الخميس، 28 أبريل 2016
المغرب : مجتمع التعاسة ؟ ـ طويل حسن
أنفاس نت
" لم يحدث يوما ، ان تمتعت ،ايها الرجل الصغير ، بسعادتك في حرية ، لذلك فانك تلتهمها بجشع .لم تتعلم قط ان تعتني بسعادتك كما يفعل البستاني بوروده ." ( ويليام رايش ، خطاب الى الرجل الصغير )
مفهوم السعادة بالنسبة لاغلبية المغاربة ، مفهوم هلامي فنتاسمي ، لا يصلح الحديث حوله سوى كترف فكري او شطحة نخبوية . انه اشاعة ، فلقداكتسبوا في صيرورة حياتهم البئيسة كفاية التعاسة .فشبه الحياة التي يشاهدونها تمر امامهم ، هي نسخة متكررة من لحظات يعيشونها في تطبيع غريب مع التعاسة . لقد خضعوا بكل مازوشية ، لمصاصي الدماء بمختلف انواعهم : الاقتصاديين والسياسيين و الفكريين و العاطفيين . لقد افهموهم ان التعاسة حق طبيعي ، وان " السعادة " إشاعة كالعيش الكريم و العقل المتنور و الجسم الجميل . لقد تم تحويلهم الى هياكل عظمية جسدا وعاطفة و فكرا .
مفهوم السعادة بالنسبة لاغلبية المغاربة ، مفهوم هلامي فنتاسمي ، لا يصلح الحديث حوله سوى كترف فكري او شطحة نخبوية . انه اشاعة ، فلقداكتسبوا في صيرورة حياتهم البئيسة كفاية التعاسة .فشبه الحياة التي يشاهدونها تمر امامهم ، هي نسخة متكررة من لحظات يعيشونها في تطبيع غريب مع التعاسة . لقد خضعوا بكل مازوشية ، لمصاصي الدماء بمختلف انواعهم : الاقتصاديين والسياسيين و الفكريين و العاطفيين . لقد افهموهم ان التعاسة حق طبيعي ، وان " السعادة " إشاعة كالعيش الكريم و العقل المتنور و الجسم الجميل . لقد تم تحويلهم الى هياكل عظمية جسدا وعاطفة و فكرا .
المغاربة لم يتجاوزوا مرحلة الحاجيات البيولوجية حسب " هرم ما سلو" ،و لم يحن الوقت بعد كل هذه السنوات من التواجد البئيس، ان يتخطوا حاجيات الماكل والمشرب و حاجات البقاء الضرورية . لقد مسخوا الحقوق ليحولوها الى احلام : عمل ولو بمدخول بئيس ، زوج(ة)،قبر الدنيا. من كثرة سباحتهم في مستنقعات البؤس و القهر ، حولوا العالم الشاسع الى فضاء ضيق من الروتين القاتل، في سبيل انتاج واعادة انتاج ، التعاسة والهدر. لقد تكالب عليهم الاسياد الجدد ليجعلوا منهم اموات احياء وبقايا بشر : فالاسياد الجدد ساديون في متعهم ، يمصون كل ماهو جميل في هذه الحياة ليتركوا بدون ندم اوسخ ما يوجد في هذه البلاد للعبيد الجدد من عيشة قذرة وفكر متخلف و بدن مريض و معذب و جميع انواع المكبوتات .
المؤسسون للولايات المتحدة الامريكية، وضعوا ثلاث حقوق اساسية لا يمكن التفريط فيها وهي : الحق في الحياة ، الحق في الحرية ، والحق في السعي نحو السعادة . في المغرب، استبدلت الفئات الحاكمة هذه الحقوق بثلاثي القهر : الحق في الموت الوجودي ، الحق في العبودية المختارة ، والحق الاكبر في التعاسة . هذا الثلاثي إمتزج ،عبر تدجين مباشر وغير مباشر، بوعي زائف يستعمل كميكانيزم دفاعي نفساني ثقافي لايجاد توازن وهمي لوجود مقهور . فصنع من الفرد المغربي، وحشا مفترسا لكل من يحاول ان يغير واقعه و عبدا مطيعا لخفافيش الاستبداد والفساد و التخلف و متاجري الاديان .
مختلف المؤشرات المرتبطة بالسعادة ترتب المغرب في المؤخرة : الرفاه ، السعادة ، الاضطرابات النفسي ، الصحة ، الدخل ، الحرية ...، حتى اصبح مصابا بفوبيا المؤخرات . اليست المؤخرة وجها ثانيا للفرد؟ اليس الخوف منها هو في حد ذاته رعاب من مواجهة كل الخواء الداخلي " المزوق " بالفضائل ،"فنحن نعاقب اشد العقاب من طرف فضائلنا"( نيتشه ، ماوراء الخير والشر). الطهرانية المزيفة هي في حقيقتها غطاء متسخ ساكن لنظافة ذاتية حقيقية تعج حياة و نشاطا ،" يمكن للاشمئزازمن الوسخ ان يصل حد منع النظافة عن انفسنا" ( نيتشه ، نفس المرجع). الم يحن الوقت لاعلان جنازة المؤخرات ؟
التزييف الذاتي يمارس فعله على ثلاث اشياء اساسية للوجود السعيد وهي: العمل ، الحب ، المعرفة . فعلاقة المغربي بالعمل هي علاقة استلاب واضطرار بدل ان تكون علاقة تمتع و اختيار ( هذا ان وجد العمل اصلا و مدى تحقيقه للعيش الكريم ) . اما الحب فانه في نظر المغربي اما ضعفا او عهارة او اغتصاب للفحولة ؛ فهو يعبر قليلا عن الحب وان عبر ، فيتم ذلك بخشونة او حياء ، وان احب فيمكن ان يحول هذا الشعور الجميل الى منتوج خرافي (سحر ) او ممارسة ذاعرة محرمة .كما ان اغلب الاسر المكونة هي نتيجة للقاء مريضين بفوبيا العنوسة ، او هروب من حرمان جنسي و مراقبة اجتماعية. علاقة المغربي بالمعرفة هي الاكثر لبسا و فقرا ، فالمعرفة وتملك العالم فكريا و ملكة روح النقد والاكتشاف و تجويد الحياة واحترام العلم و اعتماده كثقافة هي خارج الاهتمام و التقدير و الفضول . فالمغربي يتحين الفرص لللشماته بالعلم والمعرفة ، وليس صدفة ان يطلق كلمة "المثقف " على العاجز جنسيا ،ويتجه للمشعودين في مواجهة مشاكله .
المغاربة هم ضحايا وجلادين في نفس الوقت : ضحايا انظمة استبدادية عصاباتية ، وجلادين لذاتهم عبر كفايات الخنوع و العبودية الذين تربوا عليها و والتي يجتهدون في الابداع في اعادة انتاجها. وبالتالي فهم مسؤولون عن تعاستهم ، فالسعادة تبتدأ بتحمل المسؤولية الذاتية وتبني مغامرة التغيير و تكره الجبناء والعبيد .
على قبر كزنتزاكيس ، مؤلف الرواية الرائعة زوربا اليوناني ، كتبت الجملة التالية :" لا اطمع في شيء ....لا اخاف من شيء...انا حر " و هي جملة يجب ان تكتب بسكين حاد على جبين كل مغربي .
المؤسسون للولايات المتحدة الامريكية، وضعوا ثلاث حقوق اساسية لا يمكن التفريط فيها وهي : الحق في الحياة ، الحق في الحرية ، والحق في السعي نحو السعادة . في المغرب، استبدلت الفئات الحاكمة هذه الحقوق بثلاثي القهر : الحق في الموت الوجودي ، الحق في العبودية المختارة ، والحق الاكبر في التعاسة . هذا الثلاثي إمتزج ،عبر تدجين مباشر وغير مباشر، بوعي زائف يستعمل كميكانيزم دفاعي نفساني ثقافي لايجاد توازن وهمي لوجود مقهور . فصنع من الفرد المغربي، وحشا مفترسا لكل من يحاول ان يغير واقعه و عبدا مطيعا لخفافيش الاستبداد والفساد و التخلف و متاجري الاديان .
مختلف المؤشرات المرتبطة بالسعادة ترتب المغرب في المؤخرة : الرفاه ، السعادة ، الاضطرابات النفسي ، الصحة ، الدخل ، الحرية ...، حتى اصبح مصابا بفوبيا المؤخرات . اليست المؤخرة وجها ثانيا للفرد؟ اليس الخوف منها هو في حد ذاته رعاب من مواجهة كل الخواء الداخلي " المزوق " بالفضائل ،"فنحن نعاقب اشد العقاب من طرف فضائلنا"( نيتشه ، ماوراء الخير والشر). الطهرانية المزيفة هي في حقيقتها غطاء متسخ ساكن لنظافة ذاتية حقيقية تعج حياة و نشاطا ،" يمكن للاشمئزازمن الوسخ ان يصل حد منع النظافة عن انفسنا" ( نيتشه ، نفس المرجع). الم يحن الوقت لاعلان جنازة المؤخرات ؟
التزييف الذاتي يمارس فعله على ثلاث اشياء اساسية للوجود السعيد وهي: العمل ، الحب ، المعرفة . فعلاقة المغربي بالعمل هي علاقة استلاب واضطرار بدل ان تكون علاقة تمتع و اختيار ( هذا ان وجد العمل اصلا و مدى تحقيقه للعيش الكريم ) . اما الحب فانه في نظر المغربي اما ضعفا او عهارة او اغتصاب للفحولة ؛ فهو يعبر قليلا عن الحب وان عبر ، فيتم ذلك بخشونة او حياء ، وان احب فيمكن ان يحول هذا الشعور الجميل الى منتوج خرافي (سحر ) او ممارسة ذاعرة محرمة .كما ان اغلب الاسر المكونة هي نتيجة للقاء مريضين بفوبيا العنوسة ، او هروب من حرمان جنسي و مراقبة اجتماعية. علاقة المغربي بالمعرفة هي الاكثر لبسا و فقرا ، فالمعرفة وتملك العالم فكريا و ملكة روح النقد والاكتشاف و تجويد الحياة واحترام العلم و اعتماده كثقافة هي خارج الاهتمام و التقدير و الفضول . فالمغربي يتحين الفرص لللشماته بالعلم والمعرفة ، وليس صدفة ان يطلق كلمة "المثقف " على العاجز جنسيا ،ويتجه للمشعودين في مواجهة مشاكله .
المغاربة هم ضحايا وجلادين في نفس الوقت : ضحايا انظمة استبدادية عصاباتية ، وجلادين لذاتهم عبر كفايات الخنوع و العبودية الذين تربوا عليها و والتي يجتهدون في الابداع في اعادة انتاجها. وبالتالي فهم مسؤولون عن تعاستهم ، فالسعادة تبتدأ بتحمل المسؤولية الذاتية وتبني مغامرة التغيير و تكره الجبناء والعبيد .
على قبر كزنتزاكيس ، مؤلف الرواية الرائعة زوربا اليوناني ، كتبت الجملة التالية :" لا اطمع في شيء ....لا اخاف من شيء...انا حر " و هي جملة يجب ان تكتب بسكين حاد على جبين كل مغربي .
الاثنين، 25 أبريل 2016
الكونية ووهم الكونية ـ هادي معزوز
أنفاس نت
يسعى العالم الرأسمالي اليوم مثل البارحة إلى الترويج لخطاب يعتبر جزءا لا يتجزأ من رهاناته وأهدافه، ألا وهو خطاب العولمة، وذلك باسم المشترك بين الإنسان، وأيضا تحت يافطة المصير العام، وهو ما يجعل من نفس الخطاب ذلك الساهر دوما على تحقيق غرض ربما ليس في وسعنا اليوم الحكم عليه إن من باب السلبية أو الإيجابية، لسبب يكاد يكون إشكاليا محضا، وهو حاجتنا إلى الكونية وفي نفس الوقت رفضنا لكل أشكال التبعية، إذ أن نفس الخطاب الرامي إلى مد الجسور بين الثقافات هو نفس الخطاب الذي يسعى إلى تكريس الثقافة الوحيدة، ونفس الخطاب الساعي إلى نبذ الهوية الوحيدة لصالح الاختلافات المتكررة، هو نفسه الذي يوقظ شرارة التقوقع وما يرافقها من تعصب وغياب للتسامح وهيمنة الجهل على المعرفة، وسيادة الخنوع على الإبداع والتغيير الإيجابي.
لا مفر من فكرة مفادها أن الخطاب القوي هو الخطاب الذي يهيمن، في انتظار ظهور خطاب أقوى له أسسه ورهاناته الخاصة، كما أنه لا هروب من الإشارة إلى أن كل خطاب هو خطاب إرادة قوة أولا وأخيرا، أي أنه في الخطاب الوحيد نجد أنفسنا أمام ثنائية الظاهر والباطن، أي أمام خطاب البراءة وخطاب تحقيق الربح مهما كانت الطريقة، لهذا قد لا نتعجب مثلا عندما نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر الدول دعوة إلى السلام وفي نفس الوقت هي أكثر منتج ومصدر لأفتك الأسلحة، لهذا فخطاب الترويج يكاد يتناقض تماما وخطاب الغاية الرئيسية، على العموم هذه هي بنية كل قوة تسعى إلى الهيمنة مهما كانت أسسها، إن باسم العولمة أو الكونية أو حوار الثقافات، حيث تم تزيين هذا الأمر بتلك العبارات الداعية إلى التسامح وقبول الاختلاف دون أن نجد هذا الأمر على أرض الواقع.
لا مفر من فكرة مفادها أن الخطاب القوي هو الخطاب الذي يهيمن، في انتظار ظهور خطاب أقوى له أسسه ورهاناته الخاصة، كما أنه لا هروب من الإشارة إلى أن كل خطاب هو خطاب إرادة قوة أولا وأخيرا، أي أنه في الخطاب الوحيد نجد أنفسنا أمام ثنائية الظاهر والباطن، أي أمام خطاب البراءة وخطاب تحقيق الربح مهما كانت الطريقة، لهذا قد لا نتعجب مثلا عندما نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر الدول دعوة إلى السلام وفي نفس الوقت هي أكثر منتج ومصدر لأفتك الأسلحة، لهذا فخطاب الترويج يكاد يتناقض تماما وخطاب الغاية الرئيسية، على العموم هذه هي بنية كل قوة تسعى إلى الهيمنة مهما كانت أسسها، إن باسم العولمة أو الكونية أو حوار الثقافات، حيث تم تزيين هذا الأمر بتلك العبارات الداعية إلى التسامح وقبول الاختلاف دون أن نجد هذا الأمر على أرض الواقع.
إن أول منطلق توجب اعتباره هو تلك الطبيعة الشريرة للإنسان، الإنسان كائن أناني بطبعه، يميل إلى تكريس خطابه ويسعى دوما إلى الاستقواء على الآخرين، يظهر بمظهر المُخَلِّصِ لكنه يخفي ويضمر ما يظهر، إنها تركيبته منذ الأزل، وربما سيبقى على هاته الحالة حسب معطيات الحاضر، وإلا فلماذا نطور دوما أساليب دفاعنا ومؤسساتنا القانونية ومؤسساتنا العقابية... لهذا قد نرى في خطاب الكونية براءة مخترع وجريمة مستعمل لنفس الاختراع، قد نرى أيضا فيها أداة لتقريب الإرادات العامة والخاصة، وفي نفس الوقت قد نتأمل هيمنتها وسعيها إلى تكريس الخطاب الوحيد.
ماذا تحمل الكونية إذن؟ الكونية هي مد جسور التواصل والحوار بين كل الثقافات، والإيمان كل الإيمان بأنه لا توجد أية حقيقة صائبة، في مقابل خطأ باقي الحقائق، كما لا توجد ثقافة متفوقة وأخرى بدائية، والكونية أيضا فك للحصار الذي تفرضه بعض الثقافات المريضة بوهم الانغلاق، والمرتابة والخائفة من غزو الثقافات الأخرى، الفكر سلمي بطبعه وإذا كان له سلاح فإنه ليس سوى القلم، لهذا تعمل الكونية دوما على النظر لهذا الكائن كإنسان بغض النظر عن انتماءاته، كما تقرر وبكثير من الثقة في النفس على ضرورة فتح نوافذنا أمام كل قادم تحاورا وتضامنا واحتضانا، لكن متى تبلورت الكونية وسؤال الكونية؟
إن الفكر الفلسفي هو أول من سعى إلى تكريس مبدأ الكونية ضد الغزو باسم الدين، فقد كان هذا الأخير يجبر الناس على اختياراتهم العقدية مخيرا إياهم بين التسليم أو النبذ والإبادة، لكن ومع ظهور الفلسفة الديكارتية توقف ملهمها عند تلك الفكرة الشهيرة التي تؤكد أن العقل أعدل قسمة بين الناس، أي أنه بين الجميع مهما اختلفت منطلقاتهم مشترك رئيسي هو العقل، ومنه فقد تغذى خطاب الكونية دوما من العقل كمبدأ للإنسان عامة، وعليه فإن تلك العناوين الفلسفية التي خاطبت الإنسان من خلال العقل إنما رمت إلى مخاطبته كإنسان وليس كإنسان أوربي، بل إن خصوم العقل أنفسهم وجهوا سهامهم نحو العقل بصيغته الكونية وليس بصيغته الخصوصية، والحال أن المجتمعات الرأسمالية استغلت كونية العقل الذي أرست دعائمه الفلسفة الديكارتية والكانطية، لتحقيق مآرب أخرى تبقى التبعية من بين أسسها.
الكونية نظريا لا تؤمن بالثقافة الوحيدة وإنما بالتعدد الثقافي، أما الكونية تطبيقيا فإنها تعمل على غزو الثقافات أو محوها ولنا في ذلك أمثلة عديدة من قبيل طمس ثقافة الهنود الحمر وثقافات المايا والأنكا والأزتيك... الكونية نظريا اعتبرت التقنية كاكتمال لكونيتها، لكنها تطبيقيا سعي لتكريس تبعية مستهلك التقنية لمنتجها باسم الربح والخسارة، والكونية نظريا مد جسور التعاون بين الحضارات، لكنها تطبيقيا إثارة للفتن وزرع لبذور الكراهية بين نفس الثقافات، من ثمة فإنه لا يسعنا إلا التأكيد أننا بتنا أمام خطاب ونقيضه في نفس الوقت، والحال أن بات على عاتق الفلاسفة الوقوف مطولا عند هذا التحريف الخطير، إننا نقتل اليوم باسم الكونية، ونبيح لأنفسنا ما نريد باسم الكونية، ونسعى إلى تحقيق أكبر نسبة من الربح باسم الكونية أيضا، في حين أن الغرض من الكونية لم يتحقق وإن مرت عليه قرون عدة.
إن أهم شرخ بتنا نسجله اليوم وأبرز مفارقة أصبح يعيشها العالم، هي مرض بناء الأسوار التي تفصل بين ثقافة وثقافة أخرى، بل إن الأمم التي تتفنن في بناء الأسوار هي نفس الأمم التي تقف دوما خلف الكاميرات متبجحة بسعيها إلى تكريس الكونية، لهذا فكلما رددنا ضرورة حوار الثقافات وتعايش الحضارات كلما أحطنا أنفسنا بأسوار عملاقة تبين مدى صعوبة تحقيق وهم الكونية، وأنه مجرد مطية لتحقيق أغراض أخرى، وعليه فلنتأمل مثلا السور العازل بين أمريكا والمكسيك، وسور كشمير الذي يفرق بين الهند والباكستان، وسور سبتة ومليلية الذي يفرق بين المغرب وإسبانيا،
ماذا تحمل الكونية إذن؟ الكونية هي مد جسور التواصل والحوار بين كل الثقافات، والإيمان كل الإيمان بأنه لا توجد أية حقيقة صائبة، في مقابل خطأ باقي الحقائق، كما لا توجد ثقافة متفوقة وأخرى بدائية، والكونية أيضا فك للحصار الذي تفرضه بعض الثقافات المريضة بوهم الانغلاق، والمرتابة والخائفة من غزو الثقافات الأخرى، الفكر سلمي بطبعه وإذا كان له سلاح فإنه ليس سوى القلم، لهذا تعمل الكونية دوما على النظر لهذا الكائن كإنسان بغض النظر عن انتماءاته، كما تقرر وبكثير من الثقة في النفس على ضرورة فتح نوافذنا أمام كل قادم تحاورا وتضامنا واحتضانا، لكن متى تبلورت الكونية وسؤال الكونية؟
إن الفكر الفلسفي هو أول من سعى إلى تكريس مبدأ الكونية ضد الغزو باسم الدين، فقد كان هذا الأخير يجبر الناس على اختياراتهم العقدية مخيرا إياهم بين التسليم أو النبذ والإبادة، لكن ومع ظهور الفلسفة الديكارتية توقف ملهمها عند تلك الفكرة الشهيرة التي تؤكد أن العقل أعدل قسمة بين الناس، أي أنه بين الجميع مهما اختلفت منطلقاتهم مشترك رئيسي هو العقل، ومنه فقد تغذى خطاب الكونية دوما من العقل كمبدأ للإنسان عامة، وعليه فإن تلك العناوين الفلسفية التي خاطبت الإنسان من خلال العقل إنما رمت إلى مخاطبته كإنسان وليس كإنسان أوربي، بل إن خصوم العقل أنفسهم وجهوا سهامهم نحو العقل بصيغته الكونية وليس بصيغته الخصوصية، والحال أن المجتمعات الرأسمالية استغلت كونية العقل الذي أرست دعائمه الفلسفة الديكارتية والكانطية، لتحقيق مآرب أخرى تبقى التبعية من بين أسسها.
الكونية نظريا لا تؤمن بالثقافة الوحيدة وإنما بالتعدد الثقافي، أما الكونية تطبيقيا فإنها تعمل على غزو الثقافات أو محوها ولنا في ذلك أمثلة عديدة من قبيل طمس ثقافة الهنود الحمر وثقافات المايا والأنكا والأزتيك... الكونية نظريا اعتبرت التقنية كاكتمال لكونيتها، لكنها تطبيقيا سعي لتكريس تبعية مستهلك التقنية لمنتجها باسم الربح والخسارة، والكونية نظريا مد جسور التعاون بين الحضارات، لكنها تطبيقيا إثارة للفتن وزرع لبذور الكراهية بين نفس الثقافات، من ثمة فإنه لا يسعنا إلا التأكيد أننا بتنا أمام خطاب ونقيضه في نفس الوقت، والحال أن بات على عاتق الفلاسفة الوقوف مطولا عند هذا التحريف الخطير، إننا نقتل اليوم باسم الكونية، ونبيح لأنفسنا ما نريد باسم الكونية، ونسعى إلى تحقيق أكبر نسبة من الربح باسم الكونية أيضا، في حين أن الغرض من الكونية لم يتحقق وإن مرت عليه قرون عدة.
إن أهم شرخ بتنا نسجله اليوم وأبرز مفارقة أصبح يعيشها العالم، هي مرض بناء الأسوار التي تفصل بين ثقافة وثقافة أخرى، بل إن الأمم التي تتفنن في بناء الأسوار هي نفس الأمم التي تقف دوما خلف الكاميرات متبجحة بسعيها إلى تكريس الكونية، لهذا فكلما رددنا ضرورة حوار الثقافات وتعايش الحضارات كلما أحطنا أنفسنا بأسوار عملاقة تبين مدى صعوبة تحقيق وهم الكونية، وأنه مجرد مطية لتحقيق أغراض أخرى، وعليه فلنتأمل مثلا السور العازل بين أمريكا والمكسيك، وسور كشمير الذي يفرق بين الهند والباكستان، وسور سبتة ومليلية الذي يفرق بين المغرب وإسبانيا،
سلافوي جيجيك والميثاق الليبرالي ـ ادريس شرود
أنفاس نت
"نعم أنا شخص خطير، لكنني لست كذلك إلا لكوني أتصدى بالنقد للميثاق الليبرالي المسيطر. وهذا هو الممنوع على الناس أن يخوضوا فيه" سلافوي جيجيك
تقديم
يبدو إسم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك شبه مجهول بالنسبة للعديد من المهتمين بالفكر الفلسفي المعاصر في الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لكن صوته مسموع في الضفة الشمالية، عبر حضوره الفكري والإعلامي والأكاديمي الفاعل، وتنوع اهتماماته الفلسفية، حتى وصف ب:"الفيلسوف المتعولم" و"الفيلسوف الأكثر خطرا في الغرب"(1). من جهتي أعتبر أن خطورته نابعة من قوة انتقاده للنظام الرأسمالي وللأسس التي يرتكز عليها كالليبرالية والديمقراطية. إذ أن تمسكه بالإشتراكية والشيوعية، وإيمانه بالفلسفة الألمانية كبديل منافس لليبرالية الرأسمالية، يجعله من بين المفكرين القلائل الذين لازالوا يؤمنون بدور الفكر الماركسي في اقتراح بديل راديكالي للإيديولوجيا الليبرالية وللنظام الرأسمالي نفسه. أتوخى من هذه المقالة، مشاركة القارئ في الإطلاع على بعض أفكار هذا الرجل "الخطير"، أملا في التقاط تلك الإشارات الغامضة الآتية من المستقبل.
تقديم
يبدو إسم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك شبه مجهول بالنسبة للعديد من المهتمين بالفكر الفلسفي المعاصر في الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لكن صوته مسموع في الضفة الشمالية، عبر حضوره الفكري والإعلامي والأكاديمي الفاعل، وتنوع اهتماماته الفلسفية، حتى وصف ب:"الفيلسوف المتعولم" و"الفيلسوف الأكثر خطرا في الغرب"(1). من جهتي أعتبر أن خطورته نابعة من قوة انتقاده للنظام الرأسمالي وللأسس التي يرتكز عليها كالليبرالية والديمقراطية. إذ أن تمسكه بالإشتراكية والشيوعية، وإيمانه بالفلسفة الألمانية كبديل منافس لليبرالية الرأسمالية، يجعله من بين المفكرين القلائل الذين لازالوا يؤمنون بدور الفكر الماركسي في اقتراح بديل راديكالي للإيديولوجيا الليبرالية وللنظام الرأسمالي نفسه. أتوخى من هذه المقالة، مشاركة القارئ في الإطلاع على بعض أفكار هذا الرجل "الخطير"، أملا في التقاط تلك الإشارات الغامضة الآتية من المستقبل.
جيجيك: من الطموح السياسي إلى نقد الإيديولوجيا الليبرالية
يمكن اعتبار ترشح سلافوي جيجيك للإنتخابات الرئاسية في بلده سلوفينيا، ممثلا للحزب الديمقراطي الليبرالي، أقوى لحظة في مساره السياسي، رغم انتقاده الواضح والشرس لمبادئ الليبرالية وقواعد النظام الرأسمالي. لكن المثير في حياة جيجيك، هو مساره الفكري والفلسفي وأسئلته المحرقة التي يواجه بها حاضرنا المأزوم، والمهام الملقاة على كل فكر نقدي.
في خطوة مناقضة لما دأب عليه التحليل الماركسي، أكد جيجيك على ضرورة العودة إلى التفكير في عالمنا المعاصر وتفسيره، فالمهمة الآن هي مساءلة النظم الإيديولوجية المسيطرة. ذلك أن إخفاق الحركات المعادية والمناهضة للنظام الرأسمالي وهيمنته الإقتصادية والمالية، قد كشف عن قصور في فهم آليات اشتغال هذا النظام وسر قوته واستمراره، وعن ضعف في تطبيق الإيديولوجيات "الثورية" في الواقع العملي. يشدد جيجيك على فعالية الإيديولوجية الليبراية وتجددها، خاصة منذ تسعينات القرن الماضي، والتي أعطت "وعيا كلبيا" بلغة معينة، أو "وعيا متبجحا"، بلغة أخرى، حيث الإنسان يخدع ذاته واعيا، كما لو كان قد ارتضى بما يحصل عليه ويعلن عنه رضاه، من دون النظر إلى شكله ومضمونه(2). فشعارات محاربة الفقر والعنصرية والإرهاب، والإنتخابات النزيهة والإصلاح والتنمية، شوشت على كثير من الأفكار التي كانت تدعو إلى ضرورة القضاء على الرأسمالية، والإنتقال الحتمي إلى الإشتراكية، ثم إلى الشيوعية. لذلك يدعو جيجيك إلى التشبث بالفرضية الشيوعية، من أجل المساعدة على تجريب نمطها السياسي، وليكن انطلاق عملية التجريب من خلال الضحك على فكرة فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ". يرى جيجيك أن معظم الناس اليوم فوكوياميين، يقبلون بالرأسمالية الديمقراطية الليبرالية بوصفها الصيغة التي وجدت أخيرا لأفضل محتمع ممكن. على هذا النحو، فكل ما يمكن للمرء فعله هو محاولة جعلها أكثر عدلا وتسامحا(3). لكن يجب التأكيد على أن عملية إعادة إنتاج الرأسمالية، كانت تتطلب دوما وباستمرار استنزاف الثروات الطبيعية وهدمها، والمعاناة الجماعية، والظلم والحروب...إلخ(4). في هذا السياق، يطرح جيجيك سؤالا وحيدا حقيقيا وهو:
هل نصادق على الأقلمة السائدة للرأسمالية، أو أن الرأسمالية العالمية الحالية تحتوي على عوامل مضادة لها من القوة ما يكفي لمنع إنتاجها غير المحدود؟(5).
كيفية عمل الإيديولوجيا الليبرالية لمواجهة منتقديها وخصومها
تشتغل الإيديولوجيا الليبرالية، حسب سلافوي جيجيك، على ثلاث جبهات أساسية، تبدو الأكثر خطورة :
أولا: جبهة حق النقد الحر دون المساس بالإجماع:
يتأسس حق النقد على حرية القول والكتابة، لكن بشرط –يؤكد جيجيك- أن تفعل ما تفعله دون أن تنقض بشكل فعال أو تعيق الإجماع السياسي المهيمن. كل شئ متاح بل مرحب به بوصفه موضوعة نقدية؛ آفاق الكارثة البيئية العالمية، انتهاك حقوق الإنسان، التمييز على أساس الجنس، معاداة المثليين، مناهضة النساء، العنف المتزايد ليس فقط في البلاد البعيدة بل في مدننا العملاقة، الفجوة بين العالم الأول والعالم الثالث، بين الفقراء والأغنياء والتأثيرات المحطمة للعالم الرقمي في حياتنا اليومية(6). لكن هذه الحرية المشروطة، لا ترتكز على قوانين أو محظورات، بل هي مجموعة من التحديرات منتقاة بعناية من التاريخ الرسمي، تم صقلها وتشذيبها في المؤسسات الإيديولوجية والثقافية الليبرالية حثى أصبحت "حقائق مطلقة"، مدعومة بإجماع سياسي وإعلامي. يرجع جيجيك إلى فثرة الستينات من القرن العشرين، ليذكر بتلك اللحظات التي يبدي فيها المرء أية إشارة بسيطة للإنخراط في عمل يهدف إلى تحدي جدي للنظام القائم. سيكون الجواب حاضرا (وليكن جوابا خيرا )؛ إن ما تفعله سيؤدي حتما إلى معسكرات جولاغ جديدة. إن الوظيفة الإيديولوجية لهذه الإحالات المتكررة إلى المحرقة والغولاغ وكوارث العالم الثالث المعاصرة(7) هي التذكير مع التنبيه، لمنع الناس من التفكير، والحفاظ على الإجماع الليبرالي الحاضر، وإقصاء كل محاولة جدية لانتقاد النظام السياسي والإجتماعي المهيمن، وكل نظرية ممكن أن تقوم بوظيفة فعالة في الصراع الإجتماعي الراهن. هكذا يدرك البشر تمام الإدراك أنه توجد إيديولوجيا كونية غالبة تخدعهم، تستغلهم، وما شابه، لكنهم لا يتخلون عنها. فلسان حال الكائن المتشكك أنه ما دام أن الإثراء والسرقة يحميهما القانون فلا جدوى من معاكسة السلطة(8). هكذا يصير الناس غافلين عن الوهم الناظم لنشاطهم المجتمعي الحقيقي(9).
ثانيا: جبهة البحث الأكاديمي ومنع التفكير:
يكشف جيجيك عن طريقة تحكم الأكاديمية الأمريكية في بعض المواضيع ذات الإنتشار الإعلامي و"العلمي" في الولايات المتحدة الأمريكية، كالدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات المثلية الجنسية. فبالنسبة للدراسات الما بعد كولونيالية مثلا، فهي تترجم إلى إشكالية حضارية متعددة لحق الاقليات المستعمرة في رواية تجاربها بوصفها ضحية، وإلى إشكالية آليات السيطرة على الآخر وكبث الآخروية، مما يقود في نهاية المطاف إلى الإستنتاج بأن جذور التمدد الإستعماري تكمن في عدم تقبلنا للآخر الموجود داخلنا، إنه عدم قابليتنا مواجهة ما قد تم كبته داخل نفوسنا، ليتحول هذا الصراع الإقتصادي-السياسي، ودون أن نلحظ ذلك، إلى مسرحية درامية شبه-نفس- تحليلية لذات غير قادرة على مواجهة صدماتها النفسية. إن الفساد الحقيقي للأكاديميا الأمريكية ليس الإفساد المالي تحديدا، وليس فقط أنهم يستطيعون شراء العديد من المفكرين النقديين الأوربيين (بما فيهم أنا إلى حد ما) بل هو فساد على مستوى المفاهيم إذ تتحول أفكار النظرية النقدية الأوربية ، بعيدا عن الأعين، إلى موضوعات لطيفة صيغت وفق موضة الدراسات الثقاقية الأنيقة(10). واليوم لا شئ أسهل من الحصول على تمويل عالمي، حكومي أو مؤسساتي لأبحاث متعددة الإختصاصات حول كيف يجب ممارسة الأشكال الجديدة للعنف الإثني الديني والجندري: المشكلة أن كل هذا يجري على قاعدة عدم التفكيرو منع التفكير. ويؤكد جيجيك على أن المحافظة على الهيمنة الديمقراطية-الليبرالية، اليومن تتم بواسطة هذه القاعدة الغير المكتوبة، قاعدة "عدم التفكير"(12).
ثالثا: جبهة احتواء اليسار:
يمكن التأكيد على أن هذه الجبهة الثالثة، هي نموذج انتصار النظام الرأسمالي وإيديولوجيته الليبرالية، ذلك أن الصراع التاريخي بين المنظومتيين الإيديولوجيتين التي طبعت الحرب الباردة قد أفضت إلى الإعلان عن المنتصر، واحتفاله بنهاية التاريخ. فمنذ بداية التسعينات من القرن العشرين، أخذت اليسار يتراجع عن مواقع احتلها إيديولوجيا وسياسيا منذ نجاح "ثورة أكتوبر"، بل أصبح يتخذ المواقع الفارغة -يقول جيجيك- التي لا تلزمه باتخاذ أي موقف محدد، أي الوقوف على هامش القوى الفاعلة في المشهد السياسي الحالي من ليبراليين ومحافظين، خاصة مع قائمة المطالب الإجتماعية التي ناضل من أجلها اليسار، وأصبحت الآن جزءا من الإجماع الليبرالي (على الأقل في دول الرفاه الإجتماعي)، من هنا تأتي صعوبة تقديم بديل باسم اليسار.
من أجل نظام سياسي واجتماعي مختلف: الأمل في الثورة السياسية
يؤمن سلافوي جيجيك بإمكانية التغيير الجذري، ويركز أكثر على التناقضات الكامنة في الرأسمالية الكونية التي يمكن أن تعيق إعادة الإنتاج المتواصلة لرأس المال، ويتمثل ذلك في أربع تناقضات:
-التناقضات الثلاثة الأولى: تتمثل في خصخصة «المشاعات» حسب تعبير مايكل هارت وأنطونيو نيغري (أي المواد والفضاءات التي يتقاسمها جميع البشر):
الملكية الفكرية بما هي ملكية فردية، أو خصخصة «الأشكال التشاركية لرأس المال المعرفي» أي اللغة.
الكارثة البيئية، أو خصخصة الطبيعة الخارجية (عن طريق الإبادة التدريجية للغابات والبيئات الطبيعية لأغراض استخراج الموارد).
علم التعديلات الوراثيات، أي خصخصة الطبيعة الداخلية، أو الكيان الباطني للبشر.
-التناقض الرابع: يتمثل في الشكل الجديد من التمييز العنصري الإجتماعي، أي الفصل الإجتماعي والجسدي بين "المستبعدين" و"المستوعبين" وإبراز ما يظهر في المراكز المدينية حيث التواصل الفعلي بين مستوعبين ومستبعدين. في هذه الحالة، تجري خصخصة المجتمع الدولتي، أي المدى حيث تشتغل فيه الدولة، (والمقصود أن يجري حصره بعدد محدود من البشر) ويرى أن المستبعدين يشكلون خطر الإنتهاك. إن المستبعدين هم بروليتاريا أيامنا هذه «إنهم الذوات التحريرية في نهاية المطاف...وهم أعضاء جماعة لا يملكون مكانا محددا أو هوية معينة داخل هذه أو تلك»(13).
يعتقد سلافوي جيجيك، أن الأمل في تغيير جذري يقع على عاتق المستبعدين، تلك الفئات الإجتماعية التي تفتقر إلى موقع محدد «في النظام الخاص للتراتب الإجتماعي». ولا يجوز-ينبه جيجيك- الخلط بين هذه الفكرة عن المستبعدين وبين التعريف الديمقراطي الليبرالي للمستبعدين بما هم «أصوات الأقلية» ) أي جميع الأقليات الدينية والثقافية والجنسية المطلوب التسامح معها أو حمايتها) وهو خلط يفقد التناقض طابعه السياسي ويحجب مضمونه التناقضي(14). يراهن جيجيك إذن، على المستبعدين وعلى التضامن الكوني الذي يمكن أن تبدبه فصائل اجتماعية معادية للرأسمالية ولرأس المال، من نسويين وبيئيين ومزارعي العالم الثالث. فهذا "التضامن الأصيل" حيوي في ما يسمى ب «عصر ما بعد السياسة» حيث يجرى خفض السياسة إلى مجرد تنازلات تفاوضية ومعاملات إدارية. ما تتقاسمه هذه الفصائل الإجتماعية هو وعيها بالدمار المحتمل، الذي يمكن أن يتضمن الإبادة الذاتية للبشرية نفسها، وشعورها بالإختزال إلى مواضيع مجردة تخلو من كل محتوى جوهري، ومطرودة من جوهرها الرمزي، ومزروعة في بيئة غير صالحة للحياة، فنحن جميعا مستبعدون من الطبيعة كما من جوهرنا الرمزي، يؤكد سلافوي جيجيك.
لكل هذا، يدعو جيجيك إلى التحرك وقائيا، عن طريق التفكير الحقيقيي والحر في المشاكل الكبرى لعالمنا العاصر (الإنهيار البيئي، الإختزال الوراثي للبشر إلى آلات يتم التلاعب بها، التحكم الرقمي بحياتنا )، ومساءلة الإجماع الديمقراطي الليبرالي والما بعد حداثي، والإنفتاح على المستقبل.
فنحن لا نعرف ماذا يمكن أن ينقدنا، لكن علينا أن نعمل في حقول مختلفة لنبحث عنه(15)-يقول جيجيك- وأثناء بحثتنا، من اللازم أن نظل منفتحين على الإحتمالات غير المتوقعة، وأن نقبل تماما هذا الإنفتاح ولا نقود أنفسنا إلى شئ أكثر من الإشارات الغامضة القادمة من المستقبل(16).
الهوامش:
1-محمد حجيري: سلافوي جيجيك...الفيلسوف النيوماركسي "الأكثر خطرا في الغرب"، موقع الأوان، 13 ماي 2015.
2- فيصل دراج: تقديم كتاب "بعد المأساة، تأتي الملهاة أو كيف يكرر التاريخ نفسه" لسلافوي جيجيك، انظر
http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_415_faisel
3- سلافوي جيجيك:بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ترجمة أماني لازار، طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، الطبعة الأولى، 2015، ص36.
5-سلافوي جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، ترجمة أمير زكي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، لبنان، 2013، الفصل الثاني، مقالة: من السيطرة إلى الإستغلال والثورة، (كتاب غير مرقم).
6- سلافوي جيجيك:بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ص140.
7-سلافوي جيجيك: خيار لينين، ترجمة هشام روحانا، موقع الحوار المتمدن، عدد 4319، 28 دجنبر 2013. يقول جيجيك:"ففيما قام المرء بالعمل المباشر فإن هذا العمل لن يتم في الفراغ بل سيكون فعلا يقوم داخل إحداثيات الإيديولوجيا المسيطرة، وهؤلاء الذين يريدون المساعدة والمشاركة بالمآثر (وهم بدون شك مشرفون) كحملات "أطباء بلا حدود" و"كرين-بيس" والنسويات وحملات مناهضة العنصرية، وجميعها يحظى ليس بالتسامح فقط بل وأنها تحظى أيضا بدعم الإعلام حتى ولو قام بعضها بتجاوز الحدود نحو المسائل الإقتصادية (كالحملات المناهضة للشركات التي تلوث البيئة أو تستغل عمل الأطفال). إنها تظل مقبولة بل ويقدم لها الدعم ما دامت لا تتخطى حدودا معينة(نفس المرجع).
8- سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
9- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، العدد الثاني، صيف 2012، النسخة الإليكترونية،
http://www.bidayatmag.com/node/334.
10- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، مرجع سابق.
11- سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
12--سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
13- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، مرجع سابق.
14- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات.
15-سلافوي جيجيك: اليسار ينقصه أن يقدم بديلا، حوار لولا جالان، ترجمة أحمد عبد اللطيف، .https://arar.facebook.com/notes/akhbar-aladab-أخبار-الأدب،/76185
16- سلافوي جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، مرجع سابق، أنظر خاتمة الكتاب: إشارات من المستقبل.
إشكالية الموقف من التراث ـ نصيرة مصابحية
أنفاس نت
يعد التراث من أهم المفاهيم والقضايا التي انشغل بها الفكر العربي الحديث والمعاصر وحاول معالجتها من خلال اخضاعها لمجموعة من الآليات والمناهج النقدية، بغية مقاربتها مقاربة علمية دقيقة وذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقد تعددت القراءات واختلفت حد التناقض والتضارب ،ما احدث خلخلة في البنى المعرفية المتأصلة في الثقافة العربية وساهم في حركية الإبداع بمختلف أنواعه سواء كان نقديا أو فلسفيا وشعريا ....الخ ، وبغض النظر عن مرجعيات هذه القراءات وتنوعها ، نستطيع القول أن الفكر العربي في هذه المرحلة استطاع أن يحقق ذاته من خلال بعض الممارسات والمشاريع النقدية والفكرية الجادة التي ساهمت في إثراءه لكن الشي الذي يعاب على هذه الخطابات وعلى بعض المشاريع ،انها اهتمت بالتراث من حيث انه زخم معرفي او تراكمي ،تتحدد اهميته وفق مبدا براغماتي ساذج مركب من موقفين :الاول ينبني على فكرة مالذي نستطيع اخذه من التراث؟وهوموقف انتقائي من خلاله يحاول الباحث او الناقد او المفكر ان يستند الى قاعدة معرفية اصيلة لبناء مواقفه ودعمها ،اما الموقف الثاني فيرتكز على محاولة البحث عن البديل في هذا التراث من اجل اثبات الذات امام الاخر /الغربي .
ولعل هذا الموقف الارتدادي النفعي الذي يخدم جزءا ضئيلا من عملية البحث ليس الا نبشا سطحيا لا يقدم الحقيقة المطلقة ولا يساهم في بلورة رؤية نقدية رصينة بقدر ما يعمل على بتر هذه الحقيقة وتشويهها ،لذلك من المفروض ان نتعامل مع ذلك الزخم المعرفي على انه وحدة كرونولوجيا مسترسلة وقائمة بذاتها ، تبدا من الماضي لتستقر في الحاضر والمستقبل ،او بمعنى اوضح لا يجب علينا ان نتعامل مع هذا التراث على انه مرحلة منتهية في الزمن ونحكم عليه بان يظل رهين صفة الماضي وحبيسه ، بل يجب علينا اعادة ربط السلسلة المعرفية حتى تؤصل لقراءة واعية ومنهجية بعيدا كل البعد عن الموقف البراغماتي الساذج .
وهو ماحاول جابر عصفور طرحه من خلال ثلاث محاور "مالتراث ؟" "كيف نقرا التراث؟" "ولماذا نقرا التراث؟" وقد سعى بذلك الى اعادة قرائته قراءة جديدة ،من اجل اضاءة جوانبه المسكوت عنها والمغيبة تحت براثن القراءات النمطية واعادة هيكلته وفق قانون الكشف الشامل ،لانه يرى ان الذين مارسوا فعلا القراءة "لم يمارسوا هذه الاسئلة بل مارسوا سؤالا اخر هو ماذا في التراث "1
فالتراث في ظل اختلاف بعض المشاريع الفكرية والنقدية يجب ان ينتظم داخل بوتقة الوعي العربي على اعتبار انه مكون معرفي له تمركزه الخاص داخل الثقافة العربية ،بحيث يمارس وجوده من منطلق الاستمرارية والتواصل لا من منطلق التحقيب السياسي والتاريخي والادبي ، هذه التحقيبات التي بخسته حق التفاعل والإشعاع وحولته الى مجرد كتلة معرفية محدودة .
وعليه فان التعامل مع التراث يشكل بصورة ضمنية او صريحة مفهوم الحداثة في الفكر العربي اذا لا نستطيع الحديث عن التراث دون رصد الجوانب الحداثية التي يتمركز من خلالها كارث له تجلياته الواضحة على جسد المكتوب والمنطوق ،وهذا معناه التاكيد على تلك القوة الخلاقة التي تحيلنا على التفاعل وتكرس للفاعلية ،ومن هذا المنطلق فقد حاولت الساحة الفكرية والنقدية العربية –كما سبق القول – ان تقارب التراث من خلال منهجيات ومقاربات مختلفة حيث ،"يمكن الحديث عن قراءات متعددة للتراث العربي الإسلامي، منها: القراءة التراثية التقليدية كما عند العلماء السلفيين، وهم خريجو الجوامع الإسلامية (الأزهر - جامع القرويين - الزيتونة)، والقراءة الاستشراقية التي نجدها عند المستشرقين الغربيين من ناحية، والمفكرين العرب التابعين لهم توجهاً ورؤيةً ومنهجاً من ناحية أخرى، والقراءة التاريخانية كما عند المفكر المغربي عبدالله العروي، والقراءة السيميائية كما عند محمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو...، والقراءة التفكيكية كما عند عبدالله الغذامي وعبدالكبير الخطيبي...، والقراءة التأويلية كما عند نصر أبو زيد ومصطفى ناصف...، والقراءة البنيوية التكوينية كما عند محمد عابد الجابري وإدريس بلمليح –مثلاً-"2
ولعل اختلاف هذه المقاربات وتنوعها يعود للاهمية البالغة لهذا التراث في بناء الثقافة العربية المعاصرة في مختلف المجالات الفكرية والمعرفية والادبية ،ودوره الكبير في المحافظة على الهوية وتحقيق استقلالية معرفية خاصة . ويعتبر موضوع التراث من اكثر المواضيع غموضا نتيجة لثراءه وتشعب مواضيعه التي تحولت الى حقول ملغمة تطرح الكثير من التساؤلات وتثير الكثير من القضايا التي يصعب حلها او الاجابة عنها من خلال دراسة او اثنين ،ولعل الحديث عن التراث بمفهومه الواسع على اعتبار انه مجموعة من النصوص يدفعنا للحديث عنه كخطاب، لكن ليس في بعده اللساني وانما في بعده الفكوي ،وهذا حتى نتحدد ضمن مفهوم اجرائي يساعدنا في البحث عن مرتكزات هذا التراث ،اذ ان " ...كل خطاب ظاهر، ينطلق سرا من شيء ما تم قوله، وهذا الماسبق قوله ليس مجرد جملة تم التلفظ بها، أو مجرد نص سبقت كتابته، بل هو شيء لم يقَل أبدا، إنه خطاب بلا نص وصوت هامس همس النسمة، وكتابة ليست سوى باطن نفسها...فالخطاب الظاهر ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقوله ."3
والبحث في الخطاب من هذا المنطلق هو بحث في سلطة هذا الخطاب في حد ذاتها ومحاولة تفتيته واعادة بناءه بما يتوافق والرؤية المعاصرة ،والسلطة التي نتحدث عنها هي سلطة ايجابية اذ لا يجب علينا ان نتخيل "عالما للخطاب مقسما بين الخطاب المقبول والخطاب المرفوض او بين الخطاب المسيطر والخطاب المسيطر عليه ،بل يجب ان نتصوره كمجموعة عناصر خطابية تستطيع ان تعمل في استراتيجيات مختلفة لان الخطابات كتل او عناصر تكتيكية في حقل علاقات القوى قد تكون هناك اشكال متباينة منها وحتى متناقضة داخل الاستراتيجية الواحدة نفسها وبالعكس يمكن ان تتنقل هذا الخطابات بين استراتيجيات متناقضة دون ان يتبدل شكلها ".4
ويحيلنا هذا القول الى ان الخطاب تتعدد اشكال تمظهراته وتختلف ،اذ تتناسل الخطابات فيما بينها وفي بعض الاحيان تنصهر لتشكل سلسلة متصلة تفرض نفسها ككل وكلحمة واحدة ،وبهذا يتموقع الخطاب في اطار النظرة الشمولية حيث يمارس ثنائية التجلي والخفاء ، ويغوص عميقا في التركيبة العامة من خلال اللغة التي تؤسس لمفهوم الاختراق الدائم وبذلـك يمتد تحليل الخطا ب من الآفاق اللسـانية والتداولية إلى ميادين واسعة، ترتبط بالأنظمة الثقافية، التي تنتج المعرفة وتوجهها، وتقنن تـداول مكوناتها، وتبسـط هيمنتها ومفاهيمهـا.
اذا فالخطاب ليس " لغـة تضـاف لهـا ذات تتكلمها ،بل هو ممارسـة لها أشـكالها الخصوصية مـن الترابط والتتابـع"5.
فالتراث معنى لموروث منقول عن الاجداد وهو معنى وليد دفعت اليه المعرفة الحديثة ،ولا ضير ان نقول ان التراث في اقرب تجلياته يتداخل مع مفهوم الموروث،ومن يتأمل الدلالة المعجمية لكمة التراث يجدها مشتقة من فعل ورث، ومرتبطة دلاليا بالإرث والميراث والتركة وما يتركه الرجل الميت لأولاده. وفي هذا يقول ابن منظور: "ورث الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. أي: يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له. ورثه ماله ومجده، وورثه عنه ورثا ورثة ووراثة وإراثة. ورث فلان أباه يرثه وراثة ومِيراثا ومَيراثا. وأورث الرجل ولده مالا إيراثا حسنا. ويقال: ورثت فلانا مالا أرثه ورثا وورثا إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك.."6
من خلال ماسبق نستطيع القول ان مفهوم التراث لم يتبلور في الثقافة العربية القديمة بمفهومه الحداثي بل كان رهين معنيين الاول مادي ويتمثل فيما تركه الميت لورثته ،والثاني معنوي متعلق بالنسب ، ويرى الدكتور محمد عابد الجابري ان العرب قديما لم بتوصلوا الى المفهوم الحضاري لكلمة التراث بمعناها الحديث وان المحدثين لم يوطفوا هذه الكلمة بحمولتها المعجمية القديمة وانما كانت بمثابة التوظيف المجازي للدلالة القديمة كما ذهب في ذلك الدكتور جميل حمداوي
اما الجابري فيرى ان القراءة الحديثة للتراث يجب ان ترتكز على آلية الكشف عن طبيعة القراءات السائدة في الفكر العربي التي تحاول مقاربته،ويرى بان هذه المقاربات ماهي الا اصداء لمواقف اصحابها حيث عجزت عن تقديم رؤية علمية متكاملة لهذا التراث وغيبته في اطار التحيز واللادقة ، وقد وصفها بانها قراءات تفتقر للموقف النقدي والنظرة التاريخية ومن بينها الموقف الايحيائي او القراءات التقليدية التي تهدف الى إعادة إنتاج التراث وفهمه وفق المناهج التراثية بعيدا عن الحداثة ومناهجها. والقراءة الاستشراقوية التي تعكس جوهر الاستعمار الثقافي والمركزية الأوروبية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي،والقراءة
الماركسية التي تدخل في تشكيل حضور التراث بمفهوم أيديولوجي وعليه فقد تحولت الماركسية من منهج علمي تطبيقي الى منهج مطبق يبحث عن كليات نظرية واثبات صحتها في مقولات واتجاهات ثورية فكرية وسياسية.
ويخلص الجابري أن كل هذه المناهج المختلفة التي تلتقي شكليا في سماتها المعرفية الأساسية؛ تفتقر للموضوعية، كما انها تفتقر للنظرة التاريخية ، "فمن هيمنة النموذج الأوروبي أو الغربي على القراءات الليبرالية والماركسية الى هيمنة النموذج التراثي على القراءات السلفية لأنها مؤسسة على آلية قياس الغائب على الشاهد، والنتيجة المنطقية التي وصلت إليها هذه القراءات هو إلغاء الزمان والتطور أولا بسبب لا تاريخية الفكر العربي الذي تتعامل معه ، وثانيا بسبب الافتقار إلى الموضوعية بسبب هيمنة الموضوع على الذات واحتواء التراث للذات العارفة أو المفكرة".7
وقد انتهى الجابري الى ان جميع جميع القراءات المعاصرة للتراث قراءات مرفوضة كما فعل فيما بعد في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" الذي حاول ان يطرح فيه المنهج البديل والمناسب لتحقيق النهضة العربية .
ويتضح في الاخير ان مقاربة التراث لا تكون الا من خلال قراءة موضوعية تحقق للموروث استمراريته المعرفية في الحاضر والمستقبل بعيدا عن التصنيف والذاتوية و الادلجة المغرضة .
الهوامش :
1-جابر عصفور : الاحتفاء بالقيمة ،دار المدى للثقافة والنشر لبنان بيروت ،دط ،2004
-2 - جميل حمداوي :اشكالية التراث والمنهج عند محمد عابد الجابري مجلة الكلمة مجلة الكلمة العدد 77 سنة 2012
3-نور الدين السد: الأسلوبية وتحليل الخطاب ، دار هومة ، دط ، 1997 ، ج2 ، ص80.
4-الزاوي بغورة : الفلسفة واللغة ، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت لبنان ، ط1،2005 ص 287
5- ميشال فوكو : جنيالوجيا المعرفة ، ترجمة احمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي ،دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء المغرب ص 18
-6 - ابن منظور: لسان اللسان ، تهذيب لسان العرب، هذبه بعناية: المكتب الثقافي لتحقيق الكتب، تحت إشراف الأستاذ عبد أحمد علي مهنا، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1993م، ص:728-729
7-زهير توفيق: نظرية التراث عند محمد عابد الجابري مدونة زوهير توفيق26مارس 2012
الاستاذة نصيرة مصابحية :جامعة محمد الشريف مساعدية سوق اهراس
وهو ماحاول جابر عصفور طرحه من خلال ثلاث محاور "مالتراث ؟" "كيف نقرا التراث؟" "ولماذا نقرا التراث؟" وقد سعى بذلك الى اعادة قرائته قراءة جديدة ،من اجل اضاءة جوانبه المسكوت عنها والمغيبة تحت براثن القراءات النمطية واعادة هيكلته وفق قانون الكشف الشامل ،لانه يرى ان الذين مارسوا فعلا القراءة "لم يمارسوا هذه الاسئلة بل مارسوا سؤالا اخر هو ماذا في التراث "1
فالتراث في ظل اختلاف بعض المشاريع الفكرية والنقدية يجب ان ينتظم داخل بوتقة الوعي العربي على اعتبار انه مكون معرفي له تمركزه الخاص داخل الثقافة العربية ،بحيث يمارس وجوده من منطلق الاستمرارية والتواصل لا من منطلق التحقيب السياسي والتاريخي والادبي ، هذه التحقيبات التي بخسته حق التفاعل والإشعاع وحولته الى مجرد كتلة معرفية محدودة .
وعليه فان التعامل مع التراث يشكل بصورة ضمنية او صريحة مفهوم الحداثة في الفكر العربي اذا لا نستطيع الحديث عن التراث دون رصد الجوانب الحداثية التي يتمركز من خلالها كارث له تجلياته الواضحة على جسد المكتوب والمنطوق ،وهذا معناه التاكيد على تلك القوة الخلاقة التي تحيلنا على التفاعل وتكرس للفاعلية ،ومن هذا المنطلق فقد حاولت الساحة الفكرية والنقدية العربية –كما سبق القول – ان تقارب التراث من خلال منهجيات ومقاربات مختلفة حيث ،"يمكن الحديث عن قراءات متعددة للتراث العربي الإسلامي، منها: القراءة التراثية التقليدية كما عند العلماء السلفيين، وهم خريجو الجوامع الإسلامية (الأزهر - جامع القرويين - الزيتونة)، والقراءة الاستشراقية التي نجدها عند المستشرقين الغربيين من ناحية، والمفكرين العرب التابعين لهم توجهاً ورؤيةً ومنهجاً من ناحية أخرى، والقراءة التاريخانية كما عند المفكر المغربي عبدالله العروي، والقراءة السيميائية كما عند محمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو...، والقراءة التفكيكية كما عند عبدالله الغذامي وعبدالكبير الخطيبي...، والقراءة التأويلية كما عند نصر أبو زيد ومصطفى ناصف...، والقراءة البنيوية التكوينية كما عند محمد عابد الجابري وإدريس بلمليح –مثلاً-"2
ولعل اختلاف هذه المقاربات وتنوعها يعود للاهمية البالغة لهذا التراث في بناء الثقافة العربية المعاصرة في مختلف المجالات الفكرية والمعرفية والادبية ،ودوره الكبير في المحافظة على الهوية وتحقيق استقلالية معرفية خاصة . ويعتبر موضوع التراث من اكثر المواضيع غموضا نتيجة لثراءه وتشعب مواضيعه التي تحولت الى حقول ملغمة تطرح الكثير من التساؤلات وتثير الكثير من القضايا التي يصعب حلها او الاجابة عنها من خلال دراسة او اثنين ،ولعل الحديث عن التراث بمفهومه الواسع على اعتبار انه مجموعة من النصوص يدفعنا للحديث عنه كخطاب، لكن ليس في بعده اللساني وانما في بعده الفكوي ،وهذا حتى نتحدد ضمن مفهوم اجرائي يساعدنا في البحث عن مرتكزات هذا التراث ،اذ ان " ...كل خطاب ظاهر، ينطلق سرا من شيء ما تم قوله، وهذا الماسبق قوله ليس مجرد جملة تم التلفظ بها، أو مجرد نص سبقت كتابته، بل هو شيء لم يقَل أبدا، إنه خطاب بلا نص وصوت هامس همس النسمة، وكتابة ليست سوى باطن نفسها...فالخطاب الظاهر ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقوله ."3
والبحث في الخطاب من هذا المنطلق هو بحث في سلطة هذا الخطاب في حد ذاتها ومحاولة تفتيته واعادة بناءه بما يتوافق والرؤية المعاصرة ،والسلطة التي نتحدث عنها هي سلطة ايجابية اذ لا يجب علينا ان نتخيل "عالما للخطاب مقسما بين الخطاب المقبول والخطاب المرفوض او بين الخطاب المسيطر والخطاب المسيطر عليه ،بل يجب ان نتصوره كمجموعة عناصر خطابية تستطيع ان تعمل في استراتيجيات مختلفة لان الخطابات كتل او عناصر تكتيكية في حقل علاقات القوى قد تكون هناك اشكال متباينة منها وحتى متناقضة داخل الاستراتيجية الواحدة نفسها وبالعكس يمكن ان تتنقل هذا الخطابات بين استراتيجيات متناقضة دون ان يتبدل شكلها ".4
ويحيلنا هذا القول الى ان الخطاب تتعدد اشكال تمظهراته وتختلف ،اذ تتناسل الخطابات فيما بينها وفي بعض الاحيان تنصهر لتشكل سلسلة متصلة تفرض نفسها ككل وكلحمة واحدة ،وبهذا يتموقع الخطاب في اطار النظرة الشمولية حيث يمارس ثنائية التجلي والخفاء ، ويغوص عميقا في التركيبة العامة من خلال اللغة التي تؤسس لمفهوم الاختراق الدائم وبذلـك يمتد تحليل الخطا ب من الآفاق اللسـانية والتداولية إلى ميادين واسعة، ترتبط بالأنظمة الثقافية، التي تنتج المعرفة وتوجهها، وتقنن تـداول مكوناتها، وتبسـط هيمنتها ومفاهيمهـا.
اذا فالخطاب ليس " لغـة تضـاف لهـا ذات تتكلمها ،بل هو ممارسـة لها أشـكالها الخصوصية مـن الترابط والتتابـع"5.
فالتراث معنى لموروث منقول عن الاجداد وهو معنى وليد دفعت اليه المعرفة الحديثة ،ولا ضير ان نقول ان التراث في اقرب تجلياته يتداخل مع مفهوم الموروث،ومن يتأمل الدلالة المعجمية لكمة التراث يجدها مشتقة من فعل ورث، ومرتبطة دلاليا بالإرث والميراث والتركة وما يتركه الرجل الميت لأولاده. وفي هذا يقول ابن منظور: "ورث الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. أي: يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له. ورثه ماله ومجده، وورثه عنه ورثا ورثة ووراثة وإراثة. ورث فلان أباه يرثه وراثة ومِيراثا ومَيراثا. وأورث الرجل ولده مالا إيراثا حسنا. ويقال: ورثت فلانا مالا أرثه ورثا وورثا إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك.."6
من خلال ماسبق نستطيع القول ان مفهوم التراث لم يتبلور في الثقافة العربية القديمة بمفهومه الحداثي بل كان رهين معنيين الاول مادي ويتمثل فيما تركه الميت لورثته ،والثاني معنوي متعلق بالنسب ، ويرى الدكتور محمد عابد الجابري ان العرب قديما لم بتوصلوا الى المفهوم الحضاري لكلمة التراث بمعناها الحديث وان المحدثين لم يوطفوا هذه الكلمة بحمولتها المعجمية القديمة وانما كانت بمثابة التوظيف المجازي للدلالة القديمة كما ذهب في ذلك الدكتور جميل حمداوي
اما الجابري فيرى ان القراءة الحديثة للتراث يجب ان ترتكز على آلية الكشف عن طبيعة القراءات السائدة في الفكر العربي التي تحاول مقاربته،ويرى بان هذه المقاربات ماهي الا اصداء لمواقف اصحابها حيث عجزت عن تقديم رؤية علمية متكاملة لهذا التراث وغيبته في اطار التحيز واللادقة ، وقد وصفها بانها قراءات تفتقر للموقف النقدي والنظرة التاريخية ومن بينها الموقف الايحيائي او القراءات التقليدية التي تهدف الى إعادة إنتاج التراث وفهمه وفق المناهج التراثية بعيدا عن الحداثة ومناهجها. والقراءة الاستشراقوية التي تعكس جوهر الاستعمار الثقافي والمركزية الأوروبية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي،والقراءة
الماركسية التي تدخل في تشكيل حضور التراث بمفهوم أيديولوجي وعليه فقد تحولت الماركسية من منهج علمي تطبيقي الى منهج مطبق يبحث عن كليات نظرية واثبات صحتها في مقولات واتجاهات ثورية فكرية وسياسية.
ويخلص الجابري أن كل هذه المناهج المختلفة التي تلتقي شكليا في سماتها المعرفية الأساسية؛ تفتقر للموضوعية، كما انها تفتقر للنظرة التاريخية ، "فمن هيمنة النموذج الأوروبي أو الغربي على القراءات الليبرالية والماركسية الى هيمنة النموذج التراثي على القراءات السلفية لأنها مؤسسة على آلية قياس الغائب على الشاهد، والنتيجة المنطقية التي وصلت إليها هذه القراءات هو إلغاء الزمان والتطور أولا بسبب لا تاريخية الفكر العربي الذي تتعامل معه ، وثانيا بسبب الافتقار إلى الموضوعية بسبب هيمنة الموضوع على الذات واحتواء التراث للذات العارفة أو المفكرة".7
وقد انتهى الجابري الى ان جميع جميع القراءات المعاصرة للتراث قراءات مرفوضة كما فعل فيما بعد في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" الذي حاول ان يطرح فيه المنهج البديل والمناسب لتحقيق النهضة العربية .
ويتضح في الاخير ان مقاربة التراث لا تكون الا من خلال قراءة موضوعية تحقق للموروث استمراريته المعرفية في الحاضر والمستقبل بعيدا عن التصنيف والذاتوية و الادلجة المغرضة .
الهوامش :
1-جابر عصفور : الاحتفاء بالقيمة ،دار المدى للثقافة والنشر لبنان بيروت ،دط ،2004
-2 - جميل حمداوي :اشكالية التراث والمنهج عند محمد عابد الجابري مجلة الكلمة مجلة الكلمة العدد 77 سنة 2012
3-نور الدين السد: الأسلوبية وتحليل الخطاب ، دار هومة ، دط ، 1997 ، ج2 ، ص80.
4-الزاوي بغورة : الفلسفة واللغة ، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت لبنان ، ط1،2005 ص 287
5- ميشال فوكو : جنيالوجيا المعرفة ، ترجمة احمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي ،دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء المغرب ص 18
-6 - ابن منظور: لسان اللسان ، تهذيب لسان العرب، هذبه بعناية: المكتب الثقافي لتحقيق الكتب، تحت إشراف الأستاذ عبد أحمد علي مهنا، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1993م، ص:728-729
7-زهير توفيق: نظرية التراث عند محمد عابد الجابري مدونة زوهير توفيق26مارس 2012
الاستاذة نصيرة مصابحية :جامعة محمد الشريف مساعدية سوق اهراس
متى يعلنون وفاة المدرسة العمومية المغربية ؟ ـ حسن طويل
عن أنفاس نت
"التعليم ان لم يكن تحويلا اصبح موتا للعقل و السلوك و الابداع " ( هكذا تكلم عبد الله القصيمي ، ع اللطيف الصديقي)
لقد تحولت المدرسة العمومية المغربية عبر مسلسل من " الاصلاحات" الى مؤسسة مسخ تحتوي على جميع العوامل لإنتاج الفشل . فمنذ " الاستقلال " ، اعتمد المغرب لمقاربة قضية التعليم على رؤية ترتكز على تضخيم مفاهيمي بدون قوة مادية له و على تصور ليبرالي متوحش بدأ خجولا ثم تطور حتى اصبح في المرحلة الاخيرة منتفخا ووقحا .اما على مستوى المناهج والبرامج و طرق التدريس فقد تم التأسيس المعرفي والسلوكي لفصام ثقافي ووجودي ،عبر مقولة الاصالة والمعاصرة، و الذي برمج المتعلم المغربي وحوله الى كائن بدماغين ؛ احدهما عميق ذو برنام تقليداني ، والآخر سطحي تابع للأول ذو شكل حداثي. فالتعليم المتخلف "يشوه المتعلمين و يحولهم الى عاهات انسانية و تعبيرية شاملة ضاجة بالقبح و العجز و السخف "( القصيمي، المرجع السابق ).
إن الإصلاحات التي عرفتها المدرسة المغربية منذ 1957 والتي كان الهدف منها تأسيس المدرسة الوطنية عبر المبادئ الاربعة المعروفة : التعميم ، التعريب ،المغربة و التوحيد ، مرورا بمختلف الاصلاحات الاخرى خاصة محطة الميثاق الوطني للتربية والتكوين والذي يعد خارطة الطريق بالنسبة للمسؤولين على هذا المجال و مختلف المحطات البعدية الاخرى وو صولا للتدابير ذات الاولية ، تتقاطع جميعها في خيط ناظم لعل حلقاته المهمة هي :
اولا : خضوع هذه الاصلاحات لرؤية سياسية ايديولوجية في محاولة لإرضاء المكونات السياسية المهيمنة لكل مرحلة ، ولو على حساب التصور العلمي للاصلاح ، والذي ينطلق من مقاربة واقعية و شمولية وواضحة و متعددة الابعاد تحدد للحاجيات الحقيقية للبلاد في مجال التربية والتكوين و تسطر اهداف و طرق و ادوات لانجاح هذا الاصلاح ضمن منظور يعتبر المدرسة المغربية ليس مجرد كمية مال تنفق، بل إستثمار في العنصر البشري وبالتالي في التنمية ؛
ثانيا : اعتماد هذه الاصلاحات على جهاز مفاهيمي مضخم خاصة في مراحلها التأسيسية ، في طقوس من تقديم الولاء للمفاهيم وكأنه يعتقد في راي القائمين على الاصلاح انه بترديد المفهوم سيصبح له فعل في الواقع . في تكريس لماركة مسجلة في الخطاب السائد في المغرب سياسيا وثقافيا واجتماعيا يمكن تسميتها " بشعوذة المفاهيم " عبر الاعتقاد بوجود قوى خارقة في المفاهيم ، يكفي ترديدها لتصبح واقعا بالفعل ؛
ثالثا : الحب الباتولوجي لإعادة انتاج ظروف افشال مشاريع الاصلاح ، حيث يتم وضع هذه المشاريع و تغييب الادوات الحقيقية لانجاحها ،فيتم بذلك افراغها وتحويلها الى مجموعة نوايا او مشاريع فشل باحتمالية عالية . وهذا ما يفسر كثرة المشاريع وبؤس النتائج ؛
رابعا : حول مرضي في الاصلاح ، وذلك بترك الاولويات والحاجيات الحقيقية والتسويق لأوهام مرتبطة اكثر بحسابات إقتصادوية ضيقة اكثر منها مجالات حقيقية للاصلاح؛
خامسا : مقاربة الاصلاح بتصور نيوليبرالي متوحش اقتصاديا و برؤية متخلفة للبرامج والمناهج وانظمة التقويم وطرق التكوين والتدريس ....
سادسا : السعي المرضي للحصول على درجات في المؤشرات الكمية للتعليم ( هناك فشل ذريع رغم كل الادعاءات ) على حساب النوع والكيف ؛
سابعا : عدم وجود براديغم للاصلاح يكون هدفه تحويل المدرسة الى مشتل لانتاج التنمية و سيادة الثقافة العلمية لمحاربة التخلف و الرداءة الفكرية عبر تعليم يعلمنا كيف نفكر ونتحرك ونتساءل و نتغير و نشك في بداهاتنا لنبدع و نتجدد ، وليس تعليما تنميطيا حشويا يقينيا يكسب المتعلم كفايات السكون و معاداة السؤال والشك والخوف من الجديد والتقدم والتغيير .
إن المتأمل لتاريخ الاصلاح في المغرب و تطور المدرسة المغربية سيلاحظ لامحالة ، تدهور المدرسة العمومية و تكاثر جراحها من بؤس في البنيات التحتية و تخلف على مستوى البرامج والمناهج وتقهقر المخرجات و عدم مسايرتها للتطورات التي فرضتها التحولات العالمية وبالتالي تحويلها شيء فشيء الى مؤسسة مثخنة بالأمراض تنتظر دورها لتحتضر . حيث ستكون الاصلاحات المطروحة اخيرا، بمثابة رصاصات اللعبة الروسية المعروفة، لما تبقى من المدرسة العمومية و ذلك عبر الوقاحة الاستعراضية للتفرس النيوليبرالي الذي تعرفه : الكلام على الغاء المجانية ، مبدا التعاقد في التوظيف في المجال ، الانسحاب من الادوار الاجتماعية للدولة ، بؤس البنيات التحتية والخدماتية للمدرسة ،الاكتظاظ في المدارس، سيادة العنف المدرسي ، غياب الدافعية لدى لمدرسين والمتعلمين ، انسدادا الآفاق ...
ان التعليم هو احد المفاتيح الاساسية لتقدم المجتمعات ، وكل تأخر في اصلاحه اصلاحا حقيقيا مبنيا على تصور يعتبره ضرورة وجودية للتنمية و التطور باعتباره احد مصانع إنتاج الثروات البشرية ، بدل التفكير النيوليبرالي المشوه والضيق والذي تعتمده سلطات التربية والتكوين ببلادة لدينا ، سيقامر بالوطن والمواطنين ليربح تجمعا لأغلبية من الرعايا المعوقين نفسيا و معرفيا ووجوديا ، واقلية من المفترسين الذين يجدون متعة باتولوجية للعيش من دماء هذه الاغلبية ماديا ومعرفيا ووجوديا عبر المتاجرة بالبؤس والتخلف والتجهيل .
اولا : خضوع هذه الاصلاحات لرؤية سياسية ايديولوجية في محاولة لإرضاء المكونات السياسية المهيمنة لكل مرحلة ، ولو على حساب التصور العلمي للاصلاح ، والذي ينطلق من مقاربة واقعية و شمولية وواضحة و متعددة الابعاد تحدد للحاجيات الحقيقية للبلاد في مجال التربية والتكوين و تسطر اهداف و طرق و ادوات لانجاح هذا الاصلاح ضمن منظور يعتبر المدرسة المغربية ليس مجرد كمية مال تنفق، بل إستثمار في العنصر البشري وبالتالي في التنمية ؛
ثانيا : اعتماد هذه الاصلاحات على جهاز مفاهيمي مضخم خاصة في مراحلها التأسيسية ، في طقوس من تقديم الولاء للمفاهيم وكأنه يعتقد في راي القائمين على الاصلاح انه بترديد المفهوم سيصبح له فعل في الواقع . في تكريس لماركة مسجلة في الخطاب السائد في المغرب سياسيا وثقافيا واجتماعيا يمكن تسميتها " بشعوذة المفاهيم " عبر الاعتقاد بوجود قوى خارقة في المفاهيم ، يكفي ترديدها لتصبح واقعا بالفعل ؛
ثالثا : الحب الباتولوجي لإعادة انتاج ظروف افشال مشاريع الاصلاح ، حيث يتم وضع هذه المشاريع و تغييب الادوات الحقيقية لانجاحها ،فيتم بذلك افراغها وتحويلها الى مجموعة نوايا او مشاريع فشل باحتمالية عالية . وهذا ما يفسر كثرة المشاريع وبؤس النتائج ؛
رابعا : حول مرضي في الاصلاح ، وذلك بترك الاولويات والحاجيات الحقيقية والتسويق لأوهام مرتبطة اكثر بحسابات إقتصادوية ضيقة اكثر منها مجالات حقيقية للاصلاح؛
خامسا : مقاربة الاصلاح بتصور نيوليبرالي متوحش اقتصاديا و برؤية متخلفة للبرامج والمناهج وانظمة التقويم وطرق التكوين والتدريس ....
سادسا : السعي المرضي للحصول على درجات في المؤشرات الكمية للتعليم ( هناك فشل ذريع رغم كل الادعاءات ) على حساب النوع والكيف ؛
سابعا : عدم وجود براديغم للاصلاح يكون هدفه تحويل المدرسة الى مشتل لانتاج التنمية و سيادة الثقافة العلمية لمحاربة التخلف و الرداءة الفكرية عبر تعليم يعلمنا كيف نفكر ونتحرك ونتساءل و نتغير و نشك في بداهاتنا لنبدع و نتجدد ، وليس تعليما تنميطيا حشويا يقينيا يكسب المتعلم كفايات السكون و معاداة السؤال والشك والخوف من الجديد والتقدم والتغيير .
إن المتأمل لتاريخ الاصلاح في المغرب و تطور المدرسة المغربية سيلاحظ لامحالة ، تدهور المدرسة العمومية و تكاثر جراحها من بؤس في البنيات التحتية و تخلف على مستوى البرامج والمناهج وتقهقر المخرجات و عدم مسايرتها للتطورات التي فرضتها التحولات العالمية وبالتالي تحويلها شيء فشيء الى مؤسسة مثخنة بالأمراض تنتظر دورها لتحتضر . حيث ستكون الاصلاحات المطروحة اخيرا، بمثابة رصاصات اللعبة الروسية المعروفة، لما تبقى من المدرسة العمومية و ذلك عبر الوقاحة الاستعراضية للتفرس النيوليبرالي الذي تعرفه : الكلام على الغاء المجانية ، مبدا التعاقد في التوظيف في المجال ، الانسحاب من الادوار الاجتماعية للدولة ، بؤس البنيات التحتية والخدماتية للمدرسة ،الاكتظاظ في المدارس، سيادة العنف المدرسي ، غياب الدافعية لدى لمدرسين والمتعلمين ، انسدادا الآفاق ...
ان التعليم هو احد المفاتيح الاساسية لتقدم المجتمعات ، وكل تأخر في اصلاحه اصلاحا حقيقيا مبنيا على تصور يعتبره ضرورة وجودية للتنمية و التطور باعتباره احد مصانع إنتاج الثروات البشرية ، بدل التفكير النيوليبرالي المشوه والضيق والذي تعتمده سلطات التربية والتكوين ببلادة لدينا ، سيقامر بالوطن والمواطنين ليربح تجمعا لأغلبية من الرعايا المعوقين نفسيا و معرفيا ووجوديا ، واقلية من المفترسين الذين يجدون متعة باتولوجية للعيش من دماء هذه الاغلبية ماديا ومعرفيا ووجوديا عبر المتاجرة بالبؤس والتخلف والتجهيل .
الخميس، 21 أبريل 2016
الثلاثاء، 19 أبريل 2016
ما هو التعليم الأخضر ؟ و ما هي أهم أدواته ؟ الكاتب : عيسى أحمد الفيفي
عن موقع تعليم جديد
من المصطلحات التي بتنا نلحظها في السنوات الأخيرة في ظل العناية بالنظام البيئي والبعد عن الملوثات الصناعية وترشيد الاستهلاك المتنامي للطاقة، رمزية وشعار الأخضر أو الخضرنة، كالمباني الخضراء والنقل الأخضر والزراعة الخضراء.. وليس ببعيد عن ذلك، شرعت اقتصاديات التعليم في الدول المتقدمة في اعتماد تقنيات وتطبيقات وسلوكيات وأدوات تهدف إلى المحافظة على البيئة والمساهمة في خفض الاعتماد على المنتجات والممارسات التي تثقل كاهل وزارات التعليم مادياً وزمنياً وصولا إلى المتعلم. وإضافة إلى ما سبق برز مؤخراً مصطلح خضرنة المقررات وتخضير التعليم كمشاريع مستقبلية تهدف لتعليم أخضر.
1- تعريف التعليم الأخضر
إن التعليم الأخضر أو ما يسمى بالمدرسة الخضراء أو الجامعة الخضراء، هو التعليم العصري الذي يسعى إلى التنمية المستدامة ومواكبة التطور التكنولوجي والإستفادة منه في سائر عناصر العملية التعليمية بكفاءة عالية ونواتج متميزة، وفق معايير صديقة للبيئة. فهو بذلك يطور شقين: الشق المتعلق بالبرامج البيئية من مبان وطاقة وتشجير وخدمات، وهذا الجانب نجده بشكل واضح وجلي في كثير من دول العالم العربي، و قد بدأ تطبيقه منذ عدة سنوات. وأما الشق الآخر فهو كل ما يركز على العملية التعليمية بالتقنيات والتطبيقات والاستراتيجيات والممارسات المرتبطة بمفهوم التعليم الأخضر، وقد بدأت كثير من الدول في اعتماده في مؤسساتها ونظامها التعليمي.
ومن فوائد هذا النظام اعتماد تقنيات لترشيد استهلاك الطاقة الناتج عن استخدام أجهزة الحاسوب والإضاءة والتكييف وغيرها، فضلاً عن استخدام التقنيات التعليمية بطريقة سليمة بيئياً، واقتصادية في الجهد والوقت، وكذلك التحول الجذري إلى الخدمات الإلكترونية بغية الاستغناء عن استخدام الورق والكتب الدراسية، وتقليص مراكز التدريب بتفعيل التدريب عن بعد، والإستفادة بشكل فعال من تقنيات التعليم الحديثة، مما له الأثر الأكبر على:
- جودة التعليم وتوسيع مدارك الطالب والتواصل المباشر والنشط بين الطالب والمعلم.
- تنمية مهارة الإبداع والاستكشاف لديه والبعد عن روتين التعلم التقليدي.
- اطلاع ولي أمر الطالب بشكل مستمر ودقيق على مستوى ابنه الدراسي.
- تحويل الفصول التقليدية إلى عالم افتراضي يحاكي الواقع.
- خلق فضاء تفاعلي بإمكانيات مثيرة ومثرية لتفكير الطالب ومعرفته في آن واحد وفي ظل بيئة صحية وآمنة.
ومن خلال النقاط السابقة، سنعيد هندسة التعليم بأسلوب يتواءم مع التطور العلمي والاقتصادي المتنامي الذي يشهده العالم اليوم.
2- أدوات التعليم الأخضر
كمثال على التطبيقات والتقنيات التي تعتمد نظام التعليم الأخضر، نظام البرمجة الذكية (Smart Computing ) لتصميم برامج وتطبيقات ذكية للإستفادة منها في العملية التعليمية، والتعليم بالأيباد وما شابهه من الأجهزة اللوحية كبديل عن المقررات الورقية، ويسهل بذلك تطبيق نظام Byod في التعليم بالمدارس، والذي يمكن الطلاب من استخدام أجهزتهم الشخصية دون الحاجة لمعامل الحاسب الآلي، وكذلك المعامل الافتراضية للإستفادة منها في مواد الكيمياء والفيزياء والأحياء وغيرها من التخصصات الطبية والصناعية.
كما أن المنصات التعليمة والاجتماعية مثل إدمودو والتي توفر بيئة آمنة للاتصال والتعاون، وتبادل المحتوى التعليمي وتطبيقاته الرقمية، تعتبر أيضا من الأدوات التي تعتمد فلسفة التعليم الأخضر و تشجع عليه، و قد سبق لنا أن تحدثنا في تعليم جديد عن ماهو إدمودو وكيف يستفيد منه طلاب اليوم؟، كما قمنا في مقال آخر بشرح كيفية استخدام ادمودو Edmodo . إلى جانب المنصة التعليمية جوجل classroom التي تتيح للمدرسين الاستغناء تدريجيا عن الأوراق عند تقديم المواد التعليمية و تقييم الطلاب، كما أنها وسيلة أيضا للتعاون الافتراضي و التوجيه التربوي الفعال و المتابعة الدراسية المستمرة.
الجمعة، 15 أبريل 2016
اللغة بيت الوجود: تصور مارتن هيدجر للغة ـ رشيد إيهُــومْ عن أنفاس نت
يعتبر تصور مارتن هيدجر للغة من بين أهم وأعمق التصورات التي اهتمت بمفهوم اللغة وحاولت الكشف عن ماهيتها ،بعيدا عن التأويلات الميتافزيقية التي سادت التفكير الغربي منذ أفلاطون .وبدأ اهتمام هذا الفيلسوف باللغة منذ سنة 1916 ضمن أطروحته للدكتوراه حيث تناولها في الإطار العام لمشكل المقولات المنطقية التقليدية.سيستأنف هيدجر مقاربته للغة في مؤلفه الأهم الوجود والزمان الصادر سنة 1927حيث سيعتبرها كنمط من أنماط وجود الدازين. وفي مرحلته الأخيرة أي بعد المنطعفKehre فكر أكثر في ماهية اللغة. ولنرى كيف قاربها في كتابه الوجود والزمان:
إن المعنى هو الذي يؤسس اللغة أو القول الذي هو تحديد عيني للكلام وبه يعبر عادة. وبدون اللغة لن تكون الأشياء أبدا هي ما هي عليه، ذلك أن اللغة هي التي تستدعيها وتعطينا القدرة على استدعائها كما يوضح ذلك هايدجر في كتابه الوجود والزمان"إن الكلام ينبغي أيضا ان تكون له من حيث ماهيته طريقة كينونة متصلة بالعالم عل نحو مخصوص.إن مفهومية الكينونة-في-العالم- وفق وجدان ما إنما تفصح عن نفسها من حيث هي كلام" (1). وبهذا المعنى فإن اللغة هي التي تفتح لنا العالم،لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل، وأن نتوجه بالخطاب إلى الموجود بما هو موجود. وكل ماهو كائن لايمكن أن يكون إلا في "معبد اللغة". وفي هذا المعبد يقيم الإنسان دائما، لأن هذا المعبد هو الذي يجعل من الإنسان موجودا يعبر عن نفسه." إن اللغة هي بيت الوجود" الذي يسكنه الإنسان، وفيه يتخذ كل شيء مكانه.
والحوار هو الكلام الذي يتم فيه التعبير باشتراك الغير.وبالحوار نكون واحدا، مترابطين في تركيباتنا الأساسية.أنا ما أقول، ونحن معا ما تعبر عنه كلماتنا. يقول هيدجر: " ينبغي أن تفهم ظاهرة التواصل، كما قد أشير بعد إلى ذلك أثناء التحليل، في معنى أنطولوجي واسع. إن التواصل بالقول، البلاغ مثلا، هو حالة خاصة من التواصل المدرك في أساسه على نحو وجوداني. ففي هذا الأخير يتشكل تمفصل الكينونة- الواحد-مع- الآخر الفاهمة. وإنما هو الذي ينجز "اقتسام" الوجدان- معا وفهم الكينونة-معا. ليس التواصل أبدا شيئا من قبيل نقل التجارب المعيشة، مثلا نقل آراء وأماني من باطن ذات ما إلى باطن ذات أخرى." (2)
إن المعنى هو الذي يؤسس اللغة أو القول الذي هو تحديد عيني للكلام وبه يعبر عادة. وبدون اللغة لن تكون الأشياء أبدا هي ما هي عليه، ذلك أن اللغة هي التي تستدعيها وتعطينا القدرة على استدعائها كما يوضح ذلك هايدجر في كتابه الوجود والزمان"إن الكلام ينبغي أيضا ان تكون له من حيث ماهيته طريقة كينونة متصلة بالعالم عل نحو مخصوص.إن مفهومية الكينونة-في-العالم- وفق وجدان ما إنما تفصح عن نفسها من حيث هي كلام" (1). وبهذا المعنى فإن اللغة هي التي تفتح لنا العالم،لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل، وأن نتوجه بالخطاب إلى الموجود بما هو موجود. وكل ماهو كائن لايمكن أن يكون إلا في "معبد اللغة". وفي هذا المعبد يقيم الإنسان دائما، لأن هذا المعبد هو الذي يجعل من الإنسان موجودا يعبر عن نفسه." إن اللغة هي بيت الوجود" الذي يسكنه الإنسان، وفيه يتخذ كل شيء مكانه.
والحوار هو الكلام الذي يتم فيه التعبير باشتراك الغير.وبالحوار نكون واحدا، مترابطين في تركيباتنا الأساسية.أنا ما أقول، ونحن معا ما تعبر عنه كلماتنا. يقول هيدجر: " ينبغي أن تفهم ظاهرة التواصل، كما قد أشير بعد إلى ذلك أثناء التحليل، في معنى أنطولوجي واسع. إن التواصل بالقول، البلاغ مثلا، هو حالة خاصة من التواصل المدرك في أساسه على نحو وجوداني. ففي هذا الأخير يتشكل تمفصل الكينونة- الواحد-مع- الآخر الفاهمة. وإنما هو الذي ينجز "اقتسام" الوجدان- معا وفهم الكينونة-معا. ليس التواصل أبدا شيئا من قبيل نقل التجارب المعيشة، مثلا نقل آراء وأماني من باطن ذات ما إلى باطن ذات أخرى." (2)
والدازين هو بالضرورة حوار،لأن وجوده ديالكتيكي،متعلق دائما بالآخرين. الذين يكونون معا عالم الدازين. إن الحوار يريد أن يوحد بيننا في قصد مشترك، دون أن نختلط بعضنا ببعض.
واللغة هي التي تؤسس كل ما هو كائن، من حيث هو كائن. أو هذا على الأقل ما تفعله حين يكون الكلام صحيحا، يفتحنا على المعقولية الصحيحة. إذن اللغة تقول الوجود، كما أن القاضي يقول القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصا تلك التي ينطق بها الشاعر، بكلامه الحافل.
أما الكلام الزائف فهو كلام المحادثات اليومية.إن هذا الكلام سقوط، وإنهيار، بالمعنى الأنطولوجي، لا بالمعنى النفسي لهذا اللفظ.إن الدازين وقد أسلم إلى العالم، يضيع في الوجود - مع Mitsein . ولا يستطيع الإنسان أن يتجنب الاختلاط بالموجودات. يوضح هيدجر قائلا:" ويملك الكلام الذي ينتمي إلى هيئة الكينونة الجوهرية التي للدازين والتي تساهم في صنع انفتاحه، إمكانية أن يصبح قيلا وقالا، ومت حيث هو كذلك، هو لا يبقي على الكينونة-في- العالم مفتوحة بالقدر الذي يظن أمام فهم مفصل، بل هو يغلقها ويسدل حجابا على الكائن الذي داخل العالم." (3)
في السنوات اللاحقة أي بعد" المنعطف" الذي سيؤسس لمرحلة ثانية في تفكيره ، فصل فيلسوف الغابة السوداء في تناوله للغة القول الشعري الذي اعتبره الوضع الأهم للغة. يرفض هيدجر اختزال اللغة في اعتبارها مجرد أداة للتواصل وحاول ربطها بالوجود نفسه. وفي محاضرته "في الطريق إلى اللغةUnterwegs zur Sprache " ستتجلى هذه المقاربة الأنطولوجية بكل قوة.
حسب التأويل المتعارف عليه اللغة هي إصدار أجراس متمفصلة، هذه المقاربة تفترض حسب هيدجر ثلاث افتراضات رئيسية:
أولا تفترض أن اللغة تعبير أي سيرورة إخراج extériorisation أي تجل الحالات الداخلية للإنسان.
يؤدي هذا الافتراض إلى افتراض ثان هو أن اللغة فاعلية بشرية.
ثالثا الهدف من اللغة هو التواصل أو التعبير عن شيء ما واقعيا كان أو خياليا.
هذه الافتراضات ستكون حسب هيدجر قاعدة لكل التأويلات الفلسفية والعلمية التي قاربت اللغة منذ أرسطو إلى فون هومبولت.
إن التصور السيميولوجي الذي يعتبر اللغة كتعبير عن حالة ما أي ك" نظام من العلامات" ليس خاطئا في نظر هيدجر، بل إنه يبقى غير كاف: إنه ينظر إلى اللغة ليس كلغة، ولكن انطلاقا من شيء ما خارج عنها. وهنا يؤكد الفيلسوف بأن تحليله للغة هو "جلب اللغة من حيث هي اللغة إلى اللغة" (4) أي النظر إلى ماهيتها وليس مقاربتها من خلال عنصر خارج عنها. يقول هيدجر:"عندما ننعم الفكر في اللغة من حيث هي اللغة، ونكون قد تخلينا عن الأسلوب المعتاد حتى الآن في النظر إلى اللغة، ولن يبقى ممكنا أن نبحث عن تمثلات عامة مثل الفعل والفاعلية والعمل وقوة الروح ولمحة العالم والتعبير، ندرج تحتها اللغة كحالة خاصة لهذا العالم. وبدل أن نفسر اللغة بصفتها هذا أوداك وأن نبتعد بذلك عن اللغة، يريد الطريق إليها أن يجعلنا نجرب اللغة من حيث هي اللغة" (5)
لإظهار اللغة كلغة يجب أولا حسب هيدجر الالتفات إلى مكان حدوث اللغة أي المكان الذي تظهر فيه اللغة كلغة.هناك حسب هيدجر مجال وحيد هو القول الشعري. إن القصيدة لا تحمل أي معلومة عن العالم، ولكنها تتحدث بصفاء وبكل بساطة.هكذا تتضح اللغة كما هي.إن هيدجر يعتبر ماهية الشعر في إطلاقه للأسماء nomination لا يعني ذلك تسمية الأشياء بل يعني جلب اللغة .
القول الشعري يجلب الأشياء إلى مقربة منا، وبالتالي يتوضح لنا ويصير ظاهرا.الكلام في معناه الأولي ليس تعبيرا عن معنى أو ماهية، ولكن اظهار شيء ما .
وهذا هو المقصود من القولة المشهورة لهيدجر" اللغة هي بيت الكينونة لأنها من حيث هي القولة لحن الخصوصية" (6)
لظهور اللغة ليس الإنسان هو وحده من يحدد تلك المسألة بل هي تحديد من الوجود نفسه. إن التحديد الأنطولوجي للغة حسب هيدجر يتجلى في هذه القولة "ماهية اللغة- يقول هيدجر- هي لغة الماهية" (7)
قلب "ماهية اللغة" إلى" لغة الماهية" في هذة الجملة ليس مفارقة أوتناقض بل هو شيء آخر أعمق من ذلك كله،إنها تنقلنا من اعتبار اللغة مجرد ظاهرة لسانية ،إلى تأويل آخر للغة كماهية للوجود نفسه .الوجود يتكلم ، أو هو لغة وهذا لا يعني أنه يصدر أصواتا لأن ذلك ليس له أي معنى، بل أنه باعتباره وجودا القول الأصيل أي الحركة التي من خلالها كل شيء يظهر كما هو." القولة هي التجميع المهيكل لكل المعان للإبانة المتنوعة في ذاتها التي تجعل ما تمت إبانته يبقى دائما عند ذاته هو" (8)
الوجود كقدوم avènement ( Ereignis) للحضور أو الدخول في حضور ما هو حاضر
Anwesen des Anwesendes.
وهكذا ينتهي هيدجر إلى دمج الوجود واللغة في كلمة واحدة هيDie Sage و التي تعني في اللغة المتداولة الأسطورة والتي ترجمها اسماعيل المصدق إلى اللغة العربية ب "القولة ".
القولة هي الأسطورة أو لغة الوجود . يقول هيدجر" إن الأساسي في اللغة هو القولة كبيان، إبانة البيان لا تقوم على أساس علامات ما، بل إن كل العلامات تنشأ عن إبانة بحيث لا يمكن أن تكون تلك العلامات إلا في مجالها ولأجل مقاصدها. لكن بالنظر إلى هيكل القولة لا يحق لنا ان نعزو الإبانة لا بكيفية استثنائية ولا حاسمة إلى الفعل البشري، إن إبانة الشيء لذاته تميز كظهور حضور وغياب ما هو حاضر من كل نوع ودرجة، وحتى عندما تتحقق الإبانة بفضل قولنا فإن هذه الإبانة كإشارة تكون مسبوقة بترك الشيء يبين لذاته " (9)
هذا التحديد الأنطولوجي للغة وهذا التحديد "الأسطوري" للوجود ليسا جديدين حسب هيدجر بل هما أقدم من التفكير الغربي نفسه الكلمة الأقدم هي " sagan " القولة التي تعني ترك الوجود ليظهر في ماهيته
الوجود هو اللغة، هو اللغة الأصلية ، يعني التجلي الهادئ الذي بفضله يظهر كل شيء كما هو أي يأتي إلى نفسه er-eignet .
الإنسان لا يتكلم إلا بقدر ما ينصت.الكائن الإنساني يقول هيدجر ليس قادرا على الكلام إلا بقدر إنتمائه للقول إنه ينصت من أجل أن يقول كلمة يقول هيدجر "لكن هل تتكلم اللغة إذن ذاتها؟ أنى لها أن تقوم بذلك والحال انها ليست مزودة بأعضاء الكلام؟ ومع ذلك فإن اللغة تتكلم. إنها تتبع في المقام الاول، وبالمعنى الحق الأساسي das Wesendeفي التكلم: القول.تتكلم اللغة بأن تقول، أي تبين، ينبع قولها من القولة Sage المتكلمة قديما والتي بقيت غير متكلمة إلى الآن والتي تتخلل الشق الفاتح لحدوث اللغة. وتتكلم اللغة التي تمتد كبيان إلى كل جهات الحضور، بأن تجعل كل حاضر يظهر او يخفت انطلاقا من هذه الجهات. وبناء عليه فإننا ننصت إلى اللغة بحيث نترك قولتها تقال لنا، ومهما كانت الكيفيات التي نسمع بها عادة، فإننا عندما نسمع شيئا ما يكون السماع، الذي يضم سلفا كل إدراك وتمثل، هو ترك شيء يقال لنا. في التكلم كإنصات إلى اللغة نردد القولة التي أنصتنا إليها، إننا نترك صوتها الذي ليس له جرس يقبل، ونطلب أثناء ذلك الجرس المحتفظ به لنا، نناديه ونحن ممتدين نحوه. والأن قد يمكن أن تفصح في الشق الفاتح لحدوث اللغة سمة واحدة على الأقل عن ذاتها بكيفية أوضح بحيث نلمح فيها كيف تجلب اللغة كتكلم إلى ما يخصها وبذلك كيف تتكلم من حيث هي اللغة" (10)
اللغة الإنسانية هي من وجهة النظر هذه دائما ثانوية. إنها إجابة و توافق مع صوت الوجود أو مع صوت إطار العالم الرباعي. الذي يضم "الأرض والسماء، الإلهيين والفانين".
الهوامش:
(1) مارتن هيدجر، الوجود والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة،بيروت،ط1،2012 ص 312
(2) نفس المرجع ص 316
(3) نفس المرجع ص 325
(4) مارتن هيدجر، كتابات أساسية، الجزء 2 ترجمة إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة ط1 ،2003،ص261
(5) نفس المرجع ص267.
(6) نفس المرجع ص 282-283
(7) نفس المرجع ص 274
(8) نفس المرجع ص271
(9) نفس المرجع ص 272
(10) نفس المرجع ،ص243.
واللغة هي التي تؤسس كل ما هو كائن، من حيث هو كائن. أو هذا على الأقل ما تفعله حين يكون الكلام صحيحا، يفتحنا على المعقولية الصحيحة. إذن اللغة تقول الوجود، كما أن القاضي يقول القانون. واللغة الصحيحة هي خصوصا تلك التي ينطق بها الشاعر، بكلامه الحافل.
أما الكلام الزائف فهو كلام المحادثات اليومية.إن هذا الكلام سقوط، وإنهيار، بالمعنى الأنطولوجي، لا بالمعنى النفسي لهذا اللفظ.إن الدازين وقد أسلم إلى العالم، يضيع في الوجود - مع Mitsein . ولا يستطيع الإنسان أن يتجنب الاختلاط بالموجودات. يوضح هيدجر قائلا:" ويملك الكلام الذي ينتمي إلى هيئة الكينونة الجوهرية التي للدازين والتي تساهم في صنع انفتاحه، إمكانية أن يصبح قيلا وقالا، ومت حيث هو كذلك، هو لا يبقي على الكينونة-في- العالم مفتوحة بالقدر الذي يظن أمام فهم مفصل، بل هو يغلقها ويسدل حجابا على الكائن الذي داخل العالم." (3)
في السنوات اللاحقة أي بعد" المنعطف" الذي سيؤسس لمرحلة ثانية في تفكيره ، فصل فيلسوف الغابة السوداء في تناوله للغة القول الشعري الذي اعتبره الوضع الأهم للغة. يرفض هيدجر اختزال اللغة في اعتبارها مجرد أداة للتواصل وحاول ربطها بالوجود نفسه. وفي محاضرته "في الطريق إلى اللغةUnterwegs zur Sprache " ستتجلى هذه المقاربة الأنطولوجية بكل قوة.
حسب التأويل المتعارف عليه اللغة هي إصدار أجراس متمفصلة، هذه المقاربة تفترض حسب هيدجر ثلاث افتراضات رئيسية:
أولا تفترض أن اللغة تعبير أي سيرورة إخراج extériorisation أي تجل الحالات الداخلية للإنسان.
يؤدي هذا الافتراض إلى افتراض ثان هو أن اللغة فاعلية بشرية.
ثالثا الهدف من اللغة هو التواصل أو التعبير عن شيء ما واقعيا كان أو خياليا.
هذه الافتراضات ستكون حسب هيدجر قاعدة لكل التأويلات الفلسفية والعلمية التي قاربت اللغة منذ أرسطو إلى فون هومبولت.
إن التصور السيميولوجي الذي يعتبر اللغة كتعبير عن حالة ما أي ك" نظام من العلامات" ليس خاطئا في نظر هيدجر، بل إنه يبقى غير كاف: إنه ينظر إلى اللغة ليس كلغة، ولكن انطلاقا من شيء ما خارج عنها. وهنا يؤكد الفيلسوف بأن تحليله للغة هو "جلب اللغة من حيث هي اللغة إلى اللغة" (4) أي النظر إلى ماهيتها وليس مقاربتها من خلال عنصر خارج عنها. يقول هيدجر:"عندما ننعم الفكر في اللغة من حيث هي اللغة، ونكون قد تخلينا عن الأسلوب المعتاد حتى الآن في النظر إلى اللغة، ولن يبقى ممكنا أن نبحث عن تمثلات عامة مثل الفعل والفاعلية والعمل وقوة الروح ولمحة العالم والتعبير، ندرج تحتها اللغة كحالة خاصة لهذا العالم. وبدل أن نفسر اللغة بصفتها هذا أوداك وأن نبتعد بذلك عن اللغة، يريد الطريق إليها أن يجعلنا نجرب اللغة من حيث هي اللغة" (5)
لإظهار اللغة كلغة يجب أولا حسب هيدجر الالتفات إلى مكان حدوث اللغة أي المكان الذي تظهر فيه اللغة كلغة.هناك حسب هيدجر مجال وحيد هو القول الشعري. إن القصيدة لا تحمل أي معلومة عن العالم، ولكنها تتحدث بصفاء وبكل بساطة.هكذا تتضح اللغة كما هي.إن هيدجر يعتبر ماهية الشعر في إطلاقه للأسماء nomination لا يعني ذلك تسمية الأشياء بل يعني جلب اللغة .
القول الشعري يجلب الأشياء إلى مقربة منا، وبالتالي يتوضح لنا ويصير ظاهرا.الكلام في معناه الأولي ليس تعبيرا عن معنى أو ماهية، ولكن اظهار شيء ما .
وهذا هو المقصود من القولة المشهورة لهيدجر" اللغة هي بيت الكينونة لأنها من حيث هي القولة لحن الخصوصية" (6)
لظهور اللغة ليس الإنسان هو وحده من يحدد تلك المسألة بل هي تحديد من الوجود نفسه. إن التحديد الأنطولوجي للغة حسب هيدجر يتجلى في هذه القولة "ماهية اللغة- يقول هيدجر- هي لغة الماهية" (7)
قلب "ماهية اللغة" إلى" لغة الماهية" في هذة الجملة ليس مفارقة أوتناقض بل هو شيء آخر أعمق من ذلك كله،إنها تنقلنا من اعتبار اللغة مجرد ظاهرة لسانية ،إلى تأويل آخر للغة كماهية للوجود نفسه .الوجود يتكلم ، أو هو لغة وهذا لا يعني أنه يصدر أصواتا لأن ذلك ليس له أي معنى، بل أنه باعتباره وجودا القول الأصيل أي الحركة التي من خلالها كل شيء يظهر كما هو." القولة هي التجميع المهيكل لكل المعان للإبانة المتنوعة في ذاتها التي تجعل ما تمت إبانته يبقى دائما عند ذاته هو" (8)
الوجود كقدوم avènement ( Ereignis) للحضور أو الدخول في حضور ما هو حاضر
Anwesen des Anwesendes.
وهكذا ينتهي هيدجر إلى دمج الوجود واللغة في كلمة واحدة هيDie Sage و التي تعني في اللغة المتداولة الأسطورة والتي ترجمها اسماعيل المصدق إلى اللغة العربية ب "القولة ".
القولة هي الأسطورة أو لغة الوجود . يقول هيدجر" إن الأساسي في اللغة هو القولة كبيان، إبانة البيان لا تقوم على أساس علامات ما، بل إن كل العلامات تنشأ عن إبانة بحيث لا يمكن أن تكون تلك العلامات إلا في مجالها ولأجل مقاصدها. لكن بالنظر إلى هيكل القولة لا يحق لنا ان نعزو الإبانة لا بكيفية استثنائية ولا حاسمة إلى الفعل البشري، إن إبانة الشيء لذاته تميز كظهور حضور وغياب ما هو حاضر من كل نوع ودرجة، وحتى عندما تتحقق الإبانة بفضل قولنا فإن هذه الإبانة كإشارة تكون مسبوقة بترك الشيء يبين لذاته " (9)
هذا التحديد الأنطولوجي للغة وهذا التحديد "الأسطوري" للوجود ليسا جديدين حسب هيدجر بل هما أقدم من التفكير الغربي نفسه الكلمة الأقدم هي " sagan " القولة التي تعني ترك الوجود ليظهر في ماهيته
الوجود هو اللغة، هو اللغة الأصلية ، يعني التجلي الهادئ الذي بفضله يظهر كل شيء كما هو أي يأتي إلى نفسه er-eignet .
الإنسان لا يتكلم إلا بقدر ما ينصت.الكائن الإنساني يقول هيدجر ليس قادرا على الكلام إلا بقدر إنتمائه للقول إنه ينصت من أجل أن يقول كلمة يقول هيدجر "لكن هل تتكلم اللغة إذن ذاتها؟ أنى لها أن تقوم بذلك والحال انها ليست مزودة بأعضاء الكلام؟ ومع ذلك فإن اللغة تتكلم. إنها تتبع في المقام الاول، وبالمعنى الحق الأساسي das Wesendeفي التكلم: القول.تتكلم اللغة بأن تقول، أي تبين، ينبع قولها من القولة Sage المتكلمة قديما والتي بقيت غير متكلمة إلى الآن والتي تتخلل الشق الفاتح لحدوث اللغة. وتتكلم اللغة التي تمتد كبيان إلى كل جهات الحضور، بأن تجعل كل حاضر يظهر او يخفت انطلاقا من هذه الجهات. وبناء عليه فإننا ننصت إلى اللغة بحيث نترك قولتها تقال لنا، ومهما كانت الكيفيات التي نسمع بها عادة، فإننا عندما نسمع شيئا ما يكون السماع، الذي يضم سلفا كل إدراك وتمثل، هو ترك شيء يقال لنا. في التكلم كإنصات إلى اللغة نردد القولة التي أنصتنا إليها، إننا نترك صوتها الذي ليس له جرس يقبل، ونطلب أثناء ذلك الجرس المحتفظ به لنا، نناديه ونحن ممتدين نحوه. والأن قد يمكن أن تفصح في الشق الفاتح لحدوث اللغة سمة واحدة على الأقل عن ذاتها بكيفية أوضح بحيث نلمح فيها كيف تجلب اللغة كتكلم إلى ما يخصها وبذلك كيف تتكلم من حيث هي اللغة" (10)
اللغة الإنسانية هي من وجهة النظر هذه دائما ثانوية. إنها إجابة و توافق مع صوت الوجود أو مع صوت إطار العالم الرباعي. الذي يضم "الأرض والسماء، الإلهيين والفانين".
الهوامش:
(1) مارتن هيدجر، الوجود والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة،بيروت،ط1،2012 ص 312
(2) نفس المرجع ص 316
(3) نفس المرجع ص 325
(4) مارتن هيدجر، كتابات أساسية، الجزء 2 ترجمة إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة ط1 ،2003،ص261
(5) نفس المرجع ص267.
(6) نفس المرجع ص 282-283
(7) نفس المرجع ص 274
(8) نفس المرجع ص271
(9) نفس المرجع ص 272
(10) نفس المرجع ،ص243.
الخميس، 14 أبريل 2016
المنهاج التعليمي وعوائق بناء الاستاذ نشيد مكي
تدريس الدين
من وجهة نظر قطعية لا عقلية
يقدم الكتاب المدرسي من خلال مجموعة من النصوص والأنشطة المرفقة بها صورة مدحية تفضيلية، وتمجيدية دفاعية عن الإسلام باعتباره الدين الشامل والجامع لمختلف القضايا الإنسانية، والحلول لمشاكلها المطروحة، الدين الصالح للبشرية جمعاء في أي زمان وبأي مكان، كما يقدم عبر حمولة عاطفية صورة عن المسلم المثال الذي يشكل نموذجا للاحتذاء، يجعل المتلقي المتمدرس يتماهى في شخص ذلك النموذج على انه القدوة الصحيحة التي لا يخيب من احتذى بخطواتها حذو النعل بالنعل، وسار على نهجها المستقيم. ودون الحاجة بعرض أمثلة عن ما يعتبره الخطاب المدرسي نماذج من السلوك صالحة للاقتداء، منتقاة في شكلها ومضمونها عن تمثلات في الثقافة السائدة لدى فئات عريضة من أفراد المجتمع المغربي، يتم تداولها إلى درجة التقديس على شكل صور أو نماذج سلوكية لشخصيات منتقاة عن السلف (الصالح).
وفي الجانب السلوكي نجد أن الكتاب المدرسي يسعى، أحيانا بشكل واضح صريح، وأحيانا أخرى بشكل ضمني غير معلن، إلى تنميط السلوك لدى المتعلمين على منوال تلك النماذج المختارة سلفا، والتي يقدمها الدرس التربوي الديني كنموذج وحده المفضل للتمثل والاقتداء.
وتطبيقا لذلك، نجد الكتاب المدرسي لمادة التربية الإسلامية، ولكي يحقق الهدف الذي يرمي إليه من خلال العمل على تنميط الشخصية حسب النموذج المفترض، فإنه، في واحد من بين الدروس المقررة في الكتاب المدرسي اتخذناه كنموذج، يعتمد، كمنطلق للدخول إلى الدرس، على صيغة لوضعية بيداغوجية تم بناؤها كأرضية انطلاق لمعالجة موضوع يتعلق، حسب ما جاء في الكتاب المقرر، بـ "أثر الإيمان في تنمية الحس الجمالي"، وهو موضوع يهدف في اختياره إلى ربط الحس الجمالي بالسلوك لدى الناشئة، حيث يصير، بذلك، السلوك معيارا لتقييم درجة الإيمان لدى الأفراد بمعزل تام عن الأصل الدلالي لمفهوم "الحس الجمالي" الذي يعود في جوهره إلى المجال الفني كإبداع مرتبط بما لدى الإنسان من قدرات طبيعية على التذوق الفني من حيث هو تعبير عن الإحساس الوجداني بكل ما هو جميل بغض النظر عن الشكل أو المضمون، أو الموضوع الذي تجسد فيه ذلك الجمال. وكمنطلق لمعالجة هذا الدرس تمت صياغة وضعية الانطلاق التي جاءت كما نعرضها في التالي ؛"دخل أخوان إلى البيت بعد عودتهما من المدرسة، سلم أصغرهما على أمه، في حين توجه الآخر إلى المطبخ وكل همه البحث عن الأكل !) ( .الأسئلة؛ ما رأيك في هذين السلوكين؟ وكيف يؤثر الإيمان في جمال السلوك؟" . يتمثل الهدف التربوي لهذه الوضعية في الربط بين الإيمان وتنمية الحس الجمالي لدى التلميذ اعتمادا على الآية"وإنك لعلى خلق عظيم". وقياسا على الأهداف التي حددت للدرس والتي نعرض منها كنموذج "إدراك أثر الإيمان في سلوك الإنسان" و "تحديد بعض مظاهر السلوك الجميل والسلوك القبيح"، كان من الطبيعي أن تكون نتيجة الحكم على الأخ الأكبر، هي أن إيمانه ضعيف إن لم يكن منعدما، ذلك لأنه، حسب منطوق النص، ومعايير السلوك التي اعتمدتها تلك الأهداف (الإجرائية)، قد أتى سلوكا قبيحا يتمثل في الذهاب توا إلى المطبخ بدل السلام أولا على أمه. ونتيجة لذلك، فإن الأخ الأكبر سيكون في حاجة إلى عملية دعم كي يتم تقويم سلوكه حسب النمط المحدد في الأهداف، وهو المتمثل في سلوك الطفل الأصغر كنموذج معياري للسلوك المفضل؛ ولعل مثل هذا الحكم الذي يصدر عن كتاب تربوي مقرر بصفة رسمية من طرف الدولة في حق طفل في مثل هذا السن، يحتم علينا طرح بعض الأسئلة حول مدى شرعيته تربويا قبل أي شيء آخر، أي بغض النظر عن المعيار الديني أو الأخلاقي؛ فبأي منطق إذن نصدر حكما قاسيا بهذا الحجم على طفل صغير لازال لم يطله بعد حكم التكليف الشرعي في الإسلام؟ وماذا لو كان الجوع قد أخذ منه مأخذا؟ بل وماذا لو كان له رأي آخر في موضوع علاقته الخاصة بأمه ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار؟ ومتى كان السلام، أو تقبيل الوالدين مؤشرا على صدق الإيمان، أو أن هذا السلوك وحده يمثل عربون احترام ومحبة لهما؟ ألا يمكن أن يكون هذا مجرد أسلوب لتنشئة الطفل، باسم الإيمان بمعناه الديني، على الخضوع للكبار، يبدأ بالخضوع قسرا للوالدين أولا، لينتهي بالخضوع طوعا إلى من هم أبعد وأعلى منهما مقاما؟ ألا يمكن القول بأن استعمال الإيمان في هذا السياق هو إخراج له من حقله الديني المحض، واستعماله في حقل أخلاقي حيث يعتمد كمعيار لتقييم سلوك بشري تحكمه قيم اجتماعية تعتمد معايير نسبية في أحكامها، معايير قابلة للصحة والخطأ، للتقويم والعلاج، معايير تتغير وتتجدد حسب متغيرات الزمان وأحوال المكان؟
وبالتأكيد، إن هذا الشكل من الربط التعسفي في العمل التربوي بين الإيمان بحمولته الدينية، والسلوك بمعناه الخلقي، سينتهي بالناشئة إلى عدم تملك القيم برمتها، وإلى أن يحصل لهم سوء في الفهم والتمييز بين مضامين القيم سواء من حيث الفهم العقلي، أو من حيث التطبيق العملي، لأن من شأن مثل هذا الاستعمال للقيم أن يؤدي إلى اختلاط في أذهان الناشئة بين معانيها ومضامينها، وبين ما يمكن أن يتجسد منها فعليا ليمكن أن يدرك، ويلاحظ سلوكيا ليمكن أن يقاس.
ولعل ما نعيشه في وقتنا الراهن من نشاز في السلوك، ومن تراجع في القيم الاجتماعية والثقافية، هو انفلات تبرز معالمه في ما أصبحنا نلاحظه ونشتكي منه اليوم من تنام لظواهر اجتماعية مشينة يزداد فيها العنف حدة، والتعصب انتشارا، والتطرف تمددا واتساعا، وهي الظواهر التي أضحت تهدد الاستقرار العام لنا جميعا، ليس كدولة فحسب، وإنما كأفراد ومجتمع ووطن.
من وجهة نظر قطعية لا عقلية
يقدم الكتاب المدرسي من خلال مجموعة من النصوص والأنشطة المرفقة بها صورة مدحية تفضيلية، وتمجيدية دفاعية عن الإسلام باعتباره الدين الشامل والجامع لمختلف القضايا الإنسانية، والحلول لمشاكلها المطروحة، الدين الصالح للبشرية جمعاء في أي زمان وبأي مكان، كما يقدم عبر حمولة عاطفية صورة عن المسلم المثال الذي يشكل نموذجا للاحتذاء، يجعل المتلقي المتمدرس يتماهى في شخص ذلك النموذج على انه القدوة الصحيحة التي لا يخيب من احتذى بخطواتها حذو النعل بالنعل، وسار على نهجها المستقيم. ودون الحاجة بعرض أمثلة عن ما يعتبره الخطاب المدرسي نماذج من السلوك صالحة للاقتداء، منتقاة في شكلها ومضمونها عن تمثلات في الثقافة السائدة لدى فئات عريضة من أفراد المجتمع المغربي، يتم تداولها إلى درجة التقديس على شكل صور أو نماذج سلوكية لشخصيات منتقاة عن السلف (الصالح).
وفي الجانب السلوكي نجد أن الكتاب المدرسي يسعى، أحيانا بشكل واضح صريح، وأحيانا أخرى بشكل ضمني غير معلن، إلى تنميط السلوك لدى المتعلمين على منوال تلك النماذج المختارة سلفا، والتي يقدمها الدرس التربوي الديني كنموذج وحده المفضل للتمثل والاقتداء.
وتطبيقا لذلك، نجد الكتاب المدرسي لمادة التربية الإسلامية، ولكي يحقق الهدف الذي يرمي إليه من خلال العمل على تنميط الشخصية حسب النموذج المفترض، فإنه، في واحد من بين الدروس المقررة في الكتاب المدرسي اتخذناه كنموذج، يعتمد، كمنطلق للدخول إلى الدرس، على صيغة لوضعية بيداغوجية تم بناؤها كأرضية انطلاق لمعالجة موضوع يتعلق، حسب ما جاء في الكتاب المقرر، بـ "أثر الإيمان في تنمية الحس الجمالي"، وهو موضوع يهدف في اختياره إلى ربط الحس الجمالي بالسلوك لدى الناشئة، حيث يصير، بذلك، السلوك معيارا لتقييم درجة الإيمان لدى الأفراد بمعزل تام عن الأصل الدلالي لمفهوم "الحس الجمالي" الذي يعود في جوهره إلى المجال الفني كإبداع مرتبط بما لدى الإنسان من قدرات طبيعية على التذوق الفني من حيث هو تعبير عن الإحساس الوجداني بكل ما هو جميل بغض النظر عن الشكل أو المضمون، أو الموضوع الذي تجسد فيه ذلك الجمال. وكمنطلق لمعالجة هذا الدرس تمت صياغة وضعية الانطلاق التي جاءت كما نعرضها في التالي ؛"دخل أخوان إلى البيت بعد عودتهما من المدرسة، سلم أصغرهما على أمه، في حين توجه الآخر إلى المطبخ وكل همه البحث عن الأكل !) ( .الأسئلة؛ ما رأيك في هذين السلوكين؟ وكيف يؤثر الإيمان في جمال السلوك؟" . يتمثل الهدف التربوي لهذه الوضعية في الربط بين الإيمان وتنمية الحس الجمالي لدى التلميذ اعتمادا على الآية"وإنك لعلى خلق عظيم". وقياسا على الأهداف التي حددت للدرس والتي نعرض منها كنموذج "إدراك أثر الإيمان في سلوك الإنسان" و "تحديد بعض مظاهر السلوك الجميل والسلوك القبيح"، كان من الطبيعي أن تكون نتيجة الحكم على الأخ الأكبر، هي أن إيمانه ضعيف إن لم يكن منعدما، ذلك لأنه، حسب منطوق النص، ومعايير السلوك التي اعتمدتها تلك الأهداف (الإجرائية)، قد أتى سلوكا قبيحا يتمثل في الذهاب توا إلى المطبخ بدل السلام أولا على أمه. ونتيجة لذلك، فإن الأخ الأكبر سيكون في حاجة إلى عملية دعم كي يتم تقويم سلوكه حسب النمط المحدد في الأهداف، وهو المتمثل في سلوك الطفل الأصغر كنموذج معياري للسلوك المفضل؛ ولعل مثل هذا الحكم الذي يصدر عن كتاب تربوي مقرر بصفة رسمية من طرف الدولة في حق طفل في مثل هذا السن، يحتم علينا طرح بعض الأسئلة حول مدى شرعيته تربويا قبل أي شيء آخر، أي بغض النظر عن المعيار الديني أو الأخلاقي؛ فبأي منطق إذن نصدر حكما قاسيا بهذا الحجم على طفل صغير لازال لم يطله بعد حكم التكليف الشرعي في الإسلام؟ وماذا لو كان الجوع قد أخذ منه مأخذا؟ بل وماذا لو كان له رأي آخر في موضوع علاقته الخاصة بأمه ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار؟ ومتى كان السلام، أو تقبيل الوالدين مؤشرا على صدق الإيمان، أو أن هذا السلوك وحده يمثل عربون احترام ومحبة لهما؟ ألا يمكن أن يكون هذا مجرد أسلوب لتنشئة الطفل، باسم الإيمان بمعناه الديني، على الخضوع للكبار، يبدأ بالخضوع قسرا للوالدين أولا، لينتهي بالخضوع طوعا إلى من هم أبعد وأعلى منهما مقاما؟ ألا يمكن القول بأن استعمال الإيمان في هذا السياق هو إخراج له من حقله الديني المحض، واستعماله في حقل أخلاقي حيث يعتمد كمعيار لتقييم سلوك بشري تحكمه قيم اجتماعية تعتمد معايير نسبية في أحكامها، معايير قابلة للصحة والخطأ، للتقويم والعلاج، معايير تتغير وتتجدد حسب متغيرات الزمان وأحوال المكان؟
وبالتأكيد، إن هذا الشكل من الربط التعسفي في العمل التربوي بين الإيمان بحمولته الدينية، والسلوك بمعناه الخلقي، سينتهي بالناشئة إلى عدم تملك القيم برمتها، وإلى أن يحصل لهم سوء في الفهم والتمييز بين مضامين القيم سواء من حيث الفهم العقلي، أو من حيث التطبيق العملي، لأن من شأن مثل هذا الاستعمال للقيم أن يؤدي إلى اختلاط في أذهان الناشئة بين معانيها ومضامينها، وبين ما يمكن أن يتجسد منها فعليا ليمكن أن يدرك، ويلاحظ سلوكيا ليمكن أن يقاس.
ولعل ما نعيشه في وقتنا الراهن من نشاز في السلوك، ومن تراجع في القيم الاجتماعية والثقافية، هو انفلات تبرز معالمه في ما أصبحنا نلاحظه ونشتكي منه اليوم من تنام لظواهر اجتماعية مشينة يزداد فيها العنف حدة، والتعصب انتشارا، والتطرف تمددا واتساعا، وهي الظواهر التي أضحت تهدد الاستقرار العام لنا جميعا، ليس كدولة فحسب، وإنما كأفراد ومجتمع ووطن.
الثلاثاء، 12 أبريل 2016
تكييف الطفل مع محيطه: خدعة إيديولوجية قديمة - المصطفى شباك
لتقديم فكرة عن التعدد الجهوي والاجتماعي الموجود في مغرب نهاية القرن XVII، يورد اليوسي، في محاضراته، قول قصاص شعبي يحاول وصف هذا التعدد انطلاقا من العادات الغذائية الخاصة بكل مجموعة، على النحو التالي: "ودخلت في أعوام الستين وألف مدينة مراكش عند رحلتي في طلب العلم وأنا إذ ذاك صغير السن، فخرجت يوما إلى الرحبة أنظر إلى المداحين، فوقفت على رجل مسن عليه حلقة عظيمة، وإذا هو مشتغل بحكاية الأمور المضحكة للناس. فكان أول ما قرع سمعي منه أن قال: اجتماع الفاسي والمراكشي والعربي والبربري والدراوي، فقالوا: تعالوا فليذكر كل منا ما يشتهي من الطعام، ثم ذكر ما تمناه كل واحد بلغة بلده، وما يناسب بلده، ولا أدري أكان ذلك في الوجود أم شيء قدره، وهو كذلك يكون، وحاصله أن الفاسي تمنى مرق الحمام، ولا يبغي الزحام، والمراكشي تمنى الخالص واللحم الغنمي، والعربي تمنى البركوكش بالحليب والزبد، والبربري تمنى عصيدة أنلي وهو صنف من الذرة بالزيت، والدراوي تمنى تمر الفقوس في تجمادرت وهو موضع بدرعة يكون فيه تمر فاخر، مع حريرة أمه زهراء، وحاصله تمر جيد وحريرة"(1).
قد يتساءل القارئ: أهي مجرد محاولة لتصنيف الأشخاص المذكورين؟ أم هي طريقة خاصة بعلامة القرن XVII الكبير في تقديم الشاهد على حكمة ثبات نظام على نحو ما أراده له الله؟ سيما وأنه يضيف: "ولو عرضت هذه الحريرة على العربي لم يشربها إلا من فاقة، إذ لا يعتادها مع الاختيار، ولو عرضت العصيدة على الفاسي لارتعدت فرائصه من رؤيتها، وهكذا"(2).
مضى وقت طويل على هذا الوصف، غير أن مسألة التراتب الاجتماعي والفروق الطبقية لا زالت قائمة. مع استثناء واحد تقريبا لم يعد مدار الأمر غذاء أرضيا فحسب، بل تجاوزه هذه المرة إلى طعان من نوع آخر، إنه غذاء الفكر(3)… بتعبير آخر، بعد مضي ثلاثة قرون على اليوسي، نحن اليوم إزاء إرادة لإعادة تأهيل بيداغوجي للتراتبات الاجتماعية والجهوية والثقافية. ذلك أن بعضهم ينادي اليوم، عن طيب خاطر، بإخضاع الطفل لتكييف بيداغوجي صارم مع محيطه المباشر. ومع أن الفكرة بالية ومهملة، سخيفة وسيئة النوايا، فهي تمرر باعتبارها صيغة بيداغوجية إعجازية جديدة اكتشفها أخيرا عبقري قلما تجود بمثله السنون. هكذا، تبشرنا النبوءة، مرفوقة بدقات الطبول، بأن هذه الصيغة وحدها هي ما سيتيح للمدرسة أن تخرج من المأزق الذي تقوقعت فيه منذ وقت طويل وتنطلق، بالتالي، كي تستجيب أخيرا لتطلعات سائر "المجموعات" المدرسية.
قد يتساءل القارئ: أهي مجرد محاولة لتصنيف الأشخاص المذكورين؟ أم هي طريقة خاصة بعلامة القرن XVII الكبير في تقديم الشاهد على حكمة ثبات نظام على نحو ما أراده له الله؟ سيما وأنه يضيف: "ولو عرضت هذه الحريرة على العربي لم يشربها إلا من فاقة، إذ لا يعتادها مع الاختيار، ولو عرضت العصيدة على الفاسي لارتعدت فرائصه من رؤيتها، وهكذا"(2).
مضى وقت طويل على هذا الوصف، غير أن مسألة التراتب الاجتماعي والفروق الطبقية لا زالت قائمة. مع استثناء واحد تقريبا لم يعد مدار الأمر غذاء أرضيا فحسب، بل تجاوزه هذه المرة إلى طعان من نوع آخر، إنه غذاء الفكر(3)… بتعبير آخر، بعد مضي ثلاثة قرون على اليوسي، نحن اليوم إزاء إرادة لإعادة تأهيل بيداغوجي للتراتبات الاجتماعية والجهوية والثقافية. ذلك أن بعضهم ينادي اليوم، عن طيب خاطر، بإخضاع الطفل لتكييف بيداغوجي صارم مع محيطه المباشر. ومع أن الفكرة بالية ومهملة، سخيفة وسيئة النوايا، فهي تمرر باعتبارها صيغة بيداغوجية إعجازية جديدة اكتشفها أخيرا عبقري قلما تجود بمثله السنون. هكذا، تبشرنا النبوءة، مرفوقة بدقات الطبول، بأن هذه الصيغة وحدها هي ما سيتيح للمدرسة أن تخرج من المأزق الذي تقوقعت فيه منذ وقت طويل وتنطلق، بالتالي، كي تستجيب أخيرا لتطلعات سائر "المجموعات" المدرسية.
- II -
تكييف الطفل مع محيطه هو "الابتكار" الأخير الذي يقدمه مدبرو الشأن المدرسي عندنا، وهو يحظى بمريدين يتزايدون يوما عن يوم، ويبشر –ككل ديانة جديدة- بمستقبل زاهر وعظيم. أكثر من ذلك، يؤكد أصحاب القرار ووسائل الإعلام السياسي أن المكتشف النفيس لهو من الفرادة والإجرائية والفعالية بحيث لا يترددون في أن يقترحوا علينا هذه العقيدة الشهيرة للتكييف البيداغوجي باعتبارها منتوجا نهائيا، نوعا من البيداغوجيا الجاهزة التي يكفي المرء أن يمسك مفاتيحها بيديه فلا يبقى له سوى أن يطبقها حرفيا دون أن يخضعها لأي نقد أو مساءلة. وبذلك يحق لعباقرتنا أن يسجلوا ماركة ابتكارهم ويحفظوا حقوق ملكية الاختراع وحق التصرف فيه!
سأجازف بركوب خطر إقلاق مريدي العقيدة الجديدة وتعكير جو الاحتفال، مقترحا بهذه الصفحات الوصول إلى هدفين:
ـ الأول: محاولة القيام بجينيالوجيا لهذا الاتجاه البيداغوجي الذي يرتكز على ضرورة تكييف الطفل مع محيطه، وذلك بأن أثبت –جهد المستطاع- أن هذا الاتجاه قديم قدم القرن وأنه، بالتالي، ليس ابتكارا ولا اكتشافا حديثا بقدر ما هو مجرد تكرار ما لم يكن انتحالا مخجلا. بتعابير أوضح، إن الخطاب الذي ينشر اليوم حول تكييف الطفل مع محيطه ليس سوى صدى أخرص لنظيره الذي كان يتمسك به المستعمر من قبل.
ـ أما الهدف الثاني، فيتمثل في مناقشة شرعية قسط من الأفكار التي يزينها المذهب التكييفي، وذلك بتقصي هذه الأفكار عبر تحليلها النقدي، للوقوف على طبيعتها الحقيقية وهي أنها مجموعة من الإيديولوجيمات الخادعة والرجعية. بفعل المقاربة السطحية التي يجريها مذهب التكييف للمسألة التربوية وبفعل رؤيته الخطية لقضايا العصر، فإنه يسقط في خطيئة النسيان، إذ ينسى العالم والبشر على حد سواء. لكن، أيمكن أن ننسى بسهولة أن المحيط المباشر لأغلبية طفولة البلد ليس شيئا آخر عدا هذه الحياة الموحلة، المظلمة، والشاقة التي يواجهها الطفل في كل لحظة منذ خروجه من الكوخ أو المنزل؟ أسيرا عاجزا بين يدي وسط يتعالاه ويستوعبه، فهو يستسلم تلقائيا، وبسهولة، كما يفعل آخرون قبله، لإضفاء الديمومة على وجود رتيب وتكراري، فاقد لكل رونق. أهذا هو التكيف مع المحيط؟
ما القول وما العمل عندما يكون المحيط وضيعا، غير محظوظ، معدما؟ لا يحتاج المرء أن يكون عالم اجتماع في أيامنا هذه كي يلاحظ بمرارة أن الفقر والإقصاء والبطالة والهجرة القروية والتحضر العشوائي، كل ذلك يشكل تربة خصبة لنمو أشكال العنف المفرط والفظيع الذي يمزق مجتمعنا: الانحراف، إدمان الكحول والمخدرات، السطو والسرقة، تشرد الأحداث، بالإضافة إلى ظاهرة أخرى مخيفة، لكنها ليست مستبعدة، ونعني بها ظاهرة التطرف الإيديولوجي.
يجب بذل مجهود كبير، وعلى أكثر من صعيد، لقلب علاقة التكيف. فبدلا من تكييف الطفل مع محيط عدائي، يجب بالأحرى تكييف هذا المحيط مع طفولة إنسانية الوجه، أي ملزمة وواعدة.. بيد أن الطفل باعتباره كائنا بشريا في صيرورة، يأبى أن يحصر في محيط محدد نلزمه بالإقامة فيه كما تقيم البهيمة في حظيرتها. إن محيط الطفل لا تحيط به أي حدود، لأن محيطه هو العالم باعتباره أفقا للإمكانية. ليس من باب الصدفة أن تعلم اللغات، مثلا، يتطلب سنا مبكرة.
- III -
فلنعد إلى النقطة الأولى للقيام بنوع من الجينيالوجيا لهذه الفكرة التي تفرض تكييف الطفل بيداغوجيا مع محيطه. ولهذا الغرض سنختار فضاء محددا، هو المغرب الاستعماري، وحقبة زمنية محددة كذلك، من 1912 إلى 1956، وسندا وثائقيا، هو بعض كتابات جورج هاردي باعتباره منظرا موهوبا للبيداغوجيا الاستعمارية بالمغرب.
لقد عبر ج.هاردي منذ 1917، أي قبل أن يصير مديرا للتعليم العمومي بالمغرب، عن فلسفته التربوية الاستعمارية بهذه الكلمات: "لكي ننجح في تحويل بدائيي مستعمراتنا وجعلهم متفانين في خدمة قضيتنا، صالحين لمشروعنا (…)، فإن الوسيلة الوحيدة المضمونة هي أن نأخذ طفلهم، ونفتح له مدارس يهذب فيها عقله طبقا لمقاصدنا"(4).
في سنة 1921، وفي مقالة واضحة بشكل مدهش، نجد المؤلف نفسه (وقد صار يومئذ مديرا للتعليم العمومي بالمغرب، أي ما يعادل وزير التربية) يعرض تصورا شخصيا للتربية الفرنسية بالمغرب(5)، هو عبارة عن تخطيط للبنية التحتية المدرسية(المدرسة، الإعدادية، الجامعة…) وتنظيم لها بحسب المعايير نفسها التي تقسم وتجزئ مختلف أحياء المدينة المغربية. أما طبقية التمدرس، فستعيد إنتاج تقسيم الإثنيات والطبقات الاجتماعية.
فهو يقول: "المدينة المغربية فعلا تجميع عرقي عجيب. والأعراق التي تعمرها توجد بدون شك في باقي إفريقيا الشمالية، ليست في أي مكان آخر بهذا التوزيع الجيد، وتعدد العادات والنزعات. في القلب، في المركز التاريخي للمدينة حيث تربض آثار المدينة، توجد الحاضرة الإسلامية: هناك، في الأزقة الضيقة، في الأسواق الصاخبة، في الإقامات الجميلة السرية وتحت قباب المساجد، تحتمي روح البلد. في ظل المدينة، في الملاح، يتكدس الحي اليهودي بحيوية رهيبة. خارج الأسوار، تنتشر المدينة الفرنسية، تخترقها شوارع واسعة، مزدانة بحدائق وساحات واسعة بشكل فريد، مسكونة بإقامات جذابة يلمع بياضها بين الأشجار والزهور. أخيرا، في حواشي هذه المدينة الجديدة، تمتد عموما أزقة عمالية، يزدحم فيها العمال، إيطاليون، يونانيون، مالطيون(…)، وإسبانيون بالخصوص"(6).
وهذه الاختلافات يجب أن يطابقها تعامل تربوي ملائم. يواصل هاردي: "لا يحتاج المرء إلا الإقامة طويلا في المغرب كي يفهم أنه من المستحيل –مؤقتا على الأقل- تطبيق تعامل واحد مع تجمعات عرقية بهذا الاختلاف. من الواضح أن النظام والأمن في المغرب يتوقفان قبل كل شيء على مهارتنا في استعمال كل عرق من هذه الأعراق في اتجاه ومقدار أذواقه وموارده"(7).
يرى هاردي أن المدرسة وحدها هي القادرة على السهر فعليا على ما يسميه "توزيع العمل الجماعي"(8. يضيف: "بعد إجراء تجارب عديدة، وفي جميع المناطق، تعرف [ المدرسة] اليوم أي مقاومات يقوى على إبدائها دم الأعراق تجاه أفضل المحاولات التربوية(…): في الواقع، ثمة من المشاكل الدراسية مقدار ما هناك من المدارس أو –على الأقل- مقدار ما هناك من أعراق دراسية. وليس من باب اللعب بالكلمات الدعوة إلى بحث عن حل خاص لكل واحد من هذه المشاكل"(9).
حقا، قد يصعب مناقشة الرأي القائل بأنه يوجد من المشاكل التربوية مقدار ما يوجد من المدارس. لكن الحديث عن مقاومات ذات أصول عرقية، وبالتالي عن مقاربات بيداغوجية خاصة بكل عرق على حدة، معناه المجازفة بالمعنى العصري للكلمة: نفي الاختلافات لتحقيق تكافؤ حقيقي للفرص. إلا أن مقاربة هاردي تفترض أنه وإن كانت هناك مدرسة للجميع تفتح أبوابها لكل فرد، فإن هذا الأخير بحكم أصله "العرقي" سيجد نفسه إما متكيفا داخلها بالطبيعة أو مقصيا منها سلفا، بموجب قانون "التصالح مع الوضع أو التعرض للنبذ".
ليس جميع التلاميذ سواسية أمام المدرسة. ودورها يتلخص في شيء واحد: ترسيخ ما ميزته على نحو جيد الطبيعة والحياة الاجتماعية.
ولذا، فنحن بعيدون عن المبدأ القائل بضرورة التقاء المدرسة مع الاختلاف لتضفي عليه قيمة وتوسع دائرة التعلم باسم مبدإ تساوي الجميع أمام التربية. سنكون إزاء جماعات تعتبر مختلفة (استنادا إلى الدراسات الإثنوغرافية)، وبالتالي يجب بالضرورة ألا تتساوى أمام التربية. كل مجموعة ستتلقى "تربية مناسبة"، يمكن تحديدها بكيفية مسبقة.
ليوضح هاردي أطروحته، فإنه ينطلق من تأمل في حالة الأهالي أو من يسميهم "العرب-البربر"، ليقف على ازدواجية أصلهم وطبعهم –على حد تعبيره-، وذلك بعد عرض مسهب لإيجابيات حضارتهم: "أرى أن المشكل العربي-البربري يتلخص في ما يلي: تزويد الأهالي بوسيلة مواصلة الحياة في فضاء العالم العصري، تطوير نشاطهم وإمداده بصيغ وأدوات تتيح لهم المردودية الضرورية، مع الاحتفاظ بأفكارهم وعاداتهم الخارجية"(10).
بهذا المعنى، سيكون التعليم المقترح "ذا نزعة عملية صارمة"، إذ سيرمي إلى تحقيق هدف مباشر هو تعليم كل فرد من الأهالي مهنة خاصة. بيد أنه في إطار التراتبية التي تحكم المجتمع التقليدي المغربي وفي إطار حتى تقسيم العمل الجماعي نفسه، الذي تنحو نحوه الحماية الفرنسية، يجب الحرص كثيرا على عدم إلحاق تشويش كبير بالحياة الاجتماعية. لذا يرى هاردي أنه يجب "الفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية وتعليم يشمل الشعب برمته"(11).
وضرورة الحفاظ على التراتبية الاجتماعية في مزاولة كل طبقة لوظائف خاصة مناسبة لها، تقود إلى إقامة نوعين من التعليم متمايزين:
أ ـ تعليم للنخبة: يستفيد منه أبناء الأرستقراطية، ويتلقون فيه تعليما عمليا، يرمي إلى استيعاب قواعد التدبير الإداري والتجاري استيعابا منهجيا: "المهن التقليدية للمغاربة الأعيان"، حسب ج.هاردي(12).
ب ـ تعليم خاص بالشعب: يتنوع بتنوع معطيات الوسط الجغرافي والاقتصادي، ويشمل –على الأقل- المظاهر الثلاثة الآتية:
ـ في المدن، سيهدف إلى تعليم مهن يدوية أوروبية أو الصناعات الحرفية التقليدية كالنحاس، والدباغة، والحياكة، الخ…
ـ في الوسط القروي، سيفسح المجال لتعلم الفلاحة، والغراسة وتربية المواشي،
ـ في المناطق الشاطئية، سيتمحور حول الصيد والملاحة.
ماذا يمكن أن نستنتج مما سبق؟ هل نحن إزاء بوادر تعليم يقوم على التنوع وقبول جميع الاختلافات بشكل متنور أم أننا –بخلاف ذلك- أمام محاولة مخططة لإرساء تعليم تمييزي يرمي إلى ترسيخ وشرعنة تفاوتات مرتبطة بتقسيم العمل (أرستقراطية حضرية أو قروية من جهة، ويد عاملة حضرية أو قروية من جهة ثانية)، وبعلاقات قوى بين مستعمرين (فرنسيين، أوروبيين) ومستعمرين (أهالي عرب-برابرة)؟
يتحاشى ج.هاردي كل اعتراض، ويعبر عن تصوره على النحو التالي: "لن نجبر تعليمنا منذ البداية على نهج توجهات عملية صارمة؛ سنجعله يخدم تعلم مهنة ما وتشبيب النشاط المحلي؛ لكن تفاديا لأن تسبب هذه الصحوة تصدعا في قلب مجموع الحياة الاجتماعية، فإننا لن نخرج الطفل من محيطه. سنكونه في عين المكان، ولن نطلب منه أي شيء آخر عدا إنتاج الفواكه التي كان سينتجها في غيابنا، لكن بجودة أكبر وبغزارة. لذا، لجأنا إلى التمييز بين تعليم للنخبة وتعليم للشعب"(13).
لا يخفى ما ينطوي عليه هذا النمط التعليمي من طبيعة نفعية وبراغماتية علنية. ويمكن الاعتراض بكونه من التخصص الضيق بحيث لا يمكن أن يولد، عاجلا أم آجلا، إلا أطفالا منغلقين داخل التعليم الذي تلقوه، ومن ثمة محدودين؛ جاهلين جهلا تاما كل ما لا يعنيهم، وبعيدين عن كل فكر تجريدي وكل معرفة نظرية ولو كان من شأنها أن تدعم مجال تخصصهم؛ متجذرين في وسطهم الأصلي، لكن مغتربين بشكل فظيع في الأوساط الأخرى التي قد تتاح لهم فرصة زيارتها أو مواجهتها. يبعد ج.هاردي هذا النقد بصياغة الأمنية التالية: "صحيح، لكي يكون هذا التعليم مثمرا حقا، فإنه يفترض تعليما عاما، يرمي إلى تفتيح ذهن الأهالي الشباب أكثر مما يكتفي بملئه"(14).
إلا أن هذا التعليم الذي يقترحه هاردي يتميز بنزعة وضعية خالصة. لنطلع على اقتراحه: "سنربط جميع أنواع تعليمنا بالأشياء والناس المحيطين بالطفل. سنجعل هذا الطفل على صلة بالأفكار التي يأتي بها من المنزل، وذلك بجعل دروس اللغة والأشياء يقتصران على الحياة المحلية، وتمارين الحساب لا تخرج عن حدود الحاجيات اليومية(…)، تنطبق على الميزانيات الصغيرة للبيت المغربي، وهي بيع الخرفان، وحصاد الشعير وقطف الزيتون، الخ.."(15).
لا شك أن مثل هذا التعليم لا يخشى مواجهة السؤال: "لماذا يصلح؟"، إذ سيقال على الفور: "إنه مصدر خيرات مادية". الظاهر أن هذا النظام التعليمي يلزم المتعلم على الارتباط الوثيق بالبعد الاقتصادي، إذ يلخص حياة الفرد في مدى تحقيقه لمجموعة محدودة من القيم النفعية: إنتاج، مردودية…
إنه تعليم يقوم على مبدأ العزل الجسدي والحجر النفسي. فمن الناحية الجسدية، ليس للطفل أن يغادر وسطه، ومن الناحية النفسية ليس لهذا الطفل ذاته أن يتخيل عوالم أخرى أو أشكال أخرى للوجود ولو داخل اللغة لا غير. بعبارة أوضح، إنه تعليم بدون أفق لأن اللغة المعتمدة في تلقينه نفسها هي لغة اعتيادية وليست نصية. وبذلك، فهو موجه كليا –داخل إطار نفعي- إلى تسمية الكائنات والأشياء التي تؤثت الفضاء الاعتيادي لدى الطفل.
يكتب ج.هاردي بمنتهى الوضوح: "الفرنسية التي ندرسها مألوفة كليا؛ لا تستدعي إلا كلمات عملية مباشرة، لا تحشو ذهن الأهالي المختلف كثيرا عن ذهننا بدينامية من الأفكار الغرائبية"(16).
أكثر من ذلك، إن هذه الفرنسية ليس لها أية علاقة بنصوص لافونتين، فلوبير وبروست: "فهي تمد الصغار بمعجم الحياة المنزلية والمهنية؛ وتتيح للكبار أن يحرروا تقارير ورسائل إدارية وتجارية:(17).
يبدو الآن واضحا أن ظلالا من الميز العنصري تخيم على مشروع هاردي. وهل الميز العنصري –كما كتب فانكيلكراوت- شيء آخر غير: "حجز الفرد داخل انتمائه، ومعاملته باعتباره "مستهجن الصفات…"، وإنكار قدرته على الاقتلاع من وضعه، سواء تحدد هذا الوضع بشكل بيولوجي أو تاريخي"(18).
بيد أن حصر الآخر داخل مجال طوبوغرافي ونظام معياري محددين، هو ضرب من الحفاظ على نظام الإغلاق عبر إجراء تجريد مزدوج: تجريد الأنا، أو الهوية، من إمكانية الانفتاح، وتجريد الآخر، أو الغيرية، من قابليته للتحول. وباختصار، سيرسي ذلك الحصر عنف الثبات. أسوأ من ذلك، إن هذه الطريقة في التصرف هي بوضوح مضادة للتربية. نحن أبعد ما نكون عن الفعل البيداغوجي الرامي إلى إعطاء المتعلم فرصة تجاوز نفسه واقتلاعها من تربتها المعرفية التي ظلت تراها عادية إلى حين ولوج التمدرس، وذلك للانفتاح على استيعاب معارف أخرى غير مألوفة لأنها تتعالى على شروط المكان والزمان، المحيط والتاريخ…
- VI -
من المعترف به أن للمدرسة غاية مزدوجة تستهدف المجتمع والفرد. وما ترمي إليه هو خدمة مصلحة القطبين معا، ولو أن البعض يركز على الفرد دون المجتمع، أو العكس، فيما يحاول آخرون رفع التناقض الذي يبديهما متعارضين في الظاهر.
اعتبار الشخص هو المراهنة على طاقاته. أما القيام برهان موجب للتفاضل، يرتكز على انتماء الفرد لهذه المجموعة الاجتماعية التي يعلى من شأنها أو يحط منه مسبقا، فهو زرع إجحاف تربوي مناهض للديمقراطية أساسا؛ هو تبني موقف إيديولوجي معاكس لنظيره القائل بمساواة الجميع أمام التربية؛ هو رفض للعمل بكيفية تتيح للفرد أن يتفتح إلى أقصى حد بتشغيله لموارد اختلافاته؛ إنه نوع من الميز العنصري يشكل قاعدة ينهض عليها التوزيع الجهوي لأنواع المدارس؛ إنه حكم سيكولوجي قبلي، لأن الانتماء الاجتماعي في مختلف المناطق يوحي مسبقا بتقسيم التلاميذ، تبعا لأصولهم الاجتماعية والعرقية، داخل المدارس المتوفرة أو تلك التي يتعين بناؤها للسكان اعتمادا على هذا التقسيم.
قد تتبادر إلى الذهن ملاحظة مفادها أن هاردي يعبر، كيفما كان الحال، عن اهتمام جدي بتعليم أطفال الأهالي، وبالتالي فهذا الاهتمام وحده كاف لتسجيل نوع من التقدم بالنسبة للوضع التعليمي في المغرب قبل الحماية. وهي ملاحظة وجيهة حقا. إلا أنه من الضروري تدقيقها بالتركيز على مسألتين أساسيتين. الأولى: باعتبار هاردي منظرا ماهرا للمدرسة الاستعمارية، فإنه كان يحاول تأسيس نظرية بيداغوجية قائمة على مبدأ التمركز العرقي. والثانية: باعتبار هاردي نفسه سياسيا متشبعا بيقينيات اليمين الفرنسي التقليدي، فإنه كان يبذل قصارى جهده لزرع وترسيخ رؤية ليبرالية تخدم مصلحة النخبة المستعمرة. وعليه، يبقى أن النزعة النفعية ومشروع القوة الاستعمارية يشكلان محرك خلق المدارس المراد تكييفها مع محيطها.
وسواء أتعلق الأمر بتصور عنصري أو بهدف سياسي أو بمصلحة اقتصادية، فإن النتيجة تظل واحدة، وهي أننا إزاء ثقافة تؤكد تفوقها لأنها مقتنعة بكل وثوقية وتزمت بأنها الوحيدة الجديرة برفع شعار الحضارة والتمدن، ومن ثمة لا غرابة في أن تقرأ سلوكات شعب مغاير في اللغة والذاكرة والحساسية على ضوء قناعاتها وتصوراتها الخاصة. إنها لا تتعامل مع هذا الشعب معتبرة بعمق مغايرته وخصوصياته، وإنما تتعامل معه من خلال التمثلات التي نسجتها عنه والتي تريد إخضاعه لها قسرا. بتعبير آخر، إنها لا تحاول الالتقاء بهذا الشعب كما هو، وإنما كما تريد هي أن يكون. وهذا هو عمق المأساة.
على هذا الأساس، يعتبر هاردي أن المدرسة الاستعمارية ستكون بمثابة الصرح المتين الذي سيشيد على أسسه المجتمع الاستعماري المزمع بناؤه. وبما أن الاختلاف والفرق هما حجر البناء في هذا المشروع، فإنه لا مناص من تقسيم السكان إلى فئتين هما النخبة من جهة، والطبقات الشعبية، من جهة ثانية.
وهذا التمييز الصارم بين النخبة والطبقات الشعبية (أو العامة، بتعبير ج.هاردي المفضل) لا يجب إطلاقا أن يبقى نظريا محضا، بل يجب ترجمته على رض الواقع بإنشاء "مدارس أبناء الأعيان"، وهي عبارة عن مؤسسات للتعليم الابتدائي وإعداديات إسلامية، ومؤسسات للثانوي تفسح المجال لولوج المهن الإدارية والتجارية.
أما الطبقات الشعبية، فهي تقسم إلى ثلاث فئات منفصلة عن بعضها البعض، ليس تبعا لمواردها أو مواقعها في التراتبية الاجتماعية، وإنما بنمط الإنتاج الذي يميز مناطق إقامتها. وبذلك، سنحصل على الخريطة المدرسية التالية:
ـ بالنسبة للفئات الشعبية الحضرية، مدارس تسمى "حضرية"، متمركزة حول التعليم المهني.
ـ وفيما يخص الطبقات الشعبية القروية، اقتراح إنشاء مدارس قروية متمحورة حول التعليم في مجالي الزراعة وتربية المواشي.
ـ بالنسبة للطبقات الشعبية القاطنة بالمدن الساحلية، تنشأ مدارس "بحرية" متخصصة في تعلم تقنيات الصيد والملاحة.
ومثل هذا المشروع غير مدان في نفسه. اليوم أيضا، يقترح، في مرحلة صار ولوج الشغل أمرا متزايد الصعوبة، الأخذ بعين الاعتبار طاقات الجهات في الإعداد المهني-وهذا حتى في الأمم المصنعة العصرية. لكن هذا لا يقرن بفكرة تسمير قسم من السكان في وضعية شغل بدون أفق مستقبلي عام.
أما فيما يخص البلدان السائرة في طريق النمو،فلا شك أنها خدعت لما كونت بعض مواطنيها في التكنولوجيات التي لم يستطيعوا استيعابها ولم تفد في شيء من جهة؛ وخدعت بتعليم مواطنيها مهنا قليلة النفع، بل وحتى غير مجدية لتقدم الجهات، من جهة ثانية.
وهذا يجب وضعه موضع تساؤل. وهي النية التي يعبر عنها بوضوح ج.هاردي في قولة له يذكر فيها أن التصور التربوي –النظري والعملي على السواء- مسكون بهاجس سياسي وإيديولوجي دائم يتمثل في تجنب أن تصير المدرسة "أداة للقلاقل الاجتماعية". يكتب في هذا الصدد: "لكن هاجسنا الكبير هو ألا تصنع المدرسة أهالي صالحين لكل شيء وللاشيء(…). فقد ظهر أحيانا في مستعمرات فرنسية أخرى أو أجنبية أن تعليم الأهالي يمكن أن يتحول إلى أداة إحداث اضطرابات اجتماعية"(19).
وبذلك فالمدرسة، في رأي ج.هاردي، يجب أن تنظم كجهاز إيديولوجي تستخدمه الدولة الاستعمارية للتحكم اجتماعيا في "الأهالي" وحراستهم سياسيا. والحماية –ظل الدولة الاستعمارية- تعمل بمثابة آلة كبيرة تستهدف ثلاثة جوانب أساسية:
أ ـ إخماد فتن المناطق المعادية للهيمنة الاستعمارية عسكريا ("السيبة" الشهيرة)، وذلك بعدم التردد في استخدام جميع الإجراءات العسكرية، من إفساد، ومحاصرة، وزرع الفزع، واقتراف التقتيل الجماعي…
ب ـ ضبط (بالمعنى الذي يمنحه ب.فاليري لهذه الكلمة: "جعل الفرد مطابقا لضابط ما") الفئات الاجتماعية بجعلها، من جهة، نخبا طيعة؛ ومن جهة أخرى، طبقات كادحة نافعة؛
ج ـ استيعاب ما يسمى بالعرقين "القابلين للاحتواء"، وهما اليهود والبربر، لتجذير الظاهرة الاستعمارية أو على الأقل لضمان استمراريتها التاريخية، عاجلا أو آجلا.
في هذا الاتجاه تشتغل الآلة باعتبارها كلا متجانسا: المدير العسكري أو المدني، المخطط والمكلف بإدارة شؤون المقدس، كلهم يعملون يدا في يد لتحقيق أهداف تلتقي وتتكامل فيما بينها.
- V -
لنر الآن كيف يشيد هاردي عمليا تراتبيته البيداغوجية بناء على قراءة خاصة للتعددية الإثنوثقافية المغربية.
بعد حل مشكلة أصول المجموعة اليهودية المغربية بربطها بأصلها الشديد البعد، أي بحادث تخريب معبد القدس أو بالاضطهاد الذي تعرض له اليهود في إسبانيا خلال القرن XVIم، يقدم ج.هاردي صورة قاتمة لهذه المجموعة. فهو يرى أن التسامح المغربي أتاح لليهود أن يستقروا في المدن، لكنه أفرد لهم أحياء خاصة بهم، تسمى الملاح. و"الملاح حي تفوح منه رائحة الفقر. أزقته غير صحية، غرفه مكتظة وشديدة الرطوبة". يردد هاردي هنا –وهذا أمر طبيعي- نفس المقولات(20) المناهضة للسامية كما مررتها الاثنوغرافيا الاستعمارية (دو فوكو، جوتيه، بيكارد..).
"أي وسط خصص لعرق يا ما عانى من قبل! ثم هاهي الاتحادات الناضجة تتضافر عليه لإضعافه قبل الأوان: الإفراط في تناول الكحول، خشونة الغذاء. وكيف لا نتعجب من كوننا نجد بين جميع شباب الملاح كل هؤلاء العرجى، ومشوهي الخلقة، والنصف عميان، وكل هؤلاء التعساء الذين ليس لهم سوى جلد موبوء فوق عظام نحيفة أو مشوهة؟ الإصلاح البدني، هاهي المهمة الأولى التي تفرض نفسها لفائدة يهود المغرب"(21).
ويجب أن يواكب مشروع الإنعاش البدني، هذا، مجهود مدروس للتقويم الأخلاقي. فالمغاربة العرب-البربر جعلوا من اليهود "ضيوفا مهانين". يقول ج,هاردي: "إنهم أشباح كئيبة، مفزوعة، محنية تحت وابل الشتائم والضربات التي يتوقعون دائما تلقيها. لا يرفعون رؤوسهم قليلا إلا عندما يصلون إلى الملاح. مع ذلك، فقد تمكن بعض هؤلاء المنبوذين، المحبوين بقدرة استثنائية على الصبر، من الاغتناء واحتلال مكانة متفوقة في الحياة الاقتصادية بالبلاد بشكل سري. هذا، وقد وضعت إدارتنا حدا لعمليات النهب التي كان يتعرض لها الملاح دوريا، ووفرت لليهود المغاربة، كما لسائر باقي الأهالي، ضمانات ضد تجاوزات السلطة، والتصفيات المشينة. وبذلك، هاهي الفراشة تخرج فجأة من كوخها الحقير المظلم، يباغثها النور المفاجئ، ونظرا لأنها لم تهيأ لهذا الانعتاق السعيد، فإنها قد تتحول بسرعة إلى فراشة جديدة-ثرية ويهودية جديدة. بكلمة واحدة، قد تصير ضارة وجد مقلقة. بيد أنه يبدو بالإمكان التخفيف من حدة هذا التحول المليء بالمخاطر عبر مشروع للتقويم الأخلاقي"(22).
اعتبارا للخلاصات التي قادته إليها تحاليله، يقترح ج.هاردي للمجموعة اليهودية تعليما "فرنسيا-يهوديا"، يرمي إلى تحقيق أهداف ثلاثة:
ـ أولا: تقديم تعليم أولي، لكن ضروري، لمبادئ الصحة العامة، لوضع حد لنقصان النظافة الذي "يطبع" الجماعة اليهودية، حسب هاردي.
ـ بعد ذلك، تقديم تربية بدنية جدية، منتظمة متواصلة، تنصب على الرياضة، أي القيام بتمارين بدنية في الهواء الطلق، وإجراء مراقبات طبية دورية، قياسات الطول والوزن…، وذلك في سبيل القضاء على العاهات البدنية، وإحلال أفراد أقوياء البنية محل "هذا الحشد من النحيفين والبدينين بشكل يرثى له"(23).
ـ أخيرا، تقديم تربية خلقية وجمالية: الأولى لإرساء أخلاق للرجولة تعلي من قيم الاعتزاز بالنفس وشرف المسؤولية، وذلك للرفع من قيم ومعنويات هذه ال"أشباح الكئيبة، المذعورة"، الخ… التربية الجمالية ستحسس الشاب اليهودي المغربي تدريجيا بقيم الشأن الجمالي مجسدة في الفن، لأن "الأذواق الجمالية –يستخلص هاردي- ضرورية للتوازن الأخلاقي؛ تثني عن البحث عن المصالح المباشرة وعن الأنانية"(24).
في مشروع هاردي ثمة اختلاف بين التعليم الذي ينادي به للعرب –البربر والتعليم الذي يقترحه لليهود المغاربة. بالنسبة للأوائل، تعطى الأولوية بالخصوص لـ ترسيخ التقليد والتعلم العملي للمهن اليدوية، على حساب الثقافة العامة والمعرفة الفكرية بمعناها الدقيق. أما بالنسبة للفئة الثانية، فتجرى محاولة للتغيير الجذري عبر تكثيف الثقافة العامة و–من ثمة- تحديث أنماط العيش في الوسط اليهودي. ومن المؤكد أن هذا الاهتمام البيداغوجي الكبير الذي أحيطت به المجموعة اليهودية يعود، في قسمه الكبير، إلى تأثير الرابطة اليهودية العالمية. يجب التذكير بأن هذه المدارس التي قامت في المغرب منذ سنة 1862، كانت لوقت طويل محمية من قبل السلطات القنصلية الفرنسية أو من قبل إدارة المقيم العام في المغرب بعد قيام الحماية.
هكذا يوظف هاردي الثقافة العامة معيارا للفصل بين الفئات الإثنوثقافية. فهي بالنسبة للعرب-البربر يمكن أن "تبعدهم عن الواقع"، أن تجعلهم "جيدين للاشيء"، أن تهيئهم لإثارة "القلاقل الاجتماعية". أما بالنسبة لليهود، فهي وسيلة لتربيتهم أخلاقيا وإبعادهم عن الاضطرابات الاجتماعية التي قد يكونوا جاهزين لها حالما يستعيدون صحتهم أو نموهم البدني. وليس هذا التناقض الظاهري هو التناقض الوحيد إذا قبلنا أن عاملا واحدا نفسه (وهو هنا نمط التعليم) يمكن أن تترتب عنه نتائج مختلفة بحسب حقل تطبيقه.
ونقف هنا على فكرة ضمنية تتمثل في اختلاف طبيعة أعضاء الجماعات السابقة من جهة، والتربية المفروض أنها مناسبة لكل جماعة من تلك الجماعات، من جهة أخرى.
بالنسبة للعرب-البربر، يتعلق الأمر بتربية تختزل في تكوين نافع، فيما يترك الباقي للحياة اليومية كما للعائلة بحسب إمكانياتها. أما بالنسبة للآخرين، وهم اليهود، فيتعلق الأمر أولا بفعل ترميمي تصحيحي، بتعويض عن العجز التربوي العائلي. وبذلك، تعتبر حاجيات العرب-البربر وحاجيات اليهود مميزتين بالنظر إلى معيش الجماعتين كما يعاينه الملاحظ.
يرى هاردي أن العنصر الأوروبي يجب أن يخضع لعملية الاستيعاب والفرنسة. إذ يقول: "معطيات مشكلة الفرنسي الجديد واضحة، إذن، بشكل كامل: كيف نلحق بالأمة الفرنسية، وكيف تبتلع ثقافتنا، مختلف العناصر الأوروبية التي جاءت للمغرب كسبا للقوت، والتي تربطها بتصوراتنا وأذواقنا قرابة أكيدة؟"(25).
وبذلك، سيدمج الأوروبيون في مدارس الفرنسيين نفسها لسببين اثنين مرتبطين بمفهومي الاختلاف والائتلاف، لأنهم على المستويين الإثني والثقافي أشد قربا من الفرنسيين بالمقارنة مع الأهالي. إنهم أكثر شفافية لاستيعاب كامل.
وبحكم انتماء الأطفال المولودين في فرنسا للنخبة (معمرون، رجال صناعة، ضباط، موظفون)، فهم على موعد مع أفضل التوجهات. وهذا التمييز الذي يخص هؤلاء الأطفال بحظوات مقصورة عليهم لا يفسر، في رأي ج.هاردي، بالمجهود ولا بامتلاك ناتج عن استحقاق طبقي، وإنما بهيمنة القيمة التي يستمدونها من امتياز كونهم محتلين. وإجمالا، يسجل هاردي، أنه: "ليس لممثلي فرنسا المباشرين في المغرب أن يكونوا أقل في أي شيء من باقي عناصر السكان. وإليهم يجب إسناد –ليس فقط بامتياز الاحتلال، ولكن أيضا بحق قانون القيمة والاستحقاق- الدور المهيمن في إدارة البلد واقتصاده؛ فهم الرؤساء، والأطر المناسبة لجميع العمليات التي تجرى هنا بصرف النظر عن طبيعتها"(26).
ومع ذلك، يجب على الروابط مع البلد الأصلي أن تظل سليمة وكاملة كي لا تنشأ لدى الأجيال الفرنسية المغربية نزعة إقليمية(27) محلية أو ينمو لديهم ميل إلى الانصهار في المستعمرات بحيث يجعلها أجيالا مقتلعة الأوطان أو مقتلعة الجذور، ناسية المسؤوليات الاستعمارية الكبرى. كما يجب اللجوء إلى ترغيب منهجي للأطفال المنحدرين من فرنسيين مغاربة في تطور المغرب، مع تمسكهم بقوة بالصلة التي تربطهم بفرنسا. وهم سيستفيدون، كباقي المواطنين المقيمين بفرنسا، من نفس البرامج ونفس الأطوار الدراسية، وما أن يحصلوا على الباكالوريا حتى تفتح أمامهم أبواب ولوج كبريات المدارس وأمجدها: البوليتيكنيك، سانت-سير، المعهد الزراعي…، الخ.
ويبقى أن ج.هاردي يتمسك بتصوره الأولي، وهو ضرورة أن يستخدم التعليم أداة للشرعنة، وبالتالي أن: "يعطي لفرنسيي المغرب أقصى ما يمكن من القيمة الأخلاقية، والفكرية، والبدنية، بكيفية تجعل مكانتهم الاجتماعية المرموقة تفرض نفسها ذاتيا وتخصص لهم الدور البارز في سائر مجالات النشاط المحلي"(28).
ونلاحظ هنا عملية مزدوجة تتمثل في إلغاء كل فرصة للتميز عن فرنسيي الميتروبول من جهة، وتقوية الاختلاف عن السكان المحليين من جهة ثانية.
وليس هذا مجرد صيانة للحظوات المشروعة بالانتماء العرقي والجنسية، ولكنه إرساء لطبيعة تأخذ مكانة داخل تراتبية باسم الجنسية. ولكنه إرساء لطبيعة تأخذ مكانة داخل تراتبية باسم الجنسية. والهدف واضح: إنه سياسي، وإذا بدا شخصيا، فلأنه تابع كذلك لخدمة القضية السياسية.
المشروع الوطني والمشروع الاستعماري موجودان معا هنا ليستخدما نقطة تتمفصل فيها المبادرات في حقل المدرسة.
- VI -
يلخص الراحل بول باسكون مجموع مسعى ج,هاردي بهذه العبارات: "ثمة إثنوغرافيا كتبها المستعمر، وانتهت إلى وضع اليد على وجود اختلافات جهوية حقيقية، لكن بنية صريحة في استغلال هذه التمايزات للتفريق تحت ذريعة ثبات إثنيات زعم أنها غير قابلة للاندماج في بعضها البعض"(29).
في مجال القضايا البشرية الهش والشديد الحساسية، يجب على المرء أن يعرف كيف يضفي طابع النسبية على وجهة نظره لتحاشي الوصول إلى استنتاجات نهائية، لكنها مغالية بالضرورة. إن الصيرورة البشرية –المنفلتة، والجسورة، والتي يحول عنصر الحرية دون توقعها- لا يمكن اختزالها ولا الإحاطة بها داخل معادلة على شاكلة ما يحاط بالظواهر الفيزيائية أو الرياضية.
ويبقى أن كل محاولة قانونية، أو تربوية سياسية تهدف إلى تسمير البشر –صغارا وكبارا- في أمكنة محصورة، محددة، بناء على انتماءات طبقية أو عرقية أو دينية، أو استنادا على معايير جغرافية أو جهوية، تظل محاولة تتضمن مزالق كليانية: إنها مثالا للتشويه القصدي للتجربة الإنسانية، اغتصابا همجيا (بالمعنى الكانطي) لإرادة المعرفة ورغبة الوجودn
الهوامش:
1 – اليوسي الحسن، المحاضرات في الأدب واللغة، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، بيروت دار الغرب الإسلامي، ص202-203، 1982. وانظر أيضا:
Rosenberger B., «Culture complémentaire et nourritures de substitution du Maroc (XVe-XVIIIe siècle) », in Annales, n°3-4, p477, 1980.
2 – اليوسي، م.س.، 203.
3 – لقد سبق لصاحب الفصوص أن أكد، في تأويله للآية القرآنية "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق"، بأن الرزق منه ما هو روحاني كالعلوم، وحسي كالأغذية.
ـ ابن العربي محيي الدين، فصوص الحكم، طبعة أبو العلا عفيفي، بيروت، دار الكتاب العربي، ص132، 1980.
4 – HARDY, G., Une conquête morale, Amand Colin, 1917, p9.
5 – HARDY, G., «L‘éducation française au Maroc », In La Revue de Paris, n°8, p773-788.
6 – نفسه، ص773.
7 – نفسه، ص773 (والتشديد منا).
8 – نفسه، ص774.
9 – نفسه، ص774 (والتشديد منا).
10 – نفسه، ص775.
11 – نفسه، ص776، والتشديد منا.
12 – نفسه، الصفحة ذاتها.
13 – نفسه، ص775-776، والتشديد منا.
14 – نفسه، ص776.
15 – نفسه، ص776-777.
16 – نفسه، ص777 (والتشديد منا).
17 – نفسه، ص777.
18 – Finkielkraut, A., «Sur un vers de Racine », In le Monde, 24 Octobre 1987.
19 – نفسه، ص778، راجع أيضا:
Hardy, G., 1939, «Le problème colonial », in Encyclopédie Française, vol. XV, (Education et instruction), 1934, «Le Maréchal Lyautey et l’enseignement », in l’Afrique Française, n°8, p462-468.
Rivet, D., «Ecole et colonisation au Maroc : La politique de Lyautey au début des années 20», in Cahiers d’histoire de l’université de Lyon, T.XXI. 1976.
20 – ج.مقولب (Stétéotype)، سلوك مكرر على نحو لا يتغير تعوزه الصفات الفردية المميزة(م).
21 – نفسه، ص779 (التشديد منا).
22 – نفسه، ص779.
23 – نفسه، ص780-781.
24 – نفسه، ص781.
25 – نفسه، ص784.
26 – نفسه، ص786 (والتشديد منا).
27 – نظرية الذين يريدون الاحتفاظ بحرياتهم الخاصة ضمن الدولة(م).
28 – نفسه، ص786.
29 – Pascon, P., «La formation de la société marocaine », in Bulletin Economique et social du Maroc, n°120-121, p3, 1971.
تكييف الطفل مع محيطه هو "الابتكار" الأخير الذي يقدمه مدبرو الشأن المدرسي عندنا، وهو يحظى بمريدين يتزايدون يوما عن يوم، ويبشر –ككل ديانة جديدة- بمستقبل زاهر وعظيم. أكثر من ذلك، يؤكد أصحاب القرار ووسائل الإعلام السياسي أن المكتشف النفيس لهو من الفرادة والإجرائية والفعالية بحيث لا يترددون في أن يقترحوا علينا هذه العقيدة الشهيرة للتكييف البيداغوجي باعتبارها منتوجا نهائيا، نوعا من البيداغوجيا الجاهزة التي يكفي المرء أن يمسك مفاتيحها بيديه فلا يبقى له سوى أن يطبقها حرفيا دون أن يخضعها لأي نقد أو مساءلة. وبذلك يحق لعباقرتنا أن يسجلوا ماركة ابتكارهم ويحفظوا حقوق ملكية الاختراع وحق التصرف فيه!
سأجازف بركوب خطر إقلاق مريدي العقيدة الجديدة وتعكير جو الاحتفال، مقترحا بهذه الصفحات الوصول إلى هدفين:
ـ الأول: محاولة القيام بجينيالوجيا لهذا الاتجاه البيداغوجي الذي يرتكز على ضرورة تكييف الطفل مع محيطه، وذلك بأن أثبت –جهد المستطاع- أن هذا الاتجاه قديم قدم القرن وأنه، بالتالي، ليس ابتكارا ولا اكتشافا حديثا بقدر ما هو مجرد تكرار ما لم يكن انتحالا مخجلا. بتعابير أوضح، إن الخطاب الذي ينشر اليوم حول تكييف الطفل مع محيطه ليس سوى صدى أخرص لنظيره الذي كان يتمسك به المستعمر من قبل.
ـ أما الهدف الثاني، فيتمثل في مناقشة شرعية قسط من الأفكار التي يزينها المذهب التكييفي، وذلك بتقصي هذه الأفكار عبر تحليلها النقدي، للوقوف على طبيعتها الحقيقية وهي أنها مجموعة من الإيديولوجيمات الخادعة والرجعية. بفعل المقاربة السطحية التي يجريها مذهب التكييف للمسألة التربوية وبفعل رؤيته الخطية لقضايا العصر، فإنه يسقط في خطيئة النسيان، إذ ينسى العالم والبشر على حد سواء. لكن، أيمكن أن ننسى بسهولة أن المحيط المباشر لأغلبية طفولة البلد ليس شيئا آخر عدا هذه الحياة الموحلة، المظلمة، والشاقة التي يواجهها الطفل في كل لحظة منذ خروجه من الكوخ أو المنزل؟ أسيرا عاجزا بين يدي وسط يتعالاه ويستوعبه، فهو يستسلم تلقائيا، وبسهولة، كما يفعل آخرون قبله، لإضفاء الديمومة على وجود رتيب وتكراري، فاقد لكل رونق. أهذا هو التكيف مع المحيط؟
ما القول وما العمل عندما يكون المحيط وضيعا، غير محظوظ، معدما؟ لا يحتاج المرء أن يكون عالم اجتماع في أيامنا هذه كي يلاحظ بمرارة أن الفقر والإقصاء والبطالة والهجرة القروية والتحضر العشوائي، كل ذلك يشكل تربة خصبة لنمو أشكال العنف المفرط والفظيع الذي يمزق مجتمعنا: الانحراف، إدمان الكحول والمخدرات، السطو والسرقة، تشرد الأحداث، بالإضافة إلى ظاهرة أخرى مخيفة، لكنها ليست مستبعدة، ونعني بها ظاهرة التطرف الإيديولوجي.
يجب بذل مجهود كبير، وعلى أكثر من صعيد، لقلب علاقة التكيف. فبدلا من تكييف الطفل مع محيط عدائي، يجب بالأحرى تكييف هذا المحيط مع طفولة إنسانية الوجه، أي ملزمة وواعدة.. بيد أن الطفل باعتباره كائنا بشريا في صيرورة، يأبى أن يحصر في محيط محدد نلزمه بالإقامة فيه كما تقيم البهيمة في حظيرتها. إن محيط الطفل لا تحيط به أي حدود، لأن محيطه هو العالم باعتباره أفقا للإمكانية. ليس من باب الصدفة أن تعلم اللغات، مثلا، يتطلب سنا مبكرة.
- III -
فلنعد إلى النقطة الأولى للقيام بنوع من الجينيالوجيا لهذه الفكرة التي تفرض تكييف الطفل بيداغوجيا مع محيطه. ولهذا الغرض سنختار فضاء محددا، هو المغرب الاستعماري، وحقبة زمنية محددة كذلك، من 1912 إلى 1956، وسندا وثائقيا، هو بعض كتابات جورج هاردي باعتباره منظرا موهوبا للبيداغوجيا الاستعمارية بالمغرب.
لقد عبر ج.هاردي منذ 1917، أي قبل أن يصير مديرا للتعليم العمومي بالمغرب، عن فلسفته التربوية الاستعمارية بهذه الكلمات: "لكي ننجح في تحويل بدائيي مستعمراتنا وجعلهم متفانين في خدمة قضيتنا، صالحين لمشروعنا (…)، فإن الوسيلة الوحيدة المضمونة هي أن نأخذ طفلهم، ونفتح له مدارس يهذب فيها عقله طبقا لمقاصدنا"(4).
في سنة 1921، وفي مقالة واضحة بشكل مدهش، نجد المؤلف نفسه (وقد صار يومئذ مديرا للتعليم العمومي بالمغرب، أي ما يعادل وزير التربية) يعرض تصورا شخصيا للتربية الفرنسية بالمغرب(5)، هو عبارة عن تخطيط للبنية التحتية المدرسية(المدرسة، الإعدادية، الجامعة…) وتنظيم لها بحسب المعايير نفسها التي تقسم وتجزئ مختلف أحياء المدينة المغربية. أما طبقية التمدرس، فستعيد إنتاج تقسيم الإثنيات والطبقات الاجتماعية.
فهو يقول: "المدينة المغربية فعلا تجميع عرقي عجيب. والأعراق التي تعمرها توجد بدون شك في باقي إفريقيا الشمالية، ليست في أي مكان آخر بهذا التوزيع الجيد، وتعدد العادات والنزعات. في القلب، في المركز التاريخي للمدينة حيث تربض آثار المدينة، توجد الحاضرة الإسلامية: هناك، في الأزقة الضيقة، في الأسواق الصاخبة، في الإقامات الجميلة السرية وتحت قباب المساجد، تحتمي روح البلد. في ظل المدينة، في الملاح، يتكدس الحي اليهودي بحيوية رهيبة. خارج الأسوار، تنتشر المدينة الفرنسية، تخترقها شوارع واسعة، مزدانة بحدائق وساحات واسعة بشكل فريد، مسكونة بإقامات جذابة يلمع بياضها بين الأشجار والزهور. أخيرا، في حواشي هذه المدينة الجديدة، تمتد عموما أزقة عمالية، يزدحم فيها العمال، إيطاليون، يونانيون، مالطيون(…)، وإسبانيون بالخصوص"(6).
وهذه الاختلافات يجب أن يطابقها تعامل تربوي ملائم. يواصل هاردي: "لا يحتاج المرء إلا الإقامة طويلا في المغرب كي يفهم أنه من المستحيل –مؤقتا على الأقل- تطبيق تعامل واحد مع تجمعات عرقية بهذا الاختلاف. من الواضح أن النظام والأمن في المغرب يتوقفان قبل كل شيء على مهارتنا في استعمال كل عرق من هذه الأعراق في اتجاه ومقدار أذواقه وموارده"(7).
يرى هاردي أن المدرسة وحدها هي القادرة على السهر فعليا على ما يسميه "توزيع العمل الجماعي"(8. يضيف: "بعد إجراء تجارب عديدة، وفي جميع المناطق، تعرف [ المدرسة] اليوم أي مقاومات يقوى على إبدائها دم الأعراق تجاه أفضل المحاولات التربوية(…): في الواقع، ثمة من المشاكل الدراسية مقدار ما هناك من المدارس أو –على الأقل- مقدار ما هناك من أعراق دراسية. وليس من باب اللعب بالكلمات الدعوة إلى بحث عن حل خاص لكل واحد من هذه المشاكل"(9).
حقا، قد يصعب مناقشة الرأي القائل بأنه يوجد من المشاكل التربوية مقدار ما يوجد من المدارس. لكن الحديث عن مقاومات ذات أصول عرقية، وبالتالي عن مقاربات بيداغوجية خاصة بكل عرق على حدة، معناه المجازفة بالمعنى العصري للكلمة: نفي الاختلافات لتحقيق تكافؤ حقيقي للفرص. إلا أن مقاربة هاردي تفترض أنه وإن كانت هناك مدرسة للجميع تفتح أبوابها لكل فرد، فإن هذا الأخير بحكم أصله "العرقي" سيجد نفسه إما متكيفا داخلها بالطبيعة أو مقصيا منها سلفا، بموجب قانون "التصالح مع الوضع أو التعرض للنبذ".
ليس جميع التلاميذ سواسية أمام المدرسة. ودورها يتلخص في شيء واحد: ترسيخ ما ميزته على نحو جيد الطبيعة والحياة الاجتماعية.
ولذا، فنحن بعيدون عن المبدأ القائل بضرورة التقاء المدرسة مع الاختلاف لتضفي عليه قيمة وتوسع دائرة التعلم باسم مبدإ تساوي الجميع أمام التربية. سنكون إزاء جماعات تعتبر مختلفة (استنادا إلى الدراسات الإثنوغرافية)، وبالتالي يجب بالضرورة ألا تتساوى أمام التربية. كل مجموعة ستتلقى "تربية مناسبة"، يمكن تحديدها بكيفية مسبقة.
ليوضح هاردي أطروحته، فإنه ينطلق من تأمل في حالة الأهالي أو من يسميهم "العرب-البربر"، ليقف على ازدواجية أصلهم وطبعهم –على حد تعبيره-، وذلك بعد عرض مسهب لإيجابيات حضارتهم: "أرى أن المشكل العربي-البربري يتلخص في ما يلي: تزويد الأهالي بوسيلة مواصلة الحياة في فضاء العالم العصري، تطوير نشاطهم وإمداده بصيغ وأدوات تتيح لهم المردودية الضرورية، مع الاحتفاظ بأفكارهم وعاداتهم الخارجية"(10).
بهذا المعنى، سيكون التعليم المقترح "ذا نزعة عملية صارمة"، إذ سيرمي إلى تحقيق هدف مباشر هو تعليم كل فرد من الأهالي مهنة خاصة. بيد أنه في إطار التراتبية التي تحكم المجتمع التقليدي المغربي وفي إطار حتى تقسيم العمل الجماعي نفسه، الذي تنحو نحوه الحماية الفرنسية، يجب الحرص كثيرا على عدم إلحاق تشويش كبير بالحياة الاجتماعية. لذا يرى هاردي أنه يجب "الفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية وتعليم يشمل الشعب برمته"(11).
وضرورة الحفاظ على التراتبية الاجتماعية في مزاولة كل طبقة لوظائف خاصة مناسبة لها، تقود إلى إقامة نوعين من التعليم متمايزين:
أ ـ تعليم للنخبة: يستفيد منه أبناء الأرستقراطية، ويتلقون فيه تعليما عمليا، يرمي إلى استيعاب قواعد التدبير الإداري والتجاري استيعابا منهجيا: "المهن التقليدية للمغاربة الأعيان"، حسب ج.هاردي(12).
ب ـ تعليم خاص بالشعب: يتنوع بتنوع معطيات الوسط الجغرافي والاقتصادي، ويشمل –على الأقل- المظاهر الثلاثة الآتية:
ـ في المدن، سيهدف إلى تعليم مهن يدوية أوروبية أو الصناعات الحرفية التقليدية كالنحاس، والدباغة، والحياكة، الخ…
ـ في الوسط القروي، سيفسح المجال لتعلم الفلاحة، والغراسة وتربية المواشي،
ـ في المناطق الشاطئية، سيتمحور حول الصيد والملاحة.
ماذا يمكن أن نستنتج مما سبق؟ هل نحن إزاء بوادر تعليم يقوم على التنوع وقبول جميع الاختلافات بشكل متنور أم أننا –بخلاف ذلك- أمام محاولة مخططة لإرساء تعليم تمييزي يرمي إلى ترسيخ وشرعنة تفاوتات مرتبطة بتقسيم العمل (أرستقراطية حضرية أو قروية من جهة، ويد عاملة حضرية أو قروية من جهة ثانية)، وبعلاقات قوى بين مستعمرين (فرنسيين، أوروبيين) ومستعمرين (أهالي عرب-برابرة)؟
يتحاشى ج.هاردي كل اعتراض، ويعبر عن تصوره على النحو التالي: "لن نجبر تعليمنا منذ البداية على نهج توجهات عملية صارمة؛ سنجعله يخدم تعلم مهنة ما وتشبيب النشاط المحلي؛ لكن تفاديا لأن تسبب هذه الصحوة تصدعا في قلب مجموع الحياة الاجتماعية، فإننا لن نخرج الطفل من محيطه. سنكونه في عين المكان، ولن نطلب منه أي شيء آخر عدا إنتاج الفواكه التي كان سينتجها في غيابنا، لكن بجودة أكبر وبغزارة. لذا، لجأنا إلى التمييز بين تعليم للنخبة وتعليم للشعب"(13).
لا يخفى ما ينطوي عليه هذا النمط التعليمي من طبيعة نفعية وبراغماتية علنية. ويمكن الاعتراض بكونه من التخصص الضيق بحيث لا يمكن أن يولد، عاجلا أم آجلا، إلا أطفالا منغلقين داخل التعليم الذي تلقوه، ومن ثمة محدودين؛ جاهلين جهلا تاما كل ما لا يعنيهم، وبعيدين عن كل فكر تجريدي وكل معرفة نظرية ولو كان من شأنها أن تدعم مجال تخصصهم؛ متجذرين في وسطهم الأصلي، لكن مغتربين بشكل فظيع في الأوساط الأخرى التي قد تتاح لهم فرصة زيارتها أو مواجهتها. يبعد ج.هاردي هذا النقد بصياغة الأمنية التالية: "صحيح، لكي يكون هذا التعليم مثمرا حقا، فإنه يفترض تعليما عاما، يرمي إلى تفتيح ذهن الأهالي الشباب أكثر مما يكتفي بملئه"(14).
إلا أن هذا التعليم الذي يقترحه هاردي يتميز بنزعة وضعية خالصة. لنطلع على اقتراحه: "سنربط جميع أنواع تعليمنا بالأشياء والناس المحيطين بالطفل. سنجعل هذا الطفل على صلة بالأفكار التي يأتي بها من المنزل، وذلك بجعل دروس اللغة والأشياء يقتصران على الحياة المحلية، وتمارين الحساب لا تخرج عن حدود الحاجيات اليومية(…)، تنطبق على الميزانيات الصغيرة للبيت المغربي، وهي بيع الخرفان، وحصاد الشعير وقطف الزيتون، الخ.."(15).
لا شك أن مثل هذا التعليم لا يخشى مواجهة السؤال: "لماذا يصلح؟"، إذ سيقال على الفور: "إنه مصدر خيرات مادية". الظاهر أن هذا النظام التعليمي يلزم المتعلم على الارتباط الوثيق بالبعد الاقتصادي، إذ يلخص حياة الفرد في مدى تحقيقه لمجموعة محدودة من القيم النفعية: إنتاج، مردودية…
إنه تعليم يقوم على مبدأ العزل الجسدي والحجر النفسي. فمن الناحية الجسدية، ليس للطفل أن يغادر وسطه، ومن الناحية النفسية ليس لهذا الطفل ذاته أن يتخيل عوالم أخرى أو أشكال أخرى للوجود ولو داخل اللغة لا غير. بعبارة أوضح، إنه تعليم بدون أفق لأن اللغة المعتمدة في تلقينه نفسها هي لغة اعتيادية وليست نصية. وبذلك، فهو موجه كليا –داخل إطار نفعي- إلى تسمية الكائنات والأشياء التي تؤثت الفضاء الاعتيادي لدى الطفل.
يكتب ج.هاردي بمنتهى الوضوح: "الفرنسية التي ندرسها مألوفة كليا؛ لا تستدعي إلا كلمات عملية مباشرة، لا تحشو ذهن الأهالي المختلف كثيرا عن ذهننا بدينامية من الأفكار الغرائبية"(16).
أكثر من ذلك، إن هذه الفرنسية ليس لها أية علاقة بنصوص لافونتين، فلوبير وبروست: "فهي تمد الصغار بمعجم الحياة المنزلية والمهنية؛ وتتيح للكبار أن يحرروا تقارير ورسائل إدارية وتجارية:(17).
يبدو الآن واضحا أن ظلالا من الميز العنصري تخيم على مشروع هاردي. وهل الميز العنصري –كما كتب فانكيلكراوت- شيء آخر غير: "حجز الفرد داخل انتمائه، ومعاملته باعتباره "مستهجن الصفات…"، وإنكار قدرته على الاقتلاع من وضعه، سواء تحدد هذا الوضع بشكل بيولوجي أو تاريخي"(18).
بيد أن حصر الآخر داخل مجال طوبوغرافي ونظام معياري محددين، هو ضرب من الحفاظ على نظام الإغلاق عبر إجراء تجريد مزدوج: تجريد الأنا، أو الهوية، من إمكانية الانفتاح، وتجريد الآخر، أو الغيرية، من قابليته للتحول. وباختصار، سيرسي ذلك الحصر عنف الثبات. أسوأ من ذلك، إن هذه الطريقة في التصرف هي بوضوح مضادة للتربية. نحن أبعد ما نكون عن الفعل البيداغوجي الرامي إلى إعطاء المتعلم فرصة تجاوز نفسه واقتلاعها من تربتها المعرفية التي ظلت تراها عادية إلى حين ولوج التمدرس، وذلك للانفتاح على استيعاب معارف أخرى غير مألوفة لأنها تتعالى على شروط المكان والزمان، المحيط والتاريخ…
- VI -
من المعترف به أن للمدرسة غاية مزدوجة تستهدف المجتمع والفرد. وما ترمي إليه هو خدمة مصلحة القطبين معا، ولو أن البعض يركز على الفرد دون المجتمع، أو العكس، فيما يحاول آخرون رفع التناقض الذي يبديهما متعارضين في الظاهر.
اعتبار الشخص هو المراهنة على طاقاته. أما القيام برهان موجب للتفاضل، يرتكز على انتماء الفرد لهذه المجموعة الاجتماعية التي يعلى من شأنها أو يحط منه مسبقا، فهو زرع إجحاف تربوي مناهض للديمقراطية أساسا؛ هو تبني موقف إيديولوجي معاكس لنظيره القائل بمساواة الجميع أمام التربية؛ هو رفض للعمل بكيفية تتيح للفرد أن يتفتح إلى أقصى حد بتشغيله لموارد اختلافاته؛ إنه نوع من الميز العنصري يشكل قاعدة ينهض عليها التوزيع الجهوي لأنواع المدارس؛ إنه حكم سيكولوجي قبلي، لأن الانتماء الاجتماعي في مختلف المناطق يوحي مسبقا بتقسيم التلاميذ، تبعا لأصولهم الاجتماعية والعرقية، داخل المدارس المتوفرة أو تلك التي يتعين بناؤها للسكان اعتمادا على هذا التقسيم.
قد تتبادر إلى الذهن ملاحظة مفادها أن هاردي يعبر، كيفما كان الحال، عن اهتمام جدي بتعليم أطفال الأهالي، وبالتالي فهذا الاهتمام وحده كاف لتسجيل نوع من التقدم بالنسبة للوضع التعليمي في المغرب قبل الحماية. وهي ملاحظة وجيهة حقا. إلا أنه من الضروري تدقيقها بالتركيز على مسألتين أساسيتين. الأولى: باعتبار هاردي منظرا ماهرا للمدرسة الاستعمارية، فإنه كان يحاول تأسيس نظرية بيداغوجية قائمة على مبدأ التمركز العرقي. والثانية: باعتبار هاردي نفسه سياسيا متشبعا بيقينيات اليمين الفرنسي التقليدي، فإنه كان يبذل قصارى جهده لزرع وترسيخ رؤية ليبرالية تخدم مصلحة النخبة المستعمرة. وعليه، يبقى أن النزعة النفعية ومشروع القوة الاستعمارية يشكلان محرك خلق المدارس المراد تكييفها مع محيطها.
وسواء أتعلق الأمر بتصور عنصري أو بهدف سياسي أو بمصلحة اقتصادية، فإن النتيجة تظل واحدة، وهي أننا إزاء ثقافة تؤكد تفوقها لأنها مقتنعة بكل وثوقية وتزمت بأنها الوحيدة الجديرة برفع شعار الحضارة والتمدن، ومن ثمة لا غرابة في أن تقرأ سلوكات شعب مغاير في اللغة والذاكرة والحساسية على ضوء قناعاتها وتصوراتها الخاصة. إنها لا تتعامل مع هذا الشعب معتبرة بعمق مغايرته وخصوصياته، وإنما تتعامل معه من خلال التمثلات التي نسجتها عنه والتي تريد إخضاعه لها قسرا. بتعبير آخر، إنها لا تحاول الالتقاء بهذا الشعب كما هو، وإنما كما تريد هي أن يكون. وهذا هو عمق المأساة.
على هذا الأساس، يعتبر هاردي أن المدرسة الاستعمارية ستكون بمثابة الصرح المتين الذي سيشيد على أسسه المجتمع الاستعماري المزمع بناؤه. وبما أن الاختلاف والفرق هما حجر البناء في هذا المشروع، فإنه لا مناص من تقسيم السكان إلى فئتين هما النخبة من جهة، والطبقات الشعبية، من جهة ثانية.
وهذا التمييز الصارم بين النخبة والطبقات الشعبية (أو العامة، بتعبير ج.هاردي المفضل) لا يجب إطلاقا أن يبقى نظريا محضا، بل يجب ترجمته على رض الواقع بإنشاء "مدارس أبناء الأعيان"، وهي عبارة عن مؤسسات للتعليم الابتدائي وإعداديات إسلامية، ومؤسسات للثانوي تفسح المجال لولوج المهن الإدارية والتجارية.
أما الطبقات الشعبية، فهي تقسم إلى ثلاث فئات منفصلة عن بعضها البعض، ليس تبعا لمواردها أو مواقعها في التراتبية الاجتماعية، وإنما بنمط الإنتاج الذي يميز مناطق إقامتها. وبذلك، سنحصل على الخريطة المدرسية التالية:
ـ بالنسبة للفئات الشعبية الحضرية، مدارس تسمى "حضرية"، متمركزة حول التعليم المهني.
ـ وفيما يخص الطبقات الشعبية القروية، اقتراح إنشاء مدارس قروية متمحورة حول التعليم في مجالي الزراعة وتربية المواشي.
ـ بالنسبة للطبقات الشعبية القاطنة بالمدن الساحلية، تنشأ مدارس "بحرية" متخصصة في تعلم تقنيات الصيد والملاحة.
ومثل هذا المشروع غير مدان في نفسه. اليوم أيضا، يقترح، في مرحلة صار ولوج الشغل أمرا متزايد الصعوبة، الأخذ بعين الاعتبار طاقات الجهات في الإعداد المهني-وهذا حتى في الأمم المصنعة العصرية. لكن هذا لا يقرن بفكرة تسمير قسم من السكان في وضعية شغل بدون أفق مستقبلي عام.
أما فيما يخص البلدان السائرة في طريق النمو،فلا شك أنها خدعت لما كونت بعض مواطنيها في التكنولوجيات التي لم يستطيعوا استيعابها ولم تفد في شيء من جهة؛ وخدعت بتعليم مواطنيها مهنا قليلة النفع، بل وحتى غير مجدية لتقدم الجهات، من جهة ثانية.
وهذا يجب وضعه موضع تساؤل. وهي النية التي يعبر عنها بوضوح ج.هاردي في قولة له يذكر فيها أن التصور التربوي –النظري والعملي على السواء- مسكون بهاجس سياسي وإيديولوجي دائم يتمثل في تجنب أن تصير المدرسة "أداة للقلاقل الاجتماعية". يكتب في هذا الصدد: "لكن هاجسنا الكبير هو ألا تصنع المدرسة أهالي صالحين لكل شيء وللاشيء(…). فقد ظهر أحيانا في مستعمرات فرنسية أخرى أو أجنبية أن تعليم الأهالي يمكن أن يتحول إلى أداة إحداث اضطرابات اجتماعية"(19).
وبذلك فالمدرسة، في رأي ج.هاردي، يجب أن تنظم كجهاز إيديولوجي تستخدمه الدولة الاستعمارية للتحكم اجتماعيا في "الأهالي" وحراستهم سياسيا. والحماية –ظل الدولة الاستعمارية- تعمل بمثابة آلة كبيرة تستهدف ثلاثة جوانب أساسية:
أ ـ إخماد فتن المناطق المعادية للهيمنة الاستعمارية عسكريا ("السيبة" الشهيرة)، وذلك بعدم التردد في استخدام جميع الإجراءات العسكرية، من إفساد، ومحاصرة، وزرع الفزع، واقتراف التقتيل الجماعي…
ب ـ ضبط (بالمعنى الذي يمنحه ب.فاليري لهذه الكلمة: "جعل الفرد مطابقا لضابط ما") الفئات الاجتماعية بجعلها، من جهة، نخبا طيعة؛ ومن جهة أخرى، طبقات كادحة نافعة؛
ج ـ استيعاب ما يسمى بالعرقين "القابلين للاحتواء"، وهما اليهود والبربر، لتجذير الظاهرة الاستعمارية أو على الأقل لضمان استمراريتها التاريخية، عاجلا أو آجلا.
في هذا الاتجاه تشتغل الآلة باعتبارها كلا متجانسا: المدير العسكري أو المدني، المخطط والمكلف بإدارة شؤون المقدس، كلهم يعملون يدا في يد لتحقيق أهداف تلتقي وتتكامل فيما بينها.
- V -
لنر الآن كيف يشيد هاردي عمليا تراتبيته البيداغوجية بناء على قراءة خاصة للتعددية الإثنوثقافية المغربية.
بعد حل مشكلة أصول المجموعة اليهودية المغربية بربطها بأصلها الشديد البعد، أي بحادث تخريب معبد القدس أو بالاضطهاد الذي تعرض له اليهود في إسبانيا خلال القرن XVIم، يقدم ج.هاردي صورة قاتمة لهذه المجموعة. فهو يرى أن التسامح المغربي أتاح لليهود أن يستقروا في المدن، لكنه أفرد لهم أحياء خاصة بهم، تسمى الملاح. و"الملاح حي تفوح منه رائحة الفقر. أزقته غير صحية، غرفه مكتظة وشديدة الرطوبة". يردد هاردي هنا –وهذا أمر طبيعي- نفس المقولات(20) المناهضة للسامية كما مررتها الاثنوغرافيا الاستعمارية (دو فوكو، جوتيه، بيكارد..).
"أي وسط خصص لعرق يا ما عانى من قبل! ثم هاهي الاتحادات الناضجة تتضافر عليه لإضعافه قبل الأوان: الإفراط في تناول الكحول، خشونة الغذاء. وكيف لا نتعجب من كوننا نجد بين جميع شباب الملاح كل هؤلاء العرجى، ومشوهي الخلقة، والنصف عميان، وكل هؤلاء التعساء الذين ليس لهم سوى جلد موبوء فوق عظام نحيفة أو مشوهة؟ الإصلاح البدني، هاهي المهمة الأولى التي تفرض نفسها لفائدة يهود المغرب"(21).
ويجب أن يواكب مشروع الإنعاش البدني، هذا، مجهود مدروس للتقويم الأخلاقي. فالمغاربة العرب-البربر جعلوا من اليهود "ضيوفا مهانين". يقول ج,هاردي: "إنهم أشباح كئيبة، مفزوعة، محنية تحت وابل الشتائم والضربات التي يتوقعون دائما تلقيها. لا يرفعون رؤوسهم قليلا إلا عندما يصلون إلى الملاح. مع ذلك، فقد تمكن بعض هؤلاء المنبوذين، المحبوين بقدرة استثنائية على الصبر، من الاغتناء واحتلال مكانة متفوقة في الحياة الاقتصادية بالبلاد بشكل سري. هذا، وقد وضعت إدارتنا حدا لعمليات النهب التي كان يتعرض لها الملاح دوريا، ووفرت لليهود المغاربة، كما لسائر باقي الأهالي، ضمانات ضد تجاوزات السلطة، والتصفيات المشينة. وبذلك، هاهي الفراشة تخرج فجأة من كوخها الحقير المظلم، يباغثها النور المفاجئ، ونظرا لأنها لم تهيأ لهذا الانعتاق السعيد، فإنها قد تتحول بسرعة إلى فراشة جديدة-ثرية ويهودية جديدة. بكلمة واحدة، قد تصير ضارة وجد مقلقة. بيد أنه يبدو بالإمكان التخفيف من حدة هذا التحول المليء بالمخاطر عبر مشروع للتقويم الأخلاقي"(22).
اعتبارا للخلاصات التي قادته إليها تحاليله، يقترح ج.هاردي للمجموعة اليهودية تعليما "فرنسيا-يهوديا"، يرمي إلى تحقيق أهداف ثلاثة:
ـ أولا: تقديم تعليم أولي، لكن ضروري، لمبادئ الصحة العامة، لوضع حد لنقصان النظافة الذي "يطبع" الجماعة اليهودية، حسب هاردي.
ـ بعد ذلك، تقديم تربية بدنية جدية، منتظمة متواصلة، تنصب على الرياضة، أي القيام بتمارين بدنية في الهواء الطلق، وإجراء مراقبات طبية دورية، قياسات الطول والوزن…، وذلك في سبيل القضاء على العاهات البدنية، وإحلال أفراد أقوياء البنية محل "هذا الحشد من النحيفين والبدينين بشكل يرثى له"(23).
ـ أخيرا، تقديم تربية خلقية وجمالية: الأولى لإرساء أخلاق للرجولة تعلي من قيم الاعتزاز بالنفس وشرف المسؤولية، وذلك للرفع من قيم ومعنويات هذه ال"أشباح الكئيبة، المذعورة"، الخ… التربية الجمالية ستحسس الشاب اليهودي المغربي تدريجيا بقيم الشأن الجمالي مجسدة في الفن، لأن "الأذواق الجمالية –يستخلص هاردي- ضرورية للتوازن الأخلاقي؛ تثني عن البحث عن المصالح المباشرة وعن الأنانية"(24).
في مشروع هاردي ثمة اختلاف بين التعليم الذي ينادي به للعرب –البربر والتعليم الذي يقترحه لليهود المغاربة. بالنسبة للأوائل، تعطى الأولوية بالخصوص لـ ترسيخ التقليد والتعلم العملي للمهن اليدوية، على حساب الثقافة العامة والمعرفة الفكرية بمعناها الدقيق. أما بالنسبة للفئة الثانية، فتجرى محاولة للتغيير الجذري عبر تكثيف الثقافة العامة و–من ثمة- تحديث أنماط العيش في الوسط اليهودي. ومن المؤكد أن هذا الاهتمام البيداغوجي الكبير الذي أحيطت به المجموعة اليهودية يعود، في قسمه الكبير، إلى تأثير الرابطة اليهودية العالمية. يجب التذكير بأن هذه المدارس التي قامت في المغرب منذ سنة 1862، كانت لوقت طويل محمية من قبل السلطات القنصلية الفرنسية أو من قبل إدارة المقيم العام في المغرب بعد قيام الحماية.
هكذا يوظف هاردي الثقافة العامة معيارا للفصل بين الفئات الإثنوثقافية. فهي بالنسبة للعرب-البربر يمكن أن "تبعدهم عن الواقع"، أن تجعلهم "جيدين للاشيء"، أن تهيئهم لإثارة "القلاقل الاجتماعية". أما بالنسبة لليهود، فهي وسيلة لتربيتهم أخلاقيا وإبعادهم عن الاضطرابات الاجتماعية التي قد يكونوا جاهزين لها حالما يستعيدون صحتهم أو نموهم البدني. وليس هذا التناقض الظاهري هو التناقض الوحيد إذا قبلنا أن عاملا واحدا نفسه (وهو هنا نمط التعليم) يمكن أن تترتب عنه نتائج مختلفة بحسب حقل تطبيقه.
ونقف هنا على فكرة ضمنية تتمثل في اختلاف طبيعة أعضاء الجماعات السابقة من جهة، والتربية المفروض أنها مناسبة لكل جماعة من تلك الجماعات، من جهة أخرى.
بالنسبة للعرب-البربر، يتعلق الأمر بتربية تختزل في تكوين نافع، فيما يترك الباقي للحياة اليومية كما للعائلة بحسب إمكانياتها. أما بالنسبة للآخرين، وهم اليهود، فيتعلق الأمر أولا بفعل ترميمي تصحيحي، بتعويض عن العجز التربوي العائلي. وبذلك، تعتبر حاجيات العرب-البربر وحاجيات اليهود مميزتين بالنظر إلى معيش الجماعتين كما يعاينه الملاحظ.
يرى هاردي أن العنصر الأوروبي يجب أن يخضع لعملية الاستيعاب والفرنسة. إذ يقول: "معطيات مشكلة الفرنسي الجديد واضحة، إذن، بشكل كامل: كيف نلحق بالأمة الفرنسية، وكيف تبتلع ثقافتنا، مختلف العناصر الأوروبية التي جاءت للمغرب كسبا للقوت، والتي تربطها بتصوراتنا وأذواقنا قرابة أكيدة؟"(25).
وبذلك، سيدمج الأوروبيون في مدارس الفرنسيين نفسها لسببين اثنين مرتبطين بمفهومي الاختلاف والائتلاف، لأنهم على المستويين الإثني والثقافي أشد قربا من الفرنسيين بالمقارنة مع الأهالي. إنهم أكثر شفافية لاستيعاب كامل.
وبحكم انتماء الأطفال المولودين في فرنسا للنخبة (معمرون، رجال صناعة، ضباط، موظفون)، فهم على موعد مع أفضل التوجهات. وهذا التمييز الذي يخص هؤلاء الأطفال بحظوات مقصورة عليهم لا يفسر، في رأي ج.هاردي، بالمجهود ولا بامتلاك ناتج عن استحقاق طبقي، وإنما بهيمنة القيمة التي يستمدونها من امتياز كونهم محتلين. وإجمالا، يسجل هاردي، أنه: "ليس لممثلي فرنسا المباشرين في المغرب أن يكونوا أقل في أي شيء من باقي عناصر السكان. وإليهم يجب إسناد –ليس فقط بامتياز الاحتلال، ولكن أيضا بحق قانون القيمة والاستحقاق- الدور المهيمن في إدارة البلد واقتصاده؛ فهم الرؤساء، والأطر المناسبة لجميع العمليات التي تجرى هنا بصرف النظر عن طبيعتها"(26).
ومع ذلك، يجب على الروابط مع البلد الأصلي أن تظل سليمة وكاملة كي لا تنشأ لدى الأجيال الفرنسية المغربية نزعة إقليمية(27) محلية أو ينمو لديهم ميل إلى الانصهار في المستعمرات بحيث يجعلها أجيالا مقتلعة الأوطان أو مقتلعة الجذور، ناسية المسؤوليات الاستعمارية الكبرى. كما يجب اللجوء إلى ترغيب منهجي للأطفال المنحدرين من فرنسيين مغاربة في تطور المغرب، مع تمسكهم بقوة بالصلة التي تربطهم بفرنسا. وهم سيستفيدون، كباقي المواطنين المقيمين بفرنسا، من نفس البرامج ونفس الأطوار الدراسية، وما أن يحصلوا على الباكالوريا حتى تفتح أمامهم أبواب ولوج كبريات المدارس وأمجدها: البوليتيكنيك، سانت-سير، المعهد الزراعي…، الخ.
ويبقى أن ج.هاردي يتمسك بتصوره الأولي، وهو ضرورة أن يستخدم التعليم أداة للشرعنة، وبالتالي أن: "يعطي لفرنسيي المغرب أقصى ما يمكن من القيمة الأخلاقية، والفكرية، والبدنية، بكيفية تجعل مكانتهم الاجتماعية المرموقة تفرض نفسها ذاتيا وتخصص لهم الدور البارز في سائر مجالات النشاط المحلي"(28).
ونلاحظ هنا عملية مزدوجة تتمثل في إلغاء كل فرصة للتميز عن فرنسيي الميتروبول من جهة، وتقوية الاختلاف عن السكان المحليين من جهة ثانية.
وليس هذا مجرد صيانة للحظوات المشروعة بالانتماء العرقي والجنسية، ولكنه إرساء لطبيعة تأخذ مكانة داخل تراتبية باسم الجنسية. ولكنه إرساء لطبيعة تأخذ مكانة داخل تراتبية باسم الجنسية. والهدف واضح: إنه سياسي، وإذا بدا شخصيا، فلأنه تابع كذلك لخدمة القضية السياسية.
المشروع الوطني والمشروع الاستعماري موجودان معا هنا ليستخدما نقطة تتمفصل فيها المبادرات في حقل المدرسة.
- VI -
يلخص الراحل بول باسكون مجموع مسعى ج,هاردي بهذه العبارات: "ثمة إثنوغرافيا كتبها المستعمر، وانتهت إلى وضع اليد على وجود اختلافات جهوية حقيقية، لكن بنية صريحة في استغلال هذه التمايزات للتفريق تحت ذريعة ثبات إثنيات زعم أنها غير قابلة للاندماج في بعضها البعض"(29).
في مجال القضايا البشرية الهش والشديد الحساسية، يجب على المرء أن يعرف كيف يضفي طابع النسبية على وجهة نظره لتحاشي الوصول إلى استنتاجات نهائية، لكنها مغالية بالضرورة. إن الصيرورة البشرية –المنفلتة، والجسورة، والتي يحول عنصر الحرية دون توقعها- لا يمكن اختزالها ولا الإحاطة بها داخل معادلة على شاكلة ما يحاط بالظواهر الفيزيائية أو الرياضية.
ويبقى أن كل محاولة قانونية، أو تربوية سياسية تهدف إلى تسمير البشر –صغارا وكبارا- في أمكنة محصورة، محددة، بناء على انتماءات طبقية أو عرقية أو دينية، أو استنادا على معايير جغرافية أو جهوية، تظل محاولة تتضمن مزالق كليانية: إنها مثالا للتشويه القصدي للتجربة الإنسانية، اغتصابا همجيا (بالمعنى الكانطي) لإرادة المعرفة ورغبة الوجودn
الهوامش:
1 – اليوسي الحسن، المحاضرات في الأدب واللغة، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، بيروت دار الغرب الإسلامي، ص202-203، 1982. وانظر أيضا:
Rosenberger B., «Culture complémentaire et nourritures de substitution du Maroc (XVe-XVIIIe siècle) », in Annales, n°3-4, p477, 1980.
2 – اليوسي، م.س.، 203.
3 – لقد سبق لصاحب الفصوص أن أكد، في تأويله للآية القرآنية "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق"، بأن الرزق منه ما هو روحاني كالعلوم، وحسي كالأغذية.
ـ ابن العربي محيي الدين، فصوص الحكم، طبعة أبو العلا عفيفي، بيروت، دار الكتاب العربي، ص132، 1980.
4 – HARDY, G., Une conquête morale, Amand Colin, 1917, p9.
5 – HARDY, G., «L‘éducation française au Maroc », In La Revue de Paris, n°8, p773-788.
6 – نفسه، ص773.
7 – نفسه، ص773 (والتشديد منا).
8 – نفسه، ص774.
9 – نفسه، ص774 (والتشديد منا).
10 – نفسه، ص775.
11 – نفسه، ص776، والتشديد منا.
12 – نفسه، الصفحة ذاتها.
13 – نفسه، ص775-776، والتشديد منا.
14 – نفسه، ص776.
15 – نفسه، ص776-777.
16 – نفسه، ص777 (والتشديد منا).
17 – نفسه، ص777.
18 – Finkielkraut, A., «Sur un vers de Racine », In le Monde, 24 Octobre 1987.
19 – نفسه، ص778، راجع أيضا:
Hardy, G., 1939, «Le problème colonial », in Encyclopédie Française, vol. XV, (Education et instruction), 1934, «Le Maréchal Lyautey et l’enseignement », in l’Afrique Française, n°8, p462-468.
Rivet, D., «Ecole et colonisation au Maroc : La politique de Lyautey au début des années 20», in Cahiers d’histoire de l’université de Lyon, T.XXI. 1976.
20 – ج.مقولب (Stétéotype)، سلوك مكرر على نحو لا يتغير تعوزه الصفات الفردية المميزة(م).
21 – نفسه، ص779 (التشديد منا).
22 – نفسه، ص779.
23 – نفسه، ص780-781.
24 – نفسه، ص781.
25 – نفسه، ص784.
26 – نفسه، ص786 (والتشديد منا).
27 – نظرية الذين يريدون الاحتفاظ بحرياتهم الخاصة ضمن الدولة(م).
28 – نفسه، ص786.
29 – Pascon, P., «La formation de la société marocaine », in Bulletin Economique et social du Maroc, n°120-121, p3, 1971.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)