الاثنين، 10 ديسمبر 2018

حراك السترات الصفراء في فرنسا: هل تشهد العولمة منعطفها الأخير؟ - عبد الحميد العلاقي


عن أنفاس نت


السبت، 27 أكتوبر 2018

مفهوم التسامح بين الفلسفة وحقوق الإنسان - أحمد رباص

أنفاس نت

راودتني فكرة الكتابة حول هذا الموضوع منذ أيام، لكن عندما أردت تصريف الفكرة عمليا عشت، أثناء صياغة العنوان، لحظة تردد بين الصيغة المختارة عاليه وبين الصيغة الأخرى التي تشير إلى مفهوم التسامح بين حقوق الإنسان والفلسفة. إن ما حملني بالأساس على اختيار الصيغة الأولى بدل الثانية هو أسبقية الفلسفة على حقوق الإنسان التي يجرى الآن التأسيس لها فلسفيا.
1 - تأملات فلسفية حول مفهوم التسامح
في البداية، أعلن أن البحث في القواميس عن دلالة ومعنى كلمة «تسامح» لأجل المقارنة بين أشكال حضوره في لغة أو أكثر لا يدخل ضمن مقاصد هذا المقال. نحن نعلم أن هذه المهمة البيداغوجية قام بها، على أحسن وجه، العديد من الدارسين نخص منهم بالذكر سمير الخليل من خلال مقاله القيم عن «التسامح في اللغة العربية» والموجود ضمن كتاب جماعي بعنوان «التسامح بين شرق وغرب». لكن الأهم من كل ذلك، بالنسبة لسياق موضوعنا، هو أن تعني الكلمة نفسها في اللغة العربية ما تعنيه كلمة» TOLERANCE» في اللغة الفرنسية.
من الناحية التاريخية، يعتبر هذا المفهوم وليد حركة الإصلاح الديني الأوربية التي اقترحته كحل لإنهاء الاقتتاال الطويل الأمد بين أتباع المسيح خلال القرن السادس عشر وكمدخل لإرساء أسس الاعتراف المتبادل بينهم. لهذا ظل المفهوم ذا حمولة دينية وعد نداء «للمحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة»؛ على حد تعبير جون لوك في رسالته في التسامح التي نقلها إلى اللغة العربية عبد الرحمن بدوي. لكن، شيئا فشيئا، أخد نطاق المفهوم يتسع ليشمل، فضلا عن الدين، السياسة والثقافة والاجتماع. وهكذا أصبح من مقتضياته الاعتراف للفرد/المواطن بحقه في الاختلاف في الاعتقاد والرأي وبحقه في التعبير عن اعتقاده ورأيه سواء كان مجالهما دينيا أو سياسيا أو فلسفيا.
في نهاية المطاف، أفضى مسار تطور المفهوم إلى اعتباره إحدى دعائم الحداثة السياسية والفكرية. قبل ذلك، ساهم فلاسفة ومفكرون أمثال سبينوزا وروسو وفولتير في إحداث نقلة نوعية على مستوى إغناء دلالته وتوسيع مجالات استعماله. في هذا الإطار، كتب سبينوزا متسائلا في الفصل الأخير من رسالته في اللاهوت والسياسة: «إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها»
من جهته، كتب روسو في «العقد الاجتماعي»: «يخطئ في نظري أولئك الذين يفصلون بين اللاتسامح المدني واللاتسامح اللاهوتي. فهذان النوعان لا انفصام بينهما. إذ من المتعذر العيش بسلام إلى جانب من نعتقد أنهم هالكون. فإذا أحببناهم وقبلناهم نكون قد غلطنا في حق الإله الذي عاقبهم. فلا بد إذن من أن يردوا أو يعذبوا. فحيث يكون اللاتسامح الديني مقبولا، يكون من المتعذر ألا تتمخض عنه نتائج مدنية. وحالما تتمخض عنه هذه الآثار تزول عن هيئة السيادة سيادتها حتى في الأمور الدنيوية، عندئذ يغدو الكهنة أرباب السيادة الحقيقية، ولا يكون الملوك إلا ضباطا لهم»
لكن على رغم هذه الهالة المضيئة التي أحاطت بمفهوم التسامح وعلى رغم اتساع نطاق دلالاته، ظل مرتبطا بمفاهيم المحبة والإحسان. لهذا السبب، حيل بينه والأجرأة الملائمة لدى أصحاب الأرض التي شهدت مولده ونماءه؛ ذلك أن الغرب المعاصر أبان عن قدر من اللاتسامح والتعصب والعنصرية من خلال علاقاته مع المستعمرات السابقة والأقليات المهمشة. وعليه، فقد أصبحت الحاجة ماسة إلى تثبيت المفهوم على دعائم فلسفية متينة تخرج به من الإطار الإلزامي الأخلاقي الضيق إلى رحابة الاعتراف به كحق مشروع. بيد أن ما يرفع من درجة صعوبة هذه المهمة الأخيرة هو أن المفهوم لم يحظ بعد بحد أدنى من الإجماع نظرا لكونه ما زال يثير اختلافات جوهرية. فإذا حصل مبدئيا اتفاق على أن التسامح هو قبول الاختلاف، فهناك في المقابل عدم اتفاق على مفهوم الاختلاف ذاته. لقد توصلت بعض الدراسات الفلسفية المهتمة بالموضوع إلى مفهومين عن الاختلاف يقابلان مفهومين عن التسامح. من جهة، هناك التسامح الذي يتقبل الآخر لأنه لا يبالي به، ويقبل الاختلاف بعدم أخذه بعين الاعتبار، وهناك، من جهة أخرى، التسامح كانفتاح عن الآخر في اختلافه، واقتراب منه في ابتعاده
بالإضافة إلى ذلك، ثمة إشكالية كلاسيكية يمكن صياغتها على شكل سؤال كما يلي: ما العمل عندما يصبح التسامح مثل حب من طرف واحد؟ تعني هذه الإشكالية أن التسامح لا يمكن ان يظل بلا حدود؛ ذلك أنه ثبت تاريخيا وجود أقليات غير مستعدة بتاتا لأن تخالف نفسها،وبالأحرى أن تقبل اختلاف غيرها. لقد سبق لكارل بوبر ان طرح على نفسه نفس المعضلة، لكنه قبل أن يحاول اتخاذ موقف إزاءها يضع بعض الشروط فيقول: «طالما ظلت هذه الأقليات اللامتسامحة تناقش وتنشر نظرياتها باعتبارها مقترحات عقلانية، يتوجب علينا أن نتركها تفعل هذا بكل حرية، بيد أن علينا أن نلفت انتباهها إلى واقع أن التسامح لا يمكنه ان يوجد إلا على أسس التبادل، وأن واجبنا الذي يقتضي منا التسامح مع أقلية من الأقليات، ينتهي حين تبدأ الأقلية أعمال العنف. وهنا يطلع سؤال جديد: ترى أين ينتهي السجال العقلي وتبدأ أعمال العنف؟
2 - مكانة مفهوم التسامح في منظومة حقوق الإنسان
يشتمل التراث الثقافي للأمم المتحدة بالعديد من الأمثلة التي تشهد على التحول والانتقال في تصور التسامح من القيمة الأخلاقية إلى مستوى الحق المنصوص عليه تشريعيا. هكذا نجد ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تنص على اعتبار التسامح قيمة أساسية في العلاقات بين الدول والأفراد: «نحن شعوب المم المتحدة آلينا على أنفسنا أن نعيش وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاني السلام وحسن جوار. كما تنص مواد هذا الميثاق على ضرورة «تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك بدون تمييز حسب العنصر أو الجنس أو الدين»
ونظرا لأن ميثاق الأمم المتحدة وثيقة توجيهية ذات طابع معنوي وأخلاقي، وبالتالي غير ملزم، أصدرت نفس المنظمة الدولية الكثير من الاتفاقيات التي وقعت عليها الدول الأعضاء ما يعني أنها ملزمة باحترامها وتضمينها في تشريعاتها المحلية. إن هذه الاتفاقيات صيغ قانونية وتشريعات تتضمن التسامح كخلفية فكرية لها وأولها وأهمها في هذا الباب «اتفاقية إلغاء العبودية والاسترقاق»، بما تعنيه من إقرار للمساواة المطلقة في الحق في الانتماء للإنسانية دون أي تمييز في اللون أو العرق وفي الحق في الكرامة. يكمن الوجه الآخر لهذه الاتفاقية في إقرار حق الآخر، المختلف عرقا ولونا، في أن يحظى بالاحترام والكرامة الملازمين لكل كائن بشري.
من بين الاتفاقيات الدولية التي عجلت بالتحول المومئ إليه قبل قليل «اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز العنصري» (1965) و «الإعلان المتعلق بالقضاء على كل أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين والمعتقد» (1981) و «اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة « (1979) وغيرها من الاتفاقيات التي تشكل ثقافة سياسية كاملة متمحورة حول مفهوم التسامح، وقد انعكست هذه الاتفاقيات على مواثيق المنظمات الإقليمية، وعلى دساتير وقوانين مختلف الدول.
إن ممارسة التسامح هي الأساس الذي يتيح للأمم والشعوب التعايش فيما بينهم في وئام وسلام ضمن أجواء من التوادد والتآخي. ومن أجل تعزيز ودعم هذا المبدأ، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1995 ك»عام الأمم المتحدة للتسامح»، وأوضحت الجمعية العامة أن التسامح هو»الاعتراف بالآخرين وحسن تقديرهم، والقدرة على التعايش سويا والاستماع للآخرين».ولكون منظمة اليونسكو هي التي بادرت بالدعوة لإعلان «عام التسامح», فقد دعيت لتولي دور المنظمة القائدة لهذا العام، وقد تغزز مبدأ التسامح بإصدار وثيقة اليونسكو بشأن «إعلان مبادئ التسامح».
هذا، وقد أكدت القمة العالمية للعام 2005 على التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب (الوثيقة الختامية للقمة العالمية، قرار الجمعية العامة رقم 1/60 في 24 أكتوبر 2005، الفقرة 145).
غني عن البيان أن المفهوم المعاصر للتسامح يقوم على مبادئ حقوق الإنسان العالمية. لقد ربطت وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادر في 16 شتنبر 1955 بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي؛ حيث ورد في البند الأول من وثيقة «إعلان المبادئ حول التسامح»((Déclaration de principes sur la Tolérance الصادرة عن اليونسكو بصدد معنى التسامح أن مفهوم التسامح يتضمن العناصر التالية:
أولا: قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع؛
ثانيا: التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني والحريات الأساسية للآخر؛
ثالثا: التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية والديمقراطية؛
رابعا: إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين.
المرجعان المعتمدان:
1محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي، مصطفى لعريصة: في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان (نصوص مختارة)، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2013 ، الطبعة الأولى
2- عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة أداة للحوار، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر،2011 ، الطبعة الأولى

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

واقع العملية التعليمية التعلمية بالمغرب نموذج تدريس مادة الفلسفة - مريم المفرج

أنفاس نت
تهدف عملية التدريس إلى إحداث تغييرات في سلوك المتعلم، وإكسابه المعلومات والمهارات والمعارف والاتجاهات والقيم المرغوبة فيها، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، يجب على المعلم أن ينقل له هذه المعارف والمعلومات بطريقة مشوقة تثير اهتمامه ورغباته إلى التعلم. والمعلم الناجح هو الذي يعرف جيدا كيف يجعل حصته حصة مشوقة بعيدة عن الملل، من خلال اعتماد طرق تعليمية ملائمة لمادة الدرس، قد تكون متنوعة بحسب الظروف والمتطلبات الصفية، لأن إتباع المعلم طريقة واحدة معينة، أو التعصب لأسلوب معين، يحكم عليه في أحيان كثيرة بالجمود، يؤدي به إلى تجميد المادة الدراسية، لذلك وجب على المعلم الإلمام بطرائق التدريس المتنوعة، وامتلاك القدرة على استخدامها بالشكل الصحيح، لجعل الدرس مفيدا وممتعا في آن واحد، ومناسبا في الوقت نفسه لقدرات طلابه وميولهم.
وعليه فواقع التدريس، وتدريس مادة الفلسفة بمدارسنا خير دليل على ما سبقت الإشارة إليه أعلاه، فمن الملاحظ مثلا على مستوى تدريس مادة الفلسفة بالباكالوريا، أنها باتت تشكل عائقا معرفيا لدى المتعلمين، وذلك راجع بالأساس إلى الكيفية التي يقدم بها المعلم درسه، فلا ريب إن كانت تتسم بالجمود والتكرار القائم على طريقة التدريس التقليدية أن تجعل المتعلم ينفر من هذه المادة، فهي بالنسبة له كإشكال بحث رجل أعمى عن قط أسود داخل بيت مظلم، والحال أن المتعلم المستقبل يبني مهاراته التعليمية التعلمية من المرسل الذي يمده بالمعرفة عن طريق القناة، فإن لم تكن هذه القناة جيدة أصبح الحديث عن النخبة حديثا فارغا من كل مضمون علمي، ومما لا شك فيه وحسب واقع تدريس الفلسفة، أن هناك هوة تزداد عمقا يوما بعد يوم ما بين المطلوب والمنتظر، أي بين المعلم والمتعلم، حيث أصبحت المسافة بين المرسل والمستقبل تقاس بالسنين الضوئية، على اعتبار أن الدرس يخلو تماما من أي تمييز بين المتعلمين من جهة إيصال المعلومة، في حين نجد المتعلمين فارغين تماما من أي كفاءة تجعلهم قادرين على مواكبة درس المعلم، والذي سبق وقلنا أنه يفتقر لطرق إيصال تتناغم والمتعلم، مما يجعل الدرس الفلسفي يتميز بالرتابة والدغمائية والبؤس، إذ يصبح المتعلم بين جحيم الحصول على معدل يخول له الانتقال للمرحلة الجامعية، وبين عائق فهم المادة التي هي الجحيم بعينه بالنسبة له.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تخبط السياسة المغربية التعليمية في استدماج مقاربات أو استيراد بيداغوجيات أجنبية ولو أنها قائمة على علم ونظريات ومقاييس، إلا أن تطبيقها على الواقع التعليمي المغربي بما يتميز به من تنوع ثقافي واجتماعي، يجعل من العملية برمتها صعبة، لأنها لا تتماشى وخصوصيات المجتمع.
ومنه كان لزاما على الدولة أن تنهج التدريس باعتماد المقاربة بالكفايات كأسلوب تعليمي ظهر في أوروبا قبيل انتهاء القرن العشرين، والتي تبنته الدولة المغربية كبديل للمقاربة بالأهداف، إذ تعتبر المعلم محورا فاعلا لأنه يبني المعرفة ذاتيا، وبتوفير شروط التعلم الذاتي، واعتبار المدرسة مسهل لعمليات التعلم الذاتي. ومن النهج الذي اتخذته هذه البيداغوجية في التخطيط للدرس أنها وفرت على المعلم عناء إيصال المعلومة بتقسيمها لمحاور الدرس على عدة كفايات تجعل المتعلم يفهم الدرس بطريقة سلسلة، نذكر منها؛ الكفايات الإستراتيجية التي تستوجب معرفة الذات والتموقع في الزمان والمكان، والتموقع بالنسبة للآخر وبالنسبة للمؤسسات الاجتماعية والتكيف معها ومع البيئة بصفة عامة، وتعديل المنتظرات والاتجاهات والسلوكات الفردية وفق ما يفرضه تطور المعرفة والعقليات والمجتمع . ثم نجد الكفايات التواصلية والتي يجب من خلالها أن تؤدي إلى إتقان اللغة العربية وتخصيص حيز مناسب للغة الأمازيغية وكذا التمكن من اللغات الأجنبية، والتمكن من مختلف أنواع التواصل داخل المؤسسة التعليمية وخارجها في مختلف مجالات تعلم المواد الدراسية، والتمكن من مختلف أنواع الخطاب الأدبي والعلمي والفني...، سواء في محيط المدرسة أو على مستوى المجتمع. ولا ننسى أيضا الكفايات الثقافية، حيث تشمل على شق رمزي يرتبط بتنمية الرصيد الثقافي للمتعلم وتوسيع دائرة إحساساته وتصوراته. ناهيك عن الكفاية المنهجية والتي تستهدف إكساب المتعلم منهجية للتفكير وتطوير مداركه العقلية ومنهجية للعمل في الفصل وخارجه، وتكوينه الشخصي كذلك. وأيضا نجد الكفاية التكنولوجية المتمثلة في القدرة على رسم وتصور وإبداع وإنتاج المنتجات التقنية، والتمكن من تقنيات التحليل والتقدير والمعايرة والقياس، بارتباط مع منظومة القيم الدينية والحضارية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان. 
إلا أن المميز في هذه البيداغوجية أنها تعتمد على عدة بيداغوجيات تتماشى ومتطلبات المتعلم يمكن التطرق إليها بإيجاز؛ فهناك البيداغوجية الفارقية مفردنة تعترف بالتلميذ كشخص فرد له تمثلاته الخاصة للوضعية التعليمية التعلمية، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل تلميذ، وبهذا تكون معارضة لأسطورة القسم الموحد المتجانس، ثم بيداغوجية المشروع والتي تهدف إلى الربط بين العمل والنظر كممارسة، والفكر كتأسيس التعلم على النشاط الذاتي للمتعلمين، وتعديل السلوك واكتساب عادات وخبرات جديدة بربط التعلم بمواقف الحياة الاجتماعية. ثم نجد بيداغوجية حل المشكلات والتي تقترح وضعية مشكلة معقدة تستدعي مواجهة التلميذ لمجموعة من التعلمات المتداخلة والمتمحورة حول هذه الوضعية، من ثم تأتي بيداغوجية الخطأ إذ تصور لعملية التعليم التي تقوم على اعتبار إستراتيجية للمتعلم اعتمادا على كون الوضعية التعليمية تنظم على ضوء بنائي للمعرفة من طرف المتعلم. ناهيك عن بيداغوجية الذكاءات المتعددة التي من وجهة نظرنا تعتبر الحل الأمثل لمعضلة عدم استيعاب الدرس الفلسفي من طرف المتعلم، إذ يمكن باعتمادها الوصول ولو بنسبة ضئيلة إلى تحبيب الدرس الفلسفي أو المادة ككل اعتمادا على ذكاءات الفئة المتعلمة، وتماشيا مع ما يميل وجدانهم إليه.
فلبيداغوجية الأهداف نظرية تربوية جديدة قائمة على العلم والعقلانية والقياس والتكنولوجيا والتحقيق الموضوعي، وقد انتشرت هذه النظرية في المغرب في سنوات الثمانينات كما سبق أن أشرنا، إذ جاءت كبديل للدرس التقليدي، بغية تنظيم العملية الديداكتيكية وعقلنتها، حتى أصبحت هذه النظرية معيارا إجرائيا لقياس الحصيلة التعليمية التعلمية لدى المتعلم والمدرس معا، ومحكا موضوعيا لتشخيص مواطن قوة المنظومة التربوية على مستوى المردودية والإنتاجية والإبداعية، وأداة ناجعة لتبيان نقط ضعفها وفشلها وإخفاقها، وتعد كذلك آلية فعالة في مجال التخطيط والتقويم وبناء الدرس الهادف.
فإذا كانت بيداغوجيا الكفايات تعنى بتحديد الكفايات والقدرات الأساسية والنوعية لدى المتعلم أثناء مواجهته لمختلف الوضعيات المشكلات في سياق ما، فإن بيداغوجية الأهداف التي تبنتها مناهج التربية خلال الثمانينات كمقاربة تربوية تشتغل على المحتويات والمضامين في ضوء مجموعة من الأهداف التعليمية التعلمية ذات الطبيعة السلوكية، سواء أكانت هذه الأهداف عامة أم خاصة، ويتم ذلك التعامل أيضا في علاقة مترابطة مع الغايات والمرامي البعيدة للدولة وقطاع التربية والتعليم. وتهتم بيداغوجيا الأهداف بالدرس الهادف تخطيطا وتدبيرا وتقويما ومعالجة مما يجعل المتعلم ينصب على جمالية النص الفلسفي دون القدرة على استدماج الأفكار وتحليلها وفق فكره الخاص. فرغم تميزها إلا أنها تتسم بالنزعة السلوكية والنظرة التقنية على حساب النظرة الشمولية، كما وتغض الطرف عن الطرائق والمناهج والوسائل الديداكتيكية.
لقد تم اليوم اعتماد مفهوم الكفاية في التدريس، كاختيار بيداغوجي ديداكتيكي، ليشمل في مدلوله البيداغوجي مفهوم القدرة والمهارة بمعناها المركب الذي يحيل على قدرات ومهارات متعددة ومتصلة، في بنية عقلية أو حسية أو حركية أو وجدانية قابلة للتكيف والملاءمة والاندماج مع وضعيات جديدة، كما أن مفهوم الكفاية البيداغوجية الذي ليس مجرد تطبيق ميكانيكي للكفاية، وإنما هو استخدام ونقل إبداعي لها يخضع للقياس والملاحظة دائما، فالكفاية إذن، ذات طابع شمولي مركب ومندمج وهي استعداد يكتسبه المتعلم وينمى لديه، ليجعله قادرا على أداء نشاط تعليمي ومهام معينة.


المراجع:
- الدريج محمد، المنهاج المندمج أطروحات في الإصلاح البيداغوجي لمنظومة التربية والتكوين، منشورات مجلة علوم التربية، العدد 38، الطبعة الأولى، 2015.
- مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد الخمسون، ديسمبر 2011، مطبعة النجاح الجديدة.
- بوتكلاي لحسن، بيداغوجيا الإدماج، الإطار النظري، الوضعيات، الأنشطة، الطبعة الثانية، 2009.
- مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد السابع والثلاثون، يونيو 2008، مطبعة النجاح الجديدة.
- الدريج محمد، مدخل إلى علم التدريس: تحليل العملية التعليمية، دار الكتاب الجامعي، الإمارات، سنة 2003.
- الدريج محمد، الكفايات في التعليم من أجل تأسيس علمي للمنهاج المندمج، سلسلة المعرفة للجميع، منشورات رمسيس، العدد 16 أكتوبر 2000.
- أوزي أحمد، التعليم والتعلم بمقاربة الذكاءات المتعددة، منشورات مجلة علوم التربية العدد السادس، الشركة المغربية للطباعة والنشر.

الامتحانات وتدجين الإنسان :كيف نظر ميشيل فوكو إلى الامتحانات؟ - أنس غنايم

عن أنفاس نت


"تبدأ الامتحانات الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة؛ حتى تعلن حالة الطوارئ القصوى في البيوت، وكأن إعصارا عاتيا سيضربها، وتدق أجراس الإنذار معلنة توقف الزيارات الاجتماعية وانقطاع التواصل المرئي والمسموع وإغلاق كل قنوات الربط الخارجي مع العالم.  يغلق التلفاز نهائيا، أو يسحب إلى غرفة الأم، وتُصادر الجوّالات وتقنيات التواصل التي بأيدي الأبناء، وتمنع الزيارات وتصبح الأحاديث همسا منعا للإزعاج، وترابط الأم في المنزل كالليث الهصور الذي يحمي عرينه من غارة المعتدين، ويتحول المنزل إلى ساحة حرب". (1)
وبهذا تتحول الامتحانات من أداة لقياس مدى معرفة الإنسان لمعلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، إلى اعتبارها مسألة تمس هوية الفرد، "تهدد الوجود والكيان الإنساني وتؤثر في شخصية المرء حتى أعماقها وجذورها".(2) ولتغدو الامتحانات ليست منحصرة في إطار استدعاء للمعلومات فقط، بل "سبرا للمعلومات وغير المعلومات، حتى لكأن الامتحان وُجد لتقييم ذات الإنسان وليس لمعلوماته، يقيّم شخصه ومُثله وأخلاقه، إلخ".  
وتترسخ هذه الفكرة أكثر فأكثر من خلال الاستعارات أو العبارات المصاحبة للامتحانات: "يوم الامتحان.. يوم يكرم فيه المرء أو يُهان"، وما يقوم به بعض الآباء والأمهات من جعل تفوق ابنهم الدراسي شرط محبتهم إياه، كأن يرددوا على مسامعه: "لن أحبك إن لم تأخذ علامة جيدة في مادة الرياضيات" -مثلا-، أو يقولون له: "إن أنت أخذت الأول على المدرسة، فسوف أعطيك كذا وكذا أو أرضى عنك، إلخ". (2)
وبإزاء تلك المظاهر التي تلاصق مرحلة الامتحانات التي أشرنا إلى شيء من مظاهرها؛ تداعى التربويون والمشتغلون بالتعليم والتدريس إلى محاولة تجاوز مشاكل وآفات الامتحانات، تارة بتنويع طرق الاختبارات، وتارة بتهيئة الظروف المناسبة لتقليل حالة الخوف والقلق منها، وغير ذلك ممّا يُتداول في أبحاث وكتب "القياس والتقويم التربوي". (3)  
وبالتجاور مع التربويين، والمختصين في التعليم والتدريس، الذين حاولوا تلافي المشكلات المصاحبة للامتحانات، عمد الفلاسفة والمفكرون إلى توجيه انتقادات جذريّة إلى فكرة "الامتحانات" ذاتها. من أمثال المفكر الفلسطيني منير فاشه على الصعيد العربيّ (4)، ومن أمثال ميشيل فوكو على الصعيد الغربي، الذي أسس للإطار النظري لفهم عملية الامتحانات، وكيف يتم تفعيلها كأداة من أدوات السيطرة الناعمة التي تستخدمها السلطة؟! فكيف نظر فوكو إلى الامتحانات الدراسية، وكيف حاول تحليلها؟   
ميشيل فوكو: السلطة والمعرفة
تمثل مسألة تحليل العلاقة بين المعرفة والسلطة أهم أفكار ميشيل فوكو التي بسطها على طول مؤلفاته (5)، ويختلف مفهوم المعرفة والسلطة عند فوكو عن المفاهيم التي تناقش علاقة العلم بالسياسة، أو علاقة العلم بالهيمنة، وذلك لما يتمتع به من خصوصية وجدية. (6)
فالفلاسفة والمثقفون بشكل عام في نظر فوكو "يبررون هويتهم وخصوصيتهم وحتى نخبويتهم عن طريق إقامة حاجز منيع يفصل بين عالم المعرفة الذي يعتقد بأنه عالم الحقيقة والحرية، وبين عالم السلطة وممارساتها. غير أن الشيء الذي أدهشني عند دراستي للعلوم الإنسانية هو أنه لا يمكن أن نفصل إطلاقا بين نشأة كل هذه المعارف وبين ممارسة السلطة". (6)
يتحدد إذن مفهوم المعرفة-السلطة عند فوكو بالجمع والربط بينهما، وليس بالفصل أو التمييز كما هو الحال عند غالب المفكرين والفلاسفة. وهذا الجمع يؤدي إلى نتيجة أساسية وهي أن السلطة تنتج نوعا من المعرفة وتؤدي إلى تراكم المعلومات والمعارف، مما يقود إلى استخدام كل ذلك من أجل المزيد من ممارسة السلطة، وبالمقابل فإن المعرفة هي بحد ذاتها سلطة! (6)
ولعل المثال الواضح في هذا الشأن -كما يرى الباحث التونسي الزواوي بغورة- هو الأستاذ أو المعلم، الذي يحمل معرفة، وفي الوقت نفسه يحمل سلطة، سلطة النجاح والرسوب، أو سلطة الإجازة أو عدم الإجازة (6)، لذلك يرى فوكو أنه "حيثما توجد السلطة توجد المعرفة أو نوع من المعرفة، وحيث توجد المعرفة يوجد حد معين من السلطة، وأن مجرد ممارسة السلطة يؤدي إلى خلق المعرفة وتجميع المعلومات وبالتالي استخدامها، وأيضا فإن ممارسة المعرفة تنتج بالضرورة نوعا من السلطة". (7)
     تحليل فوكو للامتحانات على ضوء المعرفة والسلطة
عطفا على ما سبق؛ يعتقد ميشيل فوكو أنّ النظام والضبط في المجتمعات المعاصرة لا يمارس من خلال الاستعراض الفظ لقوة وسلطة الدولة: "الإعدامات في الساحات العامّة والمواكب الضخمة والاستعراضات العسكريّة، وإلخ"، ولكنه يمارس من خلال ما يسميه "نظم إنتاج المعرفة". (8)
ويعتقد فوكو أن السلطة تؤكد وجودها من خلال عدد من العمليات الصغيرة وصفها بـ "أعمال صغيرة دائمة لها قدرة كبيرة على الانتشار" (8) تلبي الحاجة إلى المعرفة التي يعتمد عليها النظام، كالسجون والمستشفيات والمدارس ونظام العدالة والطب النفسي، وإلخ.
وعليه فإن نجاح النظام وقوة الضبط في هذه الأعمال يستمد فاعليته -كما يرى فوكو- من استخدام أداتين بسيطتين:
1- الرقابة التراتبية.
2- العقوبة الضابطة. (8) 
ومن خلال دمج هاتين الفكرتين في إجراءات معينة، تنشأ الاختبارات (examinations) وتعرف هذه الأدوات بـ "تقنيات القوة" (technologies of power). (8)          
الرقابة التراتبية
ناقش فوكو الملاحظة الهرمية من منظور هندسة السجن النموذجي المسمى بـ "البانوبتية" (Panoptisme)*1، وهو السجن الذي صممه الفيلسوف وعالم الاجتماع جيرمي بنثام في عام 1785 بحيث يقف برج المراقبة بمنتصف السجن، والسجناء من حوله، ليمثل البرج نقطة مركزية في السجن قادرة على رؤية الجميع في حين أن الجميع لا يستطيعون رؤية من بداخل البرج بسبب ما يحيطه من ظلام، وهناك يدرك كل نزيل في السجن أنه يعيش تحت مراقبة دائمة ومتواصلة من قبل حارس مجهول بالنسبة إليه، "لدفع النزيل إلى الاقتناع بوجود مراقبة دائمة وبذلك تتأكد الوظيفة الآلية للسلطة". (8) ويناقش فوكو أن المعلمين يقومون بالشيء نفسه من خلال اختبار الطلاب، بحيث يذكّرون الطلاب بأنهم تابعون للبالغين الذين يستطيعون مراقبتهم من موقع السلطة. (8) إضافة إلى أن الطلاب "يستدخلون" معرفة أنهم يخضعون للمراقبة الدائمة، أي إجراء الاختبارات مما يؤدي إلى عواقب وخيمة، حيث تصبح هذه المعرفة جزءا من ذواتهم، وعليه، فإن إدراك الأفراد بأنهم خاضعون للمراقبة والملاحظة تعد وسيلة قوية للضبط والتنظيم. (8)
 العقوبة الضابطة
وتعني العقوبة الضابطة "العملية التي تقيس كميا وهرميا قيمة قدرات الأفراد، ومستوياتهم، وطبيعتهم، وكذلك اقتفاء أثر المحددات التي تحدد الاختلاف، وعلاقتها بجميع المتغيرات". (8)
وتعود فكرة العقوبة الضابطة إلى كونها أداة استُخدمت أصلا لوظيفة تصحيحية في السجون من خلال إخضاع النزلاء جميعهم لمنظور واحد، ومسطرة واحدة، تتمثل في تقليص الأبعاد المتعددة للتنوع البشري إلى متصل ثنائي القطب (موجب/سالب) ومن ثم تسمية نقاط محددة على هذا المتصل بالمدى الطبيعي والباقي غير الطبيعي أو الشاذ. (8)
وهكذا فإن الطلاب الذين يكون حاصل درجات ذكائهم أدنى من الدرجة المحددة يعدون أفرادا "دون المستوى الطبيعي" والذين يطلق عليهم تارة الحمقى، البلهاء، المعتوهين، الكسالى، الأغبياء، في مقابل الطلاب الذين تجاوزت درجات ذكائهم عتبة محددة يسمون بالموهوبين والأذكياء والمبدعين. (8)
وخطر هذا الأمر يكمن فيما يُسميه "فوكو" بـ "الغرس المنحرف"، وذلك حين يُجعل جَهْلُكَ بمعرفة معلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، "انحرافا" يتحول إلى طبيعة باطنية "ماثلة في كل مكان" (9) تذكرك دوما بأنّك فاشل وسيئ وغبي وكسول وأبله، وإلخ. (9)
وختاما، وحيث لا سبيل لتغيير طبيعة النُظم التعليميّة وأدواتها السُلطويّة على المدى القريب، يبقى الوعي الإنساني بأنّ هذه الامتحانات ليست "لذاتي بل لمعلوماتي" (10) هو الرهان الأكبر لمجابهة هذه الأحكام التي تنتجها الامتحانات، والتي يراد من خلالها تدجين الإنسان وتفصيله على مقاسات السلطة. 
  
هوامش:

*1: البانوبتية = Panoptisme من بانوتيك، وتعني مشْتَمَل: بناء مصنوع بشكل يمكن اشتمال/معرفة ما بداخله بنظرة واحدة، وربما يقابله في العربية الصرح الممرد من قوارير، والبناء البانوبتيّ بناء معروف في الفن الإسلامي كما يرى عبد العزيز العيادي، وعرف هذا البناء في المساجد الجامعة حيث كان الخطيب يطل من مكانه على كل من في الجامع، وقد كان يقال إنّ ابن الهيثم بنى للحاكم بأمر الله الفاطمي مسجدا جامعا مشرفا وموصلا للصوت دون مكبرات. (من ترجمة د. علي مقلد لكتاب "المراقبة والمعاقبة، ميشيل فوكو")

الأحد، 15 يوليو 2018

العلم و الفلسفة: أي علاقة؟ – إدغار موران / ترجمة: محمد نجيب فرطميسي


عن موقع حكمة




هتزت فكرة الحقيقة أمام وقائع أثبتها العلماء. فهل بإمكان الفلسفة مساعدة العلم على حل هذه التناقضات؟

في الوقت الذي شيد فيه قرننا هذا ( القرن العشرين) صرحا رهيبا من المعارف، يغوص و بشكل مذهل في أزمة أسس المعرفة. لقد بدأت الأزمة في الفلسفة. إذ بقدر ما ظلت الفلسفة الحديثة تعددية في موضوعاتها و مشكلاتها، بقدر ما انتعشت بفضل جدل بين البحث عن أساس يقيني للمعرفة، و العودة المستمرة لشبح اللايقين. كانت أزمة الأسس بمثابة الحدث المفتاح للقرن العشرين. فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية إدراك الأشياء في ذاتها. أعلن نيتشه، بكيفية مغايرة تماما، حتمية النزعة العدمية، و وضع هيدجر، مسألة أساس الأسس، أي طبيعة الكائن، موضع تساؤل. نذرت الفلسفة المعاصرة نفسها، من الآن فصاعدا، لتقويض معمم، و لتجذير تساؤل يضفي النسبية على كل المعارف، بدل تشييد أنساق على أسس متينة.

لم يكُف العلم، على العكس من ذلك، طيلة القرن التاسع عشر، و مع مطلع القرن العشرين، عن البرهنة على أنه عثر على الأساس التجريبي ـ المنطقي لكل حقيقة. يبدو أن نظريات العلم  هذه تجيء من الواقع ذاته، عن طريق الاستقراء الذي يقر بالتحققات / الاثباتات التجريبية بوصفها أدلة منطقية، و يرفعها الى مرتبة القوانين العامة.  يبدو في نفس الآن، أن الدعامة  المنطقية ـ الرياضية الضامنة للتماسك الداخلي للنظريات المتحقق منها، إنما تعكس بنيات الواقع ذاته. في هذه الشروط بالضبط، تعهد فريق من الفلاسفة و العلماء الراغبين في الخلاص نهائيا من الثرثرة المتكلفة و الاعتباطية للميتافيزيقا، من أجل تحويل الفلسفة الى علم، و ذلك بتأسيس كل قضاياها على منطوقات متماسكة، و قابلة للتحقق. هكذا إذن ادعت جماعة فيينا أنها أسست اليقين الفكري على الوضعية المنطقية، كما تزامن العمل الذي باشره فتجنشتاين  Wittgensteinعلى مستوى اللغة، و دافيد هيلبرت على مستوى الصياغة الأكسيومية للنظريات العلمية، مع ما قامت جماعة فيينا.

لقد بدا، و الحالة هذه، أن تنقية الفكر من كافة الشوائب، و ضروب البداءة، هو محض وهم. فعلا لقد  برهن كارل بوبرK. Popper   أن التحقق verification  laلا يكفي للتأكد من حقيقة نظرية علمية. و كشف، عندما قام بقلب فكرة الوضوح الظاهري الذي تكتسي بموجبه النظرية العلمية طابع اليقين، أن علمية نظرية ما تكمن في قابليتها للدحضla refutabilité .

و نبقى في سياق منظور كارل بوبر لنقول  إن ذلك الأمر يصح أيضا بالنسبة لفكرة كون المنطق الاستنباطي يمتلك قيمة حاسمة في البرهان و أساسا للحقيقة غير قابل للدحض. و الحال أن هذا الصرح المنطقي ذاته بدا أنه غير كاف. هناك من جهة إنجازات الميكروفيزياء ااتي لامست نموذجا من الواقع ينهار أمامه مبدأ عدم التناقض؛ و من جهة ثانية، أقامت مبرهة   Gödel غوديل اللايقين المنطقي داخل الأنظمة الصورية المركبة. آنذاك، لم يعد التحقق التجريبي، و لا التحقق المنطقي كافيين لتشييد أساس يقيني للمعرفة.

انحل، في نفس الوقت، الجوهر المحدّد و المميز للواقع في معادلات الفيزياء الكوانطية، و أخلى النظام الكوني المكان لنظام غامض و ملتبس. فبدا الكون أخيرا كما لو أنه ثمرة انشطار خارق و مثير، و كأنما خضعت صيرورته لتبديد وحيد الاتجاه. هذا بالرغم من أن كل انجازات المعرفة تقربنا من ذلك المجهول الذي يتحدى مفاهيمنا و منطقنا و ذكاءنا. فتنضاف بذلك أزمة أسس المعرفة العلمية الى أزمة المعرفة الفلسفية، حيث يلتقيان معا حول الأزمة الأنطولوجية للواقع، مما يجعلنا نواجه ” مشكلة المشاكل…أي أزمة أسس الفكر” ( بيير كورنير P. Cornaire).

في الواقع، مهما تجددت وتنوعت البحوث المتعلقة بالمعرفة العلمية، فإنها تجد نفسها أمام المشكل كما طرحه إيمانويل كانط، و من خلاله، المشكل الفلسفي الكلاسيكي حول علاقة الجسد و النفس. هكذا نجد أنفسنا على أرضية علمية من دون التخلي عن التساؤل الفلسفي. لا يتعلق الأمر بتقاسم لتلك الأرضية العلمية، أو بالمحافظة على منطقة منيعة تخص الفلسفة وحدها. إذ لا وجود لحدود طبيعية بينهما. فضلا عن ذلك فإن العصر الذهبي لازدهار الفلسفة  و ميلاد العلم، كان، بحق، هو عصر الفلاسفة العلماء أمثال جاليلي وديكارت و باسكال و ليبتنز. و مهما بدا اليوم أن العلم و الفسفة منفصلان، فإنهما يصدران عن نفس التقليد النقدي، الذي لا غنى عن استمراريته و دوامه لحياة كل منهما. زيادة على ذلك، و حتى بعد انفصالهما، فقد عبّر الفلاسفة دائما عن تلك الرغبة في أن تغدو الفلسفة ” معرفة المعرفة العلمية، وعيها بذاتها ” .(كارل بوبر)

إن مشكلة العلم، كموضوع للتفكير الفلسفي، تُطرح أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن العلم بما هو كذلك، إشكالي. إن شئت قلت، إن العلم سلطة معقدة، شكل متميز و راق من العقلانية، لكنه لا يدمج الذات المفكرة، إنه يجعل الملاحظ  هو المشيد للمفاهيم. حاول إيموند هوسرل  E. Husserl جادا تبيان كيف أن ” أزمة العلوم الاوربية ” تعبر بعمق  عن أزمة احتجاب الذات المنتجة للعلم. وحدها العودة التأملية الى وضعية العلم، تتيح، في نظره، تبيان الأزمة التي تتمظهر كذلك في المجال السياسي. تتمثل الفكرة الأساسية عند هوسرل، في عدم اكتراث العلماء أثناء مسعاهم العلمي بذاتيتهم الخاصة و تأثيرها على عملهم. بعبارة أخرى، إن من ننعتهم بالعلماء يفرغون العلم من فاعليه الحقيقيين، ومن سياقه الانساني.

إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه باستمرار، على موضوع الحقيقة العلمية، هو: هل تنفلت القوانين و الاكتشافات و الموضوعيىة التي يضمنها العلم، من الشروط التارخية و الاجتماعية و السيكولوجية الحاضرة وقت ظهورها، أم أنها تظل سجينة تلك الشروط؟ لقد بيّن  مفكرون أمثال كارل بوبر و توماس كوهن  Th. Kuhnو جيرار هولتون، و إسمير لاكاتوس، أن ثمة مسلمات غير معللة موجودة طي النظريات العلمية، بل الأدهى من ذلك، أن هناك ” تيمات” بمثابة أفكار استحواذية قبلية، تحرك ذهن العلماء، شأن الحتمية عند إنشتاين، و اللاحتمية عند نيلز بور Niels Bohrs . لقد كشف توماس كوهن عن وجود براديغمات  paradigmes، أو مبادىء خفية تتحكم في المعرفة و تسمح بتنظيمها.

إن العلم يمشي على أربعة قوائم: التجريبية، و العقلانية، و التخيل، و التحقق. هكذا يغدو بعض العلماء عقلانيين أكثر، و آخرين تجريبيين، و من هم سواهم تخيليين أو مسكونين بقابلة التحقق. إن هذه القوائم الأربعة متكاملة، بالرغم من كونها عرضيا متصارعة، و هو صراع تتغذى منه حيوية العلم. إن العلم ينتج نفسه بنفسه. و هو لا يفعل ذلك في مجال مغلق، بل ضمن شروط تاريخية مضبوطة و دقيقة؛ إن استقلالية العلم لا تنفصل عن عملية التجديد المستمرة التي يقوم بها، في الآن نفسه، في مواجهة النزعات الدوغمائية، و التخصصية المفرطة. أكيد أن العلم يفرز، في نفس الآن، العماء و الوضوح. لكن علينا أن نعرف كيفية مقاومة الاصلاح المضاد، في كل قضية شبيهة بقضية سوكال Sokal ، و الهادفة الى إقامة مرتبة رفيعة للعلم، متعلقة قطعاً بالمؤسسة الانضباطية التقليدية، جاعلة من العلم حصنا منيعا عن الجهل بأصوله.

لكل مواطن الحق في المعرفة، و بالتالي فإن المشكلات الأساسية للنظريات العلمية الكبرى، و الأفكار الثاوية طيّها، قابلة للتداول، و لا يجب أن تبقى ـ بأي حال ـ وقفا على العلماء وحدهم. إن علماء أمثال إيليا بريجوجين I. Prigogine و ريفز  H. Reevesو دي إسبانيا  و فرانسوا جاكوب … يبذلون جهذا لإشراكنا معارفهم، و وهم بعملهم هذا يشخصون دور مفكري النزعة الانسانية  إبان عصر النهضةles humanistes .

هناك إذن في الحالة الراهنة، قصورالفلسفة وحدها، و عدم كفاية العلم وحده لإقامة المعرفة. و نظرا لتعقد المشكلات التي تثيرها هذه المعرفة، فلن نعمل على صياغة ميتا ـ علم، أو ميتا ـ فلسفة، بل سنناضل بالأحرى ضد كل فلسفة مصابة بفقر الدم، و ضد كل علم بدون ضمير1. إن كان النشاط الفلسفي يمد العلم بالتفكير الضروري الذي يحتاجه، فإن النشاط العلمي يغذي الفلسفة بالمعرفة. عندئذ يكون بوسع العلم و الفلسفة الدخول في حوار كوجهيين مختلفين، و متكاملين لعُملة واحدة هي : الفكر

الأحد، 8 أبريل 2018

الأسس الأسطورية للنجاح المدرسي : "بِيجماليون" أنموذجا – د. علي أسعد وطفة


أنفاس نت




بِيجماليون نحات أسطوري إغريقي فاقت شهرته الآفاق، نحت تمثالا لامرأة فائقة الجمال تدعى غالاتيا، فوجد نفسه أمام آية فنية رائعة الجمال، فصعق بجمالها ووقع في حبها وهام بها عشقا، ولما أضناه الحب ونال منه جنون العشق، أشفقت عليه إفروديت Aphrodite إلهة الحب والجمال فوهبت محبوبته الحجرية نسغ الحياة، ليتزوجها وينهل من حبها إلى الأبد. 
 لقد شكلت هذه الأسطورة السحرية موضوعا أثار اهتمام المفكرين وعلماء الاجتماع، وقد تفتق هذا الاهتمام عن تساؤل جوهري حول القيمة الواقعية لما يعتقده الإنسان ولما يفترضه، وعن إمكانية تحويل الطموحات والأحلام والتوقعات الإنسانية إلى وقائع وحوادث وفعاليات ترتسم في نسق الحياة وتستقيم على دروبها. 
وقد اثارت هذه الفكرة الأسطورية اهتمام المفكر وعالم الاجتماع المعروف روبيرت ميلتون Robert MERTON الذي أطلق على هذه الظاهرة النبؤة المتحققة ذاتيا (prophétie auto-réalisatrice) واستحضر حدثا واقعيا يتعلق بإفلاس أحد البنوك في عام 1932 على اثر إشاعة مغرضة ليس لها أساس من الصحة. 
وتتمثل الدلالة التربوية لمعادلة بيغاميليون Pygmalion في تحقيق نتائج تربوية تستند إلى مجرد توقعات وتكهنات تتعلق بالمستقبل التربوي للتلاميذ حيث يتحول الافتراض إلى حقيقة تفرض نفسها في مجال الواقع التربوي. فالإنسان يحاول دائما أن يتجلى على منوال الصورة التي يرسمها الآخرون حوله، وتصورات الآخرين قد تفعل فعلها المكين في نفوسنا وعقولنا، فآراء الآخرين حولنا يمكن أن تدمي قلوبنا ويمكن أن تحيينا، وإذا كان الأمر على هذه الدرجة من الأهمية فكيف يمكن أن يكون الأمر بالنسبة لأطفال على مقاعد الدراسة في مواجهة أحكام المعلمين وتقديراتهم التي قد تكون مفرغة من حكمة الصواب. فأحكام المعلم ونواهيه حول المتعلم تمتلك قدرة سحرية تؤثر في شخصية التلميذ وقد تدفعه إلى تحقيق النجاح أو إلى كارثة العدم التربوي إذا كانت مجحفة وقاسية. وما تأثير بيغاميليون إلا صورة لهذه العلاقة التربوية المتشبعة بالأحكام التي يطلقها المعلم على تلامذته وطلابه في داخل الفصل وفي خارجه.
لقد انبرى كل من روبيرت روزنتال Robert Rosenthal وليونور جاكوبسون Leonore Jacobson لاختبار فرضية تأثير بِيجماليون في الوسط المدرسي، ومن أجل اختبار هذه الفرضية أجريا تجربة على مجموعة من الأطفال في مدرسة أمريكية تدعى أويك Oak School حيث عملا على اختبار التوقعات الإيجابية للمعلمين حول تلامذتهم. وقد بينت ملاحظاتهم وتجاربهم بأن توقعات المعلمين حول مستويات نجاح تلامذتهم كانت تترجم في حقيقة الأمر بطريقة واضحة ومطابقة وكان تأثير توقعات المعلمين كبيرة جدا في مستوى النتائج المدرسية للتلامذة والطلاب في هذه المدرسة.
دراسة روزنتال:
لقد بينت التجربة في المجال المدرسي أن التنبؤ المدرسي للمعلمين يتحقق بصورة عفوية وذاتية: ففي الصفوف المدرسية التي تكون فيها توقعات المعلمين إيجابية حول مسيرة بعض الطلاب فإن هذه التوقعات غالبا ما تتحقق هذا الأمر وغالبا ما يحقق التلامذة المعنيون بهذه التوقعات الإيجابية نجاحا كبيرا وملحوظا يوازي توقعات معلميهم. وهذا ما أفادت به الدراسة التجريبية التي أجراها روزنتال في مدرسة أويك الحكومية الابتدائية. حيث تم توزيع التلاميذ في هذه المدرسة إلى ثلاثة مجموعات صنفت وفقا لثلاثة تقديرات من الذكاء: مرتفعو الذكاء، متوسطو الذكاء، ضعيفو الذكاء.
استخدم فريق روزنتال البحثي اختبارا نفسيا لقياس ذكاء التلاميذ في المدرسة، وقد أخفى الباحثون الغرض الأساسي لدراستهم الخاص بعملية اختبار تأثير بِيجماليون، وزعموا أنهم يختبرون تقنية جديدة تتعلق بتحسين بقياس معدلات الذكاء لدى الأطفال وعلاقة ذلك بمستوى نجاحهم في المدرسة.
في البداية قام الباحثون بتطبيق اختبار الذكاء الأولي القبلي مع بداية العام الدراسي على جميع التلاميذ في جميع الصفوف المدرسية في مدرسة أويك. وكان الهدف من هذه التجربة العلمية قياس معدلات ذكاء الأطفال من جهة واختبار ما أطلق عليه تأثير بِيجماليون من جهة أخرى.
 وعندما أنجز الباحثون اختبار معدل الذكاء الأولي أو القبلي قاموا بانتخاب 20% من عدد التلاميذ عن طريق القرعة زُعم الباحثون أنهم حققوا نتائج عالية في معدلات ذكائهم، وقدمت لائحة بأسمائهم إلى معلميهم. وهنا يجب أن نؤكد بأن أسماء هؤلاء التلاميذ قد اختيرت بطريقة القرعة بصورة عشوائية وليس بناء على أي اختبار حقيقي لذكائهم. وقد شكلت الجماعة التجريبية للطلاب مزعومي الذكاء (وفقا للقرعة) نسبة 20% من عدد الطلاب في المدرسة، أما الجماعة الضابطة فهي ما تبقى من الطلاب في المدرسة حيث لم تقدم اية معلومات عن مستوى ذكائهم وفقا للاختبار. وقد طبق اختبار الذكاء نفسه البعدي في نهاية العام الدراسي الأول وفي نهاية العام الدراسي الثاني أي بعد أن تغير المعلمون الذين شاركوا بالتجربة دون دراية منهم بأغراضها الحقيقية.
ومن المهم الإشارة والتكرار أيضا أنه في العام الدراسي الثاني قد تغير معلموا التلاميذ المعنيين بالتجربة وهذا سيسمح بالتعرف على ما إذا كانت الأحكام المسبقة للمعلمين قد فقدت تأثيرها في مستوى تحصيل التلاميذ المتفوقين حسب القرعة. وأخيرا تمّ حساب الفروق في الدرجات بين الاختبار الأول وبين الاختبار الثاني بالنسبة للجماعة التجريبية والجماعة الضابطة.
نتائج دراسة روزنتال:
 بينت التجربة أن طلاب المجموعة التجريبية (الطلاب الذين صنفوا بالقرعة على أنهم أذكياء) قد حققوا تقدما كبيرا في مستوى ذكائهم ونجاحهم المدرسي على طلاب المجموعة الضابطة وذلك في نهاية العام الدراسي الأول. وبعد مضي عامين، أي في نهاية العام الثاني، بيّن الاختبار الثاني أن تلامذة المجموعة التجريبية قد خسروا تقدمهم مع انقطاع علاقتهم بمعلميهم الذين كانو يحملون تصورا إيجابيا عنهم.
ويتعين علينا في مستوى التحليل أن نتساءل ما إذا كان التقدم الذي حققه أطفال المجموعة التجريبية في معدلات الذكاء قد تحقق على حساب المجموعة الضابطة؟ وهنا يمكن التصور بأن المعلمين كانوا قد اعطوا مزيدا من الاهتمام والعناية بالتلاميذ الذين قدمو على أنهم مبدعين وأذكياء بالمقارنة مع الآخرين. وهذا يعني أن التقدم الذي حققه الأطفال في المجموعة التجريبية لم يكن مفاجئا وكان نتيجة طبيعية لاهتمام المتعلمين المتزايد بهم.
ولكن روزنتال يستبعد هذا الاحتمال ويرى بأن المعلمين وعلى عكس ما هو متوقع منهم كرسوا وقتا أقل لتلاميذ المجموعة التجريبية، وعلى خلاف ما هو متوقع أيضا يرى روزنتال بأن تلامذة المجموعة الضابطة قد استفادوا من تقدم زملائهم في المجموعة التجريبية: ففي الصفوف التي حقق فيها أطفال المجموعة التجريبية أعلى مستويات التقدم في التحصيل المدرسي حقق أطفال المجموعة الضابطة أيضا ما يوازي هذا التقدم في اختبار الذكاء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يستطيع المعلمون إستنهاض مستوى ذكاء الطلاب استنادا إلى توقعهم بحدوث هذا التقدم. ومما لا شك فيه الموقف يلعب دورا هاما ومركزيا في هذه العملية، فموقفنا وسلوكنا إزاء الآخر يتحدد بالصورة التي نمتلكها عنه وبعلاقتنا به. وهنا يفترض في مدرسة إويك أن المعلمين قد تصرفوا بطريقة ودية مع الأطفال الذين حققوا تقدما في معدلات ذكائهم (أطفال المجموعة التجريبية) وبالتالي فإن هذا الموقف أحدث آثارا إيجابية فيما يتعلق بنشاط الطلاب ومستوى تقدمهم. وضمن هذا الافتراض فإن المعلمين وجهوا مزيدا من عنايتهم واهتمامهم إلى التلامذة المتوقع منهم تحقيق تقدم في التحصيل والذكاء. ووفقا لهذا التصور فإن المعلمين كانوا أكثر اهتماما بالمبادرات الإيجابية لهؤلاء الأطفال وأكثر نزوعا إلى تعزيز استجاباتهم وتشجيعهم بالمقارنة مع الوضعية العادية.
ولأن المعلمين قد تلقوا إشارة بأن هؤلاء الأطفال (المجموعة التجريبية) سيكونون متألقين أكثر من الآخرين فإن المعلمين أعطوا لهذه الفئة من التلاميذ اهتماما خاصا حيث عملوا على تعزيز مسار تحصيلهم وتفوقهم ومن ثم المواظبة على تقييمهم إيجابيا بطريقة تؤدي إلى تحسين مستوى التطور العقلي لديهم. وبالتالي فإن التفاعل الإيجابي بين المعلمين وطلابهم من المجموعة التجريبية قد شكل عاملا أساسيا من عوامل تقدم طلابهم ذهنيا عقليا.
 لقد تعرضت تجربة روزنتال للنقد الحاد من قبل ثورندايك Thorndike وسنو Snow في الولايات المتحدة الأمريكية ومن قبل كارلييه Carlier وكودستيينر Gottesdiener في فرنسا. وقد تمركز النقد حول نوع الاختبار الذي لم يكن مكيفا لقياس مستوى ذكاء الأطفال، وأن هذا الاختبار قد أعطى نتائج خاطئة. ويرى كارلييه في هذا السياق بأن روزنتال لم يقدم برهانا منهجيا على مصداقية تحليله لأبعاد هذه الظاهرة المدروسة. وقد أعرب عن خشيته من تأثر منهجية الباحثين برغبتهم في إثبات الحقيقة التي تدور في رؤوسهم عن تأثير بِيجماليون، ويلاحظ بالتالي بأن هذه الرؤية لم تتحقق مصداقيتها إلا فيما يتعلق بمجموعة صغيرة من التلاميذ. فتأثير بِيجماليون يمكن ملاحظته في المدرسة من خلال عملية التمييز الاجتماعي التي تتم بين جدران المدرسة، وفي هذا السياق يلاحظ بأن صفوف التقوية التي أنشئت كمعابر مدرسية للطلاب الضعفاء تتحول في النهاية إلى صفوف تكرس الإخفاق والتراجع المدرسي حيث تتنامى الهوة بين الأقوياء والضعفاء. وهذا يعزى جزئيا أو كليا إلى تقديرات المعلمين الذين يعرفون جيدا المستوى العام للصف الذي يقومون بتدريسه..
وعلى أساس معطيات دراسة روزنتال ظهرت مقالات كثيرة في الصحافة الشعبية لتطرح عددا من الأفكار خارج السياق لدراسة روزنتال، حيث ذهب كتاب هذه المقالات إلى القول بأن الطفل الذي لا يستطيع القراءة بشكل جيد نتاج لإهمال وتقييم سلبي من قبل المعلم.

تأثير التوقعات:
لقد كشف كل بروكوفير في عام 1982 وكوبر في عام 1984 وكودون في عام 1987 عن مجموعة من العوامل والمتغيرات التي تؤثر في موقف المعلمين من التلاميذ وتدفعهم إلى تشكيل توقعات محددة حول مستواهم التحصيلي، ومن هذه العوامل يشار إلى متغير جنس التلاميذ فعلى سبيل المثال لا يضع المعلمون توقعات جيدة للإناث في هذا المقرر ولاسيما للطالبات الأكبر من حيث العمر. وهناك متغيرات أخرى مؤثرة في عملية بناء التوقعات مثل: الوضع الاقتصادي والاجتماعي للتلميذ، متغير الانتماء إلى جماعة إثنية، نمط المدرسة ومكانها، مظهر الطالب والطريقة التي يرتدي بها ملابسه، اللغة التي يستخدمها التلميذ ولاسيما عندما يكون المستوى اللغوي للطفل محدودا أو ضعيفا، طريقة الطالب في تنظيم شؤونه، نزعة المبادرة لدى التلميذ، فعدم نضج الطفل أو ضعف خبرته قد تتشاكل مع قدرته على التعلم وبالتالي فإن هذا المتغير يؤثر على تقدير المعلم وتوقعه بمستوى تحصيل الطفل ومن العوامل الأخرى المؤثرة يشار أيضا إلى: الانطباع العام للمعلم: بعض المعلمين يعممون بعض التصورات العامة حول التلميذ وهي تصورات قلما تستند إلى معطيات واقعية وحقيقية تتعلق بإمكانيات التلميذ وقدراته وإمكانياته الحقيقية، ثم متغير مكان جلوس الطالب في الأمام أو في الخلف أو في الوسط، متغير التعليقات السلبية التي توجه إلى التلميذ، متغير تصنيف التلميذ في مجموعات جيدة أو ضعيفة يمكنها أن تجر توقعات سلبية أو إيجابية لدى المعلم. تلك هي المعايير والمتعيرات التي يعتمدها المعلمون بطريقة عفوية لبناء توقعاتهم وتصوراتهم المتعلقة بمستوى نجاح التلميذ ومستوى تحصيله المدرسي. وهنا تبذل الجهود لمساعدة المعلمين على تجنب هذه النمط من الأحكام المسبقة حيث يتم العمل على تبصير المعلمين بخطورة هذه الأحكام المسبقة والتوقعات الأولية وكيفية تأثيرها لا شعوريا في علاقة المعلم بالأطفال والتلاميذ. في هذا السياق يعتقد روزنتا أن هذا المنطق السلبي يمكن أن يفهم بصورة خاطئة إذا اعتقد المعلم بأن الأحكام المسبقة والتوقعات الإيجابية أو السلبية التي تتعلق بالتلميذ يمكن أن تجعل منه ما يتوافق مع توقعاته بصورة عفوية.
وينوه الباحثون في هذا السياق أن إعطاء مصادر المعلومات أهمية كبيرة مثل نتائج الاختبارات والملفات المدرسية يمكنها أن تؤدي إلى نتائج غير مرغوبة. وهم يعلنون بأن هذه المعلومات المتعلقة بالتلاميذ يجب ألا تؤخذ على أنها حقيقة نهائية مطلقة بل يجب أن ينظر إلها وأن يستفاد منها في مسار اتخاذ القرارات المستقبلية التي تتعلق بالتلميذ. وهنا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كيف يمكن للتلاميذ أن يتفاعلوا مع تقديرات وتوقعات عالية المستوى من قبل معلميهم.
ويرى الباحثون أن التوقعات الكبيرة والتقديرات العالية للتلاميذ تشكل عنصرا أساسيا في المكونات الضرورية لتحقيق نجاح أكبر في المدرسة. وهذا العامل يجب أن يتضافر مع عوامل أخرى مثل العناية الإدارية، والمناخ المدرسي المنظم الآمن، والتقويم المستمر لمستوى الطالب. وهذا العوامل يجب أن تتكامل أيضا مع عوامل أسرية منها ما يتصل بأوضاع التلميذ في المنزل ومواظبته على الدراسة وحصوله على الدعم الأبوي والعائلي حيث يجب على الأبوين أن يسمحا للطفل بالمشاركة في النشاطات الخارجية ولاسيما التلاميذ الذين يحتاجون إلى دروس تقوية تهدف إلى رفع سويتهم العلمية.
 وغالبا ما يعزى انخفاض المستوى التحصيلي للتلاميذ إلى ضعف مستوى التلاميذ أنفسهم، وقلما يعزى هذا الضعف في التحصيل إلى الممارسة التربوية نفسها في المدرسة. ومن يتأمل في الأمر يجد أحيانا بأن المعلمين غالبا ما يضعون توقعات متدنية للتلاميذ وهذه التوقعات تؤثر في خفض مستوى تحصيلهم. فالأطفال الذين يصنفون ضعفاء في صفوفهم يتلقون معرفة واهتماما أقل إثارة والمعلمون لا ينتظرون شيئا مهما من قبل هؤلاء التلاميذ. ومن الطبيعي أن يتلقى هؤلاء الأطفال عددا كبيرا من الإشارات والتلميحات السلبية غير المباشرة التي تخفض لديهم دافعية العمل والإنجاز المدرسي وبالتالي فإن نتائجهم تكون على منوال التوقعات التي يرسمها معلموهم بصورة مسبقة.
 وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية العلاقة التي تربط بين المعلم والطالب حيث تكون هذه العلاقة في منتهى الخطورة والأهمية من حيث تأثيرها في مستوى نجاح الطالب أو مدى تحصيله المدرسي. فالعلاقة بين المعلم والتلميذ قد تكون حاسمة في تحديد مسار نجاح التلميذ، لأن هذه العلاقة تنطوي على جوانب ذاتية متنوعة ومتعددة تتجاوز حدود التجربة المدرسية ذاتها. فالعلاقة الإيجابية مع المعلم تمكن الطفل من أن يثق بنفسه وأن ينطلق وأن يشعر بالأمن التربوي وأن يشعر بالقدرة على المواظبة. وعلى خلاف ذلك إذا كانت هذه العلاقة سلبية فقد تؤدي إلى نتائج مدمرة في شخصية الطفل ومسار حياته المدرسية برمتها. وفي هذا السياق يلاحظ أن المعلم غالبا ما يبني علاقات أقوى وأعمق مع التلاميذ الذين يبدون مشاركين وفاعلين وواعدين وأن هذه العلاقة غالبا ما تكون سلبية مع الطلاب ذوي المستويات التحصيلة المتدنية.

خلاصة:
لقد بينت أعمال روزنتال وجاكوبسون بأن التوقعات التي يرسمها المعلمون حول المسار الدراسي للتلاميذ مؤثرة جدا، وغالبا ما تُتَرْجم هذه التوقعات إلى واقع مدرسي. ومن الواضح أن تأثير بِيجماليون يشكل إطارا منهجيا لتحليل وتفسير الجوانب المختلفة للحياة التربوية التي تتعلق بالتحصيل المدرسي للتلميذ. فالتقييم المدرسي الذي يجريه المعلم وتوقعاته حول مستوى التلميذ يلعب دورا كبيرا في عملية توجيه المسار المدرسي للطفل. ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تأثير بِيجماليون يبقى نتاجا لفكرة أسطورية في الأصل والجوهر، وهي فكرة يمكن اعتمادها في تفسير وتطوير الفعاليات المدرسية المتعلقة بعملية التنبؤ والتوقع والتطوير في مجال التحصيل المدرسي.
ومهما يكن الأمر فإن البعد التربوي لهذه الأسطورة يمكنه أن يوظف فعليا في توجيه السلوك التربوي للمربي الذي يجب عليه أن ينطلق في عمله من الإيمان بأهمية التعزيز الإيجابي للطفل عبر توقعات إيجابية، فالتوقعات السلبية والصورة السلبية غالبا ما تكون كارثية على التلميذ، وهذا يعني أنه يجب علينا أن نعمل تربويا وفقا للحكمة التي تقول توسموا الخير تجدوه، أو هذه التي تقول كن جميلا ترى الكون جميلا، فكم يجب علينا أن نتوسم خيرا بأطفالنا وتلامذتنا من أجل خيرهم ومستقبلهم، وكم يتوجب علينا أن ننظر بعيون جميلة إلى أطفالنا وفلذات أكبادنا ليتألق الجمال لوحة أصيلة في قلوبهم وعقولهم ,

مسألة تعريف الفلسفة ـ موسى برلال


عن أنفاس نت


إن ما يميز الفلسفة عن باقي التخصصات المعرفية هو كونها لا تكتفي بالبحث في أهم الإشكالات التي درجت على مناقشتها عبر تاريخها، بل على العكس من ذلك، تجعل من ذاتها موضوعا للتساؤل المستمر، وهي السمة الأساسية المحايثة للتفكير الفلسفي منذ نشأته إلى حدود الفترة المعاصرة، حيث استقلت مختلف المباحث العلمية ما جعل سؤال ما الفلسفة يطرح ذاته بقوة أكثر. في هذا الصدد يتبلور الإشكال الآتي:
كيف عالجت الفلسفة مسألة تعريفها لذاتها عبر التاريخ؟ وما الإشكالات التي يطرحها هذا التعريف؟
    لا شك أن للفلسفة موضوعات ومباحث كبرى تبلورت منذ الفلسفة اليونانية، وهو ما يعرف بالمباحث الفلسفية الكبرى (الوجود، المعرفة، الأخلاق والسياسة، الجمال). غير أن ظهور الفلسفة لم ينفصل عن البحث عن ماهيتها، لدرجة يمكن القول أن كل فلسفة قدمت تعريفا وتصورا خاصا للفلسفة ذاتها. ذلك ما سيتضح من خلال هذا العرض الفلسفي، مع الإشارة إلى أن سؤال "ما الفلسفة؟" سيطرح بقوة في الفلسفة المعاصرة بشكل خاص.
    إن نشأة الفلسفة اتسم بتميز هذا الخطاب عن خطابات أخرى كالأسطورة، حيث اعتبِر التفكير الفلسفي تفكيرا عقلانيا ومكتوبا ويخضع للمحاججة. غير أن أرسطو قام بتصنيف للمباحث الفلسفية، والتي كان من ضمنها العلوم، وفق سلم تراتبي، واعتبر أشرف فلسفة هي الأبعد من المادة ومن مجال الممارسة العملية. وبذلك احتلت الميتافيزيقا أعلى السلم بما هي بحث عن الوجود بما هو موجود. وقد استمر هذا التصور للفلسفة لدى المسلمين، حيث وضعوا الإلهيات في أعلى مرتبة. وعليه انضافت للفلسفة الإسلامية إشكالية جديدة، وهي النظر إلى الوجود بما هو "دال على الموجِد" في إطار التوفيق بين الدين والفلسفة والبرهان على وجود الله. بينما كانت إشكالية الله في الفلسفة اليونانية مهملة إلى حد ما، إذ لجأ إليها أرسطو مثلا كضرورة فرضها تصوره للحركة التي لا بد أن تتوقف عند محرك أول لا يتحرك.
    غير أن الفلسفة الحديثة وضعت الفلسفة اليونانية موضع سؤال، خاصة فلسفة أرسطو الذي مثل ذروة الفلسفة اليونانية، وذلك في سياق ظهور حقائق علمية جديدة فندت التصور الأرسطي للكون. وهكذا سيضع ديكارت وبيكون تصورا جديدا للفلسفة. وقد اهتما بإشكالية المنهج الذي يصلح للعلم الحديث بشكل خاص.. لقد فرضت المنظومة الميكانيكية الفصل بين المادة والنفس، بينما كانت النفس في المنظور الأرسطي توجد عند النباتات والحيوانات أيضا بدرجات مختلفة. في هذا الصدد أسس أرسطو لفلسفة الذات، كما تناول المسائل الميتافيزيقية القديمة (الله، النفس..) وبرهن عليها بأدلة عقلية (الدليل الأنطولوجي، الدليل الإنساني التجريبي...الخ)، وهو الشيء الذي جعل كانط ينتقد ديكارت وكل الفلاسفة الذين تناولوا الموضوعات الميتافيزيقية، باعتبار أن العقل ليس بمقدوره الحسم في هذه الموضوعات التي سماها كانط نقائض العقل. وعليه وضع حدودا للعقل لا ينبغي تجازوها.
    ونجد في نهاية المرحلة الحديثة نقدا آخر لموضوع الفلسفة في ظل سيادة النزعة الوضعية، حيث اعتبر اوغست كونت أن هناك ثلاث مراحل تطورية للفكر البشري، وأن المرحلة الفلسفية أصبحت متجاوزة مع سيادة العلوم الدقيقة، وهو ما جعل هوسرل يعتبر ذلك بمثابة ضربة لعنق الفلسفة. وفي الفلسفة المعاصرة، ستصبح تلك الإشكالية أكثر جدية، حيث نادى هيدغر باكتمال الميتافيزيقا كما تعالت الخطابات المنادية بموت الإنسان (فوكو) ونهاية التاريخ (فوكوياما)، وذلك في سياق بروز فلسفات تفكيكية ونقدية. غير أن جاك دريدا اعتبر أنه رغم موت الفلسفة فإنها هي التي تقود جنازتها، بما مفاده أن كل نقد للفلسفة يحتاج لإقامة فلسفة بديلة.
    من خلال هذه العتبات التاريخية لتطور الخطاب الفلسفي وتجدد موضوع الفلسفة اتضح فعلا أن كل نسق فلسفي يعبر عن تصور ما للفلسفة وماهيتها. وقد ربط جون دييوي بين الفلسفة وسياقها الاجتماعي والتاريخي معتبرا أن الفلسفة ما هي إلا انعكاس للإشكالات التي يفرضها الواقع الاجتماعي والحقائق العلمية الجديدة في فترة تاريخية معينة. ومن هذا المنظور حتى لو نظرنا لإجابة دولوز عن سؤال ما الفلسفة؟ حيث خصها بإبداع المفاهيم مقابل العلم الذي يشتغل بالوظائف؛ فإننا نجده نفسه يبدع مفاهيما مجسدة تعريفه للفلسفة. وذلك من قبيل: الشخصيات المفهومية، الآلات الراغبة، ثم جسد بدون أعضاء (كتاب ألف سطح) ....الخ.
    بهذا المعنى فتعريف الفلسفة يفترض إقامة فلسفة، فضلا عن تقديم تصور خاص للإشكالات الفلسفية الكبرى. لكن السؤال الذي يبقى موضع جدال بين الفلاسفة هو: لماذا تم تعريف الفلسفة بهذا المفهوم دون غيره؟
    هنا سننفتح على إشكالية اختلاف الأولويات والمثل التي تنشدها كل فلسفة، فأفلاطون مثلا كان يهمه الحقائق المتعالية والمثل الخالدة ما جعله يحتقر الحس والجسد، وهذا ما جعل نيتشه ينتقده بقلب ذلك التصور وتأكيد إرادة القوة ومنح الجسد والحياة مكانة متميزة مقابل تحقيره للمثل الأخلاقية التي لا تعبر إلا عن أخلاق العبيد مقابل أخلاق السادة. غير أن فلسفات الاختلاف جذرت تصور نيتشه وجعلت الفلسفة عمل نقدي وتفكيكي يكشف عن علاقات السلطة (فوكو) ويعيد الاعتبار للهامش (دريدا)...الخ.
    ومجمل القول، إن مسألة تعريف الفلسفة تبقى موضع نقاش مستمر بين الفلاسفة. لكن هذا التعريف ينبني على تصور ما للإنسان والوجود، وهو أمر لم يكن محسوما بين مختلف المذاهب والتوجهات الفلسفية. وبهذا المعنى، فكل تعريف للفلسفة يبقى تعريفا نسبيا ولا ينفصل عن سياقات معينة. بعبارة أخرى، فهذا السؤال يضعنا في قلب الممارسة الفلسفية بقدر ما هو سؤال أركيولوجي يعبر عن الإبستيمي السائد، أي النظام المعرفي الموجه لمرحلة ما من التاريخ.

الجمعة، 16 مارس 2018

التعليم : نحو خوصصة المدارس بقلم : لورانس كالافاتيديس

عن أكاديمية





تعمل المنظمة العالمية للتجارة وتوابعها على إغراقنا بخطاب أشبه بالرقيا عن مزايا الشمولية ومحاسنها ، وذلك بغرض التقليل من مخاوفنا وضمان انخراطنا ومشاركتنا في برامجها : ومن بين هذه المحاسن والمزايا شعارات التجارة في خدمة السلام ، التعاون الاقتصادي العالمي من أجل تأمين رفاهية الشعوب ، عدالة وشفافية القواعد . . . الخ . ومع ذلك فإن النعيم والسعادة التي ما فتئت تعدنا بهما يتم في كل وقت وحين إرجاؤهما إلى ما بعد . وفي انتظار هذه السعادة وذلك النعيم فإن الشركات العابرة للأوطان ، وهي المستفيد الحقيقي من هذه الشمولية ، تنوي إقحامنا وتجنيدنا كأدوات في الحرب الاقتصادية ، وجعلنا نتكبد عواقب ونتائج المنافسة العالمية ، من خلال جعلنا نتكيف مع القوانين الاقتصادية الصارمة للمنافسة .
هجوم كاسح على الخدمات العمومية
إن هذه الاتفاقية التي وقعت في مراكش سنة 1994 هي اليوم في قلب الأحداث . وبالفعل ، فهذه الاتفاقية الإطار ينتظر التفاوض بشأنها كل خمس سنوات إلى حين تنفيذها بالكامل ، أي إلى حين إنجاز التحرير الكلي لكل قطاعات الخدمات العمومية المذكورة وعددها 160 . ولقد أعيد إطلاق المفاوضات الجديدة في فبراير 2000 بجنيف في إطار أكبر قدر من السرية والتعتيم؛ فقد تحاشى الوزراء الدعاية لهذه المفاوضات ، إذ أن الأمر يتطلب كامل الحذر باعتبار أن هذه الاتفاقية تعتبر هجوما كاسحا على الخدمات العمومية ! فلن تعفي الاتفاقية أي مجال : المياه ، الطاقة ، البريد ، السكك الحديدية ، المكتبات ، المتاحف …. وبخاصة مجالي الصحة والتعليم ؛ ف ” التعليم ” بالنسبة للآخذين بالليبرالية ” إلى جانب الصحة العمومية ، هما آخر الحصون والقلاع التي يجب غزوها ” (2) .
لقد حاول حكامنا طمأنتنا وبذلوا كل الجهود من أجل ذلك من خلال جعلنا تعتقد بأن التعليم ليس مطروحا على جدول أعمال المناقشات المتعلقة بهذه الاتفاقية . الحكومة الكندية وحدها كانت أقل نفاقا ، فهي لا تخفي من جهتها بأنه تم ” الاعتراف من قبل عديد من البلدان بأن خدمات التعليم تعتبر قطاعا يحوز الأسبقية في المفاوضات المرتقبة بخصوص تجارة الخدمات ” (3) . أما بخصوص البعثة الأمريكية ، فقد سبق لها أن أعلنت عن مطالبها في مجال خوصصة التعليم الجامعي والتكوين الخاص بالكبار . ومن أجل فهم ما يطبخ حاليا بالمنظمة العالمية للتجارة فإن إحاطة متكاملة تفرض نفسها بخصوص ما يجب أن ندعوه منذ اليوم : السوق الكونية للتعليم .
التعليم : ” سوق كونية “
تبلغ مصاريف التعليم 200 مليار دولار ، أي 20/1 من الناتج الداخلي الخام العالمي (4) و ” التعليم ” بالنسبة لغلين ر.جونز ، الرئيس المدير العام لشركة جونز العالمية المحدودة ” هو أحد الأسواق ذات إيقاع النمو السريع جدا ، وينتظر أن يعرف التكوين الخصوصي وصناعة تعليم الكبار نسبة نمو برقمين خلال العشرية القادمة كلها ” (5) ، وهو ما يثير شجع العديد من الناس. ومن ثمة فإن التعليم العمومي يضحي المنافس الذي يجب إلى وضعه الملائم . ” إنه يجري الآن إصلاح عميق للتعليم العمومي ، وهو إصلاح موجه نحو السوق وعن طريقها ” (6) ، وحسب منظمة اليونيسكو ” فإن القواعد المؤطرة لانفتاح مدرسة ما في عديد من البلدان قد تم تبسيطها وتيسيرها ، ويتم تحويل تدبير المؤسسات العمومية إلى شركات خاصة . الخطوة الموالية تتمثل في تحويل المدرسة إلى مقاولة بمعنى الكلمة ” (7) . إن بعض الحكومات هي موافقة بشكل كلي ؛ فالحكومة الفيدرالية بالولايات المتحدة منكبة على إصلاح أنظمة التعليم بتعاون وثيق مع التحالف الوطني للتجارة National  Alliance of Business ، وهو لوبي جد قوي (8) .
وقد انتهت الإصلاحات البرلمانية بزيلندة الجديدة إلى وضع ” البرنامج التحريري للتعليم الأكثر جرأة ، والذي لم يتم العمل به من قبل في أي بلد من البلدان الغنية ” (9) . كما أن مجال تدبير المدارس العمومية بكاملها أضحى ببريطانيا العظمى منذ مدة بين أيدي الشركات الخاصة كشركة بروكتر وغامبل أو شركة شال العالمية .
ويقترح عدد متزايد من الجامعات العمومية في مواجهة الانخفاض المتوالي للإنفاق الحكومي أنواعا من التكوين المؤدى عنه كأوكسفورد بإنجلترا (10) وماك جيل بكندا . . . وقد تحولت بعض الجامعات بالكامل إلى مقاولات كجامعة هوناش بأوستراليا .
أما بأوربا فإن الإصلاحات المطلوبة بغرض خوصصة أنظمة التعليم العمومي فيتم إدراجها واعتمادها بشكل تدريجي ، غير أن الموضوع جد حساس مما يفرض التحرك بحذر . وقد قررت اللجنة الأوربية أن تأخذ المسألة على عاتقها تحت ضغط المائدة المستديرة لرجال الصناعة الأوربيين (ERT) ، وفي هذا الإطار فإن تكنولوجيات التكوين والتواصل الجديدة توفر مبررا مثاليا . وتحت عصا المفوضة الأوربية فيفيان ريدينغ قرر وزراء التربية ” أن يتعبأوا من أجل الانخراط الكلي في الاقتصاد الجديد ” (11) . وينتظر قبل نهاية سنة 2001 أن يتم ربط مجموع المدارس الأوربية بشبكة الأنترنيت، وفي الوقت الذي يتم فيه إنقاص أعداد المدرسين وتخفيض أجورهم فإن أجزاء متعاظمة من الميزانيات الوطنية المخصصة للتعليم يتم تخصيصها لنشر المعلوميات بالمدارس (12) وهو ما يسعد كثيرا تجار البرمجيات والمنتجات التعليمية وصانعي الحواسيب كشركة IBM وهيوليت باكار HP ، وصانعي الميكروبروسيسور كشركة إنتل ومايكروسوفت وسن . . . دون أن نغفل الشركات العملاقة في مجال الاتصال . ويستجيب هذا التحويل للأموال العمومية نحو المقاولات الخاصة في المقام الأول لرغبات الطاولة المستديرة لرجال الصناعة الأوربيين (ERT) ، ويتمثل الهدف الثاني في أن يتوفر لاقتصاد القرن الواحد والعشرين يد عاملة متحركة ، مرنة ومتكيفة وقادرة على ممارسة التكوين طيلة الحياة ـ في أوقات الفراغ وعلى حسابها الخاص ـ ، أو باختصار يد عاملة حديثة (13) .
ولمناقشة الأولويات ، يلتقي رجال الصناعة الأوربيون (ERT) رئيس الاتحاد الأوربي كل ستة أشهر ، ومجموعة الضغط هاته يترأسها منذ سنة 1999 موريس تاباكسبلات ، رئيس الشركة الإنجليزية ـ الهولندية ريد إيلسوفيي التي تعلن عن نيتها في التحول إلى زعيم عالمي لقطاع التعليم والنشر على شبكة الأنترنيت .
وقد أوجد رجال الصناعة الأوربيون من أجل متابعة تقدم المفاوضات بالمنظمة العالمية للتجارة فريق عمل يهتم بالعلاقات الاقتصادية الخارجية ، وليس رئيسه سوى بيتر سوثرلاند ، رئيس شركة BP أموكو والمدير العام السابق للغات ما بين 1993 و 1995 . وحتى يضمن هذا اللوبي تمرير تعليماته للحكومة فهو لا يتوقف عن توجيه التحذير التالي : ” إن الصناعة في نهاية المطاف هي التي يجب أن تتحمل بشكل كامل وكلي مسؤولية التعليم والتكوين ( … ) فالتعليم يجب أن ينظر إليه باعتباره خدمة تم إرجاعها لعالم الاقتصاد (…) ” .
ومن المؤكد أنه لن يتم إلغاء أنظمة التعليم العمومية كليا ؛ فحسب المنطق المعمول به في الاقتصاد الليبرالي : أي خوصصة الأرباح وإطفاء الطابع الاجتماعي على الخسارة ، فإنه سيظل هنالك دور معين على الدول أن تلعبه . وهكذا ترى منظمة OCDE أنه ” ليس على السلطات العمومية سوى تأمين الوصول إلى التعليم لأولئك الذين لن يشكلوا أبدا سوقا مربحة والذين سيتفاقم إقصاؤهم من المجتمع عموما بمقدار ما سيستمر الآخرون في التقدم ” (14) . وموجة الخوصصة هاته لن تهم بطبيعة الحال البلدان الغربية وحدها .
الشركات المتعددة الجنسيات
لقد كانت بلدان العالم الثالث طوال الثمانينيات وتحت التأثيرات المشتركة لكل من صندوق النقد الدولي FMI والبنك العالمي مضطرة للإنقاص من بشكل كبير من نفقات الدولة ، وبخاصة في ميادين الصحة والتعويضات الاجتماعية والتعليم ، كما كانت مضطرة أيضا لتسريح المدرسين وإغلاق المدارس وقطع الإمدادات المالية عن الجامعات . وكما كان متوقعا فقد أضحت الوضعية تبعا لذلك كارثية .
سنوات بعد ذلك أعلن نفس البنك عن أسفه ” للمستوى الرديء للتعليم في البلدان ذات العائدات الضعيفة ” (15) ، وقد بدا له ذلك أكثر ضررا من ” الاستخدام المنتج لليد العاملة باعتباره مورد الفراء الرئيسي (…) فإن التعليم ، والابتدائي منه خاصة يسهم (…) في الرفع من إنتاجية عمل الفقراء (…) ” ، وبالنظر إلى ” أن أنظمة تمويل وتدبير التعليم الحالية وغير الملائمة تخلق العديد من المشاكل والتحديات ” فإن البنك ” دعا ” الحكومات منذ ذلك الحين إلى إعطاء الأولوية للاستثمار في التعليم القاعدي ! إلا أن خلف هذا الاعتناء المزعوم كانت تختبئ استراتيجية جد خاصة ؛ فالهدف كان هو تسليم القطاعات الثانوية والجامعية لرجال صناعة التعليم . ولتحقيق هذا الهدف فإن البنك ” شجع على اللجوء إلى القطاع الخاص ” ، و لا حاجة للقول إنه ينصح للحصول على قروض البنك العالمي بإذعان : ” البلدان المهيئة بالنسبة للتعليم الجامعي لتبني إطار تشريعي وقانوني …سيتدخل فيه القطاع الخاص بشكل أكبر فأكبر على مستوى التعليم والتمويل هي بلدان ستحضى بالأولوية بشكل دائم ” (16) ، على هذه البلدان إذن ” إصلاح أنظمة التعليم المدارة بشكل مباشر من قبل الإدارات المركزية أو الدولة ، والتي لا تترك إلا هامشا ضيقا للمبادرة . . . ” .
ولتحاشي أن يضل المشرعون فقد ضغط البنك العالمي على الحكومات مباشرة ؛ لقد ” ساعدها ” على ” إيجاد بيئة ملائمة لتطور القطاع الخاص من خلال إلغاء العقبات القانونية والتنظيمية وتسريع وتيرة إصلاح المقاولات العمومية وتشجيع توفير الخدمات العمومية عن طريق القطاع الخاص … ” . بالهند ، ومند بداية التسعينيات ، حسمت الحكومات المتعاقبة أمرها بخصوص تنفيذ البرنامج الموقوت للخوصصة المملى من قبل البنك العالمي ، فـ % 75 من الجامعات هي الآن جامعات خصوصية بمحافظة ليرالا ، وقد أضحت اللغة الإنجليزية بشكل متزايد لغة التعليم الأولى ، و % 60 من الثانويات بساحل العاج هي منذ اليوم كذلك مؤسسات خصوصية (17) .
بأمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا يصعد نجم صناعة التعليم بنفس السرعة التي تتوفر بها دروس السوق المقترحة من قبل بنك المعطيات إدانفيست Edinvest ، وهو أحد ملحقات البنك العالمي . هل ترغب في الاستثمار في مجال تدبير المؤسسات التعليمية ؟ أم في برامج تبادل الطلاب والتلاميذ ؟ أم في مجال القروض المخصصة للطلبة ؟ أم في مجال التعليم الأهلي ؟ أم في مجال اختبارات التقويم ؟ أم الدعم المدرسي ؟ التعليم عن بعد ؟ يكفيك أن تختار بلدا من البلدان ليكون بإمكانك الوصول إلى لائحة عريضة من الفرص . ولأن البنك العالمي يرغب في ” توفير فرصة وحيدة من فرص سوق الأعمال والصفقات للشركات المتعددة الجنسيات ” (18) فقد أوجد أداة جد فعالة تتمثل في ” التحالف من أجل التعلم الشمولي Alliance for Global Learning ” (19) المختص في مجال التعلم عن بعد أو e-learning . وهذا التحالف ” يحصل على قاعات المعلوميات ويكون المدرسين ويتعاون مع الحكومات والقطاع الخاص من أجل تطوير برامج التدخل ” . ومن بين المحتضنين ، عفوا ” الشركاء والمانحون الكرام ” فإننا نجد أنفسنا أمام أبناك الأعمال المعتادة والمألوفة : ج ب مورغان ، غولدمان ساش ، مكتب المستشار إرنست ويونج ، وبضع شركات من شركات المعلوميات المتعددة الجنسيات ، غير المهتمة كليا بالربح مثل 3Com أو سن ميكروسيستم . وهذه المقاولة ممثلة من قبل جون كاج من الأطر المسيرة العليا ، وهو يلخص في كلمة روح المقاولة : ” إننا في شركتنا نوظف مستخدمينا عن طريق الحاسوب وهم يعملون على الحاسوب كما يتم تسريحهم عن طريق الحاسوب ” (20) وهذا كما يظهر برنامج متكامل .
الطلبة : صنف جديد من الفقراء
إن تحويل التعليم إلى صناعة يستلزم جعله مجالا مربحا . ومن ثمة عفا الله عن التعليم المجاني للجميع ، هذه المجانية الواردة مع ذلك في البند 13 من المعاهدة العالمية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية ، الاجتماعية والثقافية ( الأمم المتحدة 1966 ) . إن التنامي المطرد لكلفة الدراسة بالنسبة للتلاميذ وآبائهم ينتهي بخلق صنف جديد من الفقراء ألا هم الطلبة .
منذ سنة 1992 أعلن برتراند كلوزيل ، الرئيس المدير العام لمؤسسة Educinvest(21) ” أن مستقبلا واعد ينفتح أمام التعليم التجاري (…) وإذن يجب أن نعود الناس على أداء ثمن دراستهم ” ، وذلك أيضا هو رأي ساندي كودفيري ، المديرة العامة للجامعة الأسترالية ديكين Deakin : ” أعرف أن الكثير من الجامعيين يعتقدون بوجوب أن يكون التعليم مجانيا وكونيا ، لكن الحقيقة هي أن للتعليم قيمة تجارية ؛ فالاستمرار ماليا في التعليم يعني ضمان العائدات للفرد وتأمين مستقبله ” .
غير أن المستقبل بالنسبة للملايين من الطلبة هو مرادف للمديونية ، والمنح الدراسية يتم الحصول عليها أكثر فأكثر بفعل الكفايات وليس بفعل الحاجات . إن التلاميذ بكولومبيا على سبيل المثال يتمون دراستهم وقد تحصل بذمتهم كديون مقدار يتراوح ما بين 20.000 و 50.000 دولارا حسب الشعب ومدة الدراسة . وبإفريقيا فإن كلفة الديبلومات على الخط المعروضة من قبل الجامعات الأجنبية هي كلفة فاحشة حتى في ما يخص البرامج المدعمة بشكل واسع كما هو الشأن في الجامعة الإفريقية البصرية (عبر الأنتيرنت) ؛ فكل وحدة من وحدات القيمة التي تبث دروسها من كندا أو المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة تكلف ما بين 200 إلى 300 دولارا .(22)
وما هو أدهى من ذلك هو أن تحرير حقوق التسجيل في عديد من البلدان يمكن من فرض أسعار أغلى على الطلبة الأجانب . وفي هذه اللحظة بكندا فإن الباطرونات المجتمعين في غرفة التجارة بمونتريال يمارسون ضغوطا من أجل تحرير حقوق التمدرس في الجامعات .
ومن ثمة فإن البلدان الغربية تنخرط في منافسة ساخنة من أجل جلب ” الطلبة الأجانب الذين يمولون بأنفسهم دراستهم . ويقدر هذا السوق بـ 130 مليار فرنك بالنسبة لمجموع العالم ” (23) . وتجعل مؤسسة Edufrance من هذا الهدف الهدف الأولى من غيره . إن هذه المؤسسة التي أسست سنة 1998 من قبل وزارتي التعليم والشؤون الخارجية تدار من قبل فرانسوا بالمون ، وهو الرئيس السابق لمؤسسة Sodeteg وهي أحد فروع شركة طومسون CSF . لكن ومن أجل توسيع ” سوق الطلبة ” هذا ، يجب امتلاك القدرة على جلب الشبان الذين ليست لديهم موارد مالية خاصة ، لذلك يتم إحداث أنظمة اقتراض مخصصة للطلبة في عديد من البلدان . ويعتبر البنك العالمي بطبيعة الحال في العالم الثالث هو الجهة التي تنجز هذه المشروعات بشراكة مع كبريات الأبناك العالمية كبنك سيتي بنك . وزيادة على ذلك فإن المغامرة تبدو له محفوفة بالمخاطر . إن البنك الذي لا يخجل من أي شيء يتساءل : ” ويطرح على نفسه بطبيعة الحال مشكلة السمة المتقلبة للوفاء بالديون في بلدان ليس من السهل فيها الحصول على عمل حتى ولو بعد إنجاز فترة دراسة جيدة . إلا أن المسألة تستحق أن تعالج وتفحص ، ويكفي أن يتم ذلك من خلال مطالبة المستدين أو أسرته بتوفير ضمانة فعلية أو شخصية ” (24) .
إن مجموع النظام التعليمي طالته موجة الخوصصة هذه ابتداء من دور الحضانة وانتهاء بالتكوين الخاص بالبالغين . لكن هذه الصناعة مبنينة بشكل أدق في القطاع الجامعي ومجال تكوين البالغين ، وذلك هو السبب في أن المفاوضات الحالية بالمنظمة العالمية للتجارة لا تتعلق ” إلا ” بهذين القطاعين فقط .
المنظمة العالمية للتجارة :
أهي وزارة كونية للتعليم ؟ ..
إن هندسة الاتفاق العام لتجارة الخدمات AGCS هندسة معقدة ؛ فلم يتم إلى الآن إنجاز هذا الاتفاق بشكل نهائي إذ أن بعض بنوده هي عرضة للتأويل . إن تعريف الخدمات التي يغطيها هذا الاتفاق تدرج خدمات التعليم عندما تكون هذه الأخيرة غير ممولة و لا مدارة بشكل كامل من قبل الدولة . بيد أنه لدى غالبية البلدان أنظمة هجينة حيث يحتل القطاع الخاص مكانة أعظم أو أقل كبرا إلى جانب القطاع العام . وفي هذه الظروف فإن ” وجود الخدمات العمومية ذاته يمكن طال الزمن أم قصر أن يكون محل إعادة نظر ” (25) .
خطاطيا يمكن تقسيم هذا الاتفاق إلى جزئين : أولهما يتعلق بالأنظمة والالتزامات العامة التي تنطبق على 160 قطاعا من قطاعات الخدمات : قواعد حول الشفافية ، أشكال الدعم المالي ، التنظيم الداخلي . ويجمل إلغاء التقنينات المنظور إليها باعتبارها تقنينات أكثر صرامة مما يجب بالنسبة للتجارة ( البند 6 ) . وأكثر من ذلك فإن عليها أن تستجيب لـ ” هدف سياسي مشروع ” .
والمنظمة العالمية للتجارة بطبيعة الحال هي التي تقرر في أمر المشروعية هذا ، ومن الأمثلة على الإجراءات التي ستتم غربلتها نذكر : شرط الجنسية للتمكن من فتح مؤسسة تعليمية ، التقنينات المتعلقة بمسألة الاعتماد ، شرط الجنسية بالنسبة للأساتذة وأعضاء المجالس الإدارية ، الاحتكارات العمومية والدعم المالي الكبير للمؤسسات التعليمية الوطنية .(26)
الجزء الثاني من الاتفاق ينطبق على الالتزامات الخاصة والنوعية ، أي على الخدمات التي التزمت البلدان الأعضاء بالإنقاص منها وتقليصها تدريجيا وصولا إلى الإلغاء النهائي لكل الإجراءات المعيقة للتجارة .
إن هدف المفاوضات الجارية هو جعل أكبر عدد من البلدان تضع لوائح التزاماتها ؛ ففي سنة 1994 وإبان توقيع الاتفاق ، 46 بلدا ” فقط ” كانت قد التزمت بتحرير مجال التعليم ، ويتعلق الأمر بالنجاح في الانفتاح الكلي للأسواق ومعاملة المقاولات الأجنبية على قدم المساواة مع المقاولات الوطنية (البندان 16 و 17) .
هل أنتم في حاجة إلى جامعة واحدة في ناحيتكم ؟ .. يمكن أن تكون لديكم عشر جامعات ، وذلك لأنه سيكون من الممنوع تقليص عدد المزودين العاملين في منطقة ترابية معطاة . أما الدعم المادي للمؤسسات الوطنية فسيكون من المشكوك فيه أن هذه المؤسسات تمارس منافسة غير مشروعة (27) . أتريدون تقليص مساهمة المزودين الأجانب في الرأسمال ؟ .. سيكون ذلك ممنوعا . أتريدون الحيلولة دون قيام مؤسسات ذات أهداف ربحية مع إمكانية تحويلها لهذه الأرباح إلى الخارج ؟ .. لن يكون ذلك من حقكم أبدا .
وأخيرا ، فإن الاتفاق العام لتجارة الخدمات يتوفر على ورقة جوكير لا مثيل لها : وهو البند 23.3 الذي يسمى أيضا ” الشكاية في حالة عدم الخرق ” ؛ ويمكن هذا البند شركة ما للخدمات عرفت ” مزاياها المحسومة ” تقليصا أو إلغاء بفعل تقنين هو مع ذلك مطابق لمقتضيات الاتفاق من أن ترفع شكاية للمنظمة عبر حكومتها وتتوصل بتعويضات . ومن ثمة فلم يعد الأمر يتطلب أن تكون مسؤولا عن جرم ما حتى تتم معاقبتك .
وتلجأ المنظمة من أجل إلغاء الحواجز التجارية إلى استشارة الصناعيين بشكل مباشر ؛ فقد تم توجيه استمارات لهم عن طريق مختلف اللوبيات ، وبالنسبة للتعليم فإن الغات GATE هي التي تقوم مقام المنظمة (28) . الغات GATE وهو التحالف الشمولي من أجل تعليم عابر للأوطان يترأسه السيد كلين ر.جونز ، الرئيس المدير العام للجامعة البصرية جونز العالمية ، وهذه الشركة أيضا هي أحد أعضاء اللوبي الأمريكي المسمى التحالف الوطني من أجل التجارة National Alliance of Business . وقد نظمت الغات بشراكة مع Reed-Elsevier في ماي 2000 بفانكوفير صالون السوق العالمي للتعليم (WEM) . . . (29) .
وتلتقي اللجنة الأوربية من جهتها ، وبشكل أدق الإدارة العامة للتجارة الخارجية DGI بالصناعيين بشكل منتظم ودائم .
الشركات العابرة للأوطان وعن طريقها
إن هنالك شبه التحام في ما بين أوساط رجال الأعمال واللجنة الأوربية ، والدليل على ذلك في هذه النبرة : ” ليس الاتفاق العام لتجارة الخدمات شيئا ما يوجد في ما بين الحكومات ، فهو أولا وقبل كل شيء أداة يستفيد منها عالم الأعمال والصفقات ” (30) والإدارة العامة للتجارة الخارجية DGI تكد وتجتهد بدون حساب لجعل الوزارات تتبنى شروط ومطالب الصناعيين .
وقد استدعى مديرها ليون بريتان في سنة 1998 الباطرونا الأوربية كي يعرض عليها الأداة الجديدة المخصصة لتسريع المفاوضات بالمنظمة العالمية للتجارة : وتتمثل هذه الأداة في بنك المعطيات « Market Acsess Database » ، وقد صاح هذا المدير مغتبطا ” خبرونا عن الأسواق التي تعترضكم فيها عراقيل حكومية ، أي العراقيل التي يسهل تحييدها عن طريق المفاوضات التجارية ” . ولو أن السير ليون Sir léon لم يعد عضوا في اللجنة منذ سنة 1999 فإنه لا زال مع ذلك يغشاها باستمرار بفضل وظيفته الجديدة كلوبي . وقد أصبح في شهر فبراير 2000 رئيس أحد اللوبيات الممثلة للصناعة المالية لإنجلترا ، وأيضا نائب مدير البنك UBS Warburg .
ومن جهته فإن المدير الحالي لـ DGI باسكال لامي ، المكلف بالمفاوضات في كنف المنظمة العالمية للتجارة ، هو أيضا عليم متضلع بخفايا سياسة بروكسيل ومجال الأعمال والصفقات . لقد عمل ما بين 1984 و 1994 مديرا لمكتب جاك دولور وهو حينها رئيس اللجنة الأوربية ، ثم أصبح في ما بعد مديرا عاما للقرض الليوني حيث كان يشرف على عمليات الخوصصة ، وكذا رئيسا للجنة المستقبلية لتنظيم الباطرونا CNPF ، وهو المسمى حاليا MEDEF .
إن العلاقات وثيقة في ما بين التكنوقراطيين الأوربيين ورجال الصناعة ؛ ففي سنة 1998 أنشأ السيدان ليون بريتان ورئيس بنك باركلايز أندرو بوكستون لوبيا قويا بغاية التتبع عن قرب للمفاوضات المتعلقة بالاتفاق AGCS ، ويتعلق الأمر بمنتدى الخدمات الأوربية European Services Forum(ESF)(32) . وبطلب من روبير مادلان ، عضو DGI تم تكليف المنتدى بوضع لائحة بـ ” عوائق التجارة ” في القطاعات الموصوفة بأنها ” حساسة ” ، والمتمثلة في البيئة ، القطاع السمعي ـ البصري ، الصحة والتعليم (33) . وفي شهر نونبر 2000 مولت مصالح باسكال لامي في حدود 50.000 أورو مؤتمرا هاما نظم من قبل منتدى (ESF) . الهدف كان هو معرفة المآل الذي وصلت إليه المفاوضات بخصوص الاتفاق (AGCS) ! ، وبصالونات فندق شيراتون ببروكسيل اجتمع تكنوقراطيو DGI وأعضاء مجلس تجارة الخدمات بالمنظمة العالمية للتجارة وممثلون عن السكرتارية الأمريكية للتجارة وكذا عديد من اللوبيات الأوربية والأمريكية أيضا .
خطابات الدفاع عن أوربا في وجه الولايات المتحدة كانت خافتة ؛ فحضور اللوبي الأمريكي كان من الممكن أن يفاجئ . ومع ذلك فبضعة خلافات في ما بين الأمريكيين والأوربيين لا يجب أن تخفي المصالح المتقاربة لدى صناعيي ساحلي الأطلسي . مؤكد أن حضور فيفاندي العالمية ضمن التحالف الأمريكي لصناعيي الخدمات (USCSI) ليس خطأ من أخطاء casting . وأكيد أن الوفاق ليس تاما ، ولكنه ينحو نحو الاكتمال بفضل بضعة أدوات تم وضعها خصيصا لهذا الغرض (34) ؛ وذلك أن المنظمة العالمية للتجارة في حاجة إلى إرساء مصداقيتها ؛ فالنزاعات بين القوتين العظميين تصنع لها صيتا غير محمود أحد عواقبه يتمثل في تنامي الاحتجاج . لكن ليست تلك هي الصعوبة الوحيدة التي تواجه المنظمة ؛ إذ ساهمت بلدان الجنوب بشكل واسع في إفشال المؤتمر الوزاري بسياتل في شهر ديسمبر 1999 . وتبدو المنظمة في المفاوضات الجارية حاليا أكثر تصميما على إسماع صوتها ، وعلى تأكيد أن الاتفاق العام حول تجارة الخدمات تم التقرير بشأنه رغم معارضة هذه البلدان (35) .
المقاومة
إن عديدا كبيرا من الجمعيات التي كانت حاضرة في معركة سياتل انكبت من جهتها على العمل مجتمعة حول أرضية تقول : ” إما أن تخضع المنظمة العالمية للتجارة وإما أن تلغى ” . وباعتبار الاتفاق العام حول تجارة الخدمات ” غير قابل للتحسين و لا للتفاوض ” (36) ، فإن الاستنتاج هنا يفرض ذاته . يجب أن نحقق الإيقاف الفوري للمفاوضات الجارية حاليا ، والقيام بتقييم عميق لعواقبها ، وربما الانتهاء ” بنزع المصداقية عنها “.
إن هذه الشركات تشترط أن تمتلك القدرة على أن تتصرف كما يحلو لها وبما يخدم مصالحها (1) ، بحيث يجب إلغاء كل ما يشكل عرقلة في وجه ممارسة التجارة . وبهذا الصدد فقد تبين أن المنظمة العالمية للتجارة هي الأداة المثلى لتحقيق هذه الغاية ؛ فهي بدعوى تنظيم المبادلات التجارية تبسط سلطتها لتطال مجالات وميادين كانت لا تزال تعتبر إلى عهد قريب شأنا وطنيا . ومن ثم فقد تم رهن الخدمات العمومية والتعليم على الخصوص عن طريق اتفاقية ملتبسة و لا واضحة هي اليوم موضوع مفاوضات ، وتسمى : الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات AGCS .