الأحد، 18 سبتمبر 2016

مترجم: كيف تخلق الرأسمالية مزيداً من “انعدام العدالة” ؟

تم نشر هذا المقال فى موقع evonomics بعنوان How Capitalism Actually Generates More Inequality للبروفيسور جوفيرى هودسون، وهو أستاذ الاقتصاد فى كلية هيرتفوردشير فى بريطانيا.

ترجمة :- محمد رمضان  



لماذا توسعة الأسواق وزيادة التنافسية لن يقللوا الفجوة في توزيع الثروة ؟!

على الأقل اسميا ، فالرأسمالية تمتلك أجندة تنويرية عن الحرية والعدالة الاجتماعية ، فهناك حرية التجارة والمساواة امام القانون ، يعنى ذلك أن كل  الناس سواء كانوا فقرا او أغنياء يحتكمون في معظمهم لنفس الدرزينه من  القواعد القانونية ، لكن مع انعدام المساواة في القوة الاقتصادية والثروة ، فذلك العامل المهم يتم تحييده عن معادلة المساواة في الرأسمالية .
فاليوم في الولايات المتحدة أغنى 1% يمتلكون 34% من الثروة ، وأغنى 10 % يمتلكون 74% من الثروة ، وأيضا فى المملكة المتحدة فأغنى 1% يمتلكون 12% من الثروة ، وأغنى 10 % يمتلكون 44% من الثروة ، فرنسا أغنى 1% يمتلكون 24% من الثروة واغنى 10% يمتلكون 62 % من الثروة وكذلك في سويسرا التي يمتلك  أغنى 1% فيها 35% من الثروة ، 24% فى السويد ، 15% فى كندا على التوالي ، وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة  فإن  كثيرا من الدول النامية تسير فى نفس المدى الرقمي .
في كتابهم المشترك ” على مستوى الروح ”  لريتشارد ويكنسون وكيت بيكت ، يبين الكاتبان الأثار الاجتماعية الناتجة عن سوء توزيع الثروة ، منطلقين من قاعدة بيانات تغطى  23 دولة نامية و 50 ولاية أمريكية ، لقد وجدوا أن هناك علاقة عكسية بين سوء توزيع الثورة والصحة النفسية والجسدية ، أيضا التعليم الجيد ، ودمج الاطفال في المجتمع ، الثقة في المجتمع ومؤسساته ، وعلى الجانب الأخر هناك علاقة طردية بين سوء توزيع الثروة وإدمان المخدرات ، انتشار الجريمة والعنف الاجتماعي والسمنة المفرطة وزيادة نسبة الحمل عند المراهقين . انتهى الكاتبان لنتيجة مفادها أن سوء توزيع الثروة تنتج العديد من السلبيات عن طريق الضغوط الاجتماعية النفسية التي تتولد من تفاعل الفرد مع مجتمع غير عادل .
إن عدم المساواة هو داء متوطن في الرأسمالية الحديثة منذ النشأة وحتى الآن ، فالبيانات التي جمعها ” توماس بيكيتى ” في كتابة الهام ( رأس المال في القرن الواحد والعشرين ) وكذلك التي جمعتها في كتابي ( صياغة مفاهيم الرأسمالية ) تثبت ذلك ، فتلك التباينات الضخمة في الثروة بين دول رأسمالية مختلفة نتجت تراكميا على مدى عقود ، وهذا يدعم الطرح القائم أنه يمكن التخفيف من الآثار السيلية لسوء التوزيع في ظل الرأسمالية .
لكن في البداية علينا أن نوضح الأسباب التي تنتج وتعيد إنتاج الظرف القائم في الرأسمالية الحديثة والمتعلق بسوء توزيع الدخل والثورة على حد سواء ، أو بصيغه أخرى علينا ان نبحث عن الميكانزمات التي تدمج بها الرأسمالية مسألة سوء التوزيع في السوق ؟ ، بالتأكيد فإن نسبة ما من التفاوت في الدخل ناتجة عن التفاوت في المهارات الفردية والمواهب بين الأفراد ، لكن هذا لا يفسر الفجوة الكبيرة خاصة في العقود الأخيرة للرأسمالية ، فمعظم سوء التوزيع هو ناتج بالأساس عن الميراث أو ميراث الثروة بشكل أدق ، والعملية هنا مركبة وتراكمية إلى حد بعيد ، فسوء التوزيع الناتج عن الميراث ينتج فروقا فرديا في التعليم والقوة الاقتصادية وامتلاك رأس المال وبالتالي فروقا كبيره في الدخل بين الأغنياء والفقراء .

هل تخلق الأسواق هذا التفاوت الكبير ؟!

إلى أي مدى يمكن أن ننسب سوء توزيع الثورة للمؤسساتية الحالية للرأسمالية المتمثلة في السوق ؟ فبعيدا عن النخب الأرستقراطية التي نجت بشكل ما من بدايات الرأسمالية ، أو النخب الاقتصادية التي تكونت في البدايات المبكرة للرأسمالية  فإن الكثير من الاقتصاديين يسلمون بصحة الطرح القائل بأن ميكانيكية السوق الرأسمالي هي المسببة لعدم المساواة أو سوء توزيع الدخل والثروة . في الواقع الاقتصادي فإن القوة النسبية بين البائعون والمشترون في السوق وقدرتهم المختلفة للتأثير على السعر تنعكس على الدخل المتولد لدى الطرفين بشكل كبير ، فعندما يمتلك بائع واحد في السوق أصولا قابلة للبيع والتداول السريع فإن السوق يميل ناحيته منهيا أي ادعاءات بالمنافسة الكاملة .
ولكن هل مع خلق المنافسة الكاملة أي التوسع الكبير في إمكانات السوق عن طريق توسعة القاعدة الخاصة بالبائعين في السوق سوف يحل مشكلة سوء التوزيع تلك ؟! في رأيي ان الأسواق مجردة لا يمكن لومها عن مشكلة سوء التوزيع ، وكذلك التنافسية في السوق بالتبعية ، فهذه الحجة الفارغة هي كمثل توجيه اللوم للمياه على غرق سباح ضعيف فيها ، ويجب أن نبحث عن الاسباب الموضوعية الخاصة بسوء التوزيع والتي هي في رأيي بعيدة عن السوق بصيغته المجردة .
فلا يمكن أن نقول أن ما قبل الرأسمالية كانت هناك عدالة في توزيع الثورة ،ومن ثم جاءت الأسواق ومعها التنافس وخلقت سوء توزيع الثروة والدخل . فالأسواق قائمة على تبادل اختياري بين البائع والمشترى ويبحث كلاهما عن الربح، وهو أساسي في السوق ، وأحد أطراف هذه العملية من المؤكد  سوف يربح أكثر من الآخر لكن من الاستحالة أن يستمر هذا الطرف في الربح دائما ، وإن حدث هذا فأنت تتحدث عن أسواق جبرية بدون التنافسية الموجودة فعليا بدرجة ما في السوق الرأسمالي الحالي  .
وهناك خطأ أخر في الطرح القائل بمسئولية الأسواق عن سوء توزيع الثروة وهو أن الأسواق هي مؤسسات وجدت منذ الاف السنين  ولم تكن الفجوة بتلك الحجم ، وبالتالي يجب علينا أن نبحث فى تجريد هذا الادعاء من مضمونة والذى في رأيي هو بداية للبحث عن الأسباب الموضوعية التي جعلت من مؤسسات الرأسمالية الأخرى – غير الأسواق – هي دافع أساسي لعدم المساواة ، ولا أقول أن الأسواق ليس لها دور ، لكن ليس الدور الرئيسي على الأقل في أخر 400 عام من عمر البشرية .
مصادر سوء توزيع الثروة في الرأسمالية .
إذن وبالتسليم بأن الأسواق كأداة مجرده ليست السبب المباشر في سوء توزيع الثورة فما هو السبب الأساسي ؟!
والاجابة على هذا السؤال يجب أن تشكل حجر الأساس في أي إجراء  سوف تتخذه الرأسمالية لإصلاح التفاوت الكبير  في توزيع الثروة ، لقد تطورت الرأسمالية في ظل سوء توزيع للثورة وورثته ( حرفيا ) من أنماط الانتاج السابقة لها ، تلك المنظومة المتكاملة من الانتاج التي تعمل على توزيع الثروة على أسس طبقية وجندرية وعرقية ، وعبر إتاحة فرصة الربح الأكبر في البدايات يتم تضخيم هذا التفاوت الكبير بالموقع الجغرافي والقدرة على التأثير في  السوق الرأسمالي ، وبواسطة تتبع عمليات  السوق وحدها لا يمكننا أن نكون صورة معمقة وشاملة عن مصدر سوء التوزيع ، فالأسباب الأوسع والأكثر تجذرا هي في الرأسمالية ذاتها .
ولأن  في الرأسمالية العمال ليسوا أقنان  ، فلا يمكنهم استخدام قدرتهم على العمل مدى الحياه للحصول على قروض تمويلية من أجل امتلاك رأس المال الخاص بهم ،فالحرية الاقتصادية تمنعهم من الحصول على تلك القروض لأن العمل وحدة ليس ضمانة كافية لتمويل قرض ،  وعلى الجانب الأخر فالرأسماليون لديهم تلك الضمانات وهى بالأساس رأس المال والأصول  المملوكة  لهم لذلك يقترضون المال ويستثمرون  وحجم تلك الأصول الضامنة ( collateralizable assets  ) يتفاوت مما يؤدى لتضخيم الفجوة في امتلاك الثروة أو (collateralizable wealth. ) وبالتالي ينتج سوء توزيع الثروة بالتبعية ،وحتى عندما يتاح للعمال امتلاك تلك الأصول الضامنة فإنها تبقى صغيرة بالمقارنة بما يمتلكه الرأسماليون وتتركز في الأساس على هيئة عقارات للسكن وليس للاستثمار ، فالرأسماليون دائما في بداية السباق .ويمكن أن أقول ان الطرفين لا يلعبون على نفس الملعب من الأساس .
هذه الأفضلية المطلقة هي دافع رئيسي لعدم المساواة وسوء التوزيع، فقبل كل شيء يبدو رأس المال هو السبب وليست الأسواق ، يبدو هذا ماركسيا بعض الشيء ، لكن دعني أقول لك لا لأنني أعرف رأس المال بطريقة مختلفة عن تلك التي عرفة بها ماركس وعلماء اجتماع واقتصاد أخرون  ،  فمفهوم رأس المال في نظري مرتبط بمفهومة في قطاع الأعمال –  تعريف توماس بيكيتى مقارب له –   ، فرأس المال هو قيمة المال أو القيمة السوقية للأصل الذى يستخدم كأصل ضامن للاقتراض ، على  عكس العمل الذى لا يمكن أن يستخدم كأصل ضامن للتمويل .
وبما أن العمل أحرار فى تغيير وظائفهم فى الرأسمالية الحديثة ، فقد عمد أصحاب العمل على إزالة الحوافز الاستثمارية التي تدفعهم للاستثمار فى عنصر العمل ، ومع التطور التكنولوجي الكبير واتجاه الرأسمالية لأن تكون أكثر أتمته   يخلق هذا في النهاية عمالة غير ماهرة رخيصة الأجر ويزيد من هوة الفجوة بين الطبقات مالم يتم في الحسبان وضع إجراءات تعويضية ، وتلك الطبقات المهمشة اجتماعيا هي سمة كبيرة في الدول النامية وايضا في الدول الرأسمالية .

عامل أخر مهم في معادلة سوء التوزيع وهو استحالة الفصل بين العامل وعنصر العمل  [1] ، على لعكس من ذلك فأصحاب العمل والاقطاعيين في السابق هم أحرار في ممارسة التجارة وترك أعمالهم الأصلية تسير بطريقة مباشرة ، وهو ما يدفع بالمزيد من الأرباح في جيوبهم . وهذا يضع العمال في وضع سيئ وهذا “السيئ ” يتراكم ليصبح ” اكثر سوءا ” لتجد في النهاية أن سوء التوزيع هو نتيجة حتمية للنظام الرأسمالي .
كل تلك الأسباب التي ذكرتها والتي تقود لحتمية سوء التوزيع لا يمكن معالجتها عن طريق توسعة الأسواق وزيادة المنافسة ، فهي نتاج الرأسمالية نفسها ونظامها الأساسي في تسليع العمل ، وإن قدر للرأسمالية الاستمرار فسوف يكون عليها أن تعالج تلك الاختلالات ، والاجراءات التعويضية (compensatory arrangements ) قد تكون حلا جيدا ، فهي جيدة في الحد من تضخم الفجوة وايضا لا تأتى على حماية الملكية الخاصة .
هذا النوع من التباين الحاد بين عنصر العمل ورأس المال يعنى أن الاجراءات الحمائية المفرطة في الفردية من قبل أصحاب الأعمال تجاه مطالب  النقابات المهنية والعمالية هي محض هراء ، ففي نظام يتمايز كل مكوناته ضد عنصر العمل لابد أن يمتلك العمال حق الرد على هذه التمييز ، حتى لو كان حق الرد هذا يعنى غياب المنافسة في السوق .

الحد من عدم المساواة في ظل الرأسمالية .

 التجارب الاشتراكية في القرن العشرين في روسيا والصين قد سحقت حقوق الانسان في سعيها نحو معالجة سوء توزيع  الثروة ، وبالتأكيد ليس هذا هو الطريق التي نود أن نسلكه ، عوضا عن هذا من الممكن التفكير في حل في ظل الرأسمالية لا يلغى قدرة الرأسمالية على الانتاجية وتوليد الثروة .
قديما قدم توماس باين (Thomas Paine ) [2] حلا جيدا ، حيث اقترح فرض ضريبة على الثروة الموروثة ، وتقديم تلك الضريبة على هيئة منحة مالية لكل الشباب حين يبلغون سن  الرشد ، في هذه  الحالة يتم إعادة تدوير الثروة من الاموات للأحياء ومن القلة للأكثرية ، ومن أجل خلق فرص متكافئة للجميع دافع باين عن دولة الرفاهة حيث قال بأهمية ومسئولية الدولة المباشرة أن تضمن حياه كريمة لمن يتخطون سن التقاعد  ، وحديثا قام كل من ( بروس أكيرمان وآنى السوت ) في إدراج أجندة باين على طاولة مناقشاتهم في كتابهم المشترك ( مجتمع أصحاب المصالح ) ، لقد جادل الكاتبان أنه يجب  تحرير التنمية الذاتية للأفراد مقتبسين كلمات فرانسيس باكون [3] ” الثروة مثل السماد العضوي ليست جيدة إلا حين يتم نشرها على نطاق واسع ” .

ولقد أكد  ( أكرمان والسوت  ) على ضرورة  فرض  ضرائب تصاعدية على الثروة بدلا من الدخل  ، وايضا وبالاستناد لطرح ” باين ” السابق  جادل الاثنان أن قيمة تلك الضريبة التصاعدية يجب ان تقدم على هيئة هبات ومنح بحد ادنى 80 ألف دولار وهو المبلغ المعادل لتكلفة شهادة جامعية من   جامعة خاصة فى الولايات المتحدة ، ويجب أن تحفظ تلك الضريبة في الاحتياطي الفيدرالي في حالة الموت وتقدم كهبه عن بلوغ سن الرشد . هذا بالتأكيد سوف يساهم في إعادة توزيع الثروة على اسس صحيحة بدون الاعتداء على حق الملكية الفردية .تلك الملكية الفردية التي يجادل البعض ممن يعارضون ذلك الطرح بأنها قدس الأقداس التي لا يجب الاعتداء عليها .وأن من حق كل مواطن أن يخلق الثروة ليورثها لأطفاله عند مماتة .  لكن عبقرية باين تتضح في أن  الضريبة تأخذ عند البلوغ هذا يخلق نوعا من المنفعة التبادلية بين الثروة والضريبة التصاعدية على الثروة  .ومع الوقت سوف يصبح الناس أكثر تقبلا لفكرة الضرائب التصاعدية على الثورة إذا استفاد بعضهم بتلك الضريبة فى مرحلة الشباب ، سوف يتم تدوير الثروة للأجيال الاصغر بدلا من إهداراها ، وسوف يزداد اقتناع الناس مع الوقت بأن تلك الضرائب هي في مصلحة المجتمع ككل ..

في الاقتصاد هناك عدة طرق لتوزيع القوة والتأثير على قاعدة أوسع  ، فمثلا شعبية توسيع عدد العمال المالكين للأسهم في المصانع هي في تزايد ، وهذه هي طريقة مرنة وفعالة عن طريق تمرير حقوق الملكية لعوامل الانتاج بين الجميع ، ففي الولايات المتحدة وحدها 1000 شركة توظف أكثر من 10 ملايين عامل وموظف هي جزء بشكل ما في هذه العملية عن طريق حقوق الأسهم أو علاوات الأرباح أو تملك حصص في الشركة نفسها . تلك الملكية الجماعية تزيد من الدافعية للعمل والانتاجية وتساعد على  توفير الرضا من العمال على نوعية العمل الذى يؤدونه .
ومع اتجاه الرأسمالية نحو أن الأتمتة  يجب أن تكون هناك أولوية لزيادة المعرفة التكنولوجية للعمال لأن ما دون ذلك يعنى تهميش تلك الفئات الاجتماعية . وايضا يجب أن تلفت الرأسمالية أكثر نحو التأثير البيئي للتصنيع والحفاظ على جودة الحياه في معدلات عالية في مناحي كثيرة أولها صحة الأفراد ، ومع التأثير الديناميكي للاستثمار وإعادة الاستثمار يجب مراعاة الا يقع كل الربح في يد الرأسماليين كما قال باين من 1779 ، ونحن الآن في أمس الحاجة لأن نعيد تحديث مفهوم باين حول إعادة توزيع الثروة بما يتناسب مع متطلبات عصرنا  الحالي .

الهوامش .

[1] –  اشارة للمفهوم الماركسي عن الاغتراب الاجتماعي .

[2] – هو ناشط سياسي انجلوامريكى وفيلسوف سياسي اشتهر بمواقفه الداعمة لاستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا .

[3] – مفكر وفيلسوف إنجليزي  وعضو في اول مجلس للوردات في المملكة المتحدة ،من أوائل الفلاسفة الذين صاغوا ما سمى لاحقا على يد روسو وهوبز وجون لوك بنظرية العقد الاجتماعي  .




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق