكاياما لم تتوفر لهيغل في زمنه.
النابهون من الناس وبعيدو البصر والبصيرة أدركوا، منذ ذلك الحين، أن هذه الأطروحات إنما كانت تؤسس لشمولية جديدة أشد خطورة، شمولية كونية، تجعل الشعوب كلها أمام خيار أوحد، لا ثاني أو ثالث له. هؤلاء النابهون قالوا أيضا إن هذه حال مؤقتة، لأن الأحادية هي نقيض لمنطق الأشياء وللطبيعة السوية. كل شيء في الحياة، بما في ذلك أصغر الظواهر وأكثرها بساطة قائمة على التنوع والتعدد، فما بالنا بالمجتمع البشري الذي يعج بالتناقضات على مختلف المستويات؟
على خلاف هيغل ركز كارل ماركس على المستقبل أكثر، فمفهومه لهدف التاريخ واتجاهه كان قريباً من مفهوم اكتن الليبرالي. بمعنى من المعاني يمكن القول إن ماركس واكتن نظرا إلى التاريخ على أنه يسير نحو تحقيق الحد الأقصى من الحرية الانسانية. كانت تصوراتهما عن المرحلة الوسيطة من الحرية شديدة الاختلاف، بيد أن تصورهم للمرحلة النهائية من الحرية كان أكثر تقارباً.(2)

تحمل الليبرالية والماركسية ارتيابا عميقا في الدولة بوصفها أداة للقهر، فماركس ينظر للدولة على أنها، أساساً، أداة للاضطهاد الطبقي، والدولة بالنسبة لليبراليين تشكل دائماً تهديداً للحرية الفردية، مع ذلك فان الرؤية الماركسية المستقبلية لمجتمع خالٍ من الطبقات تفترض وجود أفراد يتمتعون بقدرٍ عال من الاستقلالية غير مثقلين بإدارة الدولة أو بمطالب الاحتياجات الاقتصادية وقيودها. (3)

اهتم ماركس بدراسة الاستلاب بصفته عائقاً بوجه بلوغ الإنسان لحريته، حيث رأى أن الإنسان يعاني في مظاهر حياته من هذا الاستلاب الذي يأخذ ثلاثة مظاهر: استلاب أيديولوجي يتمثل في خضوع الانسان لعالم الوهم وانفصال ماهيته عنه، واستلاب سياسي يتمثل في انفصال عالم السلطة السياسية عن الإنسان، واستلاب اقتصادي يتمثل في تبعية العمل لرأس المال وغربة العامل عن منتوج عمله وخضوعه للقوة الاجتماعية للمنتوج تلك القوة التي تتحول مباشرة من العامل إلى المالك، والعلاقة بين هذه المظاهر هي علاقة عللية، بمعنى أن الاستلاب الاقتصادي هو علة مظاهر الاستلاب الأخرى كافة أو أنها مشتقة عنه، ومن أجل بلوغ الحرية المنشودة يجب تحرير الانسان من مظاهر الاستلاب هاته.(4)

(2)
أحد أوجه محنة الفيلسوف الاغريقي سقراط، الذي انتهى به الأمر، محكوما بالإعدام بتجرع السم، هو قراره بتجنب الحياة السياسية والانصراف إلى الفكر. رأى الرجل أنه مفكر عليه أن يعيش بالفكر وللفكر، ولكن الانحياز لهذا الموقف كان محالاً، لأنه ينطوي على نقض لميثاق الديمقراطية في أثينا القديمة التي كانت تجعل الاشتغال بالسياسة واجباً على كل مواطن.
بدا مُسْتهجنا في أعين الكثيرين يومها أن سقراط المحارب، الذي خاض المعارك، ورأى ان الذود عن الديمقراطية في أثينا في مقدمة أولوياته أن يترك السياسة وينشغل بالحكمة والفلسفة.
كيف يمكن إقناع بسطاء الناس الذين لا يكترثون لا بالفلسفة ولا الحكمة بصواب قراره، وبأن للفكر رجاله وللسياسة رجالها، وللحرب رجالها؟
تبدو هذه مفارقة في مجتمع أنتج الفلسفة وقدم للبشرية كبار رموزها عبر التاريخ، بحيث أن الفلاسفة في العصور اللاحقة لم يكن بوسعهم أن يكونوا كذلك لو لم يعودوا إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو وسواهم من فلاسفة الاغريق، ومع ذلك فإن الشعب كان يزدري الفلسفة، وكان مستعداً لأن يقبل باعدام سقراط.
محنة سقراط ليست محنة فردية، أنها محنة عامة طبعت تاريخ العلاقة المعقدة بين الساسة والمفكرين والمبدعين. حين انغمس إدوارد سعيد في العقود الأخيرة من حياته في السياسة، نصحته أمه، حسما روى في مذكراته :«خارج المكان»، بأن يكف عن ذلك: أنت مفكر، ولم تخلق للسياسة.
اناييس ين في يومياتها التي نقلتها الى العربية لُطفية الدليمي (5) تتحدث عن أمر مشابه، من واقع تجربتها الشخصية حين وضع أحد أصدقائها المثقفين إسمها ضمن قائمة من الأدباء المدعوين لاجتماع للبحث في نصرة الجمهوريين الاسبان في حربهم ضد الفاشية. حين كان الداعي للاجتماع يتحدث للحاضرين، وكان من بينهم بابلو نيرودا وأسماء اخرى كبيرة عن دور المبدع في عالم متغير، سألته اناسيس ين وبتهذيب: «لأي نفع ترجوني. انني فكرت بتغيير العالم والغاء البؤس عندما كنت في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمري، وأدركت فيما بعد عدم جدوى ذلك، وعملت بإصرار على بناء عالم فردي مطلق».
لكن صديقها أوضح: ثمة لحظة تجيء ينهار فيها عالمك الفردي أمام ما يحدث في العالم حولك. ولم تجادل المرأة في ذلك. بل سجلت في اليوميات: «ذلك حق. عند نقطة محددة يرتطم عالمي الفردي بجدار الواقع»، فلا يعود بالوسع حمايته من سطوته.
مهما سعى الفكر للتجرد من الواقع الذي يضج بالمظالم والتعقيدات من حوله، لن يفلح في ذلك. سيجد نفسه متورطاً فيه أراد ذلك، أم لم يرد. «إن تحويل اي شيء لا سياسياً هو فعل سياسي بحد ذاته» (6)، «والكاتب يصبح سياسيا حتى لو لم يرد ذلك» (7)

الهوامش:

1-علي الأمين المزروعي: «براهمة العالم.. ومنبوذوه» – ترجمة: أحمد حسن المعيني، مسقط . ص 104
2-المصدر السابق ص 104
3-المصدر السابق ص 104
4- محمد سبيلا:«مدارات الحداثة»- بيروت ص 29
5- أناييس ين: «اليوميات: – ترجمة لطفية الدليمي – بيروت ص 120 – 121
6- حسن مدن: «الكتابة بحبرٍ أسود» – الطبعة الثانية – البحرين ص 107
7- المصدر السابق ص 109



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق