الاثنين، 2 مايو 2016

إلى ما يرمي إصلاح التعليم؟ ـ بوبكر بوعزة

عن أنفاس نت



إن المتأمل في السياسة الإصلاحية للمنظومة التعليمية المغربية يستنتج أن الهدف الحقيقي لهذا الإصلاح هو تكريس التفاوت الطبقي في بنية المجتمع المغربي، تفاوت تحافظ بموجبه الطبقات المحظوظة على مصالحها وعلى كل الامتيازات التي راكمتها منذ الاستعمار إلى الآن. وذلك بإعادة توسيع الهوة بين أبناء الشعب الفقراء وأبناء الطبقة الغنية. هذه السياسة إلاصلاحية تصنع من أبنائهم طبقة مؤهلة ومن أبناء الشعب أيادي عاملة تشتغل في ضيعات ومصانع ومعامل الطبقة الغنية المنتشرة علو طول ربوع الوطن. أليس هذا ما تريد أن تكرسه مدرسة اليوم وفق التصور الجديد للإصلاح؟
   إذا تمعنا في المدرسة المغربية لن نجد هناك مدرسة واحدة، بل ثلاث مدارس هي:
-المدارس الفرنسية؛
-المدرسة الخصوصية؛
-المدرسة العمومية

المدرسة الأولى تستقبل أبناء الأعيان، أبناء الطبقة المحظوظة المسيطرة اقتصاديا وسياسيا والمتحكمة في دواليب الحكم في المغرب والمستغلة لخيراته وثرواته..والثانية هجينة وتتميز بالتفاوت الصارخ بين مدرسة وأخرى، فهي ليست على نفس المقياس، فالمدرسة الخصوصية في المدينة ليست هي المدرسة الخصوصية في البادية...كما أن في المدينة الواحدة تجد تفاوتا كبيرا بين المدارس الخصوصية ليس في الأثمنة فقط، بل في جودة التعلمات كذلك، وهذا ما يؤسس لتفاوت صارخ في مستوى التلاميذ، بين من يلج مدارس خاصة راقية سواء في خدماتها وجودتها، بل حتى في أثمنتها المرتفعة جدا لهذا لا يلجها سوى أبناء الأغنياء، ومن يلج مدارس خصوصية رخيصة في تكلفتها، ومتدنية في جودتها، تنتشر في هوامش المدن وتعرف حالة من الاكتظاظ، وغياب المرافق الرياضية والترفيهية، ومدرسون لا يمتلكون الكفاءات اللازمة للتدريس، وبناية غير صالحة للتدريس لكونها مجرد مرآب أو طابق لبناية مأهولة بالسكان ...إلخ.

أما المدارس العمومية التي راكمت من التجارب الفاشلة طيلة عقود من العبث والتدبير العشوائي والإصلاحات التي تهدف إلى محاربتها، ومحاربة المجانية، فهي مدرسة لا تتوفر على شروط التحصيل العلمي، حجرات متهالكة، طاولات وسبورات وكراسي لا تحمل من تلك الصفات سوى الاسم تعود إلى العصر الحجري، تعرف حالة من الاكتظاظ، حيث قد تجد في القسم ما يقارب الخمسين تلميذا وفي بعض الاحيان تصل إلى حدود الستين تلميذا في الحجرة الواحدة...

إن دل هذا على شيء فإنه يدل على ان التعليم في المغرب تعليما طبقيا بالدرجة الأولى، تعليما يرسي أسس اللامساواة والطبقية... فَحينَ تقوم المدارس الفرنسية وبعض المدارس الخصوصية التي تستقر في الحواضر الكبرى كفاس والرباط والدار البيضاء ومراكش وأكادير بإنتاج النخب وتأهيلها لمتابعة دراستها في الخارج لتعود لتدبير الشأن العام في المغرب سياسيا واقتصاديا... تقوم باقي المدارس الأخرى العمومية منها وجل المدارس الخصوصية بإنتاج طبقة هجينة لا تستطيع إكمال دراساتها، وقد ساهمت الاصلاحات المتعاقبة في الهذر المدرسي وحكمت على التمدرس منذ السنوات الأولى بالهذر ومغادرة مقاعد الدراسة مبكرا ولأسباب موضوعية. وفي مقالنا هذا سنركز على نقطة أساسية من بين النقاط الكثيرة الذي تضمنها الإصلاح والتي تؤسس لهذا التفاوت منذ بداية المسار التعليمي التعلمي؛ إنها مسألة التعليم الأولي، كما سنبين أيضا كيف جاء هذا الاصلاح لمحاربة المدرسة العمومية ومجانية التعليم والدفع بعجلة الخوصصة لتدوس على المدرسة المغربية وذلك من خلال ملف الاساتذة المتدربين.

جاء في "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" القسم الثاني "مجالات التجديد ودعامات التغيير" المجال الأول: نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي، الدعامة الأولى: تعميم تعليم جيد في مدرسة متعددة الأساليب.

24-يشمل نظام التربية والتكوين التعليم الاولي والتعليم الابتدائي والتعليم الإعدادي والتعليم الثانوي والتعليم العالي والتعليم الاصيل. ويقصد بتعميم التعليم، تعميم تربية جيدة على ناشئة المغرب بالأولي من سن 4 إلى 6 سنوات وبالابتدائي والإعدادي من سن 6 إلى 15 سنة".[1] يتضح من خلال دعامة الميثاق الوطني للتربية والتكوين أن التعليم الأولي هو التعليم ما قبل الابتدائي، وهو تعليم يحظى بالأهمية القصوى في هذا الإصلاح بحكم كونه اللبنة الأولى في التعليم والأساس الذي سيبنى عليه التعليم برمته؛ وهذا ما تؤكده الدعامة 25 من الميثاق التي تقول:"خلال العشرية الوطنية للتربية والتكوين، المعلنة بمقتضى هذا الميثاق، سيحظى التعليم الأولي والابتدائي والإعدادي بالأولوية القصوى، وستسهر سلطات التربية والتكوين، بتعاون وثيق مع جميع الفعاليات التربوية والشركاء في إدارات الدولة والجماعات المحلية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص، على رفع تحدي التعميم السريع للتعليم الأولي والابتدائي والإعدادي في جميع أرجاء المملكة، بتحسين جودته وملاءمته لحاجات الأفراد وواقع الحياة ومتطلباتها..."[2] فهل فعلا تم تعميم التعليم الأولى على جميع أرجاء الوطن؟ وهل فعلا تم الحرص على تقديم عرض تربوي في التعليم الأولى يتصف بالجودة؟ وهل فعلا هناك توزيع متساوي وعادل للتعليم الاولي في كل ربوع المملكة؟ أليس التعليم الأولي هو أول نقطة في المنظومة التربية المغربية تخلق اللاتكافؤ واللامساواة في التعليم وتساهم في خلق الهذر المدرسي وإنتاج جيل معطوب والحكم على أبناء الشعب بمغادرة مقاعد الدراسة منذ السنوات الاولى للتعليم؟ كيف ذلك؟

إن التعليم الأولي يشكل اللبنة الأولى في التعليم والتي سيبنى عليها التعليم الابتدائي، فبرامج التعليم الابتدائي بُنيّت بشكل يراعي سنوات التعليم الأولي، وهو ما يؤكد عليه الميثاق:"تتضمن الهيكلة التربوية الجديدة كلا من التعليم الأولي والابتدائي والإعدادي والثانوي والتعليم العالي، على أساس الجذوع المشتركة والتخصص التدريجي والجسور على جميع المستويات"[3] أن هذه الدعامة تؤكد على الجسور الرابطة بين التعليم الأولي والتعليم الابتدائي، فالتعليم الأولي يشكل القنطرة الضرورية للمرور إلى التعليم الابتدائي، لهذا السبب يجب أن يكون تعليما جيدا وموزعا بشكل جيدة على كل التراب الوطني، وألا يكون فيه نوعا من التفاوت واللامساواة، فهو بمثابة أساس كل الواجبات التي ستبنى عليه، أو كما يقول كانط:" إنه الواجب الذي ستبنى عليه كل الواجبات الأخرى"[4]. فهل فعلا جعلت الدولة التعليم الأولي من أولى اهتماماتها وأولته الأهمية التي يجب أن يحظى بها أم أن ذلك ظل حبرا على ورقة وأن التعليم الأولي كان مجرد خطوة مقصودة لخلق هوة لا يمكن ردمها بين أبناء الشعب الفقراء وأبناء المحظوظين الأغنياء؟

إن واقع الحال يبين بالملموس أن الفروق واضحة فيما يتعلق بالتعليم الأولي بين المدن والبوادي من جهة، وداخل نفس المدينة من جهة أخرى. فإذا كانت المدن تمتلك رياضا لاستقبال الأطفال وتعليمهم المبادئ الأولى للقراءة والكتابة، فإن البوادي لا تمتلك رياضا مخصصة لذلك، أقصى ما يمكن أن تتوفر عليه "مسيد" يسهر فيه فقيه المسجد على تحفيظ بعض الآيات القرآنية للناشئة بالاعتماد على السمع، وعندما ينتقلون إلى التعليم الابتدائي يجدون أنفسهم لا يستطيعون تمييز الحروف، لا العربية ولا الفرنسية، في الوقت الذي يكون فيه أبناء المحظوظين يتكلمون باللغة العربية والفرنسية بشكل سلس وجيد. هذه الفروقات تحتم على أبناء القرى مغادرة أقسام الدراسة منذ السنوات الأولى بسبب عدم مجاراتهم ايقاعات التعلم وافتقادهم للمبادئ الأولية للتعلم، خصوصا وكما سبق الذكر -وهنا مربط الفرس- أن مقررات التعليم الابتدائي تبنى على أساس أن التلميذ قد درس من سن 4 إلى سن 6 في روض الأطفال. وهنا نطرح السؤال: كيف يعقل أن ينحج التلميذ في التعليم الابتدائي وهو لم يتلقى تعليمه الأولي؟ هذا الواقع الحالك الذي يتخبط فيه أبناء البوادي وبعض أبناء المدن من الطبقة المسحوقة لا يعاني منه أبناء المحظوظين. ففي المدن التي تنتشر فيها رياض الأطفال تجد التلاميذ قد أتقنوا الحروف الأبجدية العربية والفرنسية، بل منهم من يتكلم باللغة العربية والفرنسية بطريقة جيدة لا يتكلمها حتى تلاميذ التعليم الثانوي في البوادي في الوقت الذي تنعدم فيه هذه رياض الأطفال في بوادي وقرى ومدارس المغرب العميق أليست هذه هي الطريقة المثلى لصناعة التفاوت والطبقية؟ ألا يتناقض هذا مع ما يصرح به الميثاق في هذه الدعامة:"يرمي التعليم الأولي والابتدائي إلى تحقيق الأهداف العامة الآتية:

أ-ضمان أقصى حد من تكافؤ الفرص لجميع الأطفال المغاربة، منذ سن مبكرة، للنجاح في مسيرهم الدراسي وبعد ذلك في الحياة المهنية، بما في ذلك إدماج المرحلة المتقدمة من التعليم الأولي"[5] هل فعلا القول يصاحبه الفعل أم أن واقع الحال يكذب كل ما صرح به الميثاق الذي يحمل هما واحدا هو خوصصة التعليم والقطع مع المجانية حتى يتسنى له التخلص من عبء أبناء الشعب وجعلهم مجرد عمال في مصانع الأثرياء وضيعاتهم؟  أليس هذا ما يصنع الهذر المدرسي الذي يحاولون محاربته بالشعارات الرنانة؟ كيف يمكن لتلميذ لم يتلقى تعليما أوليا أن يصقل مهاراته وأن ينمي قدراته وأن ينجح في مساره الدراسي اللاحق وهو لم يتلقى التعليم السابق؟  ألا يقود هذا إلا حرمان أبناء الشعب من حقهم في تعليم يحفظ كرامتهم ويجعلهم يرتقون اجتماعيا؟ ألا يتنافى هذا مع الاتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز في التعليم التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة سنة 1960 والتي ترى أن التمييز في التعليم هو انتهاك لحقوق الإنسان، حيث تصرح الاتفاقية في المادة 1:"لأغراض هذه الاتفاقية، تعني كلمة "التمييز" أي ميز أو استبعاد أو قصر أو تفضيل على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الحالة الاقتصادية أو المولد، يقصد منه أو ينشأ عنه إلغاء المساواة في المعاملة في مجال التعليم أو الإخلال بها، وخاصة ما يلي:

أ-حرمان أي شخص أو جماعة من الأشخاص من الالتحاق بأي نوع من أنواع التعليم في أي مرحلة؛
ب-قصر فرض أي شخص أو جماعة من الأشخاص على نوع من التعليم أدنى مستوى من سائر الأنواع؛
ج-إنشاء أو إبقاء نظم أو مؤسسات تعليمية منفصلة لأشخاص معينين أو لجماعات معينة من الأشخاص، غير تلك التي تجيزها أحكام المادة 2 من هذه الاتفاقية؛
د-فرض أوضاع لا تتفق وكرامة الانسان على أي شخص أو جماعة أشخاص.

2-لأغراض هذه الاتفاقية، تشير كلمة "التعليم" إلى جميع أنواع التعليم ومراحله، وتشمل فرص الالتحاق بالتعليم، ومستواه ونوعيته، والظروف التي يوفرها فيها"[6] فأين المغرب من هذا رغم نه من المهرولين إلى التوقيع على هذه المعاهدات والاتفاقيات الأممية؟ ألا يتناقض واقع الحال مع هذه الاتفاقية؟ ألا يحمل الميثاق الوطني للتربية والتكوين في بنوده دعامات نقيضة لهذه الاتفاقية؟ ألا يبشر الميثاق الوطني بالتفاوت والقضاء على كل أشكال المساواة بل حتى على الحق في التعليم بالنسبة للأسر الهشة والمعوزة؟ أليس الاصلاح التربوي المنشود مجرد أكذوبة لخلق هذا التفاوت الطبقي خصوصا وان الدولة  قد أخلت بواجباتها اتجاه الطبقات غير المحظوظة والمهمشة والقرى والمداشر وهي التي أكدت على ضرورة اتخاذ جملة من التدابير لتعميم تعليم جيد في المناطق القروية غير المحظوظة كما جاء في الدعامة 29 من الميثاق:"تيسيرا لتعميم تعليم جيد، وسعيا لتقريب المدرسة وإدماجها في محيطها المباشر، خصوصا في الأوساط القروية وشبه الحضرية، ينبغي القيام بما يلي:

أ-إنجاز شراكة مع الجماعات المحلية، كلما أمكن، لتخصيص أمكنة ملائمة للتدريس والقيام بصيانتها، على أن تضطلع الدولة بتوفير التأطير والمعدات الضرورية؛ (فلا هي جهزت هذه الأماكن ولا هي وفرت التأطير والمعدات)

ب-اللجوء عن الحاجة للاستئجار واقتناء المحلات الجاهزة أو القابلة للإصلاح والملائمة لحاجات التدريس، في قلب المداشر والدواوير والأحياء، دون انتظار إنجاز بنايات جديدة في آجال وبتكاليف من شأنها تأخير التمدرس..."[7] ظلت هذه البنود حبرا على ورقة رغم مرور كل هذه السنوات على الميثاق الوطني للتربية والتكوين ومجيء المخطط ألاستعجالي والدخول في الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم. فلا الدولة جهزت أماكن التمدرس في القرى كما وعدت بذلك، ولا هي وفرت التأطير ولا المعدات. الوضع في البوادي لازال على حاله باستثناء بناء بعض البيوت التي يدرّس فيها معلم واحد جميع المستويات من السنة الأولى حتى السادسة ابتدائي في غياب شروط التحصيل العلمي الصحية والسليمة، أما البنايات الخاصة بالتعليم الأولى فلا وجود لها  إطلاقا في العالم القروي.

فهل هذا يعني أن المدينة محظوظة بتواجد رياض الأطفال والمدارس الخصوصية التي يتلقى فيها الأطفال تعليمهم الاولي في شروط جيدة؟ أكيد لا. إن المدينة ذاتها تعاني من التفاوت الصارخ واللامساواة، فأبناء الطبقة الميسورة يلجون إلى المدارس الخصوصية المعروفة بالجودة والخدمات الجيدة وذات التكلفة الباهظة في حين يلج أبناء الفقراء المدارس الخصوصية التي تنتشر في هوامش المدن وفي المآرب وطبقات العمارات والتي لا تتوفر على أبسط شروط التحصيل العلمي والتي تكدس التلاميذ في بيوت وليس أقساما في غياب تام للفضاءات الرياضية و الترفيهية، تستغل الطلبة العاطلين أبشع استغلال وتستنزف قدراتهم في شروط بئيسة بأثمنة رخيصة تستغلهم وتفرض عليهم أن يكونوا أسخياء في النقط الممنوحة للتلاميذ حتى يتم استقطاب المزيد من "المزاليط" الذي يستزفون جيوبهم طمعا في حصول أبنائهم على تعليم يؤهلهم للظفر بمنصب يخرجهم من خانة الفقر والبؤس والهشاشة، لكن للأسف مثل هذه المدارس الخصوصية لا تنجب سوى أشباه التلاميذ وما هم بتلاميذ إلا من رحم ربي، وهذا ما يتبين بمجرد التحاق أحد تلاميذ هذه المدارس الخصوصية بالمدرسة العمومية، فلا يستطيع النجاح حتى في الأقسام المشتركة التي تعتمد على المراقبة المستمرة كمعيار للنجاح، غير قادر على مجارات حتى تلاميذ التعليم العمومي الذي يتابعون تعليمهم في مدارس تفتقر إلى شروط التحصيل العلمي والتي يقاتل فيها الأستاذ من أجل حصول أبناء الشعب على تعليم يليق بهم وحيدا بعدما تخل الكل عنه، فأًصبح وحيدا يجابه الصعاب.. أما أبناء الطبقة المحظوظة فيلجون مدارس خصوصية مصنفة في ملكية مستثمرين كبار، مجهزة بكل ما يحتاجه التلميذ من فضاءات وأقسام ومساحات، تقدم تعليما جيدة وتستقطب أساتذة مؤهلين لممارسة التعليم، وتوزع التلاميذ على الأقسام بما يضمن لهم التحصيل الجيد مع الحرص على أن لا يتجاوز عددهم ما بين 20 و25 تلميذا أو على أقصى تقدير 30، لهذا تجدها غير مفتوحة في وجه العموم، بل غالبا ما تجد أصحاب هذه المدارس يقومون بانتقاء التلاميذ الذين يسمح لهم بمتابعة الدراسة، إنها تقتصر أبناء الميسورين فقط.

إلى ما يرمي كل هذا؟ إنه يرمي إلا خوصصة التعليم وضرب المجانية وبالتالي قطع الطريق على أبناء الشعب من أجل الرقي الاجتماعي وتحويلهم إلى أيادي عاملة فقط. وهذا ما يؤكد عليه الميثاق نفسه وبطريقة صريحة، من خلال الامتيازات التي منحها للقطاع الخاص من أجل الاستثمار في التعليم، حيث نجد في المجال السادس:الشراكة والتمويل، في الدعامة 125 مايلي:

"أ-وضع نظام جبائي ملائم ومشجع للمؤسسات الخاصة لمدة يمكن أن تصل إلى عشرين عاما، شريطة التجديد السنوي للامتيازات الضريبية، في ضوء التقويم المنتظم للنتائج التربوية للمؤسسة المستفيدة ولتدبيرها الإداري والمالي؛
ب-تشجيع إنشاء المؤسسات التعليمية ذات النفع العام التي تستثمر كل فائضها في تطوير التعليم ورفع جودته، وذلك باعفائها كليا من الضرائب. ويمنح هذا التشجيع شريطة خضوع المؤسسات المعنية للمراقبة التربوية والمالية الصارمة، كما يتم التجديد السنوي لهذا الامتياز في ضوء تقويم المؤسسة؛
ج-أداء منح مالية لدعم المؤسسات الخاصة ذات الاستحقاق، على مستوى التعليم الأولي، حسب أعداد الأطفال المتمدرسين بها، وعلى أساس احترام معايير وتحملات محددة بدقة؛
د-تكوين أطر التربية والتكوين والتسيير وجعلها رهن إشارة المؤسسات الخاصة ذات الاستحقاق بشروط تحدد بمقتضى اتفاقية للشراكة ودفتر تحملات مضبوطة؛

ه-استفادة الأطر العاملة بالقطاع الخاص من أسلاك ودورات التكوين الأساسي والمستمر المبرمجة لفائدة أطر القطاع العام، وفق شروط تحدد كذلك ضمن اتفاقيات بين السلطات الوطنية أو الجهوية المشرفة على هذه البرامج وبين المؤسسات الخاصة المستفيدة."[8] هل هناك دليل أكبر من هذا على خوصصة التعليم وخلق التفاوت الطبقي وتكريس الهوة الشاسعة بين الفقراء والأغنياء من خلال حرمان أبناء الشعب من التعليم المجاني، ومن التسلق الطبقي والرقي الاجتماعي؟ وهل ما يتعرض له الاستاذة المتدربين هذه السنة يخرج عن إطار خوصصة التعليم؟ وهل فصل التكوين عن التوظيف لا يؤكد ما ذهب إلى الميثاق من خلال الدعامة السابقة التي أقر فيها بتكوين الأطر التربوية وجعلها رهن إشارة المؤسسات الخاصة؟ إن ما أقدمت عليه الحكومة الحالية من خلال المرسومين الصادرين هذه السنة والقاضيين بفصل التكوين عن التوظيف لهو التطبيق المباشر لسياسة الدولة الهادفة إلى التخلص من مجانية التعليم ورفع يدها عنه من خلال خوصصته وتفويته إلى المستثمرين.

 
 
-الميثاق الوطني للتربية والتكوين، سلسلة التشريع التربوي، الطبعة الاولى أكتوبر 2006، دار الحرف للنشر والوزيع، مطبعة دار النجاح الجديدة الدار البيضاء. ص:16.[1]
-الميثاق الوطني، ص-ص:16-17.[2]
-الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص:35.[3]
- إيمانويل كانط: أسس ميتافيزيقا الأخلاق".....ص...[4]
-الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص:36.[5]
-الاتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز في التعليم التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في 14 كانون الأول-ديسمبر1960,[6]
- الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص-ص: 20-21.[7]
-الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص-ص: 99-100.[8]

الحداثة: الأخلاق والسياسة ـ العلمي الإدريسي رشيد

عن أنفاس نت



يمكن أن نلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين إلى نقد الحداثة وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة, انطلاقا من تجارب التاريخ. على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية في ذات الوقت (على سبيل المثال, الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا, الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا…)؛ إن صعود وتنامي الفاشيات في أوروبا ارتكز على طروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن.
إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها). ألا يجب بالأحرى أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذهب إليه هابرماس في هذا الموضوع, حيث أنه دعا إلى التفريق بين قيم الحداثة والتي لا يماري أحد في أهميتها والواقع التاريخي الذي يتحكم فيه التركيب الاجتماعي وطبيعة الطبقات السائدة.

I – أواليات مفاهيمية:
1 – الحداثة: مفاهيم متعددة.
يمكن القول بداية إن الحداثة مفهوم يصعب تحديده بدقة, زمنيا ومفهوميا.
زمنيا أولا:
هناك من تحدث عن حداثة "الديمقراطية في أثينا" في التاريخ القديم(1) وهناك من قال بحداثة السفسطائيين وماثلها بالفكر الأنواري الذي برز فيما بعد(2)، وهناك من تحدث عن الحداثة بصفتها مرحلة فكرية متميزة ظهرت مع بروز الذاتية في القرن السادس عشر وامتدت إلى أواخر القرن التاسع عشر. ثم اختفت في الفترات المتأزمة, تلك التي عرفت فيها أوربا تنامي حركات تنادي بالعدمية وبالقومية العرقية, وأفضت في آخر المطاف إلى النازية.
وطفت الحداثة على سطح الفكر, وتجلت على مستوى الواقع, بعد الحرب العالمية الثانية.
مفهوميا ثانيا:
ماذا تعني الحداثة؟ التكنولوجيا, التصنيع, الآلية, المعرفة العلمية, الزمنية, المؤسسات, الديمقراطية, الحقوق السياسية والمدنية؟
عندما يريد العرب توطين وتبيئة الحداثة ماذا يعنون بذلك؟ ألا يجب التفريق منذ البداية بين الحداثة والتحديث؟ إن مفهوم التحديث ظهر في الخمسينات, لما سعت المجتمعات الثالثية إلى نهج سياسات تنموية(3).
الحداثة, كمفهوم عام, تحيل إلى مفاهيم فرعية متعددة: الذات, العقل, التاريخ, السوق, الحقوق, الديمقراطية. ويمكن القيام بتعريف أولي للحداثة: إن الحداثة تعني الإيمان بقدرة الإنسان بفضل عقله أن يوجه مسار التاريخ وتغيير بناء المجتمع بغية تحقيق الديمقراطية وصيانة الحقوق والحريات. صحيح, إن وعي الإنسان بذاته وبقدرته على تغيير المجتمع, شكل منعطفا كبيرا في الفكر البشري.

2 – الحداثة: بنية تناقضية
على أن هذا التعريف الأولي للحداثة سيصطدم بتغييرات وتحولات في غاية من الخطورة, ستفضي إلى إعطاء الحداثة معاني ودلالات أخرى, وهذا ما سنحاول إبرازه.
لذا, نطرح هذا التساؤل الذي يتبادر إلى ذهننا منذ الوهلة الأولى: هل هناك حداثة واحدة, أم هناك حداثات مختلفة, متباينة أحيانا(4)؟
على مستوى المفاهيم أولا, العقل, الذات, الفرد, الحرية وغيرها من المفاهيم المؤسسة للحداثة لها معاني ودلالات مختلفة عند الأدباء والفلاسفة.
على مستوى الواقع ثانيا, يمكن بالفعل, القيام بتحقيب زمني لحداثات مغايرة: حداثة تأسيسية (في القرنين السادس عشر والسابع عشر), حداثة الأنوار, حداثة ما بعد الأنوار, حداثة القرن التاسع عشر, حداثة ما بعدية في مطلع القرن العشرين الخ…
ونصادف اختلافا كبيرا, إن لم نقل تعارضا, بين مستوى الفكر والقيم, ومستوى الواقع في نفس الظرفية وذات الحقبة التاريخية.
ـ حداثة التسامح والاختلاف, وهما مفهومان أنواريان أساسيان يقابلهما التوسع والاستعمار وإقبار الثقافات المغايرة(5).
ـ حداثة المشاركة السياسية, يقابلها الإقصاء والتمييز بين المواطن النشيط والمواطن السلبي (E.SIEYES) وبين المواطن المالك والمواطن غير المالك (J.Locke)(6).
ـ حداثة التعاقد السياسي يقابلها التباعد والتفارق بين مركزية الدولة وطرفية المجتمع. فالفعل التعاقدي هو فعل مؤسس للدولة الحديثة وفعل مؤسس كذلك للمجتمع المدني, مما قد يحدث تناقضا أساسيا بين مساعي الدولة ومطامح المجتمع, وهما يحظيان بنفس الشرعية السياسية(7). وكيف لا يحسم هذا التناقض على حساب المجتمع, والدولة تحتكر حق اللجوء إلى العنف الشرعي؟
ـ حداثة التقدم الاقتصادي, يقابلها الاغتراب والاستغلال والتفقير.
ـ حداثة المجتمع المدني, يقابلها المفهوم التجريدي للدولة. يرى ماركس أن الدولة "المجردة" المتعالية على الطبقات الاجتماعية, تعد من السمات المميزة للحداثة السياسية(8).
وبالتالي فالحداثة في معانيها الإيجابية والمثالية تحيل على الفكر والقيم, وفي معانيها السلبية تحيل على الواقع المعيش. انفصام المجتمع بين فكر مستنير, عقلاني, ديمقراطي وواقع إستلابي, إقصائي, مأساوي. ولعل مفهوم الحداثة يحمل في ذاته بنية تناقضية وحركية ذات اتجاهات متعارضة(9).

3 – فاوست والحداثة:
ومسرحية فاوست (FAUST) لغوته (GOETHE), كانت تعبيرا شاعريا ودراميا لهذه البنية التناقضية المحايثة للحداثة(10).
فالحداثة لكي تصل إلى أهدافها, وهي أهداف نبيلة في مبدئها, كالتنمية والتطور, قد تضحي بأعداد مهولة من البشر(11).
أسطورة فاوست تحكي قصة إنسان ممزق الوجدان, يسعى إلى تحقيق غايات حميدة, ولكن يرى نفسه مرغما على التحالف مع "قوى جهنمية"(12) والقيام بأعمال دنيئة ووضيعة. يقول برمان: "تكمن بطولة بطل غوته في تحرير طاقات بشرية هائلة كانت مكبوتة, ليس فقط في ذاته بل في جميع من يتصل بهم وبالتالي في المجتمع المحيط به ككل. غير أن التطورات التي يطلقها –على الأصعدة الفكرية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية- لا تلبث أن تتطلب أثمانا بشرية باهظة. ذلك هو معنى علاقة فاوست بالشيطان: لا يمكن تطوير القوى البشرية إلا عبر ما أطلق عليه ماركس اسم "قوى العالم السفلي" (القوى الجهنمية), تلك الطاقات الظلامية المرعبة التي قد تفلت بقواها الهائلة غير القابلة لأن تخضع لأية سيطرة إنسانية. تشكل مسرحية فاوست لغوته تراجديا التنمية الأولى ومازالت هي التراجيديا التنموية الأفضل حتى اليوم"(13) (*).

4 – الحداثة بين مكيافلي وتوماس مور:
مكيافلي وتوماس مور ينتميان إلى نفس الحقبة التاريخية, أي القرن السادس عشر, لكن اختلافهما الفكري يثير الاستغراب.
إذا كانت الواقعية السياسية لمكيافلي تكشف لنا عن فضاء سياسي رهيب ومخيف, فتوماس مور يحلق بنا في سماء اليوتوبيا ويتحدث لنا عن مدينة فاضلة, تسودها أسمى القيم الإنسانية. على أن عددا كبيرا من النقاد يجزمون بصفة قطعية أن تلك المدينة, وإن غدت الخيال السياسي, تبقى بعيدة عن الواقع, بل مفارقة له وغير قابلة للتحقيق الفعلي. هذا يسوقنا إلى تساءل آخر, مؤداه:
إذا كانت المدائن الفاضلة, كما تجلت في كتابات أفلاطون والفرابي وتوماس مور لا تعدو أن تكون تمثلات خيالية وحالمة, لا يمكنها التأثير على سيرة الإنسان, كيف يمكن تفسير تعلق الجماهير منذ أواسط القرن التاسع عشر بشعار الثورة, ومناداتها بالمجتمع الشيوعي, الذي سوف يعيد للبشرية, بمعنى من المعاني, عصرها الذهبي المفقود. لماذا يثير مكيافلي الإعجاب والانبهار ويثير توماس مور اللامبالاة والازدراء؟ هل تمثل الإنسانية ذاتها سلبا, في صور قاتمة, وترى أن عالم ميكيافلي, بقساوته ورذائله, هو أقرب إلى حقيقتها من عالم الحكمة والفضيلة لتوماس مور؟
وكلما تحدث إنسان عن عوالم أخرى, مغايرة, فاضلة, يقابل بالازدراء, إن لم يقابل بالاضطهاد والعنف؟

II – السمات الكبرى للحداثة:
1 – بروز الذاتية والرغبة في السيطرة:
إن الاكتشافات العلمية قادت إلى خلاصة مثيرة مفادها أن الحقيقة هي باطنية في الطبيعة ولم تبق تأملية ومتعالية كما كانت عليه في العصور القديمة(14).
وبفضل العقل يمكن الكشف عن القوانين الطبيعية والقوانين التاريخية والقوانين الاجتماعية, فالعقل ينفذ إلى خبايا الأشياء, ويدرك البنى الخفية. لكن, ما هي الأهداف المتوخاة من ذلك؟
إن الحقيقة التي ينشدها الإنسان في زمن الحداثة ليست عبثية أو اعتباطية, إنها حقيقة مسخرة للسيطرة على الطبيعة, وللتحكم في التاريخ ولضبط المجتمع. كان العقل عند أفلاطون يفيد الحكمة والفضيلة وكان عند الفرابي يفيد الخير والسعادة. أما العقل الحديث فصار يعني السيطرة على الأشياء ويقترن بالفعالية والذرائعية. إن العقل هو الأداة الضرورية للوصول إلى أهداف معينة. ومن ثمة, غدا العقل أداتيا وفي خدمة المصالح والمنافع(15).
والمنفعة تحول القيم السياسية إلى اختيارات استراتيجية, تتغير بتغير الأحوال والظروف. هذا التصور يأخذ في الدول النامية طابعا دراميا, حيث تبدو هذه الدول وكأنها في تأرجح دائم بين سياسات شبه ديمقراطية وسياسات سلطوية.

2 – حداثة الأخلاق: المنفعة.
ميز هنرى سيدويك في كتابه مناهج الأخلاق بين الأخلاق القديمة والأخلاق الحديثة, باعتبار أن الأولى كانت ترتكز على مفهوم الخير والثانية على مفهوم العدالة(16).
إن الفكر القيمي القديم كان يضفي على الأخلاق طابعا جذابا, أما الفكر الحديث فيضفي عليها طابعا إلزاميا وآمرا. فالخير عند القدامى يقوم على الفضيلة ويقود إلى الانسجام الروحي وإلى السعادة.

ويمكن القول أن كانط هو الذي وضع الصياغة النظرية لهذا التصور الحديث للأخلاق, لما اعتبر أن الخير والعدالة لا يمكن تحديدهما بصفة قبلية, ولكن بصفة بعدية, حسب ما ينص عليه القانون. ذلك أن السعادة في نظر كانط تحمل معاني متعددة, وتختلف باختلاف طبائع الناس, لذا, يرى أن الأخلاق يجب أن تقوم على الواجب, والواجب ينحدر من الوعي الأخلاقي المحايث للعقل البشري(17).
على أن اتجاهات أخرى في نظرية القيم أثبتت أنه لا يمكن إلزام الإنسان بالأخلاق إذا لم يكن يرى فيها منفعة أو مصلحة, لذا, يتحتم ربط الأخلاق بالمنفعة. ففي الكتابات الأخلاقية لدافيد هيوم وجريمي بنتهام, تفقد القيم قدسيتها, وتبدو وكأنها وليدة علاقات اجتماعية معينة, وتتحول إلى قيم شبه-اقتصادية(18). فالإنسان تقوده حسابات عقلانية وأنانية, ذلك أن الإنسان يبحث عن مصلحته الذاتية أساسا, ولما كانت مصلحة كل إنسان لا تتعارض بالضرورة مع مصلحة الآخرين, فتكون بالتالي في مصلحة الجميع.
فاختلاف المصالح يؤدي إلى التنافس بين الناس ويفضي في آخر المطاف إلى التقدم الاقتصادي. في خرافة النحل نصادف مادفيل (MANDEVILLE) وهو يماثل المجتمع البشري بالمجتمع الحيواني.
إن الغرائز نجدها سائدة ومتحكمة في كلا المجتمعين, فهي التي تحدد الأهداف والسلوكات. على أن هذه الغرائز هي في ترابط بينها, في انسجام تام بينها, مما يقود إلى حركية متواصلة ودائمة, نافعة ومنتجة(19).

3 – موجات الحداثة الثلاث وانحدار الفلسفة السياسية:
ذهب ليو ستووس إلى أن الحداثة الفكرية والسياسية, مرت بثلاث مراحل (= أو موجات) أساسية(20):
أ ـ الموجة الأولى تقترن باسم مكيافلي وهوبز:
سعى الفكر الإنساني في بدايات زمن الحداثة إلى تقريب الوجود من واجب الوجود, بمعنى آخر, إلى تقريب واجب الوجود (المثال), من الإنسان الواقعي بطبائعه وأهوائه.
كانت الطبيعة عند القدامى تحمل معاني ودلالات بالنسبة للإنسان, حيث أنها انسجام وتناغم وترابط, وكان الإنسان يسعى إلى محاكاة الطبيعة في حياته, في نظامه الاجتماعي والسياسي. وهذا المنحى في الفكر كان لا متناهيا, لا تحده حدود, لأن الطبيعة والكون يحيلان إلى مثال مطلق, فأفلاطون لما يتحدث عن الإنسان المطلق, فلا يعني به أوصافا معينة, بل يعني به الإنسان الواعي بأن إنسانيته ليست متناهية, ويمكن دوما تقريبها من مثال يبتعد كلما دنا منه.
كان الإنسان مقياس كل شيء, وكل تفكير في السياسة كان يوجب الانطلاق من المثال المطلق لإنسانية الإنسان ويفرض التقرب منه(21).
أما في العصر الحديث فلم تبق الطبيعة دالة على شيء بالنسبة للإنسان, وصارت تقترن بالفوضى واللامعنى, فغدا الإنسان يسعى إلى ضبطها والإمساك بها والسيطرة عليها. كانت الطبيعة قدوة يقتدى بها وأصبحت مادة مسخرة لأغراض الإنسان, ونلمس هنا مدى تأثير فلسفة هيدجر على ليوستروس الذي يرى أن الإنسان لم يعد مقياس كل شيء بل "سيد كل شيء".
وصار التاريخ يقوم بدور الوسيط بين الوجود وواجب الوجود, ذلك أن مثال الوجود قد يتحقق بالفعل عن طريق انفعالات وأهواء البشر, بدون قصد منهم, وهنا تكمن "حيلة التاريخ", إن أفعال الإنسان قد تبدو وضيعة, لكن يجب قبولها اضطرارا, وعدم التنديد بها لأنها في الواقع قد تكون في مصالح مسار التاريخ الإنساني.
هذه الرؤية التي أضفت على الأخلاق طابعا نفعيا وذرائعيا هي التي تجلت في كتابات مكيافلي وتوماس هوبز.
فمكيافلي ذهب إلى أن القضايا الإنسانية يجب إيجاد حلول لها بطرق سياسية واقعية وبراغماتية.
كان القدامى يعتبرون أن البحث عن النظام الأمثل يشكل عملا دؤوبا ومتواصلا، يصعب ضبطه والتحكم فيه, وتعترضه عوائق مختلفة, وقد تواكبه أحداث ووقائع ناتجة عن الصدفة.
أما ماكيافلي فيرى أنه لا داعي لترك مجال للصدفة, فالقوة السياسية يمكنها التحكم في كل شيء. وهذا يعني أن مكيافلي أبعد عن ذهنه الإشكال المرتبط بالنظام السياسي الأليق بالإنسان, فما يهمه هو ضبط المجتمع واحتواء الأزمات وتجاوز الانقسامية والتجزيئية في المجتمع. وصار للسياسة معنى أداتيا وتقنيا, حيث صارت تقترن بالضبط والسيطرة(22).
وذات الرؤية نصادفها عند هوبر الذي اهتم بالطرق والمسالك السياسية التي يمكن على أساسها تجاوز "حالة حرب الجميع ضد الجميع".
وأفضت هذه النظريات إلى التاريخانية, إلى نفي الفلسفة السياسية, ولم تبق الفضيلة هي غاية السياسة, بل صارت في خدمة الجمهورية.
إن الجمهورية تستوجب الفضيلة, لأن الفضيلة ضرورية لبقائها واستمرارها, ولم يعد بالتالي ممكنا التفكير في الأخلاق في ذاتها وخارج المجتمع السياسي.
إن الأخلاق شرط من شروط الجمهورية ليس إلا, وهذا يعني أن الأمير يمكنه أن يتظاهر بالفضيلة دون أن يؤمن بها.
ب ـ الموجة الثانية تقترن باسم روسو:
انتقد روسو في البداية التوجهات الفكرية لموجة الحداثة الأولى, واعتبر أنه يجب العودة إلى القدامى وإحياء التراث القديم والمناداة بالقانون الطبيعي.
وفي الواقع, أضفى روسو طابعا راديكاليا على النزعة التاريخية التي لمسناها عند مكيافلي وتوماس هوبز. فهوبز ذهب إلى أنه لا يمكن إبعاد كليا القانون الطبيعي, بل يجب استحضاره ودراسته في الطور الطبيعي للإنسان. إن القانون الطبيعي كان يحيل قديما إلى المثل العليا, ويرمز إلى غايات الإنسان المثلى بعيدا عن كل واقع متعين, وصار يعنى عند هوبر الطور البدائي, ويحيل إلى المرحلة التاريخية الأولى للإنسان
ويخلص هوبز إلى نتيجة مفادها أن القانون الطبيعي كشف عن حقيقة أساسية لدى الإنسان وهي: أن الإنسان في الحالة الطبيعية تغلب عليه الغرائز والأهواء. إن هوى الإنسان الأكثر تجدرا, بنظره, هو "خوفه من الموت العنيف بفعل الآخر".
أما روسو وإن تظاهر بمعارضته لفكر هوبز, فهو أقر بمنطلقاته الأولى واعتبر أن القانون الطبيعي يشير إلى الحالة الطبيعية السابقة على الدولة: وهذا يعني أن روسو لم يكن يؤمن بمثالية القانون الطبيعي وبماهيته الغائية.
وذهب روسو إلى أن الإنسان في طوره الأول لم يكن له وعي أخلاقي, لم يكن يميز بين الرذيلة والفضيلة, كان إنسانا "متوحشا", إنسانا يعيش بالفطرة. لذا نجد ليو ستروس يقول: "يكون الإنسان في الحالة الطبيعية أقل من الإنسان أو إنسانا ما قبل الإنسان"(23).
ذهب هوبز إلى أن الحالة الطبيعية تبين الحقوق التي كان يتمتع بها الإنسان سابقا والتي يتعين على الدولة صيانتها والحفاظ عليها, والأخلاق عند هوبز هي الواجبات التي يتعين على الإنسان احترامها, إذا رغب في السلام والطمأنينة.
سعى روسو إلى الابتعاد عن الطابع النفعي للأخلاق, كما تجلى في كتابات هوبز, فيعتبر أن الواجبات المرتبطة بالقانون تنحدر من الحقوق الأساسية, وتحديدا من الحرية, كيف ذلك؟
إن الإنسان البدائي, بما أنه أقل من الإنسان, فهو يكتسب إنسانيته, عن طريق التاريخ, بمعنى عن طريق المجتمع, فالتاريخية حلت محل طبيعانية القدامى. على أن التاريخ لا يمكن أن يكون أساسا ومعيارا لتقييم التقدم البشري. إذ, كيف يمكن القول أن الإنسان يسير في اتجاه إيجابي أو في اتجاه سلبي؟
وهذا ما دعا روسو إلى اللجوء إلى معيار خارج التاريخ, مستوحى من حالة طبيعية مفترضة, فالقانون الطبيعي الذي كان سائدا في الحالة الطبيعية السابقة على الدولة, هو المقياس الأعلى الذي يعطي معنى لمسار التاريخ.
وإن كان الإنسان يبدو "متوحشا" في طوره الطبيعي, فكان متحررا من كل القيود, كان ينعم بالاستقلال الذاتي, بالحرية, وتبعا لذلك, صارت الحرية المقياس الوحيد الذي يمكن على أساسه تقييم نظام اجتماعي أو سياسي. على أن الحرية تبقى عند روسو غير محددة وغير مضبوطة, وبالتالي, فما هي الغايات المتوخاة من الحرية, وكيف يمكن تمييزها عن الإباحية؟

يرى روسو أن الحرية قد تنبعث من جديد, وفي صورة أرقى, في مجتمع ينبني على الإرادة العامة, إن الإرادة العامة تعبر عن رغبات ومطامح الجميع, فهي تعبر عن الخير المشترك, فهي بالتالي ديمقراطية وعقلانية "ومعصومة من الخطأ"(24). ونتساءل: ما هو مقياس العقلانية عند روسو؟ إن العقلانية تقترن بنظره بالديمقراطية والمشاركة السياسية, حيث أنها تتجسد في قوانين تعبر عن الإرادة العامة, بمعنى أنها تعبر عن مصالح الجميع, بدون تمايز, وتفاضل؛ على أن العقلانية عند القدامى كانت مرتبطة بسعادة الإنسان, وكان يفكر فيها انطلاقا من المثال المطلق لإنسانية الإنسان.
إن أمثل القوانين عند روسو هي التي يشارك جميع المواطنين في وضعها, أما عند القدامى فهي القوانين التي تحاكي الطبيعة والتي تحمل أسمى القيم الإنسانية.

ويمكن القول بصفة عامة أن النظريات السياسية صارت ترتكز على تصورات أنثروبولوجية مستوحاة من طبائع الإنسان الواقعية أو المفترضة. في حين, كانت الأنثروبولوجية الفلسفية, عند القدامى, تنطلق من الإنسان المطلق المتحرر من شوائب الواقع.

ج ـ الموجة الثالثة تقترن باسم نيتشه:
إذا كان روسو يميل إلى الاعتقاد بأن الإرادة العامة ستقود المجتمع إلى التعايش في انسجام مع الطبيعة وستثير في الإنسان الإحساس بالطمأنينة والسكينة, فنيتشه يرى أن قضايا الإنسان لا يمكن حلها عن طريق السياسة. فالوجود يثير في الإنسان الإحساس بالقلق والخوف أكثر مما يثير فيه الإحساس بالطمأنينة. هذا القلق الوجداني يرتبط بمأساة الحياة. وهذا الإشكال هو لصيق بالإنسان بصفته إنسانا وليس هناك نظام سياسي كفيل بحله.
إن أغلب الفلاسفة انطلقوا من طبيعة الإنسان كما بدت لهم في عصرهم وسعوا إلى صياغة نظريات سياسية تتوخى العالمية والكونية, وفي الواقع, لم يدرك هؤلاء الفلاسفة أهمية التاريخ. على أن مائة سنة فصلت روسو عن نيتشه. وخلال هذه السنوات برز التاريخ بكل ما يحمله من معاني ودلالات في كتابات هيجل.

بالفعل, اعتبر هذا الأخير أن الصيرورة التاريخية تسير بصفة تكاد تكون حتمية نحو تقدم متواصل, ونحو "الدولة المطلقة", التي تمثل في ذات الوقت نهاية التاريخ. إن الحداثة لدى هيجل أضفت طابعا زمنيا على المسيحية. على أن الفكر الذي ظهر بعد هيجل لم يقبل تصوراته؛ فنيتشه ذهب إلى أن التاريخ يبقى بدون معنى ولا يمكن في كل الأحوال التنبؤ بمساره. إن التاريخ لا يتقدم بصفة حتمية, إنه قد يتقدم بالفعل, ولكن انطلاقا من أفعال الإنسان ومن إرادته الواعية والحرة ومن إبداعاته ومشاريعه ومن المثل التي يؤمن بها. هذه المثل تبقى مرتبطة بثقافة الشعوب وبهويتها. وتاليا, لا يمكن الحديث عن مثل عالمية تنطبق على كافة الشعوب.
إن الحداثة بنظر نيتشه أضفت طابعا تجريديا على القيم الأخلاقية. إن القيم هي في الواقع لصيقة بحياة الإنسان وبوجدانه وهي وليدة المجتمع في لحظات من تاريخه, وهي مرتبطة بثقافته ومعتقداته؛ وبالتالي, فالقيم تتغير وتتبدل حسب ظروف الزمان والمكان. هذه الرؤية النسبية حيال القيم هي التي انتهت بنظر ليو ستروس إلى العدمية وقادت تاريخيا إلى إفراز الحركة النازية في ألمانيا(25).
وفي الختام يمكن القول أن طروحات ليو ستروس وإن كانت قابلة للنقد في بعض جوانبها(26), فهي تلتقي مع خلاصات فيلسوف ينتمي إلى اتجاه فكري مغاير تماما وهو يورغن هابرمس(27).

4 – الفصل بين السياسة والفلسفة:
في القرن العشرين وامتدادا "للفيزياء الاجتماعية" (AUGUSTE COMTE) التي ظهرت في القرن التاسع عشر, برزت نظريات تنادي بفصل السياسة عن الفلسفة وتنادي بربط المعرفة السياسية بمعايير في غاية من الصرامة العلمية, مستوحاة في غالبيتها من العلوم الطبيعية, وكتاب كارل بوبر المجتمع المفتوح ضد أعدائه يمثل هذا الاتجاه. كانت السياسة عند القدامى (أفلاطون, أرسطو, الفارابي, على سبيل المثال…) تعد امتدادا طبيعيا للفلسفة, بل ترتبط بها ارتباطا حميميا. بيد أن حداثة القرن العشرين دعت إلى التفريق بين السياسة والفلسفة وغدت السياسة مختزلة في الدولة والمؤسسات والأحزاب السياسية, وتم عزلها عن قضايا إنسانية في غاية من الأهمية. وصارت السياسة تحيل إلى مجتمع قائم بذاته (ما يسمى بالمجتمع السياسي), يختلف عن مجتمع آخر, لا سياسي (ما يسمى بالمجتمع المدني). مجتمعان إذن في مجتمع واحد. نسيان الوجود الذي تحدث عنه هيدجر لا يخص الفلسفة فقط بل يطال الفكر السياسي في أغلب مناحيه الحديثة.
ولما غدا الفكر السياسي يطمح إلى المعرفة الثابتة والعلمية ويسعى إلى محاكاة مناهج العلوم الطبيعية, صار يبحث عن المجالات القابلة للإختبارية, للبرهانية, والقابلة للإحصاءات والنماذج الرياضية, فابتعد عن العقل العملي. وصار البحث السياسي له طابع تجزيئي وقطاعي.

5 – انحسار السياسة وغيابها:
على مستوى الفكر أولا:
مما يلفت النظر أن عددا كبيرا من الفلاسفة في زمن الحداثة سعوا إلى التفكير في السياسة بطرق هندسية ورياضية. وهذا برز بكل وضوح وجلاء في نظريات هوبز ولا يبنز (LEIBNIZ) وكوندرسي (CONDORCET), ولم يكن هؤلاء واعين, على ما يبدو, بأن في هذا نسفا وتدميرا للسياسة. هذا التوجه ترسخ في النظريات التحليلية المعاصرة التي تعتمد على مناهج مستوحاة من "السبرنتيقا" (LA CYBERNETIQUE), كنظريات إستون (EASTON) وألموند (ALMOND) وبارسون (PARSONS).

على مستوى الواقع ثانيا:
إن السياسة التي تعني في عمقها التحاور والتداول والتواصل, ظهرت في أثينا الديمقراطية وفي روما الجمهورية ثم اختفت هذه السياسة, ولم تنجل ثانية إلا في المراحل الثورية وفي اللحظات التاريخية التي تعقبها. إن كتابات حنا أرنت في هذا المجال تعد في غاية من الأهمية. ذلك أنها ذهبت إلى أن جدلية الخفاء والتجلي صارت تحكم السياسة(28). إن نظام أثينا الذي افرز سياسة تواصلية وتفاعلية, لا تقيم تمييزا بين الحاكم والمحكوم, غدى المخيال السياسي لفلاسفة ينتمون إلى اتجاهات فكرية متباينة؛ كماركس وحنا أرنت وهابرماس.

إن تطور السياسة بمعناها المكيافلي (الدهاء والحيلة والعنف…) وامتداداتها المعاصرة عند كارل سميث وجليان فروند (الزعامة, القيادة, الطاعة, العنف…)(29), يعبر عن أزمة الفكر واختناقه وأزمة القيم واضطرابها, ويدل كذلك على اختفاء السياسة في ماهيتها الحقيقية.
فلما طغت الذاتية وهيمن العقل الأداتي, وسادت إرادة القوة, تحولت السياسة إلى تقنية, إلى تكنولوجيا للضبط الاجتماعي. مما أفضى إلى بروز مظاهر عنيفة في غاية من الخطورة فظهر ما أسمته حنا أرنت "بالشر المحض" أو "بالشر الراديكالي" (LE MAL RADICAL), والذي ترتب على النازية(30). إن حداثة العنف تتمثل في هذا الشر السياسي الذي لا مثيل له عبر التاريخ, حيث كان مخططا بشكل رهيب من طرف بروقراطية متحكمة وكليانية وتدعي "العلمية".
إن الدولة النازية اعتمدت بهدف تبرير سياساتها إلى النظريات التطورية المستوحاة من كتابات داروين, والتي تنادي بالحفاظ على تفاوت الأجناس وعلى نقائها. إن "الإبادة العلمية" لليهود, بدت وكأنها طبيعية وعادية, بل مبتذلة, ولم تثر أي قلق وجداني عند القادة النازيين والمتواطئين معهم(31).
إن أسطورة فاوست تبدو متجاوزة في القرن العشرين لما امتزج العلم بالإيديولوجية وتجسد الحكم في بيوقراطيات تتنامى باضطراد, واغترب الإنسان واختفت السياسة.
في رواية "صمت عروسات البحر" (LE SILENCE DES SIRENES) لكافكا(32) نرى أوليس (ULYSSE) الذي يرمز إلى السياسة, حائرا وتائها بين أمواج البحر وعروسات البحر صامتة, لا ترغب في النشيد, غير مكثرتة به, ويتيه أوليس عن طريقه نهائيا ولا يتمكن من العودة إلى بلده. هذا هو مآل السياسة في زمن الحداثة عند كافكا إذ تحولت السياسة إلى طيف يحوم حول مجتمعات لا ترغب في وجوده. فهل صارت السياسة بدون وطن, بدون مكان, بدون فضاء؟
وإذا كان الأدباء والفلاسفة في أوربا يتحدثون عن اغتراب السياسة وعن غيابها في مجتمعاتهم الديمقراطية فما عسانا أن نقوله نحن عن السياسة في مجتمعاتنا العربية التي تعرف في معظمها أنظمة تسلطية؟

6 – العودة إلى أصول الحداثة؟
هل يجب نقض الحداثة وإبعادها كليا عن كل المجتمعات التي تطمح إلى التحرر والانعتاق, بعيدا عن زيف الإيديولوجيات المخادعة؟
يمكن أن نلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين إلى نقد الحداثة(33) وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة, انطلاقا من تجارب التاريخ. على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية في ذات الوقت (على سبيل المثال, الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا, الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا…)؛ إن صعود وتنامي الفاشيات في أوروبا ارتكز على طروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن.

إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها(34). ألا يجب بالأحرى أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذهب إليه هابرماس في هذا الموضوع, حيث أنه دعا إلى التفريق بين قيم الحداثة والتي لا يماري أحد في أهميتها والواقع التاريخي الذي يتحكم فيه التركيب الاجتماعي وطبيعة الطبقات السائدة(35)؟  n

المراجع:
1 – ARENDT, HANNAH, Eichman à Jerusalem. Rapport sur la banalité au mal , Gallimard, 1966
2 – ARENDT, HANNAH, La crise de la culture , Gallimard, 1972.
3 – BERLIN, ISAIAH, Le bois tordu de l’humanité Albin Michel, 1992.
4 – BERMAN, MARSHALL, All that is solid melts into air. The experience of modernity, Verso, 1983.
ترجم إلى اللغة العربية بهذا العنوان: حداثة التخلق. تجربة الحداثة, الترجمة لفاضل جتكر, مؤسسة عيبال, 1993.
5 – BIDET, JACQUES, Théorie de la modernité, PUF, 1990.
6 – BORELLA, FRANCOIS, Critique du savoir politique, PUF, 1990.
7 – DABEZIES, ANDRE, Le mythe de faust, Armand collin, 1990.
8 – CASTORIADIS, C., Les carrefours du Labyrinthe II, Seuil, 1989.

9 – CASSIRER, ERNST, La philosophie des lumières. FAYARD, 1986.
10 – DUCHET, MICHELE, Anthropologie et histoire au siècle des lumières, Albin Michel, 1995.
11 – FERRY, LUC, Philosophie politique, PUF, 1984, (Tome 1).
12 – FERRY, LUC, RENAUT ANDRE, Système et critique, Ousia, 1992.
13 – FREUND, JULIEN,  L’essence du politique, Sirey, 1965.
14 – GAUTIER, CLAUDE, L’invention de la société civile, PUF, 1993.
14 – GUTHRIE, W.C.K., Les sophistes, Payot, 1997.
15 – HABERMAS, JURGEN, Discours philosophique de la modernité, Gallimard, 1988.
16 – HABERMAS, JURGEN, La modernité un projet inachevé, Critique, 413, oct.1981.
17 – HABERMAS, JURGEN, Théorie et pratique, Payot, 1975 (Tome 1).
18 – HORKHEIMER MAX, THEODOR, W.ADORNO, La dialectique de la raison, Gallimard, 1974.
19 – KAFKA FRANZ, Oeuvres complétés, bibliothèque de la pleiade, 1980 (Tome 2)
20 – KERVEGAN, JEAN-FRANCOIS, Hegel et Carl Schmitt. La politique entre spéculation et positivité, PUF, 1993.
21 – LARMORE, CHARLES, Modernité et morale , PUF, 1993.
22 – LEFEBVRE, HENRI, Introduction à la modernité , Minuit, 1962.
23 – MACPHERSON, C.B, Théorie politique de l’individualisme possessif , Gallimard, 1971.
24 – MESHONNIC, HENRI,  Modernité, modernité, Verdier, 1988.
25 – ROSANVALLON, PIERRE, Le sacre du citoyen , Gallimard, 1992.
26 – ROVIELLO, ANNE MARIE, Sens commun et modernité chez Hannah Arendt, Ousia, 1987.
27 – SALA-MOLINS, LOUIS, Les misères des lumières, R.LAFFONT, 1992.
28 – STERNHELL, ZEEV, L’eternel retoure, Presses de la F.N.S.P., 1194.
29 – STRAUSS, LEO, Political philosophy, The Bobbsmeril company, indianapolis, New York, 1975.
30 – TOURAINE, ALAIN, Critique de la modernité, FAYARD, 1992.
31 – WEBER, MAX, Economie et société, Presses Pocket, Tome II, 1995.
32 – WIGGERSHAUS, ROLF, L’Ecole de Francfort, PUF, 1993.


(1) C.CASTORIADIS, Les carrefours du labyrinthe II, Seuil, 1989, pp261 et s (La polis Grecque et la création de la démocratie).
(2) W.C.K. GUTHRIE, Les sophistes, Payot, 1971, pp9 et s.. Sur les rapports entre la sophistique et le siècle des lumières, cf.ERNST CASSIRER,  La philosophie des lumières, Fayard, 1996, pp306 et s.
(3)  HABERMAS, JURGEN, Le discours philosophique de la modernité, Gallimard, 1988, pp2 et s.
(4) « Semblable à Homere, la modernité, de nombreuses villes se disputent sa naissance. Et les naissances sont nombreuses, et ne peut pas être finie ».
HENRI MESHONNIC,  Modernité, Modernité, Verdier, 1988, p31.
(5) Louis SALA-MOLINS, Les misères des lumières, Robert LAFFONT, 1992, pp74 et s. cf, aussi, Michèle DUCHET, Anthropologie et histoire au siècle des lumières, Albin Michel, 1995, pp194 et s.
(6) Sur les liens entre la propriété et le droit de vote dans la pensée anglaise (Hobbes-J.HARRINTON, Les Nivellers-J.Locke..) cf.C.B.MACPHERSON, Théorie politique de l’individualisme possessif, Gallimard, 1971, cf.18, p120, p177 et p214.
-Sur les mêmes liens dans la pensée et la pratique française, cf.Pierre Rosanvallon, La sacre du citoyen, Gallimard, 1992, pp45 et s.
(7) JACQUES BUDET, Théorie de la modernité, PUF, 1990, pp18 et s.
(8) HENRI LE FEBVRE, Introduction à la modernité, Minuit, 1962, pp169 et s.
(9) HENRI MESHONNIC, op.cit., pp67 et s.
(10) اعتبر الأديب الروسي بوشكين (POUCHKINE) أن مسرحية فاوست تمثل "إليادة الحياة الحديثة".
انظر: مارشال برمان, حداثة التخلف, ترجمة فاضل جتكر, مؤسسة عيبال للدراسات والنشر, 1993, ص31.
(11) مارشال برمان, فنس المرجع, ص31.
(12) مارشال برمان, نفس المرجع, ص34.

انظر كذلك:

ANDRE DABEZIES, Le mythe de faust, Armand collin, 1990, voir en particulier le chapitre : « Génèse et structure du drame de Goethe», pp61 et s.
(13) مارشال برمان, نفس المرجع, ص32 – 33 – 34.
(*) إن أول تحليل لتوجهات العقل الحديث نصادفه في كتابات ماكس فيبر, وتحديدا في كتاب الاقتصاد والمجتمع.
انظر:MAX WEBER, Economie et société (tome 1), Presses Pocket, 1995, pp55 et s.

على أن أهم تقييم نقدي للعقل والحداثة نجده في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت, في كتابات هوركايمر وأدورنو وماركوز وهابرماس الخ…
انظر: ROLF WIGGERSHAUS, L'école de francfort  PUF, 1993, pp249 et s.
انظر: MAX HORKHEIMER, THEODOR ADRNO, La dialectique de la raison Gallimard, 1974.
JURGEN HABERMAS, Theorie et pratique, Payot, 1975, (tome 1), pp70 et s.
(14)  FRANCOIS BORELLA, Critique du savoir politique,  PUF, 1990, pp19 et s.
(15)  LUC FERRY et ANDRE RENAUT, Système et critique, Ousia, 1992, p121.
(16) HENRY SIDGWICK « The methods of ethics, » in Charles Larmore, Modernité et morale, PUF, 1993, pp45 et s.
(17)  CAHRLES LARMORE, op.cit, pp52 et s.
(18)  CLAUDE GAUTIER, L’invention de la société civile, PUF, 1993, pp34 et s.
(19) CLAUDE GAUTIER, op.cit, pp161 et s.
(20) LEO STRAUSS, « The three waves of modernity » in Political philosophy The Bobbs-Meril Compagny, Indianapolis, New York, 1975, p81.
(21) Ibidem, p85.
(22) «The characteristics of the first wave of modernity were the reduction of the moral and politique problem to a thechnical problem (…) », Leo Strauss, op. cit, p89.
(23)«Man in the state of nature is subhuman or prehuman, his humanity or rationality have been aquierd in a long process », Leo Strauss, op.cit, p90.
(24)  Leo Strauss, op.cit, p91.
(25) Leo Strauss, op.cit, p98.
(26) LUC FERRY, Philosophie politique Tome 1, PUF 1984, cf. en particulier le chapitre « Les limites de la critique straussienne », p78.
(27) J.HABERMAS, Théorie et pratique, tome 1, pp80 et s.
(28) ANNE – Marie ROVIELLO, Sens Commun et modernité chez Hannah ARENDT, Ousia, 1987, pp13 et s.
cf. aussi, HANNAH ARENDT, La crise de la culture, op.cit, p121.
(29) JEAN–FRANCOIS, KERVEGAN, Hegel et Carl Shmitt. La politique entre la spéculation et la positivité , PUF, 1992, p83 et p183.
Cf. aussi, JULIEN FREUND, L’essence de la politique, SIREY, 1965, p101.
(30) HANNAH ARENDT, La crise de la culture, Gallimard, 1972, p121.
(31) HANNAH ARENDT, Eichman à Jérusalem. Rapport sur la banalité du mal , Gallimard, 1966, pp40 et s.
(32) FRANZ  KAFKA, « Le silence des sirenes », Oeuvres complètes, bibliothèque de la pleiade, 1980, tome 2, « Récits et fragments narratifs », pp542 et s.
(33) ALAIN TOURAINE, Critique de la modernité, Fayard, 1992, cf. en particulier le chapitre, « Les intellectuels contre la modernité », p175.
(34) ZEEV STERNHELL, L’Eternel retour, contre la démocratie, l’idéologie de la décadence, Presses de la F.N.S.P, 1994, p9, p73 et p131.
Cf. aussi, ISAIAH BERLIN, Le bois tordu de l’humanité, Albin Michel, 1992, p100.
(35)  J.HABERMAS, « La modernité, un projet inachevé », Critique, 413, oct. 1981.

الخميس، 28 أبريل 2016

قصتان قصيرتان








غرفة خاصة سهام العبودي


المغرب : مجتمع التعاسة ؟ ـ طويل حسن

أنفاس نت



" لم يحدث يوما ، ان تمتعت ،ايها الرجل الصغير ، بسعادتك في حرية ، لذلك فانك تلتهمها بجشع .لم تتعلم قط ان تعتني بسعادتك كما يفعل البستاني بوروده ." ( ويليام رايش ، خطاب الى الرجل الصغير )
مفهوم السعادة بالنسبة لاغلبية المغاربة ، مفهوم هلامي فنتاسمي ، لا يصلح الحديث حوله سوى كترف فكري او شطحة نخبوية . انه اشاعة ، فلقداكتسبوا في صيرورة حياتهم البئيسة كفاية التعاسة  .فشبه الحياة التي يشاهدونها تمر امامهم ، هي نسخة متكررة من لحظات يعيشونها في تطبيع غريب مع التعاسة . لقد خضعوا بكل مازوشية ، لمصاصي الدماء بمختلف انواعهم : الاقتصاديين والسياسيين و الفكريين و العاطفيين .  لقد افهموهم ان التعاسة حق طبيعي ، وان " السعادة " إشاعة كالعيش الكريم و العقل المتنور و الجسم الجميل . لقد تم تحويلهم الى هياكل عظمية جسدا وعاطفة و فكرا .
المغاربة لم يتجاوزوا  مرحلة الحاجيات البيولوجية حسب " هرم ما سلو" ،و لم يحن الوقت بعد كل هذه السنوات من التواجد البئيس، ان يتخطوا حاجيات الماكل والمشرب و حاجات البقاء الضرورية . لقد مسخوا الحقوق ليحولوها الى احلام : عمل ولو بمدخول بئيس   ، زوج(ة)،قبر الدنيا. من كثرة سباحتهم في مستنقعات البؤس و القهر ، حولوا العالم الشاسع الى فضاء ضيق من الروتين القاتل، في سبيل انتاج واعادة انتاج ، التعاسة والهدر. لقد تكالب عليهم الاسياد الجدد ليجعلوا منهم اموات احياء وبقايا بشر : فالاسياد الجدد  ساديون في متعهم ، يمصون كل ماهو جميل في هذه الحياة ليتركوا بدون ندم اوسخ ما يوجد في هذه البلاد  للعبيد الجدد من  عيشة قذرة وفكر متخلف و بدن مريض و معذب و جميع انواع المكبوتات .
المؤسسون للولايات المتحدة الامريكية، وضعوا ثلاث حقوق اساسية  لا يمكن التفريط فيها وهي : الحق في الحياة ، الحق في الحرية ، والحق في السعي نحو السعادة . في المغرب،  استبدلت الفئات الحاكمة هذه الحقوق بثلاثي القهر : الحق في الموت الوجودي ، الحق في العبودية المختارة ، والحق الاكبر في التعاسة . هذا الثلاثي إمتزج ،عبر تدجين مباشر وغير مباشر، بوعي زائف يستعمل كميكانيزم دفاعي نفساني ثقافي لايجاد توازن وهمي لوجود مقهور . فصنع من الفرد المغربي، وحشا مفترسا لكل من يحاول ان يغير واقعه و عبدا مطيعا لخفافيش الاستبداد والفساد و التخلف و متاجري الاديان  .
مختلف  المؤشرات المرتبطة بالسعادة  ترتب المغرب في المؤخرة : الرفاه ، السعادة ، الاضطرابات النفسي ، الصحة ، الدخل ، الحرية ...، حتى اصبح مصابا بفوبيا المؤخرات . اليست المؤخرة وجها ثانيا للفرد؟ اليس الخوف منها هو في حد ذاته رعاب من مواجهة كل الخواء الداخلي " المزوق " بالفضائل ،"فنحن نعاقب اشد العقاب من طرف فضائلنا"( نيتشه ، ماوراء الخير والشر). الطهرانية  المزيفة هي في حقيقتها غطاء متسخ ساكن  لنظافة ذاتية حقيقية تعج حياة و نشاطا ،" يمكن للاشمئزازمن الوسخ ان يصل حد منع النظافة عن انفسنا" ( نيتشه ، نفس المرجع). الم يحن الوقت لاعلان جنازة المؤخرات ؟
التزييف الذاتي يمارس فعله على ثلاث اشياء اساسية للوجود السعيد وهي: العمل ، الحب ، المعرفة . فعلاقة المغربي بالعمل هي علاقة استلاب واضطرار بدل ان تكون علاقة تمتع و اختيار ( هذا ان وجد العمل اصلا و مدى تحقيقه للعيش الكريم ) . اما الحب فانه في نظر المغربي اما ضعفا او عهارة او اغتصاب للفحولة ؛ فهو  يعبر قليلا عن  الحب وان عبر ، فيتم ذلك بخشونة او حياء ، وان احب فيمكن ان يحول هذا الشعور الجميل الى منتوج خرافي (سحر ) او ممارسة ذاعرة محرمة .كما ان اغلب الاسر المكونة هي نتيجة للقاء مريضين بفوبيا العنوسة ، او هروب من حرمان جنسي و مراقبة اجتماعية. علاقة المغربي بالمعرفة هي الاكثر لبسا و فقرا ، فالمعرفة وتملك العالم فكريا و ملكة روح النقد والاكتشاف و تجويد الحياة واحترام العلم و اعتماده كثقافة هي خارج الاهتمام و التقدير و الفضول . فالمغربي يتحين الفرص لللشماته بالعلم والمعرفة ، وليس صدفة ان يطلق كلمة  "المثقف "  على العاجز جنسيا ،ويتجه للمشعودين في مواجهة مشاكله .
المغاربة هم ضحايا وجلادين في نفس الوقت : ضحايا انظمة استبدادية عصاباتية ، وجلادين لذاتهم عبر كفايات  الخنوع و العبودية الذين تربوا عليها و والتي يجتهدون في الابداع في اعادة انتاجها. وبالتالي فهم مسؤولون عن تعاستهم ، فالسعادة تبتدأ بتحمل المسؤولية الذاتية وتبني مغامرة التغيير و تكره الجبناء والعبيد .
على قبر كزنتزاكيس ، مؤلف الرواية الرائعة زوربا اليوناني ، كتبت الجملة التالية :"  لا اطمع في شيء ....لا اخاف من شيء...انا حر " و هي جملة يجب ان تكتب بسكين حاد على جبين كل مغربي .

الاثنين، 25 أبريل 2016

الكونية ووهم الكونية ـ هادي معزوز

أنفاس نت 


يسعى العالم الرأسمالي اليوم مثل البارحة إلى الترويج لخطاب يعتبر جزءا لا يتجزأ من رهاناته وأهدافه، ألا وهو خطاب العولمة، وذلك باسم المشترك بين الإنسان، وأيضا تحت يافطة المصير العام، وهو ما يجعل من نفس الخطاب ذلك الساهر دوما على تحقيق غرض ربما ليس في وسعنا اليوم الحكم عليه إن من باب السلبية أو الإيجابية، لسبب يكاد يكون إشكاليا محضا، وهو حاجتنا إلى الكونية وفي نفس الوقت رفضنا لكل أشكال التبعية، إذ أن نفس الخطاب الرامي إلى مد الجسور بين الثقافات هو نفس الخطاب الذي يسعى إلى تكريس الثقافة الوحيدة، ونفس الخطاب الساعي إلى نبذ الهوية الوحيدة لصالح الاختلافات المتكررة، هو نفسه الذي يوقظ شرارة التقوقع وما يرافقها من تعصب وغياب للتسامح وهيمنة الجهل على المعرفة، وسيادة الخنوع على الإبداع والتغيير الإيجابي.
    لا مفر من فكرة مفادها أن الخطاب القوي هو الخطاب الذي يهيمن، في انتظار ظهور خطاب أقوى له أسسه ورهاناته الخاصة، كما أنه لا هروب من الإشارة إلى أن كل خطاب هو خطاب إرادة قوة أولا وأخيرا، أي أنه في الخطاب الوحيد نجد أنفسنا أمام ثنائية الظاهر والباطن، أي أمام خطاب البراءة وخطاب تحقيق الربح مهما كانت الطريقة، لهذا قد لا نتعجب مثلا عندما نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر الدول دعوة إلى السلام وفي نفس الوقت هي أكثر منتج ومصدر لأفتك الأسلحة، لهذا فخطاب الترويج يكاد يتناقض تماما وخطاب الغاية الرئيسية، على العموم هذه هي بنية كل قوة تسعى إلى الهيمنة مهما كانت أسسها، إن باسم العولمة أو الكونية أو حوار الثقافات، حيث تم تزيين هذا الأمر بتلك العبارات الداعية إلى التسامح وقبول الاختلاف دون أن نجد هذا الأمر على أرض الواقع.
    إن أول منطلق توجب اعتباره هو تلك الطبيعة الشريرة للإنسان، الإنسان كائن أناني بطبعه، يميل إلى تكريس خطابه ويسعى دوما إلى الاستقواء على الآخرين، يظهر بمظهر المُخَلِّصِ لكنه يخفي ويضمر ما يظهر، إنها تركيبته منذ الأزل، وربما سيبقى على هاته الحالة حسب معطيات الحاضر، وإلا فلماذا نطور دوما أساليب دفاعنا ومؤسساتنا القانونية ومؤسساتنا العقابية... لهذا قد نرى في خطاب الكونية براءة مخترع وجريمة مستعمل لنفس الاختراع، قد نرى أيضا فيها أداة لتقريب الإرادات العامة والخاصة، وفي نفس الوقت قد نتأمل هيمنتها وسعيها إلى تكريس الخطاب الوحيد.
    ماذا تحمل الكونية إذن؟ الكونية هي مد جسور التواصل والحوار بين كل الثقافات، والإيمان كل الإيمان بأنه لا توجد أية حقيقة صائبة، في مقابل خطأ باقي الحقائق، كما لا توجد ثقافة متفوقة وأخرى بدائية، والكونية أيضا فك للحصار الذي تفرضه بعض الثقافات المريضة بوهم الانغلاق، والمرتابة والخائفة من غزو الثقافات الأخرى، الفكر سلمي بطبعه وإذا كان له سلاح فإنه ليس سوى القلم، لهذا تعمل الكونية دوما على النظر لهذا الكائن كإنسان بغض النظر عن انتماءاته، كما تقرر وبكثير من الثقة في النفس على ضرورة فتح نوافذنا أمام كل قادم تحاورا وتضامنا واحتضانا، لكن متى تبلورت الكونية وسؤال الكونية؟
    إن الفكر الفلسفي هو أول من سعى إلى تكريس مبدأ الكونية ضد الغزو باسم الدين، فقد كان هذا الأخير يجبر الناس على اختياراتهم العقدية مخيرا إياهم بين التسليم أو النبذ والإبادة، لكن ومع ظهور الفلسفة الديكارتية توقف ملهمها عند تلك الفكرة الشهيرة التي تؤكد أن العقل أعدل قسمة بين الناس، أي أنه بين الجميع مهما اختلفت منطلقاتهم مشترك رئيسي هو العقل، ومنه فقد تغذى خطاب الكونية دوما من العقل كمبدأ للإنسان عامة، وعليه فإن تلك العناوين الفلسفية التي خاطبت الإنسان من خلال العقل إنما رمت إلى مخاطبته كإنسان وليس كإنسان أوربي، بل إن خصوم العقل أنفسهم وجهوا سهامهم نحو العقل بصيغته الكونية وليس بصيغته الخصوصية، والحال أن المجتمعات الرأسمالية استغلت كونية العقل الذي أرست دعائمه الفلسفة الديكارتية والكانطية، لتحقيق مآرب أخرى تبقى التبعية من بين أسسها.
الكونية نظريا لا تؤمن بالثقافة الوحيدة وإنما بالتعدد الثقافي، أما الكونية تطبيقيا فإنها تعمل على غزو الثقافات أو محوها ولنا في ذلك أمثلة عديدة من قبيل طمس ثقافة الهنود الحمر وثقافات المايا والأنكا والأزتيك... الكونية نظريا اعتبرت التقنية كاكتمال لكونيتها، لكنها تطبيقيا سعي لتكريس تبعية مستهلك التقنية لمنتجها باسم الربح والخسارة، والكونية نظريا مد جسور التعاون بين الحضارات، لكنها تطبيقيا إثارة للفتن وزرع لبذور الكراهية بين نفس الثقافات، من ثمة فإنه لا يسعنا إلا التأكيد أننا بتنا أمام خطاب ونقيضه في نفس الوقت، والحال أن بات على عاتق الفلاسفة الوقوف مطولا عند هذا التحريف الخطير، إننا نقتل اليوم باسم الكونية، ونبيح لأنفسنا ما نريد باسم الكونية، ونسعى إلى تحقيق أكبر نسبة من الربح باسم الكونية أيضا، في حين أن الغرض من الكونية لم يتحقق وإن مرت عليه قرون عدة.
إن أهم شرخ بتنا نسجله اليوم وأبرز مفارقة أصبح يعيشها العالم، هي مرض بناء الأسوار التي تفصل بين ثقافة وثقافة أخرى، بل إن الأمم التي تتفنن في بناء الأسوار هي نفس الأمم التي تقف دوما خلف الكاميرات متبجحة بسعيها إلى تكريس الكونية، لهذا فكلما رددنا ضرورة حوار الثقافات وتعايش الحضارات كلما أحطنا أنفسنا بأسوار عملاقة تبين مدى صعوبة تحقيق وهم الكونية، وأنه مجرد مطية لتحقيق أغراض أخرى، وعليه فلنتأمل مثلا السور العازل بين أمريكا والمكسيك، وسور كشمير الذي يفرق بين الهند والباكستان، وسور سبتة ومليلية الذي يفرق بين المغرب وإسبانيا،  

سلافوي جيجيك والميثاق الليبرالي ـ ادريس شرود


أنفاس نت


"نعم أنا شخص خطير، لكنني لست كذلك إلا لكوني أتصدى بالنقد للميثاق الليبرالي المسيطر. وهذا هو الممنوع على الناس أن يخوضوا فيه" سلافوي جيجيك
تقديم
     يبدو إسم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك شبه مجهول بالنسبة للعديد من المهتمين بالفكر الفلسفي المعاصر في الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لكن صوته مسموع  في الضفة الشمالية، عبر حضوره الفكري والإعلامي والأكاديمي الفاعل، وتنوع اهتماماته الفلسفية، حتى وصف ب:"الفيلسوف المتعولم" و"الفيلسوف الأكثر خطرا في الغرب"(1). من جهتي أعتبر أن خطورته نابعة من قوة انتقاده للنظام الرأسمالي وللأسس التي يرتكز عليها كالليبرالية والديمقراطية. إذ أن تمسكه بالإشتراكية والشيوعية، وإيمانه بالفلسفة الألمانية كبديل منافس لليبرالية الرأسمالية، يجعله من بين المفكرين القلائل الذين لازالوا يؤمنون بدور الفكر الماركسي في اقتراح بديل راديكالي للإيديولوجيا الليبرالية وللنظام الرأسمالي نفسه. أتوخى من هذه المقالة، مشاركة القارئ في الإطلاع على بعض أفكار هذا الرجل "الخطير"، أملا في التقاط تلك الإشارات الغامضة الآتية من المستقبل.

جيجيك: من الطموح السياسي إلى نقد الإيديولوجيا الليبرالية
     يمكن اعتبار ترشح سلافوي جيجيك للإنتخابات الرئاسية في بلده سلوفينيا، ممثلا للحزب الديمقراطي الليبرالي، أقوى لحظة في مساره السياسي، رغم انتقاده الواضح والشرس لمبادئ الليبرالية وقواعد النظام الرأسمالي. لكن المثير في حياة جيجيك، هو مساره الفكري والفلسفي وأسئلته المحرقة التي يواجه بها حاضرنا المأزوم، والمهام الملقاة على  كل فكر نقدي.
في خطوة مناقضة لما دأب عليه التحليل الماركسي، أكد جيجيك على ضرورة العودة إلى التفكير في عالمنا المعاصر وتفسيره، فالمهمة الآن هي مساءلة النظم الإيديولوجية المسيطرة. ذلك أن إخفاق الحركات المعادية والمناهضة للنظام الرأسمالي وهيمنته الإقتصادية والمالية، قد كشف عن قصور في فهم آليات اشتغال هذا النظام وسر قوته واستمراره، وعن ضعف في تطبيق الإيديولوجيات "الثورية" في الواقع العملي. يشدد جيجيك على فعالية الإيديولوجية الليبراية وتجددها، خاصة منذ تسعينات القرن الماضي، والتي أعطت "وعيا كلبيا" بلغة معينة، أو "وعيا متبجحا"، بلغة أخرى، حيث الإنسان يخدع ذاته واعيا، كما لو كان قد ارتضى بما يحصل عليه ويعلن عنه رضاه، من دون النظر إلى شكله ومضمونه(2). فشعارات محاربة الفقر والعنصرية والإرهاب، والإنتخابات النزيهة والإصلاح والتنمية، شوشت على كثير من الأفكار التي كانت تدعو إلى ضرورة القضاء على الرأسمالية، والإنتقال الحتمي إلى الإشتراكية، ثم إلى الشيوعية. لذلك يدعو جيجيك إلى التشبث بالفرضية الشيوعية، من أجل المساعدة على تجريب نمطها السياسي، وليكن انطلاق عملية التجريب من خلال الضحك على فكرة فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ". يرى جيجيك أن معظم الناس اليوم فوكوياميين، يقبلون بالرأسمالية الديمقراطية الليبرالية بوصفها الصيغة التي وجدت أخيرا لأفضل محتمع ممكن. على هذا النحو، فكل ما يمكن للمرء فعله هو محاولة جعلها أكثر عدلا وتسامحا(3). لكن يجب التأكيد على أن عملية إعادة إنتاج الرأسمالية، كانت تتطلب دوما وباستمرار استنزاف الثروات الطبيعية وهدمها، والمعاناة الجماعية، والظلم والحروب...إلخ(4). في هذا السياق، يطرح جيجيك سؤالا وحيدا حقيقيا وهو:
هل نصادق على الأقلمة السائدة للرأسمالية، أو أن الرأسمالية العالمية الحالية تحتوي على عوامل مضادة لها من القوة ما يكفي لمنع إنتاجها غير المحدود؟(5).

كيفية عمل الإيديولوجيا الليبرالية لمواجهة منتقديها وخصومها
 تشتغل الإيديولوجيا الليبرالية، حسب سلافوي جيجيك، على ثلاث جبهات أساسية، تبدو الأكثر خطورة :
أولا: جبهة حق النقد الحر دون المساس بالإجماع:
يتأسس حق النقد على حرية القول والكتابة، لكن بشرط –يؤكد جيجيك- أن تفعل ما تفعله دون أن تنقض بشكل فعال أو تعيق الإجماع السياسي المهيمن. كل شئ متاح بل مرحب به بوصفه موضوعة نقدية؛ آفاق الكارثة البيئية العالمية، انتهاك حقوق الإنسان، التمييز على أساس الجنس، معاداة المثليين، مناهضة النساء، العنف المتزايد ليس فقط في البلاد البعيدة بل في مدننا العملاقة، الفجوة بين العالم الأول والعالم الثالث، بين الفقراء والأغنياء والتأثيرات المحطمة للعالم الرقمي في حياتنا اليومية(6). لكن هذه الحرية المشروطة، لا ترتكز على قوانين أو محظورات، بل هي مجموعة من التحديرات منتقاة بعناية من التاريخ الرسمي، تم صقلها وتشذيبها في المؤسسات الإيديولوجية والثقافية الليبرالية حثى أصبحت "حقائق مطلقة"، مدعومة بإجماع سياسي وإعلامي. يرجع جيجيك إلى فثرة الستينات من القرن العشرين، ليذكر بتلك اللحظات التي يبدي فيها المرء أية إشارة بسيطة للإنخراط في عمل يهدف إلى تحدي جدي للنظام القائم. سيكون الجواب حاضرا (وليكن جوابا خيرا )؛ إن ما تفعله سيؤدي حتما إلى معسكرات جولاغ جديدة. إن الوظيفة الإيديولوجية لهذه الإحالات المتكررة إلى المحرقة والغولاغ وكوارث العالم الثالث المعاصرة(7) هي التذكير مع التنبيه،  لمنع الناس من التفكير، والحفاظ على الإجماع الليبرالي الحاضر، وإقصاء كل محاولة جدية لانتقاد النظام السياسي والإجتماعي المهيمن، وكل نظرية ممكن أن تقوم بوظيفة فعالة في الصراع الإجتماعي الراهن. هكذا يدرك البشر تمام الإدراك أنه توجد إيديولوجيا كونية غالبة تخدعهم، تستغلهم، وما شابه، لكنهم لا يتخلون عنها. فلسان حال الكائن المتشكك أنه ما دام أن الإثراء والسرقة يحميهما القانون فلا جدوى من معاكسة السلطة(8). هكذا يصير الناس غافلين عن الوهم الناظم  لنشاطهم المجتمعي الحقيقي(9).
ثانيا: جبهة البحث الأكاديمي ومنع التفكير:
يكشف جيجيك عن طريقة تحكم الأكاديمية الأمريكية في بعض المواضيع ذات الإنتشار الإعلامي و"العلمي" في الولايات المتحدة الأمريكية، كالدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات المثلية الجنسية. فبالنسبة للدراسات الما بعد كولونيالية مثلا، فهي تترجم إلى إشكالية حضارية متعددة لحق الاقليات المستعمرة في رواية تجاربها بوصفها ضحية، وإلى إشكالية آليات السيطرة على الآخر وكبث الآخروية، مما يقود في نهاية المطاف إلى الإستنتاج بأن جذور التمدد الإستعماري تكمن في عدم تقبلنا للآخر الموجود داخلنا، إنه عدم قابليتنا مواجهة ما قد تم كبته داخل نفوسنا، ليتحول هذا الصراع الإقتصادي-السياسي، ودون أن نلحظ ذلك، إلى مسرحية درامية شبه-نفس- تحليلية لذات غير قادرة على مواجهة صدماتها النفسية. إن الفساد الحقيقي للأكاديميا الأمريكية ليس الإفساد المالي تحديدا، وليس فقط أنهم يستطيعون شراء العديد من المفكرين النقديين الأوربيين (بما فيهم أنا إلى حد ما) بل هو فساد على مستوى المفاهيم إذ تتحول أفكار النظرية النقدية الأوربية ، بعيدا عن الأعين، إلى موضوعات لطيفة صيغت وفق موضة الدراسات الثقاقية الأنيقة(10). واليوم لا شئ  أسهل من الحصول على تمويل عالمي، حكومي أو مؤسساتي لأبحاث متعددة الإختصاصات حول كيف يجب ممارسة الأشكال الجديدة للعنف الإثني الديني والجندري: المشكلة أن كل هذا يجري على قاعدة عدم التفكيرو منع التفكير. ويؤكد جيجيك على أن المحافظة على الهيمنة الديمقراطية-الليبرالية، اليومن تتم بواسطة هذه القاعدة الغير المكتوبة، قاعدة "عدم التفكير"(12).
ثالثا: جبهة احتواء اليسار:
يمكن التأكيد على أن هذه الجبهة الثالثة، هي نموذج انتصار النظام الرأسمالي وإيديولوجيته الليبرالية، ذلك أن الصراع التاريخي بين المنظومتيين الإيديولوجيتين التي طبعت الحرب الباردة قد أفضت إلى الإعلان عن المنتصر، واحتفاله بنهاية التاريخ. فمنذ بداية التسعينات من القرن العشرين، أخذت اليسار يتراجع عن مواقع احتلها إيديولوجيا وسياسيا منذ نجاح "ثورة أكتوبر"، بل أصبح  يتخذ المواقع الفارغة -يقول جيجيك- التي لا تلزمه باتخاذ أي موقف محدد، أي الوقوف على هامش القوى الفاعلة في المشهد السياسي الحالي من ليبراليين ومحافظين، خاصة مع قائمة المطالب الإجتماعية التي ناضل من أجلها اليسار، وأصبحت الآن جزءا من الإجماع الليبرالي (على الأقل في دول الرفاه الإجتماعي)، من هنا تأتي صعوبة تقديم بديل باسم اليسار.
من أجل نظام سياسي واجتماعي مختلف: الأمل في الثورة السياسية
     يؤمن سلافوي جيجيك بإمكانية التغيير الجذري، ويركز أكثر على التناقضات الكامنة في الرأسمالية الكونية التي يمكن أن تعيق إعادة الإنتاج المتواصلة لرأس المال، ويتمثل ذلك في أربع تناقضات:
-التناقضات الثلاثة الأولى: تتمثل في خصخصة «المشاعات» حسب تعبير مايكل هارت وأنطونيو نيغري (أي المواد والفضاءات التي يتقاسمها جميع البشر):
 الملكية الفكرية بما هي ملكية فردية، أو خصخصة «الأشكال التشاركية لرأس المال المعرفي» أي اللغة.
الكارثة البيئية، أو خصخصة الطبيعة الخارجية (عن طريق الإبادة التدريجية للغابات والبيئات الطبيعية لأغراض استخراج الموارد).
علم التعديلات الوراثيات، أي خصخصة الطبيعة الداخلية، أو الكيان الباطني للبشر.
-التناقض الرابع: يتمثل في الشكل الجديد من التمييز العنصري الإجتماعي، أي الفصل الإجتماعي والجسدي بين "المستبعدين" و"المستوعبين" وإبراز ما يظهر في المراكز المدينية حيث التواصل الفعلي بين مستوعبين ومستبعدين. في هذه الحالة، تجري خصخصة المجتمع الدولتي، أي المدى حيث تشتغل فيه الدولة، (والمقصود أن يجري حصره بعدد محدود من البشر) ويرى أن المستبعدين يشكلون خطر الإنتهاك. إن المستبعدين هم بروليتاريا أيامنا هذه «إنهم الذوات التحريرية في نهاية المطاف...وهم أعضاء جماعة لا يملكون مكانا محددا أو هوية معينة داخل هذه أو تلك»(13).
يعتقد سلافوي جيجيك، أن الأمل في تغيير جذري يقع على عاتق المستبعدين، تلك الفئات الإجتماعية التي تفتقر إلى موقع محدد «في النظام الخاص للتراتب الإجتماعي». ولا يجوز-ينبه جيجيك- الخلط بين هذه الفكرة عن المستبعدين وبين التعريف الديمقراطي الليبرالي للمستبعدين بما هم «أصوات الأقلية» ) أي جميع الأقليات الدينية والثقافية والجنسية المطلوب التسامح معها أو حمايتها) وهو خلط يفقد التناقض طابعه السياسي ويحجب مضمونه التناقضي(14). يراهن جيجيك إذن، على المستبعدين وعلى التضامن الكوني الذي يمكن أن تبدبه فصائل اجتماعية معادية للرأسمالية ولرأس المال، من نسويين  وبيئيين ومزارعي العالم الثالث. فهذا "التضامن الأصيل" حيوي في ما يسمى ب «عصر ما بعد السياسة» حيث يجرى خفض السياسة إلى مجرد تنازلات تفاوضية ومعاملات إدارية. ما تتقاسمه هذه الفصائل الإجتماعية هو وعيها بالدمار المحتمل، الذي يمكن أن يتضمن الإبادة الذاتية للبشرية نفسها، وشعورها بالإختزال إلى مواضيع مجردة تخلو من كل محتوى جوهري، ومطرودة من جوهرها الرمزي، ومزروعة في بيئة غير صالحة للحياة، فنحن جميعا مستبعدون من الطبيعة كما من جوهرنا الرمزي، يؤكد سلافوي جيجيك.
     لكل هذا، يدعو جيجيك إلى التحرك وقائيا، عن طريق التفكير الحقيقيي والحر في المشاكل الكبرى لعالمنا العاصر (الإنهيار البيئي، الإختزال الوراثي للبشر إلى آلات يتم التلاعب بها، التحكم الرقمي بحياتنا )، ومساءلة الإجماع الديمقراطي الليبرالي والما بعد حداثي، والإنفتاح على المستقبل.
 فنحن لا نعرف ماذا يمكن أن ينقدنا، لكن علينا أن نعمل في حقول مختلفة لنبحث عنه(15)-يقول جيجيك- وأثناء بحثتنا، من اللازم أن نظل منفتحين على الإحتمالات غير المتوقعة، وأن نقبل تماما هذا الإنفتاح ولا نقود أنفسنا إلى شئ أكثر من الإشارات الغامضة القادمة من المستقبل(16).
الهوامش:
1-محمد حجيري: سلافوي جيجيك...الفيلسوف النيوماركسي "الأكثر خطرا في الغرب"، موقع الأوان، 13 ماي 2015.
2- فيصل دراج: تقديم كتاب "بعد المأساة، تأتي الملهاة أو كيف يكرر التاريخ نفسه" لسلافوي جيجيك، انظر
http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_415_faisel
3- سلافوي جيجيك:بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ترجمة أماني لازار، طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، الطبعة الأولى، 2015، ص36.
5-سلافوي جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، ترجمة أمير زكي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، لبنان، 2013، الفصل الثاني، مقالة: من السيطرة إلى الإستغلال والثورة، (كتاب غير مرقم).
6- سلافوي جيجيك:بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ص140.
7-سلافوي جيجيك: خيار لينين، ترجمة هشام روحانا، موقع الحوار المتمدن، عدد 4319، 28 دجنبر 2013. يقول جيجيك:"ففيما قام المرء بالعمل المباشر فإن هذا العمل لن يتم في الفراغ بل سيكون فعلا يقوم داخل إحداثيات الإيديولوجيا المسيطرة، وهؤلاء الذين يريدون المساعدة والمشاركة بالمآثر (وهم بدون شك مشرفون) كحملات "أطباء بلا حدود" و"كرين-بيس" والنسويات وحملات مناهضة العنصرية، وجميعها يحظى ليس بالتسامح فقط بل وأنها تحظى أيضا بدعم الإعلام حتى ولو قام بعضها بتجاوز الحدود نحو المسائل الإقتصادية (كالحملات المناهضة للشركات التي تلوث البيئة أو تستغل عمل الأطفال). إنها تظل مقبولة بل ويقدم لها الدعم ما دامت لا تتخطى حدودا معينة(نفس المرجع).
8- سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
 9- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، العدد الثاني، صيف 2012، النسخة الإليكترونية،
http://www.bidayatmag.com/node/334.
10- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، مرجع سابق.
11- سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
12--سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
13- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، مرجع سابق.
14- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات.
15-سلافوي جيجيك: اليسار ينقصه أن يقدم بديلا، حوار لولا جالان، ترجمة أحمد عبد اللطيف، .https://arar.facebook.com/notes/akhbar-aladab-أخبار-الأدب،/76185
16- سلافوي جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، مرجع سابق، أنظر خاتمة الكتاب: إشارات من المستقبل.