الجمعة، 10 يونيو 2016

لكي لا تتحول قوة الدولة إلى دولة القوة سعيد ناشد

العرب :  سعيد ناشيد [نُشر في 30/05/2016، العدد: 10291، ص9 



الدولة ليست هدية السماء، ليست ظل الله في أرضه، ليست فضاء العصمة والقداسة، الدولة صناعة بشرية قابلة لأن تفسد وتفسد.
إذا كان دور الدولة أن تحتكر العنف لكي تحمي الناس من الناس، فمن يحمي الناس من عنف الدولة؟ هذه هي الصيغة الأكثر بساطة للسؤال الأكثر عمقا وتعقيدا في الفلسفة السياسية منذ أزيد من نصف قرن من الزمن إلى اليوم. علينا ألا ننسى بأن الأسئلة الأكثر عمقا وتعقيدا هي دائما الأسئلة التي يمكن صياغتها بالنحو الأكثر بساطة وبداهة.
- دور الدولة أن تحتكر العنف: أطروحة الكثيرين.. ماكس فيبر مثلا.
- دور الدولة أن تحمي الناس من الناس: أطروحة الكثيرين.. توماس هوبز مثلا.
- السؤال، من يحمي الناس من عنف الدولة؟ سؤال الأكثرين في الزمن الحاضر.. فوكو، دولوز، بودريار، آلان بادبو، إلخ.
السؤال كبير إذن وإشكاليّ أيضا، وهو مثار إزعاج وانزعاج، لكنه بقدر ما هو كذلك، فإنه حافز كبير للتفكير في مسائل السلطة والديمقراطية وحقوق الأقليات والحريات الفردية وحقوق الإنسان. لكن، علينا الاعتراف بادئ الأمر بأن الفلسفة المعاصرة لم تقدم في أي لحظة من لحظاتها إجابة قطعية ونهائية عن السؤال المذكور. لكن، ليس مناطا بالفلسفة أن تقدم إجابات قطعية طالما أن الإجابات القطعية تنهي التساؤل وتغلق باب التفكير. غير أن التفكير الفلسفي في فحوى السؤال قد ساهم، نظريا، في تطوير مفهوم الديمقراطية، وساهم، عمليا، في تطوير الممارسة الديمقراطية في مستوياتها المؤسساتية والتشريعية. وبهذا النحو استطاع الحراك الفلسفي الغربي أن يترك أثرا كبيرا على تطور الحياة السياسية. أليس يقال لا ممارسة ثورية من دون نظرية ثورية؟ يقال هذا عن الثورة لكنه يصدق على كل ممارسة سياسية تتسم بنوع من الجدة وروح الإبداع.
لكن، دعنا نعترف بأن السؤال المذكور ليس جديدا، فقد كان مطروحا في كل الأزمنة وعلى الدوام، غير أنه لم يكن قبل اليوم سؤالا إشكاليا. ربما الذي أضفى عليه طابعا إشكاليا أن الانتخابات الحرة والنزيهة نفسها لا تكفي لحماية الناس من تغول السلطة. لماذا؟ لأن السلطة، كيفما كان نوعها، إذا لم تجد حواجز منيعة فهي ميالة بطبعها إلى التسلط والتجبر. لهذا السبب، كانت الحالة الغالبة على النظم السياسية لكل شعوب وحضارات الأرض هي الاستبداد بكل أشكاله القبلية والسلطانية والإمبراطورية، اللهم في حالات نادرة استثنائية ولم تعمر طويلا. أكثر من هذا، لا تكفي أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة إذا لم يرافقها استعداد الناس لعدم التفريط في قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان كما يؤكد الفيلسوف الأميركي ليو شتراوس. لقد صعد هتلر عن طريق الانتخابات الحرة. وإلى اليوم لا يزال يخيم شبح صعود اليمين المتطرف عن طريق الانتخابات في أعرق الديمقراطيات الغربية. وثمة في تركيا مخاوف متصاعدة من تغول سلطة أردوغان باستعمال آليات الديمقراطية نفسها. ولعل المسألة التركية هنا تمثل تحديا ليس فقط أمام فرضية أن الحد من تدخل المؤسسة العسكرية سيقود حتما إلى ترسيخ الديمقراطية والتعددية، ومن ثمة الاستجابة لمعايير الاتحاد الأوروبي، وإنما يمثل تحديا أيضا أمام فرضية أن “الإسلام السياسي المعتدل” هو الأقدر، ضمن المعطيات المتوفرة اليوم، على تحقيق تلك الأهداف، ومن ثمة التناغم مع الاستراتيجية الأميركية.
السؤال المطروح إشكالي إذن، ولا يحتمل إجابة بسيطة. هذا ما يفسر ارتباك القوى الديمقراطية المحلية والإقليمية والدولية إزاء كون الديمقراطية نفسها قد تصبح وسيلة لصعود قوى تسلطية شعبوية غوغائية تدمر الديمقراطية باسم الديمقراطية. هنا تكمن الهشاشة الأصلية للديمقراطية. إن السؤال المطروح هو كالتالي: إذا كانت سلطة الدولة تضبط الناس بوسائلها، وهذا واجبها، فبأي الوسائل يمكننا أن نضبط سلطة الدولة؟ هناك من اختار التركيز على الشق الأول من المعادلة، حيث المهم أن تضبط الدولة الناس وتحميهم من عدوان بعضهم على بعض (على طريقة ليفياتون توماس هوبز)؛ وهناك من ركز على الشق الثاني من المعادلة، حيث الأهم، بعد أن صارت الدولة الوطنية الحديثة راسخة البنيان ولا تتورع عن الاستقواء بنتائج العلم والتقنية، هو تفريخ آليات المقاومة لغاية حماية الناس من تضخم سلطة الدولة (على منوال الميكرو- ثورات والمتفردات وفق تصور جيل دولوز مشيل فوكو وجان بودريار). لكن المعادلة ذات وجهين في الأول والأخير، ولا سيما بالنظر إلى كوارث ما بعد ثورات “الربيع العربي” المغدورة والمجهضة عندنا: كيف يمكن ضبط المجتمع عن طريق دعم قوة الدولة، وفي نفس الوقت ضبط قوة الدولة لكي لا تتغول في الأخير؟
في واقع الحال، ليست الدولة ضرورة طبيعية بالنسبة للإنسان، ليست شيئا ملازما للوجود البشري. رغم ذلك لا يمكننا الاستغناء عنها والعيش من دونها، أو على الأقل، حتى نكون موضوعيين ومتواضعين، فالاستغناء عن الدولة لن يُطرح في الزمن المنظور. الدولة ستلازمنا لعقود طويلة وربما لقرون أخرى، طالما أنها تجيب عن اختلال موجود فينا متجذر في أعماقنا. ما هو؟ في سياق تطور الإنسان وتراجع قوة الغرائز الطبيعية وقدرتها على الضبط والتحكم، احتاج الإنسان إلى مؤسسات “مصطنعة” تقوم بوظيفة الضبط والتحكم، مؤسسات ستثير لديه كل مشاعر التذمّر والتمرّد لكنه في نفس الوقت سيحتاج إليها. تلك المؤسسات تمثل في آخر المطاف ما يسمى بمؤسسات الدولة (السجن، الأمن، القضاء، المدرسة، الجيش، الضرائب، الجمارك). بمعنى، جراء تدهور الناظم الغريزي الذي كان بوسعه أن يحدّ من أنماط الجشع المفرط والقتل المجاني والاغتصاب الجماعي والاعتداء على الأطفال، إلخ. أصبحت أجهزة سلطة الدولة ضرورية لغاية إعادة الضبط والتحكم. لكن، للمعادلة وجها آخر: لأن سلطة الدولة ليست معطى طبيعيا فإنها قد تفسد الإنسان وتشوه طبيعته وتُفقده طيبته وتحوله بمفعولها السحري إلى وحش مرعب. غير أن الاعتراف بهذه الحقيقة لم يكن أمرا سهلا ولا سلسا، فقد تطلب حروبا أهلية ودماء غزيرة ومنعطفات دراماتيكية.
ميزة الحداثة أنها استخلصت الدرس بوضوح واستنتجت في الأخير بأن السلطة قد تعرض الإنسان إلى الفساد المقرون بأسوأ الأمراض (النزوع إلى السيطرة، جنون العظمة، حب الظهور، إلخ.)، لذلك لا بد من تدابير قانونية ومؤسساتية تحمي قوة الدولة من أمراض القوة. هنا تكمن البداهة التي أنكرتها العهود القديمة معتقدة بأن جوهر السلطة الخير والصلاح، ولا يكون الفساد فيها إلا طارئا عليها أو في هامشها، كأن يكون السبب هو تقاعس حاشية السلطان أو تهاون المخبرين، وإلا فإن جوهر السلطة هو الصلاح. عندما نؤكد اليوم بأنّ السلطة تفسد الإنسان، فالأمر متعلق باعتراف حداثي تبلور في سياق قدرة الحداثة السياسية على طرح السؤال: ما العمل حتى لا تتكرر مآسي الحروب الأهلية والدينية وصعود الأنظمة الفاشية والنازية؟ نقطة البداية كانت اعتبار السلطة قد تفسد الإنسان، وقد تفقده إنسانيته. الدولة ليست هدية السماء، ليست ظل الله في أرضه، ليست فضاء العصمة والقداسة، الدولة صناعة بشرية قابلة لأن تَفسُد وتُفسِد. على ضوء هذا الاعتراف أحيطت سلطة الدولة بتدابير تنظيمية وقانونية ومؤسّساتية تقلم أظافرها لكي لا تؤذي نفسها بنفسها فتؤذي معها الناس، ضمن ذلك: استقلالية القضاء، حرية الإعلام، نظام اللامركزية، الانتخابات في دورتين، تحديد مدّة الولاية بسنوات محدودة (4 سنوات على الأرجح) ولا تتعدى مرتين على التوالي، فضلا عن ديناميكية المجتمع المدني كسلطة مضادة، إلخ.
إن سلطة الدولة كآليات للضبط ضرورية، لكن لأنها ليست إجراء طبيعيا فإنها تحتاج إلى آليات تضبطها حتى لا تتغوّل في الأخير، فتتحول من قوة الدولة إلى دولة القوة.
كاتب مغربي

هل دور التلفزيون إنتاج التفاهة سعيد ناشد

العرب سعيد ناشيد [نُشر في 06/06/2016، العدد: 10298، ص(9)]


الإنسان كائن محارب بطبعه، لا يتحمل العيش من دون معارك، وحين نحرمه من معارك بناء الحضارة سيبحث عن معارك الوهم المدمر. هذا هو الشرط الإنساني الذي يغفله أنصار تدبير التفاهة.
في بلد كفرنسا على سبيل المثال أو الاستدلال، يُعتبر ظهور أحد المفكرين البارزين على شاشة التلفزيون ظاهرة اعتيادية وممارسة شبه يومية. أكثر من ذلك، لا يمكن أن يمر أسبوع واحد على الأقل دون أن يظهر على شاشة التلفزيون أحد كبار فلاسفة فرنسا ممن لا يزالون على قيد الحياة. بكل تأكيد، لا أتحدث عن القنوات الموجهة إلى أهل الخارج والتي يبدو كأنها تخاطب بعض أهل الخارج على قدر عقولهم، مثل فرانس 24 مثلا، غير أنني أتحدث عن القنوات الموجهة بالأولى إلى الرأي العام الفرنسي. لائحة الفلاسفة الذين يحضرون إلى بلاتوهات القنوات التلفزيونية طويلة في بلد الألف فيلسوف. فإذا استثنينا بعض الأسماء المثيرة للجدل والمشكوك في قيمتها الفلسفية من أمثال برنارد هنري ليفي، وممن يشكلون ظاهرة غوغائية تدل في آخر المطاف على أن النجومية مهما بلغ بريقها لا تصنع المفكر أو الفيلسوف، ستبقى اللائحة متضمنة لفلاسفة من العيار الثقيل: آلان باديو، مشيل أونفراي، أندريه كومت سبونفيل، لوك فيري، إلخ. هذا دون احتساب البرامج حول الفلاسفة الذين غادروا الحياة قبل سنوات مضت، أو قبل عقود خلت: جان بول سارتر، ميشال فوكو، جاك د ريدا، إلخ. وكذلك دون احتساب البرامج التي تسترجع فلاسفة العصر اليوناني على خلفية القيم التي يحتاجها إنسان اليوم: الحس النقدي عند سقراط، القدرة على الاستمتاع بالحياة عند الأبيقوريين، القدرة على تحمل الآلام والمحن عند الرواقيين إلخ.
لكن، في أوطاننا المباركة يُعتبر مثل ذلك الظهور للفكر وللمفكرين، للفلسفـة والفلاسفة، حدثا نادرا جدا، بل يكاد يكون منعدما. الأدهى والأمرّ من هذا الغياب أو التغييب أن ثمة اعتقادا شائعا وسط عموم الإعلاميين ومعظم الساسة والسياسيين بأنّ التلفزيون ليس المكان المناسب لإبراز الفكر وإظهار الثقافة وإعمال العقل وما شابه ذلك من “كماليات” يصعب إدراكها ويحسُن تركها، بل التلفزيون مكان الهرج والمرج، مكان الفرجة والبهرجة، مكان الضجيج والتهريج، وبمعنى أصدق تعبيرا وأدقّ تصويرا، التلفزيون مكان صناعة التفاهة. هكذا، لم يعد التلفزيون عندنا أكثر من مكان للمزايدة على التفاهة بتفاهة أكبر، انطلاقا من مبدأ متهافت يقول “هذا ما يريده الجمهور”. لربما علينا الاعتراف بأن الجمهور عندنا سيفضل، بالفعل، مشاهدة آراب إيدول، وإكس فاكتر، وأهداف ميسي المرفقة بالتعليق الحماسي، على الإصغاء لمحاضرة أو مناظرة حول مستقبل الحضارة الإنسانية أو مصير النوع البشري. أليس الجمهور هو الأحق بأن يقرر ما يريد مشاهدته – ويا له مـن تواضع؟ أما إن كان لا بد من هامش يحتضن بعض “الجدية” في بعض الأحيان، فالشيخ الواعظ سيقوم باللازم. ومرة أخـرى، بمحض الصدفة، يتعلق الأمر بمطلب يباركه الجمهور.
لكن، هل قدر التلفزيون أن يكون بهذا النحو من الفراغ الثقافي والخواء الفكري؟ أم – لكي نتابع التساؤل – لا يعدو أن يكون الأمر أكثـر من سياسة إعلاميـة تعمـل – سواء عـن وعـي أو دون وعـي – على تنفير الجمهور من كل ما يتعلق بالثقافة والفكر، قبـل أن يصبـح النفـور حجة لإقصـاء البـرامج الثقـافية؟ ها نحن قد تابعنا السؤال، وها نحن بدأنا نقترب من الإجابة ولو قليلا.
صدقا، لا أستبعد أن يكون الأمر بذلك النحو.. وسأحاول البرهنة.
ليس مصادفة أن تحظى معظم البرامج الثقافية والفكرية عندنا بظهور شاحب يصحبه إخراج فني باهت، فيجعلها باعثة على النفور والملل، وبهذا النحو لا تعمر طويلا، سنة أو سنتين على أبعد تقدير، وغالبا ما يكون مبرر إلغائها هو نفس المبرر، تراجع نسبة المشاهدة. أما الاستنتاج فهو جاهز في كل أحواله دونما حاجة إلى أي دراسة سوسيولوجية ميدانية. الاستنتاج يقول: الجمهور لا يريد الثقافة، الجمهور لا يريد الفكر، الجمهور يريد فرجة فارغة، فنا فارغا، وتدينا فارغا. هذا بالذات ما نقدمه له على طبق من ذهب. أي نعم، الطبق فارغ لكنه من ذهب.. إيه.
في واقع الحال، يصعب افتراض حسن النية أمام هكذا استنتاج، لكن، حتى على افتراض حسن النية، وهذا مستبعد، ثمة مبدأ إعلامي يتم التغاضي عنه مقابل رد فعل غريزي معاد للفكر والثقافة، مبدأ يقول: العمل الإعلامي هو بعد كل شيء عمل فني، وشأن كل عمل فني فلا يكفي أن تكون الفكرة قويـة، بل يجب أن تكون الصياغة قوية أيضا. الصياغة هي الإخراج الفني بكل جوانبه ومؤثراته. على سبيل المثال، لا يكفي أن تكون الرواية جيدة حتى يكون الفيلم جيدا، لا يكفي أن تكون القصيدة جيدة حتى تكون الأغنية جيدة، لكن المهارات الفنية في الغناء قد تجعل أرقى القصائد وأغناها فكرا وثقافة تخترق وجدان عموم الناس. ولنتذكر ما فعلته أم كلثوم برباعيات الخيام على سبيل المثال. كذلك فإن المهارات الفنية في السينما قد تجعل أرقى الروايات وأغناها فكرا وثقافة تخترق وجدان عموم الناس. يمكننا أن نتذكر رواية اسم الوردة لأمبرتو إيكو بعد تحويلها في سنوات الثمانين من القرن الماضي إلى عمل سينمائي عالمي. ولستُ أقوم هنا بغير التذكير لعل التذكير ينفع بعض الغـافلين: النـاس ليسـوا مجبولين على التفاهة. فعلا، فإن الإخراج الفني والتقني حاسم بكل المقاييس، لكن، حين يتعلق الأمر بالأعمال السينمائية والغنائية الأكثر نجاحا في العالم والأكثر قدرة على استقطاب الرأي العام والنخب على حد سواء، فإن قوة المحتوى الفكري والمضمون الثقافي شرط ضروري لا محيد عنه.
على أننا لا ننكر وجود اعتراض وجيه في بعض الأحيان: مثقفونا لا يتقنون مهارات التواصل الإعلامي. لكن الأصح أيضا أن تلك المهارات ليست فطرية وإنما تكتسب عندما تتاح الفرصة. هل الفرصة متاحة؟
رأينا هو كالتالي: بدل اعتماد رد الفعل الغـريزي المعـادي للفكـر والثـقافة، والميـال إلى إلغاء البرامج الثقـافية أو الفكرية بدعوى انخفاض نسبة المشاركة، أمامنا فـرصة للتفكير بنحـو إيجـابي وبنـاء: إعـلاميا لا تكفي أن تكون الفكرة قوية وجذابة، بل يجب أن يكون الإخراج الفني للفكرة قويا وجذابا أيضا، اللهم إذا كانت النية أن نقتل الفكرة. فهل توجد نوايا من هذا القبيل ولو في مستويات اللاوعي الجمعي لدى بعض المسؤولين؟ السؤال معلق.
إن النجاح الذي تحرزه قنوات فرنسية أثناء محاورة فلاسفة كبار يؤكد بما لا يدع مجالا للشك كيـف تلعب عوامل الإخـراج الفني دورا حـاسما في النجاح الإعـلامي لتلك البرامج: قوة الإنارة، جـاذبية المـوسيقى، جمال الخلفية، تنوع زوايا التصوير، وجود محاورين خفيفي الظل وأذكيـاء، وجود محاورات – لكي لا ننسى دور المرأة – رشيقات أنيقات وذكيات، ثم طبيعـة الأسئلة، وأيضا لكـي لا ننسى، صيغـة طرح السؤال: الدقة واللباقة والتشويق. أما الرهان على الفراغ الثقافي فهو مجرد رهان على خواء الكينونة والمعنى، خواء قد تملؤه على الأرجح قوى خراب العمران ودمار الأوطان وفساد الأذهان وهلاك الإنسان.
إننا إذا لم نُعلم الناس كيف يخوضون معاركهم الحقيقية في بناء الفضاء العمومي، وتدبير التوافقات الحيوية والعيش المشترك، والاستعمال العمومي للحس النقدي، والعمل على تحسين جودة الحياة، وحفظ حقوق الأجيال القادمة، فالنتيجة أنهم سيبحثون عن معارك وهمية بديلة قد تُدمر كل شيء. لماذا؟ لأن الإنسان كائن محارب بطبعه، لا يتحمل العيش من دون معارك، وحين نحرمه من معارك بناء الحضارة سيبحث عن معارك الوهم المدمر.
هذا هو الشرط الإنساني الذي يغفله أنصار تدبير التفاهة.
شيء آخر، لربما يغفل صناع التفاهة أيضا عن أن الفن من دون مضامين ثقافية أو رسالة تثقيفية يبقى مجرد بهرجة انفعالية قد تفضي إلى نتائج عكسية. إن الفرح نفسه إذا لم يكن ثقافة راسخة في النفوس فإنه يغدو مجرد حالة انفعالية عرضية وعابرة مهما بلغت كلفة التمويل. والواقع أن الحالات الانفعالية لا يعول عليها. الفرح مطلوب إنسانيا وحضاريا وطبيعيا وفطريا، لكن العيب كل العيب ألا نمنح للفرح أي عمق ثقافي، إذ نجعله مجرد حالة انفعالية قد تبدو مدوية لكن صداها يتلاشى بسرعة فائقة، وقد لا يخلف غير ظلال من الكآبة في الأخير.
هل بقي لدينا ما نضيف؟ بالتأكيد، إذا كان الإعلام السمعي البصري قادرا على جذب الكثير من الناس إلى الأفكار الفارغة باستعمال الكثير من وسائل الإثارة والتشويق والحماس، فإنه قادر، لا محالة، على جذب أوسع شريحة من الناس إلى الأفكار الجيدة باستعمال نفس وسائل الإثارة والتشويق والحماس. فلماذا نستبعد هذا الخيار؟ القشور الجذابة بلا مضامين ذكية ستبقى جذابة حتى بعد أن نملأها بالمضامين الذكية، بل ستكون الإثارة أفضل وأجمل لأن الناس لن يشعروا بذنب ضياع وقت ثمين في إثارة بلهاء، فتغدو نتائج الإثارة عكسية، وهذا ما يحدث عندنا بالفعل، متى سننتبه؟ لعل البلاهة بالفعل أن نغفل النتائج العكسية والمدمرة للرهان على البلاهة.. لكن، في كل الأحوال، لربما يصح القول: فاقد الشيء لا يعطيه.
كاتب مغربي

الخميس، 2 يونيو 2016

من أجل تربية مقاومة - أحمد السبكي

أنفاس نت 



ما أحوج منظومتنا التربوية إلى الفعل المقاوم ، إذ تكالبت عليها معاول الهدم من كل جانب ، ونخرتها العديد من الأمراض ، وعلى رأسها الاستخفاف وانعدام الرغبة الحقيقية في الإصلاح . وما عاد بالإمكان أن يدعي أحد الجهل بحقيقة تردي أوضاعنا التعليمية .
 إننا نعيش فترة تربوية حالكة تستدعي وقفة شجاعة للمحاسبة ، ووضع القاطرة على السكة الصحيحة . فتعليمنا يواجه إقصاء فعليا من المجتمع والحكومات المتعاقبة ،باسم انعدام المردودية واللا جدوى .
لقد أصبحت الأمور واضحة لدى المواطن العادي ، فمنذ أن غدت سياساتنا التعليمية أسيرة املاءات غربية يتحكم خلالها صندوق النقد الدولي في نسب النجاح والاكتظاظ ، ونوعية البرامج وطرق التدريس ، وعدد المدرسين ونمط تكوينهم ،تراجع التعليم العمومي خطوات كثيرة إلى الوراء ، ليفسح المجال للوبيات التعليم الخصوصي ،التي غزت سوق التربية كالفطر، ليعمل الجميع من أجل الإجهاز على آخر معقل للمجانية ، باعتبارها أكبر معرقل للتقدم وأوضح مسبب للتخلف .
لقد سنت البرامج الوافدة أسلوبا ماكرا هدفه الظاهر تحديث منظومتنا التعليمية لتواكب تحديات العولمة التي لا ترحم ، أما الهدف الباطن فلا يكاد يخفى عن المتبصر الغيور ، فهذه البرامج تسعى إلى إفراغ تعليمنا من مضمونه، وإفقاده لهويته ودوره الحضاري ، فهي تكرس نوعا من التبعية في شتى المجالات ، مما يخنق الإبداع وروح الابتكار الضروريين لكل تقدم ونماء .
لقد عمل أعداء التعليم في الداخل والخارج على جعل المجال التربوي حقل تجارب دائم ، بطريقة منسقة محبوكة ، فما إن نضع الأصبع على مكمن الخلل ، ونشمر جادين عن سواعدنا لمعالجته ، حتى تتغير الأمور ، فنعود إلى نقطة الصفر ، ليصيبنا الإحباط من جديد فتركزت في ذواتنا عقدة النقص وآمنا بالعجز يغزو الهمم والقلوب .
وكيف لا يتسرب الريب إلى  قدرتنا على الخروج من هذا النفق المسدود ، حين نرى اليوم ما أصاب مستوى متعلمينا من ضعف بين، غدا موضوعا للتندر والتفكه في المجالس ، ناهيك عن التشويه الممنهج الذي يطال صورة الفاعلين التربويين عبر منابر إعلامية يفترض فيها الحياد والعقلانية .
إن الأمر في حاجة إلى وقفة تمحيصية،  نجيب خلالها عن تساؤلات مصيرية من قبيل :
-         من المسؤول عن هذا الوضع التعليمي المهترئ ؟
-         ماذا أصاب تعليمنا حتى أصبح جسمه لا يقوى على مواجهة أي تحد من تحديات عصرنا الحالي ؟
-         متى نستفيق من سباتنا ؟ وكيف لنا ذلك ؟
-         ما هي البدائل الممكنة الكفيلة بإخراج تعليمنا من ربقة التوجهات الغربية ، ليلائم مستوانا ويوائم هويتنا وثقافتنا ؟
سبيلنا في ذلك على ما أعتقد ، قطيعة حاسمة مع ثقافة الإقصاء وسياسة التسويف ، والنزول إلى الميدان بنية صادقة ، وعزيمة واضحة ن من أجل تنمية تربية مقاومة للجهل والأمية.
وإيماننا بهذه المقاومة التربوية ، لا يعني عزل أنفسنا ، وانغلاقنا عن مستجدات التربية التي تهب من الغرب ، إنما نبغي التفاعل معها والاستفادة منها ، لا الخضوع لها والاستكانة ، كل ذلك من أجل أن يحيا تعليمنا من جديد ، وينبعث من رماده كالفينيق ، فموته بلا شك موت للحضارة ....وهذا ما لا نريد .

  أحمد السبكي المغرب

إلى أين تسير قاطرة إصلاح التعليم؟ : تفكيك خطاب الحكومة حول الاصلاحات التعليمية. بوبكر بوعزة

أنفاس نت




إن المتتبع للشأن التعليمي سيرى أن الإصلاحات المتتالية للمنظومة التعليمية المغربية تستهدف حق أبناء الشعب في مجانية التعليم، وهذا ما أوضحناه في مقال سابق منشور على موقع أنفاس بعنوان"إلى أين يرمي إصلاح التعليم". أما مقالنا هذا فسيتوقف عند الاصلاحات التي تستهدف الفكر الحر والنقدي، والتي تهدف خلق مجتمع هجين مروض تقني لا يعرف سوى العمل التقني دون أن يكون ملما بالفكر النقدي والحس الاجتماعي والمعرفي والثقافي الواسع.

لقد ذكرنا في مقالنا السابق أن ما يحدث الآن في مراكز التربية والتكوين ليس وليد الصدفة، ولا اليوم، بل هو تصريف لبنود الميثاق الوطني للتربية والتكوين ومواده. لهذا فالانطلاق من الميثاق يبقى ضرورة ملحة باعتبار ان كل ما جاء بعده سواء تعلق الأمر ب"المخطط الاستعجالي" أو ب"الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية" ليس سوى تصريف له ولبنوده. كما أن الميثاق نفسه هو استمرارية لسياسة الاصلاحات التي بدأت من ستينيات القرن الماضي ك"مشروع بلعباس" سنة 65، و"مشروع إصلاح التعليم" لسنة 75. لكن وتيرة استهداف التعليم ستزيد من حدتها مع ثمانينيات القرن الماضي، حيث طرحت عدة مشاريع إصلاحية، منها "مشروع إصلاح بيداغوجي يعتمد نظام والوحدات والمسالك كطريقة للتدريس" والذي طُبق في الكليات التقنية، في حين ثم التصدي له في باقي الكليات وبعد تعديل طفيف ثم طرحه في موسم 92-93 تحت إسم "من أجل إصلاح جامعي شامل" لكنه باء بالفشل. وفي 94 ثم طرح مشروع "الميثاق الوطني للتعليم العالي" وبعد نقاشات حادة بين جميع الأطراف السياسية منها والنقابية ..انتهت بطرح "الميثاق الوطني للتربية والتكوين."

 لقد حدد الميثاق الوطني بعض الغايات الكبرى التي يجب أن تضطلع بها الجامعة المغربية فيما يلي؛ المادة 10:"ينبغي أن تسير الجامعة أو حري بها أن تكون مؤسسة منفتحة وقاطرة للتنمية على مستوى كل جهة من جهات البلاد وعلى مستوى الوطن كذلك:

أ‌-        جامعة منفتحة ومرصدا للتقدم الكوني العلمي والتقني، وقبلة للباحثين الجادين من كل مكان، ومختبرا للاكتشاف والإبداع، وورشة لتعلم المهن، يمكن لكل مواطن من ولوجها أو العودة إليها، كلما حاز الشروط المطلوبة والكفاية اللازمة"[1] إن الغايات الكبرى التي  تصرح بها هذه الدعامة تكمن في جعل الجامعة "مختبرا للاكتشاف والإبداع وورشة لتعلم المهن" مما يعني أن الجامعة لم تعد حاضنة للفكر والثقافة، منفتحة على الفنون والعلوم الانسانية والاجتماعية والأدب والقيم الانسانية العليا، وتربية الذوق الرفيع والإحساس المرهف والفكر النقدي....بل أصبحت تكوّن التقنيين والحرفيين والمهنيين. إن دل هذا على شيء فإنه يدل على ضرب الفكر والعقل la raison  باعتباره عقلا يعلم الطلبة فن العيش والتعايش، وينمي الحس المرهف وتعليم التفكير، والاهتمام بالعقل ratio العقل التقني الذي يُحوسبُ الطبيعة والفاقد للقدرة على التفكير والنقد. قد يقول قائل ما الغاية من الرجوع إلى الميثاق الوطني الذي انتهت عشريته؟  ونحن نجيبه بأنه مخطئ من يعتقد أن الميثاق الوطني تم تجاوزه، بل هو في طور التصريف مع حكومة تمرير المخططات الخطيرة التي تصيب أبناء الشعب في مقتل، وإلا كيف نفهم كلام وزير التعليم العالي "الحسن الداودي" الذي بخس الشعب الأدبية وأعتبرها مجرد شعب تنتج العاطلين الذين يصبحون عالة على آبائهم  لافتقادهم  للتكوني التقني المؤهل لسوق الشغل، وكأن التقنية هي العلامة المميزة للتعليم الجيد في نظره؟ إن فهم هذا الكلام لا يتم إلا في سياق بنود الميثاق التي تؤكد أن غاية الجامعة هي أن تصبح ورشة لتعلم المهن. لكن أي مهن علينا تعلمها؟ أهي المهن التقليدية (الصناعة التقليدية) التي أصابها الكساد بحكم تخلي الدولة عن دعمها؟ أم أن الجامعة مطالبة بتكوين الطلبة تكوينا مهنيا وجعلهم أياد رخيصة للعمل في الورشات الصناعية التي تفتحها الشركات الكبرى بأثمنة بخسة وفي شروط لا تحترم أدمية البشر لغياب قانون يلزم الشركات بإعطاء العامل كامل حقوقه؟ لنساير السيد الوزير في كلامه ونتساءل معه: هل حملة الشهادات والدبلومات التقنية ليسوا عالة على آبائهم؟ وهل وفرتم السيد الوزير الوظائف لحملة الشهادات العليا في الفيزياء النووية والرياضيات التطبيقية وخريجي مراكز التكوين المهني...أم تركتهم عرضة للعطالة والضرب أمام باب البرلمان؟  ألا تجعل هذه الشعب الذي يتغنى بها السيد الوزير من  الطلبة عالة على آبائهم كما وصفهم بحكم تفكير حكومته في التخلص من التعليم العمومي وعدم تفكيره في حلول لعطالة العقول وهجرتها؟ هذا من جهة، أما من جهة أخرى فقول السيد الوزير أن المغرب في حاجة إلى الشعب العلمية وأن خطأ الدولة في عدم توجيه التلاميذ للمواد العلمية سيعرضها للخطر، هو قول متضمن في الميثاق الوطني؛ ففي الدعامة الأولى المتعلقة بتعميم التعليم نجد في المادة 50 مايلي:"ب-تقوية التوجيه إلى الشعب العلمية والتقنية والمهنية لتستقبل على الأقل الثلثين، من مجموع تلاميذ التعليم الثانوي وطلبة التعليم العالي، في أفق السنوات الخمس القادمة، استنادا إلى التوجهات التي ينص عليها الميثاق."[2] ما صرح به وزير التعليم العالي يوجد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين. والسيد الوزير وحكومته لا يعملان إلا على تصريف وتمرير المخططات التي ثم اقرارها من قبل، والتي عجزت الحكومات السابقة عن تمريرها بحكم الهبة الطلابية في جميع المواقع الجامعية سابقا. لكن السؤال المطروح هو: هل تتوفر مؤسساتنا الإعدادية والثانوية و الجامعية على بنيات تحتية تؤهلها لاستقبال واستقطاب التلاميذ والطبلة في التخصصات التقنية؟ هل مدارسنا وجامعاتنا مجهزة بالمختبرات والأدوات العلمية التي  تجعل طلابنا يجربون ويختبرون ويبحثون ويبتكرون؟ وهل لنا بنايات جامعية مجهزة بالمختبرات العلمية وقادرة على استقطاب عدد وفير من الطلبة العلميين والتقنيين؟ وهل تمتلك الدولة القدرة على توظيف هؤلاء الطلبة الذين سيتخرجون من هذه الكليات أم سيكون مصيرهم كمصير حملت دبلومات التكوين المهني؟

إذن ما هي الوظائف التي تطلع بها الجامعة المغربية؟ نجد في الميثاق الوطني، الدعامة الرابعة،  مجال التعليم العالي المادة 77:"يرمي التعليم العالي إلى تحقيق الوظائف الآتية:

-          التكوين الأساسي والمستمر؛
-          -إعداد الشباب للاندماج في الحياة العملية؛
-          -البحث العلمي والتكنولوجي، مع مراعاة ما تنص عليه المادة 126 من هذا الميثاق؛
-          -نشر المعرفة."[3]

 لنتوقف عند هذه النقطة قليلا التي تتناول وظائف الجامعة. إن نشر المعرفة هي آخر وظيفة يمكن أن تضطلع بها الجامعة هذا شيء له دلالة خاصة، تفيد تهميش ريادة الجامعة في نشر الفكر والمعرفة. اما جعل التكوين الأساسي والمستمر على رأس الوظائف التي تضطلع بها الجامعة فهو ما لا يخلو من دلالة ويدفعنا إلى التساؤل عن السبب الذي جعل الدولة تعطي كل هذه الأولية للتكون الأساسي والمستمر. فلماذا أُعطيت لهذه الوظيفة الأولوية على حساب باقي الوظائف؟ الجواب تقدمه المادة 56 التي تتحدث عن التكوين المستمر:" يتمفصل نظام التكوين المستمر بناء على منطق السوق الذي يعد وحده القمين بمواكبة حاجات المقاولات من الكفايات بطريقة فعالة. ويشجع هذا النظام مؤسسات التربية والتكوين على اندماج أقوى في مجال الشراكة مع المقاولات والإدارات. كما يحفز على تنمية وحدات للتكوين المستمر والاستشارة على مستوى الجمعيات المهنية، وييسر كذلك الاعتراف بموقع العمل كمجال للتكوين."[4] إذن لا يمكن فهم تصريحات وزير التعليم العالي السيد الداودي إلا في هذا الاطار وهو إخضاع التعليم لمنطق السوق لا إلى منطق الميولات الفردية والفكرية للطلاب وكذا انفتاحهم على المواد الروحية والإنسانية والاجتماعية التي أصبح الجدال في أهميتها ضربا من العماء والغوغاء لا أقل ولا أكثر. وهذا التمرير لقرارات الميثاق الوطني وللقوانين المنبثقة عنها لا تتجلى في خطابات السيد "الحسين الداودي" فقط، بل حتى في قرارات وزير التربية الوطنية والتكوين المهني السيد "رشيد بلمختار"، فقراره المتعلق بتدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية ما هو إلا تطبيقا للمادة 114 من الميثاق الوطني التي تصرح بمايلي:"حرصا على إرساء الجسور الصالحة واللائقة من التعليم الثانوي إلى التعليم العالي، واعتمادا على توجيه تربوي قويم وفعال، وضمانا لأفر حظوظ النجاح الأكاديمي والمهني للمتعلمين، يتم تدريس الوحدات والمجزوءات العلمية والتقنية الأكثر تخصصا من سلك البكالوريا باللغة المستعملة في الشعب والتخصصات المتاحة لتوجيه التلاميذ إليها في التعليم العالي."[5] قد تكون هذه النقطة ايجابية ليس من حيث اختيار اللغة الفرنسية، ولكن من حيث تجاوز الهوة التي يسقط فيها الطالب الذي تلقى تعليمه باللغة العربية في التعليم الثانوي ويجد نفسه ملزما بمتابعة تعليمه الجامعي باللغة الفرنسية، وهو ما كان يعرقل مساره التعليمي ويؤدي به إلى الرسوب والهذر. لكن من ناحية أخرى تُفسر هذه النقطة أن ما تقوم به هذه الحكومة هو تصريف وتمرير لجميع البنود التي تضمنها الميثاق والتي تم التصدي لها في وقت من الأوقات، وهو ما يؤكد على أن هذه الحكومة لا تملك سلطة القرار وإلا كيف نفهم أن من ثوابت الحزب الحاكم الحفاظ على اللغة العربية في التدريس وتقويتها والحفاظ على الثوابت الوطنية والهوية العربية الإسلامية وفي نفس الوقت تعمل على فرنسة التعليم والارتماء في أحضان الرأسمالية والاستعمار الجديد؟ ألا يبرهن هذا التناقض على أن الحكومة الحالية مجرد حكومة تصريف وتمرير لما عجزت عن تصريفه باقي الحكومات؟

   يتبين مما سبق أن ربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي يعني جعل التعليم في يد المقاولات الرأسمالية الشرسة وجعل الجامعة معهدا للتكوين المهني وليست مؤسسة عليا لتحصيل العلم والمعرفة. فربط الجامعة بالمحيط الاقتصادي سيجعل مهمة تحديد المقررات والبرامج التعليمية في يد المقاولات وهو ما يصرح به الميثاق في المادة 126 :" توطد "الوجائه " interface" بين الجامعات والمقاولات لترسيخ البحث في عالم الاقتصاد وإفادة المقاولات بخبرات الجامعات، وتيسر إضفاء القيمة المستحقة على نتائج البحث وتعميمها."[6] بمعنى أن الجامعة حسب هذه المادة ستصبح حاضنة للمقاولات وتابعة لها في برامجها. فلا يجب على الجامعات أن تدرس سوى ما ترغب فيه المقاولات حسب حاجياتها ومتطلباتها. هكذا إذن تصير الجامعة عبارة عن مؤسسة لتكوين اليد العاملة وصقلها، لا مؤسسة لإنتاج المعرفة ونشرها. بل حتى اعتمادات "صندوق دعم البحث والإبداع" لا يمول إلا المشاريع التي تنشئها المقاولات، وهو ما يؤكد عليه الميثاق في المادة 128:"تعطى الأولوية في مجال منح الاعتمادات من لدن هذا الصندوق(صندوق وطني لدعم البحث والإبداع يمول بمعونات الدولة، وإسهامات المقاولات العمومية والخاصة، وهبات الخواص والمنح الواردة من التعاون الدولي)، للمشاريع الداعمة للتعاون بين الجامعات والمقاولات. ومن ذلك، تمويل مشاريع البحث والتنمية التي بادرت إلى إنشائها المقاولات وتشارك فيها مختبرات للبحث العلمي الجامعي، وتمويل أطروحات للدكتوراة تخص المقاولات التي عليها أن تشارك في هذا التمويل."[7] فالبحوث العلمية وأطروحات الدكتوراه تخضع لمنطق المقاولات.

أما فيما يتعلق باستقلالية الجامعة فإن الميثاق يصرح في المادة 150 ب:"يتم الارتقاء بالجامعة إلى مستوى مؤسسة مندمجة المكونات، ذات استقلال مالي فعلي وشخصية علمية ومتميزة، وتنظم على صعيد الجامعة الجذوع المشتركة والجسور، ومشاريع البحث المتعددة التخصص التي تمكن من جلب موارد إضافية؛ وتستعمل هذه الموارد على الوجه الأمثل ويتم حسن توزيعها على جميع المؤسسات التابعة للجامعة أو المرتبطة بها، أو الفاعلة معها في إطار الشراكة. وتستفيد الجامعة من ميزانية تمنحها الدولة تحدد حسب معايير واضحة وعلنية، وتدبر مواردها البشرية في جميع مكوناتها."[8] استقلالية الجامعية إداريا وماديا وبيداغوجيا يعني أن الجامعة من الناحية البيداغوجية ستختلف مقرراتها من جامعة إلى أخرى تبعا للمحيط الاقتصادي لكل جامعة. إن استقلال الجامعة ماليا وادرايا وبيداغودجيا  يعني فتح المجال للرأسمالية من أجل الاستحواذ عليها وعلى خيرات البلاد والعباد وتحويلها إلى مشتل خصب للأيادي العاملة الرخيصة، من ناحية، ومن ناحية أخرى وإفقاد الجامعة ذلك الطابع الانساني الكوني المتمثل في التكوين الثقافي والفكري المشترك والمنفتح.

رمي الجامعة في أحضان المقاولات دليل قاطع على خوصصتها وبذلك لا يمكن ولوج الجامعة إلا بدفع رسوم التسجيل، وهو ما يؤكد عليه الميثاق في المادة 173 في المبدأ الثالث:"تفعيل التضامن الاجتماعي بإقرار رسوم التسجيل في التعليم العالي، وفي مرحلة لاحقة في التعليم الثانوي حسب ما تنص عليه المادتان 174 و175."[9] أي استضعاف الشعب من أجل استعباده. لا أجد أفضل من هذه القول لنيتشه لإنهاء مقالي هذا:"لا تخلطوا إذن، أيها الأصدقاء بين هذه الثقافة، هذه الآلهة الأثرية ذات الأرجل الرشيقة والحس المرهف، وتلك الخادمة الخانعة والتي تدعى هو الأخرى في غالب الأحيان ال"ثقافة" والتي ليست سوى خاضعة وتابعة وناصحة لبؤس الحياة في شكل "ثقافة" إن كل تربية من أجل الوظيفة والمعاش ليست تربية من أجل الثقافة-كما نفهمها- فهي تضع فقط العلامة على الطريق الذي ينقذ الذات ويحميها في صراع البقاء"[10]

[1] -الميثاق الوطني للتربية والتكوين، سلسلة التشريع التربوي، الطبعة الأولى أكتوبر 2007، دار الحرف للنشر والتوزيع، مطبعة النجاح الجديدة- الدار البيضاء، ص:7.
[2] -الميثاق الوطني، ص:20.
[3] -الميثاق الوطني للميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص:46.
[4] -الميثاق الوطني، ص33.
[5] -الميثاق الوطني، ص:65.
[6] -الميثاق الوطني، ص:72.
[7] -الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص:73.
[8] -الميثاق الوطني، ص:90.
[9] -الميثاق الوطني، ص: 105.
[10]-نيتشه:حول مؤسساتنا التعليمية، المحاضرة الرابعة، ترجمة مصطفى كاك وعائشة أنوس:"نيتشه المربي" مجلة الجدل العدد 1 -ص:99.

الأربعاء، 25 مايو 2016

التسامح، الحريّة، المؤسسات*

مؤمنون بلا حدود




تقديم
تبلور مفهوم التسامح في سياق تاريخي نظري محدَّدين، واكتسب دلالاته الأولى في قلب هذا السياق. فقد برزت ملامحه الأولى واستوت في إطار معارك الحروب الدينية والإصلاح الديني، واتخذت صورة واضحة في الفلسفة السياسية الحديثة خلال القرن السابع عشر، ثم تطور واتسعت دلالاته وتنوعت في القرن العشرين، وذلك في سياق تطور مبادئ وأجيال حقوق الإنسان، وكذلك في إطار تطور منظومات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة.
يعرف المتابعون لحياة المفهوم نوعية التحولات التي ما فتئت تضفي عليه طبقات من المعاني، حيث يجري استعماله وتوظيفه بصور عديدة في الجدل السائد اليوم في خطابات الحداثة والتحديث، الأمر الذي يبرز مرونته من جهة، ويكشف من جهة ثانية إجرائيته في خطابات المنتديات الدولية المناصرة لمبادئ العدالة والحرية وحقوق الإنسان.
توخينا من العناصر المكثفة أعلاه، وضع اليد على المرجعيات النظرية والحقوقية التي ساهمت في عملية تحولات الدلالة في مفهوم التسامح، وسنعمل في محاور هذه الورقة على توضيح ما ورد في صورة مركَّبة في الفقرتين السابقتين. إلا أننا قبل ذلك، نشير إلى أنّ ما سبق ذكره يندرج ضمن العناصر الأولى من ورقتنا، وذلك بحكم أننا سنخصص العنصر الأخير منها لمعاينة جوانب من كيفيات تلقِّي الفكر العربي المعاصر لمفهوم التسامح وما يرتبط به من مفاهيم الحداثة السياسية. صحيح أنّ فكرنا السياسي لم يتعرف على مفهوم التسامح ولم يقم بتوظيفه والتفكير بواسطته إلا في مطلع القرن العشرين، إلا أنّ صور استخدامه في ثقافتنا المعاصرة طيلة عقود القرن الماضي، منحته بدورها ظلالاً أخرى من المعاني، شحنته بطريقتها ومفردات لغتها بمعانٍ بعضها مُتضمَّن في أصوله، وبعضها تَحَصَّلَه بفعل الحمولة الدلالية لمفردات لغة أخرى تروم تمثله باستخدامه، مستهدفة إنجاز مهام تتطلبها سياقات توظيفه والتفكير بواسطته في إشكالات وقضايا مرتبطة بمجتمعات وثقافات أخرى، الأمر الذي نفترض أنه ساهم بصورة أو بأخرى في توسيع أو تضييق بعض دلالاته.
يتجه عملنا إذن لتركيب إحاطة نظرية بصيرورة تطور مفهوم التسامح، وذلك في سياق تطور منظومات في الفكر السياسي والتاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، مع محاولة للتوقف في الآن نفسه على جوانب من مآلات المفهوم في التلقي العربي لمنظومة الحداثة السياسية، خلال مائتي سنة من أشكال تفاعل الفكر العربي مع منظومات الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة، الأمر الذي نعتقد أنه سيقربنا من أنماط توظيفه في فكرنا ومجتمعنا، وسيظهر حاجتنا الماسّة إلى روحه في المعارك التي نواجهها اليوم في مجتمعاتنا وثقافتنا السياسية.
التسامح، نشأة الدلالة وتطورها
يجمع أغلب دارسي مفهوم التسامح على صعوبة ضبط معانيه ودلالاته، ولا يتعلق بالدلالات الفلسفية الاصطلاحية، التي ارتبطت به خلال مراحل تشكله وتطوره سواء في المجال الديني أو في الفلسفات التي حاولت وضع حدود لمعانيه في القرن السابع عشر وما بعده، بل إنّ الأمر يتجاوز الدلالة الاصطلاحية نحو الدلالات اللغوية العامة التي تحملها مفردته. وقد بيَّن المفكر الفرنسي بول ريكور في المقاربة التي ركَّبها لمفردة تسامح Tolérance اعتماداً على بعض معاجم اللغة الفرنسية[1]، أنّ الطابع المبسط للدلالة كما تقدمها بعض هذه المعاجم، يساهم في مزيد من غموض المفهوم وصعوبته.
نواجه الصعوبة نفسها عندما نقترب من دلالة كلمة تسامح في المعاجم العربية، ونتبيَّن بعض جوانب هذه الصعوبة في الدراسة الهامّة لسمير الخليل المعنونة بـالتسامح في اللغة العربية[2]، حيث وضَّح الباحث في هذه الدراسة صور التناقض بين جذر كلمة التسامح ومفهوم التسامح، موضحاً أنّ استيعاب روح المفردة في سياقها النظري والتاريخي يتطلب عمليات تمثل وتوظيف يكون بإمكانهما حفر الدلالة الجديدة في رسم الكلمة العربية، ومن أجل ذلك يجب الاستمرار في امتحان المفردة بالتداول، لنقف على حدود الدلالات التي تُقرن بها.
1- في الأصول الأولى للمفهوم
تحيل مفردة Tolérance إلى ما يفترض أنه الحامل لمعناها باللغة العربية، نقصد بذلك كلمة التسامح أو التساهل أو الصفح، ويتم في الأغلب تداول المفردات المشار إليها عند التفكير في موضوع العلاقات بالآخر والآخرين في المجتمع وفي العالم. وعندما نفكر في السياقات التي أطَّرت تبلور ثم تداول وتطور مفهوم التسامح، نجد أنها نشأت في إطار الجدل اللاَّهوتي في أوروبا النهضة، حيث عملت الكتابات اللاَّهُوتية على إبراز أهمية الصفح على من يخالف تعاليم الدين والكنيسة، وذلك بعدم معاقبتهم.
اندرج هذا الموقف في سياق توجه إصلاحي عام، يتوخى رسم حدود للعقائد باعتبارها ترتبط بالإيمان الشخصي الحر. وقد هيأت هذه التصورات الإصلاحية الطريق الممهِّد لتيارات الإصلاح الديني، كما ساهمت بمحاذاة ذلك في بلورة نظر فلسفي جديد للتسامح في خطابات الفلسفة الحديثة.
يمكن أن نقول إنّ عاملين اثنين ساهما بطرق مختلفة في تشكُّل مفهوم التسامح، وإليهما يعود الفضل في منحه جوانب عديدة من الدلالات التي يحملها؛ الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم الاكتشافات الجغرافية وما ترتب عنها من جدل لاهوتي وأخلاقي، ذلك أنّ التسامح نشأ ليعكس جوانب من صور تفاعل الفكر الحديث مع التطورات العديدة، التي نشأت في القرن السادس عشر في قلب المجتمع الغربي، حيث تبلور المفهوم كمحاولة لصدِّ مختلف أشكال العنف السائدة في المجتمع، وخاصة في مجالات العقيدة الدينية.
نشأ مفهوم التسامح منذ بداياته في صلة وثيقة بمفهوم الحرية، وقد لا نتردد في القول إنّ قاعدة نشوئه النظرية تتمثل في مساعي الحرية المرتبطة في فجر المجتمعات الحديثة بمتطلبات الوعي الفردي والنزعة الفردية. صحيح أنّ مجال الظهور والتشكل تؤطره إرهاصات الإصلاح الديني، إلا أنّ ميدان استواء ملامحه النظرية يجد أرضيته في معارك حرية التفكير والتعبير والعقيدة.
ينتج عن ذلك جملة من المعطيات النظرية المرتبطة بالدلالة العامة للمفهوم، ومن بينها:
أ- ربط المفهوم بالحقوق الطبيعية، وقد تَمّ ذلك في سياق البحث له عن مسوغات فلسفية واضحة، إنه مثل الحق في الحياة والملكية والعقيدة.
ب- الحرص على طابعه العام والكوني، باعتبار أنه كُلٌّ غير قابل للتجزيء، ولا مجال فيه للمساومة أو التمييز.
2- التسامح وأخلاق الدولة المدنية
لقد حاول فلاسفة أوروبا بدءاً من نهاية القرون الوسطى تجاوز صور التداخل والاختلاط القائمة بين المجال الديني والمجالات الدنيوية، وتبلورت الملامح النظرية الأولى الداعية إلى الفصل بين المجالات المذكورة في تيارات الإصلاح الديني، ثم عملت بعد ذلك الفلسفات السياسية على إعادة بناء التصورات التي أغنت ودعمت خلاصات ونتائج الإصلاح الديني. نتبيَّن جوانب من روح هذا الموقف في فلسفة جون لوك وخاصة في مصنفيه: محاولة في الحكم المدني، ورسالة في التسامح.
نقرأ في رسالته في التسامح في مسألة الفصل بين مهام السلطتين المدنية والدينية ما يلي: "ومن أجل ألّا يسعى آخرون، بدعوى الدين، إلى أن يجدوا في الدين خلاصاً لما يرتكبونه من إباحية وانحلال، ومن أجل ألّا يفرض أحد على نفسه أو على غيره أي شيء تحت دعاوى الولاء والطاعة للأمير، أو الإخلاص والوفاء في عبادة الله، أقول إنه من أجل هذا كله، ينبغي التمييز بدقة ووضوح بين مهام الحكم المدني وبين الدين، وتأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما. وإذا لم نفعل هذا فلن تكون هناك نهاية للخلافات التي ستنشأ على الدوام بين من يملكون الاهتمام بصالح نفوس البشر من جهة، ومن يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى"[3].
دافع لوك في كتاباته السياسية عن ضرورة إقامة خط واضح وفاصل، بين الحكم المدني والمعتقد الديني. ذلك أنّ حالة المجتمع في تصوره تنشأ بهدف تأمين المصالح المدنية والمحافظة عليها وعلى تطورها. وتتمثل هذه المصالح في الحياة والحرية والملكية والصحة، في حين تظل الكنيسة بمثابة فضاء اختياري للالتقاء من أجل عبادة الله. وبناء عليه، يكون على الحكم في نظر لوك، تأمين الملكية العادلة، وضمان المصالح المدنية للبشر[4].
كانت مواقف لوك السياسية في مجملها مرتبطة بأشكال الصراع السياسي والديني، القائمة في إنجلترا وفي أوروبا على وجه العموم. وقد رتَّب انطلاقاً منها مجموع خياراته في الدفاع عن حق الحرية، ودفاعه عن الحريات الفردية وخاصة في المجال الديني.
تَمَّ النظر إلى مجمل أطروحات جون لوك في هذا الباب باعتبارها مواقف مثيرة للجدل، حيث تبنَّى لوك حماية التيارات والمذاهب الدينية من التدخل غير المشروع للحاكم المدني. ويعرف المهتمون برسالته في التسامح (1886)، أنه ركَّب دليلين اثنين في موضوع التسامح الديني، وذلك بطريقة برهانية، يتعلق الأمر بالدليل الأخلاقي والدليل المعرفي. بَيَّنَ في الأول منهما أنّ لكل فرد الحق في أن يعتقد أو لا يعتقد بملء حريته ودون خوف، وأنّ الحرية الدينية والشخصية مكفولة للجميع. كما وضَّح أنه لا حق للكنيسة في اضطهاد أي شخص بسبب عقيدته، مثلما أنه لا حق للسلطة المدنية بالتدخل في العبادات. أمّا في الدليل المعرفي، فقد وضَّح محدودية المعرفة البشرية أمام مجاهل الكون العديدة. وبناء عليه، يصعب علينا أن نتحامل على الآخرين لأنهم لا يعتقدون مثلنا[5].
يتضح هذا في تحديده الدقيق للدولة ووظائفها حيث يقول: "الدولة مجتمع من البشر يتشكل بهدف توفير الخيرات المدنية والحفاظ عليها، وتنميتها. وأنا أعني بالخيرات المدنية: الحياة، والحرية، والصحة، وراحة الجسم، بالإضافة إلى امتلاك الأشياء مثل المال، والأرض، والبيوت، والأثاث، وما شابه ذلك"[6].
اغتنى مفهوم التسامح في كثير من أعمال فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث نعثر على أعمال أُنجزت دفاعاً عن التسامح وما يتيحه من آفاق في تطور الفكر والمجتمع. فقد كتب بييربيل بحثاً في الدفاع عن التسامح أشار فيه إلى أنّ الخطر الأكبر الذي يواجه الديانات يتمثل في عدم تسامحها[7]، وهو الأمر الذي أبرزه لوك أيضاً، وهو يوضح أنّ مطلب التسامح يتطابق مع الحِسّ المشترك تطابقه مع تعاليم الإنجيل[8].
وقد ساهم فلاسفة مثل سبينوزا وروسو وﭭﻭلتير في إغناء وتطوير دلالات المفهوم وكذلك توسيع مجالات استعماله، ففي الفصل الأخير من نص سبينوزا رسالة في اللاهوت والسياسة على سبيل المثال، يتحدث عن أسوأ مواقف الدولة معتبراً أنّ هذا الموقف يتمثَّل في نفيها لمن يختلفون معها في الرأي[9].
3- التسامح ومنظومة حقوق الإنسان
ساهمت الفلسفة السياسية الحديثة في تلوين مفردة التسامح بألوان دلالية محدَّدة، وذلك في سياقات نظرية وتاريخية أضفت عليها وعلى معانيها طابعاً خاصاً، فأصبح من غير الممكن تداولها دون استحضار المعاني والسياقات التي منحتها الشحنة التي امتلأت بها. وقد عزَّز هذه الدلالة وزادها رسوخاً التوسيع الذي لحق مجالات استخدامها، نحن نشير هنا إلى صور توظيفها الجديدة في مواثيق وأدبيات حقوق الإنسان.
أصبح مفهوم التسامح من المفاهيم المركزية في مواثيق حقوق الإنسان، ومنذ إعلان 1948، الذي تَمَّ فيه التنصيص على حرية المعتقد والرأي والتعبير، بدأ العمل يجري في موضوع تفعيله في المنظمات الدولية، حيث أصدرت منظمة اليونيسكو إعلان مبادئ التسامح لسنة 1995، وتبنَّته الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 16 نوفمبر 1995 بباريس[10]. وقد دعا هذا الإعلان إلى ضرورة العمل على اتخاذ الإجراءات والتدابير الكفيلة بتجسيد وتعزيز التسامح بين الأفراد والمجتمعات[11].
ترتب عن استخدامه الحقوقي ما نعتبره نوعاً من تعميم دلالاته وتوسيع مجالات الاستفادة من المزايا الأخلاقية المرتبطة بروحه، وأهمها الطابع المنفتح على الآخر والآخرين الأمر الذي يفيد قبول الاختلاف والعيش في فضاءاته. يضاف إلى ذلك حرص المواثيق الحقوقية على الجمع بين التسامح والتعدد والديمقراطية والسلم، حيث تَمَّ شحن دلالة المفهوم بمعطيات نظرية جديدة مرتبطة بالمجال الحقوقي وسَّعَت معانيه، وساهمت في تقليص بعض الإيحاءات المتصلة بسياقات لحظة بروزه وانبثاقه، نقصد بذلك المعطيات ذات الصلة بالصراعات الدينية في أوروبا النهضة.
يترتَّب عن ذلك أنّ منظومات حقوق الإنسان نقلت مفهوم التسامح من حدوده اللاَّهوتية إلى فضاءات أرحب، فأصبح يعني اليوم الاحترام وقبول التعدُّد والاختلاف، وكذلك تنوع الثقافات وتعدُّدها في عالمنا. وقد تعزَّز هذا بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر، ولم يعد مجرد واجب أخلاقي، بل تعدَّى ذلك ليصبح واجباً سياسياً وقانونياً أيضاً. لقد تحول إلى قضية تساهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب، وضمن هذا السياق، تَمَّ تبنِّي يوم 16 نوفمبر من كل سنة كما أشرنا سابقاً كيوم عالمي للتسامح.
4- نحو مأسسة التسامح
وضَّحنا أنّ نص جون لوك في رسالة التسامح (1689)، يُعدُّ علامة مركزية في تاريخ مفردة التسامح، فقد أبرزت هذه الرسالة أهم الدلالات التي ارتبطت بالمفردة، الأمر الذي منحها امتياز التعبير عن بعض معارك الحداثة في الفكر والمجتمع الحديثين. وقد حصل بعد ذلك نوع من التجاوز لتصورات الرسالة اللوكية في فلسفة الأنوار، حيث تَمَّ الانزياح قليلاً عن مرجعيتها المرتبطة بالإصلاح الديني والحروب الدينية، نحو أفق يمنح المفهوم فضاء أكبر للتحول، أفق يرتبط بفلسفات ومواثيق حقوق الإنسان. ونتج عن ذلك أن أصبح مفهوم التسامح يستوعب ويشير إلى وقائع ومعطيات لم تكن واردة ضمن شروط وسياقات تبلوره الاصطلاحي الأول، في إطار معارك الدولة والكنيسة في أوروبا الحديثة.
سمح التحول الحقوقي والسياسي في تقريب مفهوم التسامح من الآفاق الحداثية، الأمر الذي جعله يتخذ مظاهر ذات صلة وثيقة بالحريات الفردية، حيث أصبح يساهم في تعزيز قيم الحداثة والتحديث. وضمن هذا السياق، بدأ المفهوم يبحث لنفسه عن سياق مؤسسي يضمن له إمكانية الأجرأة التي تتيح له مردودية اجتماعية.
إنّ التحول الذي عرفه مفهوم التسامح في القرن العشرين يعبّر عن المكاسب التي لحقت به استناداً إلى التفاعل الذي حصل بينه وبين أجيال حقوق الإنسان، إضافة إلى التأثير الذي فرضه تطور المنظور السياسي الليبرالي الجديد، حيث تبلورت جملة من التيارات السياسية الهادفة إلى دعم مجتمعات التعدد والاختلاف. وإذا كانت ليبرالية كلّ من توكفيل وستوارت ميل تقبل مبدأ تعدُّدية تصورات الخير داخل الثقافة الديمقراطية، شريطة احترام مبادئ هذا التعدُّد، فقد تجلَّى هذا الموقف بصورة واضحة في أعمال راولز على سبيل المثال لا الحصر، حيث تبنَّى في نظريته في العدالة مفهوم التسامح وربط بينه وبين الحرية والديمقراطية والمؤسسات.
تتمتَّع أعمال راولز اليوم بحضور متميز في فضاء الفلسفات السياسية والاجتماعية والأخلاقية في مختلف دوائر الفكر المعاصر، بسبب اختيارها منطقاً معيناً في البحث، يقارب الأسئلة الأخلاقية من منظور سياسي، فهو يحاول تجاوز المنظور الأخلاقي والميتافيزيقي، ليجعل منظومة القيم مفتوحة على أسئلة المجتمع والتربية وحقوق الإنسان، إضافة إلى قضايا العصيان المدني والديمقراطية.
ينطلق راولز في تركيب تصوُّره السياسي للعدالة من النظر إلى المجتمع من منطلق أنه بنية معقدة، يحكمها نظام في توزيع الخيرات يمنح الأفراد والجماعات نسباً معينة من الخيرات والمنافع الأولية (الموارد المادية والرمزية)، أي يمنحها كلّ ما يعزز الشخصية الاعتبارية للأفراد، مثل الحرية وتكافؤ الفرص والثروة. وبناء عليه، يرى راولز أنّ مهمة المقاربة السياسية تتحدَّد في تركيب تصور يسمح بتقسيم مجموع الخيرات بين مختلف الجماعات المتعارضة والمختلفة فيما بينها[12].
يتجه المنظور الليبرالي الجديد إلى إصلاح وتنظيم المؤسسات، ويهتم رواده ومؤسسوه بإعادة التفكير في مفهوم التسامح من زاوية عقلانية، ودون ربط التفكير فيه بمسألة ترتيب ما يضمن حمايته، أو التفكير في سياقاته الاجتماعية والجماعاتية واللغوية والدينية والاقتصادية[13].
لن تحصل حماية روح التسامح وفضائله إلا بتوفير مؤسسات راعية وحاضنة، مؤسسات يكون بإمكانها أن تَصُدَّ الإكراهات والعوائق، لتصنع فضاء يمنح الأفراد المساواة والحرية وممارسة الاختيارات التي تُفضي إلى التسامح. ونحن نفترض أنّ بناء مؤسسات في هذا الباب يتطلب جهوداً مضاعفة، حيث يبدأ العمل بمواجهة المؤسسات الرافضة لقيم التسامح، ثم بناء المعايير والإجراءات القابلة للمأسسة، الأمر الذي يبرز أنّ المجتمعات التي تبلور في تاريخها مفهوم التسامح ما تزال في بداية الطريق في موضوع مأسسة المفهوم.
5- في كيفيات تلقّي الفكر العربي لمفهوم التسامح
قد لا نجانب الصواب، إذا ما اعتبرنا أنّ أول دفاع عن التسامح في الخطاب السياسي العربي المعاصر، تبلور على صفحات مجلة الجامعة، التي كان يشرف على تحريرها فرح أنطون، وأنّ الفضل يعود إلى هذا المصلح بالذات في تقديم محتوى المفهوم وإبراز أهميته، وذلك في إطار تأويله وتقديمه لمنظومة الحداثة السياسية الغربية، كما صاغتها الفلسفة الليبرالية[14].
فمنذ ما يقرب من قرن من الزمان، وبالضبط في سنة 1902، وظَّف فرح أنطون مفهوم التسامح - وكان يرادفه بلفظ التساهل - لإبراز أهمية محتواه، كحاجة ملازمة للتحرر من الانغلاق والتعصب ومعاداة الآخرين.
لم تكن محاولة فرح أنطون سهلة، وقبله لم تكن جهود الطهطاوي في نقل وترجمة المفاهيم السياسية الليبرالية والقوانين الوضعية متيسرة، رغم أنّ هذا الأخير كان يحاول في أعماله الفكرية، الاستجابة لمطالب دولة في طور التأسيس (دولة محمد علي في مصر)، والبحث لمفاهيم المنظومة الليبرالية عن مقابلاتها في التراث، مقابلاتها الاصطلاحية، وما يحتمل أن يشكل مقابلاً لهذا المحتوى. أمّا فرح أنطون فقد اختار واحدية المرجعية الغربية، متبنياً محتواها، باعتباره أفقاً فكرياً جديداً غير مسبوق، إنه نتاج الحداثة السياسية، كما بلورتها جهود فلاسفة الأنوار، ومن سبقهم من رواد ومؤسِّسي الخطاب السياسي الليبرالي في القرن السابع عشر.
وربما لهذا السبب بالذات تصدَّى محمد عبده لمقالات فرح أنطون في مجلة الجامعة، حيث ترتّب عن السجال بينهما في موضوع الاضطهاد في الإسلام والمسيحية، كتاب محمد عبده الشهير الإسلام والنصرانية.
في الصفحات التي كتبها فرح أنطون عن ابن رشد وفلسفته، ثم في موضوع الاضطهاد في الإسلام والمسيحية، ذهب إلى تمجيد مفهوم التسامح، كما تبلور في الفلسفة الحديثة بروح متحمسة، دون أدنى احتراز نظري أو تاريخي. بل إنّ مرماه الإصلاحي دفعه إلى التحمس لمحتوى المفهوم، وإضفاء مسحة جديدة عليه. وقد برز ذلك في الأمثلة المتعددة التي كان يحاول بواسطتها تقريب المفهوم وروحه، والدفاع القوي عن أهميته في حياتنا المعاصرة، وذلك من أجل أن نتمكن في نظره من استيعاب مقتضيات الحداثة السياسية، باعتبارها المدخل الرئيس للنهضة والتقدم.
ارتبط دفاع فرح عن التسامح بدعوته إلى العلمانية، كما ارتبط بدفاعه عن مبدأ النسبية في مجال المعرفة. ومعنى هذا أنّ تبلور المفهوم في خطابه الإصلاحي ارتبط بسياق أعم، يتعلق بمحاولة إنجاز تعريب للمنظومة الليبرالية، وذلك في سياق ملابسات تاريخية ونظرية ترتبط بمناخ الفكر الإصلاحي، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهذا الارتباط يدلّ من جهة على وعي فرح أنطون بترابط مفاهيم منظومة السياسة الليبرالية، كما يدلّ من جهة ثانية على عدم وعيه بأهمية الشرط التاريخي كخلفية مؤطرة ولاحمة له. ومن هنا غربة النص الذي كتب عن الزمن الذي تبلور فيه.
وباستثناء جهود فرح أنطون في إضاءة مفهوم التسامح، وهي الجهود التي غذَّت الخطاب الليبرالي العربي بشحنة دلالية ذات مرجعية غربية، نجد أنّ ملامح المفهوم غائبة تماماً عن لغة الخطاب السياسي العربي المعاصر.
صحيح أنّ مفكري النهضة، من ذوي التوجه التغريبي الليبرالي، اعتنوا بمفاهيم المنظومة الليبرالية المرتبطة بمفهوم التسامح، من قبيل الحرية والمواطن والمساواة والدستور وغيرها، إلا أنّ مفهوم التسامح بالذات ظلّ في حكم الغائب، أي في حكم اللاَّمفكَّر فيه في الثقافة السياسية العربية المعاصرة.
وصحيح أيضاً أنّ معارك كتابي "الإسلام وأصول الحكم و"في الشعر الجاهلي"، استدعت المفهوم بصورة غير مباشرة، وأنها كانت تستدعي روحه في الأغلب الأعم، ولا تستحضر منطوقه ورسمه، إلا أنّ هذا الحضور لا يسعفنا بِتَبَيُّنِ معطيات نظرية يُمكن أن تفيدنا في صياغة بعض الجوانب والأبعاد الخاصة بتجربتنا التاريخية والنظرية، في مجال مواجهة التعصب الفكري والتصورات المطلقة والمغلقة، من أجل الدفاع عن حرية الفكر وحرية الرأي والعقيدة. هل نستنتج من هذا أنّ معركة الفكر العربي في الدفاع عن التسامح كقيمة أخلاقية وحضارية ما تزال قائمة ومطلوبة؟
نعم إننا نعتقد ذلك. فكثير من المعارك القائمة، في أكثر من قطر عربي، في المستوى السياسي وفي المستوى العقائدي، وفي المستويات المرتبطة بقضايا حقوق الإنسان، تؤشِّر على حاجتنا الملحَّة لفتح جدال في موضوع التسامح.
لا ترتبط حاجتنا في المجتمع والفكر العربيين إلى التسامح كفضيلة عقلية وأخلاقية، نقول إنّ هذه الحاجة لا ترتبط فقط بميراث نظري وتاريخي محدَّدين، بل إنها ترتبط أولاً وقبل كل شيء بحاجتنا الفعلية والتاريخية اليوم لمحتواه. ففي حاضرنا كثير من مظاهر الانغلاق والقهر والتعصُّب والإقصاء، وهو ما يستلزم استحضار المفهوم باعتباره وسيلة من وسائل الدفاع عن التعايش، والإقرار بالاختلاف، والاعتراف بالحرية، كقيمة لا تقبل المساومة.
عود على بدء
لا يمكن القول، بناء على ما سبق، إنّ الدعوة إلى التسامح، أو العناية به كمفهوم في سياق تطور الفكر السياسي، في الثقافة العربية، أو في مجال الفلسفة السياسية الغربية المعاصرة، يُعدُّ من باب الاهتمام العارض أو المؤقت، أو الاهتمام المرهون بمعارك سياسية محدَّدَة.
إنّ مشكلات الغرب المعاصر في علاقته بمستعمراته السابقة، وفي علاقته بالأقليات المتعايشة معه، وفي رؤيته لكثير من قضايا المجتمع الدولي، وبؤر الصراع المنتشرة في العالم، تُبرِز كثيراً من مظاهر اللاتسامح، إن لم يكن التعصب الأعمى، حيث يشكِّل عدم الاعتراف بالآخر وعدم الاعتراف بالخصوصيات التاريخية والثقافة والكيل بمكيالين، صفات ملازمة لكثير من خطابات الغرب، رغم تناقض هذه الخطابات مع الأسس والمبادئ والفلسفات التي قامت عليها الحضارة الغربية.
لم يستطع الغرب إذن في سلوكه الفعلي المباشر، تمثُّل روح التسامح، ولم تمكنه دروس تاريخ الفلسفة السياسية من لوك إلى ﭬﻮلتير إلى راولز وأمارتيا سن، ودروس تاريخ العلم المبلورة لمبدأ النسبية في المعرفة، من الاعتراف بالآخر، بصورة تتجاوز المفارقات التي ولَّدها تاريخ الغرب المعاصر في علاقته بالآخرين، في إفريقيا وآسيا وباقي قارات العالم. وإذا كانت حصيلة النظر الأخلاقي المتمثلة في المواثيق والعهود المتعلقة بحقوق الإنسان، قد بلورت من الشرائع والمبادئ والقواعد ما ينبئ عن جهود في الفكر السياسي لا تُضاهى، فإنّ الأفعال والمبادرات والمواقف وردود الفعل القائمة في الواقع، تكشف وجود تناقضات مرعبة بين النظر والممارسة، حيث تعكس الممارسات تراجعات رهيبة عن منطوق وروح المبادئ والشرائع المعلنة.
ينطبق الشيء نفسه على واقع المجتمعات العربية. ومن هنا نستنتج أنّ معرفة التسامح ما تزال مفتوحة. صحيح أنّها دُشِّنَت في مطلع هذا القرن في السجال الذي دار بين فرح أنطون ومحمد عبده، وأنّها تُستأنف اليوم في المعارك الفكرية والسياسية التي تطالب بفتح باب الاجتهاد، في مجال دراسة الظواهر التراثية، فهل نستطيع القول اليوم إنّها معركة لم تعد قابلة للتأجيل؟ وإنّ معطيات متعددة في الراهن العربي تقتضي بلورة اجتهادات جديدة تمكِّننا من استثمار الدلالة الرمزية والمفتوحة للمفهوم؟
إنّ ذلك ما نعتقده فعلاً، وفي هذا الإطار نُدرج هذه المحاولة.

* نشر هذا المقال في مجلة "يتفكرون"، 2015، العدد 6
[1] لمزيد من الاطلاع على تحليل ريكور لمبدأ التسامح وموقفه من دلالاته المعجمية يُرجى العودة إلى مؤلَّفِه المعنون Lecteurs I: Autour du politique في الجزء الذي يقع من الصفحة 295 إلى الصفحة 312 ويحمل عنوان: Tolérance, intolérance, intolérable.
[2] سمير الخليل، التسامح في اللغة العربية، ضمن كتاب جماعي التسامح بين شرق وغرب، ت. إبراهيم العربي، ص 5-23، دار الساقي، لندن، 1992
[3] جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة: منى أبو سنه، مراجعة: د. مراد وهبه، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1997، ص 23
[4] في موضوع الحقوق الأساسية للفرد، يُراجع نص جون لوك في الحكومة المدنية، ترجمة ماجد فخري، دار صادر، بيروت، صفحات 257-258
[5] رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 29
[6] جون لوك، رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 23
[7] Pierre Bayle, De la tolérance, commentaire philosophique, ed. Honore Champion, Paris 2006.
[8] جون لوك، رسالة في التسامح، مرجع مذكور، ص 78
[9] اسبينوزا، رسالة في اللاّهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، القاهرة، 1971، ص ص 446-447
[10] تَمّ تبنّي هذا اليوم أي يوم 16 نوفمبر من كل سنة يوماً عالمياً للتسامح.
[11] يمكن تصفح بنود الإعلان العالمي لمبادئ التسامح على موقع منظمة اليونسكو: www.unesco.org
[12] Rawls, John, La Justice comme équité: Une Reformulation de la «théorie de la justice», Traduction de l’anglais par Bertrand Guillarme , Paris, Editons la découverte, 2003, p. 68.
[13] Rawls, John, Libéralisme politique, Paris, Presses universitaires de France, 2006, p. 79.
[14] كمال عبد اللطيف، من سؤال العلمانية إلى إعادة بناء المجال السياسي العربي ضمن كتاب أسئلة النهضة العربية، التاريخ، الحداثة، التواصل، م.د.و.ع، بيروت، 2003، صفحات 29-56

الدين والدولة ـ هادي معزوز

أنفاس نت



لا خفاء في أن من بين المواضيع التي وجب أن تنال الحظ الأوفر من التمحيص والمساءلة والشرح هو تلك العلاقة التي تربط بين الدين كدين، أي المعرفة العقلية بالله الصادرة من الإنسان والمبنية على الإدراك الواعي والخالية من الوسائط، والدولة كفكرة مرتكزة على روح القوانين، وقوة المؤسسات، بالإضافة إلى رسم حدود ثنائية الحق والواجب، سيبدو لنا الأمر في أول وهلة واضحا لا يحتاج إلى زخم التفاسير والقراءات، بيد أن مشكلنا اليوم ليس يكمن إلا في سوء فهمنا للإثنين وذلك عندما نتأمل واقعنا من المحيط إلى الخليج، وكيف أن الدراسات والإحصائيات تكاد تجمع إن لم نقل كلها على أن الاستبداد وغياب روح القانون لصالح الشطط في استعمال السلطة، وتسجيل نسبة كبيرة جدا من الفساد والرشوة، هم ديدن ولسان حال واقعنا، الدين هو الآخر وفي نفس الصدد يستأثر بهكذا مفارقة من خلال ما هو منصوص عليه في الكتب وبين ما يُتداول، أي بين الدين كنص رسمي وبين استيعاب الثقافة للدين، حيث نقف على مفارقة كبيرة مفادها أن من أكثر الشعوب تدينا هم أكثر الشعوب المعروفة بالغش والرشوة وارتكاب ما تم منعه وتحريمه في الكتب، في تطبيق كبير لتلك القاعدة التي تعتبر أن كل ماهو ممنوع مرغوب.
    عندما نعود إلى حديث الساعة في عالمنا الإسلامي للعثور على طرف الخيط، نجد أن فكرة الدين تعاني من مشاكل جمة، والحال أن عدد القتلى الذي يُعلن عنه في نشرات الأخبار أغلبه دفع ثمن سوء فهم الدين، بل إن سريالية المشهد تزداد عندما نرى أننا بتنا نعيش حرب الكل ضد الكل، حيث كل عصبة من العصب ترى رأيها هو الصائب وأنه لا يدخله الباطل عكس القراءات والتفسيرات الأخرى للدين، ربما يكمن السبب في صراع الثقافة والدين، حيث تتحكم الأولى في الثاني بما أننا عُرفنا منذ زمن طويل بتعصبنا للرأي، حيث لعبت بنيتنا القبلية دورها الريادي في هذا الأمر، أو قد يتجلى في غياب تدبير الاختلاف والإيمان بأن رأيي قد يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ.
    والحق أن معضلتنا في هذا الباب تزداد شيئا فشيئا عندما لا نرى أية محاولة من السياسي لاحتواء ما ينجم عن الديني، إذ كم من الأطروحات كتبت في هذا الشأن وكم من القراءات والأبحاث اهتمت بهذا الإشكال؟ دون أن تجد لنفسها سبيلا حيث بقيت حبيسة رفوف الأرشيف، من ثمة كان لا بد للعودة مرة أخرى إلى تلك العلاقة التي تربط بين الدين والدولة من نظرة فلسفية تقف عند المفهومين.
    لا يختلف اثنان في أن الدين أساسي بالنسبة للإنسان منذ أمد قديم، كما لا يمكن إلا الجزم بفكرة أن الدولة تنزل منزلة الحجر من الزاوية بالنسبة للوجود الإنساني بصفة عامة، الأول ـ الدين ـ رابطة روحية تفسر الكون والعالم تفسيرا لاهوتيا منغلقا، كما تعمل على تنظيم الحياة اليومية للأفراد باسم ثنائية الحلال والحرام، أما الثاني ـ الدولة ـ فإنه لا يستقيم إلا بدستور ينطلق من الإنسان وإلى الإنسان، مجاله مفتوح يتغير بتغير السلطة التي تحكمه، الدين يقسم الحياة إلى حياتين، واحدة هنا وأخرى بعد الموت حيث يحاسب الإنسان بما عمله، أما الدولة فإنها تؤمن بالعقاب الفوري دون تأجيله، الدين يحكم باسم السماء والدولة تحكم باسم القانون، بالتالي فإن للدين غاية بطبيعة الحال، كما للسياسة غايتها أيضا، لكن غاية الدين ليست هي غاية الدولة.
    مشكلتنا في العالم الإسلامي والتي ندفع ثمنها اليوم أكثر من أية لحظة خلت، هو عندما نمزج بين الدولة والدين، إذا انتصرت الدولة على حساب الدين، أي إذا احتوت السياسة أمور الدين يتحول نظام الدولة إلى نظام مضطرب، بما أن الدولة تتأسس على الديمقراطية وحقوق الأقليات والحرية الفردية وحرية التعبير، في حين أن الدين يحكم بالحد معتبرا قوانينه صالحة لكل زمان ومكان، على عكس ذلك إذا انتصر الدين على الدولة، أي إذا أصبح الدين هو أساس الدولة نحكم باسم التقوى والفضيلة والورع والخطايا، فتنتفي المؤسسات لصالح الاعتباطية في تنظيم حياة الإنسان، وتتبنى الدولة دينا بعينه، فنصبح بلغة الفيلسوف الألماني هيجل أمام دولة دين، والتي لن تتميز إلا بالتعصب للدين الواحد، ونفي كامل لحرية الاعتقاد من جهة، أو حرية تغيير الدين من جهة ثانية.
    ربما يمكن أن نعثر على هذا الخلط في التاريخ، وذلك بعودتنا إلى أصول الدولة الإسلامية، حيث كان يُجمع دوما بين الحاكم بأمر الله والحاكم بأمر الدنيا، فهو الذي يشرع أي أنه رجل الدولة، وفي نفس الوقت هو الذي يمثل ظل الله في أرضه، حيث يحكم دينيا وسياسيا، وهو ما يجعل الدين يتداخل في الدولة والعكس، كأننا نحاول خلط الماء بالزيت، صحيح أن بنية العصور الوسطى كانت تتأسس على الحكم باسم الدين، لكن في أوربا مثلا كانت الكنيسة مستقلة شيئا ما عن قصور الحكم، عكس العالم الإسلامي الذي كانت قراراته تؤخذ من نفس الشخص، أي الشخص الذي يمثل الدين والدولة في نفس الآن،  بيد أنه عندما يتراكم هذا الخلط فإنه يصل أحيانا إلى مسألة الشرعنة، فيحاول الدين أن يطوع الدولة تماما، كما تحاول هذا الأخيرة أن تجعل الدين في خدمتها، وهو ما يتنافى وطبيعة المجالين، في نفس السياق بل وفي هاته الظرفية بالذات، سيقول قائل أنه ومن أجل تجاوز هذا الخلط الذي جر علينا الويلات أن نفصل بين الدين والسياسة في إشارة إلى تبني العلمانية، سيكون من المغامرة بمكان اتباع هذا الطريق، حيث ستقوم الثقافة كعامل مقاوم لهذا الأخير، عندها ستدخل كلاعب ثالث مع الدين والدولة، للعلمانية شروطها الإبستيمولوجية والفكرية والسياسية والذهنية كذلك، من ثمة لا بد أولا من استيعاب أن مسألة وضع الدولة في سكتها الحقيقية رهين برسم الحدود بين الدين كحياة داخلية للإنسان، وبين الدولة كشأن دنيوي، أما إذا كان لا بد من تدخل لطرف على حساب طرف آخر فإن الدولة اليوم هي من عليها أن تنظم الحياة الدينية، وأن تُربي الناشئة على روح الاختلاف وقبول الرأي المضاد وحرية التعبير والتدين دون المساس بقناعات من يخالفونا الرأي أو الاعتقاد.