أنفاس نت
قد يبدو للوهلة الأولى ومن خلال إخضاع القارئ العنوان لفعل التأويل، أن نية الكاتب تذهب إلى افتعال مفاضلة ما بين الطرفين: المدرس والمتعلم. لكن من زاوية نقدية، فالمعنى المراد إيصاله يُفهم على نحو معكوس تماما أو على الأقل يرنو إلى مسك العصى من الوسط كما يقول المثل المتداول، دون التحيّز إلى أي طرف. فالحياة المعاصرة -وهو ما ينبغي الانتباه له-تُعلن انقلابا جذريا فكاكا لمجموعة من الارتباطات المحنوطة بثوب القداسة، منها: موت الكاتب وحياة النص، موت الأب وحياة الابن، موت الناقد وحياة المعلّق الافتراضي {...} إلى غير ذلك. وعليه فدلالة العنوان تُبطن تحريضا للوعي لكي يتخلّص من ركام معارفه السابقة ويجيد التنقل بسلاسة بين مجموعة الثنائيات التي أذابها واقعنا الحالي، منها: الأخذ والعطاء، التلقي والفاعلية، السلطة والسلطة المضادة، النموذج والقالب، المؤثر والمتأثر، العارف والمريد، الممثل والمشاهد، العنف الرمزي والعنف المادي {...} الخ، كلها متقابلات تصدق مفاعيلها على العلاقة المحقونة اليوم بين المعلم والمتعلم والتي لا يمكن الاكتفاء بعدّ العنف المدرسي الإفراز الوحيد لها. مادامت الإشكالات التي تطرحها العلاقة التربوية في الحياة المدرسية جد معقدة ومستعصية.
كما يجدر التنبيه بأنها ليست بتبادلات قارة وثابتة ومنزّهة عن أي تغيير أو إتلاف بما أن قناعات الناشئة تذهب سواء بشكل أعمى أو مقصود إلى إبدال ما تم نحثه من قبل السلف وتمثلهم لمفهوم الحرية على نحو جدّ مفرط. بمعنى آخر، هناك مدّ تثويري يسجّل حضوره حاليا في جميع البلدان – ما عدى تلك المحافظة -تفتّق معالمه الاعلاميات والوسائط الرقمية والميديا وشبكات التواصل الاجتماعية والعالم الافتراضي والمؤسسات التنشئوية البديلة والإرادة الشعبية {...} الخ، تتكاثف مساعيه في توثير موازين القوى وإعادة ترتيب النسق الهرمي كما ثمّ وضعه وإحلاله سواء على المستوى السياسي، التعليمي/ التربوي، الثقافي، الاجتماعي، العائلي.
تحطمت في سبعينيات القرن الماضي رموز النفود المجسدة في الأب والرئيس والأستاذ. كل التحليلات الفلسفية والسيكولوجية والسوسيولوجية والتربوية وقفت على هذا التحول في النموذج الإرشادي لمجتمعاتنا الذي أعلن موت السلطة. (1). وإن كانت أشكال السلطة قد تطوت بتطور الممارسات الديموقراطية، فإن المؤسسة المدرسية قد تراجعت أمام هذه التحولات، لم تعد النماذج القديمة ناجعة (السلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية في مقابل السلطة المشروعة)، مما استدعى البحث عن نماذج أخرى (2).
أما بالنسبة للمدرس، فنستطيع القول أنّه لم يستثنه هذا الإرتجاج الفجائي الذي لحق/طال قلعته المصونة، بل إنه يكاد يكون أول رأس مستهدف يرجى إسقاطه من لائحة طويلة الأسماء، بحكم أنه معادل رامز للأنا الأعلى، للسلطة، للتمركز، للهيمنة، للاقتداء، للزعامة على المستوى السيكولوجي طبعا. ومن هذا المنطلق المنهار والمعدّل، يجوز فهم مشكلة المتعلم مع مدرسه ذكرا أو أنثى، سواء في البلدان السائرة في طور النمو أو غيرها. إن ظاهرة العنف المدرسي في مختلف مناحيه وتجلياته هي تعبير موضوعي عن أعراض العصر « les symptômes du siècle »المُخترق بدوافع عدوانية وعنفية يتضاعف منسوبها عند المراهقين أكثر من باقي الفئات العمرية نظر لعدة عوامل لا يسعنا التفصيل فيها. ونكتفي بالتأشير على أهم التغيرات النفسية التي تصاحب هذه الفترة المفصلية بين البلوغ والشباب: يشعر المراهق على الدوام برغبة دفينة في إثبات الذات إزاء الراشدين. ويسعى الفتيان على وجه الخصوص، في هذه المرحلة من العمر، إلى إثارة الانتباه وإلى مواجهة الراشدين بنوع من التحدي، سواء في البيت أو في المدرسة وكذلك الشارع.
إن المراهق كائن يكبر وينمو وينتقل من حال إلى حال، ويتغير باستمرار. ولهذا السبب، يصعب على أي كان أن يقدم عنه صورة جامدة، ثابتة المعالم. إن الدور الذي تؤديه مرحلة المراهقة هو تكوين شخصية المراهق، وهذا ليس بالأمر الهين، في هذه الفترة التي تكثر فيها الصراعات العائلية وأحيانا المدرسية. ويكون على المراهق أن يؤسس توازنه الخاص، وأن يصمد للمؤثرات السلبية للوسط الخارجي وأن يحذر الانسياق وراء خياله المجنّح. وبالتالي فكلّ نقاش حول المراهق والمراهقة يتطلب استحضار النقط التالية: مكانة المراهق في الحياة – المواجهة بين المراهقين والآباء – احتياجات المراهق – شغب المراهقة – الوظيفة الاجتماعية للمراهقة – الأب المتسلط أو غياب سلطة الأب {...} الخ. إن فترة المراهقة وكما لا يخفى عن الجميع هي فترة تصفية الحسابات واستعادة الانجراحات الطفلية وتأجيج ذاكرة السيناريوهات القديمة إنها لعبة يوقظها النسيان أكثر مما يجمدها أو يمحيها بالمرة.
إن مقولة موت المدرس تحمل دلالة مجازية لا تكفّ عن توفير المعاني والاشارات السائلة للوضعية المأزومة التي أصبح يتخبّط في مدارتها الحزينة، طالبا النجدة بعد أن كان هو قارب النجاة. فالمعرفة التي كانت سلاحه الحاسم لم تعد حكرا عليه، فوسائل الاتصال الجماهيري قد أضعفت من منسوب السلطة المعرفية لدى المدرس، بحيث لم يعد مركز المعرفة كما السابق.
ففي الماضي، كان المدرس مالكا للمعرفة والسلطة، وكتن يقوم بتدريس التلاميذ مجموعة من المعلومات والمعارف التي لم تكن موضوعا للتساؤل، ولم يكن الشك ليتطاول عليها من بين أيديها أو من خلفها. وكان يمارس سلطة مطلقة على التلاميذ استنادا الى تفوقه الجسدي والمعرفي واعتمادا على تفويض المجتمع ومؤازرته له.
كما كانت مهنة التعليم تحقق لصاحبها الأمان المادي والمعنوي وتوفّر له التقدير والاعتبار الاجتماعيين وتضمن له مكانة محترمة داخل المجتمع. إلا أن هذه الوضعية تعرف حاليا تغيرات جذرية في الكثير من جوانبها. فلقد تعددت مصادر المعرفة ولم يعد المدرس مصدرها الوحيد، وتقلص دوره الكاريزمي ووظيفته الالقائية، وتراجعت مكانته الاجتماعية وشروط حياته المادية قياسا بفئات اجتماعية أخرى، وأصبح يعيش تحت رحمة نظام تعليمي مركزي تراتبي، وبنيات بيروقراطية متكلسة، تعرقل نموه الشخصي والمهني، وتحد من حريته وتخنق إمكانية الخلق والتجديد لديه. فكان أن اهتزت نتيجة للتغيرات السابقة، سلطة المدرس المؤسسية، وغذت عرضة للجدال والاعتراض والتمرد، مما يحتم عليه البحث عن قواعد اسناد أخرى ومرتكزات بديلة، يبني عليها سلطته التربوية (3).
وأهم هذه المرتكزات من وجهة نظر نفسانية: تأكيد حضوره – قوة شخصيته – ثبات توازنه النفسي – نضجه الوجداني، على اعتبار ان النضج الوجداني الكامل للمربي يحقق له الاطمئنان والثقة بالنفس والقوة الهادئة، ويمكنه من ممارسة سلطته بشكل تلقائي (موكو، ص 107).فالسلطة الحقيقية الطبيعية للمدرس تبع من التأكيد الهادئ والحازم لذاته. كما أن العامل الحاسم المحدد للعلاقة التربوية ولتمثلات ومشاعر التلاميذ نحو المدرس ليس هو صفاته الجسمية أو تكوينه الأكاديمي أو البيداغوجي أو طريقة ممارسته للسلطة. وإنما هو درجة نضجه الوجداني، وقدرته على ضبط النفس والتحكم في المشاعر الشخصية (كالغضب والخوف)، وتحرره في ممارسته لسلطته التربوية من ردود الفعل الانفعالية (نفس المرجع: ص 102). إن المتعلمين في حاجة الى القدوة أكثر من حاجتهم الى الانتقاد "جوزيف جوبير".
إن إحدى الصعوبات الرئيسية في عمل المدرسين، تكمن في تصاعد النقد (نقد عمل المدرسين). ففي مجتمع أصبح نقديا، صارت أنماط السلطة التقليدية القائمة على الأمر بالفعل، والتفكير بواسطة مؤسسة أضفيت عليها القداسة، متجاوزة، إذا تم نزع القداسة عن هذه المؤسسات وتعويضها بأنماط حديثة للسلطة، مبينة على المحاجة والتفاوض، في إطار مؤسسات أكثر انفتاحا. هذه الطفرة التي هي مكون أساس للحركة الكبرى للحداثة حسب Ulrich Beck (بالنسبة للدول الغربية). وهكذا تأثرت الأسرة والمقاولة والمدرسة والدولة بهذا التطور، الذي لا يعني اندثار السلطة، ولكن ظهور مشروعية أنماط جديدة للسلطة. انبثاق حداثة نقدية، تكون فيها أدوات الحداثة نفسها (المدرسة/ المعارف/ العلوم/ التقدم /العقل) خاضعة للنقد. هكذا فتعددية مصادر المشروعية المحددة للمدرسة الجدية la bonne école » « قد فتحت فضاء نقدي لا متناهيا. فانخفاض الاعتراف الاجتماعي علاوة على شبه فقدان المكانة الاجتماعية للمدرسين، وما يعتبرونه تدخلا للآباء في المجال التربوي، وعدم الاهتمام بالمعارف المدرسية من قبل المعلمين، هي تجليات ملموسة لهذه الحركة، وهذا ما يتطلب تبريرات لا حصر لها: تبرير مسلكهم في عملهم، تبرير المعارف المدرسية، تبرير العقوبات، تبرير النقط، تبرير علاقاتهم مع التلميذ .. الخ. فمطلب التبرير هذا، بات مبعث شعور للمدرس كما لو كام موضع الخصم أو المشتبه به، وسببا في نوع من الاستنزاف(4).
• ملاحظات حول واقع العلاقة بين المدرس والتلميذ في المجتمع العربي
لقد هوت جل الأطر المرجعية les cadres référentielles » « التي تضفي وتغذي مشروعية ما على سلطة الأستاذ وتصون حرمته من السلوكات العدوانية والعنفية للتلاميذ. لا يكمن اليوم إنكار الاهتزازات التي شملت البنيات النفسية والسياسية والعقائدية للمجتمعات العربية، تعود إليها بالضرورة كل إطاحة بصورة المدرس، نجملها في الملحوظات أدناه:
-بعد الحراك العربي المنعوت بالربيع وانهيار شوكة الشخصية الكاريزمية التي مثلّها مجموعة من الرؤساء والقادة لم يكن للأطروحة الأبوية إلاّ أن يمسسها نفس النزيف في مجتمعات بطرياريكية ينبع فيها الاحترام لشخص الأب من الكبت وليس من مبدأ أخلاقي. وعليه، لم تكن الاختلالات والتعديلات الطارئة على مستوى البنية سوى تعبير مُلتوي عن عودة المكبوت وليس التخلّص منه أو تجاوزه.
-وهو ما يصدق على الحقل السياسي الذي يحرّكه نفس المفعول الهوامي للصورة الأبوية الجريحة في واقعنا الحالي، إذ تمة إعادة تشكيل لصورة القائد/ الأب المقتول أو المطرود أو المحاكم في المتخيل السياسي على نحو انهزامي وتقهقري ولربما حتى طفلي.
-أما فيما يهم الجانب العقائدي فهو كذلك يتشرّب التأثيرات الوافدة من النفسي والسياسي، حيث أمست شخصية الفقيه أو الداعية تعيش نكسات ملحوظة وتناقضات صارخة جعلت منها تقتصر على لعب أدوار تمسرّحية متهافتة بعيدة كل البعد عن إمكان بناء المثال الأعلى أو إخضاع المريدين إلى سلطات الأنا الأعلى surmoïques Instances المخلولة أعمدته.
تلكم أهم الضربات الموجعة التي وجهها الجيل الصاعد إلى المؤسسات الراعية له منذ الطفولة، وبالتالي يُستعصى اليوم الحديث عن وجود مقود ما يوجه سلوك الناشئة أو تطبيق سياسة احتوائية بحذافيرها وإنما هناك واقع في طور التشكيل، قد تنجح فيه بعض التدخلات والمحاولات وقد لا تنجح.
*أستاذ الفلسفة / متخصص في التحليل النفسي والفلسفة النفسانية
تحطمت في سبعينيات القرن الماضي رموز النفود المجسدة في الأب والرئيس والأستاذ. كل التحليلات الفلسفية والسيكولوجية والسوسيولوجية والتربوية وقفت على هذا التحول في النموذج الإرشادي لمجتمعاتنا الذي أعلن موت السلطة. (1). وإن كانت أشكال السلطة قد تطوت بتطور الممارسات الديموقراطية، فإن المؤسسة المدرسية قد تراجعت أمام هذه التحولات، لم تعد النماذج القديمة ناجعة (السلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية في مقابل السلطة المشروعة)، مما استدعى البحث عن نماذج أخرى (2).
أما بالنسبة للمدرس، فنستطيع القول أنّه لم يستثنه هذا الإرتجاج الفجائي الذي لحق/طال قلعته المصونة، بل إنه يكاد يكون أول رأس مستهدف يرجى إسقاطه من لائحة طويلة الأسماء، بحكم أنه معادل رامز للأنا الأعلى، للسلطة، للتمركز، للهيمنة، للاقتداء، للزعامة على المستوى السيكولوجي طبعا. ومن هذا المنطلق المنهار والمعدّل، يجوز فهم مشكلة المتعلم مع مدرسه ذكرا أو أنثى، سواء في البلدان السائرة في طور النمو أو غيرها. إن ظاهرة العنف المدرسي في مختلف مناحيه وتجلياته هي تعبير موضوعي عن أعراض العصر « les symptômes du siècle »المُخترق بدوافع عدوانية وعنفية يتضاعف منسوبها عند المراهقين أكثر من باقي الفئات العمرية نظر لعدة عوامل لا يسعنا التفصيل فيها. ونكتفي بالتأشير على أهم التغيرات النفسية التي تصاحب هذه الفترة المفصلية بين البلوغ والشباب: يشعر المراهق على الدوام برغبة دفينة في إثبات الذات إزاء الراشدين. ويسعى الفتيان على وجه الخصوص، في هذه المرحلة من العمر، إلى إثارة الانتباه وإلى مواجهة الراشدين بنوع من التحدي، سواء في البيت أو في المدرسة وكذلك الشارع.
إن المراهق كائن يكبر وينمو وينتقل من حال إلى حال، ويتغير باستمرار. ولهذا السبب، يصعب على أي كان أن يقدم عنه صورة جامدة، ثابتة المعالم. إن الدور الذي تؤديه مرحلة المراهقة هو تكوين شخصية المراهق، وهذا ليس بالأمر الهين، في هذه الفترة التي تكثر فيها الصراعات العائلية وأحيانا المدرسية. ويكون على المراهق أن يؤسس توازنه الخاص، وأن يصمد للمؤثرات السلبية للوسط الخارجي وأن يحذر الانسياق وراء خياله المجنّح. وبالتالي فكلّ نقاش حول المراهق والمراهقة يتطلب استحضار النقط التالية: مكانة المراهق في الحياة – المواجهة بين المراهقين والآباء – احتياجات المراهق – شغب المراهقة – الوظيفة الاجتماعية للمراهقة – الأب المتسلط أو غياب سلطة الأب {...} الخ. إن فترة المراهقة وكما لا يخفى عن الجميع هي فترة تصفية الحسابات واستعادة الانجراحات الطفلية وتأجيج ذاكرة السيناريوهات القديمة إنها لعبة يوقظها النسيان أكثر مما يجمدها أو يمحيها بالمرة.
إن مقولة موت المدرس تحمل دلالة مجازية لا تكفّ عن توفير المعاني والاشارات السائلة للوضعية المأزومة التي أصبح يتخبّط في مدارتها الحزينة، طالبا النجدة بعد أن كان هو قارب النجاة. فالمعرفة التي كانت سلاحه الحاسم لم تعد حكرا عليه، فوسائل الاتصال الجماهيري قد أضعفت من منسوب السلطة المعرفية لدى المدرس، بحيث لم يعد مركز المعرفة كما السابق.
ففي الماضي، كان المدرس مالكا للمعرفة والسلطة، وكتن يقوم بتدريس التلاميذ مجموعة من المعلومات والمعارف التي لم تكن موضوعا للتساؤل، ولم يكن الشك ليتطاول عليها من بين أيديها أو من خلفها. وكان يمارس سلطة مطلقة على التلاميذ استنادا الى تفوقه الجسدي والمعرفي واعتمادا على تفويض المجتمع ومؤازرته له.
كما كانت مهنة التعليم تحقق لصاحبها الأمان المادي والمعنوي وتوفّر له التقدير والاعتبار الاجتماعيين وتضمن له مكانة محترمة داخل المجتمع. إلا أن هذه الوضعية تعرف حاليا تغيرات جذرية في الكثير من جوانبها. فلقد تعددت مصادر المعرفة ولم يعد المدرس مصدرها الوحيد، وتقلص دوره الكاريزمي ووظيفته الالقائية، وتراجعت مكانته الاجتماعية وشروط حياته المادية قياسا بفئات اجتماعية أخرى، وأصبح يعيش تحت رحمة نظام تعليمي مركزي تراتبي، وبنيات بيروقراطية متكلسة، تعرقل نموه الشخصي والمهني، وتحد من حريته وتخنق إمكانية الخلق والتجديد لديه. فكان أن اهتزت نتيجة للتغيرات السابقة، سلطة المدرس المؤسسية، وغذت عرضة للجدال والاعتراض والتمرد، مما يحتم عليه البحث عن قواعد اسناد أخرى ومرتكزات بديلة، يبني عليها سلطته التربوية (3).
وأهم هذه المرتكزات من وجهة نظر نفسانية: تأكيد حضوره – قوة شخصيته – ثبات توازنه النفسي – نضجه الوجداني، على اعتبار ان النضج الوجداني الكامل للمربي يحقق له الاطمئنان والثقة بالنفس والقوة الهادئة، ويمكنه من ممارسة سلطته بشكل تلقائي (موكو، ص 107).فالسلطة الحقيقية الطبيعية للمدرس تبع من التأكيد الهادئ والحازم لذاته. كما أن العامل الحاسم المحدد للعلاقة التربوية ولتمثلات ومشاعر التلاميذ نحو المدرس ليس هو صفاته الجسمية أو تكوينه الأكاديمي أو البيداغوجي أو طريقة ممارسته للسلطة. وإنما هو درجة نضجه الوجداني، وقدرته على ضبط النفس والتحكم في المشاعر الشخصية (كالغضب والخوف)، وتحرره في ممارسته لسلطته التربوية من ردود الفعل الانفعالية (نفس المرجع: ص 102). إن المتعلمين في حاجة الى القدوة أكثر من حاجتهم الى الانتقاد "جوزيف جوبير".
إن إحدى الصعوبات الرئيسية في عمل المدرسين، تكمن في تصاعد النقد (نقد عمل المدرسين). ففي مجتمع أصبح نقديا، صارت أنماط السلطة التقليدية القائمة على الأمر بالفعل، والتفكير بواسطة مؤسسة أضفيت عليها القداسة، متجاوزة، إذا تم نزع القداسة عن هذه المؤسسات وتعويضها بأنماط حديثة للسلطة، مبينة على المحاجة والتفاوض، في إطار مؤسسات أكثر انفتاحا. هذه الطفرة التي هي مكون أساس للحركة الكبرى للحداثة حسب Ulrich Beck (بالنسبة للدول الغربية). وهكذا تأثرت الأسرة والمقاولة والمدرسة والدولة بهذا التطور، الذي لا يعني اندثار السلطة، ولكن ظهور مشروعية أنماط جديدة للسلطة. انبثاق حداثة نقدية، تكون فيها أدوات الحداثة نفسها (المدرسة/ المعارف/ العلوم/ التقدم /العقل) خاضعة للنقد. هكذا فتعددية مصادر المشروعية المحددة للمدرسة الجدية la bonne école » « قد فتحت فضاء نقدي لا متناهيا. فانخفاض الاعتراف الاجتماعي علاوة على شبه فقدان المكانة الاجتماعية للمدرسين، وما يعتبرونه تدخلا للآباء في المجال التربوي، وعدم الاهتمام بالمعارف المدرسية من قبل المعلمين، هي تجليات ملموسة لهذه الحركة، وهذا ما يتطلب تبريرات لا حصر لها: تبرير مسلكهم في عملهم، تبرير المعارف المدرسية، تبرير العقوبات، تبرير النقط، تبرير علاقاتهم مع التلميذ .. الخ. فمطلب التبرير هذا، بات مبعث شعور للمدرس كما لو كام موضع الخصم أو المشتبه به، وسببا في نوع من الاستنزاف(4).
• ملاحظات حول واقع العلاقة بين المدرس والتلميذ في المجتمع العربي
لقد هوت جل الأطر المرجعية les cadres référentielles » « التي تضفي وتغذي مشروعية ما على سلطة الأستاذ وتصون حرمته من السلوكات العدوانية والعنفية للتلاميذ. لا يكمن اليوم إنكار الاهتزازات التي شملت البنيات النفسية والسياسية والعقائدية للمجتمعات العربية، تعود إليها بالضرورة كل إطاحة بصورة المدرس، نجملها في الملحوظات أدناه:
-بعد الحراك العربي المنعوت بالربيع وانهيار شوكة الشخصية الكاريزمية التي مثلّها مجموعة من الرؤساء والقادة لم يكن للأطروحة الأبوية إلاّ أن يمسسها نفس النزيف في مجتمعات بطرياريكية ينبع فيها الاحترام لشخص الأب من الكبت وليس من مبدأ أخلاقي. وعليه، لم تكن الاختلالات والتعديلات الطارئة على مستوى البنية سوى تعبير مُلتوي عن عودة المكبوت وليس التخلّص منه أو تجاوزه.
-وهو ما يصدق على الحقل السياسي الذي يحرّكه نفس المفعول الهوامي للصورة الأبوية الجريحة في واقعنا الحالي، إذ تمة إعادة تشكيل لصورة القائد/ الأب المقتول أو المطرود أو المحاكم في المتخيل السياسي على نحو انهزامي وتقهقري ولربما حتى طفلي.
-أما فيما يهم الجانب العقائدي فهو كذلك يتشرّب التأثيرات الوافدة من النفسي والسياسي، حيث أمست شخصية الفقيه أو الداعية تعيش نكسات ملحوظة وتناقضات صارخة جعلت منها تقتصر على لعب أدوار تمسرّحية متهافتة بعيدة كل البعد عن إمكان بناء المثال الأعلى أو إخضاع المريدين إلى سلطات الأنا الأعلى surmoïques Instances المخلولة أعمدته.
تلكم أهم الضربات الموجعة التي وجهها الجيل الصاعد إلى المؤسسات الراعية له منذ الطفولة، وبالتالي يُستعصى اليوم الحديث عن وجود مقود ما يوجه سلوك الناشئة أو تطبيق سياسة احتوائية بحذافيرها وإنما هناك واقع في طور التشكيل، قد تنجح فيه بعض التدخلات والمحاولات وقد لا تنجح.
*أستاذ الفلسفة / متخصص في التحليل النفسي والفلسفة النفسانية
هوامش:
1. A.Renaut : la Fin se l’autorité, Flammarion, 2004.
2. Martine Fournier, Sciences Humaines,N° :203.Avril.2003,p35-37.
3. دفاتر التربية والتكوين، مهام المردس ورسالته التربوية، المجلس الأعلى للتعليم، عدد مزدوج 8/9، 2013.
4. Lantheaume Françoise et Hélou Christophe, La souffrance des Enseignants, une sociologie pragmatique du travail enseignant P.U.F.paris.2008.
Savoir plus : Hannon Hubert, Paradoxe sur l’enseignant , paris, Les éditions ESF – 1989.