الخميس، 28 أبريل 2016

غرفة خاصة سهام العبودي


المغرب : مجتمع التعاسة ؟ ـ طويل حسن

أنفاس نت



" لم يحدث يوما ، ان تمتعت ،ايها الرجل الصغير ، بسعادتك في حرية ، لذلك فانك تلتهمها بجشع .لم تتعلم قط ان تعتني بسعادتك كما يفعل البستاني بوروده ." ( ويليام رايش ، خطاب الى الرجل الصغير )
مفهوم السعادة بالنسبة لاغلبية المغاربة ، مفهوم هلامي فنتاسمي ، لا يصلح الحديث حوله سوى كترف فكري او شطحة نخبوية . انه اشاعة ، فلقداكتسبوا في صيرورة حياتهم البئيسة كفاية التعاسة  .فشبه الحياة التي يشاهدونها تمر امامهم ، هي نسخة متكررة من لحظات يعيشونها في تطبيع غريب مع التعاسة . لقد خضعوا بكل مازوشية ، لمصاصي الدماء بمختلف انواعهم : الاقتصاديين والسياسيين و الفكريين و العاطفيين .  لقد افهموهم ان التعاسة حق طبيعي ، وان " السعادة " إشاعة كالعيش الكريم و العقل المتنور و الجسم الجميل . لقد تم تحويلهم الى هياكل عظمية جسدا وعاطفة و فكرا .
المغاربة لم يتجاوزوا  مرحلة الحاجيات البيولوجية حسب " هرم ما سلو" ،و لم يحن الوقت بعد كل هذه السنوات من التواجد البئيس، ان يتخطوا حاجيات الماكل والمشرب و حاجات البقاء الضرورية . لقد مسخوا الحقوق ليحولوها الى احلام : عمل ولو بمدخول بئيس   ، زوج(ة)،قبر الدنيا. من كثرة سباحتهم في مستنقعات البؤس و القهر ، حولوا العالم الشاسع الى فضاء ضيق من الروتين القاتل، في سبيل انتاج واعادة انتاج ، التعاسة والهدر. لقد تكالب عليهم الاسياد الجدد ليجعلوا منهم اموات احياء وبقايا بشر : فالاسياد الجدد  ساديون في متعهم ، يمصون كل ماهو جميل في هذه الحياة ليتركوا بدون ندم اوسخ ما يوجد في هذه البلاد  للعبيد الجدد من  عيشة قذرة وفكر متخلف و بدن مريض و معذب و جميع انواع المكبوتات .
المؤسسون للولايات المتحدة الامريكية، وضعوا ثلاث حقوق اساسية  لا يمكن التفريط فيها وهي : الحق في الحياة ، الحق في الحرية ، والحق في السعي نحو السعادة . في المغرب،  استبدلت الفئات الحاكمة هذه الحقوق بثلاثي القهر : الحق في الموت الوجودي ، الحق في العبودية المختارة ، والحق الاكبر في التعاسة . هذا الثلاثي إمتزج ،عبر تدجين مباشر وغير مباشر، بوعي زائف يستعمل كميكانيزم دفاعي نفساني ثقافي لايجاد توازن وهمي لوجود مقهور . فصنع من الفرد المغربي، وحشا مفترسا لكل من يحاول ان يغير واقعه و عبدا مطيعا لخفافيش الاستبداد والفساد و التخلف و متاجري الاديان  .
مختلف  المؤشرات المرتبطة بالسعادة  ترتب المغرب في المؤخرة : الرفاه ، السعادة ، الاضطرابات النفسي ، الصحة ، الدخل ، الحرية ...، حتى اصبح مصابا بفوبيا المؤخرات . اليست المؤخرة وجها ثانيا للفرد؟ اليس الخوف منها هو في حد ذاته رعاب من مواجهة كل الخواء الداخلي " المزوق " بالفضائل ،"فنحن نعاقب اشد العقاب من طرف فضائلنا"( نيتشه ، ماوراء الخير والشر). الطهرانية  المزيفة هي في حقيقتها غطاء متسخ ساكن  لنظافة ذاتية حقيقية تعج حياة و نشاطا ،" يمكن للاشمئزازمن الوسخ ان يصل حد منع النظافة عن انفسنا" ( نيتشه ، نفس المرجع). الم يحن الوقت لاعلان جنازة المؤخرات ؟
التزييف الذاتي يمارس فعله على ثلاث اشياء اساسية للوجود السعيد وهي: العمل ، الحب ، المعرفة . فعلاقة المغربي بالعمل هي علاقة استلاب واضطرار بدل ان تكون علاقة تمتع و اختيار ( هذا ان وجد العمل اصلا و مدى تحقيقه للعيش الكريم ) . اما الحب فانه في نظر المغربي اما ضعفا او عهارة او اغتصاب للفحولة ؛ فهو  يعبر قليلا عن  الحب وان عبر ، فيتم ذلك بخشونة او حياء ، وان احب فيمكن ان يحول هذا الشعور الجميل الى منتوج خرافي (سحر ) او ممارسة ذاعرة محرمة .كما ان اغلب الاسر المكونة هي نتيجة للقاء مريضين بفوبيا العنوسة ، او هروب من حرمان جنسي و مراقبة اجتماعية. علاقة المغربي بالمعرفة هي الاكثر لبسا و فقرا ، فالمعرفة وتملك العالم فكريا و ملكة روح النقد والاكتشاف و تجويد الحياة واحترام العلم و اعتماده كثقافة هي خارج الاهتمام و التقدير و الفضول . فالمغربي يتحين الفرص لللشماته بالعلم والمعرفة ، وليس صدفة ان يطلق كلمة  "المثقف "  على العاجز جنسيا ،ويتجه للمشعودين في مواجهة مشاكله .
المغاربة هم ضحايا وجلادين في نفس الوقت : ضحايا انظمة استبدادية عصاباتية ، وجلادين لذاتهم عبر كفايات  الخنوع و العبودية الذين تربوا عليها و والتي يجتهدون في الابداع في اعادة انتاجها. وبالتالي فهم مسؤولون عن تعاستهم ، فالسعادة تبتدأ بتحمل المسؤولية الذاتية وتبني مغامرة التغيير و تكره الجبناء والعبيد .
على قبر كزنتزاكيس ، مؤلف الرواية الرائعة زوربا اليوناني ، كتبت الجملة التالية :"  لا اطمع في شيء ....لا اخاف من شيء...انا حر " و هي جملة يجب ان تكتب بسكين حاد على جبين كل مغربي .

الاثنين، 25 أبريل 2016

الكونية ووهم الكونية ـ هادي معزوز

أنفاس نت 


يسعى العالم الرأسمالي اليوم مثل البارحة إلى الترويج لخطاب يعتبر جزءا لا يتجزأ من رهاناته وأهدافه، ألا وهو خطاب العولمة، وذلك باسم المشترك بين الإنسان، وأيضا تحت يافطة المصير العام، وهو ما يجعل من نفس الخطاب ذلك الساهر دوما على تحقيق غرض ربما ليس في وسعنا اليوم الحكم عليه إن من باب السلبية أو الإيجابية، لسبب يكاد يكون إشكاليا محضا، وهو حاجتنا إلى الكونية وفي نفس الوقت رفضنا لكل أشكال التبعية، إذ أن نفس الخطاب الرامي إلى مد الجسور بين الثقافات هو نفس الخطاب الذي يسعى إلى تكريس الثقافة الوحيدة، ونفس الخطاب الساعي إلى نبذ الهوية الوحيدة لصالح الاختلافات المتكررة، هو نفسه الذي يوقظ شرارة التقوقع وما يرافقها من تعصب وغياب للتسامح وهيمنة الجهل على المعرفة، وسيادة الخنوع على الإبداع والتغيير الإيجابي.
    لا مفر من فكرة مفادها أن الخطاب القوي هو الخطاب الذي يهيمن، في انتظار ظهور خطاب أقوى له أسسه ورهاناته الخاصة، كما أنه لا هروب من الإشارة إلى أن كل خطاب هو خطاب إرادة قوة أولا وأخيرا، أي أنه في الخطاب الوحيد نجد أنفسنا أمام ثنائية الظاهر والباطن، أي أمام خطاب البراءة وخطاب تحقيق الربح مهما كانت الطريقة، لهذا قد لا نتعجب مثلا عندما نرى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أكثر الدول دعوة إلى السلام وفي نفس الوقت هي أكثر منتج ومصدر لأفتك الأسلحة، لهذا فخطاب الترويج يكاد يتناقض تماما وخطاب الغاية الرئيسية، على العموم هذه هي بنية كل قوة تسعى إلى الهيمنة مهما كانت أسسها، إن باسم العولمة أو الكونية أو حوار الثقافات، حيث تم تزيين هذا الأمر بتلك العبارات الداعية إلى التسامح وقبول الاختلاف دون أن نجد هذا الأمر على أرض الواقع.
    إن أول منطلق توجب اعتباره هو تلك الطبيعة الشريرة للإنسان، الإنسان كائن أناني بطبعه، يميل إلى تكريس خطابه ويسعى دوما إلى الاستقواء على الآخرين، يظهر بمظهر المُخَلِّصِ لكنه يخفي ويضمر ما يظهر، إنها تركيبته منذ الأزل، وربما سيبقى على هاته الحالة حسب معطيات الحاضر، وإلا فلماذا نطور دوما أساليب دفاعنا ومؤسساتنا القانونية ومؤسساتنا العقابية... لهذا قد نرى في خطاب الكونية براءة مخترع وجريمة مستعمل لنفس الاختراع، قد نرى أيضا فيها أداة لتقريب الإرادات العامة والخاصة، وفي نفس الوقت قد نتأمل هيمنتها وسعيها إلى تكريس الخطاب الوحيد.
    ماذا تحمل الكونية إذن؟ الكونية هي مد جسور التواصل والحوار بين كل الثقافات، والإيمان كل الإيمان بأنه لا توجد أية حقيقة صائبة، في مقابل خطأ باقي الحقائق، كما لا توجد ثقافة متفوقة وأخرى بدائية، والكونية أيضا فك للحصار الذي تفرضه بعض الثقافات المريضة بوهم الانغلاق، والمرتابة والخائفة من غزو الثقافات الأخرى، الفكر سلمي بطبعه وإذا كان له سلاح فإنه ليس سوى القلم، لهذا تعمل الكونية دوما على النظر لهذا الكائن كإنسان بغض النظر عن انتماءاته، كما تقرر وبكثير من الثقة في النفس على ضرورة فتح نوافذنا أمام كل قادم تحاورا وتضامنا واحتضانا، لكن متى تبلورت الكونية وسؤال الكونية؟
    إن الفكر الفلسفي هو أول من سعى إلى تكريس مبدأ الكونية ضد الغزو باسم الدين، فقد كان هذا الأخير يجبر الناس على اختياراتهم العقدية مخيرا إياهم بين التسليم أو النبذ والإبادة، لكن ومع ظهور الفلسفة الديكارتية توقف ملهمها عند تلك الفكرة الشهيرة التي تؤكد أن العقل أعدل قسمة بين الناس، أي أنه بين الجميع مهما اختلفت منطلقاتهم مشترك رئيسي هو العقل، ومنه فقد تغذى خطاب الكونية دوما من العقل كمبدأ للإنسان عامة، وعليه فإن تلك العناوين الفلسفية التي خاطبت الإنسان من خلال العقل إنما رمت إلى مخاطبته كإنسان وليس كإنسان أوربي، بل إن خصوم العقل أنفسهم وجهوا سهامهم نحو العقل بصيغته الكونية وليس بصيغته الخصوصية، والحال أن المجتمعات الرأسمالية استغلت كونية العقل الذي أرست دعائمه الفلسفة الديكارتية والكانطية، لتحقيق مآرب أخرى تبقى التبعية من بين أسسها.
الكونية نظريا لا تؤمن بالثقافة الوحيدة وإنما بالتعدد الثقافي، أما الكونية تطبيقيا فإنها تعمل على غزو الثقافات أو محوها ولنا في ذلك أمثلة عديدة من قبيل طمس ثقافة الهنود الحمر وثقافات المايا والأنكا والأزتيك... الكونية نظريا اعتبرت التقنية كاكتمال لكونيتها، لكنها تطبيقيا سعي لتكريس تبعية مستهلك التقنية لمنتجها باسم الربح والخسارة، والكونية نظريا مد جسور التعاون بين الحضارات، لكنها تطبيقيا إثارة للفتن وزرع لبذور الكراهية بين نفس الثقافات، من ثمة فإنه لا يسعنا إلا التأكيد أننا بتنا أمام خطاب ونقيضه في نفس الوقت، والحال أن بات على عاتق الفلاسفة الوقوف مطولا عند هذا التحريف الخطير، إننا نقتل اليوم باسم الكونية، ونبيح لأنفسنا ما نريد باسم الكونية، ونسعى إلى تحقيق أكبر نسبة من الربح باسم الكونية أيضا، في حين أن الغرض من الكونية لم يتحقق وإن مرت عليه قرون عدة.
إن أهم شرخ بتنا نسجله اليوم وأبرز مفارقة أصبح يعيشها العالم، هي مرض بناء الأسوار التي تفصل بين ثقافة وثقافة أخرى، بل إن الأمم التي تتفنن في بناء الأسوار هي نفس الأمم التي تقف دوما خلف الكاميرات متبجحة بسعيها إلى تكريس الكونية، لهذا فكلما رددنا ضرورة حوار الثقافات وتعايش الحضارات كلما أحطنا أنفسنا بأسوار عملاقة تبين مدى صعوبة تحقيق وهم الكونية، وأنه مجرد مطية لتحقيق أغراض أخرى، وعليه فلنتأمل مثلا السور العازل بين أمريكا والمكسيك، وسور كشمير الذي يفرق بين الهند والباكستان، وسور سبتة ومليلية الذي يفرق بين المغرب وإسبانيا،  

سلافوي جيجيك والميثاق الليبرالي ـ ادريس شرود


أنفاس نت


"نعم أنا شخص خطير، لكنني لست كذلك إلا لكوني أتصدى بالنقد للميثاق الليبرالي المسيطر. وهذا هو الممنوع على الناس أن يخوضوا فيه" سلافوي جيجيك
تقديم
     يبدو إسم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك شبه مجهول بالنسبة للعديد من المهتمين بالفكر الفلسفي المعاصر في الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لكن صوته مسموع  في الضفة الشمالية، عبر حضوره الفكري والإعلامي والأكاديمي الفاعل، وتنوع اهتماماته الفلسفية، حتى وصف ب:"الفيلسوف المتعولم" و"الفيلسوف الأكثر خطرا في الغرب"(1). من جهتي أعتبر أن خطورته نابعة من قوة انتقاده للنظام الرأسمالي وللأسس التي يرتكز عليها كالليبرالية والديمقراطية. إذ أن تمسكه بالإشتراكية والشيوعية، وإيمانه بالفلسفة الألمانية كبديل منافس لليبرالية الرأسمالية، يجعله من بين المفكرين القلائل الذين لازالوا يؤمنون بدور الفكر الماركسي في اقتراح بديل راديكالي للإيديولوجيا الليبرالية وللنظام الرأسمالي نفسه. أتوخى من هذه المقالة، مشاركة القارئ في الإطلاع على بعض أفكار هذا الرجل "الخطير"، أملا في التقاط تلك الإشارات الغامضة الآتية من المستقبل.

جيجيك: من الطموح السياسي إلى نقد الإيديولوجيا الليبرالية
     يمكن اعتبار ترشح سلافوي جيجيك للإنتخابات الرئاسية في بلده سلوفينيا، ممثلا للحزب الديمقراطي الليبرالي، أقوى لحظة في مساره السياسي، رغم انتقاده الواضح والشرس لمبادئ الليبرالية وقواعد النظام الرأسمالي. لكن المثير في حياة جيجيك، هو مساره الفكري والفلسفي وأسئلته المحرقة التي يواجه بها حاضرنا المأزوم، والمهام الملقاة على  كل فكر نقدي.
في خطوة مناقضة لما دأب عليه التحليل الماركسي، أكد جيجيك على ضرورة العودة إلى التفكير في عالمنا المعاصر وتفسيره، فالمهمة الآن هي مساءلة النظم الإيديولوجية المسيطرة. ذلك أن إخفاق الحركات المعادية والمناهضة للنظام الرأسمالي وهيمنته الإقتصادية والمالية، قد كشف عن قصور في فهم آليات اشتغال هذا النظام وسر قوته واستمراره، وعن ضعف في تطبيق الإيديولوجيات "الثورية" في الواقع العملي. يشدد جيجيك على فعالية الإيديولوجية الليبراية وتجددها، خاصة منذ تسعينات القرن الماضي، والتي أعطت "وعيا كلبيا" بلغة معينة، أو "وعيا متبجحا"، بلغة أخرى، حيث الإنسان يخدع ذاته واعيا، كما لو كان قد ارتضى بما يحصل عليه ويعلن عنه رضاه، من دون النظر إلى شكله ومضمونه(2). فشعارات محاربة الفقر والعنصرية والإرهاب، والإنتخابات النزيهة والإصلاح والتنمية، شوشت على كثير من الأفكار التي كانت تدعو إلى ضرورة القضاء على الرأسمالية، والإنتقال الحتمي إلى الإشتراكية، ثم إلى الشيوعية. لذلك يدعو جيجيك إلى التشبث بالفرضية الشيوعية، من أجل المساعدة على تجريب نمطها السياسي، وليكن انطلاق عملية التجريب من خلال الضحك على فكرة فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ". يرى جيجيك أن معظم الناس اليوم فوكوياميين، يقبلون بالرأسمالية الديمقراطية الليبرالية بوصفها الصيغة التي وجدت أخيرا لأفضل محتمع ممكن. على هذا النحو، فكل ما يمكن للمرء فعله هو محاولة جعلها أكثر عدلا وتسامحا(3). لكن يجب التأكيد على أن عملية إعادة إنتاج الرأسمالية، كانت تتطلب دوما وباستمرار استنزاف الثروات الطبيعية وهدمها، والمعاناة الجماعية، والظلم والحروب...إلخ(4). في هذا السياق، يطرح جيجيك سؤالا وحيدا حقيقيا وهو:
هل نصادق على الأقلمة السائدة للرأسمالية، أو أن الرأسمالية العالمية الحالية تحتوي على عوامل مضادة لها من القوة ما يكفي لمنع إنتاجها غير المحدود؟(5).

كيفية عمل الإيديولوجيا الليبرالية لمواجهة منتقديها وخصومها
 تشتغل الإيديولوجيا الليبرالية، حسب سلافوي جيجيك، على ثلاث جبهات أساسية، تبدو الأكثر خطورة :
أولا: جبهة حق النقد الحر دون المساس بالإجماع:
يتأسس حق النقد على حرية القول والكتابة، لكن بشرط –يؤكد جيجيك- أن تفعل ما تفعله دون أن تنقض بشكل فعال أو تعيق الإجماع السياسي المهيمن. كل شئ متاح بل مرحب به بوصفه موضوعة نقدية؛ آفاق الكارثة البيئية العالمية، انتهاك حقوق الإنسان، التمييز على أساس الجنس، معاداة المثليين، مناهضة النساء، العنف المتزايد ليس فقط في البلاد البعيدة بل في مدننا العملاقة، الفجوة بين العالم الأول والعالم الثالث، بين الفقراء والأغنياء والتأثيرات المحطمة للعالم الرقمي في حياتنا اليومية(6). لكن هذه الحرية المشروطة، لا ترتكز على قوانين أو محظورات، بل هي مجموعة من التحديرات منتقاة بعناية من التاريخ الرسمي، تم صقلها وتشذيبها في المؤسسات الإيديولوجية والثقافية الليبرالية حثى أصبحت "حقائق مطلقة"، مدعومة بإجماع سياسي وإعلامي. يرجع جيجيك إلى فثرة الستينات من القرن العشرين، ليذكر بتلك اللحظات التي يبدي فيها المرء أية إشارة بسيطة للإنخراط في عمل يهدف إلى تحدي جدي للنظام القائم. سيكون الجواب حاضرا (وليكن جوابا خيرا )؛ إن ما تفعله سيؤدي حتما إلى معسكرات جولاغ جديدة. إن الوظيفة الإيديولوجية لهذه الإحالات المتكررة إلى المحرقة والغولاغ وكوارث العالم الثالث المعاصرة(7) هي التذكير مع التنبيه،  لمنع الناس من التفكير، والحفاظ على الإجماع الليبرالي الحاضر، وإقصاء كل محاولة جدية لانتقاد النظام السياسي والإجتماعي المهيمن، وكل نظرية ممكن أن تقوم بوظيفة فعالة في الصراع الإجتماعي الراهن. هكذا يدرك البشر تمام الإدراك أنه توجد إيديولوجيا كونية غالبة تخدعهم، تستغلهم، وما شابه، لكنهم لا يتخلون عنها. فلسان حال الكائن المتشكك أنه ما دام أن الإثراء والسرقة يحميهما القانون فلا جدوى من معاكسة السلطة(8). هكذا يصير الناس غافلين عن الوهم الناظم  لنشاطهم المجتمعي الحقيقي(9).
ثانيا: جبهة البحث الأكاديمي ومنع التفكير:
يكشف جيجيك عن طريقة تحكم الأكاديمية الأمريكية في بعض المواضيع ذات الإنتشار الإعلامي و"العلمي" في الولايات المتحدة الأمريكية، كالدراسات ما بعد الكولونيالية ودراسات المثلية الجنسية. فبالنسبة للدراسات الما بعد كولونيالية مثلا، فهي تترجم إلى إشكالية حضارية متعددة لحق الاقليات المستعمرة في رواية تجاربها بوصفها ضحية، وإلى إشكالية آليات السيطرة على الآخر وكبث الآخروية، مما يقود في نهاية المطاف إلى الإستنتاج بأن جذور التمدد الإستعماري تكمن في عدم تقبلنا للآخر الموجود داخلنا، إنه عدم قابليتنا مواجهة ما قد تم كبته داخل نفوسنا، ليتحول هذا الصراع الإقتصادي-السياسي، ودون أن نلحظ ذلك، إلى مسرحية درامية شبه-نفس- تحليلية لذات غير قادرة على مواجهة صدماتها النفسية. إن الفساد الحقيقي للأكاديميا الأمريكية ليس الإفساد المالي تحديدا، وليس فقط أنهم يستطيعون شراء العديد من المفكرين النقديين الأوربيين (بما فيهم أنا إلى حد ما) بل هو فساد على مستوى المفاهيم إذ تتحول أفكار النظرية النقدية الأوربية ، بعيدا عن الأعين، إلى موضوعات لطيفة صيغت وفق موضة الدراسات الثقاقية الأنيقة(10). واليوم لا شئ  أسهل من الحصول على تمويل عالمي، حكومي أو مؤسساتي لأبحاث متعددة الإختصاصات حول كيف يجب ممارسة الأشكال الجديدة للعنف الإثني الديني والجندري: المشكلة أن كل هذا يجري على قاعدة عدم التفكيرو منع التفكير. ويؤكد جيجيك على أن المحافظة على الهيمنة الديمقراطية-الليبرالية، اليومن تتم بواسطة هذه القاعدة الغير المكتوبة، قاعدة "عدم التفكير"(12).
ثالثا: جبهة احتواء اليسار:
يمكن التأكيد على أن هذه الجبهة الثالثة، هي نموذج انتصار النظام الرأسمالي وإيديولوجيته الليبرالية، ذلك أن الصراع التاريخي بين المنظومتيين الإيديولوجيتين التي طبعت الحرب الباردة قد أفضت إلى الإعلان عن المنتصر، واحتفاله بنهاية التاريخ. فمنذ بداية التسعينات من القرن العشرين، أخذت اليسار يتراجع عن مواقع احتلها إيديولوجيا وسياسيا منذ نجاح "ثورة أكتوبر"، بل أصبح  يتخذ المواقع الفارغة -يقول جيجيك- التي لا تلزمه باتخاذ أي موقف محدد، أي الوقوف على هامش القوى الفاعلة في المشهد السياسي الحالي من ليبراليين ومحافظين، خاصة مع قائمة المطالب الإجتماعية التي ناضل من أجلها اليسار، وأصبحت الآن جزءا من الإجماع الليبرالي (على الأقل في دول الرفاه الإجتماعي)، من هنا تأتي صعوبة تقديم بديل باسم اليسار.
من أجل نظام سياسي واجتماعي مختلف: الأمل في الثورة السياسية
     يؤمن سلافوي جيجيك بإمكانية التغيير الجذري، ويركز أكثر على التناقضات الكامنة في الرأسمالية الكونية التي يمكن أن تعيق إعادة الإنتاج المتواصلة لرأس المال، ويتمثل ذلك في أربع تناقضات:
-التناقضات الثلاثة الأولى: تتمثل في خصخصة «المشاعات» حسب تعبير مايكل هارت وأنطونيو نيغري (أي المواد والفضاءات التي يتقاسمها جميع البشر):
 الملكية الفكرية بما هي ملكية فردية، أو خصخصة «الأشكال التشاركية لرأس المال المعرفي» أي اللغة.
الكارثة البيئية، أو خصخصة الطبيعة الخارجية (عن طريق الإبادة التدريجية للغابات والبيئات الطبيعية لأغراض استخراج الموارد).
علم التعديلات الوراثيات، أي خصخصة الطبيعة الداخلية، أو الكيان الباطني للبشر.
-التناقض الرابع: يتمثل في الشكل الجديد من التمييز العنصري الإجتماعي، أي الفصل الإجتماعي والجسدي بين "المستبعدين" و"المستوعبين" وإبراز ما يظهر في المراكز المدينية حيث التواصل الفعلي بين مستوعبين ومستبعدين. في هذه الحالة، تجري خصخصة المجتمع الدولتي، أي المدى حيث تشتغل فيه الدولة، (والمقصود أن يجري حصره بعدد محدود من البشر) ويرى أن المستبعدين يشكلون خطر الإنتهاك. إن المستبعدين هم بروليتاريا أيامنا هذه «إنهم الذوات التحريرية في نهاية المطاف...وهم أعضاء جماعة لا يملكون مكانا محددا أو هوية معينة داخل هذه أو تلك»(13).
يعتقد سلافوي جيجيك، أن الأمل في تغيير جذري يقع على عاتق المستبعدين، تلك الفئات الإجتماعية التي تفتقر إلى موقع محدد «في النظام الخاص للتراتب الإجتماعي». ولا يجوز-ينبه جيجيك- الخلط بين هذه الفكرة عن المستبعدين وبين التعريف الديمقراطي الليبرالي للمستبعدين بما هم «أصوات الأقلية» ) أي جميع الأقليات الدينية والثقافية والجنسية المطلوب التسامح معها أو حمايتها) وهو خلط يفقد التناقض طابعه السياسي ويحجب مضمونه التناقضي(14). يراهن جيجيك إذن، على المستبعدين وعلى التضامن الكوني الذي يمكن أن تبدبه فصائل اجتماعية معادية للرأسمالية ولرأس المال، من نسويين  وبيئيين ومزارعي العالم الثالث. فهذا "التضامن الأصيل" حيوي في ما يسمى ب «عصر ما بعد السياسة» حيث يجرى خفض السياسة إلى مجرد تنازلات تفاوضية ومعاملات إدارية. ما تتقاسمه هذه الفصائل الإجتماعية هو وعيها بالدمار المحتمل، الذي يمكن أن يتضمن الإبادة الذاتية للبشرية نفسها، وشعورها بالإختزال إلى مواضيع مجردة تخلو من كل محتوى جوهري، ومطرودة من جوهرها الرمزي، ومزروعة في بيئة غير صالحة للحياة، فنحن جميعا مستبعدون من الطبيعة كما من جوهرنا الرمزي، يؤكد سلافوي جيجيك.
     لكل هذا، يدعو جيجيك إلى التحرك وقائيا، عن طريق التفكير الحقيقيي والحر في المشاكل الكبرى لعالمنا العاصر (الإنهيار البيئي، الإختزال الوراثي للبشر إلى آلات يتم التلاعب بها، التحكم الرقمي بحياتنا )، ومساءلة الإجماع الديمقراطي الليبرالي والما بعد حداثي، والإنفتاح على المستقبل.
 فنحن لا نعرف ماذا يمكن أن ينقدنا، لكن علينا أن نعمل في حقول مختلفة لنبحث عنه(15)-يقول جيجيك- وأثناء بحثتنا، من اللازم أن نظل منفتحين على الإحتمالات غير المتوقعة، وأن نقبل تماما هذا الإنفتاح ولا نقود أنفسنا إلى شئ أكثر من الإشارات الغامضة القادمة من المستقبل(16).
الهوامش:
1-محمد حجيري: سلافوي جيجيك...الفيلسوف النيوماركسي "الأكثر خطرا في الغرب"، موقع الأوان، 13 ماي 2015.
2- فيصل دراج: تقديم كتاب "بعد المأساة، تأتي الملهاة أو كيف يكرر التاريخ نفسه" لسلافوي جيجيك، انظر
http://www.caus.org.lb/PDF/EmagazineArticles/mustaqbal_415_faisel
3- سلافوي جيجيك:بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ترجمة أماني لازار، طوى للثقافة والنشر والإعلام، لندن، الطبعة الأولى، 2015، ص36.
5-سلافوي جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، ترجمة أمير زكي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ، لبنان، 2013، الفصل الثاني، مقالة: من السيطرة إلى الإستغلال والثورة، (كتاب غير مرقم).
6- سلافوي جيجيك:بداية كمأساة وأخرى كمهزلة، ص140.
7-سلافوي جيجيك: خيار لينين، ترجمة هشام روحانا، موقع الحوار المتمدن، عدد 4319، 28 دجنبر 2013. يقول جيجيك:"ففيما قام المرء بالعمل المباشر فإن هذا العمل لن يتم في الفراغ بل سيكون فعلا يقوم داخل إحداثيات الإيديولوجيا المسيطرة، وهؤلاء الذين يريدون المساعدة والمشاركة بالمآثر (وهم بدون شك مشرفون) كحملات "أطباء بلا حدود" و"كرين-بيس" والنسويات وحملات مناهضة العنصرية، وجميعها يحظى ليس بالتسامح فقط بل وأنها تحظى أيضا بدعم الإعلام حتى ولو قام بعضها بتجاوز الحدود نحو المسائل الإقتصادية (كالحملات المناهضة للشركات التي تلوث البيئة أو تستغل عمل الأطفال). إنها تظل مقبولة بل ويقدم لها الدعم ما دامت لا تتخطى حدودا معينة(نفس المرجع).
8- سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
 9- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، العدد الثاني، صيف 2012، النسخة الإليكترونية،
http://www.bidayatmag.com/node/334.
10- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، مرجع سابق.
11- سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
12--سلافوي جيجيك: خيار لينين، مرجع سابق.
13- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات، مرجع سابق.
14- التعريف بسلافوي جيجك: في الإيديولوجيا والثورة، مجلة بدايات.
15-سلافوي جيجيك: اليسار ينقصه أن يقدم بديلا، حوار لولا جالان، ترجمة أحمد عبد اللطيف، .https://arar.facebook.com/notes/akhbar-aladab-أخبار-الأدب،/76185
16- سلافوي جيجيك: سنة الأحلام الخطيرة، مرجع سابق، أنظر خاتمة الكتاب: إشارات من المستقبل.


إشكالية الموقف من التراث ـ نصيرة مصابحية

أنفاس نت



يعد التراث من أهم المفاهيم والقضايا التي انشغل بها الفكر العربي الحديث والمعاصر وحاول معالجتها من خلال اخضاعها  لمجموعة من  الآليات والمناهج النقدية، بغية مقاربتها مقاربة علمية دقيقة وذلك   منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقد تعددت القراءات واختلفت حد التناقض والتضارب ،ما احدث خلخلة في البنى المعرفية المتأصلة في الثقافة العربية وساهم في حركية الإبداع  بمختلف أنواعه  سواء كان نقديا أو فلسفيا وشعريا ....الخ ،   وبغض النظر عن مرجعيات هذه  القراءات وتنوعها ، نستطيع القول أن الفكر العربي في هذه المرحلة استطاع أن يحقق ذاته من خلال بعض الممارسات والمشاريع النقدية والفكرية الجادة التي ساهمت في إثراءه لكن الشي الذي يعاب على هذه الخطابات  وعلى بعض المشاريع  ،انها اهتمت بالتراث من حيث انه زخم معرفي او تراكمي ،تتحدد اهميته وفق مبدا براغماتي  ساذج مركب من موقفين :الاول ينبني على فكرة مالذي نستطيع اخذه من التراث؟وهوموقف انتقائي من خلاله يحاول الباحث او الناقد او المفكر ان يستند الى قاعدة معرفية اصيلة لبناء مواقفه ودعمها ،اما الموقف الثاني فيرتكز على محاولة البحث عن البديل في هذا التراث من اجل اثبات الذات امام الاخر /الغربي .
ولعل هذا الموقف الارتدادي النفعي الذي يخدم جزءا ضئيلا من عملية البحث ليس الا نبشا سطحيا لا يقدم الحقيقة المطلقة ولا يساهم في بلورة رؤية نقدية رصينة بقدر ما يعمل على بتر هذه  الحقيقة وتشويهها ،لذلك من المفروض ان نتعامل مع ذلك الزخم المعرفي على انه وحدة كرونولوجيا  مسترسلة وقائمة بذاتها ، تبدا من الماضي لتستقر في الحاضر والمستقبل ،او بمعنى اوضح لا يجب علينا ان نتعامل مع هذا التراث  على انه مرحلة منتهية في الزمن ونحكم عليه بان يظل رهين صفة الماضي وحبيسه  ، بل يجب علينا اعادة ربط السلسلة المعرفية حتى تؤصل لقراءة واعية ومنهجية بعيدا كل البعد عن الموقف البراغماتي الساذج .
وهو ماحاول جابر عصفور طرحه من خلال ثلاث محاور "مالتراث ؟"  "كيف نقرا التراث؟" "ولماذا نقرا التراث؟" وقد سعى بذلك الى اعادة قرائته قراءة جديدة ،من اجل اضاءة جوانبه المسكوت عنها والمغيبة تحت براثن القراءات النمطية واعادة هيكلته وفق قانون الكشف الشامل ،لانه يرى ان الذين مارسوا فعلا القراءة "لم يمارسوا هذه الاسئلة بل مارسوا سؤالا اخر هو ماذا في التراث "1
فالتراث في ظل اختلاف بعض المشاريع الفكرية والنقدية يجب ان  ينتظم داخل بوتقة الوعي العربي على اعتبار انه مكون  معرفي  له تمركزه الخاص   داخل الثقافة العربية  ،بحيث يمارس وجوده من منطلق الاستمرارية والتواصل لا من منطلق التحقيب السياسي والتاريخي والادبي ، هذه التحقيبات التي بخسته  حق التفاعل  والإشعاع وحولته  الى مجرد  كتلة  معرفية  محدودة  .
وعليه فان التعامل مع التراث يشكل بصورة ضمنية او صريحة مفهوم الحداثة في الفكر العربي اذا لا نستطيع الحديث عن التراث دون رصد الجوانب الحداثية التي يتمركز من خلالها كارث له تجلياته الواضحة على جسد المكتوب والمنطوق ،وهذا معناه التاكيد على تلك القوة الخلاقة التي تحيلنا على التفاعل وتكرس للفاعلية ،ومن هذا المنطلق فقد حاولت الساحة الفكرية والنقدية العربية –كما سبق القول – ان تقارب التراث من خلال منهجيات ومقاربات مختلفة حيث ،"يمكن الحديث عن قراءات متعددة للتراث العربي الإسلامي، منها: القراءة التراثية التقليدية كما عند العلماء السلفيين، وهم خريجو الجوامع الإسلامية (الأزهر - جامع القرويين - الزيتونة)، والقراءة الاستشراقية التي نجدها عند المستشرقين الغربيين من ناحية، والمفكرين العرب التابعين لهم توجهاً ورؤيةً ومنهجاً من ناحية أخرى، والقراءة التاريخانية كما عند المفكر المغربي عبدالله العروي، والقراءة السيميائية كما عند محمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو...، والقراءة التفكيكية كما عند عبدالله الغذامي وعبدالكبير الخطيبي...، والقراءة التأويلية كما عند نصر أبو زيد ومصطفى ناصف...، والقراءة البنيوية التكوينية كما عند محمد عابد الجابري وإدريس بلمليح –مثلاً-"2
ولعل اختلاف هذه المقاربات وتنوعها يعود للاهمية البالغة لهذا التراث في بناء الثقافة العربية المعاصرة  في مختلف المجالات الفكرية والمعرفية والادبية ،ودوره الكبير في المحافظة على الهوية وتحقيق استقلالية معرفية خاصة . ويعتبر موضوع التراث من اكثر المواضيع غموضا نتيجة لثراءه وتشعب مواضيعه التي تحولت الى حقول ملغمة تطرح الكثير من التساؤلات وتثير الكثير من القضايا التي يصعب حلها او الاجابة عنها من خلال دراسة او اثنين ،ولعل الحديث عن التراث بمفهومه الواسع على اعتبار انه مجموعة من النصوص يدفعنا للحديث عنه كخطاب، لكن  ليس في بعده اللساني وانما في بعده الفكوي ،وهذا حتى نتحدد ضمن مفهوم اجرائي يساعدنا في البحث عن مرتكزات هذا التراث ،اذ ان " ...كل خطاب ظاهر، ينطلق سرا من شيء ما تم قوله، وهذا الماسبق قوله ليس مجرد جملة تم التلفظ بها، أو مجرد نص سبقت كتابته، بل هو شيء لم يقَل أبدا، إنه خطاب بلا نص وصوت هامس همس النسمة، وكتابة  ليست سوى باطن نفسها...فالخطاب الظاهر ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقوله ."3
والبحث في الخطاب من هذا المنطلق هو بحث في سلطة هذا الخطاب في حد ذاتها  ومحاولة تفتيته واعادة بناءه بما يتوافق والرؤية  المعاصرة ،والسلطة التي نتحدث عنها هي سلطة ايجابية اذ لا يجب علينا ان نتخيل "عالما للخطاب مقسما بين الخطاب المقبول والخطاب المرفوض او بين الخطاب المسيطر والخطاب المسيطر عليه ،بل يجب ان  نتصوره كمجموعة عناصر خطابية تستطيع ان تعمل في استراتيجيات مختلفة لان الخطابات كتل او عناصر تكتيكية في حقل علاقات القوى قد تكون هناك اشكال متباينة منها وحتى متناقضة داخل الاستراتيجية   الواحدة نفسها وبالعكس يمكن ان تتنقل هذا الخطابات بين استراتيجيات متناقضة دون ان يتبدل شكلها ".4
ويحيلنا هذا القول الى ان الخطاب تتعدد اشكال تمظهراته وتختلف ،اذ تتناسل الخطابات فيما بينها وفي بعض الاحيان تنصهر لتشكل سلسلة متصلة تفرض نفسها ككل وكلحمة واحدة ،وبهذا يتموقع الخطاب في اطار النظرة الشمولية حيث يمارس ثنائية التجلي والخفاء ، ويغوص عميقا في التركيبة العامة من خلال اللغة التي تؤسس لمفهوم الاختراق الدائم وبذلـك يمتد تحليل الخطا ب من الآفاق اللسـانية والتداولية إلى ميادين واسعة، ترتبط بالأنظمة الثقافية،  التي تنتج المعرفة وتوجهها، وتقنن تـداول مكوناتها، وتبسـط هيمنتها ومفاهيمهـا.
اذا فالخطاب ليس " لغـة تضـاف لهـا ذات تتكلمها ،بل هو ممارسـة لها أشـكالها الخصوصية مـن الترابط والتتابـع"5.
فالتراث معنى لموروث منقول عن الاجداد وهو معنى  وليد دفعت اليه المعرفة الحديثة ،ولا ضير ان  نقول ان التراث في اقرب تجلياته يتداخل مع مفهوم الموروث،ومن يتأمل الدلالة المعجمية لكمة التراث  يجدها  مشتقة من فعل ورث، ومرتبطة دلاليا بالإرث والميراث والتركة وما يتركه الرجل الميت لأولاده. وفي هذا يقول ابن منظور: "ورث الوارث: صفة من صفات الله عز وجل، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق، ويبقى بعد فنائهم، والله عز وجل يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. أي: يبقى بعد فناء الكل، ويفنى من سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له. ورثه ماله ومجده، وورثه عنه ورثا ورثة ووراثة وإراثة. ورث فلان أباه يرثه وراثة ومِيراثا ومَيراثا. وأورث الرجل ولده مالا إيراثا حسنا. ويقال: ورثت فلانا مالا أرثه ورثا وورثا إذا مات مورثك، فصار ميراثه لك.."6
من خلال ماسبق نستطيع القول ان مفهوم التراث لم يتبلور في الثقافة العربية القديمة بمفهومه الحداثي بل كان رهين معنيين الاول مادي ويتمثل فيما تركه الميت لورثته ،والثاني معنوي متعلق بالنسب ، ويرى الدكتور محمد عابد الجابري ان العرب قديما لم بتوصلوا الى المفهوم الحضاري لكلمة التراث بمعناها الحديث وان المحدثين لم  يوطفوا هذه الكلمة بحمولتها المعجمية القديمة  وانما كانت بمثابة التوظيف المجازي للدلالة القديمة كما ذهب في ذلك الدكتور جميل حمداوي
  اما الجابري فيرى ان القراءة الحديثة للتراث يجب ان ترتكز على آلية  الكشف عن طبيعة القراءات السائدة في الفكر العربي التي تحاول مقاربته،ويرى بان  هذه المقاربات ماهي الا اصداء لمواقف اصحابها  حيث عجزت عن تقديم رؤية علمية متكاملة لهذا التراث وغيبته في اطار التحيز واللادقة  ، وقد وصفها بانها  قراءات  تفتقر للموقف  النقدي والنظرة التاريخية ومن بينها  الموقف الايحيائي او القراءات التقليدية التي تهدف الى  إعادة إنتاج التراث وفهمه وفق المناهج  التراثية بعيدا عن الحداثة ومناهجها. والقراءة الاستشراقوية  التي تعكس جوهر الاستعمار الثقافي والمركزية الأوروبية في التعامل مع التراث العربي الإسلامي،والقراءة 
الماركسية التي تدخل في تشكيل حضور التراث بمفهوم أيديولوجي وعليه فقد تحولت الماركسية من منهج علمي تطبيقي الى منهج مطبق يبحث عن كليات نظرية واثبات صحتها في مقولات واتجاهات ثورية فكرية وسياسية.
ويخلص الجابري أن كل هذه المناهج المختلفة التي تلتقي شكليا في سماتها  المعرفية الأساسية؛ تفتقر للموضوعية، كما انها  تفتقر للنظرة التاريخية ، "فمن هيمنة النموذج الأوروبي أو الغربي على القراءات الليبرالية والماركسية الى هيمنة النموذج التراثي على القراءات السلفية لأنها مؤسسة على آلية قياس الغائب على الشاهد، والنتيجة المنطقية التي وصلت إليها هذه القراءات هو إلغاء الزمان والتطور أولا بسبب لا تاريخية الفكر العربي الذي تتعامل معه ، وثانيا بسبب الافتقار إلى الموضوعية بسبب هيمنة الموضوع على الذات واحتواء التراث للذات العارفة أو المفكرة".7
وقد انتهى الجابري الى ان جميع  جميع القراءات المعاصرة للتراث قراءات مرفوضة كما فعل فيما بعد في كتابه "الخطاب العربي المعاصر"  الذي حاول ان يطرح فيه المنهج  البديل والمناسب لتحقيق النهضة العربية .
ويتضح في الاخير ان مقاربة التراث لا تكون الا من خلال  قراءة موضوعية تحقق للموروث استمراريته المعرفية  في الحاضر والمستقبل بعيدا عن التصنيف والذاتوية و  الادلجة المغرضة .
الهوامش :
1-جابر عصفور : الاحتفاء بالقيمة ،دار المدى للثقافة والنشر لبنان بيروت ،دط ،2004
-2 - جميل حمداوي :اشكالية التراث والمنهج عند محمد عابد الجابري مجلة الكلمة مجلة الكلمة العدد    77 سنة 2012
3-نور الدين السد: الأسلوبية وتحليل الخطاب ، دار هومة ، دط ، 1997 ، ج2 ، ص80.
4-الزاوي بغورة : الفلسفة واللغة ، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت لبنان ، ط1،2005 ص 287
5- ميشال فوكو : جنيالوجيا المعرفة ، ترجمة احمد السطاتي وعبد السلام بن عبد العالي ،دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء المغرب ص 18
-6 - ابن منظور: لسان اللسان ، تهذيب لسان العرب، هذبه بعناية: المكتب الثقافي لتحقيق الكتب، تحت إشراف الأستاذ عبد أحمد علي مهنا، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1993م، ص:728-729
7-زهير توفيق: نظرية التراث عند محمد عابد الجابري مدونة زوهير توفيق26مارس 2012

الاستاذة نصيرة مصابحية :جامعة محمد الشريف مساعدية سوق اهراس

متى يعلنون وفاة المدرسة العمومية المغربية ؟ ـ حسن طويل

عن أنفاس نت


"التعليم ان لم يكن تحويلا اصبح موتا للعقل و السلوك و الابداع " ( هكذا تكلم عبد الله القصيمي ، ع اللطيف الصديقي)
لقد تحولت المدرسة العمومية المغربية عبر مسلسل من " الاصلاحات" الى مؤسسة مسخ تحتوي على جميع العوامل لإنتاج الفشل . فمنذ " الاستقلال " ، اعتمد المغرب لمقاربة قضية التعليم على رؤية ترتكز على تضخيم مفاهيمي بدون قوة مادية له و على تصور ليبرالي متوحش بدأ خجولا ثم تطور حتى اصبح في المرحلة الاخيرة منتفخا ووقحا .اما على مستوى المناهج والبرامج و طرق التدريس فقد تم التأسيس المعرفي والسلوكي لفصام ثقافي ووجودي ،عبر مقولة الاصالة والمعاصرة، و الذي برمج المتعلم المغربي وحوله الى  كائن بدماغين ؛ احدهما عميق ذو برنام تقليداني ، والآخر سطحي تابع للأول ذو شكل حداثي. فالتعليم المتخلف "يشوه المتعلمين و يحولهم الى عاهات انسانية و تعبيرية شاملة ضاجة بالقبح و العجز و السخف "( القصيمي، المرجع السابق ).
إن الإصلاحات التي عرفتها المدرسة المغربية منذ 1957 والتي كان الهدف منها تأسيس المدرسة الوطنية عبر المبادئ الاربعة المعروفة : التعميم ، التعريب ،المغربة و التوحيد ، مرورا بمختلف الاصلاحات الاخرى خاصة محطة الميثاق الوطني للتربية والتكوين والذي يعد خارطة الطريق بالنسبة للمسؤولين على هذا المجال و مختلف المحطات البعدية الاخرى وو صولا للتدابير ذات الاولية ، تتقاطع جميعها في خيط ناظم لعل حلقاته المهمة هي :
اولا : خضوع  هذه الاصلاحات لرؤية سياسية ايديولوجية في  محاولة لإرضاء المكونات السياسية  المهيمنة لكل مرحلة ، ولو على حساب التصور العلمي للاصلاح ، والذي ينطلق من مقاربة واقعية و شمولية وواضحة و متعددة الابعاد تحدد للحاجيات الحقيقية للبلاد في مجال التربية والتكوين و تسطر اهداف و طرق و ادوات لانجاح  هذا  الاصلاح ضمن منظور يعتبر المدرسة المغربية ليس مجرد كمية مال تنفق، بل إستثمار في العنصر البشري وبالتالي في التنمية ؛
ثانيا : اعتماد هذه الاصلاحات على جهاز مفاهيمي مضخم خاصة في مراحلها التأسيسية ،  في طقوس من تقديم الولاء للمفاهيم وكأنه يعتقد في راي القائمين على الاصلاح انه بترديد المفهوم سيصبح له فعل في الواقع . في تكريس لماركة مسجلة في الخطاب السائد في المغرب سياسيا وثقافيا واجتماعيا يمكن تسميتها " بشعوذة المفاهيم " عبر الاعتقاد بوجود قوى خارقة  في المفاهيم ، يكفي ترديدها لتصبح واقعا بالفعل ؛
ثالثا : الحب الباتولوجي لإعادة انتاج ظروف افشال مشاريع الاصلاح ، حيث يتم وضع هذه المشاريع و تغييب الادوات الحقيقية لانجاحها ،فيتم بذلك افراغها وتحويلها الى مجموعة نوايا او مشاريع فشل باحتمالية عالية . وهذا ما يفسر كثرة المشاريع وبؤس النتائج ؛
رابعا : حول مرضي في الاصلاح ، وذلك بترك الاولويات والحاجيات الحقيقية والتسويق لأوهام مرتبطة اكثر بحسابات إقتصادوية ضيقة اكثر منها مجالات حقيقية للاصلاح؛
خامسا : مقاربة الاصلاح بتصور نيوليبرالي متوحش اقتصاديا و برؤية متخلفة للبرامج والمناهج وانظمة التقويم وطرق التكوين والتدريس ....
سادسا : السعي المرضي للحصول على درجات في المؤشرات الكمية للتعليم ( هناك فشل ذريع رغم كل الادعاءات ) على حساب النوع والكيف ؛
سابعا : عدم وجود براديغم للاصلاح يكون هدفه تحويل المدرسة الى مشتل لانتاج التنمية و سيادة الثقافة العلمية لمحاربة التخلف و الرداءة الفكرية عبر تعليم يعلمنا كيف  نفكر ونتحرك  ونتساءل و نتغير و نشك  في بداهاتنا  لنبدع و نتجدد ، وليس تعليما تنميطيا حشويا يقينيا يكسب المتعلم كفايات السكون و معاداة  السؤال والشك والخوف من الجديد والتقدم والتغيير  .
إن المتأمل لتاريخ الاصلاح في المغرب و تطور المدرسة المغربية سيلاحظ لامحالة ، تدهور المدرسة العمومية و تكاثر جراحها من بؤس في البنيات التحتية و تخلف على مستوى البرامج والمناهج وتقهقر المخرجات و عدم مسايرتها للتطورات التي فرضتها التحولات العالمية وبالتالي تحويلها شيء فشيء الى مؤسسة مثخنة بالأمراض تنتظر دورها لتحتضر . حيث ستكون الاصلاحات المطروحة اخيرا، بمثابة رصاصات اللعبة الروسية المعروفة،  لما تبقى من المدرسة العمومية و ذلك عبر الوقاحة الاستعراضية للتفرس النيوليبرالي الذي تعرفه : الكلام على الغاء المجانية ، مبدا التعاقد في التوظيف في المجال ،  الانسحاب من الادوار الاجتماعية للدولة ،  بؤس البنيات التحتية والخدماتية للمدرسة ،الاكتظاظ في المدارس، سيادة العنف المدرسي ، غياب الدافعية لدى لمدرسين والمتعلمين ، انسدادا الآفاق ...
ان التعليم هو احد المفاتيح الاساسية لتقدم المجتمعات ، وكل تأخر في اصلاحه اصلاحا حقيقيا مبنيا على تصور يعتبره ضرورة وجودية للتنمية و التطور باعتباره احد مصانع إنتاج الثروات البشرية ، بدل التفكير النيوليبرالي المشوه والضيق والذي تعتمده  سلطات التربية والتكوين ببلادة لدينا ، سيقامر بالوطن والمواطنين ليربح تجمعا لأغلبية من الرعايا المعوقين نفسيا و معرفيا ووجوديا ، واقلية من المفترسين الذين يجدون متعة باتولوجية للعيش من دماء هذه الاغلبية ماديا ومعرفيا ووجوديا عبر المتاجرة بالبؤس والتخلف والتجهيل .