عن أكاديمية
تعمل المنظمة العالمية للتجارة وتوابعها على إغراقنا بخطاب أشبه بالرقيا عن مزايا الشمولية ومحاسنها ، وذلك بغرض التقليل من مخاوفنا وضمان انخراطنا ومشاركتنا في برامجها : ومن بين هذه المحاسن والمزايا شعارات التجارة في خدمة السلام ، التعاون الاقتصادي العالمي من أجل تأمين رفاهية الشعوب ، عدالة وشفافية القواعد . . . الخ . ومع ذلك فإن النعيم والسعادة التي ما فتئت تعدنا بهما يتم في كل وقت وحين إرجاؤهما إلى ما بعد . وفي انتظار هذه السعادة وذلك النعيم فإن الشركات العابرة للأوطان ، وهي المستفيد الحقيقي من هذه الشمولية ، تنوي إقحامنا وتجنيدنا كأدوات في الحرب الاقتصادية ، وجعلنا نتكبد عواقب ونتائج المنافسة العالمية ، من خلال جعلنا نتكيف مع القوانين الاقتصادية الصارمة للمنافسة .
هجوم كاسح على الخدمات العمومية
إن هذه الاتفاقية التي وقعت في مراكش سنة 1994 هي اليوم في قلب الأحداث . وبالفعل ، فهذه الاتفاقية الإطار ينتظر التفاوض بشأنها كل خمس سنوات إلى حين تنفيذها بالكامل ، أي إلى حين إنجاز التحرير الكلي لكل قطاعات الخدمات العمومية المذكورة وعددها 160 . ولقد أعيد إطلاق المفاوضات الجديدة في فبراير 2000 بجنيف في إطار أكبر قدر من السرية والتعتيم؛ فقد تحاشى الوزراء الدعاية لهذه المفاوضات ، إذ أن الأمر يتطلب كامل الحذر باعتبار أن هذه الاتفاقية تعتبر هجوما كاسحا على الخدمات العمومية ! فلن تعفي الاتفاقية أي مجال : المياه ، الطاقة ، البريد ، السكك الحديدية ، المكتبات ، المتاحف …. وبخاصة مجالي الصحة والتعليم ؛ ف ” التعليم ” بالنسبة للآخذين بالليبرالية ” إلى جانب الصحة العمومية ، هما آخر الحصون والقلاع التي يجب غزوها ” (2) .
لقد حاول حكامنا طمأنتنا وبذلوا كل الجهود من أجل ذلك من خلال جعلنا تعتقد بأن التعليم ليس مطروحا على جدول أعمال المناقشات المتعلقة بهذه الاتفاقية . الحكومة الكندية وحدها كانت أقل نفاقا ، فهي لا تخفي من جهتها بأنه تم ” الاعتراف من قبل عديد من البلدان بأن خدمات التعليم تعتبر قطاعا يحوز الأسبقية في المفاوضات المرتقبة بخصوص تجارة الخدمات ” (3) . أما بخصوص البعثة الأمريكية ، فقد سبق لها أن أعلنت عن مطالبها في مجال خوصصة التعليم الجامعي والتكوين الخاص بالكبار . ومن أجل فهم ما يطبخ حاليا بالمنظمة العالمية للتجارة فإن إحاطة متكاملة تفرض نفسها بخصوص ما يجب أن ندعوه منذ اليوم : السوق الكونية للتعليم .
التعليم : ” سوق كونية “
تبلغ مصاريف التعليم 200 مليار دولار ، أي 20/1 من الناتج الداخلي الخام العالمي (4) و ” التعليم ” بالنسبة لغلين ر.جونز ، الرئيس المدير العام لشركة جونز العالمية المحدودة ” هو أحد الأسواق ذات إيقاع النمو السريع جدا ، وينتظر أن يعرف التكوين الخصوصي وصناعة تعليم الكبار نسبة نمو برقمين خلال العشرية القادمة كلها ” (5) ، وهو ما يثير شجع العديد من الناس. ومن ثمة فإن التعليم العمومي يضحي المنافس الذي يجب إلى وضعه الملائم . ” إنه يجري الآن إصلاح عميق للتعليم العمومي ، وهو إصلاح موجه نحو السوق وعن طريقها ” (6) ، وحسب منظمة اليونيسكو ” فإن القواعد المؤطرة لانفتاح مدرسة ما في عديد من البلدان قد تم تبسيطها وتيسيرها ، ويتم تحويل تدبير المؤسسات العمومية إلى شركات خاصة . الخطوة الموالية تتمثل في تحويل المدرسة إلى مقاولة بمعنى الكلمة ” (7) . إن بعض الحكومات هي موافقة بشكل كلي ؛ فالحكومة الفيدرالية بالولايات المتحدة منكبة على إصلاح أنظمة التعليم بتعاون وثيق مع التحالف الوطني للتجارة National Alliance of Business ، وهو لوبي جد قوي (8) .
وقد انتهت الإصلاحات البرلمانية بزيلندة الجديدة إلى وضع ” البرنامج التحريري للتعليم الأكثر جرأة ، والذي لم يتم العمل به من قبل في أي بلد من البلدان الغنية ” (9) . كما أن مجال تدبير المدارس العمومية بكاملها أضحى ببريطانيا العظمى منذ مدة بين أيدي الشركات الخاصة كشركة بروكتر وغامبل أو شركة شال العالمية .
ويقترح عدد متزايد من الجامعات العمومية في مواجهة الانخفاض المتوالي للإنفاق الحكومي أنواعا من التكوين المؤدى عنه كأوكسفورد بإنجلترا (10) وماك جيل بكندا . . . وقد تحولت بعض الجامعات بالكامل إلى مقاولات كجامعة هوناش بأوستراليا .
أما بأوربا فإن الإصلاحات المطلوبة بغرض خوصصة أنظمة التعليم العمومي فيتم إدراجها واعتمادها بشكل تدريجي ، غير أن الموضوع جد حساس مما يفرض التحرك بحذر . وقد قررت اللجنة الأوربية أن تأخذ المسألة على عاتقها تحت ضغط المائدة المستديرة لرجال الصناعة الأوربيين (ERT) ، وفي هذا الإطار فإن تكنولوجيات التكوين والتواصل الجديدة توفر مبررا مثاليا . وتحت عصا المفوضة الأوربية فيفيان ريدينغ قرر وزراء التربية ” أن يتعبأوا من أجل الانخراط الكلي في الاقتصاد الجديد ” (11) . وينتظر قبل نهاية سنة 2001 أن يتم ربط مجموع المدارس الأوربية بشبكة الأنترنيت، وفي الوقت الذي يتم فيه إنقاص أعداد المدرسين وتخفيض أجورهم فإن أجزاء متعاظمة من الميزانيات الوطنية المخصصة للتعليم يتم تخصيصها لنشر المعلوميات بالمدارس (12) وهو ما يسعد كثيرا تجار البرمجيات والمنتجات التعليمية وصانعي الحواسيب كشركة IBM وهيوليت باكار HP ، وصانعي الميكروبروسيسور كشركة إنتل ومايكروسوفت وسن . . . دون أن نغفل الشركات العملاقة في مجال الاتصال . ويستجيب هذا التحويل للأموال العمومية نحو المقاولات الخاصة في المقام الأول لرغبات الطاولة المستديرة لرجال الصناعة الأوربيين (ERT) ، ويتمثل الهدف الثاني في أن يتوفر لاقتصاد القرن الواحد والعشرين يد عاملة متحركة ، مرنة ومتكيفة وقادرة على ممارسة التكوين طيلة الحياة ـ في أوقات الفراغ وعلى حسابها الخاص ـ ، أو باختصار يد عاملة حديثة (13) .
ولمناقشة الأولويات ، يلتقي رجال الصناعة الأوربيون (ERT) رئيس الاتحاد الأوربي كل ستة أشهر ، ومجموعة الضغط هاته يترأسها منذ سنة 1999 موريس تاباكسبلات ، رئيس الشركة الإنجليزية ـ الهولندية ريد إيلسوفيي التي تعلن عن نيتها في التحول إلى زعيم عالمي لقطاع التعليم والنشر على شبكة الأنترنيت .
وقد أوجد رجال الصناعة الأوربيون من أجل متابعة تقدم المفاوضات بالمنظمة العالمية للتجارة فريق عمل يهتم بالعلاقات الاقتصادية الخارجية ، وليس رئيسه سوى بيتر سوثرلاند ، رئيس شركة BP أموكو والمدير العام السابق للغات ما بين 1993 و 1995 . وحتى يضمن هذا اللوبي تمرير تعليماته للحكومة فهو لا يتوقف عن توجيه التحذير التالي : ” إن الصناعة في نهاية المطاف هي التي يجب أن تتحمل بشكل كامل وكلي مسؤولية التعليم والتكوين ( … ) فالتعليم يجب أن ينظر إليه باعتباره خدمة تم إرجاعها لعالم الاقتصاد (…) ” .
ومن المؤكد أنه لن يتم إلغاء أنظمة التعليم العمومية كليا ؛ فحسب المنطق المعمول به في الاقتصاد الليبرالي : أي خوصصة الأرباح وإطفاء الطابع الاجتماعي على الخسارة ، فإنه سيظل هنالك دور معين على الدول أن تلعبه . وهكذا ترى منظمة OCDE أنه ” ليس على السلطات العمومية سوى تأمين الوصول إلى التعليم لأولئك الذين لن يشكلوا أبدا سوقا مربحة والذين سيتفاقم إقصاؤهم من المجتمع عموما بمقدار ما سيستمر الآخرون في التقدم ” (14) . وموجة الخوصصة هاته لن تهم بطبيعة الحال البلدان الغربية وحدها .
البنك العالمي في خدمة
الشركات المتعددة الجنسيات
لقد كانت بلدان العالم الثالث طوال الثمانينيات وتحت التأثيرات المشتركة لكل من صندوق النقد الدولي FMI والبنك العالمي مضطرة للإنقاص من بشكل كبير من نفقات الدولة ، وبخاصة في ميادين الصحة والتعويضات الاجتماعية والتعليم ، كما كانت مضطرة أيضا لتسريح المدرسين وإغلاق المدارس وقطع الإمدادات المالية عن الجامعات . وكما كان متوقعا فقد أضحت الوضعية تبعا لذلك كارثية .
سنوات بعد ذلك أعلن نفس البنك عن أسفه ” للمستوى الرديء للتعليم في البلدان ذات العائدات الضعيفة ” (15) ، وقد بدا له ذلك أكثر ضررا من ” الاستخدام المنتج لليد العاملة باعتباره مورد الفراء الرئيسي (…) فإن التعليم ، والابتدائي منه خاصة يسهم (…) في الرفع من إنتاجية عمل الفقراء (…) ” ، وبالنظر إلى ” أن أنظمة تمويل وتدبير التعليم الحالية وغير الملائمة تخلق العديد من المشاكل والتحديات ” فإن البنك ” دعا ” الحكومات منذ ذلك الحين إلى إعطاء الأولوية للاستثمار في التعليم القاعدي ! إلا أن خلف هذا الاعتناء المزعوم كانت تختبئ استراتيجية جد خاصة ؛ فالهدف كان هو تسليم القطاعات الثانوية والجامعية لرجال صناعة التعليم . ولتحقيق هذا الهدف فإن البنك ” شجع على اللجوء إلى القطاع الخاص ” ، و لا حاجة للقول إنه ينصح للحصول على قروض البنك العالمي بإذعان : ” البلدان المهيئة بالنسبة للتعليم الجامعي لتبني إطار تشريعي وقانوني …سيتدخل فيه القطاع الخاص بشكل أكبر فأكبر على مستوى التعليم والتمويل هي بلدان ستحضى بالأولوية بشكل دائم ” (16) ، على هذه البلدان إذن ” إصلاح أنظمة التعليم المدارة بشكل مباشر من قبل الإدارات المركزية أو الدولة ، والتي لا تترك إلا هامشا ضيقا للمبادرة . . . ” .
ولتحاشي أن يضل المشرعون فقد ضغط البنك العالمي على الحكومات مباشرة ؛ لقد ” ساعدها ” على ” إيجاد بيئة ملائمة لتطور القطاع الخاص من خلال إلغاء العقبات القانونية والتنظيمية وتسريع وتيرة إصلاح المقاولات العمومية وتشجيع توفير الخدمات العمومية عن طريق القطاع الخاص … ” . بالهند ، ومند بداية التسعينيات ، حسمت الحكومات المتعاقبة أمرها بخصوص تنفيذ البرنامج الموقوت للخوصصة المملى من قبل البنك العالمي ، فـ % 75 من الجامعات هي الآن جامعات خصوصية بمحافظة ليرالا ، وقد أضحت اللغة الإنجليزية بشكل متزايد لغة التعليم الأولى ، و % 60 من الثانويات بساحل العاج هي منذ اليوم كذلك مؤسسات خصوصية (17) .
بأمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا يصعد نجم صناعة التعليم بنفس السرعة التي تتوفر بها دروس السوق المقترحة من قبل بنك المعطيات إدانفيست Edinvest ، وهو أحد ملحقات البنك العالمي . هل ترغب في الاستثمار في مجال تدبير المؤسسات التعليمية ؟ أم في برامج تبادل الطلاب والتلاميذ ؟ أم في مجال القروض المخصصة للطلبة ؟ أم في مجال التعليم الأهلي ؟ أم في مجال اختبارات التقويم ؟ أم الدعم المدرسي ؟ التعليم عن بعد ؟ يكفيك أن تختار بلدا من البلدان ليكون بإمكانك الوصول إلى لائحة عريضة من الفرص . ولأن البنك العالمي يرغب في ” توفير فرصة وحيدة من فرص سوق الأعمال والصفقات للشركات المتعددة الجنسيات ” (18) فقد أوجد أداة جد فعالة تتمثل في ” التحالف من أجل التعلم الشمولي Alliance for Global Learning ” (19) المختص في مجال التعلم عن بعد أو e-learning . وهذا التحالف ” يحصل على قاعات المعلوميات ويكون المدرسين ويتعاون مع الحكومات والقطاع الخاص من أجل تطوير برامج التدخل ” . ومن بين المحتضنين ، عفوا ” الشركاء والمانحون الكرام ” فإننا نجد أنفسنا أمام أبناك الأعمال المعتادة والمألوفة : ج ب مورغان ، غولدمان ساش ، مكتب المستشار إرنست ويونج ، وبضع شركات من شركات المعلوميات المتعددة الجنسيات ، غير المهتمة كليا بالربح مثل 3Com أو سن ميكروسيستم . وهذه المقاولة ممثلة من قبل جون كاج من الأطر المسيرة العليا ، وهو يلخص في كلمة روح المقاولة : ” إننا في شركتنا نوظف مستخدمينا عن طريق الحاسوب وهم يعملون على الحاسوب كما يتم تسريحهم عن طريق الحاسوب ” (20) وهذا كما يظهر برنامج متكامل .
الطلبة : صنف جديد من الفقراء
إن تحويل التعليم إلى صناعة يستلزم جعله مجالا مربحا . ومن ثمة عفا الله عن التعليم المجاني للجميع ، هذه المجانية الواردة مع ذلك في البند 13 من المعاهدة العالمية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية ، الاجتماعية والثقافية ( الأمم المتحدة 1966 ) . إن التنامي المطرد لكلفة الدراسة بالنسبة للتلاميذ وآبائهم ينتهي بخلق صنف جديد من الفقراء ألا هم الطلبة .
منذ سنة 1992 أعلن برتراند كلوزيل ، الرئيس المدير العام لمؤسسة Educinvest(21) ” أن مستقبلا واعد ينفتح أمام التعليم التجاري (…) وإذن يجب أن نعود الناس على أداء ثمن دراستهم ” ، وذلك أيضا هو رأي ساندي كودفيري ، المديرة العامة للجامعة الأسترالية ديكين Deakin : ” أعرف أن الكثير من الجامعيين يعتقدون بوجوب أن يكون التعليم مجانيا وكونيا ، لكن الحقيقة هي أن للتعليم قيمة تجارية ؛ فالاستمرار ماليا في التعليم يعني ضمان العائدات للفرد وتأمين مستقبله ” .
غير أن المستقبل بالنسبة للملايين من الطلبة هو مرادف للمديونية ، والمنح الدراسية يتم الحصول عليها أكثر فأكثر بفعل الكفايات وليس بفعل الحاجات . إن التلاميذ بكولومبيا على سبيل المثال يتمون دراستهم وقد تحصل بذمتهم كديون مقدار يتراوح ما بين 20.000 و 50.000 دولارا حسب الشعب ومدة الدراسة . وبإفريقيا فإن كلفة الديبلومات على الخط المعروضة من قبل الجامعات الأجنبية هي كلفة فاحشة حتى في ما يخص البرامج المدعمة بشكل واسع كما هو الشأن في الجامعة الإفريقية البصرية (عبر الأنتيرنت) ؛ فكل وحدة من وحدات القيمة التي تبث دروسها من كندا أو المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة تكلف ما بين 200 إلى 300 دولارا .(22)
وما هو أدهى من ذلك هو أن تحرير حقوق التسجيل في عديد من البلدان يمكن من فرض أسعار أغلى على الطلبة الأجانب . وفي هذه اللحظة بكندا فإن الباطرونات المجتمعين في غرفة التجارة بمونتريال يمارسون ضغوطا من أجل تحرير حقوق التمدرس في الجامعات .
ومن ثمة فإن البلدان الغربية تنخرط في منافسة ساخنة من أجل جلب ” الطلبة الأجانب الذين يمولون بأنفسهم دراستهم . ويقدر هذا السوق بـ 130 مليار فرنك بالنسبة لمجموع العالم ” (23) . وتجعل مؤسسة Edufrance من هذا الهدف الهدف الأولى من غيره . إن هذه المؤسسة التي أسست سنة 1998 من قبل وزارتي التعليم والشؤون الخارجية تدار من قبل فرانسوا بالمون ، وهو الرئيس السابق لمؤسسة Sodeteg وهي أحد فروع شركة طومسون CSF . لكن ومن أجل توسيع ” سوق الطلبة ” هذا ، يجب امتلاك القدرة على جلب الشبان الذين ليست لديهم موارد مالية خاصة ، لذلك يتم إحداث أنظمة اقتراض مخصصة للطلبة في عديد من البلدان . ويعتبر البنك العالمي بطبيعة الحال في العالم الثالث هو الجهة التي تنجز هذه المشروعات بشراكة مع كبريات الأبناك العالمية كبنك سيتي بنك . وزيادة على ذلك فإن المغامرة تبدو له محفوفة بالمخاطر . إن البنك الذي لا يخجل من أي شيء يتساءل : ” ويطرح على نفسه بطبيعة الحال مشكلة السمة المتقلبة للوفاء بالديون في بلدان ليس من السهل فيها الحصول على عمل حتى ولو بعد إنجاز فترة دراسة جيدة . إلا أن المسألة تستحق أن تعالج وتفحص ، ويكفي أن يتم ذلك من خلال مطالبة المستدين أو أسرته بتوفير ضمانة فعلية أو شخصية ” (24) .
إن مجموع النظام التعليمي طالته موجة الخوصصة هذه ابتداء من دور الحضانة وانتهاء بالتكوين الخاص بالبالغين . لكن هذه الصناعة مبنينة بشكل أدق في القطاع الجامعي ومجال تكوين البالغين ، وذلك هو السبب في أن المفاوضات الحالية بالمنظمة العالمية للتجارة لا تتعلق ” إلا ” بهذين القطاعين فقط .
المنظمة العالمية للتجارة :
أهي وزارة كونية للتعليم ؟ ..
إن هندسة الاتفاق العام لتجارة الخدمات AGCS هندسة معقدة ؛ فلم يتم إلى الآن إنجاز هذا الاتفاق بشكل نهائي إذ أن بعض بنوده هي عرضة للتأويل . إن تعريف الخدمات التي يغطيها هذا الاتفاق تدرج خدمات التعليم عندما تكون هذه الأخيرة غير ممولة و لا مدارة بشكل كامل من قبل الدولة . بيد أنه لدى غالبية البلدان أنظمة هجينة حيث يحتل القطاع الخاص مكانة أعظم أو أقل كبرا إلى جانب القطاع العام . وفي هذه الظروف فإن ” وجود الخدمات العمومية ذاته يمكن طال الزمن أم قصر أن يكون محل إعادة نظر ” (25) .
خطاطيا يمكن تقسيم هذا الاتفاق إلى جزئين : أولهما يتعلق بالأنظمة والالتزامات العامة التي تنطبق على 160 قطاعا من قطاعات الخدمات : قواعد حول الشفافية ، أشكال الدعم المالي ، التنظيم الداخلي . ويجمل إلغاء التقنينات المنظور إليها باعتبارها تقنينات أكثر صرامة مما يجب بالنسبة للتجارة ( البند 6 ) . وأكثر من ذلك فإن عليها أن تستجيب لـ ” هدف سياسي مشروع ” .
والمنظمة العالمية للتجارة بطبيعة الحال هي التي تقرر في أمر المشروعية هذا ، ومن الأمثلة على الإجراءات التي ستتم غربلتها نذكر : شرط الجنسية للتمكن من فتح مؤسسة تعليمية ، التقنينات المتعلقة بمسألة الاعتماد ، شرط الجنسية بالنسبة للأساتذة وأعضاء المجالس الإدارية ، الاحتكارات العمومية والدعم المالي الكبير للمؤسسات التعليمية الوطنية .(26)
الجزء الثاني من الاتفاق ينطبق على الالتزامات الخاصة والنوعية ، أي على الخدمات التي التزمت البلدان الأعضاء بالإنقاص منها وتقليصها تدريجيا وصولا إلى الإلغاء النهائي لكل الإجراءات المعيقة للتجارة .
إن هدف المفاوضات الجارية هو جعل أكبر عدد من البلدان تضع لوائح التزاماتها ؛ ففي سنة 1994 وإبان توقيع الاتفاق ، 46 بلدا ” فقط ” كانت قد التزمت بتحرير مجال التعليم ، ويتعلق الأمر بالنجاح في الانفتاح الكلي للأسواق ومعاملة المقاولات الأجنبية على قدم المساواة مع المقاولات الوطنية (البندان 16 و 17) .
هل أنتم في حاجة إلى جامعة واحدة في ناحيتكم ؟ .. يمكن أن تكون لديكم عشر جامعات ، وذلك لأنه سيكون من الممنوع تقليص عدد المزودين العاملين في منطقة ترابية معطاة . أما الدعم المادي للمؤسسات الوطنية فسيكون من المشكوك فيه أن هذه المؤسسات تمارس منافسة غير مشروعة (27) . أتريدون تقليص مساهمة المزودين الأجانب في الرأسمال ؟ .. سيكون ذلك ممنوعا . أتريدون الحيلولة دون قيام مؤسسات ذات أهداف ربحية مع إمكانية تحويلها لهذه الأرباح إلى الخارج ؟ .. لن يكون ذلك من حقكم أبدا .
وأخيرا ، فإن الاتفاق العام لتجارة الخدمات يتوفر على ورقة جوكير لا مثيل لها : وهو البند 23.3 الذي يسمى أيضا ” الشكاية في حالة عدم الخرق ” ؛ ويمكن هذا البند شركة ما للخدمات عرفت ” مزاياها المحسومة ” تقليصا أو إلغاء بفعل تقنين هو مع ذلك مطابق لمقتضيات الاتفاق من أن ترفع شكاية للمنظمة عبر حكومتها وتتوصل بتعويضات . ومن ثمة فلم يعد الأمر يتطلب أن تكون مسؤولا عن جرم ما حتى تتم معاقبتك .
وتلجأ المنظمة من أجل إلغاء الحواجز التجارية إلى استشارة الصناعيين بشكل مباشر ؛ فقد تم توجيه استمارات لهم عن طريق مختلف اللوبيات ، وبالنسبة للتعليم فإن الغات GATE هي التي تقوم مقام المنظمة (28) . الغات GATE وهو التحالف الشمولي من أجل تعليم عابر للأوطان يترأسه السيد كلين ر.جونز ، الرئيس المدير العام للجامعة البصرية جونز العالمية ، وهذه الشركة أيضا هي أحد أعضاء اللوبي الأمريكي المسمى التحالف الوطني من أجل التجارة National Alliance of Business . وقد نظمت الغات بشراكة مع Reed-Elsevier في ماي 2000 بفانكوفير صالون السوق العالمي للتعليم (WEM) . . . (29) .
وتلتقي اللجنة الأوربية من جهتها ، وبشكل أدق الإدارة العامة للتجارة الخارجية DGI بالصناعيين بشكل منتظم ودائم .
الاتفاق العام لتجارة الخدمات من أجل
الشركات العابرة للأوطان وعن طريقها
إن هنالك شبه التحام في ما بين أوساط رجال الأعمال واللجنة الأوربية ، والدليل على ذلك في هذه النبرة : ” ليس الاتفاق العام لتجارة الخدمات شيئا ما يوجد في ما بين الحكومات ، فهو أولا وقبل كل شيء أداة يستفيد منها عالم الأعمال والصفقات ” (30) والإدارة العامة للتجارة الخارجية DGI تكد وتجتهد بدون حساب لجعل الوزارات تتبنى شروط ومطالب الصناعيين .
وقد استدعى مديرها ليون بريتان في سنة 1998 الباطرونا الأوربية كي يعرض عليها الأداة الجديدة المخصصة لتسريع المفاوضات بالمنظمة العالمية للتجارة : وتتمثل هذه الأداة في بنك المعطيات « Market Acsess Database » ، وقد صاح هذا المدير مغتبطا ” خبرونا عن الأسواق التي تعترضكم فيها عراقيل حكومية ، أي العراقيل التي يسهل تحييدها عن طريق المفاوضات التجارية ” . ولو أن السير ليون Sir léon لم يعد عضوا في اللجنة منذ سنة 1999 فإنه لا زال مع ذلك يغشاها باستمرار بفضل وظيفته الجديدة كلوبي . وقد أصبح في شهر فبراير 2000 رئيس أحد اللوبيات الممثلة للصناعة المالية لإنجلترا ، وأيضا نائب مدير البنك UBS Warburg .
ومن جهته فإن المدير الحالي لـ DGI باسكال لامي ، المكلف بالمفاوضات في كنف المنظمة العالمية للتجارة ، هو أيضا عليم متضلع بخفايا سياسة بروكسيل ومجال الأعمال والصفقات . لقد عمل ما بين 1984 و 1994 مديرا لمكتب جاك دولور وهو حينها رئيس اللجنة الأوربية ، ثم أصبح في ما بعد مديرا عاما للقرض الليوني حيث كان يشرف على عمليات الخوصصة ، وكذا رئيسا للجنة المستقبلية لتنظيم الباطرونا CNPF ، وهو المسمى حاليا MEDEF .
إن العلاقات وثيقة في ما بين التكنوقراطيين الأوربيين ورجال الصناعة ؛ ففي سنة 1998 أنشأ السيدان ليون بريتان ورئيس بنك باركلايز أندرو بوكستون لوبيا قويا بغاية التتبع عن قرب للمفاوضات المتعلقة بالاتفاق AGCS ، ويتعلق الأمر بمنتدى الخدمات الأوربية European Services Forum(ESF)(32) . وبطلب من روبير مادلان ، عضو DGI تم تكليف المنتدى بوضع لائحة بـ ” عوائق التجارة ” في القطاعات الموصوفة بأنها ” حساسة ” ، والمتمثلة في البيئة ، القطاع السمعي ـ البصري ، الصحة والتعليم (33) . وفي شهر نونبر 2000 مولت مصالح باسكال لامي في حدود 50.000 أورو مؤتمرا هاما نظم من قبل منتدى (ESF) . الهدف كان هو معرفة المآل الذي وصلت إليه المفاوضات بخصوص الاتفاق (AGCS) ! ، وبصالونات فندق شيراتون ببروكسيل اجتمع تكنوقراطيو DGI وأعضاء مجلس تجارة الخدمات بالمنظمة العالمية للتجارة وممثلون عن السكرتارية الأمريكية للتجارة وكذا عديد من اللوبيات الأوربية والأمريكية أيضا .
خطابات الدفاع عن أوربا في وجه الولايات المتحدة كانت خافتة ؛ فحضور اللوبي الأمريكي كان من الممكن أن يفاجئ . ومع ذلك فبضعة خلافات في ما بين الأمريكيين والأوربيين لا يجب أن تخفي المصالح المتقاربة لدى صناعيي ساحلي الأطلسي . مؤكد أن حضور فيفاندي العالمية ضمن التحالف الأمريكي لصناعيي الخدمات (USCSI) ليس خطأ من أخطاء casting . وأكيد أن الوفاق ليس تاما ، ولكنه ينحو نحو الاكتمال بفضل بضعة أدوات تم وضعها خصيصا لهذا الغرض (34) ؛ وذلك أن المنظمة العالمية للتجارة في حاجة إلى إرساء مصداقيتها ؛ فالنزاعات بين القوتين العظميين تصنع لها صيتا غير محمود أحد عواقبه يتمثل في تنامي الاحتجاج . لكن ليست تلك هي الصعوبة الوحيدة التي تواجه المنظمة ؛ إذ ساهمت بلدان الجنوب بشكل واسع في إفشال المؤتمر الوزاري بسياتل في شهر ديسمبر 1999 . وتبدو المنظمة في المفاوضات الجارية حاليا أكثر تصميما على إسماع صوتها ، وعلى تأكيد أن الاتفاق العام حول تجارة الخدمات تم التقرير بشأنه رغم معارضة هذه البلدان (35) .
المقاومة
إن عديدا كبيرا من الجمعيات التي كانت حاضرة في معركة سياتل انكبت من جهتها على العمل مجتمعة حول أرضية تقول : ” إما أن تخضع المنظمة العالمية للتجارة وإما أن تلغى ” . وباعتبار الاتفاق العام حول تجارة الخدمات ” غير قابل للتحسين و لا للتفاوض ” (36) ، فإن الاستنتاج هنا يفرض ذاته . يجب أن نحقق الإيقاف الفوري للمفاوضات الجارية حاليا ، والقيام بتقييم عميق لعواقبها ، وربما الانتهاء ” بنزع المصداقية عنها “.
إن هذه الشركات تشترط أن تمتلك القدرة على أن تتصرف كما يحلو لها وبما يخدم مصالحها (1) ، بحيث يجب إلغاء كل ما يشكل عرقلة في وجه ممارسة التجارة . وبهذا الصدد فقد تبين أن المنظمة العالمية للتجارة هي الأداة المثلى لتحقيق هذه الغاية ؛ فهي بدعوى تنظيم المبادلات التجارية تبسط سلطتها لتطال مجالات وميادين كانت لا تزال تعتبر إلى عهد قريب شأنا وطنيا . ومن ثم فقد تم رهن الخدمات العمومية والتعليم على الخصوص عن طريق اتفاقية ملتبسة و لا واضحة هي اليوم موضوع مفاوضات ، وتسمى : الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات AGCS .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق