الأحد، 20 مارس 2016

المتعة و السعادة :نشرت بواسطة: مصطفى عابدين

موقع علومي



هذا المقال كان عبارة عن منشور قصير على الفيس بوك لأوضح الفرق بين المتعة و السعادة و لكنني وجدت نفسي أكتب و أكتب فقررت تغيير الوسيلة من منشور قصير إلى مقال مفصل حول المتعة و السعادة…
ما هي المتعة؟
المتعة هي شعور إيجابي ناتج عن إفراز هرمون الدوبامين في الجسم. عملية إفراز هذا الهرمون مرتبطة مع نظام المكافأة و العقاب الدماغي. لنتكلم قليلاً عن نظام المكافأة و العقاب في الدماغ.
المكافأة:
سابقاً كان على أجدادنا العمل طوال اليوم في سبيل أن يحصلوا على وجبتهم اليومية، لكن في حال وجد أحدهم مصدراً غذائياً ذات سعرات حرارية عالية (العسل مثلاً) فهذا يعني أنه لن يحتاج أن يعمل طوال الوقت لتأمين حاجته في ذاك اليوم. تأمين الحاجة الغذائية دون الحاجة للعمل طوال اليوم هو أمر محبذ جداً و يعزز فرص صاحبه على البقاء. لهذا نجد أن الأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية لها طعم لذيذ و الأطعمة المضرة (سمية) لها طعم غير جيد.
في حالة المأكولات اللذيذة يقوم الدماغ بربطها مع شعور إيجابي مفاده (هذا العمل جيد كرره). عملية الربط هذه تحدث عن طريق إفراز توقيع هرموني مرتبط مع الفعل. كلما وجد أجدادنا العسل مثلاً يتذكرون أنه لذيذ و طعمه طيب ليس لأن مركب السكر له طعم سحري و إنما لأن مركب السكر يقدم الطاقة للجسم بشكل فعال و لأن الدماغ ربط هذا الفعل الإجابي مع إفراز هرموني إيجابي.
الدماغ يتواصل مع أعضاء الجسم من خلال طريقتين. واحدة سريعة جداً (السيالة العصبية) و لها تأثير سريع جداً لكن لا يستمر أثره طويلاً و الطريقة الثانية هي من خلال إفراز الهرمونات و التي يكون تأثيرها ذو فعالية أطول لكن تأخذ بعض الوقت لكي تتفعل في الجسم.
العقاب:
كما أن الجسم يكافئنا على الأعمال الجيدة يقوم بمعاقبتنا على الأعمال المضرة (حسب تقديره).
مثلاً، إذا قمنا بعمل غير مفيد لبقائنا مثل التهام أطعمة سمية أو فاسدة يقوم الدماغ بمعاقبتنا و ربط هذا الفعل مع توقيع هرموني و إجرائي سلبي لكي لا نكرره مرة أخرى.
عندما تأكل مأكولات سامة يقوم الدماغ عن طريق حاسة الذوق و الشم باستشعار المواد السامة و إطلاق سيالة عصبية مفادها أنك تلتهم مادة غير مقبولة للجسم. أيضاً يقوم الجهاز العصبي بأخذ مقود القيادة و يتخذ إجراءات احترازية في إجبار الجهاز الهضمي على إخراج ما تم التهامه عن طريق فعل لا إرادي نسمية “التقيؤ”. توجد إجراءات أخرى يقوم بها الدماغ مثل إفراز الأدرنالين و ذلك نتيجة اعتقاده أنك تتعرض للخطر لكن لن أدخل بكل هذه التفاصيل في هذا المقال.التفاصيل في هذا المقال.
مثال آخر:
عندما تُرضع الأم رضيعتها يقوم الدماغ بإفراز هرمون الأوكسيتوسن (هرمون الترابط الاجتماعي و الحب) لربط العملية بشكل إيجابي بين الأم و ابنتها و أيضاً يفرز بعض الدوبامين لكي لا تكون عملية الإرضاع مؤلمة دون متعة فيموت الأطفال من الجوع.
ملاحظة: قد يبدو من طريقة طرحي أن الدماغ يقرر أن يفرز هذه الهرمونات لأنه على دراية بما يجري في العالم الخارجي أو أنه مصمم للقيام بهذه الإجراءات إلا أن الموضوع يتطلب فهم نظرية التطور عبر الانتقاء الطبيعي و ربط آليات التطور و كيف ممكن أن تنتج عنها هذه الأنظمة التي تتواصل فيما بينها عبر الرسائل الهرمونية.
إفراز الدوبامين من أكثر الرسائل الدماغية فعالية و أقدمها حيث أنها موجودة لدى جميع الأحياء. الألم في المقابل هو رسالة إنذار أن الجسم يتعرض إلى أذىً و نجد أن آليات الشعور بالألم لا يمكن تجاوزها بشكل طبيعي لأنها بمثابة منبه أو جهاز إنذار يجب أن يستمر في إرسال الرسالة حتى يتم معالجة المشكلة. الألم جهاز إنذار لا يمكن تجاوزه بشكل طبيعي.
المزيد من الدوبامين:
تم وضع فأر مختبر في قفص و تم وصل مجسات كهربائية داخل دماغه في منطقة nucleus incumbent و هي المنطقة المسؤولة عن تنظيم إفرازات الدوبامين في الجسم (قسم المكافأة). تم وصل المجسات الكهربائية مع ساعد موجود داخل القفص كلما تم ضغطه يرسل إشارة كهربائية للدماغ و يحفز قسم المكافأة على إفراز الدوبامين.
02selfstim
الفأر اكتشف الساعد و بدأ يضغط عليه باستمرار. مع الوقت توقف الفأر عن فعل أي شيئ سوى الضغط على الساعد و دخل في حالة إدمان. الشعور بالمتعة شعور أقوى من كل الغرائز الأخرى و المثير للاهتمام أن الفأر مات بعد عدة أيام بسبب الجوع و العطش إذ أنه اختار عدم التوقف عن ضغط الساعد مقابل جرعات الدوبامين.
هذه التجربة توضح مدى تأثير الدوبامين على الجسم و منها أود ربط عدم قدرة الذكر على الممارسة الجنسية لأكثر من مرة بشكل متتالي. الذكر يفرز كميات كبيرة جداً من الدوبامين أثناء الوصول لمرحلة القذف (الذروة الجنسية) و لهذا نجد أن ذكر الإنسان تطور بحيث لا يمكن أن يمارس الجنس بشكل متكرر كآلية لحمايته من الاستمرار في العملية الجنسية حتى الموت. أيضاً هذا مثال جيد لتفسير لماذا الكثير من مدمني المخدرات يصلون لمراحل خطيرة و مع ذلك لا يستطيعون التوقف دون مساعدة طبية. (المخدرات عبارة عن محفز دوبامين)
الإدمان هي حالة دماغية مرتبطة بحاجة الجسم إلى القيام بفعل ما لتحفيز إفراز الدوبامين. توجد مواد محفزة لإفراز الدوبامين منها النيكوتين و الكحول و غيرها (الهيروين و الكوكايين). في حالة الإدمان يتأقلم الجسد مع مستويات الدوبامين المفرزة و ترتفع عتبة الحساسية للدوبامين فيتطلب الجسد كميات أكبر من المحفذ فيشعر المدمنون أنهم بحاجة جرعات أكبر
حسناً موضوع الهرمونات و الدماغ هو موضوع شيق جداً و مركب جداً و أشعر أنني لن أتوقف عن الكتابة لكن يجدر بي أن أعود لموضع هذا المقال. الفرق بين المتعة و السعادة ولكن، مثال أخير عن المتعة أعدكم….November_12__2014_at_0325PM
لعبة Candy Crush لها سيط واسع بين الناس و هذا لأنها لعبة تعتمد على إفراز الدوبامين. اللعبة مبرمجة بطريقة تكون صعوبة المراحل فيها موزعة بشكل عشوائي مع اعتبار وجود كمية لابأس بها من المراحل السهلة جداً. اللاعب يبدأ اللعبة و كلما قام بفعل جيد يجد على الشاشة عبارات ذات طابع إيجابي (positive reinforcement).
مع الوقت تصبح هذه العبارات مرتبطة بإفرازات صغيرة من الدوبامين. اللاعب يدمن على هذه الإفرازات إلى أن يصل إلى مرحلة صعبة فيجد صعوبة في الحصول على الجرعات المعتادة. فجأة تنتهي اللعبة و تقول لللاعب أن يعود بعد مدة زمنية محددة.
إعطاء جرعات من الدوبامين ثم إيقافها فجأة يسبب حالة من الإدمان لأنك لم تتوقف بشكل طوعي و إنما تم أخذ جرعاتك منك بشكل قسري.
مثال أخير….
الفيس بوك يعتمد على نفس الآلية. كل ضغطة إعجاب like تسبب إفرازاً ضغيراً من الدوبامين بالإضافة للعديد من العوامل الأخرى المتعلقة بحاجاتنا إلى التواصل الاجتماعي (أوكسيتوسن). أنت تتصفح الفيس بوك كل يوم لأنك مدمن على الدوبامين.
أتمنى أن يكون أصبح واضحاً أن المتعة عبارة عن حالة دماغية لها مؤثرات فيزيولوجية و لا يمكن أن تسمتر طوال الوقت. يختلف معدل إفراز الدوبامين بين الأشخاص لذلك قد نجد الشعور بالمتعة يتفاوت بين الأشخاص بناءً على الأعمال التي يقومون بها. المتعة محفز رئيسيّ للقيام بالعديد من الأعمال اليومية و لكن مع الوقت تنخفض عتبة الاستشعار بالدوبامين فنشعر بالضجر و الملل و نبحث عن محفزات جديدة و هكذا.
السعادة نتيجة المتعة:
السعادة هي حالة عامة تتعلق بالاستقرار الهرموني في الجسم. الإنسان الذي يحقق استقراراً هرمونياً في أغلب الأحيان هو إنسان سعيد. في قول آخر، كلما كانت خياراتك هي خيارات تساهم في إفرازات هرمونية إيجابية فأنت تتجه نحو حالة عامة سعيدة. الفرق بين السعادة و المتعة هو أن المتعة هي تكتيك و السعادة استراتجية. كلما كانت أساليبك في الحصول على الدوبامين هي أساليب طبيعية كلما كنت تحقق استقرار هرموني في جسمك.
طبعاً الاستقرار الهرموني لا يمكن اختزاله بالدوبامين فقط و إنما يوجد لدينا طيف واسع من الهرمونات التي تتفاعل مع بعضها البعض. فمثلاً هرمونات الأوكسيتوسن و السيروتونين و الإندورفين و غيرها جميعا تشكل الخلطة الأساسية للحالة النفسية للفرد. كلما كانت نسب هذه الهرمونات متوازنة كلما كانت حالة الإنسان مستقرة و أقرب إلى السعادة. يجدر الذكر أن هرمون السيروتونين له وظائف هامة جداً في استقرار الحالة النفسية (الدماغية) عند الإنسان و هو يسمى هرمون السعادة، لكنني سأتحدث عنه في مقال منفصل.
مستقبلاً سأعمل على مقال حول كيفية الوصول إلى حالة من السعادة بشكل علمي. طبعاً كل إنسان يختلف عن غيره لكن مجرد معرفة كيفية آليات عمل الجسد ستساعد الكثير من الأصدقاء في السيطرة و التحكم بحالتهم النفسية…
أتمنى لكم السعادة….

المصادر:

أغاني فلسطينية عذب الجمال قلبي


الجمعة، 18 مارس 2016

آفة المدرسة أيضا استثناء مغربي : موليم العروسي


عن موقع الأول



ولكن المشكلة لاتكمن فقط في تيار فكري يهتم بالماضي ويحاول جاهدا أن يجد فيه حلولا للحاضر والمستقبل بل المشكلة هي عندما يطبع هذا المنحى الفكري عصرا مغربيا بكامله. كيف نفهم أن يكون الشاب يفكر وكأنه شيخ هرم؟ كيف يعقل أن يكون شيوخ المغاربة المفكرين (عبد الكبيرالخطيبي، عبد الله العروي، عبد اللطيف اللعبي، أبراهام السرفاتي…) أكثر تحررا وانفتاحا على الثقافات الأخرى من شبابه؟ بإمكاني أن أفهم تشبث الشباب المنخرط في مشروع ماضوي بالفكر التقليدي وذلك بخضوعه لشيوخه ولكنني لا أفهم أن يكون الشباب الذي يصرح بأنه ينتمي للحداثة، وأن يكون هذا الشباب يلوك أفكار القرن التاسع عشر الأوروبي أو أفكار شيوخ الفكر المغربي حتى وإن كانوا حداثيين، دون أن يلتفت إلى واقعه اليومي المعيش ويطرح السؤال حول مصيره انطلاقا منه ودون أن ينخرط في عصره؟
لا أعرف كيف أشرح أن ينخرط الشباب جسديا وعمليا في الإقبال على منتوجات التكنلوجيا الحديثة وأن يستهلك آخر ما أنتج على مستوى الصورة والموسيقى واللباس ولكنه يتوقف في قراءاته عند حدود القرن التاسع عشر الأوروبي ويحتمي في الغالب بملاءمة الفكر التقليدي مع الفكر الحديث الذي أنتج في القرن الثامن عشر؟
يسألني طلبتي بكثير من المكر عن كيفية ملائمة الحداثة وما بعد الحداثة لحياتنا اليومية وكيف يمكن لأمهاتهم وجداتهم فهم الحياة وفق هذا المنظور؟ يسألونني وفي عيونهم حيرة عميقة حيرة ذلك الذي يجد نفسه أمام طريقين لكنه لازال يتردد في الأخذ بأحدهما.
أعرف جيدا أن الأمر لا يتعلق لا بأمهاتهم ولا بجداتهم ولكن الأمر يتعلق بهم هم وصعوبة التخلص من منظومة تربوا فيها ولا يعرفون شيئا غيرها. هذه المنظومة صنعتها المدرسة المغربية كما خطط لها بتأن ومكر مكيافليين. ابتدأ مشروع التحول في التعليم المغربي من 1965. فبعدما تم التراجع عن المشروع التحديثي السياسي الذي نادى به الجناح اليساري للحركة الوطنية واسترجاع الملكية على عهد محمد الخامس لغريزتها السلطوية أصبح الباب مشرعا لإقامة نظام تعليمي يعيد انتاج الخضوع والعبودية. ولم تجد الدولة أحسن من العودة للتراث لإعادة تنشيط الفكر السلطوي.
تزامن هذا مع حرب أكتوبر العربية الإسرائلية والتي وجد فيها دعاة التعريب فرصة المطالبة بالتخلص من بقايا الاستعمار ومنها اللغة. ولكن العودة للغة العربية كانت تعني فقط العودة للثقافة العربية التقليدية وغربلتها من كل ما من شأنه أن يمس بالعمود الفقري للسلطة الأبوية الذكورية البطريكية بصفة عامة. وكان النظام يعرف جيدا أن الفرنسية تحمل في طياتها فكرا لا يتلاءم مع تكوين الرعية التي يريد. لذا فإن الدولة حرصت على أن تكون الفرنسية في التعليم تقنية فقط تنتج التكنوكراط والتكنولوجيين لتبقى روح المغربي مرتبطة بالفكر العربي التقليدي. كل ما يعيد النظر في السلطة البطريكية التي هي أساس الاستبداد كان من اللازم أن يبقى خارج التعليم التقليدي. لذا حرص حراس النظام، وهوم جيش من رجال التربية والتكوين، على أن تبقى بنية التفكير أبوية تقليدية، من هؤلاء من كان يعي مايقوم به ومنهم من كان يقوم بهذا مدفوعا بغريزته الرجعية.
تعود بي الذاكرة إلى استجواب مطول كانت أنجزته مجلة الثقافة الجديدة في ملف خاص عن الثقافة المغربية ونشرته مجلة الكرمل الفلسطينية نظرا لأن السلطات المغربية كانت قد قررت توقيف الثقافة الجديدة من جملة مجلات أخرى. في هذا الاستجواب أكد محمد عابد الجابري أنه يرفض سيكموند فرويد والسبب «أنه (أي فرويد) يهتك أعراضنا». علم النفس التحليلي بالطبع يخلخل بنية النظم البطريكية لذا أفهم موقف هذا الشخص والذي هو نفسه الذي وضع برنامجا للفلسفة سارت عليه أجيال وأظنها لا زالت عليه إلى اليوم. وهو الشخص نفسه الذي وضع تصور تدريس الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع بالجامعات المغربية منذ تعريب الفلسفة (والتي كان عرابه أيضا) إلى حدود الإصلاح الجامعي في بداية سنة 2000. وبعملية حسابية بسيطة سوف نرى أن جل ممتهني الفلسفة اليوم هم من نتاج برامج هذا الشخص.
آفة المدرسة أيضا استثناء مغربي

مهمة الفلسفة: مقاومة البلاهة والفظاعة ـ ادريس شرود

عن أنفاس نت




من الأمراض التي تعاني منها أوساطنا الثقافية والفكرية، شيوع لامبالاة مفرطة تجاه ما يكتب ويعرض، وانتشار سلوكات ملؤها الإزدراء والتحقير لكل ماهو فكري وفلسفي. بل يقف المرء مذهولا أمام تنامي عداوات بين ممتهني الكتابة، قد تصل إلى تحاشي اللقاء والحوار، وسوء التقدير والإعتراف، ومقاطعة مشاريع فكرية وثقافية وفنية. ينتج عن هذا التقوقع على الذات، ارتباط الشأن الثقافي بانتماءات وأخويات ومصالح. لكن هناك خطوط انفلات تخترق الساحة الثقافية، تنشأ فوقها حركات إبداعية وابتكارات، وكذلك مشاكل وأخطار. ذلك ما يفرض مساءلة دور الفلسفة ومهمتها في عالم محكوم بمنطق الصورة وسطوة الإعلام، وانتشار طرق سافلة للتفكير. من أهم مظاهر هذه السفالة، تزايد ما يسمى بالكتابة الصحفية التي تريد أن تسود، بحكم احتكارها لقنوات النشر والبث والتوزيع. لكن ما يعاب على هذا النوع من الكتابة هو خضوعها لأشكال مدروسة من المراقبة والتوجيه، وضعف مساهمتها في تغيير صورة الفكر. لهذا لابد من اقحام الفلسفة في مواجهة معضلات العصر الفكرية والثقافية. فعمل الفكر ليس هو إدانة الشر الذي قد  يسكن، كل ما يوجد، بل أن يستشعر الخطر الذي يكمن في كل ما هو مألوف، وأن يجعل  كل ما هو راسخ موضع إشكال(1).
دفاعا عن فلسفة تحزن وتعاكس 
    تثير قصة اعتراض ديوجين على امتداح فيلسوف أمامه، تساؤلات حول قيمة ما يكتب وما يراكم من مؤلفات ومصنفات ومجلدات. فقد واجه ديوجين هذا الإمتداح بالسؤال التالي: ما لديه من عظيم يظهره، هو الذي انصرف زمنا طويلا من دون إثارة حزن أحد؟. تنطبق هذه القصة على الكثير من الكتابات التي تطبع وتنشر دون أن تثير أي ردود فعل، أكانت إيجابية أم سلبية. فالصمت هو الرد الوحيد الذي يبقى منتصبا هنا وهناك، مستهزئا من سلعة لا تلقى رواجا ولا إقبالا من أحد. لا يتعلق الأمر بتدني مستوى القراءة وضعف الإقبال على اقتناء الكتب، بل أغلب ما يكتب وينشر لا يحزن ولا يزعج ولا يعاكس أحد. قد لا نحتاج إلى أمثلة لدعم نظرتنا المتشائمة للمشهد الثقافي الراهن وللفضاء الفكري والإبداعي، إذ يكاد يخلو من نظريات وأطروحات جديدة تواكب التحولات الجارية، وكذا من شخصيات فكرية وازنة ومؤثرة وفعالة . في حين، نندهش للسرعة التي انتشرت بها ثقافة مسمومة، تمجد البلاهة والغباوة، وتلقى الترحاب والقبول المنقطع النظير من كتلة بشرية لم تفرض وجودها ولو لحظة منذ زمن بعيد، وشكلت فظاعة من نوع آخر. لكل هذا، وجب استعادة عمل الفلسفة النقدي بصورة فاعلة  كما أكد جيل دولوز(2)، بهدف مواجهة بلاهة وفظاعة زماننا.
الفلسفة مقاومة للبلاهة
     يلاحظ العديد من المهتمين انتشار أشكالا من البلاهة في حياتنا اليومية، خاصة مع الثورة الجديدة في مجال تكنولوجيا المعلوميات  والإتصال، التي أشاعت ثقافة منمطة وموحدة واستهلاكية، انعكست على سلوكات وتصرفات الأفراد وعلاقاتهم. هكذا تحولت هذه الآلة الإعلامية إلى منتج خطير للمفاهيم  والأفكار، وانتصبت بالتالي كمنافسة حقيقية للفلسفة. لقد  انتشرت حقائق الخساسة والسفالة والبلاهة نتيجة تحالف القوى الإرتكاسية القديمة والحديثة، بل وانتصارها، وتحويل الرأي العام للإنشغال بقيمها وأوهامها التقليدية والعصرية؛ قيم العبودية و الخضوع لأخلاق الماضي وأوهامه، و لتفاهات الحاضر وبداهاته.
فماذا تبقى للفكر في عصر تسوده البلاهة؟
 يكفي أن نصرخ، وننادي بدور جديد للفلسفة، يتوجه دون مواربة أو مخاتلة إلى الروح السافلة للعصر: البلاهة.
تشير العديد من المقاربات إلى المفارقة العجيبة التي تقوم عليها البلاهة، فهي تفكير ضعيف ودنئ وبسيط، لكنها تشكل في الوقت ذاته، بنية صلبة متحجرة ومتماسكة. لهذا وجب فهم البلاهة كبنية فكرية، تعود إلى "فاعلية" القوى السائدة والإرتكاسية. تتمثل نتائج تلك الفاعلية  في انحطاط الثقافة وانتصار قيم المنفعة والربح، أي أخلاق العبيد بتعبير نيتشه، أخلاق العدوانية والإنتقام والضغينة. ومع تطور تقنيات التواصل وتأثيرها الفعال على أنماط التفكير وأساليب الحياة، أصبحت البلاهة شاملة لأنشطة الإنسان، حيث سيادة أنماط من الحياة ومن المعرفة والفهم و التفكير-من أجل- السوق، تترجم في سلوكات ارتكاسية؛ كالإهتمام المرضي بالسلع والبضائع، واللامبالات تجاه الذات والآخرين وضعف الإنشغال بشؤون المجتمع والحياة.
يعتبرفريديريك نيتشه، نموذج الفيلسوف الذي قاوم البلاهة دون خوف ولا تردد، وألحق بها الهزيمة النكراء، حين وضع الفكر في عنصري المعنى والقيمة، وجعل من الفكر نقدا للحماقة والسفالة، وبذلك اقترح صورة جديدة للفكر(3). فقد اضطلعت فلسفته بدور النقد والإبداع، أي التساؤل عن قيمة القيم ، وعن إمكانية خلق أخرى جديدة. ففي مجال النقد كشف نيتشه عن بنية البلاهة التي تميز الظاهرة الإنسانية المتمثلة في الأخطاء والحقائق السافلة التي تعبر عن انتصار العبيد . لهذا دعا نيتشه إلى الإضرار بالبلاهة وفضح السفالة، عن طريق توضيح للناس ما كان يخفيه إحساسهم بالخطإ واضطغانهم، أي أوهامهم وسفالة أرواحهم . أما في مجال الإبداع، فيبدو أننا لازلنا نعاني من ثقل آراء وأحكام ألفيات خلت، تجعلنا ننتمي، رغما عن أنفسنا، إلى جمهور المقلدين والشارحين، بل المحافظين. إن الإضرار بالبلاهة ومقاومتها وإنزال الهزيمة بها، يتطلب بروز قوى جديدة تستولي على الفكر وتوجهه ضد "روح العصر"؛ أعني البلاهة. لكن يبدو أن عزم القوى الإرتكاسية القديمة والحديثة قوي جدا، إذ أن التغيرات التي لحقت بالحياة المعاصرة شكلت وسطا ملائما لنمو نماذج بشرية مهمومة بالتعالي ومهتمة بالتسويق والإستهلاك، وأضحت شخصيات نموذجية،  تلقى كثيرا من الإعجاب والحب ...، بل صار أسلوبها في الحياة متطلبا ومدعاة للإتباع.
نستنتج مما سبق، أن البلاهة ميزة عصرنا، وماركة مسجلة باسم الحداثة وما بعدها. فهل بإمكاننا الإفلات من شباكها؟ أم نقر على أن لها نصيب من العظمة والتميز في مجلات الحياة اليومية والعادية، وفي ميادين  إبداعية كالأدب والفلسفة والفن والجماليات؟.
الفلسفة مقاومة للفظاعة
    أكد جيل دولوز على وجود ما سماه ب"فظاعة ثالثة"(4) عند ميشيل فوكو؛ فظاعة نذرة، فظاعة أناس تافهين، حقيرين وبسطاء، لا يفرضون وجودهم لحظة ما ولا تسلط عليهم الأضواء إلا من خلال الشكاوي التي تقدم فيهم محاضر الشرطة التي تتهمهم(5). تميز  نظرة فوكو هذه، بين وضع اجتماعي و ممارسات سياسية، تصنف الأفراد في فئات وتسميهم بشخصيتهم الخاصة، وتعلقهم بهويتهم، وتفرض عليهم قانون حقيقة يجب عليهم أن يعترفوا به وعلى الآخرين أن يقروه فيهم(6). يعكس هذا التصنيف حقيقة السلطة، وطرق استخدامها لإجراءات تفريد متميزة لوسم إقصاءات معينة وتعزيز عملها ونفوذها في الزمان والمكان. يؤكد فوكو، على أن الفرد، مثلا، غير مهم إلا بمقدار ما يسهم في زيادة قوة الدولة، وليست لحياة الأفراد ومماتهم ومهنهم وبؤسهم وفرحهم أية أهمية إلا بمقدار ما يمكن أن تكون لهذه الإهتمامات اليومية فائدة سياسية. أحيانا، يكون واجب الفرد، من وجهة نظر الدولة، هو العيش والعمل والإنتاج حسب أنماط معينة؛ وأحيانا، يجب أن يموت كي يزيد قوة الدولة(7). لكن خصوصية هذه السلطة الحديثة  تظهر في حرصها على ألا يكون الأفراد متساوين ولا متكافئين من حيث الإقتدار(8)، وبالتالي نمو فوارق في كيفية تقرير الوجود الشخصي للأفراد، ونشوء تفاوتات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وأشكال من الإقصاء والتهميش لفئات اجتماعية واسعة. في حالة السلم، تبدو الأمور عادية، بحكم انشغال هؤلاء المقصيين والمهمشين  بتحصيل قوتهم، وتدبير روتينهم اليومي، مع ما يتخلله من مشاكل وظواهر اجتماعية تجعل منهم أناسا تافهين وبسطاء، يتعرضون للإذلال أو للإهمال أو للمعاملة القاسية من قبل أولئك الذين يملكون الأدوات المادية والرمزية للإضطهاد- كما تؤكد إيزايا برلين- ولا تسلط عليهم الأضواء إلا في محاضر الشرطة. أما في حالة اندلاع اضطرابات وهبات اجتماعية، فقد يتحول هؤلاء البسطاء إلى قوى مرعبة. فمن يستطيع هنا والآن، أن يوقف هذا التحويل الخطير الذي يجتاح قيم ومثل وآراء هذه الفئات، مع أشكال الدعاية التي يمارسها الإعلام والقوى السائدة والإرتكاسية؟.
إن التهميش والإقصاء الذي مارسته السلطة وأجهزتها، على أناس تافهين يبقى موشوما على أجسادهم؛ على أجسامهم وأفكارهم،  ويؤدي بالفعل إلى إنتاج أناس بسطاء. لكن وجب التحدير: يكفي أن تظاف جرعة واحدة من الإضطهاد أو الحط من الكرامة، حتي يتحول هؤلاء البسطاء إلى كائنات مخيفة ورهيبة، مزودة هذه المرة، بإيديولوجية مدمرة.
كيف يمكن للفلسفة أن تقاوم البلاهة، وتنهض ضد الفظاعة؟            
هل تستطيع عملية تعقب البلاهة، إزعاجها على الأقل، ما دمنا نعرف مسبقا صعوبة القضاء النهائي عليها، أم علينا أن نتركها للتعبيرعن نفسها، لأن ممثليها مندمجين في المحيط الإجتماعي، بل لهم الحق في البلاهة؟
 هل بإمكان الفلسفة مقاومة الفظاعة بوسائلها الخاصة، أم هناك ضرورة لبناء تنسيق ما، يسمح بإبداع اقتصاد جديد للعلاقات السلطوية، ولنمط جديد من الحكم؟
 تفرض علينا هذه الأسئلة مواجهة الحاضر، عبر توجيه فكرنا إلى وجود الإنسان في العالم، وإلى احتياجاته الضرورية. لكن هذا لا يعني الدفاع عن حقوقه ومصالحه، بل تفعيل تلك العلاقة التي تربط الفلسفة  بشعب ممكن، واستشعارمجيئه، عن طريق مقاومة الموت والعبودية، مقاومة ما هو مرفوض كليا، مقاومة العار والحاضر، بتعبير دولوز(9).
الهوامش:
1-أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، لبنان، ص204.
2-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ترجمة أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1993، لبنان، ص137.
3-جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، ص138.
4-يشير دولوز  إلى فظاعة أولى يطلق عليها "فظاعة كاذبة ومغلوطة"، وفظاعة ثانية  يسميها ب"فظاعة غريبة شاذة".
5-جيل دولوز: المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يفوت، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، لبنان-الدار البيضاء، المغرب، الهامش رقم 3، ص103.
6-أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص190.
7- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص127.
8- أوبير دريفوس وبول رابينوف: ميشيل فوكو:مسيرة فلسفية، ص124.
9- يقول جيل دولوز بصدد قضية هايدغر:" إن العرق المنادى به من قبل الفن والفلسفة ليس هو العرق الذي يدعي نقاءه، وإنما العرق المقموع، اللاشرعي، المنحط، الفوضوي، المترحل، والقاصر دون أمل في إصلاحه، أولئك- من سلالات هذه الأعراق- الذين أقصاهم كانط من دروب النقد الجديد"، انظر جيل دولوز- فيليكس غتاري: ما هي الفلسفة، ص121.

الخميس، 17 مارس 2016

هذا هو "نص الوداع" الذي كتبه المفكر جورج طرابيشي قبل موته، وكشف فيه هذه الأسرار

عن موقع جمهورية



توفي اليوم الأربعاء المفكر السوري جورج طرابيشي عن 77 عاما. وطرابيشي هو مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري، من مواليد مدينة حلب عام 1939، يحمل الإجازة باللغة العربية والماجستير بالتربية من جامعة دمشق.
عمل طرابيشي مديرا لإذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيسا لتحرير مجلة دراسات عربية (1972-1984), ومحرراً رئيسياً لمجلة الوحدة (1984-1989).
أقام فترة في لبنان، ولكنه غادره بسبب الحرب الأهلية إلى فرنسا التي أقام فيها متفرغا للكتابة والتأليف.
ونشرت "العربية.نت" في صفحة الرأي المقال الأخير للمفكر الراحل طرابيشي بعنوان "ست محطات في حياتي" وهو أشبه ما يكون بسيرة ذاتية مختصرة.
"ست محطات في حياتي"
وأنا في رحلة نهاية عمر، وبعد عقود ستة من صحبة القلم الذي آثرته – عدا زوجتي وبناتي – على كل صحبة أخرى، أجدني أتوقف أو أعود إلى التوقف عند ست محطات في حياتي كان لها دور حاسم في أن أكتب كل ما كتبته وفي تحديد الاتجاه الذي كتبت فيه ما كتبته وحتى ما ترجمته.
المحطة الأولى: ولدتُ من أسرة مسيحيّة وتديّنت تديّناً مفرطاً فــي الطور الأوّل من مراهقتي. وكنت أؤدي كلّ واجباتي الدينية بحساسية تثير حتّى سخرية أخي الأصغر منّي.
ذات يوم في المدرسة ، وفي السنة الثانية من المرحلة الإعدادية – وكنت صرت في نحو الرابعة عشرة من العمر- كان من جملة دروسنا درس التعليم الديني الذي كان يتولاه كاهن معروفة عنه صرامة الطبع. وكنا في تلك المرحلة قد تكونت لدينا فكرة واضحة بما فيه الكفاية عن خريطة الكون وكروية الأرض ودورانها وحجمها.
وفي أحد دروس التعليم الديني قال لنا المدرس الكاهن:” تعرفــون أنتم يا أولادي الآن ما هــــــي الكرة الأرضية، وتعرفون حجمها. أريدكم الآن أن تتصوّروا كرة أرض أكبر من أرضكم بمليون مرّة، وأنّ هذه الكرة الأكبر بمليون مرة من كرة الأرض ليست من تراب وماء بل هــي من حديد فولاذي صلب.
هذه الكرة الأكبر من الأرض بمليـــون مرّة والأصلب من الحديد الصلب، يمرّ عليها كل مليون سنة طائر، فيمسحها بجناحه. فكم وكم – وهذه الكلمة لا زالت ترنّ في أذني إلى اليوم- كم مليون.. مليون.. مليون سنة يحتاج هذا الطائر إلـى أن يمسح بجناحه مرة واحدة كلّ مليون سنة ليذيب هذه الكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة؟ تذوب هذه الكرة ولا يذوب عذابكم في جهنّم إذا متّم في حال الخطيئة”.
سمعت هذا التحذير الحسابي فأصابتني رعدة. – فقد فهمته بكل أبعاده إذ كنت في حينه تلميذاً متفوّقاً – وخرجت مـن المدرسة وسرت في الطريق وأنا أطأطئ رأسي. ذلك أن المدرسة كانت تقع في حيّ عتيق جدّا وكئيب، تفوح منه روائح الأماكن المغلقة.
وعلى بعد حوالي 200 متر كنا نخرج من الدرب الضيق والمقفل عليه ليلاً بباب حديدي الى شارع عريض ومفتوح تطالعنا منه ، أول ما تطالعنا، بناية حديثة نسبياً تقطن في الطابق الثاني منها أسرة إيطالية، لها ثلاث بنات جميلات جدّاً، وغالباً ما نجدهن جالسات في “الفيرندا” ومرئيات للناظر من الشارع في إطلالة آسرة .
وما إن نظرت إليهن عصرئذ حتى أسرعت أخفض نظري وأغمض عينيّ. لماذا؟ هنا لا بدّ أن أعود الى المسيحية التي ولدت فيها وعمّدني أهلي عليها. ففي المسيحيّة يقال إن الخطيئة مثلّثة: خطيئة بالعمل وخطيئة بالقول وخطيئة بالفكر. وحتى هذه الخطيئة الأخيرة قد تكون خطيئة مميتة، وعقابها جهنم إلى أبد الآبدين حسب اللاهوت المسيحي إذا كان مدارها على الجنس نظراً الى الوصية التي تقول : لا تشتهِ امرأة غيرك. والحال أن كل امرأة هي امرأة للغير ما لم تكن زوجة شرعية.
ومن ثم، إن الشهوة الجنسية تغدو بحد ذاتها مسبِّبة لخطيئة مميتة ولا يغفرها الله للإنسان ولا ينجيه من عذابات جهنم ما لم يعترف بها للكاهن. وكان الكاهن يركِّز على خطيئة الفكر هذه في درس التعليم الديني لعلمه أن مدار تفكير الصبيان في طور المراهقة هو على الجنس.
وعلى هذ النحو توزعت نفسي وأنا أخرج من درب المدرسة الضيق الى الشارع المفتوح على فيراندا الصبايا الإيطاليات الثلاث بين الرغبة في النظر وبين الخوف من العذاب الأبدي في نار جهنم على ذلك النحو المرعب كما صوّره لنا الكاهن من خلال مثال الطائر والكرة الحديدية الأكبر من الأرض بمليون مرة.
وهكذا لم أكتفِ بإغماض عينيّ، بل رحت أمشي في الطريق إلى البيت وأنا أحاول أن أطرد من فكري صورة الإيطاليات الثلاث وكلّي خوف من أن تشاء المصادفة أن يسقط فوق رأسي من إحدى الشرفات أصيص زهر من الأصص التي كان من عادة سكان بلدتي حلب أن يزيّنوا بها شرفاتهم فأموت وأنا في حالة خطيئة مميتة.
ووصلت إلـــى البيت وأنا في شبه هذيان وأصابتني حمّى حقيقيـــة وبقيت يومـــين طريح الفراش، ثم لما أفقت كان ردّ فعلي الوحيد أنني قلت بيني وبين نفسي: لا، إن الله ذاك الّذي حدثنـي عنه الكاهن لا يمكن أن يوجد ولا يمكن أن يكون ظالماً إلى هذا الحدّ. ومن ذلك اليوم كففت عن أن أكون مسيحيا.
المحطة الثانية الّتي حددّت اتجاهي النهائي في الحياة، عدا قصّة خروجي من المسيحيّة، كانت عند انتقالي في المرحلة الثانويّة إلى مدرسة رسميّة تابعة للدولة. كان ذلك علـى ما أذكر عام 1955 . وقد كان ذلك بعد سقوط حاكم سورية الديكتاتور والجنرال العسكري أديب الشيشكلي. وكان تحالف حزب البعث والحزب الشيوعي والإخوان المسلمين هو من أسقطه.
فلمّا تفاوضوا فيما بينهم، سئل الإخوان المسلمون: ماذا تريدون؟ أي وزارة؟ فقالوا: نحن لا نريد وزارة، نحن لنا مطلب واحد وهو إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثانوية. التعليم الديني كان مباحاً بل واجباً في المدارس الابتدائية والإعداديّة ولكن ليس في الثانوية. في الثانوية كنّا ندرس علوم الأخلاق والتربية الوطنيّة وليس هناك تعليم ديني. وعلى هذا النحو تقرّر إدخال التعليم الديني إلى المدارس الثّانوية، وأنا ذهبت في تلك السنة إلى المدرسة الثّانوية.
ويومئذ، لمّا قيل لي هناك حصّة تدريس تعليم دينــــي، قلت لرفاقي، وكنت قد بدأت أميل إلــــى أن أصير حزبياً اشتراكياً من “حزب البعث”: أريد أن أحضر درس التعليم الديني لأني أريد أن أطّلع أكثر، فأنا كنت في مدرسة لم أتلقَّ فيها سوى التعليم المسيحي، ولكني أريد الآن أن أعلم المزيد عن الاسلام الّذي هو دين الغالبية السورية. حضرتُ الدرس.
شيخ طويـــل القامة بعِمّة. أذكر إلى الآن لون جلبابه الرمادي الأنيق. وكان قد كتب علـى اللّوح بالطبشور سلفاً: “كلّ من هو ليس بمسلم فهو عدوّ للإسلام”. كان هذا موضوع الدّرس. وبدأ يشرح ويشرح ورفـــاقي ينظرون إليّ، كلّ واحد منهم رمقاً، ليدركوا ردّ فعلي. ومضى نصف وقت الحصة وأنا أسمع الدرس. ثم قـــال الشيخ المدرٍّس: الآن أفتح باب النقاش. فسارعت أرفع يدي،
فقال :تفضّل، ما اسمك؟ فقلت وأنا أشدّدعلى اسمي: “جورج طرابيشي”، وجورج اسم لا يطلق في سوريا إلاّ على المسيحيين. فوجئ هذا الشيخ وانبثقت حبات عرق على جبينه . وتابعت قائلاً: يــــا أستاذ، أنا لست مسلماً، أنا مسيحي بالمولد، فهل أنا عدوّ لك؟
قال: أعوذ بالله ، من قال هذا الكلام؟ كيف تقول ذلك؟
قلت له: يــا أستاذ منذ أكثر من ثلاثين دقيقة وأنت تقول: كل من ليس بمسلم فهو عدوّ للإسلام، فهل أنـا عدوّ لك؟؟ فطفق الرّجل يتدارك خطأه، ويقول: لا، لا، فالمسيحيون أهل كتاب. وطبعاً كان السؤال الذي دار في نفسي: لماذا لم يتدارك ويستثنِ من البداية؟ وحتى لو لم أسأله فهل يكون كل من هو ليس بمسلم عدواً للإسلام؟ وقد كان ينبغي عليّ أن أضيف السؤال:حتّى وإن لم أكن من أهل الكتاب فهل أنا عدوّ لك؟ ولكني أمسكت.
ابتداء من تلك اللّحظة وعيتُ أن مهمّة كبيرة جدّاً لا تزال تنتظرنا في مجتمعاتنا وأن القضية ليست قضية تغيير سياسة ولا وزارة، بل هي أولاً وربما أخيراً قضية تغيير على صعيد العقليات.
وشاءت الصدفة فيما بعد، لمّا صرت أُدرِّس في الثانوية بدوري، ويوم افتتاح الموسم الدراسي، أن أفاجأ بوجود نفس الشيخ في قاعة الأساتذة ليكون مدرس التعليم الديني أيضاً في نفس الثانوية الّتي عُيّنت فيها مدرِّساً للغة العربية. قام عن كرسيه للحال وهجم نحوي وعانقني قائلاً: عذراً يـا أستاذ ، خطيئة ارتكبتها في حياتي لن أكررها أبداً.
المحطّة الثــالثة في حياتي تمثلت بحادثة مماثلة ، ولكن هذه المرة مع رفاق حزبيين مسيحيين. كانت حادثة لها عمق تغييري كبير في نفسي وفي وعيي إذ كانت سبباً أساسياً في تحوّلي إلى كاتب لأني شعرت أنّ الكتابة هي الطريق الوحيدة الّتي بمستطاعي أن أسلكها لكي أغيّر العقليّة في المجتمع.
والتفاصيل كما يلي: دخلت السّجن كمعارض سياسي في نظام حزب البعث. كنت انتميت الى حزب البعث قبل استلامه السلطة. ثم استقلت من الحزب بعد سنة من استلامه الحكم لخلافات سياسية وإيديولوجية ليس المجال هنا للدخول في تفاصيلها . وبعد أن استقلت وصرت معارضاً دخلت السّجن.
في السّجن كان هناك عدد من البعثيين المعتقلين وإن كانوا ينتمون الى تياريميني غير التيار الحاكم وغير التيار اليساري الذي أنتمي إليه أنا بعد أن تشتت الحزب إلى تكتلات، وكان معظم هؤلاء من جبل حوران في سوريا الذي كان قسم كبير من سكّانه من المسيحيين من أيّام الغساسنة ومن وَرَثتهم.
وفي السّجن كان معي خمسة أو ستّة من هؤلاء المسيحيين البعثيين في غرفة جماعية واحدة تضم عشرات المعتقلين. كنت قد تزوّجت من زوجتي الكاتبة”هنرييت عــبودي”، وأنجبت منها أوّل طفلة عمرها سنة أو سنتان، لم أعد أذكر.
وكنت وأنا بالسّجن لا أفكر إلاّ بهذه الزوجة وبهذه البنت الّتي تركتها معها. ولست أدري كيف جاء حديث الشرف الجنسي الذي يقضي بوجوب قتل المرأة إذا أقامت علاقة جنسية غير مشروعة سواء كانت مسيحية أو مسلمة، وفي هذه الحال تقتل ، والأفضل أن تذبح ذبحاً من قبل أخيها استرداداً للشرف المهان.
ومن كلمة إلى كلمة قادنا النّقاش الى ما يلي. قلت لهم: أنــــــــا أرفض مبدأ جريمة الشرف من أساسه، وهذا موقف لا أستطيع احتماله إطلاقاً من قبل إنسان يزعم نفسه تقدمياً أو اشتراكياً أو بعثياً. عندئذ هبّ واحد منهم غاضباً وقال: أنت متزوج؟ قلت: نعم. قال: شوعندك؟ قلت له: عندي بنت.
قال: صغيرة طبعاً؟ قلت: نعم. قال: الآن إذا كبرت – بنتي اسمها مَيّ- إذا كبرت هذه البنيّة وغلطت مع شابّ أفلا تذبحها؟؟ قلت له: أنا أذبح مايا بنتي إذا رأيتها تقبِّل شابّاً ! فقـــــــــــــال: كيف؟ أما تذبحها ؟ قلت له: يا رفيق أجننتَ !! أذبح مايا؟ قال: أنت ما عندك شرف! أنت لست عربياً ولا تستأهل أن تكون عربياً ولا بعثياً!
وأخذ هؤلاء الرّفاق المعتقلون معي قراراً بمقاطعتي وبعدم الكلام معي لأنّــي لا أستحق شرف أن أكون عربيـاً أو بعثياً ولو كنت معارضاً مثلهم للتيار الحاكم. ونتيجة لهذه المقاطعة ولما تلاها من عدائية نحوي قدَّمت طلباً إلى ادارة السجن بنقلي إلـى غرفة منفردة، أي شبه زنزانة، بدلاً من أن أبقى مع رفاق يقاطعونني ويحتقرونني.
من يومها أيضاً تعلّمت درساً جديداً وهو أنّ القضيّة ليست فقط قضية مسلمين وغير مسلمين، ومسيحيين وغير مسيحيين، من حيث الوعي الاجتماعي حتى ولو كانوا ينتمون إلى أيديولوجيا واحدة. فالقضية أعمق من ذلك بكثير.
قضية بنى عقليّة في المقام الأول. ففي داخل المخّ البشري تتواجد طبقتان: طبقة فوقية سطحية يمكن أن تكون سياسية، تقدمية، اشتراكية، وحدويّة، وطبقة بنيوية تحتيّة داخل هذا المخّ رجعيّة حتّى الموت، سواء كان حاملها مسيحيـاً أو مسلمــاً. ومنذ ذلك اليوم توطد لديّ الاقتناع بأن الموقف من المرأة في مجتمعاتنا يحدد الموقف من العالم بأسره.
ومنذ ذلك اليوم أيضا ترسخ لديّ الاقتناع أكثر من أيّ يوم سبق بوجوب النضال بواسطة الكلمة من أجل تغيير العقليــات، تغيير البنية الداخلية للعقل، وليس فقط البنية السطحية السياسية أو الايديولوجية.
في المحطّة الـــــــرابعة من حياتــــــــــــي، وبعد مرحلة القوميـة العربية والبعثية واليسـارية والماركسية، جاء دور فرويد.
وقصتي مع فرويد بدأت بواقعة لا تخلو من طرافة. فبعد أن تزوجت وصار عندي بنتان كنت، كلّما جلست إلى المائدة لآكل الطعام، أمسك برغيف الخبز- عندنا فـــي سوريا الخبز العربـي، وهو غير دارج في معظم البلدان العربية الأخرى- فلا أجد نفسي إلا وأنا أقطّعه من أطرافه لاشعورياً وزوجتي وابنتي قاعدتان أمامـــي على المائدة تأكلان، وكنت لا أستطيع منع نفسي من تفتيت الخبز حتى عندما يكون معنا على المائدة ضيف.
كانت زوجتي تقول لي بلهجتها الحلبية: عيب يــا جورج، النّاس بشوفوك، وبناتك يتعلموا هالعادة ، وحتى عندما يكون عندنا ضيوف علــى المائدة يرونك تفتِّت الخبز قدّامهم هكذا! وكنت أقول لها: معك حقّ.ولكن كلّ مرّة أنسى نفسي وأعود إلى تمزيق الرغيف بدون قصد ولا انتباه مني. وهكذا إلـى أن صادف ذات مرة أن قرأت مقالاً- لا أعتقد أنه كان لفرويد وإنما لأحد تلاميذه – يحكي عن هذه الظاهرة النّفسية ويعتبرها عرضاً عصابياً بصفتها فعل تمزيق لاإرادي ولاشعوري للأب.
وأنا عندما قرأت هذا المقال أصبت برجفة: فأنا إذن أمزّق أبي! وبالفعل كنت على صدام في مراهقتي مع أبي. ومنذ أن قرأت ذلك المقال انفتحت على التحليل النفسي، وعكفت على قراءة فرويد ثم شرعت أترجم له. ووجدتني أتصالح مع أبي – وكانت قد مضت سنوات على وفاته – وأصفّي حسابي مع نفسي تجاه أبي وأستعيد نسبة كبيرة من الهدوء النفسي وأنظر إلى الحياة نظرة جديدة إلى حدّ ما.
ولقد ترجمت لفرويد نحواً من ثلاثين كتاباً، ولكني بطبيعة الحال لم أترجمها عن لغتها الأصلية الألمانية، بل عن اللغة الفرنسية. وأنتم تعلمون المثل الايطـــــــــــــــالي الّذي يقــول: المترجم خائن Traduttore, traditore .
وأنا إذ كنت أترجم عن لغة عن لغة فهي خيانة مزدوجة، ولكن كان هذا خيارأً لا بدّ منه لأنّه لا يوجد في الثقافة العربية، التي تهيمن عليها نتيجة الاستعمار السابق اللغتان الفرنسية والإنجليزية، من يتقن الترجمة عن الألمانية سوى قلة قليلة للغاية.
ولو لم أترجم فرويد أو لم يترجمه غيري سواء عن الفرنسية أو الإنكليزية لبقيت الثقافة العربيّة بدون فرويد وبدون تحليل نفسي، وهذا شيء غير مقبول. وطبعاً أنا خنت خيـــانة مزدوجة بالترجمة عن لغة عن لغة، ولكن أعتقد أني أديت للثقافة العربية خدمة ضرورية.
وأنا منصرف اليوم ، ومنذ عام تقريباً، إلى إعادة النظر في ترجماتي الفرويــدية مستفيداً من صدور ترجمات جديدة لفرويد باللغة الفرنسية – ترجمتـــين أو ثلاث للكتاب الواحد – استعداداً لإعادة طبعها منقحة وأكثر مطابَقة للنص الأصلي، متمنياً أن يأتي ذات يوم يكون عندنا مترجمون يترجمون عن الألمانية مباشرة.
في المحطّة الخامسة من حياتي سأتوقف عند عن علاقتي بـالراحل محمد عابد الجابري الّذي كرست له ربع قرن من عمري.
كنت منذ عام 1972 قد انتقلت إلى بيروت لأتولى رئاسة تحرير مجلة “دراسات عربيّة” الشهرية التي كانت تصدر فيلبنان عن دار الطليعة. وكان الجابري قد بدأ يرسل إليّ في مطلع الثمانينات بعض المقالات لنشرها في المجلة. ثمّ أرسل كتاباً إلى دار الطليعة عنوانه “تكوين العقل العربــي“، الجزء الأوّل من مشروع “نقد العقل العربـــي“.
وقد أعطاني صاحب الدار الرّاحل بشير الداعوق المخطوط قائلاً لي: أنظر في هذا الكتاب فأنت أفهم مني في التراث. قرأت الكتاب وقلت له: هذا كتاب مدهش، أُنشره فوراً. نشره طبعاً. ولكنّي في أثناء ذلك كنت أخذت قراري- وقد تعبت من الحرب الأهليّة اللبنانية – بالهجرة من بيروت إلـــى بـاريس للعمل في مجلة “الوحدة “.
وأنا أودّع الدّار و أودّع زملائي وأودّع بشير الداعوق، كان صدر كتاب ” تكوين العقل العربي“، وكان هو الكتاب الوحيد اللّذي حملته معي من بيروت إلى باريس مع معجم سهيل إدريس “المنهل“. لم أحمل من كتب مكتبتي الخمسة آلاف غير هذين الكتابين.
جئت باريس وقعدت في بيتي شبه الفارغ أقرأ هذا الكتاب مرّة ثانية، مسحوراً به سحراً كاملاً. وكان أوّل مقال كتبته في مجلّة “الوحــدة” عن هذا الكتاب. وبادرت أكتب بالحرف الواحد- يعرف هذه القصة عدد ممن قرؤوا سيرة حياتـي-: “إنّ هذا الكتاب ليس فقط يثقّف بل يغيّر، فمن يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”. بمثل هذه الحماسة كتبت عرضاً عن الكتاب في مجلّة “الوحدة“. ولكن كانت هناك نقطة تفصيلية صغيرة في الكتاب أثارت عندي بعض الشكوك وتتعلق بموقف الجابري من “إخوان الصفاء”.
فمن دراستي الجامعيّة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق كانت تكونت عندي فكرة عامة عن انتماء إخوان الصفاء إلى العقلانية الفلسفية الإسلامية. والحال أن الجابري كان قال كلاماً سلبياً للغاية عن إخوان الصفـــــاء ناسباً إياهم الى ” العقل المستقيل في الإسلام”، ومؤكداً أنهم وقفوا ضدّ العقل، وضدّ الفلسفة، وضدّ المنطق، وضد صاحب المنطق الذي هو أرسطو .هكذا ارتسم عندي شكّ يتعلق بهذه النقطة تحديداً، وما كان في إمكاني أن أحسمه لأن رسائل اخوان الصفاء لم تكن متوفرة لي في مهجري الباريسي.
ثم شاءت الظروف أن أسافر إلى إحدى دول الخليج في دعوة لندوة. في ذلك البلد الخليجي قلت في نفسي إني سأبتاع رسائــــــل إخوان الصفاء لحسم تلك المسألة. ذهبت إلى مكتبة كبيرة هناك وسألت المستخدم: عندك كتاب “إ رسائل خوان الصفاء“؟ فقال بلهجة لا تخلو من غرابة: لا يا أستاذ. قلت له: وأين يمكنني الحصول عليه ؟
قال: أستاذ، أنت تعرف أنّ هذا الكتاب هو في الفلسفة؟ قلت له:نعم. قال: إن كتب الفلسفة ممنوعـــة هنا . وكانت هذه أول مرة أسمع فيها أن كتب الفلسفة محرّمة، وفيمـا بعد اكتشفت أنها ليست ممنوعة فقط في تلك الدولة الخليجيّة ، بل في معظم دول الخليج. قلت لـلمكتبي: آسف، أنا والله ما كنت أدري. ومن كلمة إلى كلمة بدأت أتناقش معه ودياً وقلت له: أنا لازمني الكتاب، فماذا أفعل؟. قال: هناك مكتبة أخرى. ودلّني على اسمها وعنوانها وقال: علّ وعسى يكون لديها.
ذهبت الى المكتبة الثــــانية و سألت المكتبي عن الكتــــاب. وبالطبع أتاني نفس الجواب، فقلت له: ولكن اسمح لي أعرّفك بنفسي :أنا كاتب ومترجم اسمي “جورج طرابيشي” . وبمجرّد أن قلت له جـــــورج طرابيشي، قال: أهلاً وسهلا ًوراح يعرّفني على ما هو موجود من كتبي وترجمـاتي لديه. ثم أضاف: اسمح لي. ودخل واستدعى رئيسه صاحب المكتبة، فقال هذا: أهلاً وسهلاً أستاذ جـــورج. ورحّب بي، إلخ. رويت له حاجتي الى الكتاب لأنه غير المتوفر لي بباريس ولا أستطيع أن آتي به من لبنان بسبب ظروف الحرب الأهلية،إلخ. قال: والله يا أستاذ أما تعرف أن هذه الكتب ممنوعة؟ قلت له: عرفت ولكن لعلّ وعسى تســـــاعدني. قــال: تفضّل معي. نزل معي إلى قبو تحت الأرض فـــإذا فيه صناديق وكتب أخرى، وأخرج أربعة أجزاء كبيرة لإخوان الصفاء، قال: تفضّل أستاذ . و لم يشأ أن يأخذ ثمنها ولكني أصررت ودفعت شاكراً إياه كل الشكر.
وأنا في طائرة العودة ثم في البيت كان أوّل همي أن أعثر عــلى النّص الّذي يقول عنه الجابري إن إخوان الصفاء يقفون فيه ضدّ المنطق وضد أرسطو وضدّ الفلسفة.
فتحت الجزء الرابع من الرسائل أفتش عن النص كما يشير اليه الهامش الذي يحيل اليه كتاب “نقد العقل العربي” فلـــــم أجده، فتشت وفتشت ثم قلت في نفسي: لعله خطأ مطبعي ويجب ان أعيد قراءة الرسائل الواحدة والخمسين كلها. وهكذا بدأت بقراءة كتاب رسائل إخوان الصفا بأجزائه الأربعة فإذا بي أصل إلـــــى الرسائل 10-11-12-13-14 ، فكانت دهشتي عظيمة. ففي هذه الرسائل الخمس، و بعدما قدّموا وعرّفوا بأنفسهم، يقولون ما خلاصته: يـــا أخي، أيّدك الله وإيّانا بروح منه، اعلم ، بعدما شرحنا لك أهدافنا، أنّه لا مدخل لك إلينا إلاّ بواسطة المنطـــق لأنّه هو المعبر الّذي يجعل الخطاب بيننا ممكناً، فتعالَ نشرح لك المنطق وكتبه. ثم يخصّصون الرسائل 10 إلى14 لشرح كتب المنطق الأرسطي مثل العبارة والمقولات و والقياس والبرهان ، ويستعملون العبارات بلفظها اليوناني مثل أنالوطيقا وقاطيغورياس، إلخ .
فيما أنا أطالع هذه الرسائل الخمس في الشرح المفصل للمنطق الأرسطي كنت أتساءل بيني وبين نفسي: كيف يقول الجابري إن إخوان الصفا قاطعوا أرسطو؟ وقاطعوا المنطق؟ وقالوا: إن الإنسان ليس بحاجة إلى المنطق وإلى الفلسفة ؟ وعدت من جديد إلى متابعة قراءة الرسائل إلى أن وقعت في الرسالة السابعة عشرة المعنونة: في علل اختلاف اللغات على النص الذي يتخذ منه الجابري دليلاً علن أن إخوان الصفاء قالوا إن الإنسان ليس بحاجة الى المنطق. والحال ماذا يقول النص؟ فحواه كالتالي: لقد تقدم بنا الكلام في أوائل رسائلنا على أهمية المنطق لفهمنا وفهم لرسائلنا. ولكن اعلم يا أخانا أنّ المنطق منطقان. هناك منطق فلسفي حدّثناك عنه، وهناك منطق لفظي أي الكلام، لأنّه لولا الكلام لما تفاهم البشر فيما بينهم.
وبعد أن يشــرحوا دور اللغة كأساس وكوسيلة للتفــاهم بين البشر يضيفون: اعلـــم أن هناك نفوساً صــافية غير محتاجة للكلام ولا للمنطق في إفهام بعضها بعضاً، أي هناك نفــوس روحانية تتفاهم بالعين، تتفاهم باللّمس، تتفــاهم بالروح، بالوجدان، بالتخاطر كما بتنا نقول اليوم، بدون أن تكون بها حاجة للمنطق اللفظي والكلام. فإذا بالجــــابري استغلّ هذه الجملة ” ليست بحاجة إلـى منطق” ليحذف كلمة اللفظي وليقول إنّ هؤلاء ضدّ المنطق بمعناه الفلسفي.
ثمّ لم ألبث أن وقعت علــى الشّاهد التّالي وهو في معرض نقاش إخوان الصفاء حول ما بين الدين والفلسفة من علاقة يريد المتزمتون في عصرهم ( القرن الرابع للهجرة) فصمها ويدعون إلى تحريم الفلسفة باسم الدين. يقول الشاهد بالحرف الواحد: “اعلم أيّهــــا الأخ البــار، أيّدك الله بنور منه، أنّ من عرف أحكام الدّين فإنّ نظره في علم الفلسفة لا يضرّه بل يزيده فـــي علم الدّين تحققاً وفي فهم المعاني استبصاراً”.
ثمّ يضيف القول: “المنطق ميزان الفلسفة وأداة الفيلسوف. ولمّا كـانت الفلسفة أشرف الصنائع على البشرية بعد النّبوة صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصحّ المــــوازين وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات ونسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات مثل صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ”.
إني لمّا قرأت هذه الرسالة وهذا الشاهد أصبت بصدمة كبــيرة وبطعنة في كبريائي كمثقف، لأنّي كتبت في ما كتبت عن كتاب الجـابري: ” هذا الكتاب من يقرأه لا يعود بعد أن يقرأه كما كان قبل أن يقرأه”.
ومن ذلك اليوم لم أعد أوجّه لومــــــي إلى الجــــــابري، بل إلى نفسي، لأنّني حكمت على كتاب في موضوع لم أكن أملك كلّ مفاتيحه المعرفية.وأقسمت بينـــي وبين نفســــي أني بعد الآن لن أقول شيئاً أو أصدر حكماً بدون أن أكون مستوثقاً من كلّ المعلومات بصدده. وهكذا أخذت قراري بإعادة تربية نفسي، و إعادة تثقيف نفسي. وهكذا انكببت، أنا الذي درست اللغة العربية والتراث العربي جزئياً في الجامعة، انكباباً مرعباً علــى قراءة كتب التراث وعلــــى مطالعة عشرات وعشرات المراجع الّتي ذكرها الجــــابري والّتــي رحت أدقق كلّ شاهد من شواهدها وأتحقّق من صحّتها فــــي كلّ المجالات.
وبصراحة أقول لكم: لم يكن شاهد إخوان الصفاء بالشاهد الوحيد ، بل وقعت على عشــرات وعشرات من الأمثلة علـــى مثل هذا التزوير الّذي أوقع فيه الجابري عن قصد أو عن غير قصد- لا أدري- قراءه وأنا منهم.
وإني لأقولها صراحة اليوم : إني أعترف للجــابري، الّذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا أقرأه وأقرأ مراجعه ومئات المراجع في التراث الإسلامي ومن قبله المسيحي ومن قبلهما التراث اليوناني وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إني أقرّ له، وأعترف أمامكم، أنّه أفادني إفادة كبيرة، وأنه أرغمني علـــى إعادة بناء ثقــافتي التراثية . فأنـــا له أدين بالكثير رغم كلّ النقد الّذي وجّهته إليه.
المحطة السادسة. إن المحطات الخمس التي تقدّم بي الكلام عنها كانت كلها بمثابة محطات انطلاق، وبدءاً منها كتبت كل ما كتبته على امتداد حياتي من أبحاث ومقالات قاربت في عددها الخمسمائة ، ومؤلفات نافت على الثلاثين، وترجمات زادت على المئة . لكن المحطة السادسة كانت بالمقابل هي محطة التوقف والصمت والشلل التام عن الكتابة: محطة الألم السوري المتواصل منذ نحو أربع سنوات بدون أن يلوح في الأفق أي بشير بنهاية له.
على امتداد تلك السنوات الأربع ما أسعفني القلم إلا في كتابة مقالين اثنين فقط: أولهما في 21/3/2011 بالتواقت مع البدايات الأولى لثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وثانيهما في 28/5/2011 مع انخراط سورية بدورها في معمعة ذلك الربيع.
المقال الأول حمل هذا العنوان: تاريخ صغير على هامش التاريخ الكبير. وقد قصدت بالتاريخ الكبير ثورات الربيع العربي التي بدت في حينه وكأنها تُدخِل العالم العربي في عصر الثورات التاريخية الكبرى كمثل تلك التي شهدتها فرنسا عام 1779 أو أوروبا الغربية عام 1848 أو دول المعسكر المسمى بالاشتراكي في أواخر القرن العشرين. أما التاريخ الصغير فقد قصدت به تاريخي الشخصي المرتبط بخيبة أمل كبرى. فأنا، كما وصفت نفسي في خاتمة ذلك المقال الأول عن ثورات الربيع العربي، ابن الخيبة بالثورة الإيرانية الآفلة أكثر مني ابن الأمل بثورات الربيع العربي الشارقة التي قلت في نهاية المقال إنني إذا كنت أتمنى من شيء فهو أن يكون توجسي في غير محله، وأن يكون مآل هذه الثورات العربية غير مآل الثورة الإيرانية التي صادرتها القوى الناشطة تحت لواء الإيديولوجيا الدينية، وأن تكون فرحتي بذلك الربيع هي الرفيق الدائم لما تبقى لي من العمر.
ولكن ، وكما أثبت التطور اللاحق للأحداث، فإن ما قام البرهان على أنه كان في محله هو توجسي بالذات: فالربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم والردّة إلى ما قبل الحداثة المأمولة والغرق من جديد في مستنقع القرون الوسطى الصليبية/الهلالية .
أما المقال الثاني الذي كتبته في أواخر شهر أيار/مايو 2011 فكان بعنوان: سورية: النظام من الإصلاح إلى الإلغاء. وقد كان محوره على أن سورية، المتعددة الأديان والطوائف والإثنيات، تقف بدورها على أبواب جحيم الحرب الأهلية ما لم يبادر النظام إلى إصلاح نفسه بإلغاء نفسه بنفسه. فغير هذا الإلغاء لا سبيل آخر إلى إصلاح سلمي يصون البلاد من الدمار. ولكن بدلاً من ذلك امتنع النظام حتى عن الوفاء بالوعود في الإصلاح التي كان لوّح بها.
ولكن لأعترف أيضاً بأن إصراري يومئذ على قدر من التفاؤل، من خلال مطالبة النظام بإلغاء نفسه تفادياً لحرب أهلية طائفية مدمرة، كان في غير محله إذ ما كنت أعي في حينه، أي في الأسابيع الأولى لاندلاع الانتفاضة السورية ، دور العامل الخارجي إعلاماً وتمويلاً وتسليحاً، وهو الدور الذي يدفع اليوم الشعب السوري بجميع طوائفه ثمنه دماً وموتاً ودماراً غير مسبوق إلا هولاكياً، وهذا في ظروف إقليمية وأممية تشهد احتداماً في الصراع الطائفي السني/الشيعي ينذر بأن يكون تكراراً للصراع الطائفي الكاثوليكي/البروتستانتي البالغ الشراسة الذي كانت شهدته أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
يبقى أن أختم فأقول إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت. ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن.

ريم البنا - يا ليل ما أطولك


Rim Banna ريم بنّا - The Hymn of the Rain أنشودة المطر