الأحد، 18 سبتمبر 2016

مترجم: كيف تخلق الرأسمالية مزيداً من “انعدام العدالة” ؟

تم نشر هذا المقال فى موقع evonomics بعنوان How Capitalism Actually Generates More Inequality للبروفيسور جوفيرى هودسون، وهو أستاذ الاقتصاد فى كلية هيرتفوردشير فى بريطانيا.

ترجمة :- محمد رمضان  



لماذا توسعة الأسواق وزيادة التنافسية لن يقللوا الفجوة في توزيع الثروة ؟!

على الأقل اسميا ، فالرأسمالية تمتلك أجندة تنويرية عن الحرية والعدالة الاجتماعية ، فهناك حرية التجارة والمساواة امام القانون ، يعنى ذلك أن كل  الناس سواء كانوا فقرا او أغنياء يحتكمون في معظمهم لنفس الدرزينه من  القواعد القانونية ، لكن مع انعدام المساواة في القوة الاقتصادية والثروة ، فذلك العامل المهم يتم تحييده عن معادلة المساواة في الرأسمالية .
فاليوم في الولايات المتحدة أغنى 1% يمتلكون 34% من الثروة ، وأغنى 10 % يمتلكون 74% من الثروة ، وأيضا فى المملكة المتحدة فأغنى 1% يمتلكون 12% من الثروة ، وأغنى 10 % يمتلكون 44% من الثروة ، فرنسا أغنى 1% يمتلكون 24% من الثروة واغنى 10% يمتلكون 62 % من الثروة وكذلك في سويسرا التي يمتلك  أغنى 1% فيها 35% من الثروة ، 24% فى السويد ، 15% فى كندا على التوالي ، وعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة  فإن  كثيرا من الدول النامية تسير فى نفس المدى الرقمي .
في كتابهم المشترك ” على مستوى الروح ”  لريتشارد ويكنسون وكيت بيكت ، يبين الكاتبان الأثار الاجتماعية الناتجة عن سوء توزيع الثروة ، منطلقين من قاعدة بيانات تغطى  23 دولة نامية و 50 ولاية أمريكية ، لقد وجدوا أن هناك علاقة عكسية بين سوء توزيع الثورة والصحة النفسية والجسدية ، أيضا التعليم الجيد ، ودمج الاطفال في المجتمع ، الثقة في المجتمع ومؤسساته ، وعلى الجانب الأخر هناك علاقة طردية بين سوء توزيع الثروة وإدمان المخدرات ، انتشار الجريمة والعنف الاجتماعي والسمنة المفرطة وزيادة نسبة الحمل عند المراهقين . انتهى الكاتبان لنتيجة مفادها أن سوء توزيع الثروة تنتج العديد من السلبيات عن طريق الضغوط الاجتماعية النفسية التي تتولد من تفاعل الفرد مع مجتمع غير عادل .
إن عدم المساواة هو داء متوطن في الرأسمالية الحديثة منذ النشأة وحتى الآن ، فالبيانات التي جمعها ” توماس بيكيتى ” في كتابة الهام ( رأس المال في القرن الواحد والعشرين ) وكذلك التي جمعتها في كتابي ( صياغة مفاهيم الرأسمالية ) تثبت ذلك ، فتلك التباينات الضخمة في الثروة بين دول رأسمالية مختلفة نتجت تراكميا على مدى عقود ، وهذا يدعم الطرح القائم أنه يمكن التخفيف من الآثار السيلية لسوء التوزيع في ظل الرأسمالية .
لكن في البداية علينا أن نوضح الأسباب التي تنتج وتعيد إنتاج الظرف القائم في الرأسمالية الحديثة والمتعلق بسوء توزيع الدخل والثورة على حد سواء ، أو بصيغه أخرى علينا ان نبحث عن الميكانزمات التي تدمج بها الرأسمالية مسألة سوء التوزيع في السوق ؟ ، بالتأكيد فإن نسبة ما من التفاوت في الدخل ناتجة عن التفاوت في المهارات الفردية والمواهب بين الأفراد ، لكن هذا لا يفسر الفجوة الكبيرة خاصة في العقود الأخيرة للرأسمالية ، فمعظم سوء التوزيع هو ناتج بالأساس عن الميراث أو ميراث الثروة بشكل أدق ، والعملية هنا مركبة وتراكمية إلى حد بعيد ، فسوء التوزيع الناتج عن الميراث ينتج فروقا فرديا في التعليم والقوة الاقتصادية وامتلاك رأس المال وبالتالي فروقا كبيره في الدخل بين الأغنياء والفقراء .

هل تخلق الأسواق هذا التفاوت الكبير ؟!

إلى أي مدى يمكن أن ننسب سوء توزيع الثورة للمؤسساتية الحالية للرأسمالية المتمثلة في السوق ؟ فبعيدا عن النخب الأرستقراطية التي نجت بشكل ما من بدايات الرأسمالية ، أو النخب الاقتصادية التي تكونت في البدايات المبكرة للرأسمالية  فإن الكثير من الاقتصاديين يسلمون بصحة الطرح القائل بأن ميكانيكية السوق الرأسمالي هي المسببة لعدم المساواة أو سوء توزيع الدخل والثروة . في الواقع الاقتصادي فإن القوة النسبية بين البائعون والمشترون في السوق وقدرتهم المختلفة للتأثير على السعر تنعكس على الدخل المتولد لدى الطرفين بشكل كبير ، فعندما يمتلك بائع واحد في السوق أصولا قابلة للبيع والتداول السريع فإن السوق يميل ناحيته منهيا أي ادعاءات بالمنافسة الكاملة .
ولكن هل مع خلق المنافسة الكاملة أي التوسع الكبير في إمكانات السوق عن طريق توسعة القاعدة الخاصة بالبائعين في السوق سوف يحل مشكلة سوء التوزيع تلك ؟! في رأيي ان الأسواق مجردة لا يمكن لومها عن مشكلة سوء التوزيع ، وكذلك التنافسية في السوق بالتبعية ، فهذه الحجة الفارغة هي كمثل توجيه اللوم للمياه على غرق سباح ضعيف فيها ، ويجب أن نبحث عن الاسباب الموضوعية الخاصة بسوء التوزيع والتي هي في رأيي بعيدة عن السوق بصيغته المجردة .
فلا يمكن أن نقول أن ما قبل الرأسمالية كانت هناك عدالة في توزيع الثورة ،ومن ثم جاءت الأسواق ومعها التنافس وخلقت سوء توزيع الثروة والدخل . فالأسواق قائمة على تبادل اختياري بين البائع والمشترى ويبحث كلاهما عن الربح، وهو أساسي في السوق ، وأحد أطراف هذه العملية من المؤكد  سوف يربح أكثر من الآخر لكن من الاستحالة أن يستمر هذا الطرف في الربح دائما ، وإن حدث هذا فأنت تتحدث عن أسواق جبرية بدون التنافسية الموجودة فعليا بدرجة ما في السوق الرأسمالي الحالي  .
وهناك خطأ أخر في الطرح القائل بمسئولية الأسواق عن سوء توزيع الثروة وهو أن الأسواق هي مؤسسات وجدت منذ الاف السنين  ولم تكن الفجوة بتلك الحجم ، وبالتالي يجب علينا أن نبحث فى تجريد هذا الادعاء من مضمونة والذى في رأيي هو بداية للبحث عن الأسباب الموضوعية التي جعلت من مؤسسات الرأسمالية الأخرى – غير الأسواق – هي دافع أساسي لعدم المساواة ، ولا أقول أن الأسواق ليس لها دور ، لكن ليس الدور الرئيسي على الأقل في أخر 400 عام من عمر البشرية .
مصادر سوء توزيع الثروة في الرأسمالية .
إذن وبالتسليم بأن الأسواق كأداة مجرده ليست السبب المباشر في سوء توزيع الثورة فما هو السبب الأساسي ؟!
والاجابة على هذا السؤال يجب أن تشكل حجر الأساس في أي إجراء  سوف تتخذه الرأسمالية لإصلاح التفاوت الكبير  في توزيع الثروة ، لقد تطورت الرأسمالية في ظل سوء توزيع للثورة وورثته ( حرفيا ) من أنماط الانتاج السابقة لها ، تلك المنظومة المتكاملة من الانتاج التي تعمل على توزيع الثروة على أسس طبقية وجندرية وعرقية ، وعبر إتاحة فرصة الربح الأكبر في البدايات يتم تضخيم هذا التفاوت الكبير بالموقع الجغرافي والقدرة على التأثير في  السوق الرأسمالي ، وبواسطة تتبع عمليات  السوق وحدها لا يمكننا أن نكون صورة معمقة وشاملة عن مصدر سوء التوزيع ، فالأسباب الأوسع والأكثر تجذرا هي في الرأسمالية ذاتها .
ولأن  في الرأسمالية العمال ليسوا أقنان  ، فلا يمكنهم استخدام قدرتهم على العمل مدى الحياه للحصول على قروض تمويلية من أجل امتلاك رأس المال الخاص بهم ،فالحرية الاقتصادية تمنعهم من الحصول على تلك القروض لأن العمل وحدة ليس ضمانة كافية لتمويل قرض ،  وعلى الجانب الأخر فالرأسماليون لديهم تلك الضمانات وهى بالأساس رأس المال والأصول  المملوكة  لهم لذلك يقترضون المال ويستثمرون  وحجم تلك الأصول الضامنة ( collateralizable assets  ) يتفاوت مما يؤدى لتضخيم الفجوة في امتلاك الثروة أو (collateralizable wealth. ) وبالتالي ينتج سوء توزيع الثروة بالتبعية ،وحتى عندما يتاح للعمال امتلاك تلك الأصول الضامنة فإنها تبقى صغيرة بالمقارنة بما يمتلكه الرأسماليون وتتركز في الأساس على هيئة عقارات للسكن وليس للاستثمار ، فالرأسماليون دائما في بداية السباق .ويمكن أن أقول ان الطرفين لا يلعبون على نفس الملعب من الأساس .
هذه الأفضلية المطلقة هي دافع رئيسي لعدم المساواة وسوء التوزيع، فقبل كل شيء يبدو رأس المال هو السبب وليست الأسواق ، يبدو هذا ماركسيا بعض الشيء ، لكن دعني أقول لك لا لأنني أعرف رأس المال بطريقة مختلفة عن تلك التي عرفة بها ماركس وعلماء اجتماع واقتصاد أخرون  ،  فمفهوم رأس المال في نظري مرتبط بمفهومة في قطاع الأعمال –  تعريف توماس بيكيتى مقارب له –   ، فرأس المال هو قيمة المال أو القيمة السوقية للأصل الذى يستخدم كأصل ضامن للاقتراض ، على  عكس العمل الذى لا يمكن أن يستخدم كأصل ضامن للتمويل .
وبما أن العمل أحرار فى تغيير وظائفهم فى الرأسمالية الحديثة ، فقد عمد أصحاب العمل على إزالة الحوافز الاستثمارية التي تدفعهم للاستثمار فى عنصر العمل ، ومع التطور التكنولوجي الكبير واتجاه الرأسمالية لأن تكون أكثر أتمته   يخلق هذا في النهاية عمالة غير ماهرة رخيصة الأجر ويزيد من هوة الفجوة بين الطبقات مالم يتم في الحسبان وضع إجراءات تعويضية ، وتلك الطبقات المهمشة اجتماعيا هي سمة كبيرة في الدول النامية وايضا في الدول الرأسمالية .

عامل أخر مهم في معادلة سوء التوزيع وهو استحالة الفصل بين العامل وعنصر العمل  [1] ، على لعكس من ذلك فأصحاب العمل والاقطاعيين في السابق هم أحرار في ممارسة التجارة وترك أعمالهم الأصلية تسير بطريقة مباشرة ، وهو ما يدفع بالمزيد من الأرباح في جيوبهم . وهذا يضع العمال في وضع سيئ وهذا “السيئ ” يتراكم ليصبح ” اكثر سوءا ” لتجد في النهاية أن سوء التوزيع هو نتيجة حتمية للنظام الرأسمالي .
كل تلك الأسباب التي ذكرتها والتي تقود لحتمية سوء التوزيع لا يمكن معالجتها عن طريق توسعة الأسواق وزيادة المنافسة ، فهي نتاج الرأسمالية نفسها ونظامها الأساسي في تسليع العمل ، وإن قدر للرأسمالية الاستمرار فسوف يكون عليها أن تعالج تلك الاختلالات ، والاجراءات التعويضية (compensatory arrangements ) قد تكون حلا جيدا ، فهي جيدة في الحد من تضخم الفجوة وايضا لا تأتى على حماية الملكية الخاصة .
هذا النوع من التباين الحاد بين عنصر العمل ورأس المال يعنى أن الاجراءات الحمائية المفرطة في الفردية من قبل أصحاب الأعمال تجاه مطالب  النقابات المهنية والعمالية هي محض هراء ، ففي نظام يتمايز كل مكوناته ضد عنصر العمل لابد أن يمتلك العمال حق الرد على هذه التمييز ، حتى لو كان حق الرد هذا يعنى غياب المنافسة في السوق .

الحد من عدم المساواة في ظل الرأسمالية .

 التجارب الاشتراكية في القرن العشرين في روسيا والصين قد سحقت حقوق الانسان في سعيها نحو معالجة سوء توزيع  الثروة ، وبالتأكيد ليس هذا هو الطريق التي نود أن نسلكه ، عوضا عن هذا من الممكن التفكير في حل في ظل الرأسمالية لا يلغى قدرة الرأسمالية على الانتاجية وتوليد الثروة .
قديما قدم توماس باين (Thomas Paine ) [2] حلا جيدا ، حيث اقترح فرض ضريبة على الثروة الموروثة ، وتقديم تلك الضريبة على هيئة منحة مالية لكل الشباب حين يبلغون سن  الرشد ، في هذه  الحالة يتم إعادة تدوير الثروة من الاموات للأحياء ومن القلة للأكثرية ، ومن أجل خلق فرص متكافئة للجميع دافع باين عن دولة الرفاهة حيث قال بأهمية ومسئولية الدولة المباشرة أن تضمن حياه كريمة لمن يتخطون سن التقاعد  ، وحديثا قام كل من ( بروس أكيرمان وآنى السوت ) في إدراج أجندة باين على طاولة مناقشاتهم في كتابهم المشترك ( مجتمع أصحاب المصالح ) ، لقد جادل الكاتبان أنه يجب  تحرير التنمية الذاتية للأفراد مقتبسين كلمات فرانسيس باكون [3] ” الثروة مثل السماد العضوي ليست جيدة إلا حين يتم نشرها على نطاق واسع ” .

ولقد أكد  ( أكرمان والسوت  ) على ضرورة  فرض  ضرائب تصاعدية على الثروة بدلا من الدخل  ، وايضا وبالاستناد لطرح ” باين ” السابق  جادل الاثنان أن قيمة تلك الضريبة التصاعدية يجب ان تقدم على هيئة هبات ومنح بحد ادنى 80 ألف دولار وهو المبلغ المعادل لتكلفة شهادة جامعية من   جامعة خاصة فى الولايات المتحدة ، ويجب أن تحفظ تلك الضريبة في الاحتياطي الفيدرالي في حالة الموت وتقدم كهبه عن بلوغ سن الرشد . هذا بالتأكيد سوف يساهم في إعادة توزيع الثروة على اسس صحيحة بدون الاعتداء على حق الملكية الفردية .تلك الملكية الفردية التي يجادل البعض ممن يعارضون ذلك الطرح بأنها قدس الأقداس التي لا يجب الاعتداء عليها .وأن من حق كل مواطن أن يخلق الثروة ليورثها لأطفاله عند مماتة .  لكن عبقرية باين تتضح في أن  الضريبة تأخذ عند البلوغ هذا يخلق نوعا من المنفعة التبادلية بين الثروة والضريبة التصاعدية على الثروة  .ومع الوقت سوف يصبح الناس أكثر تقبلا لفكرة الضرائب التصاعدية على الثورة إذا استفاد بعضهم بتلك الضريبة فى مرحلة الشباب ، سوف يتم تدوير الثروة للأجيال الاصغر بدلا من إهداراها ، وسوف يزداد اقتناع الناس مع الوقت بأن تلك الضرائب هي في مصلحة المجتمع ككل ..

في الاقتصاد هناك عدة طرق لتوزيع القوة والتأثير على قاعدة أوسع  ، فمثلا شعبية توسيع عدد العمال المالكين للأسهم في المصانع هي في تزايد ، وهذه هي طريقة مرنة وفعالة عن طريق تمرير حقوق الملكية لعوامل الانتاج بين الجميع ، ففي الولايات المتحدة وحدها 1000 شركة توظف أكثر من 10 ملايين عامل وموظف هي جزء بشكل ما في هذه العملية عن طريق حقوق الأسهم أو علاوات الأرباح أو تملك حصص في الشركة نفسها . تلك الملكية الجماعية تزيد من الدافعية للعمل والانتاجية وتساعد على  توفير الرضا من العمال على نوعية العمل الذى يؤدونه .
ومع اتجاه الرأسمالية نحو أن الأتمتة  يجب أن تكون هناك أولوية لزيادة المعرفة التكنولوجية للعمال لأن ما دون ذلك يعنى تهميش تلك الفئات الاجتماعية . وايضا يجب أن تلفت الرأسمالية أكثر نحو التأثير البيئي للتصنيع والحفاظ على جودة الحياه في معدلات عالية في مناحي كثيرة أولها صحة الأفراد ، ومع التأثير الديناميكي للاستثمار وإعادة الاستثمار يجب مراعاة الا يقع كل الربح في يد الرأسماليين كما قال باين من 1779 ، ونحن الآن في أمس الحاجة لأن نعيد تحديث مفهوم باين حول إعادة توزيع الثروة بما يتناسب مع متطلبات عصرنا  الحالي .

الهوامش .

[1] –  اشارة للمفهوم الماركسي عن الاغتراب الاجتماعي .

[2] – هو ناشط سياسي انجلوامريكى وفيلسوف سياسي اشتهر بمواقفه الداعمة لاستقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا .

[3] – مفكر وفيلسوف إنجليزي  وعضو في اول مجلس للوردات في المملكة المتحدة ،من أوائل الفلاسفة الذين صاغوا ما سمى لاحقا على يد روسو وهوبز وجون لوك بنظرية العقد الاجتماعي  .




مفهوم القوة في فكر نيتشه



المقدمة
ليس من السهل تعريف القوة في الفكر السياسي الحديث، فمفهوم القوة تطوّر بتطور المجتمعات وطريقة حكمها، كما أنّ المصطلح يأخذ بعدا إيديولجيا عند بعض المفكرين، وهو هدف بحد ذاته عند البعض الأخر. وحتى في الإيديولوجيا ينقسم المفهوم بين المادة والروح، فالماركسيرون أنّ القوّة هدفها الأوّل والأخيرمادي وهو إيصال البروليتاريا إلى الحكم، ثمّ محو الدولة بحدودها ومقوماتها الكلاسيكية، والفكر الإسلامي، على سبيل المثال لا الحصر، يرى أنّ إستعمال القوّة يجب أن يكون لهدف سام/روحي إذ “لطالما انطلقت القوة القرآنية في مسار الهدف الموجهة نحوه هذه القوة الرسالية، فلم تكن متحركة في إطار العنف سوى في حالات نُجُوع ذلك، وقد حلَّ أسلوب الوعظ المحبَّب وحسن الكلمة محلّ القوة في الدعوة في الكثير من الحالات، فكانت الحكمة والموعظة الحسنة هي القاعدة العامَّة، وجهاد القوَّة هو الحالة الإستثناء التي احتاجت الإذن لممارستها”.(1) ولا بدّ من التأكيد هنا على أنّ القوّة لا تعني دوما الدوران في فلك العنف الهمجي، إذ قد تعني إستعمال ما يسميه ماكس فيبر ” القوة الشرعية” وهو حق الدولة في إحتكار العنف على إقليمها لضبط القانون. وبالتالي فالتنافس بين القوى السياسية هو “سعي إلى النفوذ لان الوحدات و المؤسسات السياسية تلجأ إلى المنافسة أو الصراع و الخصومة من أجل فرض نفوذها و السيطرة على الآخرين”.(2) أما بالنّسبة إلى نيتشه، وهو محور إهتمامنا، فالقوّة بنظره هي أساس الحياة، ووحدها تحدد مصير الإنسان ” فالحياة هي “إرادة القوة” ويكتسب الإنسان قيمته من خلال مقدار القوة التي يستطيع تحصيلها والاستيلاء عليها. لأن الحياة تولد على حساب حياة أخرى، والحياة ليست هي البقاء مجرد فحسب، وإنما هي الرغبة في الاقتناء، وهي التغير والصيرورة بلا ثبات”. (3)
لا بد للحديث عن مفهوم القوة في فكر نيتشيه من تناول مفهوم القوة وعلاقتها بالسلطة السياسية منذ عهد فلاسفة اليونان حتى يومنا هذا ، والإشارة إلى مفهوم حظر القوّة في ميثاق الأمم المتّحدة، وإعطاء لمحة عن بعض أفكار نيتشه الأساسية والتي ترتبط بمفهوم القوة بصورة أو بأخرى ، ثم الإشارة إلى تأثير نيتشه على الفكر السياسي المعاصر عبر مقارنته بغيره من الفلاسفة والمفكرين ، وأخيرا تناول قضية تأثير نيتشه في بعض الأحزاب القائمة اليوم. وسأستخدم المنهجين التاريخي والفلسفي في هذا البحث ذلك لأنّ المنهج الأول لن يساهم في تأويل أفكار نيتشه بل سيكتفي بتسجيلها بطريقة منطقية ستاسعد القارىء على فهم وتفسير عقلية نيتشة الفلسلفية والسياسية؛ أما بالنّسبة لإستخدام المنهج الثاني  فهو أمر حتمي وذلك لأنّه من المستحيل فصل الفكر السياسي عن الفكر الفلسفي عند نيتشه، فهذا الأخير بتناوله لموضوع حتمية الصراع بين القوي والضعيف مهّد لفكر سياسي يقوم على مبدأ الصراع في السلطة، وبالتالي إستحقّ نيتشه لقب الفيلسوف السياسي، مثله مثل أفلاطون اليوناني ، وساندلر الأميركي الذي تناول مفهوم العدالة، وتشارلز تايلور الكندي أحد أبرز المفكرين الذين تناولوا مفهوم الجماعنية.
إذا، ما هي علاقة السياسة بالقوة؟ وما هي أبرز المفاهيم التي تناولها نيتشه؟ بماذا يختلف عن غيره من الفلاسفة السياسيين؟ ما هو مفهوم القوة في كتاباته المختلفة؟ ما هو تأثيره على الفكر التوليتاري؟ وهل ما زالت مبادؤه قائمة اليوم في العملية السياسية- أي عبر الأحزاب السياسية؟
العلاقة بين السياسة والقوّة ( لمحة تاريخية)
لا يوجد علاقة منهجيّة علميّة محددة بين السّياسة والقوّة، فهذه العلاقة معقّدة تحكمها العلاقات الإجتاعيّة المختلفة  بين البشر وبالتالي فإختلاف أشكال العلاقات الإجتماعية وتطورها يساهم في تطور مفهوم القوّة بإستمرار ” من حيث مصادرها أو مؤثراتها أو كيفية استخدامها كأداة لها مقومات وموجهات سياسية تتحكم في استخدامها” (4). والسياسة هي محاولة تنظيم القوّة ومعرفة كيفية تطبيقها في حياة الناس وقد إهتمّ المفكّرون والإجتماعيّون بدراستها منذ وقت طويل بدء بأفلاطون وحتى يومنا الحالي ، فأفلاطون حاول ” تحديد القوة بأن أدخل عليها الانسجام الفلسفي الفعلي ذاهبا إلى أنه عند سيادة العقل فإن تسلط القوة سوف يزول.
مفهوم القوة عند اليونان والرومان والرواقيون والكتاب المسيحيون

كذلك دعا الرواقيون إلي سيادة القانون الطبيعي ليحدوا من قوة الحكام. أما الكتاب المسيحيون (القديس أوغسطين وغيره) فقد قرروا أن القوة والملكية والعبودية هي من قبيل عقاب الله للناس علي خطاياهم. ورغم ذلك فهنالك من دافع عن التمسك بالقوة، وقد تميز هؤلاء بالابتعاد عن التصورات الميتافيزيقية، تلك التي نادت بإلغاء القوة، وقد ظهر جراء هذه الاختلافات ما يمكن أن نسميه نظريات القوة، تؤيد إحداها القوة السياسية القائمة وتنتقد الأخرى القوة على إحداث تغيير فيها. ويأتي هذا التباين بطبيعة الحال، من اختلاف الظروف التي تسود المجتمعات من وقت لآخر. ونفهم من ذلك أن القوة تتغير مع التغيرات البنائية التي تشهدها المجتمعات في أوضاعها الإقتصادية والإجتماعية والسياسيّة.
نحاول أن نحلل مفهوم القوة ونتسلسل به منذ الفكر اليوناني والروماني القديم، مروراً بعصر النهضة الأوروبية وصولاً به للتحليلات الحديثة المعاصرة. فقد كانت العدالة المحور الذي دارت حوله أبحاث أفلاطون السياسية، وجوهر العدالة عنده هو الفضيلة، وهي عنه المعرفة والتي تحقق الخير الأسمى للدولة وإفرادها علي السواء. فالعدالة عند أفلاطون هي، إذن، أن يخضع الجميع إلي من بيدهم القوة في المجتمع، وعلي ضوء ذلك تعتبر أراء أفلاطون حول العدالة من الإشارات المبكرة إلي ما سمي بعد ذلك في تراث العلوم الاجتماعية بنظرية القوة. فالعدالة عند أفلاطون هي أن يخضع الناس إلي طبقة حاكمة، وهي الطبقة التي تمتلك القوة. كذلك اتخذ أرسطو موقفاً مشابهاً تجاه القوة، وذلك حينما أخذ التصنيف السداسي للحكومات الذي قال به أفلاطون. فالفرضية ذات الأهمية الكبرى عند أرسطو هي أن مقدار القوة والنفوذ عند أعضاء النسق السياسي أنما تقومان علي مقدار الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية التي يحتلونها.
أما في بلاد الرومان فقد كانت الإمبراطورية الرومانية منقسمة إلي عدة مقاطعات، يقوم علي كل واحدة منها حاكم روماني له صلاحيات واسعة في الشؤون الإدارية. لذلك فقد أعطي فلاسفة الرومان(سيشرون وبولبيوس) القوة مفهوماً أكثر عمقاً، إذ أنها تمثل الأساس في تأكيد الحق والعدل وإقرارهما في الدولة. وقد ذهب سيشرون إلي أن أفضل دستور للدولة هو الذي يجمع في توازن الأشكال الثلاثة للحكومات وهي الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. ولكن رغم ذلك فقد كان الحكم يمارس دائماً بواسطة قلة من الأسر الأرستقراطية التي كانت تتولي السلطة من خلال حكومات الأقلية التي كانت تحكم سواء في روما أو الأقاليم التي تخضع لها.
كذلك بالرغم من إشارة سيشرون إلي وجوب استخدام القوة استخداماً سليماً وقانونياً إلا أن القانون في حد ذاته أن هو إلا شكلاً من أشكال القوة، أو تعبيراً عن علاقات قوة، بل هو أداة لتنظيم هذه القوة. وعلي ذلك فإن الفلاسفة الرومان لم يقننوا إلا ما يمكن أن نسميه بعلاقات القوة علي مستوي الفرد والجماعة والدولة، والتي كانت القوة فيها في يد أقلية علي الدوام ” (5).
السياسة والقوة في الفكر السياسي المعاصر
أما بالنسبة لمفهوم القوة وعلاقتها بالسّياسة في وقتنا الحالي، فالمفهوم اليوم أصبح يرتبط بمعضلة الأمن الذاتي للدول التي باتت تخشى الفوضوية المنتشرة في العالم اليوم وإحتكار قوى كبرى اللعبة السياسية وبالتالي التحكم بمصائر أنظمة وشعوب. وبالتالي “تضيق خيارات الدّول ولا تجد مفرا من تنمية قدراتها الذاتية بهدف الدفاع عن نفسها في مواجهة الغير، فتبدأ بالتفكير في إتّباع إستراتيجيّة معيّنة للحفاظ على أمنها، وقد تنطوي على بناء قدرات عسكريّة كبيرة ووضع خطط طويلة المدى؛ وقد يكون من ضمن هذه الخطط الدخول في حلف مع دول أخرى لزيادة قوتها، والتفكير بهذه الطريقة التي تعطي أهمية كبيرة للأمن وللقوة يسمّى تفكيرا واقعيا. أي أن ترى العالم كما هو لا كما ينبغي أن يكون” (6) وهو ما أشار إليه ميكيافيللي في كتاباته حين” ميّز الأمور كما هي كائنة (the is) وكما يجب أن تكون (the ought) في السياسة” (7) . وفي الواقعية لا مجال للعاطفة والأخلاق، فالمهم هو حسابات القوة والأمن وتوازناتها. ” وربما كان هذا ما دعا ستالين إلى رفض رأي البابا قائلا: كم لدى البابا من دبابات؟ “(8) وبالتالي فالقوة بمفهومها القديم الحديث هي إجبار الطرف الأخر على الرضوخ، سواء كان ذلك على مستوى الدّول، أو على مستوى الحكام والمحكومين في إطار الدولة الواحدة- أي ممارسة السلطة السياسية الشرعية عبر القانون.
ومقوّمات القوة التي تمتلكها الدولة اليوم لا تختصر بالقوة العسكرية ، فالعامل الجيوبوليتيكي والإستخباراتي والإقتصادي والدبلوماسي والتكنولوجي كلها تساهم في إبراز هذه الدولة على الساحة الدوليّة أو إخماد بريقها. وكدليل على أن القوة العسكرية وحدها لا يمكن أن تنهي حروبا أو تضعف دولا قوة اليابان العسكرية في القرن المنصرم، ” فقوة اليابان العسكرية مكنتها من إحراز إنتصارات على المدى القصير، ولكن في السنين القليلة التي تلت ذلك إستطاعت الولايات المتحدة بسبب قوة إقتصادها أن تبني قوة عسكرية تعادل، ثمّ تتجاوز قدرة اليابان في الباسيفيك، فالإقتصاد إذا يمكن أن يعطي مؤشرا على قدرات الدّولة، وعن نتائج الصراعات التي تخوضها”(9).
وقبل إختتام هذه اللمحة التاريخية عن مفهوم القوة وتطبيقاته المختلفة عبر العملية السياسية، لا بدّ من الإشارة إلى مفهوم حظر القوة في ميثاق الأمم المتّحدة، وهو مفهوم بالغ الأهمية لما له من إلزامية محتّمة على الدوّل الأعضاء في منظمة الأمم المتّحدة.
مفهوم حظر القوّة في ميثاق الأمم المتّحدة
نصّت “المادّة /2/ من الفقرة 4 من ميثاق الأمم المتحدة على أنّ العلاقات الدّولية يجب أن تقوم كما يلي:
الإمتناع عن التهديد بإستعمال القّوة.
الإمتناع عن إستخدام القوّة.
الإمتناع عن إستخدام القوّة، والتهديد بها ضد سلامة الأراضي لأيه دولة.
الإمتناع عن إستخدام القوّة، والتهديد بها على أي وجه أخر لا يتّفق ومقاصد ” الأمم المتّحدة” (10).
ولكن هناك إستثناءات واردة على مبدأ حظر إستخدام القوة في العلاقات الدّولية، وهي كالتالي:

“أولا: إستخدام القوة الجماعي، من قبل الأمم المتّحدة المستند إلى نصوص الفصلين السادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة.
ثانيا: إستخدام القوة، الجماعي، من قبل المنظمات الإقليميّة الدّولية، تحت إشراف الأمم المتّحدة.
ثالثا: إستخدام القوة، الجماعي، ضدّ دول (المحور) التي كانت أعداء في الحرب العالميّة الثانيّة ، بالإستناد إلى نص الفقرة الأولى من ميثاق الأمم المتّحدة المادّة 107، وإنّ هذا الإستثناء فقد مضمونه بإنضمام تلك الدّول إلى عضوية الأمم المتّحدة.
رابعا: إستخدام القوّة في حالات الدفاع عن النّفس، إستنادا لنص المادّة 51 من الميثاق “(11).
نيتشه فيلسوف القوة
إرادة القوة ومفاهيم أخرى
بعد إعطاء لمحة تاريخية عن مفهوم القوة وتطوّره عبر العصور حتى وصوله إلى الشكل الذي هو عليه في وقتنا الحالي، بات من الضروري البدء بالحديث عن فيلسوف القوة نيتشه الذي يرى أنّ منطق القوّة هو ” الحقيقة التي يؤمن بها الإنسان الأعلى” (12). وبالتّالي، فالقوّة هي أساس الحياة عند نيتشه، كما هو صراع الطبقات عند ماركس، أو السعي من أجل الفضيلة في الأديان. أما أهم الأفكار التي تناولها نيتشه والتي ترتبط بمفهوم القوة بصورة أو بأخرى فهي كالتالي:
الفكر: وهو ما يراه نيتشه “كتعبير أمين لإرادة القوة وليس انعكاسا مشوها للواقع ولامحاولة اجتهادية لتفسيره. فالمعايير التي يصوغها الإنسان لتحديد ما هو صواب وخطأ وما هو زائف وحقيقي ليست نزعة أصيلة ولا أفكار برئية كما يبدو الأمر ظاهريا، إنما هي مجرد أوهام وأساطير ابتدعها للهروب من الصيرورة الدائمة أو ما يعبر عنه بالاستياء من عالم عصي على التغيير. فرغم العقلانية الظاهرة المغلفة للأفكار إلا أن ثمة دوافع مظلمة لا يدركها حتى أصحابها” (13).
موت الإله وأهمية الوصول إلى الإنسان الأعلى: يشير نيتشه إلى هذه الأفكار في كتابه ” هكذا تكلّم زرادشت” عندما نزل هذا الأخير من الغابة وقرر مخاطبة الشعب في أوّل مدينة واقعة على طرف الغابة فقال لهم: ” إنني أعلّمكم الإنسان الأعلى. الإنسان شيء لا بدّ من تجاوزه. فما الذي فعلتم كي تتجاوزوه؟ كل الكائنات ظلّت حتّى السّاعة تبدع أشياء فوق منزلتها ؛ وأنتم، أتريدون أن تكونوا حركة الجزر في هذا الدفق العظيم فتفضّلوا العودة إلى منزلة الحيوان على مجاوزة الإنسان؟
ما القرد بالنّسبة للإنسان؟ أضحوكة ، أو موضوع خجل أليم. كذا يجب أن يكون الإنسان بالنّسبة  للإنسان الأعلى: أضحوكة أو موضوع خجل أليم. لقد سلكتم الطّريق الطّويلة من الدودة إلى الإنسان لكنّكم ما زلتم تحملون الكثير من الدودة في داخلكم. كنتم قردة ذات يوم ، وإلى الأن ما يزال الإنسان أكثر قرديّة من أي قرد….انظروا، إنّي أعلّمكم الإنسان الأعلى! الإنسان الأعلى كنه الأرض . فلتكن إرادتكم : ليكن الإنسان الأعلى هو معنى الأرض!
أناشدكم أن تظلوا أوفياء للأرض يا إخوتي؛ وألا تصدّقوا أولئك الذين يحدّثونكم عن أمال فوق أرضيّة! معدّوا سموم أولئك، سواء أكانوا يعلمون ذلك أو لا يعلمون. مستخفّون بالحياة هم، محتضرون ومتسمّمون بدورهم، ملّتهم الحياة: فليرحلوا إذا!
لقد مضى زمن كان فيه الإثم تجاه الله أكبر الأثام ، لكنّ الله مات، وبهذا مات أيضا كل أولئك الاثمين.
أن يأثم إمرؤ في حق الأرض ويمنح أحشاء ما لا يدركه عقل ولا نظر تقديرا أكثر من المعنى الذي في الأرض، فذلك هو أفظع أيات الكفر الان”(14). ويستطرد قائلا: “ليست خطيئتكم- بل رضاكم هو الذي يصرخ في وجه السّماء، شحّكم ذاته الذي في خطيئتكم هو الذي يصرخ في وجه السّماء! أين الصاعقة التي تعلّقتكم بلسانها؟ أين الجنون الذي كان عليكم أن تلقّحوا به؟
أنظروا، ها أنني أعلّمكم الإنسان الأعلى: إنّه تلك الصاعقة، إنّه ذلك الجنون!”(15). ويضيف كاتب اخر  موضحا كيف يقسّم نيتشه البشر إلى أقوياء وضعفاء “إن الأستقراطيين الممتازين هم أساس وأصل الحضارات الكبرى، فالحيوانات المفترسة الشقراء كانت تجوب الارض وتخضع الشعوب لسطوتها وتفرض عليها إرادتها وسلطانها، ومن ثم تختلق شرعة قيمية وأخلاقية تؤكد بها شرعيتها وسلطانها واستمرار سيادتها وسوطتها. وتعمل هذه الأقلية المسيطرة على الحفاظ على قوتها الجسمانية، وتحافظ على على نقاء نسلها من الاتصال بأعراق الطبقات الدنيا. وهؤلاء الممتازون يقدسون الأجداد وصفاتهم النبيلة، وتتحول هذه القداسة إلى طقوس عبادية تؤله فيها ذكرى الأجداد الذين أصبحوا آلهة – فيما بعد – تقدم القرابين لأرواحهم، أي أن العبد والمعبود هو الذات المؤلهة.
وبهذا المفهوم النيتشوي ينقسم البشر إلى أقوياء وضعفاء، فالأقوياء هم السادة الذين يبتكرون القيم الأخلاقية لتبرير أفعالهم المباشرة، فهم يتسمون بغريزة السيطرة وحب الغزو والمخاطرة ونعيمهم هو الانتصاروالسيادة، أما الضعفاء فقيمهم وسيلة لتغطية عجزهم ونكوصهم عن فرض إرادتهم.
إن الإله الحي المتجسد على الأرض الذي بشر به نيتشه هو الإنسان الأعلى “لا يمكن أن يكمن هدف الإنسانية في نهاية الزمان، بل فقط في أعلى نموذج لها” بالرغم أن هذه ليست حتمية إلا أن على البشرية أن تطمح لها كتحد للروح البشرية. ومن الأفراد التاريخيين الذين اقتربوا من هذا المثل الأعلى كما يصوره نيتشه أمثال: يوليوس قيصر، ونابليون. وقد هاجم كثير من النقاد صورة الفرد الذاتي الأناني الذي يمجد ذاته فحسب، إلا أن نيتشه وجد أن الأنانية “الغرورية” تنتمي إلى ماهية الروح النبيلة!
وهذا الإنسان الأعلى سيولد من طبقة السادة الممتازين الذين نبذوا الأديان التي تنفر من الحياة الأرضية، والتي ساهمت في امتصاص عناصرالقوة وأبقت البشرية في حالة ضعف ووهن. إذن الإنسان الأعلى هو عودة للطبيعة المادية الأصيلة التي تجسدت فيها إرادة القوة وسوف تتجسد من خلاله تجسدا تاما (نقيض فلسفة شبنهور أستاذه في بداياته). ولا يسعنا إلا أن نتخيل هذا “الإنسان الأعلى” بجيوش همجية يكتسح ما سواه!
وكما يقول نيتشه بصلافته النزقة وعجرفته المعهودة على لسان زرادشت: “على أهل السيادة في الإنسانية المتفوقة أن يمهِّدوا سُبُلَ السعادة لمن هم دونهم بتضحية ملذَاتهم وراحتهم وعليهم أيضا أن ينقذوا مَنْ لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال”.
يرى تشارلز دارون في كتابه “سلالة الإنسان”، “أن القبيلة المؤلفة من كثرة الأعضاء الذين هم على استعداد دائما لمساعدة بعضهم البعض، والتضحية بأنفسهم من أجل الصالح العام، سوف تنتصر على معظم القبائل الأخرى، وسوف يكون انتخابا طبيعيا.”
ونيتشه عكس السيناريو تماما “فلندع القبيلة تضحي بنفسها لو أن ذلك ضروريا للمحافظة على فرد واحد عظيم. إن ما ينبغي علينا أن نسعى لزيادته هو كيف البشرية لا كمها. إن الأمة طريق ملتف للطبيعة للوصول إلى ستة أو سبعة من الرجال العظماء. نعم وعندئذ تدور حولهم”. فالصراع هنا ليس صراعا من أجل الوجود كما هو عند دارون، بل هو صراع من أجل العظمة والقوة. كما نلاحظ أن هذه النظرة غير السوية للبشرية لن تخلق لنا سوى مسوخا بشرية تؤله الذات على حطام الشعوب! ولا شك أنها صورة قميئة من صور الاستبداد، ولا يمكن أن تكون إلا نتيجة حتمية لولادة نظام وحشي شمولي يعلي من قيمة الفرد الحاكم “ظل الإله في الأرض”.(16)

ويعتبر نيتشه كتابه ” هكذا تكلّم زرادشت” أهم مولّفاته وأعمقها ، بل وإعتبر هذا الكتاب إنجيلا خامسا!  لا بل ” نقض للأناجيل في كتاب يتكلّم لغة الأناجيل”( 17) وكتابا مقدسا جديدا سينسف كل الكتب المقدّسة التي لطالما إحتقرها وإعتبر المؤمنين فيها ضعفاء يؤمنون بالميتافيزيقيا لأنهم مستسلمون للواقع ولا يستطيعون تغييره.
وقد إكتشف نيتشه مبدأ القوّة وأهميّته في الحياة من خلال أمرين: الحرب الألمانية الفرنسية عام 1870-1871، والتجربة الألمانية للشعب الألماني من خلال مفكريه وفلاسفته مثل كنط وفيخته وهيجل وشوبنهور. أما بالنّسبة للحرب الألمانية الفرنسية، فتروي أخت نيتشه القصة التالية التي ساهمت في بلورة مبدأ القوة في فكر نيتشه. ” في مساء معيّن عند إقتراب إنتهاء يوم ثقيل جدا بالجرحى وبقلب يكاد ينفطر من الشّفقة، صادف أن دخل مدينة صغيرة تقع على إحدى الطّرق العسكرية الرّئيسيّة. وإذ كان قد بلغ ركن جدار حجري كبير وواصل سيره مدّة ثانية أو إثنتين سمع فجأة صوتا مجلجلا كأنه صوت الرّعد، ومرّت به فرقة فرسان رائعة- معبّرة تعبيرا مجيدا عن شجاعة شعب وقوّته المشتعلة- مثل سحابة عاصفة مضيئة. وأخذ ذلك الصّوت الشّبيه بالرّعد يعلو ثمّ يعلو، ويا له من عجب! فإنّ فرقته المحبوبة لمدفعيّة الفرسان قد إندفعت إلى الأمام بسرعة تامّة- وكم أصابه الصّداع والألم إذ لم يستطع أن يقفز على حصان، وإذ إضطر أن يبقى واقفا وقفة العاجز بجوار الحاجز الحجري، وأخيرا جاء المشاة، يتقدّمون تقدّما بأسلوب إزدواجي، فكانت عيون الرجال ملتهبة، ودقّت أقدامهم الطريق الصلب كدقات المطرقة القويّة. وبينما مرّ هذا العرض أمامه، في طريقه إلى الحرب وربما إلى الموت، وهو رائع في قوّته الحيويّة وشجاعته الصامدة، وقائم كرمز كامل لعنصر وجنس سوف يغزو أو يهلك في المحاولة- وحينئذ- قال نيتشه- وشعرت لأوّل مرّة، يا أختى العزيزة أنّ إرادة الحياة القويّة السّامية لا تجد تعبيرا في صراع تعس من أجل الوجود، ولكنّها تجده في إرادة الحرب، إرادة القوّة، إرادة القوة العليا. وإستطرد قائلا بعد لحظة ولكن شعرت أيضا أنّه من الخير أنّ وودن قد وضع قلبا قاسيا في صدور الجنرالات القوّاد، وإلا فكيف يستطيعون أن يتحمّلوا المسؤوليّة الرّهيبة لإرسال الالاف إلى الموت كي يرفعوا شعوبهم وأنفسهم إلى مرتبة التّسلّط والسّيطرة؟” (18).
العقل:” يعتقد نيتشه أنه لا يوجد عقل إنساني واحد متكامل وشامل يمكنه الحكم الكلي على الكون وعقلنة        أحداثه وظواهره، في ظل هذه الصيرورة الكاملة، فالعقل ليس مستقلا عن العناصر المحيطة به في               الواقع، وحتى المنطق والأفكار الثابتة والعقائد لم تكن ثمرة رغبة في معرفة الحقيقة، وإنما الدافعية من          خلق الثوابت ومنطقتها هي السيطرة والامتلاك، بعبارة أن المحرك هو الإرادة ولا شيء سواها. فالغرائز         والنزعات نحو البقاء والقوة لها وجود أصلي حقيقي (بناء مادي تحتي) أما الفكر الذي يأتي لاحقا (بناء فكري فوقي) يتخذ أشكالا تبريرية للسلوكيات المادية الغريزية. فالأصل هو الفعل، والأخلاق ما هي إلا التبرير للأفعال إذ أن الدافعية برجماتية محضة. إذن، العقول تتمايز بتمايز الظروف والإرادات، ولذا قد تختلف الأراء إزاء أمر واحد.
وعندما أذعن لفكر الآخرين، ليس هذا الإذعان فعلا عقليا، إنما هو مجرد إذعان لإرادة القوة المنتصرة. فنجاح أية فكرة إنما يعبر عن مدى نجاح إرادة القوة في فرضها، فحقيقة نجاحك تكتسب من خلال الفرض والفشل عكس ذلك. ومنطق هذا الفكر هو منطق القوة وكما يسميه نيتشه الحقيقة الديونيزية، أي الحقيقة التي يؤمن بها الإنسان الأعلى”(19).
الأخلاق: “تساءل نيتشه كيف يمكن أن ننظر إلى شخص يكون فاضلا؟ فالشخص الفاضل الذي يثني عليه   الآخرون لما قدم لهم من خيرات وفضائل (الطاعة، العفة، العدالة، المثابرة.. إلخ) سوف تضر بالفعل  الشخصي الحائز عليها! وكما يقول “لو كنت حائزا على فضيلة .. فأنت ضحية لها”، وهكذا نثني على الفضيلة عند الآخرين لأننا نحصل منها على منافع ومميزات. فالمعتقدات الأخلاقية هي معتقدات الجموع، والجموع أكبر من الفرد “مع الأخلاق يمكن للفرد فحسب أن ينسب لنفسه قيمة بوصفه دالا على القطيع”، فالأخلاق تمثل أولئك الذين يكونون ضعافا من الناحية الفردية (وهم أفراد). لكنهم أقوياء من الناحية الجمعية (وهم مجتمعون) وهم يأملون أن تحميهم قوانين الأخلاق بقدر ما تبرر وجودهم وأسلوب معيشتهم. فالأخلاق هي النتيجة الحتمية للمصلحة الذاتية الإنسانية والدافع التطوري للبقاء. فالدافعية للأخلاق دافعية برغماتية محضة كما أسلفنا، فلا وجود للخيار الحر ولا وجود للثنائيات المتجاوزة”. (20)  العود الأبدي:”وهي فكرة محورية في فلسلفة نيتشه “العود الأبدي” والتي تبدو بديلا لفكرة الأبدية في الأديان السماوية، وهي أيضا قريبة الشبه من فكرة عقوبة سيزيف في الأسطورة اليونانية، الذي عاقبه كبير الآلهة بعمل متكرر ورتيب، وليست بعيدة أيضا عن فكرة الكارما البوذية، إلا أن نيتشه يرى أنها عود أبدي مادي رتيب “كالساعة الرملية” سيعود من جديد ويذهب من جديد دائما وأبدا، فكل شيء سيعود بنفس التسلسل وبنفس النتائج. ويعترف نيتشه بأنها فكرة محبطة جدا وليست أكثر إغراء من فكرة الجنة والخلود في الأديان السماوية، إلا أنها محرض لكي نكافح لنكون أعظم مما نحن عليه، ومادامت اللحظة الراهنة هي كل شيء، فلنستغلها أفضل استغلال محققين أفضل ما في أنفسنا.
فالزمان عندما تنتهي دورته الحالية لن يتوقف، إذ أنه سيبدأ من جديد دورة أخرى لا تختلف عن سابقتها، والعود الأبدي “يعني تكرار اللحظة بكل ثباتها وصيرورتها، ولكنه ليس تقبلا لمضمون اللحظة الثابتة، وإنما هو تأكيد لصيرورتها”، وكما يقول نيتشه مخاطبا اللحظة: “فلتكرري نفسك إلى الأبد” أي إذعان كامل للصيرورة. (21)

عبء التاريخ: “التاريخ بالنسبة لنيتشه يمكن أن يهدد الحاضر، وذلك بجعل أمم الماضي العظيمة مثالية، ويحثنا على منافسة هذه الثقافات الميتة ولذا قال: “ليس لدينا نحن المحدثين ثقافة نقول عنها أنها ثقافتنا، فنحن نملأ أنفسنا بعادات وفلسفات أجنبية، وكذلك بديانات وعلوم بحيث نصبح موسوعات جوالة” (استخدام التاريخ وإساءة استخدامه) فتمثل الماضي واستخدامه في صنع حياتنا وثقافتنا هو مسخ لإرادتنا، فالتاريخ ما هو إلا عبء ميت ثقيل على الحاضر. فما قيمة أن تمتلك قدرا وفيرا من التاريخ، لكنك لا تستطيع أن تعيش حياة أصيلة من صنعك؟! إذن، إن اسقاط التاريخ على الحاضر هو إعدام للمشروع الفردي للتحقق الذاتي والفعل في العالم. وكلما قلّ اكتراثنا بالتاريخ، كلما كنا أقرب لإنتاج ثقافة حية “حرية الروح”، وإلا سنظل   “مجرد ظلال للإنسانية (22)”.

مقارنة بين إرادة القوة عند نيتشه وفكر كانط
يعتبر نيتشه أعظم فيلسوف في العصر الحديث وذلك لأنّه إستطاع بناء صرح متكامل عن الأفكار والمعتقدات وكيفية تكونيها وتطورها ثم ظهورها على حيّز الوعي، وإعتمد في ذلك على الفكر التجريدي المحض كأداه للوصول إلى حقائق وفي هذا يقول في كتابه “إرادة القوة”  أن الفكر هو أقوى شئ نجده في كل مستويات الحياة، وأنّ التفكير المجرّد بالنّسبة له هو عيد ونشوة. أما كنط ف” لم يستطع تأسيس صرح فلسفة نقدية كاملة , انطلاقا من القيم التي تتطلب قلبا نقديا, من خلال عرض العناصر التفاضلية المقابلة لها. وهو السبيل الكفيل بتحرير المعنى من واحدية الرؤية والمطلق, ناسفا بذلك منطق الثنائيات بما هو تجل واضح للميتافيزيقا التي سجنت الفكر الغربي منذ أفلاطون. إن نيتشه يحل مبدأ الشمولية الكانطي بالشعور بالاختلاف أو المسافة (العنصر التفاضلي),فمن خلال هذا الشعور بالمسافة يصبح للمرء الحق في التفلسف, الذي يعني نيتشويا خلق قيم جديدة وتحديدها, انطلاقا من استقصاء نسابي للقيم التي تتعارض مع طابعها المطلق كما مع طابعها النسبي أو النفعي. وهي المهمة التي يوكلها نيتشه للفيلسوف,لأنه يطرح على نفسه بالضبط استخدام العنصر التفاضلي كناقد ومبدع, وبالتالي كطريقة, كفعل وليس كرد فعل,حتى لا يصبح النقد رد فعل,ترجمة للضغينة وروح الانتقام. إن البحث الجنيالوجي عن المعنى يمر عبر استقصاء ومعرفة القوة أو القوى التي تمتلك الشيء تفاضليا مع القوة أو القوى المسيطر عليها, والتي تجعل من الشيء أو الظاهرة كيفما كانت ليس ظهورا وبروزا بقدر ما هي علامة, بل علامات وهنا تصبح الفلسفة عند نيتشه –كما يؤكد ذلك جيل دولوز- علم أعراض symptomalogie , ونظرية عامة للعلامات sémiologie . إن دولوز , وفي سياق تشريح متن نيتشه الفلسفي ,يركز على كون هذا الأخير , يحل ويدحض كل الثنائيات, إنه يحل محل الثنائية الميتافيزيقية للظاهر والجوهر والعلاقة العلمية للعلة والمعلول,العلاقة المتبادلة بين الظاهر والمعنى, فليس هناك الظاهر والجوهر بالإطلاق والمفرد الخاضع للتعريف من طرف الوعي, بل هناك ظواهر وجواهر تتحدد انطلاقا من علاقات القوى ومستويات التوتر المتحكمة فيها والمسيطرة على الشيء ,وكل قوة هي امتلاك كمية من الواقع, والسيطرة عليها واستغلالها, وحتى الإدراك الحسي في وجوهه المتنوعة هو تعبير عن قوى تتملك الطبيعة. وهذا يعني أن للطبيعة بذاتها تاريخا. وتاريخ شيء ما هو, عموما, تعاقب القوى التي تستولي عليه, وتعايش القوى التي تصارع من أجل الاستيلاء عليه. والموضوع ذاته والظاهرة ذاتها , يتبدل معناهما وفقا للقوة التي تستحوذ عليها, والتاريخ هو تغير المعاني. ومن هذا المنطلق يوضح جيل دولوز, باعتباره أحد أهم الفلاسفة الذين اشتغلوا بعمق وجدارة على المشروع النيتشوي ,على أنه لفهم فلسفة نيتشه, يجب أخذ تعدديتها الجوهرية بعين الاعتبار,بما هي الكفالة الوحيدة ليمارس العقل حريته , وبما هي المبدأ الوحيد لإلحاد عنيف, فتقدير القوى التي تحدد في كل لحظة وجوه شيء ما وعلاقاته بالأشياء الأخرى .كل ذلك يعود إلى فن الفلسفة الأرقى, فن التفسير, فالتفسير وحتى التقويم , هو وزن وفكرة الجوهر لا تضيع فيه,بل تأخذ معنى جديدا, لأن كل المعاني لا تتساوى بعضها مع بعض. فلشيء من المعاني قدر ما توجد قوى قادرة على الاستيلاء عليه . وهنا يضرب دولوز مثلا عزيزا على نيتشه, وهو أن ليس للدين معنى واحد, بل عدة معاني انطلاقا من كونه يخدم على التوالي قوي متعددة. لذلك –يؤكد نيتشه على لسان دولوز- أن الفلسفة بما هي فن التفسير, يجب أن تمر عبر إيمانها بقناعها الزهدي متجاوزة إياه بإعطائه معنى جديد يترجم قوتها المضادة للدين, وذلك عبر اختراق الأقنعة , وبالتالي معرفة من يتقنع ولماذا؟ وبالنتيجة ما هي الغاية والهدف من وراء المحافظة على هذه الأقنعة,وهذا العمل لا يتم إلا بفضل عين الفيلسوف النسابية” (23)
إذا أمن كانط بوجود حقيقة لا زمانية يعجز إدراكنا الحسي من الوصول إليها وهذا ما رفضه نيتشه رفضا كاملا فإتّهم كانط بالتّعصب الأخلاقي الذي يرجع بنظره إلى فكر وغريزة كانط اللاهوتية.
تأثر “إرادة القوة” بداروين وشوبنهور
وتعتبر نظرية نيتشه عن إرادة القوة مزيجا من نظرية داروين عن الصراع من أجل بقاء الأصلح وبين نظرية شوبنهور عن الإرادة. ” فهذا الأخير رأى أنّ الحقيقة النّهائية في الكون هي ” الإرادة” العمياء المكافحة التي تعبّر عن نفسها في جميع الظواهر المحيطة بنا. ورفض بذلك نظرة الماديين وإعتبارهم المادّة هي الحقيقة النهائية، شأنه في ذلك شأن الفلاسفة الألمان الكلاسيكيين مثل كانت وهيجل وفخته الذين ذهبوا إلى أنّ العقل لا المادّة هو تلك الحقيقة النهائيّة، وأن الزمان والمكان والعليّة أمور ذاتية لا موضوعية تتقرّر بالطّريقة التي ينظر بها العقل إلى الحقيقة. ولكن شوبنهور فارق زملاءة من فلاسفة الألمان الكلاسيكيين عند هذا الحد ، وأنكر على عقل الإنسان أو عقل الكون أن يكون هو الفكر أو الذكاء أو أن يسير على القواعد العقليّة المعروفة. ” (24) وبالتالي فالوعي هو سطح قلنا الذي لا نعرف باطنه. وفي هذا الباطن تكمن الإرادة التي تسيّر النشاط الإنساني، ورغبة الإنسان في الحياة هو تعبير عن هذه الإرادة. ” ومن ثم كان من اليسير على نيتشه في ضوء فلسفة الإرادة التي فصلها شوبنهور أن يفيد من التجربة الألمانية الفرنسية في وضع الأساس الذي تقوم عليه فلسفته الخاصة. فالإرادة العامّة ليست هي إرادة الحياة وإنما إرادة القوّة. فكل شيء حي يحاول أن يزيد من قوته بالتّغلب على شيء أخر. إذ “حيثما وجدت شيئا حيا وجدت إرادة القوّة، وحتى في إرادة الخادم. وجدت هنالك الإرادة في أن يكون سيّدا. وليست الضرورة أو الرغبة ولكن حب القوة هو شيطان البشرية. فأنت تعطي الناس كل شيء ممكن- الصّحة والطّعام والمأوى والمتاع، ولكنّهم يكونون ويظلّون غير سعداء متقلّبين ، لأنّ الشيطان ينتظر وينتظر ولا بدّ من أن يرضى” (25).
أثر نيتشه في الفكر السياسي الحديث
موت الإله والعلمانية في أوروبا
ساهم نيتشه في إنتشار الفكر العلماني في القارة الأوروبية، فهو برفضه لفكرة وجود الله ، أثر     في كل العلوم الإنسانية التي باتت ترفض إقامة أي دراسة من منطلق ميتافيزيقي، وهذا ما يؤكّده الدكتور محمّد سلم سعد الله عندما قال أن فلسفة نيتشه “تعد إطلالة فكرية ومعرفية ، وقد أسهمت بشكل واضح المعالم في حقل الفلسفة الأوربية على مدى قرن من الزمن ، ففكرة (موت الإله) النيتشوية أثرت بشكل واسع وكبير في الأوساط الفكرية العالمية بحيث ” لم يعد يوجد في الغرب تيار فكري أو نظرية مهمة ومؤثرة في أي من الحقول المعرفية تقول بوجود (الله) فتيارات الفكر الغربي الرئيسة أو فلسفاته ونظرياته في العلوم الإنسانية وغيرها ذات شخصية علمانية ( Secular ) بالدرجة الأولى ، وهذه الشخصية العلمانية هي التي بدأت تسيطر على الحضارة الغربية ككل منذ عصر النهضة ، وقد أصبحت في عداد البدهيات التي لا تحتاج إلى ذكر.
والثقافة الغربية التي ورثت خطيئة نيتشه بحكمها على (الإله) بالموت ، وانطلقت لتشكيل المشهد الفكري العالمي افترضت أسطورية الأديان ، ثم وهمية المفاهيم والقيم التقليديـة ، وأصبح المعيار الرئيس في عالم خالٍ من الألوهية والمقدسات هو مقدار الفكر(المتفتح) من التخلص من آثار الميتافيزيقيا (المنغلقة) ، التي كانت تسهم في رسم انحدار الإنسان نحو التخلف والجهل ـ حسب نيتشه ، فبموت (الإله) ستسقط المثالية (Idealism) وترتفع العدمية ، وستسمو معالم التجاوز والرفعة والتعالي العدمي الذي يعمل على تجريد القيم العليا من وظيفتها .
لقد قدّم نيتشه للفكر الغربي حلولاً عدة تبدأ من التخلص من هيمنة اللوجوس (Logos) وصولا إلى تمزيق الأقنعة التي تخفي وراءها الزيف ، للوصول إلى اللانظام ، واللاحقيقة ، واللإانسان ، واللإانسجام ، وخلخلة مركزية العقل الأوربي ، وانتهاء باستسلام العقل للاعقلانية الجديدة التي يطرحها نيتشة لأنها ـ كما يرى ـ هي الأضمن لتطور الإنسان وسيادته ، وهي التي ستقوده إلى إرادة العدمية ” فالإنسان يفضل أن تكون له إرادة العدم على أن لا تكون له إرادة بالمرة “.
لقد أراد نيتشة الحطّ من قيمة الميتافيزيقيا للوصول إلى مصارعة الميتافيزيقا ، لكنه انشأ في الوقت نفسه ميتافيزيقا خاصة به اتسمت ببعد الخيال ، والبناء على أسس وهمية ، والتحرر من كل القيم والأخلاق، وعدّ الإله مجرد إبتكار ، إخترعه الإنسان ليقيّد نفسه به ، فعلى الإنسان حسب نيتشه، أن يخلع عنه براءته ويعلن إلحاده ، لانّ الإلحاد يحرر من البـراءة ، وينتصر للغرائز ، ويفجّر إرادة القوة ، وعندما نجحد الإله ،يقول نيتشه ، ننقذ العالم ونصوغ مملكتنا الجديدة”. (26)
ويستمر الباحث في التأكيد على أنّ نيتشه شدّد بإستمرار على ضرورة إلغاء المقدسات فيقول للعالم الغربي: ” إما أن تلغوا مقدساتكم وإما أن تلغوا أنفسكم” ،، ثم يختار طريقه هو بالقول : ” إنّ العدمية هي الكلمة الأخيرة ” ، إنّ كل ما ينتجه العقل من مفاهيم وأنظمة فلسفية وعلمية هو حسب نيتشه مجرد تأويلات وأوهام تتحول تدريجيا إلى أصنام (Idoles) ، وأنّ (إرادة القوة) هي الكفيلة بالتصدي لتلك الأصنام وتحطيمها ، ولا يشكل العالم وفقا لذلك إلاّ مسرحاً تتخذ منه إرادات القوى وسطاً لصراعاتها ، للوصول إلى قوة أكثر قدرة على تفعيل سلطتها ، انطلاقا من قانون التطور المؤدي  حسب نيتشه ـ إلى الخلاص”. (27)
وكما سبق وأشرت أنّ نيتشه في كتابه ” هكذا تكلّم زرادشت ” قال أنّه قد ألّف إنجيلا خامسا على العالم أجمع إتّباعه وبهذا هو قد “بلغ مرحلة (التشريع) عندما أباح لنفسه صياغة إلهٍ جديد يحل محل الإله المقتـول، الذي قتلته عدمية الديانات ، والإله المقتول يصوره نيتشه على أنّه إلهٌ مزيفٌ صنعه الرسل والكهنة والقديسون ، والإله البديل الحقيقي يتجلى في الإنسان الخارق (السوبرمان) بمعنى أنّ نيتشه عَمد إلى تأليه الإنسان وإعطائه دوراً لا يستحقه من انتزاع ملكية السلطة الإلهية ، وأنسنتها للوصول إلى المُبتغى النيتشوي في سيادة الواقع والتحكم فيه” .(28)
الفكر النازي ومعادة السامية
بالإضافة إلى ما قد تقدّم ، علينا التأكيد أنّ أكبر أثر لنيتشه كان على الفكر النازي الذي ساهم في “تغذيته بالحجج السيكولوجية والسلوكيّة. فالبرغم من تعدد التفسيرات لفلسفة نيتشة ومن وضوح ميوله الفرديّة الإستقلاليّة وتمجيده للثقافة الحقيقية وللوحدة الأوروبيّة وخشيته لذلك من تهديد النزعة الوطنيّة لمثله الثقافيّة، إلا أنّ النازيين أعلنوا تبنّيهم لفلسفة نيتشه وإعلاءهم لشأن بعض المعالم الرّئيسيّة فيها. ولا شكّ أنّ هنالك تشابها ملحوظا في بعض الجوانب بين ما نادت به الإشتراكية الوطنية من تعاليم وبين ما أكّده نيتشه من نظرات فلسفية وسياسيّة خاصّة في كتاباته الأخيرة، وفي محاولاته المتكررة لإعادة تقييم القيم السائدة في المجتمع الألماني والأوروبي المعاصر، وكذلك في تنبؤاته بإتجاهات السياسة في القرن العشرين.
وعندما لاحظ أن الأخلاق والدين والسياسة وجوه مترابطة لشيء واحد. من ثم يجب البدأ بإصلاح الأخلاق والدين الذي تعتمد عليه وتتفاعل معه. والأخلاق السّائدة في أوروبا وفي ألمانيا- عند نيتشه- هي أخلاق اليهود. ولهذا نرى نيتشه يجعل من اليهود القوة المهددة للألمان والمقابلة لهم في حياتهم الخاصة والعامّة (29)” . وإن كان نيتشه لم يشارك المعادين لليهود عداءهم ولامهم على مواصلتهم لذلك العداء بإعتبار أنّه” لم يدّعِ معرفته بتفاصيل شخصية الإنسان الأمثل، إلا أنه اعتقد بوجود رفاق له، أو — بعبارة أخرى — إخوة لا يجمعه بهم رباط الدم، لكن لا بد أن يكون فردًا قلبًا وقالبًا، عبقري المستقبل لا ينتمي لجنس معين. ولهذا السبب ولأسباب أخرى كان الاستحواذ النازي على مفهوم «الإنسان الأمثل» وتحريفه ليصبح الجنس المهيمن أمرًا مشينًا في نظر جميع دارسي فلسفة نيتشه. وقد عبَّر نيتشه عن احتقاره للمعادين للسامية ولمن يروِّجون لفكرة تفوُّق الجنس الألماني؛ فالرجل العصري أو الرجل العادي أيًّا كان انتماؤه العرقي الذي يتفاخر به ملعون في نظر نيتشه، الأمر لا يتعدى حلمًا سخيفًا للثقافة المعاصرة يتمكن فيه أي فردٍ منَّا من التفوق على الإبداعات القديمة لشعوب بأسرها فقط إذا حرصنا على أن «نكون أنفسنا»، فمعظم الأفراد أتفه من أن يتوَلَّوا المهمة (كما تردِّد الجموع في فيلم مونتي بايثون الكوميدي «حياة براين» بهتافات: «كلنا أفراد!»)(30) إلا أنّه رأى من ناحية أخرى أن “ألمانيا قد إحتوت على ما يكفي بل أكثر مما يكفي لهضمها من اليهود، وأنه يجب أن تقف هجرتهم إلى ألمانيا ونزوحهم إليها خاصة من الشّرق. ولكن يهمّنا أن نلاحظ أن مجرّد إظهاره العداء بين أخلاقيات اليهود وأخلاق الألمان قد ساعد على تقوية العداء وتعميقه بين العنصر الألماني والعنصر اليهودي. سواء كان ذلك في عصره أو في القرن العشرين عندما حمل هتلر لواء النزاع بين الألمان واليهود. وإن البراءة التي إصطنعها نيتشه في معالجته لمسألة اليهود ومحاولته أحيانا أن يشيد بذكاء اليهود خاصة بذكائهم المالي، لم تحل دون تقدير النازيين للمساهمة التي أسهم بها في الصّراع الذي إحتدم بين النازية والسامية…. ولقد نجح اليهود في نشر أخلاقيات العبيد لأنهم في رأيه خاطبوا غريزة القطيع في الإنسان، فالناس منذ قديم الزمان عاشوا في قطعان مثل الأسرة والإتحادات والمجتمعات والقبائل والشعوب والدول والكنائس ، وأخذ أصحاب السلطة من قديم سواء كانوا أباء أم حكاما أم رجال دين يعملون على ضبط النزوع الإستقلالي عند الأفراد وتثبيط التعبير الحر عنه خشية إزعاج النظام العام السّائد- نظام القطيع والتّبعيّة غير المشروطة له. وساعد اليهود على ذلك ما تكون لدى الإنسان من أثر العيش في قطيع ما ربّى لديه من إحساس بالنّظام أو ما يسمّى ” الضمير الشكلي”. وتهيّأ النّصر لأخلاقيات اليهود كذلك حين تحالفت أيضا مع الدين – دين المسيحية- في نشر أخلاقيات الضعف وتمجيد الرجل الضعيف بين أتباعه. ولقد هاجم لذلك الدين المسيحي الذي يعرفه من بين الأديان، وإتّفق دون أن يدري من هذه الوجهة مع عدوّه اللّدود كارل ماركس. وكما هاجم اليهود والمسيحيّة لهذا الغرض أثنى على الرّومان الذين ما كانوا قبل إعتناقهم المسيحية وتأثرهم باليهود يحسّون بالخطيئة ووخز الضمير عند تعبيرهم عن الروح المستقلّة وإرادة الإستقلال. فالمسيح أو بولس وجد حوله حياة عامة الناس في الإقليم الروماني حياة متواضعة فاضلة مضطهدة، ففسّرها ووضع أعلى مغزى وقيمة فيها- وبهذا وضع الشجاعة لإزدراء كل طريق اخر للحياة والتّعصب الهادىء عند أهل مورافيا والثّقة بالنّفس السّرية الخفية التي تستمر في الإزدياد حتّى تصبح في النهاية مستعدّة ” لتقهر العالم” ( أي روما والطبقات العليا في جميع أرجاء الإمبراطورية)”. (31)
كما وإنتقد نيتشه بعض الأحزاب السياسية في أوروبا خاصة الأحزاب ذات الطابع الإشتراكي والديمقراطي، “فالإشتراكية والديمقراطيّة بالنّسبة له تربيان الناس على العيش كالقطيع ” وعدّد من بين هذه النّظم الحركة الديمقراطيّة التي رأى أنّها ” ميراث الحركة المسيحيّة” والحركة الإشتراكيّة التي تطالب ” بمجتمع حر” والتي يؤمن دعاتها ” بالجماعة كمنقذ وبالقطيع ومن ثم بأنفسهم” ويؤمنون كذلك ” بالأخلاق التي تقوم على التّعاطف المتبادل كأنها هي الأخلاق في ذاتها والقمّة التي بلغتها الإنسانيّة والأمل الوحيد للمستقبل وعزاء الحاضر والمحرر العظيم من كل إلتزامات الماضي”. (32)
وإزاء إنتشار الدّعوات الديموقراطيّة والإشتراكيّة، “يتمثّل نيتشه الخطر الذي يكمن فيها على مستقبل أوروبا بل على مستقبل الإنسان نفسه، ويعاني الألام النفسيّة كلّما تصوّر أثار ذلك الخطر على الإنسانيّة. فهو يرى أنّ الديمقراطيّة ليست شكلا منحطا من أشكال التنظيم السياسي وحسب وإنّما هي نموذج منحط افل من الإنسان بما تشتمل عليه من النزول بمواهبه والخفض من قيمته.  كما يرى أنّ الإشتراكيين بمحاولتهم خلق ” إنسان المستقبل” إنّما يخلقون حيوان القطيع الذي لا يحسّ مطلقا أي إستقلال في نفسه عن الجماعة التي ينتسب إليها، وهم بذلك يعملون على نشر الإنحلال بين البشريّة جمعاء. ففي المساواة التي ينشدون تحقيقها قضاء على كل حق للإمتياز والتّفرد”.(33)
الفاشية واليمين المتطرف
إذا بعد توضيح أثر نيتشه على إنتشار الفاشيّة  والنازية ، لا بد من الإشارة إلى أنّ هذا الأثر لا يزال قائما حتى اليوم  فقد “تراجعت الفاشية التقليدية في الدول الرأسمالية الصناعية الديمقراطية بشكل ملحوظ ولكن هذا التراجع ترافق مع صعود ضرب من الفاشية الجديدة ما بعد الحداثية التي ترتكز على التنوع المحلي الهائل والنجاح السياسي المتصاعد. تختلف الفاشية الجديدة في الظاهر عن الفاشية التقليدية، الأمر الذي دعا كثير من النقاد الليبراليين إلى تسميتها باليمين المتطرف وقصر مصطلح الفاشية على تلك الأحزاب التي تعتبر نفسها امتدادا للأحزاب الفاشية التي سادت في ثلاثينيات القرن الماضي. ولكن دراسة معمقة لهذه الأحزاب اليمينية المتطرفة الجديدة وتفجرها الراديكالي في الثمانينيات من القرن الماضي لا يستبعد فكرة كونها صورة ما بعد حداثية للفاشية التقليدية”(34)
تشير التطورات الحديثة في فهم الفاشية إلى “أن الفاشية شكلا ثوريا من القومية المتطرفة تهدف إلى تعبئة عامة لطاقات الأمة الجماعية لأجل إعادة التأهيل والتجديد والبعث الوطني. وتشكل الفاشية ردا على هشاشة الروح الوطنية في بيئة دولية تنافسية غير عادلة في جوهرها، وعلى فشل النخبة الوطنية في تعزيز قاعدة السلطة المحلية. ومن هنا فإن الفاشية تدعو كما يراها روجر غريفين ـ في كتابه (طبيعة الفاشية) ـ إلى مناهضة الديمقراطية الليبرالية، وإيديولوجية جمعية واقتصاد تعاوني، ومعاداة التعددية الثقافية والتقسيم الاجتماعي. ويمثل اليمين المتطرف اليوم شعبوية سلطوية داخل هياكل ديمقراطية تمثيلية، تدعو إلى شكل من (الأفضلية الوطنية) مقترنا باعتناق اقتصاد السوق الحرة فضلا عن دعمه لنظرية التعددية الإثنية )Ethnopluralism) على أساس التجانس الثقافي واستحالة تمازج الكتل الحضارية
يرصد جيف باوتشر الفروقات بين الفاشية التقليدية التي سادت بين الحربين العالميتين (1918-1939) والفاشية الجديدة المعاصرة ويقول” تميزت فاشية الثلاثينيات بتجذر القومية الإثنية في العنصرية البيولوجية والهيمنة الاقتصادية والنزعة العسكرية المناهضة للديمقراطية، في حين تميزت فاشية الألفية الثانية بالتعددية العرقية ضمن وحدة ناظمة، وبالليبرالية الجديدة، والأفضلية الوطنية، والشعبوية الديمقراطية، وسياسات الاستفتاء”. يتابع باوتشر ملاحظاته ليلفت النظر إلى طبيعة مؤيدي الفاشية الثلاثينية والفاشية المعاصرة” تضم أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا منظمات الطبقات العاملة، بل إن عدد العمال المؤيدين للأحزاب اليمينية يفوق أعداد المؤيدين للأحزاب الشيوعية”. يرى بيرو أغنازي في كتابه (الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا الغربية)” أن تصويت أعداد هائلة من أبناء الطبقة العاملة لصالح أحزاب اليمين المتطرف هو أكثر جوانب الرواية إثارة للدهشة مقارنة مع العام 1980″. وهذا يشير إلى أن أحزاب الفاشية الجديدة لم تعد تعتمد على أصوات المحتجين من الطبقة الوسطى. بل أن ناخبي اليمين المتطرف اليوم ـ ولازال الكلام لأغنازي ـ يمثلون جمهورا انتخابيا محددا معبأ بمشاعر العزلة عن النظام السياسي وعدم الرضا تجاه الديناميات الاجتماعية والاقتصادية لعملية ما بعد الحداثة والعولمة.
يقول ريتشارد فولن في كتابه (غواية اللامعقول):”تزودت ما بعد الحداثة بمذاهب فريدريك نيتشه ومارتن هايدغر وموريس بلانشو وبول دي مان، وجميعهم أما أنه أوشك أن يذعن أو أنه أذعن تماما لـ” الافتتان الفكري والثقافي بالفاشية”.
أبقت ما بعد الحداثة على كثير من الطروحات الفاشية مثل رفض وجود مصدر متعال للحقيقة، وأن الحقائق ليست سوى بُنى اجتماعية. وفي حين صادرت الفاشية حرية التعبير صراحة بحجة تأثيرها الهادم على التضامن العضوي، فإن ما بعد الحداثة صاغت هذا التقيد بلطافة الكياسة السياسية والشفرات الكلامية. فالكلمات تبعا لما بعد الحداثة ليست سوى وسائل قمع وتهديد. يؤكد الفاشيون وما بعد الحداثيين على سيادة الحكومة، ويعارضون الهوية الفردية وكرامة الإنسان المتأصلة في التراث الإنساني، وبدلا من ذلك، فإنهم يشددون على هوية المجموعة والتعددية الثقافية. إن بناء الهوية في مفاهيم ما بعد الحداثة يعادل الاستهلاك الثقافي، يقول بودريلار”أصبحت هويتنا هي ما نستهلكه”.
ينكر ما بعد الحداثيين السمو الإلهي كما فعل الفاشيون تماما. افتتنت الفاشية التاريخية بشكل الإنسان، وبالمثل، يبدو الجسد المثالي مع إطالة العمر هاجسا في ما بعد الحداثة المعاصرة. تفسر الفاشية كل فعل تفسيرا سياسيا ولا تختلف ما بعد الحداثة عنها كثير فهي التي ترفع شعار كل الحياة سياسية. يدعي ما بعد الحداثيين نبذ العنف ولكن مظاهر العنف الصارخ الهمجي تصدمنا في الفن والسينما وعروض التلفاز يقول جين ادوارد فيث في كتابة (الفاشية المعاصرة):” في الثلاثينيات من القرن الماضي صدم الفنانون الطليعيون البرجوازيين بنظرياتهم الجمالية التي تمجد العنف وتدعو لإخراج مكنونات النفس من العواطف البدائية الهمجية. واليوم إذا كنت ترغب في مشاهدة أمثلة لجماليات الفاشية البدائية فما عليك إلا أن تذهب لمشاهدة أحدث إنفجارات هوليود السينمائية الضخمة أو أن تشغل قنوات التلفاز الموسيقية أو أن تذهب إلى حفلة الهيفي ميتال الموسيقية هناك ستشاهد المثل الفنية الفاشية مجسدة المتعة من العنف، رعشة التمرد الأخلاقي، عبادة الجسد الآري، المذابح المروعة، وبطل كمال الأجسام الذي يأخذ القانون بعضلاته ويقتل أعداءه بدم بارد، وجماهير من المراهقين يرقصون على أنغام فرقة الميتاليكا” اصرخ وأنا أقتلك” هذه الفنون هي جوهر الفاشية.”
أسقطت ما بعد الحداثة من طروحاتها أمرين خالفت بهما الفاشية التقليدية وهما: القومية والعنصرية البيولوجية، ولكن ما حدث هو أن الفاشية الجديدة قد تبنت خطابات انعكاسية صممت لتموضع التناقضات الثقافية محل العنصرية البيولوجية، وفي الوقت نفسه تحتضن الفاشية الجديدة”التشكيل الذاتي للفرد” المميز لسياسات ما بعد الحداثة والثقافة المرتكزة على أسلوب الحياة، لكنها تؤطر هذه النزعة الفردية الجديدة في إطار من العنصرية الثقافية. وعلى الرغم من أن البيئة الديمقراطية في السياسة المعاصرة تستبعد التمرد المسلح، و(هيمنة الفاشية) والدكتاتورية العسكرية والحرب الأهلية التي ترعاها الدولة، والمرتبطة بحالات الإبادة الجماعية ومعسكرات الاعتقال في أوروبا أو أميركا، إلا أن الأمر لا يبعث على كثير من الطمأنينة. إذ يجب أن نتنبه إلى خطر حقيقي يستند إلى حقيقة أن الدور المساند للفاشية الجديدة يجري تنفيذه اليوم من قبل حكومات ما بعد الحداثة المحافظة، وأن الأحزاب الفاشية الجديدة في السلطة قد انجذبت نحو البراغماتية المحافظة ما بعد الحداثية بدلا من التوجه نحو الديكتاتورية العسكرية، يحذرنا أمبرتو ايكو من صور خداع الفاشية الجديدة حين يقول:” يجب علينا توخي الحذر، كي لا ننسى معنى هذه الكلمات، الفاشية البدائية لازالت بيننا، وأحيانا في صور فاضحة. سيكون من السهل علينا لو أن أحدهم ظهر على الساحة مطالبا بإعادة فتح أوشفيتز أو قال لنا: أريد أن تتمختر القمصان السوداء في ساحات ايطاليا من جديد، ولكن الحياة ليست بهذه البساطة، الفاشية البدائية يمكن أن تعود وقد أجادت التنكر واصطناع البراءة.
قبل سنوات الثمانينيات كان اليمين المتطرف الأوروبي مهمشا سياسيا لأنه حافظ على خط فاشية ما بين الحربين. ومع نهاية التسعينيات ارتفع التصويت لصالح أحزاب اليمين المتطرف. يرى أغنازي أن سبب هذا التحول هو أن حقبة الثمانينيات مثلت انفصالا جذريا بين أسلوب الفاشية الثلاثينية والفاشية الجديدة المعاصرة. وبسبب هذه القطيعة حصلت الفاشية الجديدة على مصداقية انتخابية عالية .
يعطي أغنازي أمثلة على أحزاب الفاشية التقليدية مثل الحزب البريطاني القومي
الذي أحيا الدعوة العنصرية بمعارضة السماح باستقبال المهاجرين من آسيا للعمل في بريطانيا، وللجوء السياسي في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، والحزب الوطني الديمقراطي الألماني والتحاف الوطني الإيطالي الذي تأسسّ في سنة 1995 ويتزعمه جيان فرانسكو فيني والذي حصد 12 بالمائة من أصوات الناخبين في انتخابات 2006، ويفتخر هذا الحزب بأبيه الروحي بينيتو موسيليني. أما في روسيا فقد هبت جماعات تدعو للقومية الروسية بعد سقوط الحكم الشيوعي، وقد تبنى هذا الموقف الأيديولوجي الحزب الليبرالي الديمقراطي بزعامة فلاديمير زيرينوفيسكي. أما فاشية ما بعد الصناعة فيمثلها حزب الحريات النمساوي Freiheits Österreich Parteiوحزب ليغا نورد الايطالي (LN-Italy)الذي تأسسّ في سنة 1994 ويترأسه أومبرتو بوسي والذي حصد 4% من أصوات الناخبين في انتخابات 2006، ويتبنى الحزب سياسة عدائية من المهاجرين، بل وطالب رئيسه فيحوار صحفي بالقيام بإطلاق النار على المقيمين بطريقة غير شرعية في إيطاليا، وقريب من هذا الحزب حزب الجبهة الوطنية الفرنسي الذي يتزعمّه جون ماري لوبان والذي تأسس سنة 1972، وفي السياق نفسه يتحرك حزب من أجل فرنسا )MPF) الذي تأسسّ في سنة 1994 وترأسّه فيليب دوفلييه.
ترتكز كل مجالات عمل الأحزاب اليمينية المتطرفة على مشروع ثقافي غير ظاهر ـ ولكنه حاسم ـ يربط بين الأفضلية الوطنية والسياسات الشعبوية من جهة، و(التجديد الوطني) من جهة أخرى. إنها المقاومة البيضاء التي كان منشؤها التقاليد الأمريكية التي تزعم تفوق البيض والقومية العنصرية، وفكرة أن بقاء الجنس الأبيض والحضارة الغربية مهدد بـ(الإبادة المنظمة للعرق الأوروبي). وهذا يحدث عن طريق الإجهاض والهجرة والتزاوج. يشعر أنصار اليمين المتطرف بمزيد من الاغتراب نحو أداء النظام والمؤسسات الديمقراطية. وهذه هي (فرضية عدم الرضا السياسي) التي تجعل من نقد المؤسسات الديمقراطية القائمة يعادل الدعوة إلى الأفضلية الوطنية. وتتعزز المشاعر المعادية للنخب بالتشكيك في الأحزاب وبرامجها، ويستفيد اليمين المتطرف من تناغم أنصاره ومجتمعاته المحلية، ويتميز ببغضه للانقسامات الاجتماعية والتعددية السياسية.
يهاجم الفاشيون الجدد التعددية والمساواة بين البشر والمنافسة السياسية وتسوية الصراعات. يقول أغنازي” أن الثقافة السياسية الكلية والواحدية لليمين المتطرف معادية للنظام”. ويرى أيضا أن”خيارات معادة النظام الراديكالية تمثلت في الاستبدادية المعادية لليبرالية وفي الواحدية المعادية للتعددية وفي كراهية الأجانب المعادية للمساواة بين البشر”. وكانت نتيجتها المتوقعة دعم أحزاب اليمين المتطرف الذي يتمتع اليوم بجاذبية خاصة لأنه يسمح بأقصى تعبير ممكن عن مشاعر الإحباط وعدم الارتباط والاغتراب عن النظام, ويمنح أنصاره عالما خاصا بعيداً عن السياسة السائدة. والأكثر جاذبية هو منظور التكامل الجديد في مجتمع متجانس دينيا واثنيا، وفي مجتمع كلي أحادي على المستوى الوطني وما دون الوطني يرتبط بعلاقة اجتماعية قوية وهرمية داخل حدود مجتمع قومي”.(35)
خاتمة
لقد بيّنا في هذا البحث مفهوم القوة منذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا ، وأشرنا إلى بروز مفهوم القوة في الفلسفة والسياسة مع الفيلسوف السياسي نيتشه الذي أمن أنّ إرادة القوّة هي ما يدفع الإنسان على العمل ولا شيء أخر، ثمّ أكّدنا أنّ نيتشه ما زال يؤثر في الفكر السياسي الحديث عبر أحزاب اليمين، أو اليمين المتطرف كما تصنّفه السياسات الكلاسيكية الغربية. وقد ساعدني على إنجاز هذا البحث إعتماد مناهج بحث دقيقة –  التاريخي والفلسفي- فنظّمت بدّقة تسلسل الأفكار والمفاهيم التي قد تكون مبهمة فتصبح أكثر إبهاما وتعقيدا لو لم يراعى بحثها وإبرازها في هذه الطريقة المبسّطة ، والتي تناولت مفهوم القوة منذ اليونان حتى أحزاب اليمين المتطرف التي تخوض في العملية السياسية اليوم والتي تتبنى إيديولجيات فاشية يفخر بعض الأحزاب فيها، كتبني بعضها فكرا عنصريا يدعو إلى ضرورة المحافظة على العرق الأوروبي الأبيض والحد من التزاوج بين الإثنية الأوروبية وغيرها من الإثنيات إذ قد يساهم هذا الأمر في القضاء على أسمى شعوب الأرض- كما يسمّونهم في أدبياتهم.
وتبيّن لنا أيضا أن نيتشه يستحق  لقب الفيلسوف الأعظم في العصر الحديث، فهو زلزل مفاهيم مصيرية في حياة البشر كالقيم والأخلاق والدين وأعاد إشكالية مصير كل ما يتعلّمه الإنسان منذ نعومة أظافره والذي يبرز في وعيه وسلوكه المبني على هذا الوعي. فهل كل ما تعلّمناه مهم؟ هل نؤمن بكل ما نؤمن به لأننا حقا مقتنعين أم هي إرادة القوة والرغبة في الإنضمام إلى الجماعة وعدم الشعور بالعزلة هو ما يدفعنا إلى هذا الإيمان؟ ما هي حقا القوة التي تسيّرنا؟ هل هي الإرادة أم الفضيلة أم إرادة القوّة والتّميز؟ أسئلة كثيرة يطرحها نيتشه على الناس ويطلب منهم أن يبحثوا عن أجوبة لها كي لا يعيشوا ضالين مضلّين ويقفوا حجر عثرة أمام تطوّر الإنسان الأعلى.
فهرس المصادر والمراجع
زهراء علي مكّة، ” فلسفة القوة بين نيتشه والمرجع فضل الله “، موقع إسلام معاصر، التاريخ: ٤/١/٢٠١٣
http://www.islammoasser.org/ArticlePage.aspx?id=790
مبارك بدري، “مفهوم السلطة عند ماكس فيبر” ، موقع الحوار المتمدن الإلكتروني، العدد:3061-12/7/2010  الساعة 5:12
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=222180

نضال البيابي- ميدل إيست أون لاين، ” قراءة في الفلسفة العدميّة لنيتشه”، حرر في: 2010/11/29، مركز أفاق للدراسات والبحوث.
http://aafaqcenter.com/post/448
د. هاجر أبو قاسم محمّد الهادي، ” مفهوم السّياسة والقوّة” ، أوراق بحثيّة، مركز التنوير المعرفي، سبتمبر 2009 .
http://tanweer.sd/arabic/modules/smartsection/item.php?itemid=87
د. هاجر أبو قاسم محمّد الهادي، ” مفهوم السّياسة والقوّة” ، أوراق بحثيّة، مركز التنوير المعرفي، سبتمبر 2009 .
http://tanweer.sd/arabic/modules/smartsection/item.php?itemid=87
د. هالة أبو حمدان، صراعات القوة وأحلافها في العلاقات الدّولية، سلسلة محاضرات،  الجامعة اللبنانية، ص 17-18.
سومر إلياس، “القوّة والسّياسة”،  موقع الحوار المتمدّن – العدد: 2609-  تاريخ: 7/4/ 2000 الساعة: 9:18.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=168150
د. هالة أبو حمدان، صراعات القوة وأحلافها في العلاقات الدّولية، سلسلة محاضرات، الجامعة اللبنانية، ص 18.
المرجع نفسه ص 19.
د. سميح أبو ضرغم، الأمن الدّولي والتّسلّح ( دراسة في التّسلح ونزع السلاح والأمن الإقليمي والدّولي)، ص 54، بيروت 2013.
المرجع نفسه ص57.
نضال البيابي، ” قراءة في الفلسفة العدميّة لنيتشه”، ميدل إيست أون لاين، نشر في 29-11-2010 .
http://www.middle-east-online.com/?id=100820
المصدر نفسه
علي مصباح، فريدريش نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص40،41،42،43 منشورات الجمل،ط1، بغداد 2007.
المرجع نفسه ص 45.
نضال البيابي، ” قراءة في الفلسفة العدميّة لنيتشه”، ميدل إيست أون لاين، نشر في 29-11-2010 .
http://www.middle-east-online.com/?id=100820
علي مصباح، فريدريش نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ص14-15 منشورات الجمل،ط1، بغداد 2007.
محمود نصر،في النظريات والنظم السياسية، ص 123-124 ، دار النهضة العربية، ط1، بيروت 1993.
نضال البيابي، ” قراءة في الفلسفة العدميّة لنيتشه”، ميدل إيست أون لاين، نشر في 29-11-2010 .
http://www.middle-east-online.com/?id=100820
المصدر نفسه
المصدر نفسه
المصدر نفسه
عياد أبلال، “فلسفة القوة عند نيتشه”، موقع الحوار المتمدن، العدد 2155، 9/1/2008
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=120869
محمود نصر،في النظريات والنظم السياسية، ص 124، دار النهضة العربية، ط1، بيروت 1993.
محمود نصر،في النظريات والنظم السياسية، ص 125 ، دار النهضة العربية، ط1، بيروت 1993.
د.محمد سالم سعدالله،” فلسفة نيتشه وأثرها على الفكر العالمي”،5-2-2005.
http://www.odabasham.net/show.php?sid=2891
المصدر تفسه
المصدر نفسه
محمود نصر،في النظريات والنظم السياسية، ص /128122، دار النهضة العربية، ط1، بيروت 1993.
نيفين عبد الرؤوف، إريك فالتر، نيتشه: فيلسوفنا المعاصر، 29 أبريل 2013.
http://www.hindawi.org/safahat/74790715/%D9%86%D9%8A%D8%AA%D8%B4%D9%87_%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81%D9%86%D8%A7_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1/
محمود نصر،في النظريات والنظم السياسية، ص 128-130، دار النهضة العربية، ط1، بيروت 1993.
محمود نصر،في النظريات والنظم السياسية، ص 131-132، دار النهضة العربية، ط1، بيروت 1993.
محمود نصر،في النظريات والنظم السياسية، ص 131-132، دار النهضة العربية، ط1، بيروت 1993.
أماني أبو رحمة، “الفاشية الجديدة وما بعد الحداثة: أحزاب اليمين المتطرف أنموذجا”، موقع البديل،السبت، يونيو 7.
المصدر نفسه

السبت، 17 سبتمبر 2016

ما هي الأنثروبولوجيا الثقافية ؟


المكتبة العامة 



أولاً-تعريف الأنثروبولوجيا الثقافية‏
تعرّف الأنثروبولوجيا الثقافية -بوجه عام – بأنّها العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع لـه ثقافة معيّنة. وعلى هذا الإنسان أن يمارس سلوكاً يتوافق مع سلوك الأفراد في المجتمع (الجماعة) المحيط به، يتحلّى بقيمه وعاداته ويدين بنظامه ويتحدّث بلغة قومه .‏
ولذلك، فإنّ الأنثروبولوجيا الثقافية :هي ذلك العلم الذي يهتمّ بدراسة الثقافة الإنسانية، ويعنى بدراسة أساليب حياة الإنسان وسلوكاته النابعة من ثقافته. وهي تدرس الشعوب القديمة، كما تدرس الشعوب المعاصرة. (بيلز وهويجر، 1976، ص 21)‏
فالأنثروبولوجيا الثقافية إذن، تهدف إلى فهم الظاهرة الثقافية وتحديد عناصرها. كما تهدف إلى دراسة عمليات التغيير الثقافي والتمازج الثقافي، وتحديد الخصائص المتشابهة بين الثقافات، وتفسّر بالتالي المراحل التطوّرية لثقافة معيّنة في مجتمع معيّن .‏
ولهذا استطاع علماء الأنثروبولوجيا الثقافية أن ينجحوا في دراساتهم التي أجروها على حياة الإنسان، سواء ما اعتمد منها على التراث المكتوب للإنسان القديم وتحليل آثارها، أو ما كان منها يتعلّق بالإنسان المعاصر ضمن إطاره الاجتماعي المعاش .‏
وهذا يدخل – إلى حدّ بعيد- فيما يسمّى (علم اجتماع الثقافة) والذي يعني تحليل طبيعة العلاقة بين الموجود من أنماط الإنتاج الفكري، ومعطيات البنية الاجتماعية، وتحديد وظائف هذا الإنتاج في المجتمعات ذات التركيب التنضيدي أو الطبقي. ويتضمنّ هذا التعريف الاعتبارات التالية : (لبيب، 1987، ص24- 26)‏
1- إنّ الحديث عن أنماط الإنتاج الفكري، يعني أنّ التجانس الثقافي بالمعنيين : الفلسفي والأنثروبولوجي، هو غير عمليات علم الاجتماع. لأنّ هذا التجانس يغطّي وجوداً حقيقياً لأنماط مختلفة من الثقافة، قد تتناقض مضموناً ووظيفة في المجتمع الواحد. فعلى الرغم من وجود بعض العوامل (الأنثروبولوجية) المشتركة، فلا توجد موضوعيّاً في المجتمعات ذات التركيب الطبقي “” ثقافة للجميع “، حتى وإن ادّعت أو أرادت هذه الثقافة لنفسها، أن تكون كذلك. فهناك من وجهة نظر اجتماعية نمطية ثقافية (ربّما في ذلك أنماط الثقافة الجماهيرية) يفضي تصنيفها وتحليلها، إلى إبراز التمايز الاجتماعي الذي تعبّر عنه بالضرورة. وهذا يعني أن اجتماعية الثقافة في نهاية الأمر، هي اجتماعية التباين في الثقافة وعدم مساواة في المجال الثقافي .‏
2- إنّ الحديث عن المجتمعات المنضّدة (الطبقية) ليس حصراً بقدر ما هو تأكيد على أنّ الإنتاج الفكري هو تعبير عن مرحلة معيّنة من التمايز بين الأصناف الاجتماعية الاقتصادية. وأن استعمال مفهوم التركيب التنضيدي Stratification، على الرغم من غموضه، يقحم في حقل التحليل الاجتماعي مجتمعات تاريخية قبل رأسمالية، قد يكون مضمونها الطبقي محلّ نقاش. وعلى هذا الأساس، تكون المجتمعات الوحيدة التي تخرج من الحقل الاجتماعي، هي تلك التي تسمّى عادة بالمجتمعات (البدائية )، والتي لم تصل فيها أنماط الإنتاج الفكري إلى درجة كافية من التمايز تسمح لها بتصنيف معيّن .‏
3- ليس المهمّ من وجهة النظر التحليلية إثبات العلاقة بين الإنتاج الفكري والواقع الاجتماعي، بقدر ما هو تحليل أشكال هذه العلاقة في مرحلة معيّنة لمجتمع معيّن. ويعدّ هذا التحليل مصدراً أساسيّاً في المناقشات المتعلّقة بالروابط الموجودة بين البنية التحتية والبنية الفوقية، والتي أفضت إلى تأكيد فكرة التبادل الدياليكتيكي القائم بينهما. وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ اجتماعية الأدب والفن، ساهمت مساهمة متطوّرة في تحليل أشكال العلاقة بين الإنتاج الفكري، ومعطيات البنية الاجتماعية .‏
4- إن تحديد الكيفية التي يحوّل بها إنتاج فكري، كالقصّ أو المسرح مثلاً، معطيات الواقع، لا يكفي، بل لا بدّ من إبراز الوظيفة الاجتماعية / السياسية لهذا الإنتاج، ولا سيّما أنّ المنتجين ينتمون إلى فئات من المثقّفين يؤدّون أدواراً قد يعونها أو لا يعونها لصالح أصناف أو طبقات اجتماعية معيّنة. وهذه الوظيفة ليست مظهراً ثانوياً أو تكميلياً، بل هي بعدٌ من أبعاد العلاقة بين الثقافة والمجتمع، ولا يمكن تفسير أي حدث فكري من دونها. وهي في الوقت ذاته، توجد حلاًّ لما يسمّى ” استقلالية ” القيم الفكرية والجمالية، وذلك من خلال اكتشاف وظيفة استمرارية هذه القيم، أو بعثها في ظروف تاريخية محدّدة.‏
إنّ دراسة الوسط الثقافي، تكشف عن الآلية السيكولوجية التي توجّه سلوك الفرد، وتصرف النزعة العدوانية في مجالات تنفيس مهذّب. والمثال على ذلك في بعض النظم الاجتماعية، كما في طقوس (الآبوApo) التي تمارسها قبائل الآشانتي Ashanti في ساحل الذهب في أفريقيا الغربية .‏
ففي احتفالات الآبو، لا يسمح فقط، بل يجب، أن يسمع أصحاب السلطة، السخرية واللوم واللعنات من رعاياهم بسبب المظالم التي ارتكبوها. ويعتقد رجال الآشانتي أنّ في هذا ضمانة لكي لا تتعذّب أرواح الحكام بسبب كبت استياء الغاضبين. ولولا ذلك، لأفضى تراكم الاستياء وتعاظم قوّته، إلى إضعاف سلطة الحكام، بل وإلى قتلهم. ولا تتطلّب فعالية هذه الآلية (الفرويدية الجوهر) في التنفيس عن الكبت أي إيضاح. فهي تلقي ضوءاً أكبر على ما تقوم به من أشكال السلوك المنظّمة في نظم اجتماعية، من تصحيح لاختلال التوازن في نمو شخصيات الأفراد الذين تشملهم. (هرسكوفيتز، 1974، ص 59 )‏
ومن هذا المنطلق تهتمّ الأنثروبولوجيا الثقافية بالتراث والحياة داخل نطاق المجتمع، ويمكن بوساطتها الخوض في جوهر الثقافات المختلفة، ومعرفة كيف تحيا الأمم، من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية :‏
ما هي سبل العيش المتّبع لديهم؟ ما هي الطرائق التي يتبعونها في تربية أبنائهم ؟ كيف يعبّرون عن أنفسهم؟ ما هي طريقتهم في أداء عباداتهم؟ ما هي العلوم والآداب والفنون السائدة عندهم؟ وكيف ينقلون تراثهم إلى أجيالهم الجديدة من بعدهم؟ وغير ذلك من العادات والقيم وأساليب التعامل فيما بينهم .‏
ثانياً-نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ومراحل تطوّرها :‏
لم تظهر الأنثروبولوجيا الثقافية كفرع مستقلّ عن الأنثروبولوجيا العامة، إلاّ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .‏
وربّما يعود الفضل في ذلك إلى العالم الإنكليزي / إدوارد تايلور / الذي يعدّ من روّاد الأنثروبولوجيا، والذي قدّم أول تعريف شامل للثقافة عام 1871 في كتابه ” الثقافة البدائية ” .وقد مرّت الأنثروبولوجيا الثقافية بمراحل متعدّدة، منذ ذلك الحين حتى وصلت إلى ما هي عليه في العصر الحاضر. ( Barnouw, 1972, p.7 )‏
مرحلة البدية : وتمتدّ من ظهور هذه الأنثروبولوجيا وحتى نهاية القرن التاسع عشر. وكانت عبارة عن محاولات لرسم صورة عامة لتطوّر الثقافة منذ القدم، والبحث أيضاً عن نشأة المجتمع الإنساني.‏
وظهر في هذه الفترة إلى جانب العالم الإنكليزي / تايلور /، العالم الأمريكي / بواز / الذي أخذ بالاتجاه التاريخي في دراسة الثقافات الإنسانية، وذلك من جانبين ؛ أولهما : إجراء دراسات تفصيلية لثقافات مجموعات صغيرة، كالقبائل والعشائر، ومراحل تطوّرها .‏
وثانيهما : أجراء مقارنة بين تاريخ التطوّر الثقافي، عند مجموعة من القبائل، بغية الوصول إلى قوانين عامة أو مبادىء، تحكم نمو الثقافات الإنسانية وتطوّرها. وهذا ما يعطي أهميّة للأنثروبولوجيا باعتبارها علماً لـه منهجيّته الخاصّة .‏
المرحلة الثانية : وتقع ما بين (1900- 1915 م)، وتعدّ المرحلة التكوينية، حيث تركّزت الجهود في الأبحاث والدراسات، على مجتمعات صغيرة محدّدة لمعرفة تاريخ ثقافتها ومراحل تطوّرها، وبالتالي تحديد عناصر هذه الثقافة قبل أن تنقرض .‏
واستناداً إلى ذلك، جرت دراسات عديدة على ثقافة الهنود الحمر في أمريكا، وتوصّل الباحث الأمريكي / وسلر / إلى أسلوب يمكن بوساطته من دراسة أي إقليم أو منطقة في العالم تعيش فيها مجتمعات ذات ثقافات متشابهة، أو ما أصطلح على تسميته بـ (المنطقة الثقافية ). وقد شبّه / وسلر / المنطقة الثقافية بدائرة، تتركّز معظم العناصر الثقافية في مركزها، وتقلّ هذه العناصر كلّما ابتعدت عن المركز.‏
المرحلة الثالثة : وتقع ما بين (1915- 1930 م) وتعدّ فترة الازدهار، حيث تميّزت بكثرة البحوث والمناقشات في القضايا التي تدخل في صلب علم الأنثربولوجيا الثقافية، ولا سيّما تلك الدراسات التي تركّزت في أمريكا .‏
ويرجع ازدهار الأنثربولوجيا في تلك الفترة، إلى نضج هذا العلم ووضوح مفاهيمه ومناهجه. وترافق ذلك بازدهار المدرسة التاريخية في أمريكا، وظهور المدرسة الانتشارية في إنكلترا، ولا سيّما بعد الأخذ بمفهوم (المنطقة الثقافية) الذي طرحه / وسلر / كإطار لتحليل المعطيات الثقافية وتفسيرها، والتوصّل إلى العناصر المشتركة بين الثقافات المتشابهة.‏
المرحلة الرابعة : ومدّتها عشر سنوات فقط، وتقع ما بين (1930- 1940 م). وعلى الرغم من قصر مدّتها، فقد أطلق عليها الفترة التوسّعية، حيث تميّزت باعتراف الجامعات الأمريكية والأوروبية بالأنثروبولوجيا الثقافية كعلم خاص في إطار الأنثروبولوجية العامة، وخصّصت لها فروع ومقرّرات دراسية في أقسام علم الاجتماع في الجامعات.‏
وظهرت في هذه الفترة النظرية (التكاملية) التي تبنّاها / سابير / عالم الاجتماع الأمريكي، واستطاع من خلالها تحديد مجموعة متناسقة من أنماط السلوك الإنساني، والتي يمكن اعتمادها في دراسة السلوك الفردي، لدى أفراد مجتمع معيّن، حيث أنّ جوهر الثقافة هو في حقيقة الأمر، ليس إلاّ تفاعل الأفراد في المجتمع بعضهم مع بعض، وما ينجم عن هذا التفاعل من علاقات ومشاعر وطرائق حياتية مشتركة .‏
وقد تأثّرت الأنثروبولوجيا في هذه الفترة- إلى حدّ بعيد- بالأنثروبولوجيا الاجتماعية، ولا سيّما في مفاهيمها ومناهجها، وذلك بفضل الأبحاث التي قام بها كلّ من / مالينوفسكي وبراون / في مجالات الأنثربولوجيا الاجتماعية .‏
المرحلة الخامسة : وهي الفترة المعاصرة التي بدأت منذ عام 1940، وما زالت حتى الوقت الحاضر. وتمتاز هذه المرحلة بتوسّع نطاق الدراسات الأنثروبولوجية، خارج أوروبا وأمريكا، وانتشار الأنثروبولوجيا الثقافية في العديد من جامعات الدول النامية، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينينية.‏
وترافق ذلك مع ظهور اتّجاهات جديدة في الدراسات الأنثربولوجية، كان الاتّجاه القومي في مقدّمة هذه الاتّجاهات الحديثة في الأنثروبولوجيا الثقافية، والذي يهدف إلى تحديد الخصائص الرئيسة للثقافة القوميّة. وقد أخذت بهذا الاتّجاه الباحثة الأمريكية / روث بيندكيت / التي قامت بدراسة الثقافة اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية .‏
ويسمّى الاتجاه القومي في تقييم الثقافة : ” الانطوائية القومية ” والتي تعني: أنّ الانسان يفضّل طريقة قومه في الحياة، على طرائق الأقوام الأخرى جميعها. تلك هي النتيجة المنطقية لعملية التثقيف الأولى، والتي يتّفق بها شعور معظم الأفراد نحو ثقافتهم الخاصة، سواء أفصحوا عن هذا الشعور أو لم يفصحوا .‏
وتتجلّى الانطوائية القومية لدى الشعوب البدائية بأحسن أشكالها ، في الأساطير والقصص الشعبية، والأمثلة والعادات اللغوية .. فأسطورة أصل العروق البشرية لدى هنود (الشيروكي) تعطينا مثالاً حيّاً عن الانطوائية القومية. تقول الأسطورة :‏
” صوّر الخالق الإنسان بأن صنع أولاً فرناً وأوقد النار فيه، ثمّ صنع من عجينة ثلاثة تماثيل على شكل الإنسان، ووضعها في الفرن وانتظر شيّها (شواءها ). غير أنّ لهفة الخالق إلى رؤية نتيجة عمله الذي يتوّج تجربته في الخلق، كانت من الشدّة بحيث أخرج التمثال الأول مبكراً، فكان – وللأسف- غير ناضج شاحباً باهت اللون، ومن نسله كان العرق الأبيض. أمّا التمثال الثاني، فكان ناضجاً جيّداً لأنّ مدّته في الشواء كانت مضبوطة وكافية، فأعجبه شكله الأسمر الجميل، وكان هذا سلف الهنود. وانصرف الخالق إلى تأمّل صورته، ناسياً أن يسحب التمثال الثالث من الفرن حتى اشتمّ رائحة الاحتراق. فتح باب الفرن فجأة، فوجد هذا التمثال متفحماً أسود اللون .. فكان ذلك مدعاة للأسف، ولكن لم يعد بالإمكان حيلة، وكان هذا أول رجل أسود .” (هرسكوفيتز، 1974، ص 72 )‏
بهذه الصورة تبدو الانطوائية القومية لدى الكثير من الشعوب .. حيث يصرّ الإنسان / الفرد على التعبير عن صفات قومه الحميدة .. ولهذا يحكم أي إنسان على النظام القيمي/ الاجتماعي لدى أي شعب آخر، من خلال العلاقة التي تربط هذا الشعب بشعبه، وفق درجة الرغبة والقبول في ذلك، والتي قد تصل إلى حدود الرفض المطلق أو القبول المطلق، وفقاً لمعايير عامة .‏
وكانت من أهمّ الاتجاهات الحديثة أيضاً في الأنثروبولوجيا الثقافية، تلك الدراسات التي عنيت بالمجتمعات المتمدّنة، وما أطلق عليها ” دراسة الحالة “. كدراسة أوضاع قرية أو عدد من القرى المتجاورة، أو في منطقة معيّنة، أو دراسة ثقافة خاصة بمجموعة أو بفئة من البشر. إضافة إلى دراسات أكاديمية تتعلّق بخصائص الأنثروبولوجيا الثقافية ومبادئها، ومناهج البحث فيها وطرائقها وأساليبها .. وغيرها ممّا يسهم في إجراء الدراسات على أسس موضوعية وعلمية تحقّق الأهداف المرجوة منها.‏
ثالثاً-أقسام الأنثروبولوجيا الثقافية :‏
على الرغم من تعدّد العناصر الثقافية، وتداخل مضموناتها وتفاعلها في النسيج العام لبنية المجتمع الإنساني، فقد اتّفق الأنثروبولوجيون على تقسيم الأنثروبولوجيا الثقافية إلى ثلاثة أقسام أساسيّة، هي : (علم الآثار – علم اللغويات – وعلم الثقافات المقارن) وفيما يلي شرح لكلّ منها :‏
1-علم اللغويات :‏
هو العلم الذي يبحث في تركيب اللغات الإنسانية، المنقرضة والحيّة، ولا سيّما المكتوبة منها في السجلاّت التاريخية فحسب، كاللاتينية أو اليونانية القديمة، واللغات الحيّة المستخدمة في الوقت كالعربية والفرنسية والإنكليزية. . ويهتمّ دارسو اللغات بالرموز اللغوية المستعملة، إلى جانب العلاقة القائمة بين لغة شعب ما، والجوانب الأخرى من ثقافته، باعتبار اللغة وعاء ناقلاً للثقافة.‏
إنّ اللغة من الصفات التي يتميّز بها الكائن الإنساني عن غيره من الكائنات الحيّة الأخرى، فهي طريقة التخاطب والتفاهم بين الأفراد والشعوب، بواسطة رموز صوتية وأشكال كلامية متّفق عليها، ويمكن تعلّمها .. علاوة على أنّها وسيلة لنقل التراث الثقافي / الحضاري، حيث يمكن استخدام معظم اللغات في كتابة هذا التراث .‏
يحتلّ علم اللغة مكاناً ممتازاً في مجمل العلوم الاجتماعية التي ينتمي إليها ؛ فهو ليس علماً اجتماعياً كالعلوم الأخرى، بل العلم الذي قدّم إنجازات عظيمة، وتوصّل إلى صياغة منهج وضعي ومعرفة الوقائع الخاصة. ولذلك، ارتبط علماء النفس والاجتماع والأثنوغرافيا بالحرص على تعلّم الطريق المؤدّية إلى المعرفة الوضعية للوقائع الاجتماعية، من علم اللغة الحديث .‏
يدرس علماء الأنثروبولوجيا، اللغة في سياقها الاجتماعي والثقافي، في المكان والزمان. ويقوم بعضهم باستنتاجات تتعلّق بالمقوّمات العامة للغة وربطها بالتماثلات الموجودة في الدماغ الإنساني. ويقوم آخرون بإعادة بناء اللغات القديمة من خلال مقارنتها بالمتحدّرات عنها في الوقت الحاضر، ويحصلون من ذلك على اكتشافات تاريخية عن اللغة.‏
وما يزال عدد من علماء الأنثروبولوجيا اللغوية، يدرسون اختلافات اللغة ليكتشفوا الادراكات والنماذج الفكرية المختلفة، في عدد وافر من الحضارات. ويدخل في ذلك، دراسة الاختلافات اللغوية في سياقها الاجتماعي، وهو ما يدعى (علم اللغة الاجتماعي) الذي يدرس الاختلاف الموجود في لغة واحدة، ليظهر كيف يعكس الكلام الفروقات الاجتماعية .( Kattak,1994, 10 )‏
إنّ التشابه المنهجي الشديد بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من جهة، وعلم اللغة من جهة أخرى، يفترض واجباً خاصاً من التعاون فيما بينها، حيث يستطيع علم اللغة أن يقدّم البراهين المساعدة في دراسة مسائل القرابة، من خلال تقديم أصول الكلمات وما ينتج عنها من علاقات في بعض ألفاظ القرابة التي لم تكن مدركة بصورة مباشرة، من قبل عالم الأنثربولوجيا أو عالم الاجتماع، وبذلك يلتقي علماء الأنثروبولوجيا، بهدف مقارنة الفروع التي ينتجها هذان العلمان. ويقترب اللغويون من علماء الأنثروبولوجيا، آملين في جعل دراساتهم أكثر واقعية، وفي المقابل، يلتمس الأنثروبولوجيون اللغويين كلّما توسّموا فيهم القدرة على إخراجهم من الاضطراب الذي ألقتهم فيه على ما يبدو، أُلفتهم الزائدة مع الظاهرات المادية والتجريبية. (ستروس، 1977، ص 49 و92)‏
ولذلك، يلاحظ أنّ فرع اللغويات هو حالياً من أكثر فروع الأنثروبولوجيا الثقافية، استقلالاً وانعزالاً عن الفروع الأخرى .فدراسة اللغات يمكن أن تجري دون اهتمام كبير بعلاقاتها مع الجوانب الأخرى في النشاط الإنساني، وهذا هو الواقع في حالات كثيرة .ومما لا شك فيه، أنّ اللغات – بما فيها من تراكيب معقّدة وغريبة، وما تنطوي عليه من تنوّع هائل، ولا سيّما عند الشعوب البدائية، تزوّد الباحث بمادة دراسية غنيّة لا يمكن حصرها .( لينتون، 1967، ص 20)‏
ولذلك، يعطي / ليفي ستروس / أهميّة بالغة لِلُّغَةِ ويعتبرها أحد الأركان الأساسية في علم الإنسان، إن لم تكن حجر الزاوية في ذلك العلم، وعلى أساس أنّ اللغة هي الخاصية الرئيسة التي تميّز الإنسان عن الكائنات الحيّة الأخرى. ولذلك، يعتبرها الظاهرة الثقافية الأساسية التي يمكن عن طريقها، فهم كلّ صور الحياة الاجتماعية. وهذا ما يؤكّده في كتابه (المناطق المدارية الحزينة) والذي يعرف في العالم العربي باسم (الآفاق الحزينة) وهو نوع من السيرة الذاتية في قالب أنثروبولوجي، حيث يقول : ” حين نقول الإنسان .. فإنّنا نعني اللغة. وحين نقول اللغة … فإنّنا نقصد المجتمع ..”‏
وهذا ما دفعه إلى استخدام مناهج اللغويات الحديثة وأساليبها، في تحليله للمعلومات الثقافية، وكلّ مادة غير لغوية. كما جعله يعطي الكلمة (الدال) من الأهميّة أكثر ممّا يعطي للمعنى (المدلول )، ولا سيّما أنّ الدال الواحد (الكلمة الواحدة) قد يكون لـه مدلولان مختلفان بالنسبة لشخصين مختلفين، وذلك تبعاً لاختلاف تجاربهما. بل أنّ الدال الواحد، قد تكون لـه مدلولات مختلفة بالنسبة للشخص نفسه، وفي أوقات أو ظروف مختلفة. (أبو زيد، 2001، ص 86 )‏
وعلى الرغم من أنّ علماء اللغة لم يتمكّنوا من تحديد أسبقية لغة على أخرى، فقد توصّلوا من خلال دراساتهم إلى تصنيف اللغات المختلفة بحسب طبيعتها واستخدامها، في ثلاثة أقسام هي :‏
-اللغات المنعزلة : وهي اللغات التي تتخاطب بها فئات منعزلة عن الفئات الأخرى، ولا تفهمها إلاّ تلك الفئات المتحدّثة بها. وهي لغة لا تكتب وليس لها تاريخ .‏
-اللغات الملتصقة : وهي اللغات التي تتخاطب بها شعوب كبيرة، ولكنّها ملتصقة بهم وبتراثهم. وهي لغات معروفة، ولكن ليس لها قواعد، وإنّما تعتمد على المقاطع والكلمات، مثل : اللغة الصينيّة .‏
-اللغات ذات القواعد (النحو والصرف) : وهي اللغات الحديثة التي تستخدمها الأمم المتحضّرة، لها قواعد نحوية وصرفية، تضبط جملها وقوالبها اللغوية، مثل : اللغة العربية، واللغات الأوربية ،( زرقانة، 1958، ص 148)‏
ومهما يكن هذا التقسيم، فإنّ اللغات المستعملة في العالم، جميعها، شُكّلت من أصوات متناسقة تدلّ على هذه اللغة أو تلك، وفق أصول وقواعد خاصة بها. ولهذا يقسم علم اللغويات إلى أقسام فرعيّة، من أهمّها : علم اللغات الوصفي، وعلم أصول اللغات .‏
1/1- علم اللغات الوصفي : يهتمّ بتحليل اللغات في زمن محدّد، ويدرس النظم الصوتية، وقواعد اللغة والمفردات. ويعتمد عالم اللغات في دراساته هنا على اللغة الكلامية، ولذلك يستمع إلى الأفراد، ولا سيّما إذا كانت الدراسة متعلّقة بلغات لم تكتب. فيقوم عالم اللغة بكتابة تلك اللغات عن طريق استخدام الرموز المتعارف عليها .‏
ومهما يكن الأمر، فإنّ عملية تحليل اللغات وتصنيفها، كعملية تحليل الأجناس البشرية وتصنيفها، لا تشكّل إلاّ الخطوة الأولى لغيرها من الدراسات المهمّة .فاللغات، على اختلاف أنواعها، تمثّل أداة قيّمة في يد العالم .. ولا شكّ في أنّها ستساعده في النهاية، على التوصّل إلى فهم أعمق لسيكولوجية الأفراد والمجتمعات.( لينتون، 1967، ص 20 )‏
وتتركّز معظم تلك الدراسات في المجتمعات البدائية التي تستخدم اللغة الكلامية، ولم تعرف القراءة والكتابة. فلا يوجد مجتمع إنساني – مهما تخلّفت ثقافته – من دون لغة كلامية يتفاهم بها أبناؤه .‏
1/2-علم أصول اللغات :‏
يهدف إلى تحديد أصول اللغات الإنسانية. ولذلك، يختصّ بالجانب التاريخي والمقارن، حيث يدرس العلاقات التاريخيّة بين اللغات التي يمكن متابعة تاريخها، عن طريق وثائق مكتوبة. وتكون المشكلة أكثر تعقيداً بالنسبة للغات القديمة التي لم تترك أية وثائق مكتوبة تدلّ عليها. ولكن ثمّة وسائل خاصة يمكن للباحث أن يستخدمها في دراسة تاريخ تلك اللغات.‏
وهناك علاقات تعاونية بين عالم اللغة، والأنثروبولوجي الثقافي، وذلك لأنهّ على كلّ من الأثنولوجي والأنثروبولوجي الاجتماعي، أن يدرس لغة المجتمع الذي يجري بحثه عليه.‏
وبناء على ذلك، تقدّم علم اللغويات – في العصر الحاضر – وأصبح يستخدم مناهج علمية وآليات دقيقة، في دراسة لغات العالم .. واستطاع من خلال ذلك أن يتوصّل إلى قوانين أساسية وعامة، لا تقلُّ أهميّة في دقّتها عن قوانين العلوم الطبيعية. (وصفي، 1971، ص 31-32)‏
ومن المحتم أن تثير (مورفولوجية) أية لغة، أسئلة بعيدة المدى تتّصل بميداني : الفيزياء والقيم .. فاللغة ليست مجرّد أداة للاتّصال أو لاستثارة الانفعالات فحسب، وإنّما هي أيضاً وسيلة لتصنيف الخبرات. والخبرة هي أشبه ما تكون بخطّ متّصل الأجزاء، يمكن تقسيمه بطرق مختلفة .( لينتون، 1967، ص 182)‏
ولذلك، فإن الدراسات اللغوية المقارنة، توضح أنّ الكائن البشري على الرغم من استخدامه لغة واحدة، فهو يقوم بعملية انتقائية غير واعية للمعاني التي يستخدمها. وذلك لأنّه لا يستطيع الاستجابة الدقيقة للمنبّهات المتنوّعة في محيطه الخارجي .‏
2- علم الآثار القديمة (الحفريات Archeology):‏
يعنى بشكل خاص بجمع الآثار والمخلّفات البشرية وتحليلها، بحيث يستدلّ منها على التسلسل التاريخي للأجناس البشرية، في تلك الفترة التي لم تكن فيها كتابة، وليس ثمّة وثائق مدوّنة (مكتوبة) عنها .‏
ويبحث هذا الفرع من علم الأنثروبولوجيا الثقافية، في الأصول الأولى للثقافات الإنسانية، ولا سيّما الثقافات المنقرضة. ولعلّ علم الآثار القديمة أكثر شيوعاً بين فروع الأنثروبولوجيا، وربّما كانت مكتشفاته مألوفة لدى الشخص العادي أكثر من مكتشفات الفروع الأخرى. ومثال ذلك، أنّ اسم (توت عنخ آمون) أحد ملوك قدماء المصريين، يكاد يكون معروفاً لدى الأوساط الشعبية العامة. (لينتون، 1967، ص 22 )‏
وعلى الرغم من أنّ الهدف الأوّل من هذه الأبحاث، هو الحصول على معلومات عن الشعوب القديمة، إلاّ أنّ الهدف النهائي يتمثّل في مساعدة القرّاء والدارسين، في تفهّم العمليات المتّصلة بنمو الثقافات أو (الحضارات) وازدهارها أو انهيارها، وبالتالي إدراك العوامل المسؤولة عن تلك التغيّرات .‏
ومن المعروف لدى علماء الأنثروبولوجيا، أنّ الكتابة ظهرت منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وما كتب من ذلك التاريخ معروف لدى الدارسين والباحثين، ويمكن بواسطة هذه الآثار المكتوبة معرفة الكثير عن الإنسان. (ناصر، 1985، ص 62)‏
فعالم الآثار يعتمد في دراسته، على البقايا التي خلفها الإنسان القديم، والتي تمثّل طبيعة ثقافاته وعناصرها. وقد توصّل علماء الآثار إلى أساليب دقيقة لحفر طبقات الأرض التي يتوقّع وجود بقايا حضارية فيها. كما توصّلوا إلى مناهج دقيقة لفحص تلك البقايا وتحديد مواقعها، وتصنيفها من أجل التعرّف إليها، ومن ثمّ مقارنتها بعضها مع بعض. ويستطيع علماء الآثار باستخدام تلك المناهج، استخلاص الكثير من المعلومات عن الثقافات القديمة، وتغيّراتها، وعلاقة كلّ منها بغيرها.‏
ويستخدم علماء الأنثروبولوجيا بقايا المواد كمعطيات رئيسة لاستخدام المعرفة العلمية والنظرية، حيث يقوم علماء الآثار بتحليل النماذج الحضارية والتطوّرات التي طرأت عليها، فتكشف النفايات عن الأوضاع الخاصة بالاستهلاك والنشاطات.‏
فالحبوب البرية والحبوب المنزلية / مثلاً : تمتلك خصائص مختلفة تسمح لعلماء الآثار أن يميّزوا بين النبات الذي تمّ جلبه، وذلك الذي تمّت العناية به محلياً. كما يكشف فحص عظام الحيوانات، عن أعمار هذه الحيوانات التي تمّ ذبحها، ويزوّد بمعلومات أخرى مفيدة، تحدّد فيما إذا كانت هذه الأنواع بريّة أو مدجّنة. ويقوم علماء الآثار من خلال بحثهم في هذه المعلومات، بإعادة بناء نماذج الإنتاج والتجارة والاستهلاك .Kattak, 1994,8))‏
ومع أنّ الهدف القريب الواضح للأبحاث (الأرخلوجية )، هو استكمال معارفنا ومعلوماتنا عن ماضي الإنسان، فإنّ الهدف النهائي هو مساعدتنا في تفهّم العمليات المتّصلة، بنمو الحضارات وازدهارها وانهيارها، وإدراك العوامل المسؤولة عن هذه الظاهرات التاريخية. وقد أصبحت نتائج الدراسات (الأرخلوجية) المتّصلة بعمليات التطوّر، مألوفة لدى العلماء الأنثروبولوجيين جميعهم، والذين يعنون بدراسة ظاهرات التغيير الثقافي. (لينتون، 1967، ص24)‏
ولذلك، يلجأ علماء الآثار – الأنثربولوجيون – إلى الاستفادة من أبحاث علماء الجيولوجيا والمناخ، للتحقّق من (هوية) البقايا التي يكتشفونها، وتاريخ وجودها. كما يتعاون علماء الآثار أيضاً، مع المتخصّصين في الأنثروبولوجيا الطبيعية، وذلك لكثرة وجود( اللُقى) الإنسانية في الحفريات، مع البقايا الثقافية. وقد نجح علماء الآثار المحدثون، في استخدام (الكربون المشعّ) كوسيلة لتحديد عمر ” البقايا ” بدقّة. (وصفي، 1971، ص 31)‏
ويمكن القول – بوجه عام – إنّ علماء الآثار القديمة، يحاولون اكتشاف ذلك الجزء من التاريخ الماضي الذي لا تتعرّض لـه السجلاّت المكتوبة. ويقبل عالم الآثار القديمة على ميدان اختصاصه بحماسة، لأنّ عمله يقترن بمجموعة من الدوافع والمثيرات المغرية، كالرغبة في إجراء أبحاث علمية شائقة، واحتمال العثور على كنوز ثمينة …( لينتون، 1967، ص 23 )‏
فعلم الآثار إذاً، يدرس تاريخ الإنسان وما رافقه من تغيّرات ثقافية، في محاولة لبناء تصوّر كامل عن الحياة الاجتماعية التي عاشتها المجتمعات القديمة، مجتمعات ما قبل التاريخ. وإذا كان علم الآثار يعتمد – إلى حدّ ما على التاريخ – فإنّه يختلف عن علم التاريخ في أنّه لا يدرس المراحل الحضارية المؤرّخة، وإنّما يدرس تلك الفترات التي عاشها المجتمع الإنساني قبل اختراع الكتابة وتدوين التاريخ.‏
3-علم الثقافات المقارن (الأثنولوجياEthnology) :‏
تعتبر الأثنولوجيا من أقرب العلوم إلى طبيعة الأنثروبولوجيا، بالنظر إلى التداخل الكبير فيما بينهما من حيث دراسة الشعوب وتصنيفها على أساس خصائصها، وميزاتها السلالية والثقافية والاقتصادية، بما في ذلك من عادات ومعتقدات، وأنواع المساكن والملابس، والمثل السائدة لدى هذه الشعوب.‏
ولذلك، تعدّ الأثنولوجيا فرعاً من الأنثروبولوجيا، يختصّ بالبحث والدراسة عن نشأة السلالات البشرية، والأصول الأولى للإنسان. وترجع لفظة (أثنولوجيا) إلى الأصل اليوناني (أثنوس Ethnos) وتعني دراسة الشعوب. ولذلك تدرس الأثنولوجيا، خصائص الشعوب اللغوية و الثقافية والسلالية. (اسماعيل، 1973، ص 460)‏
وتعتمد الأثنولوجيا في تفسير توزيع الشعوب – في الماضي والحاضر – على أنّه نتيجة لتحرّك هذه الشعوب واختلاطها، وانتشار الثقافات التي ترجع إلى كثرة الحوادث المعقّدة، التي بدأت مع ظهور الإنسان منذ مليون (ملايين) من السنين. فهي تبحث، مسألة المصادر التاريخية للشعوب، من أين أتت قبائل الهنود الحمر؟مثلاً، وأي طريق سلكت؟ ومتى احتلّت هذه الشعوب المناطق الموجودة فيها الآن، وكيف؟ ومن أية جهة تسلّلت إلى أمريكا؟ وكيف انتشرت فيها؟ ومتى ظهرت أجناس الهنود الحمر؟ وما هي الميزات اللغوية والملامح الثقافية التي نشرتها ثقافة الهنود الحمر، قبل احتكاكها بالثقافة الأوروبية؟ وغير ذلك ممّا يفيد في الدراسات الوصفيّة المقارنة للمجتمعات الإنسانية وثقافاتها. (رشوان، 1988، ص 81 )‏
وتدخل في ذلك دراسة أصول الثقافات والمناطق الثقافية، وهجرة الثقافات وانتشارها والخصائص النوعية لكلّ منها، دراسة حياة المجتمعات في صورها المختلفة. أي أنّه العلم الذي يبحث في السلالات القديمة وأصولها وأنماط حياتها، كما يبحث في الحياة الحديثة في المجتمعات الحاضرة، وتأثّرها بتلك الأصول القديمة.‏
ولذلك، تعرّف الأثنولوجيا بأنّها : دراسة الثقافة على أسس مقارنة وفي ضوء نظريات وقواعد ثابتة، بقصد استنباط تعميمات عن أصول الثقافات وتطوّرها، وأوجه الاختلاف فيما بينها، وتحليل انتشارها تحليلاً تاريخياً ،( كلوكهون، 1964، ص 31)‏
وتهتمّ النظرية الأثنولوجية بدراسة الثقافة، عن طريق القوانين المقارنة، ولا سيّما مقارنة قوانين الشعوب البدائية، حيث يهتمّ علماء القانون المقارن بدراسة بعض العادات والنظم والقيم والتقاليد، مثل : النسب الأبوي أو الأمومي، سلطة الأب، الحياة الإباحية، الاختلاط الجنسي، وطرائق الزواج المختلفة. (حمدان، 1989، ص 103)‏
ويبحث علم الأثنولوجيا في طرائق حياة المجتمعات التي لا تزال موجودة في عصرنا الحاضر، أو المجتمعات التي يعود تاريخ انقراضها إلى عهد قريب، وتتوافر لدينا عنه سجلاّت تكاد تكون كاملة. فلكلّ مجتمع طريقته الخاصة في الحياة، وهي التي يطلق عليها العلماء الأنثروبولوجيون مصطلح ” الثقافة “. ويعدّ مفهوم الثقافة من أهمّ الأدوات التي يتعامل معها الباحث الأثنولوجي. (لينتون، 1967، ص 25)‏
ومن ميزات الأثنولوجيا، أنّها تعتمد عمليتي التحليل والمقارنة ، فتكون عملية التحليل في دراسة ثقافة واحدة، بينما تكون عملية المقارنة في دراسة ثقافتين أو أكثر. وتدرس الأثنولوجيا الثقافات الحيّة (المعاصرة) والتي يمكن التعرّف إليها بالعيش بين أهلها، كما تدرس الثقافات المنقرضة (البائدة) بواسطة مخلّفاتها الأثرية المكتوبة والوثائق المدوّنة. وتهتمّ إلى جانب ذلك، بدراسة ظاهرة التغيير الثقافي من خلال البحث في تاريخ الثقافات وتطوّرها .( وصفي، 1977، ص 30 )‏
وقد كان هذا الفرع من الأنثروبولوجيا الثقافية، يلقى اهتماما قليلاً قياساً للفروع الأنثروبولوجية الأخرى، حيث قام بعض علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، بدراسة الطرائق التي تؤثّر من خلالها المفاهيم الاجتماعية المحدودة في سلوك الأشخاص وأمزجتهم، ومعرفة الحياة الإنسانية للشعوب التي ما زالت تحيا حياة بسيطة، ولا سيّما تلك الشعوب التي تعيش في : أستراليا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا، وفي بعض المناطق في آسيا .‏
وكان علماء الأثنولوجيا، وإلى عهد قريب جدّاً، يقصرون أبحاثهم في الظواهر الاجتماعية والإنسانية للمجتمعات الثقافية. وكانوا يعتبرون الفرد كما لو أنّه مجرّد ناقل للثقافة، أو حلقة من سلسلة من الوحدات المتماثلة التي يمكن أن تستبدل الواحدة منها بأخرى. ولكن، وبعد دراسات عديدة، تبيّن لهؤلاء العلماء أن المعايير الشخصيّة، تختلف باختلاف الأفراد والمجتمعات والثقافات. (ناصر، 1985، ص 66)‏
فمنذ البدايات الأولى لتطوّر الأبحاث الأثنولوجية، والعلماء يحاولون اكتشاف الأسباب التي تجعل مجتمعات معيّنة، تطوّر محاور اهتمام خاصة بها، وتتقبّل أو تنبذ تجديدات مختلفة من النوع الذي يبدو أنّه لا ينطوي على أيّة عوامل نفعية، وكذلك الأسباب التي تجعل الثقافات المتنوّعة تعكس – بصورة منتظمة – اتّجاهات مختلفة في تطوّرها. وساد الاعتقاد حيناً من الزمن أنّ هذه الظاهرات يمكن عزوها إلى وقائع تاريخيّة عارضة، غير أنّ هذه النظرية هي ضرب من الافتراض الجدلي الذي لا يستند إلى أي برهان أو دليل. (لينتون، 1967، ص 32)‏
ويتّفق معظم العلماء على أنّ مصطلح (أثنوجرافيا) يطلق على الدراسة التي تعمد إلى وصف ثقافة ما في مجتمع معيّن، بينما يطلق مصطلح (أثنولوجيا) على الدراسات التي تجمع بين الوصف والمقارنة. فالأثنولوجي يهدف من تلك المقارنات الوصول إلى قوانين عامة للعادات الإنسانية، ولظاهرة التغيير الثقافي وآثار الاتصال بين الثقافات المختلفة، كما يهدف الأثنولوجي أيضاً إلى تصنيف الثقافات ضمن مجموعات أو أشكال، على أساس مقاييس (معايير) معيّنة. (وصفي، 1971، ص 25)‏
وهذا يعني أنّ الأهداف النهائية للعالِم الأثنولوجي، هي في الأساس، مماثلة لأهداف عالِم الاجتماع وعالِم الاقتصاد .. فكلّ عالم من هؤلاء، يحاول أن يفهم كيف تعمل المجتمعات والثقافات؟ وكيف ولماذا تتغيّر الثقافات؟ كما يحاول أن يتوصّل إلى تعميمات معيّنة، أو ” قوانين ” بحسب المصطلح الدارج للمفهوم، لتساعده في التنبّؤ باتّجاه سير الأحداث، بقصد التحكّم به في النهاية. (لينتون، 1967، ص 27 )‏
فإذا كان القول بأنّ الأثنولوجيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة رأسية، أي دراسة مقارنة زمانية تاريخية لثقافات الماضي، مع متابعة دراسة تلك الثقافات وتطوّرها ومقارنتها عبر التاريخ، فإنّ الأثنوجرافيا تدرس الظواهر الثقافية دراسة أفقية محدّدة المكان، وهكذا تكون الأثنولوجيا دراسة مقارنة في الزمان، بينما تكون الأثنوجرافيا دراسة مقارنة في المكان. (اسماعيل، 1973،‏
ص 26)‏
وكان من نتائج الاحتكاك بين علم الاجتماع وعلم الأثنولوجيا، أن تزوّد علم الاجتماع بأساليب جديدة ثبت أنّها ذات قيمة خاصة للباحث الاجتماعي، الذي يعنى بدراسة المجتمعات الحديثة الصغيرة. أضف إلى ذلك، أنّ الاحتكاك بين العلمين وسّع مجال علم الاجتماع، وأدّى بالتالي إلى تغيّر بعض صيغه النظرية. (لينتون، 1967، ص 32 )‏
لقد تبلورت الأثنولوجيا بعد الحرب العالمية الثانية ، وشكّلت ما يمكن الإشارة إليه بالأنثروبولوجيا المعاصرة. وساعد على هذا الاتجاه ودعمه، ازدياد عدد الأنثوبولوجيين في البلدان النامية، بعد إن كانت هذه المهنة وقفاً على الباحثين الغربيين. ولم تعد الأثنولوجيا تقصر مجال دراستها على المجتمعات الصغيرة الحجم، أو المحليّة ذات الثقافات غير الغربية، وإنّما اتجهت لتوسيع مجالها بحيث تشمل الثقافات والمجتمعات كلّها، وعلى اختلاف حجمها وموقعها. (فهيم، 1986، ص 36)‏
غير أنّ هذا التنوّع الذي اتصفت به الأثنولوجيا في القرن العشرين، أدّى إلى حدوث بعض التضارب في الدراسات، وهذا ما أفقدها الكثير من الاستقرار الأكاديمي، علاوة على تمسّكها بالنواحي المنهجيّة أكثر من توصّلها إلى نظريات علمية، الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول كيفيّة دراسة الثقافات الإنسانية وعلميّتها، وصلتها بقضايا الإنسان المعاصر‏

المصـادر:
– أبو زيد، حامد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلّـة العربي، الكويت .‏
– اسماعيل، قباري محمد (1973) الأنثروبولوجيا العامة، منشأة المعارف بالاسكندرية .‏
– بيلز، رالف ؛ هويجرا، هاري (1977) مقدّمة في الأنثروبولوجيا العامة، ترجمة : محمد الجوهري وآخرون، دار النهضة المصرية، القاهرة .‏
– حمدان، محمد زياد (1989) الثقافات الاجتماعية المعاصرة، دار التربية الحديثة، عمّان .‏
– رشوان، حسين عبد الحميد (1988) الأنثروبولوجيا في المجال النظري، الاسكندرية .‏
– زرقانة، ابراهيم (1958) الأنثروبولوجيا، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة .‏
– ستروس، كلود ليفي (1977) الأنثروبولوجيا البنيوية، ترجمة : مصطفى صالح، وزارة الثقافة، دمشق .‏
– فهيم، حسين (1986) قصّة الأنثروبولوجيا – فصول في تاريخ الإنسان، عالم المعرفة (198)، الكويت .‏
– كلوكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : شاكر سليم، بغداد .‏
– لبيب، الطاهر (1987) سوسيولوجية الثقافة، دار الحوار، اللاذقية .‏
– لينتون، رالف (1967) الأنثروبولوجيا وأزمة العالم الحديث، ترجمة : عبد الملك الناشف، المكتبة العصرية، بيروت .‏
– ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الإنسان الثقافي -، عمّان.‏
– هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الثقافية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .‏
– وصفي، عاطف (1971) الأنثروبولوجيا الثقافية، دار النهضة العربية، بيروت.‏
– وصفي، عاطف (1977) الثقافة والشخصيّة، دار المعارف بمصر.‏
– Barnouw , V. (1972) Cultural Anthropology , Home wood Illinois, Irwen Inc .‏