السبت، 17 سبتمبر 2016

ما هي الأنثروبولوجيا الثقافية ؟


المكتبة العامة 



أولاً-تعريف الأنثروبولوجيا الثقافية‏
تعرّف الأنثروبولوجيا الثقافية -بوجه عام – بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع لـه ثقافة معيّنة. وعلى هذا الإنسان أن يمارس سلوكاً يتوافق مع سلوك الأفراد في المجتمع (الجماعة) المحيط به، يتحلّى بقيمه وعاداته ويدين بنظامه ويتحدّث بلغة قومه .‏
ولذلك، فإنّ الأنثروبولوجيا الثقافية :هي ذلك العلم الذي يهتمّ بدراسة الثقافة الإنسانية، ويعنى بدراسة أساليب حياة الإنسان وسلوكاته النابعة من ثقافته. وهي تدرس الشعوب القديمة، كما تدرس الشعوب المعاصرة. (بيلز وهويجر، 1976، ص 21)‏
فالأنثروبولوجيا الثقافية إذن، تهدف إلى فهم الظاهرة الثقافية وتحديد عناصرها. كما تهدف إلى دراسة عمليات التغيير الثقافي والتمازج الثقافي، وتحديد الخصائص المتشابهة بين الثقافات، وتفسّر بالتالي المراحل التطوّرية لثقافة معيّنة في مجتمع معيّن .‏
ولهذا استطاع علماء الأنثروبولوجيا الثقافية أن ينجحوا في دراساتهم التي أجروها على حياة الإنسان، سواء ما اعتمد منها على التراث المكتوب للإنسان القديم وتحليل آثارها، أو ما كان منها يتعلّق بالإنسان المعاصر ضمن إطاره الاجتماعي المعاش .‏
وهذا يدخل – إلى حدّ بعيد- فيما يسمّى (علم اجتماع الثقافة) والذي يعني تحليل طبيعة العلاقة بين الموجود من أنماط الإنتاج الفكري، ومعطيات البنية الاجتماعية، وتحديد وظائف هذا الإنتاج في المجتمعات ذات التركيب التنضيدي أو الطبقي. ويتضمنّ هذا التعريف الاعتبارات التالية : (لبيب، 1987، ص24- 26)‏
1- إنّ الحديث عن أنماط الإنتاج الفكري، يعني أنّ التجانس الثقافي بالمعنيين : الفلسفي والأنثروبولوجي، هو غير عمليات علم الاجتماع. لأنّ هذا التجانس يغطّي وجوداً حقيقياً لأنماط مختلفة من الثقافة، قد تتناقض مضموناً ووظيفة في المجتمع الواحد. فعلى الرغم من وجود بعض العوامل (الأنثروبولوجية) المشتركة، فلا توجد موضوعيّاً في المجتمعات ذات التركيب الطبقي “” ثقافة للجميع “، حتى وإن ادّعت أو أرادت هذه الثقافة لنفسها، أن تكون كذلك. فهناك من وجهة نظر اجتماعية نمطية ثقافية (ربّما في ذلك أنماط الثقافة الجماهيرية) يفضي تصنيفها وتحليلها، إلى إبراز التمايز الاجتماعي الذي تعبّر عنه بالضرورة. وهذا يعني أن اجتماعية الثقافة في نهاية الأمر، هي اجتماعية التباين في الثقافة وعدم مساواة في المجال الثقافي .‏
2- إنّ الحديث عن المجتمعات المنضّدة (الطبقية) ليس حصراً بقدر ما هو تأكيد على أنّ الإنتاج الفكري هو تعبير عن مرحلة معيّنة من التمايز بين الأصناف الاجتماعية الاقتصادية. وأن استعمال مفهوم التركيب التنضيدي Stratification، على الرغم من غموضه، يقحم في حقل التحليل الاجتماعي مجتمعات تاريخية قبل رأسمالية، قد يكون مضمونها الطبقي محلّ نقاش. وعلى هذا الأساس، تكون المجتمعات الوحيدة التي تخرج من الحقل الاجتماعي، هي تلك التي تسمّى عادة بالمجتمعات (البدائية )، والتي لم تصل فيها أنماط الإنتاج الفكري إلى درجة كافية من التمايز تسمح لها بتصنيف معيّن .‏
3- ليس المهمّ من وجهة النظر التحليلية إثبات العلاقة بين الإنتاج الفكري والواقع الاجتماعي، بقدر ما هو تحليل أشكال هذه العلاقة في مرحلة معيّنة لمجتمع معيّن. ويعدّ هذا التحليل مصدراً أساسيّاً في المناقشات المتعلّقة بالروابط الموجودة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، والتي أفضت إلى تأكيد فكرة التبادل الدياليكتيكي القائم بينهما. وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ اجتماعية الأدب والفن، ساهمت مساهمة متطوّرة في تحليل أشكال العلاقة بين الإنتاج الفكري، ومعطيات البنية الاجتماعية .‏
4- إن تحديد الكيفية التي يحوّل بها إنتاج فكري، كالقصّ أو المسرح مثلاً، معطيات الواقع، لا يكفي، بل لا بدّ من إبراز الوظيفة الاجتماعية / السياسية لهذا الإنتاج، ولا سيّما أنّ المنتجين ينتمون إلى فئات من المثقّفين يؤدّون أدواراً قد يعونها أو لا يعونها لصالح أصناف أو طبقات اجتماعية معيّنة. وهذه الوظيفة ليست مظهراً ثانوياً أو تكميلياً، بل هي بعدٌ من أبعاد العلاقة بين الثقافة والمجتمع، ولا يمكن تفسير أي حدث فكري من دونها. وهي في الوقت ذاته، توجد حلاًّ لما يسمّى ” استقلالية ” القيم الفكرية والجمالية، وذلك من خلال اكتشاف وظيفة استمرارية هذه القيم، أو بعثها في ظروف تاريخية محدّدة.‏
إنّ دراسة الوسط الثقافي، تكشف عن الآلية السيكولوجية التي توجّه سلوك الفرد، وتصرف النزعة العدوانية في مجالات تنفيس مهذّب. والمثال على ذلك في بعض النظم الاجتماعية، كما في طقوس (الآبوApo) التي تمارسها قبائل الآشانتي Ashanti في ساحل الذهب في أفريقيا الغربية .‏
ففي احتفالات الآبو، لا يسمح فقط، بل يجب، أن يسمع أصحاب السلطة، السخرية واللوم واللعنات من رعاياهم بسبب المظالم التي ارتكبوها. ويعتقد رجال الآشانتي أنّ في هذا ضمانة لكي لا تتعذّب أرواح الحكام بسبب كبت استياء الغاضبين. ولولا ذلك، لأفضى تراكم الاستياء وتعاظم قوّته، إلى إضعاف سلطة الحكام، بل وإلى قتلهم. ولا تتطلّب فعالية هذه الآلية (الفرويدية الجوهر) في التنفيس عن الكبت أي إيضاح. فهي تلقي ضوءاً أكبر على ما تقوم به من أشكال السلوك المنظّمة في نظم اجتماعية، من تصحيح لاختلال التوازن في نمو شخصيات الأفراد الذين تشملهم. (هرسكوفيتز، 1974، ص 59 )‏
ومن هذا المنطلق تهتمّ الأنثروبولوجيا الثقافية بالتراث والحياة داخل نطاق المجتمع، ويمكن بوساطتها الخوض في جوهر الثقافات المختلفة، ومعرفة كيف تحيا الأمم، من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية :‏
ما هي سبل العيش المتّبع لديهم؟ ما هي الطرائق التي يتبعونها في تربية أبنائهم ؟ كيف يعبّرون عن أنفسهم؟ ما هي طريقتهم في أداء عباداتهم؟ ما هي العلوم والآداب والفنون السائدة عندهم؟ وكيف ينقلون تراثهم إلى أجيالهم الجديدة من بعدهم؟ وغير ذلك من العادات والقيم وأساليب التعامل فيما بينهم .‏
ثانياً-نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ومراحل تطوّرها :‏
لم تظهر الأنثروبولوجيا الثقافية كفرع مستقلّ عن الأنثروبولوجيا العامة، إلاّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .‏
وربّما يعود الفضل في ذلك إلى العالم الإنكليزي / إدوارد تايلور / الذي يعدّ من روّاد الأنثروبولوجيا، والذي قدّم أول تعريف شامل للثقافة عام 1871 في كتابه ” الثقافة البدائية ” .وقد مرّت الأنثروبولوجيا الثقافية بمراحل متعدّدة، منذ ذلك الحين حتى وصلت إلى ما هي عليه في العصر الحاضر. ( Barnouw, 1972, p.7 )‏
مرحلة البدية : وتمتدّ من ظهور هذه الأنثروبولوجيا وحتى نهاية القرن التاسع عشر. وكانت عبارة عن محاولات لرسم صورة عامة لتطوّر الثقافة منذ القدم، والبحث أيضاً عن نشأة المجتمع الإنساني.‏
وظهر في هذه الفترة إلى جانب العالم الإنكليزي / تايلور /، العالم الأمريكي / بواز / الذي أخذ بالاتجاه التاريخي في دراسة الثقافات الإنسانية، وذلك من جانبين ؛ أولهما : إجراء دراسات تفصيلية لثقافات مجموعات صغيرة، كالقبائل والعشائر، ومراحل تطوّرها .‏
وثانيهما : أجراء مقارنة بين تاريخ التطوّر الثقافي، عند مجموعة من القبائل، بغية الوصول إلى قوانين عامة أو مبادىء، تحكم نمو الثقافات الإنسانية وتطوّرها. وهذا ما يعطي أهميّة للأنثروبولوجيا باعتبارها علماً لـه منهجيّته الخاصّة .‏
المرحلة الثانية : وتقع ما بين (1900- 1915 م)، وتعدّ المرحلة التكوينية، حيث تركّزت الجهود في الأبحاث والدراسات، على مجتمعات صغيرة محدّدة لمعرفة تاريخ ثقافتها ومراحل تطوّرها، وبالتالي تحديد عناصر هذه الثقافة قبل أن تنقرض .‏
واستناداً إلى ذلك، جرت دراسات عديدة على ثقافة الهنود الحمر في أمريكا، وتوصّل الباحث الأمريكي / وسلر / إلى أسلوب يمكن بوساطته من دراسة أي إقليم أو منطقة في العالم تعيش فيها مجتمعات ذات ثقافات متشابهة، أو ما أصطلح على تسميته بـ (المنطقة الثقافية ). وقد شبّه / وسلر / المنطقة الثقافية بدائرة، تتركّز معظم العناصر الثقافية في مركزها، وتقلّ هذه العناصر كلّما ابتعدت عن المركز.‏
المرحلة الثالثة : وتقع ما بين (1915- 1930 م) وتعدّ فترة الازدهار، حيث تميّزت بكثرة البحوث والمناقشات في القضايا التي تدخل في صلب علم الأنثربولوجيا الثقافية، ولا سيّما تلك الدراسات التي تركّزت في أمريكا .‏
ويرجع ازدهار الأنثربولوجيا في تلك الفترة، إلى نضج هذا العلم ووضوح مفاهيمه ومناهجه. وترافق ذلك بازدهار المدرسة التاريخية في أمريكا، وظهور المدرسة الانتشارية في إنكلترا، ولا سيّما بعد الأخذ بمفهوم (المنطقة الثقافية) الذي طرحه / وسلر / كإطار لتحليل المعطيات الثقافية وتفسيرها، والتوصّل إلى العناصر المشتركة بين الثقافات المتشابهة.‏
المرحلة الرابعة : ومدّتها عشر سنوات فقط، وتقع ما بين (1930- 1940 م). وعلى الرغم من قصر مدّتها، فقد أطلق عليها الفترة التوسّعية، حيث تميّزت باعتراف الجامعات الأمريكية والأوروبية بالأنثروبولوجيا الثقافية كعلم خاص في إطار الأنثروبولوجية العامة، وخصّصت لها فروع ومقرّرات دراسية في أقسام علم الاجتماع في الجامعات.‏
وظهرت في هذه الفترة النظرية (التكاملية) التي تبنّاها / سابير / عالم الاجتماع الأمريكي، واستطاع من خلالها تحديد مجموعة متناسقة من أنماط السلوك الإنساني، والتي يمكن اعتمادها في دراسة السلوك الفردي، لدى أفراد مجتمع معيّن، حيث أنّ جوهر الثقافة هو في حقيقة الأمر، ليس إلاّ تفاعل الأفراد في المجتمع بعضهم مع بعض، وما ينجم عن هذا التفاعل من علاقات ومشاعر وطرائق حياتية مشتركة .‏
وقد تأثّرت الأنثروبولوجيا في هذه الفترة- إلى حدّ بعيد- بالأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما في مفاهيمها ومناهجها، وذلك بفضل الأبحاث التي قام بها كلّ من / مالينوفسكي وبراون / في مجالات الأنثربولوجيا الاجتماعية .‏
المرحلة الخامسة : وهي الفترة المعاصرة التي بدأت منذ عام 1940، وما زالت حتى الوقت الحاضر. وتمتاز هذه المرحلة بتوسّع نطاق الدراسات الأنثروبولوجية، خارج أوروبا وأمريكا، وانتشار الأنثروبولوجيا الثقافية في العديد من جامعات الدول النامية، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينينية.‏
وترافق ذلك مع ظهور اتّجاهات جديدة في الدراسات الأنثربولوجية، كان الاتّجاه القومي في مقدّمة هذه الاتّجاهات الحديثة في الأنثروبولوجيا الثقافية، والذي يهدف إلى تحديد الخصائص الرئيسة للثقافة القوميّة. وقد أخذت بهذا الاتّجاه الباحثة الأمريكية / روث بيندكيت / التي قامت بدراسة الثقافة اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية .‏
ويسمّى الاتجاه القومي في تقييم الثقافة : ” الانطوائية القومية ” والتي تعني: أنّ الانسان يفضّل طريقة قومه في الحياة، على طرائق الأقوام الأخرى جميعها. تلك هي النتيجة المنطقية لعملية التثقيف الأولى، والتي يتّفق بها شعور معظم الأفراد نحو ثقافتهم الخاصة، سواء أفصحوا عن هذا الشعور أو لم يفصحوا .‏
وتتجلّى الانطوائية القومية لدى الشعوب البدائية بأحسن أشكالها ، في الأساطير والقصص الشعبية، والأمثلة والعادات اللغوية .. فأسطورة أصل العروق البشرية لدى هنود (الشيروكي) تعطينا مثالاً حيّاً عن الانطوائية القومية. تقول الأسطورة :‏
” صوّر الخالق الإنسان بأن صنع أولاً فرناً وأوقد النار فيه، ثمّ صنع من عجينة ثلاثة تماثيل على شكل الإنسان، ووضعها في الفرن وانتظر شيّها (شواءها ). غير أنّ لهفة الخالق إلى رؤية نتيجة عمله الذي يتوّج تجربته في الخلق، كانت من الشدّة بحيث أخرج التمثال الأول مبكراً، فكان – وللأسف- غير ناضج شاحباً باهت اللون، ومن نسله كان العرق الأبيض. أمّا التمثال الثاني، فكان ناضجاً جيّداً لأنّ مدّته في الشواء كانت مضبوطة وكافية، فأعجبه شكله الأسمر الجميل، وكان هذا سلف الهنود. وانصرف الخالق إلى تأمّل صورته، ناسياً أن يسحب التمثال الثالث من الفرن حتى اشتمّ رائحة الاحتراق. فتح باب الفرن فجأة، فوجد هذا التمثال متفحماً أسود اللون .. فكان ذلك مدعاة للأسف، ولكن لم يعد بالإمكان حيلة، وكان هذا أول رجل أسود .” (هرسكوفيتز، 1974، ص 72 )‏
بهذه الصورة تبدو الانطوائية القومية لدى الكثير من الشعوب .. حيث يصرّ الإنسان / الفرد على التعبير عن صفات قومه الحميدة .. ولهذا يحكم أي إنسان على النظام القيمي/ الاجتماعي لدى أي شعب آخر، من خلال العلاقة التي تربط هذا الشعب بشعبه، وفق درجة الرغبة والقبول في ذلك، والتي قد تصل إلى حدود الرفض المطلق أو القبول المطلق، وفقاً لمعايير عامة .‏
وكانت من أهمّ الاتجاهات الحديثة أيضاً في الأنثروبولوجيا الثقافية، تلك الدراسات التي عنيت بالمجتمعات المتمدّنة، وما أطلق عليها ” دراسة الحالة “. كدراسة أوضاع قرية أو عدد من القرى المتجاورة، أو في منطقة معيّنة، أو دراسة ثقافة خاصة بمجموعة أو بفئة من البشر. إضافة إلى دراسات أكاديمية تتعلّق بخصائص الأنثروبولوجيا الثقافية ومبادئها، ومناهج البحث فيها وطرائقها وأساليبها .. وغيرها ممّا يسهم في إجراء الدراسات على أسس موضوعية وعلمية تحقّق الأهداف المرجوة منها.‏
ثالثاً-أقسام الأنثروبولوجيا الثقافية :‏
على الرغم من تعدّد العناصر الثقافية، وتداخل مضموناتها وتفاعلها في النسيج العام لبنية المجتمع الإنساني، فقد اتّفق الأنثروبولوجيون على تقسيم الأنثروبولوجيا الثقافية إلى ثلاثة أقسام أساسيّة، هي : (علم الآثار – علم اللغويات – وعلم الثقافات المقارن) وفيما يلي شرح لكلّ منها :‏
1-علم اللغويات :‏
هو العلم الذي يبحث في تركيب اللغات الإنسانية، المنقرضة والحيّة، ولا سيّما المكتوبة منها في السجلاّت التاريخية فحسب، كاللاتينية أو اليونانية القديمة، واللغات الحيّة المستخدمة في الوقت كالعربية والفرنسية والإنكليزية. . ويهتمّ دارسو اللغات بالرموز اللغوية المستعملة، إلى جانب العلاقة القائمة بين لغة شعب ما، والجوانب الأخرى من ثقافته، باعتبار اللغة وعاء ناقلاً للثقافة.‏
إنّ اللغة من الصفات التي يتميّز بها الكائن الإنساني عن غيره من الكائنات الحيّة الأخرى، فهي طريقة التخاطب والتفاهم بين الأفراد والشعوب، بواسطة رموز صوتية وأشكال كلامية متّفق عليها، ويمكن تعلّمها .. علاوة على أنّها وسيلة لنقل التراث الثقافي / الحضاري، حيث يمكن استخدام معظم اللغات في كتابة هذا التراث .‏
يحتلّ علم اللغة مكاناً ممتازاً في مجمل العلوم الاجتماعية التي ينتمي إليها ؛ فهو ليس علماً اجتماعياً كالعلوم الأخرى، بل العلم الذي قدّم إنجازات عظيمة، وتوصّل إلى صياغة منهج وضعي ومعرفة الوقائع الخاصة. ولذلك، ارتبط علماء النفس والاجتماع والأثنوغرافيا بالحرص على تعلّم الطريق المؤدّية إلى المعرفة الوضعية للوقائع الاجتماعية، من علم اللغة الحديث .‏
يدرس علماء الأنثروبولوجيا، اللغة في سياقها الاجتماعي والثقافي، في المكان والزمان. ويقوم بعضهم باستنتاجات تتعلّق بالمقوّمات العامة للغة وربطها بالتماثلات الموجودة في الدماغ الإنساني. ويقوم آخرون بإعادة بناء اللغات القديمة من خلال مقارنتها بالمتحدّرات عنها في الوقت الحاضر، ويحصلون من ذلك على اكتشافات تاريخية عن اللغة.‏
وما يزال عدد من علماء الأنثروبولوجيا اللغوية، يدرسون اختلافات اللغة ليكتشفوا الادراكات والنماذج الفكرية المختلفة، في عدد وافر من الحضارات. ويدخل في ذلك، دراسة الاختلافات اللغوية في سياقها الاجتماعي، وهو ما يدعى (علم اللغة الاجتماعي) الذي يدرس الاختلاف الموجود في لغة واحدة، ليظهر كيف يعكس الكلام الفروقات الاجتماعية .( Kattak,1994, 10 )‏
إنّ التشابه المنهجي الشديد بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من جهة، وعلم اللغة من جهة أخرى، يفترض واجباً خاصاً من التعاون فيما بينها، حيث يستطيع علم اللغة أن يقدّم البراهين المساعدة في دراسة مسائل القرابة، من خلال تقديم أصول الكلمات وما ينتج عنها من علاقات في بعض ألفاظ القرابة التي لم تكن مدركة بصورة مباشرة، من قبل عالم الأنثربولوجيا أو عالم الاجتماع، وبذلك يلتقي علماء الأنثروبولوجيا، بهدف مقارنة الفروع التي ينتجها هذان العلمان. ويقترب اللغويون من علماء الأنثروبولوجيا، آملين في جعل دراساتهم أكثر واقعية، وفي المقابل، يلتمس الأنثروبولوجيون اللغويين كلّما توسّموا فيهم القدرة على إخراجهم من الاضطراب الذي ألقتهم فيه على ما يبدو، أُلفتهم الزائدة مع الظاهرات المادية والتجريبية. (ستروس، 1977، ص 49 و92)‏
ولذلك، يلاحظ أنّ فرع اللغويات هو حالياً من أكثر فروع الأنثروبولوجيا الثقافية، استقلالاً وانعزالاً عن الفروع الأخرى .فدراسة اللغات يمكن أن تجري دون اهتمام كبير بعلاقاتها مع الجوانب الأخرى في النشاط الإنساني، وهذا هو الواقع في حالات كثيرة .ومما لا شك فيه، أنّ اللغات – بما فيها من تراكيب معقّدة وغريبة، وما تنطوي عليه من تنوّع هائل، ولا سيّما عند الشعوب البدائية، تزوّد الباحث بمادة دراسية غنيّة لا يمكن حصرها .( لينتون، 1967، ص 20)‏
ولذلك، يعطي / ليفي ستروس / أهميّة بالغة لِلُّغَةِ ويعتبرها أحد الأركان الأساسية في علم الإنسان، إن لم تكن حجر الزاوية في ذلك العلم، وعلى أساس أنّ اللغة هي الخاصية الرئيسة التي تميّز الإنسان عن الكائنات الحيّة الأخرى. ولذلك، يعتبرها الظاهرة الثقافية الأساسية التي يمكن عن طريقها، فهم كلّ صور الحياة الاجتماعية. وهذا ما يؤكّده في كتابه (المناطق المدارية الحزينة) والذي يعرف في العالم العربي باسم (الآفاق الحزينة) وهو نوع من السيرة الذاتية في قالب أنثروبولوجي، حيث يقول : ” حين نقول الإنسان .. فإنّنا نعني اللغة. وحين نقول اللغة … فإنّنا نقصد المجتمع ..”‏
وهذا ما دفعه إلى استخدام مناهج اللغويات الحديثة وأساليبها، في تحليله للمعلومات الثقافية، وكلّ مادة غير لغوية. كما جعله يعطي الكلمة (الدال) من الأهميّة أكثر ممّا يعطي للمعنى (المدلول )، ولا سيّما أنّ الدال الواحد (الكلمة الواحدة) قد يكون لـه مدلولان مختلفان بالنسبة لشخصين مختلفين، وذلك تبعاً لاختلاف تجاربهما. بل أنّ الدال الواحد، قد تكون لـه مدلولات مختلفة بالنسبة للشخص نفسه، وفي أوقات أو ظروف مختلفة. (أبو زيد، 2001، ص 86 )‏
وعلى الرغم من أنّ علماء اللغة لم يتمكّنوا من تحديد أسبقية لغة على أخرى، فقد توصّلوا من خلال دراساتهم إلى تصنيف اللغات المختلفة بحسب طبيعتها واستخدامها، في ثلاثة أقسام هي :‏
-اللغات المنعزلة : وهي اللغات التي تتخاطب بها فئات منعزلة عن الفئات الأخرى، ولا تفهمها إلاّ تلك الفئات المتحدّثة بها. وهي لغة لا تكتب وليس لها تاريخ .‏
-اللغات الملتصقة : وهي اللغات التي تتخاطب بها شعوب كبيرة، ولكنّها ملتصقة بهم وبتراثهم. وهي لغات معروفة، ولكن ليس لها قواعد، وإنّما تعتمد على المقاطع والكلمات، مثل : اللغة الصينيّة .‏
-اللغات ذات القواعد (النحو والصرف) : وهي اللغات الحديثة التي تستخدمها الأمم المتحضّرة، لها قواعد نحوية وصرفية، تضبط جملها وقوالبها اللغوية، مثل : اللغة العربية، واللغات الأوربية ،( زرقانة، 1958، ص 148)‏
ومهما يكن هذا التقسيم، فإنّ اللغات المستعملة في العالم، جميعها، شُكّلت من أصوات متناسقة تدلّ على هذه اللغة أو تلك، وفق أصول وقواعد خاصة بها. ولهذا يقسم علم اللغويات إلى أقسام فرعيّة، من أهمّها : علم اللغات الوصفي، وعلم أصول اللغات .‏
1/1- علم اللغات الوصفي : يهتمّ بتحليل اللغات في زمن محدّد، ويدرس النظم الصوتية، وقواعد اللغة والمفردات. ويعتمد عالم اللغات في دراساته هنا على اللغة الكلامية، ولذلك يستمع إلى الأفراد، ولا سيّما إذا كانت الدراسة متعلّقة بلغات لم تكتب. فيقوم عالم اللغة بكتابة تلك اللغات عن طريق استخدام الرموز المتعارف عليها .‏
ومهما يكن الأمر، فإنّ عملية تحليل اللغات وتصنيفها، كعملية تحليل الأجناس البشرية وتصنيفها، لا تشكّل إلاّ الخطوة الأولى لغيرها من الدراسات المهمّة .فاللغات، على اختلاف أنواعها، تمثّل أداة قيّمة في يد العالم .. ولا شكّ في أنّها ستساعده في النهاية، على التوصّل إلى فهم أعمق لسيكولوجية الأفراد والمجتمعات.( لينتون، 1967، ص 20 )‏
وتتركّز معظم تلك الدراسات في المجتمعات البدائية التي تستخدم اللغة الكلامية، ولم تعرف القراءة والكتابة. فلا يوجد مجتمع إنساني – مهما تخلّفت ثقافته – من دون لغة كلامية يتفاهم بها أبناؤه .‏
1/2-علم أصول اللغات :‏
يهدف إلى تحديد أصول اللغات الإنسانية. ولذلك، يختصّ بالجانب التاريخي والمقارن، حيث يدرس العلاقات التاريخيّة بين اللغات التي يمكن متابعة تاريخها، عن طريق وثائق مكتوبة. وتكون المشكلة أكثر تعقيداً بالنسبة للغات القديمة التي لم تترك أية وثائق مكتوبة تدلّ عليها. ولكن ثمّة وسائل خاصة يمكن للباحث أن يستخدمها في دراسة تاريخ تلك اللغات.‏
وهناك علاقات تعاونية بين عالم اللغة، والأنثروبولوجي الثقافي، وذلك لأنهّ على كلّ من الأثنولوجي والأنثروبولوجي الاجتماعي، أن يدرس لغة المجتمع الذي يجري بحثه عليه.‏
وبناء على ذلك، تقدّم علم اللغويات – في العصر الحاضر – وأصبح يستخدم مناهج علمية وآليات دقيقة، في دراسة لغات العالم .. واستطاع من خلال ذلك أن يتوصّل إلى قوانين أساسية وعامة، لا تقلُّ أهميّة في دقّتها عن قوانين العلوم الطبيعية. (وصفي، 1971، ص 31-32)‏
ومن المحتم أن تثير (مورفولوجية) أية لغة، أسئلة بعيدة المدى تتّصل بميداني : الفيزياء والقيم .. فاللغة ليست مجرّد أداة للاتّصال أو لاستثارة الانفعالات فحسب، وإنّما هي أيضاً وسيلة لتصنيف الخبرات. والخبرة هي أشبه ما تكون بخطّ متّصل الأجزاء، يمكن تقسيمه بطرق مختلفة .( لينتون، 1967، ص 182)‏
ولذلك، فإن الدراسات اللغوية المقارنة، توضح أنّ الكائن البشري على الرغم من استخدامه لغة واحدة، فهو يقوم بعملية انتقائية غير واعية للمعاني التي يستخدمها. وذلك لأنّه لا يستطيع الاستجابة الدقيقة للمنبّهات المتنوّعة في محيطه الخارجي .‏
2- علم الآثار القديمة (الحفريات Archeology):‏
يعنى بشكل خاص بجمع الآثار والمخلّفات البشرية وتحليلها، بحيث يستدلّ منها على التسلسل التاريخي للأجناس البشرية، في تلك الفترة التي لم تكن فيها كتابة، وليس ثمّة وثائق مدوّنة (مكتوبة) عنها .‏
ويبحث هذا الفرع من علم الأنثروبولوجيا الثقافية، في الأصول الأولى للثقافات الإنسانية، ولا سيّما الثقافات المنقرضة. ولعلّ علم الآثار القديمة أكثر شيوعاً بين فروع الأنثروبولوجيا، وربّما كانت مكتشفاته مألوفة لدى الشخص العادي أكثر من مكتشفات الفروع الأخرى. ومثال ذلك، أنّ اسم (توت عنخ آمون) أحد ملوك قدماء المصريين، يكاد يكون معروفاً لدى الأوساط الشعبية العامة. (لينتون، 1967، ص 22 )‏
وعلى الرغم من أنّ الهدف الأوّل من هذه الأبحاث، هو الحصول على معلومات عن الشعوب القديمة، إلاّ أنّ الهدف النهائي يتمثّل في مساعدة القرّاء والدارسين، في تفهّم العمليات المتّصلة بنمو الثقافات أو (الحضارات) وازدهارها أو انهيارها، وبالتالي إدراك العوامل المسؤولة عن تلك التغيّرات .‏
ومن المعروف لدى علماء الأنثروبولوجيا، أنّ الكتابة ظهرت منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وما كتب من ذلك التاريخ معروف لدى الدارسين والباحثين، ويمكن بواسطة هذه الآثار المكتوبة معرفة الكثير عن الإنسان. (ناصر، 1985، ص 62)‏
فعالم الآثار يعتمد في دراسته، على البقايا التي خلفها الإنسان القديم، والتي تمثّل طبيعة ثقافاته وعناصرها. وقد توصّل علماء الآثار إلى أساليب دقيقة لحفر طبقات الأرض التي يتوقّع وجود بقايا حضارية فيها. كما توصّلوا إلى مناهج دقيقة لفحص تلك البقايا وتحديد مواقعها، وتصنيفها من أجل التعرّف إليها، ومن ثمّ مقارنتها بعضها مع بعض. ويستطيع علماء الآثار باستخدام تلك المناهج، استخلاص الكثير من المعلومات عن الثقافات القديمة، وتغيّراتها، وعلاقة كلّ منها بغيرها.‏
ويستخدم علماء الأنثروبولوجيا بقايا المواد كمعطيات رئيسة لاستخدام المعرفة العلمية والنظرية، حيث يقوم علماء الآثار بتحليل النماذج الحضارية والتطوّرات التي طرأت عليها، فتكشف النفايات عن الأوضاع الخاصة بالاستهلاك والنشاطات.‏
فالحبوب البرية والحبوب المنزلية / مثلاً : تمتلك خصائص مختلفة تسمح لعلماء الآثار أن يميّزوا بين النبات الذي تمّ جلبه، وذلك الذي تمّت العناية به محلياً. كما يكشف فحص عظام الحيوانات، عن أعمار هذه الحيوانات التي تمّ ذبحها، ويزوّد بمعلومات أخرى مفيدة، تحدّد فيما إذا كانت هذه الأنواع بريّة أو مدجّنة. ويقوم علماء الآثار من خلال بحثهم في هذه المعلومات، بإعادة بناء نماذج الإنتاج والتجارة والاستهلاك .Kattak, 1994,8))‏
ومع أنّ الهدف القريب الواضح للأبحاث (الأرخلوجية )، هو استكمال معارفنا ومعلوماتنا عن ماضي الإنسان، فإنّ الهدف النهائي هو مساعدتنا في تفهّم العمليات المتّصلة، بنمو الحضارات وازدهارها وانهيارها، وإدراك العوامل المسؤولة عن هذه الظاهرات التاريخية. وقد أصبحت نتائج الدراسات (الأرخلوجية) المتّصلة بعمليات التطوّر، مألوفة لدى العلماء الأنثروبولوجيين جميعهم، والذين يعنون بدراسة ظاهرات التغيير الثقافي. (لينتون، 1967، ص24)‏
ولذلك، يلجأ علماء الآثار – الأنثربولوجيون – إلى الاستفادة من أبحاث علماء الجيولوجيا والمناخ، للتحقّق من (هوية) البقايا التي يكتشفونها، وتاريخ وجودها. كما يتعاون علماء الآثار أيضاً، مع المتخصّصين في الأنثروبولوجيا الطبيعية، وذلك لكثرة وجود( اللُقى) الإنسانية في الحفريات، مع البقايا الثقافية. وقد نجح علماء الآثار المحدثون، في استخدام (الكربون المشعّ) كوسيلة لتحديد عمر ” البقايا ” بدقّة. (وصفي، 1971، ص 31)‏
ويمكن القول – بوجه عام – إنّ علماء الآثار القديمة، يحاولون اكتشاف ذلك الجزء من التاريخ الماضي الذي لا تتعرّض لـه السجلاّت المكتوبة. ويقبل عالم الآثار القديمة على ميدان اختصاصه بحماسة، لأنّ عمله يقترن بمجموعة من الدوافع والمثيرات المغرية، كالرغبة في إجراء أبحاث علمية شائقة، واحتمال العثور على كنوز ثمينة …( لينتون، 1967، ص 23 )‏
فعلم الآثار إذاً، يدرس تاريخ الإنسان وما رافقه من تغيّرات ثقافية، في محاولة لبناء تصوّر كامل عن الحياة الاجتماعية التي عاشتها المجتمعات القديمة، مجتمعات ما قبل التاريخ. وإذا كان علم الآثار يعتمد – إلى حدّ ما على التاريخ – فإنّه يختلف عن علم التاريخ في أنّه لا يدرس المراحل الحضارية المؤرّخة، وإنّما يدرس تلك الفترات التي عاشها المجتمع الإنساني قبل اختراع الكتابة وتدوين التاريخ.‏
3-علم الثقافات المقارن (الأثنولوجياEthnology) :‏
تعتبر الأثنولوجيا من أقرب العلوم إلى طبيعة الأنثروبولوجيا، بالنظر إلى التداخل الكبير فيما بينهما من حيث دراسة الشعوب وتصنيفها على أساس خصائصها، وميزاتها السلالية والثقافية والاقتصادية، بما في ذلك من عادات ومعتقدات، وأنواع المساكن والملابس، والمثل السائدة لدى هذه الشعوب.‏
ولذلك، تعدّ الأثنولوجيا فرعاً من الأنثروبولوجيا، يختصّ بالبحث والدراسة عن نشأة السلالات البشرية، والأصول الأولى للإنسان. وترجع لفظة (أثنولوجيا) إلى الأصل اليوناني (أثنوس Ethnos) وتعني دراسة الشعوب. ولذلك تدرس الأثنولوجيا، خصائص الشعوب اللغوية و الثقافية والسلالية. (اسماعيل، 1973، ص 460)‏
وتعتمد الأثنولوجيا في تفسير توزيع الشعوب – في الماضي والحاضر – على أنّه نتيجة لتحرّك هذه الشعوب واختلاطها، وانتشار الثقافات التي ترجع إلى كثرة الحوادث المعقّدة، التي بدأت مع ظهور الإنسان منذ مليون (ملايين) من السنين. فهي تبحث، مسألة المصادر التاريخية للشعوب، من أين أتت قبائل الهنود الحمر؟مثلاً، وأي طريق سلكت؟ ومتى احتلّت هذه الشعوب المناطق الموجودة فيها الآن، وكيف؟ ومن أية جهة تسلّلت إلى أمريكا؟ وكيف انتشرت فيها؟ ومتى ظهرت أجناس الهنود الحمر؟ وما هي الميزات اللغوية والملامح الثقافية التي نشرتها ثقافة الهنود الحمر، قبل احتكاكها بالثقافة الأوروبية؟ وغير ذلك ممّا يفيد في الدراسات الوصفيّة المقارنة للمجتمعات الإنسانية وثقافاتها. (رشوان، 1988، ص 81 )‏
وتدخل في ذلك دراسة أصول الثقافات والمناطق الثقافية، وهجرة الثقافات وانتشارها والخصائص النوعية لكلّ منها، دراسة حياة المجتمعات في صورها المختلفة. أي أنّه العلم الذي يبحث في السلالات القديمة وأصولها وأنماط حياتها، كما يبحث في الحياة الحديثة في المجتمعات الحاضرة، وتأثّرها بتلك الأصول القديمة.‏
ولذلك، تعرّف الأثنولوجيا بأنّها : دراسة الثقافة على أسس مقارنة وفي ضوء نظريات وقواعد ثابتة، بقصد استنباط تعميمات عن أصول الثقافات وتطوّرها، وأوجه الاختلاف فيما بينها، وتحليل انتشارها تحليلاً تاريخياً ،( كلوكهون، 1964، ص 31)‏
وتهتمّ النظرية الأثنولوجية بدراسة الثقافة، عن طريق القوانين المقارنة، ولا سيّما مقارنة قوانين الشعوب البدائية، حيث يهتمّ علماء القانون المقارن بدراسة بعض العادات والنظم والقيم والتقاليد، مثل : النسب الأبوي أو الأمومي، سلطة الأب، الحياة الإباحية، الاختلاط الجنسي، وطرائق الزواج المختلفة. (حمدان، 1989، ص 103)‏
ويبحث علم الأثنولوجيا في طرائق حياة المجتمعات التي لا تزال موجودة في عصرنا الحاضر، أو المجتمعات التي يعود تاريخ انقراضها إلى عهد قريب، وتتوافر لدينا عنه سجلاّت تكاد تكون كاملة. فلكلّ مجتمع طريقته الخاصة في الحياة، وهي التي يطلق عليها العلماء الأنثروبولوجيون مصطلح ” الثقافة “. ويعدّ مفهوم الثقافة من أهمّ الأدوات التي يتعامل معها الباحث الأثنولوجي. (لينتون، 1967، ص 25)‏
ومن ميزات الأثنولوجيا، أنّها تعتمد عمليتي التحليل والمقارنة ، فتكون عملية التحليل في دراسة ثقافة واحدة، بينما تكون عملية المقارنة في دراسة ثقافتين أو أكثر. وتدرس الأثنولوجيا الثقافات الحيّة (المعاصرة) والتي يمكن التعرّف إليها بالعيش بين أهلها، كما تدرس الثقافات المنقرضة (البائدة) بواسطة مخلّفاتها الأثرية المكتوبة والوثائق المدوّنة. وتهتمّ إلى جانب ذلك، بدراسة ظاهرة التغيير الثقافي من خلال البحث في تاريخ الثقافات وتطوّرها .( وصفي، 1977، ص 30 )‏
وقد كان هذا الفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية، يلقى اهتماما قليلاً قياساً للفروع الأنثروبولوجية الأخرى، حيث قام بعض علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، بدراسة الطرائق التي تؤثّر من خلالها المفاهيم الاجتماعية المحدودة في سلوك الأشخاص وأمزجتهم، ومعرفة الحياة الإنسانية للشعوب التي ما زالت تحيا حياة بسيطة، ولا سيّما تلك الشعوب التي تعيش في : أستراليا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا، وفي بعض المناطق في آسيا .‏
وكان علماء الأثنولوجيا، وإلى عهد قريب جدّاً، يقصرون أبحاثهم في الظواهر الاجتماعية والإنسانية للمجتمعات الثقافية. وكانوا يعتبرون الفرد كما لو أنّه مجرّد ناقل للثقافة، أو حلقة من سلسلة من الوحدات المتماثلة التي يمكن أن تستبدل الواحدة منها بأخرى. ولكن، وبعد دراسات عديدة، تبيّن لهؤلاء العلماء أن المعايير الشخصيّة، تختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات والثقافات. (ناصر، 1985، ص 66)‏
فمنذ البدايات الأولى لتطوّر الأبحاث الأثنولوجية، والعلماء يحاولون اكتشاف الأسباب التي تجعل مجتمعات معيّنة، تطوّر محاور اهتمام خاصة بها، وتتقبّل أو تنبذ تجديدات مختلفة من النوع الذي يبدو أنّه لا ينطوي على أيّة عوامل نفعية، وكذلك الأسباب التي تجعل الثقافات المتنوّعة تعكس – بصورة منتظمة – اتّجاهات مختلفة في تطوّرها. وساد الاعتقاد حيناً من الزمن أنّ هذه الظاهرات يمكن عزوها إلى وقائع تاريخيّة عارضة، غير أنّ هذه النظرية هي ضرب من الافتراض الجدلي الذي لا يستند إلى أي برهان أو دليل. (لينتون، 1967، ص 32)‏
ويتّفق معظم العلماء على أنّ مصطلح (أثنوجرافيا) يطلق على الدراسة التي تعمد إلى وصف ثقافة ما في مجتمع معيّن، بينما يطلق مصطلح (أثنولوجيا) على الدراسات التي تجمع بين الوصف والمقارنة. فالأثنولوجي يهدف من تلك المقارنات الوصول إلى قوانين عامة للعادات الإنسانية، ولظاهرة التغيير الثقافي وآثار الاتصال بين الثقافات المختلفة، كما يهدف الأثنولوجي أيضاً إلى تصنيف الثقافات ضمن مجموعات أو أشكال، على أساس مقاييس (معايير) معيّنة. (وصفي، 1971، ص 25)‏
وهذا يعني أنّ الأهداف النهائية للعالِم الأثنولوجي، هي في الأساس، مماثلة لأهداف عالِم الاجتماع وعالِم الاقتصاد .. فكلّ عالم من هؤلاء، يحاول أن يفهم كيف تعمل المجتمعات والثقافات؟ وكيف ولماذا تتغيّر الثقافات؟ كما يحاول أن يتوصّل إلى تعميمات معيّنة، أو ” قوانين ” بحسب المصطلح الدارج للمفهوم، لتساعده في التنبّؤ باتّجاه سير الأحداث، بقصد التحكّم به في النهاية. (لينتون، 1967، ص 27 )‏
فإذا كان القول بأنّ الأثنولوجيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة رأسية، أي دراسة مقارنة زمانية تاريخية لثقافات الماضي، مع متابعة دراسة تلك الثقافات وتطوّرها ومقارنتها عبر التاريخ، فإنّ الأثنوجرافيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة أفقية محدّدة المكان، وهكذا تكون الأثنولوجيا دراسة مقارنة في الزمان، بينما تكون الأثنوجرافيا دراسة مقارنة في المكان. (اسماعيل، 1973،‏
ص 26)‏
وكان من نتائج الاحتكاك بين علم الاجتماع وعلم الأثنولوجيا، أن تزوّد علم الاجتماع بأساليب جديدة ثبت أنّها ذات قيمة خاصة للباحث الاجتماعي، الذي يعنى بدراسة المجتمعات الحديثة الصغيرة. أضف إلى ذلك، أنّ الاحتكاك بين العلمين وسّع مجال علم الاجتماع، وأدّى بالتالي إلى تغيّر بعض صيغه النظرية. (لينتون، 1967، ص 32 )‏
لقد تبلورت الأثنولوجيا بعد الحرب العالمية الثانية ، وشكّلت ما يمكن الإشارة إليه بالأنثروبولوجيا المعاصرة. وساعد على هذا الاتجاه ودعمه، ازدياد عدد الأنثوبولوجيين في البلدان النامية، بعد إن كانت هذه المهنة وقفاً على الباحثين الغربيين. ولم تعد الأثنولوجيا تقصر مجال دراستها على المجتمعات الصغيرة الحجم، أو المحليّة ذات الثقافات غير الغربية، وإنّما اتجهت لتوسيع مجالها بحيث تشمل الثقافات والمجتمعات كلّها، وعلى اختلاف حجمها وموقعها. (فهيم، 1986، ص 36)‏
غير أنّ هذا التنوّع الذي اتصفت به الأثنولوجيا في القرن العشرين، أدّى إلى حدوث بعض التضارب في الدراسات، وهذا ما أفقدها الكثير من الاستقرار الأكاديمي، علاوة على تمسّكها بالنواحي المنهجيّة أكثر من توصّلها إلى نظريات علمية، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول كيفيّة دراسة الثقافات الإنسانية وعلميّتها، وصلتها بقضايا الإنسان المعاصر‏

المصـادر:
– أبو زيد، حامد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلّـة العربي، الكويت .‏
– اسماعيل، قباري محمد (1973) الأنثروبولوجيا العامة، منشأة المعارف بالاسكندرية .‏
– بيلز، رالف ؛ هويجرا، هاري (1977) مقدّمة في الأنثروبولوجيا العامة، ترجمة : محمد الجوهري وآخرون، دار النهضة المصرية، القاهرة .‏
– حمدان، محمد زياد (1989) الثقافات الاجتماعية المعاصرة، دار التربية الحديثة، عمّان .‏
– رشوان، حسين عبد الحميد (1988) الأنثروبولوجيا في المجال النظري، الاسكندرية .‏
– زرقانة، ابراهيم (1958) الأنثروبولوجيا، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة .‏
– ستروس، كلود ليفي (1977) الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة : مصطفى صالح، وزارة الثقافة، دمشق .‏
– فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا – فصول في تاريخ الإنسان، عالم المعرفة (198)، الكويت .‏
– كلوكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : شاكر سليم، بغداد .‏
– لبيب، الطاهر (1987) سوسيولوجية الثقافة، دار الحوار، اللاذقية .‏
– لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .‏
– ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الإنسان الثقافي -، عمّان.‏
– هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الثقافية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .‏
– وصفي، عاطف (1971) الأنثروبولوجيا الثقافية، دار النهضة العربية، بيروت.‏
– وصفي، عاطف (1977) الثقافة والشخصيّة، دار المعارف بمصر.‏
– Barnouw , V. (1972) Cultural Anthropology , Home wood Illinois, Irwen Inc .‏

لماذا الفلسفة ؟ ـ يوسف أبو علفه

اتفاس نت



إذا ما كانت الفلسفة تقوم على جزء كبير من تاريخ الفكر والمعرفة و تضطلع بالأسئلة الكبرى التي يطرحها الوعي على نفسه أو يتلقاها ‘ فإنها وفي الحين الذي تطرح فيه نفسها كمعرفة نظرية تقارب حقيقة الأشياء والموضوعات من خلال التأمل والمفهوم ‘ و تحاول الوقوف على الأسئلة المتعلقة بـــ" الله والنفس والعالم " أي الأسئلة الميتافيزيقية التي كان يراها ( كانط ) متأصلة في الطبيعية البشرية ‘ وبقدر ما تسهم به من معرفة تبين حقيقة وعمق الروح الإنسانية ‘ فإننا نجدها تثير في الوقت ذاته السؤال والاستفهام حول نفسها ‘ وذلك ابتداء من تلك اللفظة الإغريقية المركبة " فيلو صوفيا " التي تفيد محبة الحكمة و يراها ( أفلاطون ) لفظة ( غامضة جداً )  من حيث الأصل والاشتقاق ‘[1] وصولاً إلى الزمن الذي انبثقت فيه لحظة التفلسف والفلسفة من حيث هي بالتعريف الأفلاطوني لحظة لنشاط معرفي متميز ومختلف , وليس انتهاءاً بالوقوف على السؤال المتعلق بأهمية الفلسفة التي سيبنها " أرسطو " في كتابه "  البرترويبتقيوس  " من خلال محاولة الإجابة على السؤالين الآتين : هل من واجب الإنسان أن يتفلسف ؟ وهل لنا أن نهب أنفسنا للفلسفة ؟ [2] هذين السؤالين اللذين سيخص بهم " أرسطو "  الشباب المقبلين على حياة التأمل والفلسفة والذي أراد من خلالهما أن يبين لهم ضرورتهما وما تنطوي عليه من عظيم خير ومنفعة سيوجهان بحث " أرسطو " في دعوته للفلسفة التي يقول فيها : إنها وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصر المعصوم (من الخطأ ) الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع . [3]
وهو إذ يتوافق في ذا و رؤية ( أفلاطون ) في التبصر الحكيم الذي يجعلنا نمعن عقلنا في الوجود . فإنه يختلف وإياه فيما يتعلق بمسألة الإمكان النظري الذي تنطوي عليه الفلسفة والذي من وجهة نظر " أرسطو  " يجعلنا في إحدى صوره وأشكاله نتشبه بالإلهي أو نقترب من حقيقته  " فالعقل وملكة التفكير . ويبدو أنه وحده الخالد ‘ وهو وحده الإلهي من كل ما ينطوي عليه كياننا [4] يجعلنا ندرك تلك الغائية التي ينطبع بها وجودنا وتنطبع بها ذواتنا ‘ وهو ما يجعلنا أيضا ندرك علة العلل أي ( الله ) الذي سيخصه وحده أفلاطون " بالصوفيا " دون البشر العاجزين عنها ‘ وقادرين بالرغم من ذلك على " الفيلوصوفيا " أي قادرين لا على بلوغ ما تعنيه كلمة " صوفيا " وإنما التمرس على نيل شئ منها ‘ إذا سمحت الإلهة بذلك ولكن دون بلوغنا مرتبتهم [5]  وفي مخالفة " الفيلو - صوفيا "   لــ " الفيلو- سوماتوس - philo- somitas  ‘ والــ " فيلو – إيدونوس - philo-edones  والــ فيلو – نيكوس -  philo-nikosأي الألفاظ التي تترجم إلى محبة المال والجسد واللذة[6] سيثبت أفلاطون معنى الفلسفة من حيث هي ممارسة جدلية تبتغي إيصال الفكر إلى عالم المُثل المفارق لعالمنا المادي والذي يمثل وحده عالم الحقيقة ‘ حيث ستكتسب المُثل المفارقة للعالم المادي وحدها صورة الحقيقة التي تحاكيها المحسوسات ‘  فالمحسوسات تقترب من المثال ‘ أو تحاكي المثال ‘ وهي أدنى منه مرتبة ‘ وأبعد عن الحقيقة التي سينظر إليها  " أفلاطون " على أنها كشفاً شخصياً ومعرفة بالنفس من يبلغها لن يقوى على التعبير عنها بالألفاظ [7] أو حتى الكتابة التي يراها تناقض الذاكرة ‘ لا ذاكرة الحفظ والتعلم ‘ فالفيلسوف لا يتلقى معاني الحكمة ويحفظها بل يعايشها في داخله ‘ وإنما ذاكرة العالم الذي تلقينا فيه حقائق الأشياء لأول مرة و قد سبق الولادة ؛ أي ولادتنا نحن الذين إذ نتلقى المعرفة لا نفعل أكثر منه إعادة تذكرها والاقتراب منها لحظة أن نبصر المحسوسات فنتذكر المُثل وعالم الحقائق الذي عرفانه سابقاً وقبل ولادتنا " وإذ افترضت أننا فقدنا ‘ ونحن نولد ‘ ما كنا حاصلين عليه قبل الميلاد ‘ فإننا بعد أن نستخدم حواسنا مع تلك الأشياء نستعيد العلوم التي كنا حاصلين عليها بالفعل من قبل " [8] تلك الصورة التي سيرسمها " أفلاطون "  للمحسوسات وجدل علاقاتها بالمُثل من حيث هي علاقة تقوم على " المحاكاة  أو المشاركة أو الانفصال " والتي تتغاير وتختلف بحسب تغير رؤية أفلاطون للمُثل ذاتها ‘ لا تجعلنا نفترض أن التصور الأفلاطوني للحقيقة سيقوم على إدراكنا الحقيقة بواسطة المعرفة – التذكر الذي يقربنا من حقيقة عالم المُثل ‘ بل هو تمرين على الموت ما يراه " أفلاطون "  تضلع به الفلسفة ليجعلنا أمام تلك الحقيقة المفارقة . أو الحقيقة التي تقاربها مختلف أنساق الفلسفة انطلاقاً مما تحمله وتتوفر عليه من معرفة هي بلا شك  جزء من زمانها ومن الزمان الذي يرى فيه " هيغل " معين الحاجة إلى الفلسفة " التي تبعث حين تزول القدرة على التوحيد وتمحي من حياة البشر [9] فالفلسفة التي لا تطرأ في الزمان كيفما اتفق وإنما تنجم بضرورة تاريخية متى تبلغ ثقافة العصر – في وجوهها كلها – حدا من التمزق والانفصام فترتفع عنها إمكانات الوحدة والالتئام كلها [10] يقاربها " هيغل " من حيث هي ترمي الوصول إلى المطلق الذي يحرر الوعي من التقييدات ومن مختلف المفاهيم المتقابلة التي على " شاكلة الروح والمادة ‘ النفس والجسد ‘ النقل والعقل ‘ الحرية والضرورة ‘ وما سواها من المتقابلات الخاصة بمجالات أكثر تحديداً ‘ فإنما باتت مع نمو الثقافة على شاكلة المقابلة بين العقل والحاسة ‘ والفاهمة والطبيعية ‘ أو لنقل تبعا للمفهوم الكلي مقابلة الذاتية المطلقة والموضوعية المطلقة " [11] التي لا تُظهر حقيقة الوعي والحياة التي هي آصرة المتقابلات والمطلوب الأوحد للفلسفة ‘ التي وإذ تقتفي أثر المطلق فإن شرطها الأساس يبقى هو النظر التأملي والتفكر الفلسفي بوصفه يقوم  " عقلاً " في مقابل " الذهن " من حيث هو يسلك فقط مسلك التحديد والتقييد ويثبت على الأطراف التي يضعها ويرسخها أطرافاً متقابلة بإطلاق [1] يريد العقل أن يتجاوزها وهو يستوضع نفسه ضد الثبيت المطلق للانفصام الذي يكون بذهنِ  [13] وهو – أي العقل -  إذ يلقى الوعي في الجزئيات على تردد ونكول لا يرتفع إلى النظر التأملي إلا من حيث يرتفع بذاته إلى ذاته [14] التي تسعى إلى ادرك المطلق عبر – الديالكتيك -  الذي هو من طبيعتها  " فالعقل الذي يتعرف إلى نفسه في الفلسفة لا ينشغل إلا بنفسه ‘ فجملة أثره وفعله إنما تكمن فيه في حد ذاته ‘ ولو نظرنا في الماهية الجوانية التي للفلسفة ‘ لبان أن ليس فيها لا سلف ولا خلف " [15] حيث تقوم على معنى المناظرة المنطقية للفلسفة ‘ التي تاريخها من تاريخية العقل نفسه [16]  والتي تدنو فيها انساق الفلسفة من بعضها البعض وتتواشج ‘ فالروح الحي الذي يسكن فلسفة ما يقتضي في انكشافه أن يولد عبر روح شقيق [17] يبين الحوار بينهما الأصل المشترك الذي يجمعهما بمختلف أنساق الفلسفة ‘ و التي لا يراها " هيغل " حقه إلا بمقدار ما تتمثل العقل الديالكتيكي وتتكشفه . تلك المناظرة الحوارية -  المنطقية التي يجعلها " هيغل " من طبيعية النسق الفلسفي الذي لا يقوم منفرداً وخاص  – حيث أنه لا يستقيم القول بآراء خاصة بالفلسفة [18] وإذ كانت تجعلنا ننكشف على حقيقة العقل الذي يفصح عن نفسه في الوجود و الحياة ‘ هي أيضاً تدخلنا في تاريخ الفلسفة الذي يظهر فيه الفلاسفة العظام وهم  يتحاورون حوار عقلياً مستمراً عبر الآلاف السنين ‘ ويحيون في مجال مشترك لا يقتصر على كونه مجال التفكير العقلي الذي يتطور فيه الإنسان ويتقدم ‘ ولا يقف عند حد المجال الذي يتجسد فيه نموذج إنسان فريد . انه مجال الفلسفة الخالدة الذي يخلق التعاون المشترك ‘ ويوحد الأطراف المتباعدة " [19] ويسعى فيه الفلاسفة إلى الكشف عن الحقيقة التي يتمثلها كل منهم انطلاقاً من واقع وتاريخ المعرفة ‘ ومن الزمان الذي ينطوي على ذلك الإمكان اللانهائي للذات ووعيها ‘ إحساسها العميق بذلك الكلي الذي لا يحضر كمقولة مجردة ‘ بل هو يتجلى في أفق الوجود دون أن يحده علم أو تحده معرفة  " فهناك عالم يمثل كل ما هو  دقيق ويمكن أن يتحقق فيه التقدم إلى ما لا نهاية ‘ وتتسع فيه المعارف بصورة مستمرة ‘ ويتم توصيلها إلى أفاهم الناس جميعاً ‘ ونقلها من حضارة إلى أخرى بغير تغيير . ويضم هذا العالم قدرا هائلاً من المعارف المحددة التي يمكن البرهنة على صحة محتواها ‘ كما يتفق الإجماع العام على الاعتراف بنتائجها . غير أن هذا العالم ليس هو كل العالم . فعالم المعارف الدقيقة أو الضرورية يفتقر قبل كل شئ إلى الكلية . ونحن نستطيع أن نميز فيه جوانب جزئية ‘ ولكننا لا نميز الكل أبداً ‘ اللهم إلا إذا كان كلاً نسبياً في علاقته بكل أخر ‘ لا الكل ذاته وبصورة مطلقة . أضف إلى هذا أننا لا ندرك في هذا العالم إلا بعض الوقائع الموضوعية المحددة ‘ في حين يوجد خارجها شئ  أخر مختلف عنها ‘ واقصد به الذات التي تعرفها ‘ بجانب موضوعات أخرى ترتبط في علاقة معها . ثم إن هذا العالم يفتقر كذلك إلى قيمة مطلقة تهمُ وجودنا الحميم . ذلك لأنه لا يقدم أي إجابة عن الأسئلة المتعلقة بحقيقتنا الذاتية أو كينونتنا الخاصة  [20] التي ليس من شأن المعرفة التجريبية ومنهجها المعتد بذاته أن يبين حقيقتها أو بتعبير أدق ليس بإمكانه أن يظهر حقيقتها و حقيقة الوجود الذي كان يراه " هيدغر " يلتفه الغموض . لذا فان الفلسفة التي ما انفكت تعنى / ترعى سؤال الوجود والموجود ‘ والتي هي من وجهة نظر " دلتاي " تتكفل بمسألة الفهم الضارب في تراث وتاريخ الإنسانية وتتجاوز المنهج لصالح الفهم الكلي . ليس يسوغ وجودها / وجوبها أكثر منه ماهيته وإضلاعها بتلك الأسئلة والمفاهيم التي تعين الإنسان على تدبر ووعي وجوده بمختلف الصور والأشكال الذي يظهر فيها .



هوامش المقال : 

* يوسف أبو علفه – كاتب فلسطيني

- 1 الطيب بوعزة ‘ في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة ‘ الناشرون : مركز نماء للبحوث والدراسات ‘ بيروت ‘ ط  1 ‘ التاريخ 2012 ‘   ص [40]
2 – أرسطو : دعوة للفلسفة ‘ تقديم  وتعليق ‘ عبد الغفار مكاوي ‘ الناشرون : دار التنوير ‘ بيروت ‘ ط ‘ بدون ‘ التاريخ ‘ بدون ‘ ص [34]
3 – أرسطو ، نفس المرجع ‘ ص [35 ]
4 – أرسطو ‘  نفس المرجع ‘ ص [72]
5 – محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي ‘  التفكير الفلسفي ‘ الناشرون : دار توبقال للنشر ‘ الدار البيضاء ‘ ط ‘ 3 ‘ التاريخ 2008  ‘ ص [ 12 ]
6- الطيب بوعزة ، نفس المرجع ‘ ص [53 ]
7 – احمد فؤاد الأهواني ‘ أفلاطون ‘ الناشرون : دار المعارف ‘  القاهرة ‘ ط ‘ 4 ‘ التاريخ ‘ بدون ‘ ص [   111]

8 – أفلاطون ‘ فيدون ‘ ترجمة وتقديم ‘ عزت قرني ‘ الناشرون : دار قباء ‘ القاهرة ‘ ط ‘ 3 ‘ التاريخ ‘ 2001 ‘ ص [151 ]
9 -  هيغل ‘ في الفرق بين نسق فشته ونسق شلنغ في الفلسفة ‘ ترجمة وتقديم ‘ ناجي العونلي ‘ الناشرون : المنظمة العربية للترجمة ‘ بيروت ‘ ط ‘1‘ التاريخ 2007 ‘ ص [ 127]
10 –  هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص  [65  ] 
11 -  هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [127]
12 – هيغل ‘  نفس المرجع ‘ ص [131]
13 – هيغل ‘  نفس المرجع ‘ ص [127]
14 -  هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [124]
15 -  هيغل ‘ نفس المرجع ‘ ص [122]
16 - هيغل ‘  نفس المرجع ‘ ص [122]
17 - هيغل ‘  نفس المرجع ‘ ص [120 ]
18 - هيغل ‘  نفس المرجع ‘ ص [122]
19 – كارل ياسبرز ‘ تاريخ الفلسفة بنظرة علمية ‘ ترجمة ‘ عبد الغفار مكاوي ‘ الناشرون : دار التنوير ‘ بيروت ‘ ط ‘ بدون‘ التاريخ ‘ 2007 ‘ ص [49]                  
20 – كارل ياسبرز ‘ نفس المرجع [45]

الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

ماذا تعني الميثولوجيا ؟


عن المكتبة العامة

الميثولوجيا Mythologie (أو علم الأساطير) أحد العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تولي اهتمامها بقضايا الإنسان وتاريخه، وتولي اهتمامها الأول بدراسة الأسطورةوتفسيرها بوصفها ظاهرة ثقافية اجتماعية شديدة التعقيد، وتعتمد في تحليلها على وجهات نظر ورؤى متباينة تختلف باختلاف الفلسفات الاجتماعية السائدة في عصر من العصور.
إن الأسطورة بصورة عامة رواية ممتلئة بالرموز والدلالات الثقافية التي ترمي إلى تفسير جملة من الظواهر الاجتماعية، وهي تحاول تفسير ظهور العالم والخلق والإنسان والحيوان والعادات والتقاليد التي يعيشها الناس، كما أنها تحاول تفسير الأصول التاريخية للنشاطات الإنسانية والعقائد والأفكار.
وقد تستمد الأسطورة قسطاً من عناصرها من التاريخ الحقيقي المدوّن للمجتمع، ومن الخصائص الطبيعية المكانية التي يعيش فيها الناس، مما يجعل للأسطورة صلة وثيقة بالتاريخ مع احتفاظها بخصوصياتها التي تميزها منه، بانطوائها على عناصر خارجة من الزمن والمكان؛ على خلاف الحدث التاريخي الذي يقيده حدود المكان، وتحدده مسارات الزمان.
وفي حين تلج الرواية التاريخية إلى وعي الناس من خلال عقولهم وتفكيرهم النقدي ومناقشتهم تفاصيلها؛ مما يجعلها قابلة للنقد والأخذ والرد؛ يلاحظ أن الناس تتقبلالأسطورة بقدر كبير من التسليم الإيماني الذي يجعلها أمراً مسلماً به على نحو مطلق، وفي حين يحاول الناس فهم الحدث التاريخي من خلال ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعيشون فيها؛ يحاولون فهم الواقع بأجزائه وتفاصيله من خلال المعاني والرموز التي تنطوي عليها الأسطورة، فهي أقوى في معانيها ودلالاتها من الحدث التاريخي، وقد يسقط المرء فهمه للحدث التاريخي وللواقع المعاصر من خلال ما تنطوي عليه الأساطير من دلالات ورموز ثقافية.
وارتباط الأسطورة بالمقدس غالباً ما يكون أكبر من ارتباطها بالواقع مع عدم إغفال الصلة بينهما والتي بفضلها تفهم العقائد والشعائر والطقوس المكونة للثقافة فيالمجتمع، فصلة الآلهة بالطبيعة والإنسان والمجتمع، وتفسير آلية الخلق أكبر من أن تحدّ بزمان أو مكان؛ ولهذا تخرج عن حدودهما، ولكن الأسطورة تعود؛ لتنهل منهما بعض عناصرها؛ لتصبح أقرب إلى وعي الناس وفهمهم، فتسبغ على ذاتها القدسية التي تجعلها خارجة عن حدود النقد أو الرفض، وغالباً ما تنطوي على عناصر الثواب والعقاب التي تجعل منها أكثر قوة وتماسكاً.
وتشترك الأسطورة مع كل من الحكاية [ر] والخرافة وغيرهما من المفاهيم المشابهة لها في بعض الوجوه، وتختلف عنها في وجوه أخرى، ذلك أن هذه الأنماط من الإنتاج الفكري الإنساني لا تنطوي بالضرورة على ما هو مقدس، فالحكاية قد تروي قصص أبطال مغامرين ومتفوقين على غيرهم من الجنس البشري دون أن يتصفوا بالقداسة بالضرورة، كما هي الحال في الحكاية التي تحمل في مكوناتها قدراً من الأماني والرغبات التي يتطلع إليها الناس، وتستلهم من الوقائع التاريخية بعض عناصرها بعد تضخيم عناصرها الأخرى، كما هي الحال في الحكايات المروية عن أبطال الخير والشر والدفاع عن الإنسان وحقوقه وما شابهها، أما الخرافة فهي الرواية التي تفتقر إلى الحدود الدنيا من الواقعية والصدق، وتأتي كلها أو الجزء الكبير منها من صنع الخيال الإنساني.
ويعود الاهتمام بدراسة الأسطورة وفهمها من الناحية العلمية بوصفها نتاجاً للفكر الإنساني إلى القرن الثامن عشر؛ مع الفيلسوف الإيطالي جامباتستا فيكوGiambattista Vico ت(1668ـ1744) الذي أخذ بدراسة الأسطورة في ضوء الوقائع التاريخية، وكان له الفضل في إظهار دور الفكر الإنساني في إنتاج التصورات وأهمية الخيال البشري في صنع الأساطير. وفي القرن الثامن عشر ظهرت مجموعة من الأعمال التي حاولت دراسة الآداب والفنون في ضوء تطور الأسطورة ذاتها لدى كل شعب من الشعوب الإنسانية، ومن أكثر الأعمال شهرة في هذا السياق ما قدمه كل من فريدريش ماكس مولر [ر]Friedrich Max Mullerت(1823ـ1900) الذي وجد أن الأسطورة ما هي إلا نموذج لتطور اللغة تاريخياً، وميشيل بريَل  Michel Bréalت(1882ـ1915) الذي أولى اهتماماً كبيراً بعلم المعاني والدلالات التي تنطوي عليها تعابير اللغة بما فيها المعاني والدلالات التي تحملهاالأسطورة، ويأتي ذلك في سياق ربط الأسطورة باللغويات.
غير أن دراسة الأسطورة في سياقها الاجتماعي والتطوري انتشرت انتشاراً واضحاً في أعمال مجموعة من علماء الأنثروبولوجيا، كما في أعمال جيمس جورج فريزر [ر] Sir James George Frazer ت(1854ـ1941) الذي ميز بين ثلاث مراحل أساسية في تطور الفكر الإنساني؛ أولها السحر، ثم الدين، وأخيراً العلم، واهتم خصوصاً بدراسة الأسطورة والدين والأساطير البدائية، ويمضي عالم الاجتماع الفرنسي لوسيان ليفي برول Lucien Levy-Bruhl ت(1857ـ1939) في المسار ذاته عندما يجد أن الأسطورة تعكس نمط التفكير البدائي للإنسان؛ وأنها تعدّ مرحلة تاريخية مهمّة من مراحل تطوره.
كما يأخذ مارسيل موس Marcel Mauss ت(1872ـ1950) بمعالجة الأسطورة في سياق وظيفتها الاجتماعية معتمداً في ذلك على نظرية عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايمÉmile Durkheim ت(1858ـ1917) الذي جعل من الوظائف التي تؤديها الظواهر مدخلاً أساسياً لدراستها، ويمضي في الاتجاه ذاته الأنثروبولوجي البريطاني برونيسلاڤ وكاسبر مالينوفسكي  Bronislaw Kasper Malinowskiت(1884ـ1942) الذي وجد أنه لا يمكن فهمالأسطورة إلا في ضوء ما تؤديه من وظائف اجتماعية تسهم في تحقيق قدر كبير من التوازن في التفكير والتفاعل مع المتغيرات البيئية بصورة عامة، وبوساطة الفهم الوظيفي يمكن تحليل العادات والتقاليد والقيم والأفكار التي تنتشر في المجتمعات الإنسانية التي تختلف بين بعضها بعضاً باختلاف الخصوصيات الثقافية والحضارية لكل منها.
كما يعدّ عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس [ر] Claude Levi-Strauss واحداً من أبرز علماء الميثولوجيا؛ إذ استحوذت الأسطورة في نظريته على موقع أساسي ومهمّ، فهي من حيث المبدأ ذات وظيفة حيوية بالنسبة إلى كل ثقافة، وما من شعب من شعوب العالم إلا وفيه من الأساطير التي تحمل في مضامينها جملة واسعة من القيم والمعايير والمبادئ التي تؤدي وظائف حيوية بالنسبة إلى الحاضر، فقوةالأسطورة لا تأتي فقط من الماضي الذي نشأت فيه، وتناقلها الناس فيما بعد، إنما تكمن فيما تؤديه اليوم من وظائف حيوية بالنسبة إلى الجماعات في حياتها المعاصرة، فشأنها شأن اللغة في تاريخ الشعوب، فإذا كانت اللغة قد نشأت؛ وتطورت عبر مراحل زمنية موغلة في القدم، فإن أهميتها لا تأتي من الماضي الذي تشكلت فيه بقدر ما تأتي قيمتها من الوظائف التي تؤديها في الواقع المعاصر.
ويمضي شتراوس في دراسته الأسطورة معتمداً على نظريته في التحليل البنيوي، فهي أي الأسطورة من حيث المبدأ عنصر أساسي من عناصر الثقافة، ومكون رئيس من مكوناتها، ومن ثمّ فإن أيّ تحليل لثقافة المجتمع يتطلب بالضرورة تحليل بنية الأسطورةفيه التي قد تأتي على شكل عقائد أو فنون أو حكايات شعبية تفسر قدراً كبيراً من أنماط السلوك اليومي التي يعيشها الناس وجملة من العادات والتقاليد التي استقر عليها المجتمع، وهي تعزز بوساطة عملية التنشئة جملة المعايير الضابطة للسلوك الاجتماعي.
وإذا كانت الأسطورة تبدو من حيث الشكل خالية من التماسك المنطقي في تسلسل أحداثها، من حيث الزمن والمكان إلا أنها من حيث النتيجة تعدّ ميداناً لجملة من العمليات المنطقية اللاشعورية التي يمكن استخلاصها من الرؤية الإجمالية لبنيتها العامة على مستوى الثقافة الواحدة وعلى مستوى الثقافات المتعددة، ذلك أن قيمة العناصر المكونة للأسطورة لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقها العام، وكل محاولة لفهم هذه العناصر وهي منعزلة عن بعضها يفقد الأسطورة قدراً كبيراً من المعاني التي تحملها، وتنطوي عليها؛ ومن ثمّ تبدو الأسطورة بهذا المعنى خالية من الدلالات والمعاني. وقد دفع هذا النمط من التحليل بليفي شتراوس إلى دراسة أنماط متعددة من الأساطير في الثقافة الواحدة؛ وفي الثقافات المتعددة.
وبالنظر إلى ارتباط الأسطورة التي تعدّ الموضوع الرئيس للميثولوجيا، بمجالات أخرى كالدين والآداب والفنون وعلوم التاريخ والاجتماع والنفس وغيرها…؛ فإن اهتمامات الميثولوجيا ـ بوصفها علماً من العلوم الاجتماعية ـ أخذت تمتد إلى كل تلك الميادين، وعالم الميثولوجيا بهذا المعنى يهتم بكل هذه الميادين والمجالات؛ لأنها تقدم له ما يفيده في فهم الأسطورة وتحليلها ودراستها، فيبدو ارتباطها قوياً بالدين تارة؛ وبالآداب والفنون تارة أخرى؛ وبعلوم التاريخ والاجتماع والنفس تارة ثالثة.

الأحد، 14 أغسطس 2016

ما هي الإبستيمولوجية ؟



المكتبة العامة

الإبستيمولوجية epistemology مصطلح ذو أصل إغريقي مؤلف من كلمتين:epistemo وتعني المعرفة و logos وتعني علم. ويعني المصطلح حرفياً علم المعرفة أو علم العلم.
     وكان أول من وضع هذا المصطلح الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيرييه (1808 – 1864) حين ألف كتابه مبادئ الميتافيزيقا. إذ قسم الفلسفة فيه إلى قسمين: أنطولوجية [ر] وإبستيمولوجية.
     أما المعنى المعاصر لمصطلح إبستيمولوجية في الفلسفة العربية والفرنسية فهو: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية.
     ومع أن مفهوم «العلم» حاضر في تاريخ الفلسفة، ولاسيما عند أفلاطون وأرسطو وديكارت ولوك وليبتنز [ر] فإن الإبستيمولوجية بوصفها مبحثاً مستقلاً موضوعه المعرفة العلمية، لم تنشأ إلا في مطلع القرن العشرين حين اتجهت إلى تحديد الأسس التي يرتكز عليها العلم، والخطوات التي يتألف منها، وإلى نقد العلوم والعودة إلى مبادئها العميقة. وذلك بتأثير التقدم السريع للعلم، والاتجاه نحو التخصص المتزايد، وما ولدّه ذلك من تغيّر في بنية منظومة العلوم، ومن صعوبات وإشكالات ذات طبيعة نظرية.
     والإبستيمولوجية بوصفها الدراسة النقدية للعلم تختلف عن نظرية المعرفة [ر].
     ففي حين تتناول نظرية المعرفة théorie de la connaissance عملية تكون المعرفة الإنسانية من حيث طبيعتها وقيمتها وحدودها وعلاقتها بالواقع، وتبرز – بنتيجة هذا التناول – اتجاهات اختبارية وعقلانية ومادية ومثالية، فإن موضوع الإبستيمولوجية ينحصر في دراسة المعرفة العلمية فقط.
     وإذا كانت الإجابات التي تقدمها نظرية المعرفة «إطلاقية» وعامة وشاملة، فإن الإبستيمولوجية تدرس المعرفة العلمية في وضع محدد تاريخياً، من دون أن تنزع نحو إجابات مطلقة.
     بل ترى الإبستيمولوجية في التعميمات الفلسفية لنظرية المعرفة عائقاً أمام تطور المعرفة العلمية. ذلك أن التصورات الزائفة عن المعرفة تؤثر سلبياً في مجال المعرفة العلمية، وخاصة حين تضع حدوداً للعلم.
فالإبستيمولوجية ليست استمراراً لنظرية المعرفة في الفلسفة بل هي تغير كيفي في النظر إلى علاقة الفلسفة بالعلم، وتجاوز للتناقض بين نظرية المعرفة والعلم.
     وليس هذا فحسب، بل إن الإبستيمولوجية أتت على ما كان يعرف بفلسفة العلم philosophy of science التي تولدت من علاقة الفلسفة بالعلم وتناولت جملة موضوعات أهمها علاقة العلم بالمجتمع وتأثيره في تكوّن النظرة الفلسفية إلى الطبيعة والكون.
     أما من حيث الاختلاف بين الإبستيمولوجية ومنطق العلم [ر] logic of science، فإن منطق العلم أقرب المباحث إلى الإبستيمولوجية. ذلك لأنه يحلل لغة العلم تحليلاً منطقياً. ويبحث في مناهج الكشف العلمي ومنطقه، لكن أنصاره يقطعون كل صلة بينه وبين الفلسفة.
     وإذا كانت الإبستيمولوجية مبحثاً موضوعه المعرفة العلمية، وهدفه التحليل النقدي لها، فما هي مشكلات العلم التي تتطلب تدخلاً إبستيمولوجياً؟
     تعد مشكلة المسار الذي تسلكه المعرفة العلمية واحدة من أهم مشكلات الإبستيمولوجية.
     ولقد انقسم الإبستيمولوجيون – في النظر إلى هذه المشكلة – إلى فريقين: فريق نظر إلى مسار العلم على أنه سيرورة متصلة مستمرة لا انقطاع فيها ولا انفصال.
      وفريق آخر رأى أن مسار العلم مسار انقطاع واضطرابات وأزمات وثورات.
     ويعد إميل ميرسون Emil Meyerson وليون برنشفيك Léon Brunschvicg أهم دعاة الاتجاه الذي يقول بالاستمرارية. والمعرفة العلمية – من وجهة نظر هذا الاتجاه – استمرار وتطور للمعرفة العادية. كما أن كل معرفة علمية جديدة هي استمرار للمعرفة العلمية السابقة فتاريخ العلم سلسلة يتولد بعضها من بعض. وما التغير الذي يحدث في العلم إلا تغير تدريجي. ويدللون على صحة رأيهم بالتطور التدريجي للمنهجالعلمي وطريقة انتشاره.
     فالمنهج العلمي الاستقرائي الحديث تمتد جذوره في الماضي، وقد تمَّ انتشاره واستيعابه شيئاً فشيئاً عن طريق علماء متخصصين في العلوم الطبيعية ولاسيما في علمالفيزياء.
     أما من حيث لغة العلم، فيرى أنصار الاستمرارية أنها استمرار للغة العامة، مع تميز لغة العلم من هذه الأخيرة بطابعها الرمزي.
     أما الاتجاه الثاني الذي يقول باللااستمرارية وأهم ممثليه غاستون باشلار [ر] وتوماس كوهن Th. Cohn ولوي ألتوسير Louis Althusser وميشيل فوكوFoucault فإنه ينطلق – على العكس من الاتجاه السابق – من أن تاريخ العلم تاريخ قطْعٍ بين المعارف العلمية البالية والمعارف الباقية.
     والذي يفصل بين هذين النمطين من المعرفة العلمية هو مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية.
     ليست المعرفة العلمية امتداداً للمعرفة العامية، بل هي انتقال من التجربة إلى «العقلنة» rationalization ومن الملاحظة المضطربة إلى المعرفة الموضوعية.
     ولو صح أن المعرفة العلمية هي استمرار للمعرفة العامية لصح أن يكون اختراع المصباح الكهربائي استمراراً للمصباح العادي.
     ولكن الأمر ليس على هذا النحو، فاختراع المصباح الكهربائي ثمرة معرفة علمية بالعلاقات بين الظواهر، ودراسة وصلت مرحلة التعبير عن هذه العلاقات بصيغ رياضية.
     كما أن المنهج العلمي ذاته لايقوم على الاستمرارية، فكتاب ديكارت [ر] «مقال في المنهج» لاينطوي اليوم على أي فائدة تذكر في البحث العلمي، كما أن منهج بيكون [ر] الاستقرائي لم يعد صالحاً في تحصيل المعرفة العلمية.
     ولغة العلم – هي الأخرى – تختلف اختلافاً كلياً عن اللغة العادية، فاللغة التي تستخدمها الفيزياء ذات دلالة مختلفة عن اللغة العادية. حتى لو استعارت الفيزياء لغتها من هذه الأخيرة فلكلمة ذرّة في الفيزياء معنى مختلف عن كلمة ذرّة في اللغة العادية.
     ولغة العلم ومناهجه معياران أساسيان في حدوث القطيعة الإبستيمولوجية.
     فلغة العلم لغة متجددة دائماً والعلم صوغ مستمر للمفاهيم والمصطلحات، إلى حد تغدو معه لغة العلم الجديدة مختلفة عن لغة العلم القديمة.
     فلغة المنطق الرمزية عند رَسِلْ مختلفة كلياً عن لغة منطق أرسطو، لأن لغة المنطق الرمزية لاتحتمل أكثر من معنى واحد.
     وقد توصل مؤسسو علم الفيزياء الحديث إلى أن المنهج الاستقرائي [ر] أصبح عاجزاً عن قراءة كتاب الطبيعة، ولهذا عولوا على المنهج الاستنباطي الرياضي [ر]. ولقد توصل نيوتن إلى نظريته في الميكانيك وقانون الجاذبية عن طريق المنهج الاستنباطي وليس عن طريق الاستقراء.
     وإلى جانب مسألة تاريخ العلم تبحث الإبستيمولوجية في مسألة تصنيف العلوم. وهي مسألة عالجتها الفلسفة من قبل، غير أن الإبستيمولوجية رفضت التصنيفالسكوني للعلوم الذي يقوم على أساس تصنيف الملكات الذي يعود إلى أرسطو. إذ صنّفت العلوم وفقاً للملكات عل النحو الآتي:
       1- ملكة العقـل: وتشمل الرياضيات والفيزياء والفلسفة.
    2- ملكة الذاكرة: وتشمل التاريخ والتاريخ الطبيعي.
    3- ملكة الخيال: وتشمل الشعر.
     كما تجاوزت الإبستيمولوجية تصنيف العلوم على أساس الانتقال من أكثر العلوم عمومية وبساطة إلى أكثرها خصوصية وتعقيداً، وهو تصنيف يعود إلى أوغست كونت [ر].
     مع ذلك يتفق الإبستيمولوجيون على تصنيف موحد للعلوم فهناك التصنيف الجدلي للعلوم الذي قدمه الإبستيمولوجي السوفييتي ب. كيدروف الذي يرى أن العلوم ثلاثة أنواع:
     العلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الفلسفية، مقتفياً في ذلك أثر أنغلز [ر].
    ولكنه رأى أن هناك علوماً متوسطة بين العلوم السابقة، فالعلوم التطبيقية: كالزراعة والطب، تقع بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. والرياضيات تقع بين العلوم الطبيعية والعلوم الفلسفية. ويرتبط علم النفس بجميع العلوم الأخرى إذ يرتبط بالعلوم الطبيعية من طريق نظرية النشاط العصبي ويرتبط بالعلوم الاجتماعية عن طريق علم اللغة ويرتبط بالعلوم الفلسفية عن طريق المنطق ونظرية المعرفة. أما الفلسفة فإنها تنفذ إلى جميع العلوم لأنها تمدها بالمنهج العام.
     أما جان بياجيه [ر] فيقسم العلوم إلى مجموعات أربع: العلوم المنطقية الرياضية والعلوم الفيزيائية والعلوم البيولوجية والعلوم النفسية – الاجتماعية ومنها الألسنية وعلم الاقتصاد. وبين هذه العلوم علاقة متبادلة.
     ويقترح فوكو تصنيفاً آخر للعلوم مؤسساً على مجال المعرفة العام ذي الأبعاد الثلاثة:
     البعد الأول: هو العلوم الرياضية والفيزيائية، وهي العلوم التي يقوم نظامها على تسلسل استنباطي للحقائق البدهية أو التي يتم التدليل عليها بالبرهان.
     والبعد الثاني: هو علوم الحياة والاقتصاد واللغة. وهي علوم تدرس ظواهر مستقلة لكنها ترتبط بروابط كليّة، وما يربط بين البعد الأول والثاني هو استخدام الرياضيات.
     البعد الثالث: الفلسفة، يرتبط هذا البعد بالبعد الثاني بتشابه الموضوعات. «الحياة والإنسان والرموز» كما يرتبط بالبعد الأول بإضفاء صفة الصورية على الفكر.
     أما العلوم الإنسانية فلامكان لها في تصنيف كهذا وهذا لايعني أنه لا وجود لها، بل هي موجودة على تخوم العلوم السابقة. فعلم النفس يعتمد على النموذج البيولوجي. ذلك لأنه يدرس كل ما هو امتداد للوظائف البيولوجية، وما يؤدي إلى قيام تمثل لدى الإنسان.
     ويعتمد علم الاجتماع على علم الاقتصاد، لأن موضوعه الإنسان الذي ينتج ويستهلك ويقيم علاقات مع المجتمع الذي يعيش فيه.
     وعلم الآداب والأساطير يجد نموذجه في علم اللغة، ومهما يكن من اختلاف في تصنيف العلوم، فإن هذا التصنيف يهدف إلى تحديد العلاقة المتبادلة بين العلوم، من حيث موضوعاتها ومناهجها. وتحديد أوجه التشابه والاختلاف بين أشكال المعرفة العلمية ومن الصعب تقديم تصنيف تام للعلوم ذلك لأن هناك علوماً جديدة دائماً وانقساماً مستمراً للعلوم القديمة. واكتشافاً لترابطات تنشئ علوماً متوسطة كالكيمياء الحيوية والفيزياء الحيوية والكيمياء الجيولوجية وغيرها.
     وإذا كانت مشكلتا سيرورة العلم وتصنيفه تنتميان إلى تاريخية العلم فإن بنية المعرفة العلمية تطرح – إبستيمولوجياً – مسألة إنتاجها والعلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع وبين العقل العالم ومعطيات الواقع، ليصار إلى تحديد دقيق للواقعة العلمية.
     فالعلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع في المعرفة العلمية علاقة مركبة، فلاوجود لواقعة علمية تُسند إلى معطيات مباشرة فقط من دون مبادئ عقلية، كما أنه لاوجود لمبادئ عقلية من دون معطيات مباشرة.
     ولما كان العلم يهدف إلى تحقيق المعرفة النظرية، فالمعرفة النظرية هي ثمرة العلاقة المركبة بين العقل والطبيعة. وإذا كانت العلاقة بين الذات والموضوع قد فهمت في المراحل المبكرة من تطور العلم على أنها حوار بين الذات، والموضوع المناقض لها، فإن العلم المعاصر قد دلل على تعقيد هذه العلاقة، فالحوار بين الذات والموضوع يجري اليوم بين عقل مسلح بكل المعرفة السابقة والموضوع الذي ركّبه نشاط العالم العقلي.
     ففي الفيزياء والكيمياء المعاصرتين لم تعد ظواهر العالم الخارجي – بوصفها معطيات مباشرة – هي موضوع المعرفة العلمية، بل تلك الموضوعات المعقدة التي نشأت بفعل تركيب دقيق وعميق من قبل العالِم المسلح بتقنية عالية، من دون أن تفقد هذه الموضوعات واقعيتها.
     وقد أصبحت التجربة العلمية، في ضوء ما تقدم صورة للنشاط الاختباري والمنطقي للذات. ولم يعد موضوعها صورة طبق الأصل عن الواقع الموضوعي. إنها ثمرة شروط هي ثمرة تدخل العالِم، وإن تدخل الذات – العالِمة قد طرح مسألة الدور الفاعل للذات في المعرفة العلمية. فالعلم – أساساً – يقوم بوصف علاقات بين متغيرات. والنظريات العلمية لاتنطوي إلا على عدد محدود من المتغيرات، على النقيض من الواقع الذي يحتوي على عدد كبير منها. فالظاهرة يمكن أن تتأثر بعوامل لاحصر لها. ويقتضي وصف الظاهرة ـ علمياً ـ إزاحة جملة من الصفات السطحية غير المهمة. ووضع فرضيات علمية عما هو أساسي وغير أساسي.
     ونتيجة لذلك لم تعد الواقعة العلمية مجرد ظاهرة خاصة، بل هي ثمرة تدخل نشط وفعّال لذات تتصف بالقدرة على التخيّل.
     فكل كشف أو توسع في المعرفة العلمية يبدأ، بوصفه تصوراً خيالياً قبْلياً لما يمكن أن تكون عليه الحقيقة العلمية. ولايمكن فهم عمل الخيال إلا من حيث هو إعمال العقل أو استخدام الحواس.
     غير أن العالِم لايستطيع أن يحوّل حدسه أو خياله إلى إبداع علمي من دون المثابرة العلمية، فيوحد، على نحو أصيل، الحدس والاختبار والموضوعية وسعة الأفق.
     إن الإبستيمولوجية لاتكتفي بتحديد الشروط العلمية لإنتاج المعرفة العلمية. وإنما تسعى – أيضاً – لبحث شروط المعرفة العلمية الاجتماعية. وآلية ذلك أن الاستقلال النسبي للمعرفة العلمية لايفصلها إطلاقاً عن شروط تكونها التاريخية – الاجتماعية، وهذا ما يجعل من مبحث علم اجتماع المعرفة جزءاً لايتجزأ من البحث الإبستيمولوجي.
     فلقد رأى جورج غورفيتش – مثلاً – أن الداروينية تتبنى في علم الحياة مبدأ التنافس في الحياة الرأسمالية.
     كما أن الأبحاث العلمية – لاسيما في العلوم الدقيقة – تكون في ترابط مع الأيديولوجيةوذلك بما تحتاج إليه تلك الأبحاث من مختبرات وأجهزة بحث واختبارات واسعة النطاق، ومؤسسات خاضعة على نحو ما لأهداف قومية.
     ويظل الحكم بوجود اختلاف بين العلم والأيديولوجية صحيحاً، فأحكام العلم أحكام حول حقائق قابلة للإثبات أو الدحض، وذات طابع موضوعي، تحظى بالقبول من العلماء، أما أحكام الأيديولوجية فهي أحكام قيمية، تتعلق بما يجب أن يكون، مع اعتمادها في كثير من الأحيان على حقائق علمية.
     لكن المشكلة التي تطرحها الإبستيمولوجية هي التالية: هل تمثل الأيديولوجية عقبة أمام تطور المعرفة العلمية أم هي حافز من حوافز تطورها؟
     إن العلم ممتزج بالممارسة الأيديولوجية وذلك حين يستعير القول الأيديولوجي ضماناته من النظريات العلمية. أو حين يتكون العلم في حقل الممارسة الأيديولوجية.
     وقد لاحظ كانغلم Canguilhem عندما تساءل عن انبعاث المذهب الحيوي Vitalismفي البيولوجية، أن تصور عودة المذهب الحيوي المتكررة الهجومية والدفاعية، بوصفها مرتبطة بأزمة ثقة المجتمع البرجوازي بنجوع مؤسساته الرأسمالية، ليس تصوراً عديم الجدوى ولا خطأً محضاً. وربما كان انبعاث المذهب الحيوي تعبيراً عن حذر الحياة الدائم تجاه مكننتها.
     وهذا يعني أن الأيديولوجية تقوم بتوجيه النظر العلمي في اتجاه ما، فتتحول إلى محرض لحركة العلم.
وليس هذا فحسب، فإن الأيديولوجية قد تقوم بدور الكابح لتطور بعض العلوم. إذا ما ناقضت نتائج هذه العلوم الترسيمات الأيديولوجية المغلقة. فتأخر علم البيولوجية في الاتحاد السوفييتي سابقاً لم يكن إلا ثمرة التعارض بين القول الأيديولوجي بدور الحياة الاجتماعية والقول العلمي بدور الوراثة.
     ويبقى السؤال مطروحاً: هل يفقد العلم موضوعيته مادام متسماً بسمة أيديولوجية، ومادامت الأيديولوجية عامل إفساد للموضوعية؟
     أن يجد العلم بدايته في وسط أوسع، أي في سياق اجتماعي وأيديولوجي، ووجود علوم سابقة عليه، فذلك لايحكم على شيء من حقيقته أو بطلانه حكماً مسبقاً. كما أن استناد العلم إلى إيحاءات أيديولوجية توجه مساره لايقود إلى عدم الثقة بحقيقته.
     وهذا يعني أنه يجب التفريق بين شروط نشوء العلم وتطوره، ومشكلة الحقيقة في العلوم.
    إن المسائل التي ذكرت. والتي تعالجها الإبستيمولوجية، تجعل القول صحيحاً بأن هناك إبستيمولوجية عامة. موضوعها العلم من دون تمييز العلوم الطبيعية من العلوم الإنسانية.
     واستناداً إلى ذلك، فإن الإبستيمولوجية مع كونه مبحثاً حاز على استقلاله النسبي في السنوات الأخيرة، تظل مبحثاً فلسفياً. خاصة لأنها تسعى إلى صوغ نظرية عامة في المعرفة العلمية. ولا أدل على ذلك من محاولة جان بياجيه إشادة نظرية في التكوين النفسي للعلم.
     ومما يؤكد انتماء الإبستيمولوجية إلى الفلسفة، تحولها إلى علم معياري، وهي تعالج مسائل العلم. لأن السؤال الأساسي الذي يكون خلف معالجاتها هو: ماذا يجب أن يكون عليه العلم؟
     غير أن الإبستيمولوجية العامة لاتنفي وجود مشكلات إبستيمولوجية لزمرة من العلوم أو لعلم جزئي. ومن ثم فإن هناك إبستيمولوجية خاصة وإبستيمولوجية جزئية، إلى جانب الإبستيمولوجية العامة.
فإبستيمولوجية العلوم الطبيعية، تتساءل: ما طبيعة القانون في هذه العلوم؟ ما دور مقولات الحتمية والمصادفة والاحتمال والغائية؟
     كما أن هناك مشكلات خاصة بالعلوم الإنسانية: كالموضوعية والفهم والتفسير والجانب الأيديولوجي لأحكامها. والعلاقة بين المنطقي والتاريخي في المعرفة الإنسانية، وإمكانية قيام نظرية اجتماعية، وهل هناك ملامح قانونية عامة في السيرورة الاجتماعية أم أن الواقعة الاجتماعية واقعة فذة؟
إن هذه المشكلات وغيرها هي موضع الإبستيمولوجية الخاصة بالعلوم الإنسانية.
لكن العلوم الجزئية تواجه هي الأخرى مشكلات خاصة بها، بسبب استقلالها النسبي.
     فإبستيمولوجية العلوم الحيوية تطرح جملة مسائل إبستيمولوجية من قبيل: هل هناك غائية في التطور الحي؟ وما العلاقة بين مفهوم الطفرة والتطور التدريجي في العالم الحي؟ وما الدور الذي يقوم به، منهجياً، مفهوم البيئة في تفسير الظواهر الحية؟
     وهناك مشكلات إبستيمولوجية خاصة بعلم التاريخ [ر]: كتحديد معنى الواقعة التاريخية الموضوعية في علم التاريخ، وهل التاريخ قابل للتفسير أو للفهم. هل هناك حتمية تاريخية؟
ولاشك في أن الإبستيمولوجية العامة، وهي تسعى إلى صوغ نظرية عامة في المعرفة العلمية، تستفيد من الإبستيمولوجية الخاصة والإبستيمولوجية الجزئية. والعكس صحيح أيضاً. انطلاقاً من واقعة انفصال العلوم وتكاملها في الوقت نفسه.
     لكن السؤال الذي يطرحه العقل الناقد هو: إذا كانت الإبستيمولوجية علماً للعلم ذاته ألا تحتاج الإبستيمولوجية نفسها إلى إبستيمولوجية تكشف عن مشكلاتها وعن الصعوبات التي تصادفها؟
والحق أن الإبستيمولوجيين أنفسهم يمارسون هذا الدور حين يختلفون في تناول المشكلات العلمية ويقدمون إجابات متعددة، ومتناقضة أحياناً منتقدين بعضهم بعضاً.
     وقد برز مثل هذا الاختلاف في مسائل تاريخ العلم وتصنيف العلوم.
    ومن ثم يصح القول: إن الشروط الداخلية والخارجية التي يخضع لها العلم هي ذاتها التي تخضع لها الإبستيمولوجية. كذلك فإن نزوعها العلمي لن ينجيها من طابعها الأيديولوجي.

الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

المجتمع العربي بين الثابت المعرفي والمتغير السياسي ـ مهند ديب

أنفاس نت


تؤكد لنا حركة التاريخ، أنه لا يمكن لنا النظر إلى مشاهد التحولات السياسية التي تطرأ على أي مجتمع من المجتمعات، بمعزل عن التحولات الاجتماعية_المعرفية التي تحدث بداخلها، فالثورة البلشفية _على سبيل المثال لا الحصر_ لم تكن لتنجح في سياق الواقع لو لم يؤسس لها كل من "ديستويفسكي" و"بوشين"، كما هو حال الثورة الفرنسية التي جاءت انعكاساً لأقلام كل من "فولتير" و"مونتسكيو" و"جان جاك روسو"، كما ينسحب ذلك على مجمل التحول التطوري الذي طرأ على أوروبا منذ الثورة الصناعية إلى اليوم، وهذا إن كان يدلل على شيء، فهو يدلل على أن التحول الاجتماعي_المعرفي، يغدو لزاماً بل شرطاً لكل تحول سياسي، يشكله، وينتجه، ويشير إليه، وهذا يذكرنا بمفهوم "الحرية" في فلسفة "كانت"، كما هو مفهوم "الثورة" في فلسفة "هيجل"، أي أن كليهما مجاله الفكر، وما أن يصطدما بالواقع، حتى يحكمهما عالم الضرورة..
 من جانب آخر، وبرؤية معاكسة، ومن خلال عرض الاجتماعي على ضوء مشهد الصراع السياسي، نقف أمام واقع مجتمعنا العربي، ونتأمل، فنجد أنه ثمة إرثا ثقافيا ساهم في فرز وعي مؤطر وجامد، لا يزال يعيد إنتاج ذات مشهد الخنوع والرضوخ السياسي العربي، وذلك منذ القرن الثامن الهجري تقريباً، مروراً بما فعله المغول والتتار، والعثمانيون، ثم الاستعمار الغربي، والصهيونية العالمية، انتهاء بما نعيشه اليوم من أحداث ما يسمّى "ثورات الربيع العربي" التي لعبت دور حصان طروادة، وذلك بما حملته من ملفات العدوان والتآمر الغربي على وطننا العربي..

هذا الأمر يدفعنا للتساؤل، لماذا بقي هذا التكلّس مرافقاً للوعاء الثقافي الخاص بالمجتمع العربي طيلة هذه القرون، علماً أن أشخاصاً مرّوا على ذهنية ووعي وثقافة هذا المجتمع، كان لهم الدور الحضاري الأبرز على مشهد تطوّر الحضارة الإنسانية، أمثال "ابن رشد" الفيلسوف العربيّ الذي مدّ الحضارة الغربية بمصل الحياة الأول، وهل لنا أن نلتمس دوراً وظيفيّاً لهذا التكلّس والتحجّر، في تشكيل وإنتاج فئات اجتماعيّة تحاكي من مشاهد شذوذ فعل، ما تجاوزته الإنسانيّة منذ قرون؟!!.. 
تدفعنا الإجابة لإماطة اللثام عن إحدى أهم العوامل التي تساهم في بناء المجتمعات أو هدمها، ونقصد هنا المنظومة الفاعلة التي من خلالها يمكن النظر إلى خصوصيات المجتمعات، والدخول إلى مكوناتها، واستعراض تشكيلات أنظمتها وقيمها، وهي منظومة (النسق المعرفي)، وهو النسق المسؤول مباشرة عن استمرارية وجود المجتمع وتفاعله ضمن اللوحة الحضارية للإنسانية، ولأن كان (النسق المعرفي) الخاص بالمجتمع العربي، قد تشكّل ونضج داخل عصر الحضارة العربية الإسلامية، نرى أنه لا بدّ لنا بداية، من التفريق والتمييز بين مفهومين تاريخيين لتلك الحضارة، وهما (إسلام الدين) و (إسلام الحضارة)، حيث أنّ الإسلام كمصطلح تاريخي يحتوي على العنصرين، وقد تعايش النمطان من خلال الصراع وكان لكل منهما بصماته على مجمل الصيرورة التاريخية لذلك العصر، ونتيجة للصراع، ومع حلول القرن الثامن الهجري تقريباً، توقفت بشكل عام كل الفعالية الحضارية، وانفرد الدين بالعالم الإسلامي، وبين هذا وذاك يكمن الفارق الجوهري الثقافي في تحديدنا (للنسق المعرفي).. 
من خلال هذا الخلط المشوّه المتعمّد بين هذين النمطين، تم تقييد (النسق المعرفي) للحضارة العربية الإسلامية، حرصاً على إبقائه داخل حدود إنتاج الوعي الديني، الوعي الذي يدفع باتجاه تأمين مشروعية السلطة السياسيّة دون أن يتجاوزها، فالقطيعة التي أقامها الدين مع الحضارة في الإسلام، جاءت مدمرة لفعالية الشخصية الحضارية للأمة العربية، فهي إمّا توقفت بها عند حدود "المطلق" المحايث للتاريخ، من أجل التحكم في مسارها بحيث يقف بها عند الماضي، فيبتر الزمان من آنيته الأساسية وهي المستقبل، وهو ما يعبّر عنه "التيار الأصولي"، وإمّا تجاوزتها بوعي كوني، ينفي التقليدي والتاريخي معاً، لينشد كل مجالات المعرفة خارج خصوصيتها ونسقها المعرفي، وهو ما يعبّر عنه "التيار العلماني"، ونتيجة لذلك بقي المجتمع العربي إلى اليوم غارقاً في الصراع القائم بين الماضي والحاضر، والقديم والحديث، وبعبارة أخرى بين "الأصولية الدينية" ومجمل النماذج المستعارة من الغرب.. 
ولكن مثلما أنّ الدين لا ينفرد بإنشاء حضارة، كما أنّه لا يكون سببا في انهيارها، حيث نرى أن هنالك عاملاً آخر، ساهم وبشكل كبير في اقتناص هذه الحالة وتثبيتها، من ثم استثمارها بما يخدم مصالحه التي لم تنفك عن منطقتنا العربية، وهو العامل الخارجي، الذي لا يخفى إلّا على المتجاهل والمتغافل منّا، إذ أن الأهداف السياسية للاستعمار الغربي جاءت متكاملة مع حالة الصراع التي أشرنا لها آنفاً _ولدينا من الأمثلة التاريخية ما لا يسعنا ذكره هنا، حيث كان مطلوباً أن يبقى هذا المجتمع متشرذماً بين هوة الاغتراب الواعي الحديث، والمكوث اللاواعي التقليدي.. 
وأخيراً ولأن كان ولا زال الفعل على مستوى الفضاء السياسي، محكوماً بفعل منتج الصيرورة الاجتماعية الداخلية، نرى أننا مطالبون اليوم وبحاجة ملحة، إلى مراجعة وإعادة تكوين وإنتاج (النسق المعرفي) داخل التراث الثقافي الخاص بحضارتنا العربية الإسلامية، وتفكيك أغلاله التاريخية، من ثم إطلاقه على أفق يجعله مرناً قابلاً للتفاعل مع مجمل ما أُنتج وما قد ينتجه التطور الحضاري الإنساني، الأمر الذي قد يتطلّب هدماً أنطولوجياً وفق تعبير "داريوش شايغان"، فهو يرى أنه عوضاً من أن ينفتح أفق الإنسان عمودياً على الدوائر السماوية، وعلى ((العلويات)) من حيث تنزل الرسالات الإلهية، فإنه يصطدم بالوقت الحاضر بالمستوى الأفقي لصيرورة خطية، مما يجعلنا مطالبون بإعادة تشكيل وتكييف، ولا نقول نفي أو مقاطعة، لمجمل منظومة (النسق المعرفي)، وذلك بما ينسجم بداية مع الصدمات الأولى الثلاث للعالم الحديث، وهي: (الصدمة الكوبرنيكية) و(الصدمة السوكيولوجية) و(الصدمة البيولوجية)، (فالنسق المعرفي) كما أشرنا له آنفاً، هو المسؤول مباشرة عن مرونة أي حضارة وتفاعلها مع مجمل ما قدّمه العلم الحديث، وبذلك نخلص أنه لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن ينشد فعلاً حضارياً حقيقيّاً، أو أن يتحرر من وطأة التآمر والاستغلال والاستثمار والاستعمار الخارجي، خارج منظومة (النسق المعرفي) التي تحفظ له شخصيته الحضارية، وتحول دون أي محاولة عبث سياسي تسلب وعيه وتفتك مصيره.!..

المراجع:

ـ داريوش شيغان، ما الثورة الدينية؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة، ترجمة د. محمد الرحموني، ط1، بيروت، دار الساقي بالاشتراك مع المؤسسة العرية للتحديث الفكري، 2004م
ـ هادي العلوي، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ط1، دمشق، دار الطليعة الجديدة، 1999م
ـ خالد العبود، حوار على أرض محايدة، ط1، دمشق، الأهالي للتوزيع والنشر، 1997م