الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

ماذا تعني الميثولوجيا ؟


عن المكتبة العامة

الميثولوجيا Mythologie (أو علم الأساطير) أحد العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تولي اهتمامها بقضايا الإنسان وتاريخه، وتولي اهتمامها الأول بدراسة الأسطورةوتفسيرها بوصفها ظاهرة ثقافية اجتماعية شديدة التعقيد، وتعتمد في تحليلها على وجهات نظر ورؤى متباينة تختلف باختلاف الفلسفات الاجتماعية السائدة في عصر من العصور.
إن الأسطورة بصورة عامة رواية ممتلئة بالرموز والدلالات الثقافية التي ترمي إلى تفسير جملة من الظواهر الاجتماعية، وهي تحاول تفسير ظهور العالم والخلق والإنسان والحيوان والعادات والتقاليد التي يعيشها الناس، كما أنها تحاول تفسير الأصول التاريخية للنشاطات الإنسانية والعقائد والأفكار.
وقد تستمد الأسطورة قسطاً من عناصرها من التاريخ الحقيقي المدوّن للمجتمع، ومن الخصائص الطبيعية المكانية التي يعيش فيها الناس، مما يجعل للأسطورة صلة وثيقة بالتاريخ مع احتفاظها بخصوصياتها التي تميزها منه، بانطوائها على عناصر خارجة من الزمن والمكان؛ على خلاف الحدث التاريخي الذي يقيده حدود المكان، وتحدده مسارات الزمان.
وفي حين تلج الرواية التاريخية إلى وعي الناس من خلال عقولهم وتفكيرهم النقدي ومناقشتهم تفاصيلها؛ مما يجعلها قابلة للنقد والأخذ والرد؛ يلاحظ أن الناس تتقبلالأسطورة بقدر كبير من التسليم الإيماني الذي يجعلها أمراً مسلماً به على نحو مطلق، وفي حين يحاول الناس فهم الحدث التاريخي من خلال ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعيشون فيها؛ يحاولون فهم الواقع بأجزائه وتفاصيله من خلال المعاني والرموز التي تنطوي عليها الأسطورة، فهي أقوى في معانيها ودلالاتها من الحدث التاريخي، وقد يسقط المرء فهمه للحدث التاريخي وللواقع المعاصر من خلال ما تنطوي عليه الأساطير من دلالات ورموز ثقافية.
وارتباط الأسطورة بالمقدس غالباً ما يكون أكبر من ارتباطها بالواقع مع عدم إغفال الصلة بينهما والتي بفضلها تفهم العقائد والشعائر والطقوس المكونة للثقافة فيالمجتمع، فصلة الآلهة بالطبيعة والإنسان والمجتمع، وتفسير آلية الخلق أكبر من أن تحدّ بزمان أو مكان؛ ولهذا تخرج عن حدودهما، ولكن الأسطورة تعود؛ لتنهل منهما بعض عناصرها؛ لتصبح أقرب إلى وعي الناس وفهمهم، فتسبغ على ذاتها القدسية التي تجعلها خارجة عن حدود النقد أو الرفض، وغالباً ما تنطوي على عناصر الثواب والعقاب التي تجعل منها أكثر قوة وتماسكاً.
وتشترك الأسطورة مع كل من الحكاية [ر] والخرافة وغيرهما من المفاهيم المشابهة لها في بعض الوجوه، وتختلف عنها في وجوه أخرى، ذلك أن هذه الأنماط من الإنتاج الفكري الإنساني لا تنطوي بالضرورة على ما هو مقدس، فالحكاية قد تروي قصص أبطال مغامرين ومتفوقين على غيرهم من الجنس البشري دون أن يتصفوا بالقداسة بالضرورة، كما هي الحال في الحكاية التي تحمل في مكوناتها قدراً من الأماني والرغبات التي يتطلع إليها الناس، وتستلهم من الوقائع التاريخية بعض عناصرها بعد تضخيم عناصرها الأخرى، كما هي الحال في الحكايات المروية عن أبطال الخير والشر والدفاع عن الإنسان وحقوقه وما شابهها، أما الخرافة فهي الرواية التي تفتقر إلى الحدود الدنيا من الواقعية والصدق، وتأتي كلها أو الجزء الكبير منها من صنع الخيال الإنساني.
ويعود الاهتمام بدراسة الأسطورة وفهمها من الناحية العلمية بوصفها نتاجاً للفكر الإنساني إلى القرن الثامن عشر؛ مع الفيلسوف الإيطالي جامباتستا فيكوGiambattista Vico ت(1668ـ1744) الذي أخذ بدراسة الأسطورة في ضوء الوقائع التاريخية، وكان له الفضل في إظهار دور الفكر الإنساني في إنتاج التصورات وأهمية الخيال البشري في صنع الأساطير. وفي القرن الثامن عشر ظهرت مجموعة من الأعمال التي حاولت دراسة الآداب والفنون في ضوء تطور الأسطورة ذاتها لدى كل شعب من الشعوب الإنسانية، ومن أكثر الأعمال شهرة في هذا السياق ما قدمه كل من فريدريش ماكس مولر [ر]Friedrich Max Mullerت(1823ـ1900) الذي وجد أن الأسطورة ما هي إلا نموذج لتطور اللغة تاريخياً، وميشيل بريَل  Michel Bréalت(1882ـ1915) الذي أولى اهتماماً كبيراً بعلم المعاني والدلالات التي تنطوي عليها تعابير اللغة بما فيها المعاني والدلالات التي تحملهاالأسطورة، ويأتي ذلك في سياق ربط الأسطورة باللغويات.
غير أن دراسة الأسطورة في سياقها الاجتماعي والتطوري انتشرت انتشاراً واضحاً في أعمال مجموعة من علماء الأنثروبولوجيا، كما في أعمال جيمس جورج فريزر [ر] Sir James George Frazer ت(1854ـ1941) الذي ميز بين ثلاث مراحل أساسية في تطور الفكر الإنساني؛ أولها السحر، ثم الدين، وأخيراً العلم، واهتم خصوصاً بدراسة الأسطورة والدين والأساطير البدائية، ويمضي عالم الاجتماع الفرنسي لوسيان ليفي برول Lucien Levy-Bruhl ت(1857ـ1939) في المسار ذاته عندما يجد أن الأسطورة تعكس نمط التفكير البدائي للإنسان؛ وأنها تعدّ مرحلة تاريخية مهمّة من مراحل تطوره.
كما يأخذ مارسيل موس Marcel Mauss ت(1872ـ1950) بمعالجة الأسطورة في سياق وظيفتها الاجتماعية معتمداً في ذلك على نظرية عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايمÉmile Durkheim ت(1858ـ1917) الذي جعل من الوظائف التي تؤديها الظواهر مدخلاً أساسياً لدراستها، ويمضي في الاتجاه ذاته الأنثروبولوجي البريطاني برونيسلاڤ وكاسبر مالينوفسكي  Bronislaw Kasper Malinowskiت(1884ـ1942) الذي وجد أنه لا يمكن فهمالأسطورة إلا في ضوء ما تؤديه من وظائف اجتماعية تسهم في تحقيق قدر كبير من التوازن في التفكير والتفاعل مع المتغيرات البيئية بصورة عامة، وبوساطة الفهم الوظيفي يمكن تحليل العادات والتقاليد والقيم والأفكار التي تنتشر في المجتمعات الإنسانية التي تختلف بين بعضها بعضاً باختلاف الخصوصيات الثقافية والحضارية لكل منها.
كما يعدّ عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس [ر] Claude Levi-Strauss واحداً من أبرز علماء الميثولوجيا؛ إذ استحوذت الأسطورة في نظريته على موقع أساسي ومهمّ، فهي من حيث المبدأ ذات وظيفة حيوية بالنسبة إلى كل ثقافة، وما من شعب من شعوب العالم إلا وفيه من الأساطير التي تحمل في مضامينها جملة واسعة من القيم والمعايير والمبادئ التي تؤدي وظائف حيوية بالنسبة إلى الحاضر، فقوةالأسطورة لا تأتي فقط من الماضي الذي نشأت فيه، وتناقلها الناس فيما بعد، إنما تكمن فيما تؤديه اليوم من وظائف حيوية بالنسبة إلى الجماعات في حياتها المعاصرة، فشأنها شأن اللغة في تاريخ الشعوب، فإذا كانت اللغة قد نشأت؛ وتطورت عبر مراحل زمنية موغلة في القدم، فإن أهميتها لا تأتي من الماضي الذي تشكلت فيه بقدر ما تأتي قيمتها من الوظائف التي تؤديها في الواقع المعاصر.
ويمضي شتراوس في دراسته الأسطورة معتمداً على نظريته في التحليل البنيوي، فهي أي الأسطورة من حيث المبدأ عنصر أساسي من عناصر الثقافة، ومكون رئيس من مكوناتها، ومن ثمّ فإن أيّ تحليل لثقافة المجتمع يتطلب بالضرورة تحليل بنية الأسطورةفيه التي قد تأتي على شكل عقائد أو فنون أو حكايات شعبية تفسر قدراً كبيراً من أنماط السلوك اليومي التي يعيشها الناس وجملة من العادات والتقاليد التي استقر عليها المجتمع، وهي تعزز بوساطة عملية التنشئة جملة المعايير الضابطة للسلوك الاجتماعي.
وإذا كانت الأسطورة تبدو من حيث الشكل خالية من التماسك المنطقي في تسلسل أحداثها، من حيث الزمن والمكان إلا أنها من حيث النتيجة تعدّ ميداناً لجملة من العمليات المنطقية اللاشعورية التي يمكن استخلاصها من الرؤية الإجمالية لبنيتها العامة على مستوى الثقافة الواحدة وعلى مستوى الثقافات المتعددة، ذلك أن قيمة العناصر المكونة للأسطورة لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقها العام، وكل محاولة لفهم هذه العناصر وهي منعزلة عن بعضها يفقد الأسطورة قدراً كبيراً من المعاني التي تحملها، وتنطوي عليها؛ ومن ثمّ تبدو الأسطورة بهذا المعنى خالية من الدلالات والمعاني. وقد دفع هذا النمط من التحليل بليفي شتراوس إلى دراسة أنماط متعددة من الأساطير في الثقافة الواحدة؛ وفي الثقافات المتعددة.
وبالنظر إلى ارتباط الأسطورة التي تعدّ الموضوع الرئيس للميثولوجيا، بمجالات أخرى كالدين والآداب والفنون وعلوم التاريخ والاجتماع والنفس وغيرها…؛ فإن اهتمامات الميثولوجيا ـ بوصفها علماً من العلوم الاجتماعية ـ أخذت تمتد إلى كل تلك الميادين، وعالم الميثولوجيا بهذا المعنى يهتم بكل هذه الميادين والمجالات؛ لأنها تقدم له ما يفيده في فهم الأسطورة وتحليلها ودراستها، فيبدو ارتباطها قوياً بالدين تارة؛ وبالآداب والفنون تارة أخرى؛ وبعلوم التاريخ والاجتماع والنفس تارة ثالثة.

الأحد، 14 أغسطس 2016

ما هي الإبستيمولوجية ؟



المكتبة العامة

الإبستيمولوجية epistemology مصطلح ذو أصل إغريقي مؤلف من كلمتين:epistemo وتعني المعرفة و logos وتعني علم. ويعني المصطلح حرفياً علم المعرفة أو علم العلم.
     وكان أول من وضع هذا المصطلح الفيلسوف الاسكتلندي جيمس فريدريك فيرييه (1808 – 1864) حين ألف كتابه مبادئ الميتافيزيقا. إذ قسم الفلسفة فيه إلى قسمين: أنطولوجية [ر] وإبستيمولوجية.
     أما المعنى المعاصر لمصطلح إبستيمولوجية في الفلسفة العربية والفرنسية فهو: الدراسة النقدية للمعرفة العلمية.
     ومع أن مفهوم «العلم» حاضر في تاريخ الفلسفة، ولاسيما عند أفلاطون وأرسطو وديكارت ولوك وليبتنز [ر] فإن الإبستيمولوجية بوصفها مبحثاً مستقلاً موضوعه المعرفة العلمية، لم تنشأ إلا في مطلع القرن العشرين حين اتجهت إلى تحديد الأسس التي يرتكز عليها العلم، والخطوات التي يتألف منها، وإلى نقد العلوم والعودة إلى مبادئها العميقة. وذلك بتأثير التقدم السريع للعلم، والاتجاه نحو التخصص المتزايد، وما ولدّه ذلك من تغيّر في بنية منظومة العلوم، ومن صعوبات وإشكالات ذات طبيعة نظرية.
     والإبستيمولوجية بوصفها الدراسة النقدية للعلم تختلف عن نظرية المعرفة [ر].
     ففي حين تتناول نظرية المعرفة théorie de la connaissance عملية تكون المعرفة الإنسانية من حيث طبيعتها وقيمتها وحدودها وعلاقتها بالواقع، وتبرز – بنتيجة هذا التناول – اتجاهات اختبارية وعقلانية ومادية ومثالية، فإن موضوع الإبستيمولوجية ينحصر في دراسة المعرفة العلمية فقط.
     وإذا كانت الإجابات التي تقدمها نظرية المعرفة «إطلاقية» وعامة وشاملة، فإن الإبستيمولوجية تدرس المعرفة العلمية في وضع محدد تاريخياً، من دون أن تنزع نحو إجابات مطلقة.
     بل ترى الإبستيمولوجية في التعميمات الفلسفية لنظرية المعرفة عائقاً أمام تطور المعرفة العلمية. ذلك أن التصورات الزائفة عن المعرفة تؤثر سلبياً في مجال المعرفة العلمية، وخاصة حين تضع حدوداً للعلم.
فالإبستيمولوجية ليست استمراراً لنظرية المعرفة في الفلسفة بل هي تغير كيفي في النظر إلى علاقة الفلسفة بالعلم، وتجاوز للتناقض بين نظرية المعرفة والعلم.
     وليس هذا فحسب، بل إن الإبستيمولوجية أتت على ما كان يعرف بفلسفة العلم philosophy of science التي تولدت من علاقة الفلسفة بالعلم وتناولت جملة موضوعات أهمها علاقة العلم بالمجتمع وتأثيره في تكوّن النظرة الفلسفية إلى الطبيعة والكون.
     أما من حيث الاختلاف بين الإبستيمولوجية ومنطق العلم [ر] logic of science، فإن منطق العلم أقرب المباحث إلى الإبستيمولوجية. ذلك لأنه يحلل لغة العلم تحليلاً منطقياً. ويبحث في مناهج الكشف العلمي ومنطقه، لكن أنصاره يقطعون كل صلة بينه وبين الفلسفة.
     وإذا كانت الإبستيمولوجية مبحثاً موضوعه المعرفة العلمية، وهدفه التحليل النقدي لها، فما هي مشكلات العلم التي تتطلب تدخلاً إبستيمولوجياً؟
     تعد مشكلة المسار الذي تسلكه المعرفة العلمية واحدة من أهم مشكلات الإبستيمولوجية.
     ولقد انقسم الإبستيمولوجيون – في النظر إلى هذه المشكلة – إلى فريقين: فريق نظر إلى مسار العلم على أنه سيرورة متصلة مستمرة لا انقطاع فيها ولا انفصال.
      وفريق آخر رأى أن مسار العلم مسار انقطاع واضطرابات وأزمات وثورات.
     ويعد إميل ميرسون Emil Meyerson وليون برنشفيك Léon Brunschvicg أهم دعاة الاتجاه الذي يقول بالاستمرارية. والمعرفة العلمية – من وجهة نظر هذا الاتجاه – استمرار وتطور للمعرفة العادية. كما أن كل معرفة علمية جديدة هي استمرار للمعرفة العلمية السابقة فتاريخ العلم سلسلة يتولد بعضها من بعض. وما التغير الذي يحدث في العلم إلا تغير تدريجي. ويدللون على صحة رأيهم بالتطور التدريجي للمنهجالعلمي وطريقة انتشاره.
     فالمنهج العلمي الاستقرائي الحديث تمتد جذوره في الماضي، وقد تمَّ انتشاره واستيعابه شيئاً فشيئاً عن طريق علماء متخصصين في العلوم الطبيعية ولاسيما في علمالفيزياء.
     أما من حيث لغة العلم، فيرى أنصار الاستمرارية أنها استمرار للغة العامة، مع تميز لغة العلم من هذه الأخيرة بطابعها الرمزي.
     أما الاتجاه الثاني الذي يقول باللااستمرارية وأهم ممثليه غاستون باشلار [ر] وتوماس كوهن Th. Cohn ولوي ألتوسير Louis Althusser وميشيل فوكوFoucault فإنه ينطلق – على العكس من الاتجاه السابق – من أن تاريخ العلم تاريخ قطْعٍ بين المعارف العلمية البالية والمعارف الباقية.
     والذي يفصل بين هذين النمطين من المعرفة العلمية هو مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية.
     ليست المعرفة العلمية امتداداً للمعرفة العامية، بل هي انتقال من التجربة إلى «العقلنة» rationalization ومن الملاحظة المضطربة إلى المعرفة الموضوعية.
     ولو صح أن المعرفة العلمية هي استمرار للمعرفة العامية لصح أن يكون اختراع المصباح الكهربائي استمراراً للمصباح العادي.
     ولكن الأمر ليس على هذا النحو، فاختراع المصباح الكهربائي ثمرة معرفة علمية بالعلاقات بين الظواهر، ودراسة وصلت مرحلة التعبير عن هذه العلاقات بصيغ رياضية.
     كما أن المنهج العلمي ذاته لايقوم على الاستمرارية، فكتاب ديكارت [ر] «مقال في المنهج» لاينطوي اليوم على أي فائدة تذكر في البحث العلمي، كما أن منهج بيكون [ر] الاستقرائي لم يعد صالحاً في تحصيل المعرفة العلمية.
     ولغة العلم – هي الأخرى – تختلف اختلافاً كلياً عن اللغة العادية، فاللغة التي تستخدمها الفيزياء ذات دلالة مختلفة عن اللغة العادية. حتى لو استعارت الفيزياء لغتها من هذه الأخيرة فلكلمة ذرّة في الفيزياء معنى مختلف عن كلمة ذرّة في اللغة العادية.
     ولغة العلم ومناهجه معياران أساسيان في حدوث القطيعة الإبستيمولوجية.
     فلغة العلم لغة متجددة دائماً والعلم صوغ مستمر للمفاهيم والمصطلحات، إلى حد تغدو معه لغة العلم الجديدة مختلفة عن لغة العلم القديمة.
     فلغة المنطق الرمزية عند رَسِلْ مختلفة كلياً عن لغة منطق أرسطو، لأن لغة المنطق الرمزية لاتحتمل أكثر من معنى واحد.
     وقد توصل مؤسسو علم الفيزياء الحديث إلى أن المنهج الاستقرائي [ر] أصبح عاجزاً عن قراءة كتاب الطبيعة، ولهذا عولوا على المنهج الاستنباطي الرياضي [ر]. ولقد توصل نيوتن إلى نظريته في الميكانيك وقانون الجاذبية عن طريق المنهج الاستنباطي وليس عن طريق الاستقراء.
     وإلى جانب مسألة تاريخ العلم تبحث الإبستيمولوجية في مسألة تصنيف العلوم. وهي مسألة عالجتها الفلسفة من قبل، غير أن الإبستيمولوجية رفضت التصنيفالسكوني للعلوم الذي يقوم على أساس تصنيف الملكات الذي يعود إلى أرسطو. إذ صنّفت العلوم وفقاً للملكات عل النحو الآتي:
       1- ملكة العقـل: وتشمل الرياضيات والفيزياء والفلسفة.
    2- ملكة الذاكرة: وتشمل التاريخ والتاريخ الطبيعي.
    3- ملكة الخيال: وتشمل الشعر.
     كما تجاوزت الإبستيمولوجية تصنيف العلوم على أساس الانتقال من أكثر العلوم عمومية وبساطة إلى أكثرها خصوصية وتعقيداً، وهو تصنيف يعود إلى أوغست كونت [ر].
     مع ذلك يتفق الإبستيمولوجيون على تصنيف موحد للعلوم فهناك التصنيف الجدلي للعلوم الذي قدمه الإبستيمولوجي السوفييتي ب. كيدروف الذي يرى أن العلوم ثلاثة أنواع:
     العلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية، والعلوم الفلسفية، مقتفياً في ذلك أثر أنغلز [ر].
    ولكنه رأى أن هناك علوماً متوسطة بين العلوم السابقة، فالعلوم التطبيقية: كالزراعة والطب، تقع بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. والرياضيات تقع بين العلوم الطبيعية والعلوم الفلسفية. ويرتبط علم النفس بجميع العلوم الأخرى إذ يرتبط بالعلوم الطبيعية من طريق نظرية النشاط العصبي ويرتبط بالعلوم الاجتماعية عن طريق علم اللغة ويرتبط بالعلوم الفلسفية عن طريق المنطق ونظرية المعرفة. أما الفلسفة فإنها تنفذ إلى جميع العلوم لأنها تمدها بالمنهج العام.
     أما جان بياجيه [ر] فيقسم العلوم إلى مجموعات أربع: العلوم المنطقية الرياضية والعلوم الفيزيائية والعلوم البيولوجية والعلوم النفسية – الاجتماعية ومنها الألسنية وعلم الاقتصاد. وبين هذه العلوم علاقة متبادلة.
     ويقترح فوكو تصنيفاً آخر للعلوم مؤسساً على مجال المعرفة العام ذي الأبعاد الثلاثة:
     البعد الأول: هو العلوم الرياضية والفيزيائية، وهي العلوم التي يقوم نظامها على تسلسل استنباطي للحقائق البدهية أو التي يتم التدليل عليها بالبرهان.
     والبعد الثاني: هو علوم الحياة والاقتصاد واللغة. وهي علوم تدرس ظواهر مستقلة لكنها ترتبط بروابط كليّة، وما يربط بين البعد الأول والثاني هو استخدام الرياضيات.
     البعد الثالث: الفلسفة، يرتبط هذا البعد بالبعد الثاني بتشابه الموضوعات. «الحياة والإنسان والرموز» كما يرتبط بالبعد الأول بإضفاء صفة الصورية على الفكر.
     أما العلوم الإنسانية فلامكان لها في تصنيف كهذا وهذا لايعني أنه لا وجود لها، بل هي موجودة على تخوم العلوم السابقة. فعلم النفس يعتمد على النموذج البيولوجي. ذلك لأنه يدرس كل ما هو امتداد للوظائف البيولوجية، وما يؤدي إلى قيام تمثل لدى الإنسان.
     ويعتمد علم الاجتماع على علم الاقتصاد، لأن موضوعه الإنسان الذي ينتج ويستهلك ويقيم علاقات مع المجتمع الذي يعيش فيه.
     وعلم الآداب والأساطير يجد نموذجه في علم اللغة، ومهما يكن من اختلاف في تصنيف العلوم، فإن هذا التصنيف يهدف إلى تحديد العلاقة المتبادلة بين العلوم، من حيث موضوعاتها ومناهجها. وتحديد أوجه التشابه والاختلاف بين أشكال المعرفة العلمية ومن الصعب تقديم تصنيف تام للعلوم ذلك لأن هناك علوماً جديدة دائماً وانقساماً مستمراً للعلوم القديمة. واكتشافاً لترابطات تنشئ علوماً متوسطة كالكيمياء الحيوية والفيزياء الحيوية والكيمياء الجيولوجية وغيرها.
     وإذا كانت مشكلتا سيرورة العلم وتصنيفه تنتميان إلى تاريخية العلم فإن بنية المعرفة العلمية تطرح – إبستيمولوجياً – مسألة إنتاجها والعلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع وبين العقل العالم ومعطيات الواقع، ليصار إلى تحديد دقيق للواقعة العلمية.
     فالعلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع في المعرفة العلمية علاقة مركبة، فلاوجود لواقعة علمية تُسند إلى معطيات مباشرة فقط من دون مبادئ عقلية، كما أنه لاوجود لمبادئ عقلية من دون معطيات مباشرة.
     ولما كان العلم يهدف إلى تحقيق المعرفة النظرية، فالمعرفة النظرية هي ثمرة العلاقة المركبة بين العقل والطبيعة. وإذا كانت العلاقة بين الذات والموضوع قد فهمت في المراحل المبكرة من تطور العلم على أنها حوار بين الذات، والموضوع المناقض لها، فإن العلم المعاصر قد دلل على تعقيد هذه العلاقة، فالحوار بين الذات والموضوع يجري اليوم بين عقل مسلح بكل المعرفة السابقة والموضوع الذي ركّبه نشاط العالم العقلي.
     ففي الفيزياء والكيمياء المعاصرتين لم تعد ظواهر العالم الخارجي – بوصفها معطيات مباشرة – هي موضوع المعرفة العلمية، بل تلك الموضوعات المعقدة التي نشأت بفعل تركيب دقيق وعميق من قبل العالِم المسلح بتقنية عالية، من دون أن تفقد هذه الموضوعات واقعيتها.
     وقد أصبحت التجربة العلمية، في ضوء ما تقدم صورة للنشاط الاختباري والمنطقي للذات. ولم يعد موضوعها صورة طبق الأصل عن الواقع الموضوعي. إنها ثمرة شروط هي ثمرة تدخل العالِم، وإن تدخل الذات – العالِمة قد طرح مسألة الدور الفاعل للذات في المعرفة العلمية. فالعلم – أساساً – يقوم بوصف علاقات بين متغيرات. والنظريات العلمية لاتنطوي إلا على عدد محدود من المتغيرات، على النقيض من الواقع الذي يحتوي على عدد كبير منها. فالظاهرة يمكن أن تتأثر بعوامل لاحصر لها. ويقتضي وصف الظاهرة ـ علمياً ـ إزاحة جملة من الصفات السطحية غير المهمة. ووضع فرضيات علمية عما هو أساسي وغير أساسي.
     ونتيجة لذلك لم تعد الواقعة العلمية مجرد ظاهرة خاصة، بل هي ثمرة تدخل نشط وفعّال لذات تتصف بالقدرة على التخيّل.
     فكل كشف أو توسع في المعرفة العلمية يبدأ، بوصفه تصوراً خيالياً قبْلياً لما يمكن أن تكون عليه الحقيقة العلمية. ولايمكن فهم عمل الخيال إلا من حيث هو إعمال العقل أو استخدام الحواس.
     غير أن العالِم لايستطيع أن يحوّل حدسه أو خياله إلى إبداع علمي من دون المثابرة العلمية، فيوحد، على نحو أصيل، الحدس والاختبار والموضوعية وسعة الأفق.
     إن الإبستيمولوجية لاتكتفي بتحديد الشروط العلمية لإنتاج المعرفة العلمية. وإنما تسعى – أيضاً – لبحث شروط المعرفة العلمية الاجتماعية. وآلية ذلك أن الاستقلال النسبي للمعرفة العلمية لايفصلها إطلاقاً عن شروط تكونها التاريخية – الاجتماعية، وهذا ما يجعل من مبحث علم اجتماع المعرفة جزءاً لايتجزأ من البحث الإبستيمولوجي.
     فلقد رأى جورج غورفيتش – مثلاً – أن الداروينية تتبنى في علم الحياة مبدأ التنافس في الحياة الرأسمالية.
     كما أن الأبحاث العلمية – لاسيما في العلوم الدقيقة – تكون في ترابط مع الأيديولوجيةوذلك بما تحتاج إليه تلك الأبحاث من مختبرات وأجهزة بحث واختبارات واسعة النطاق، ومؤسسات خاضعة على نحو ما لأهداف قومية.
     ويظل الحكم بوجود اختلاف بين العلم والأيديولوجية صحيحاً، فأحكام العلم أحكام حول حقائق قابلة للإثبات أو الدحض، وذات طابع موضوعي، تحظى بالقبول من العلماء، أما أحكام الأيديولوجية فهي أحكام قيمية، تتعلق بما يجب أن يكون، مع اعتمادها في كثير من الأحيان على حقائق علمية.
     لكن المشكلة التي تطرحها الإبستيمولوجية هي التالية: هل تمثل الأيديولوجية عقبة أمام تطور المعرفة العلمية أم هي حافز من حوافز تطورها؟
     إن العلم ممتزج بالممارسة الأيديولوجية وذلك حين يستعير القول الأيديولوجي ضماناته من النظريات العلمية. أو حين يتكون العلم في حقل الممارسة الأيديولوجية.
     وقد لاحظ كانغلم Canguilhem عندما تساءل عن انبعاث المذهب الحيوي Vitalismفي البيولوجية، أن تصور عودة المذهب الحيوي المتكررة الهجومية والدفاعية، بوصفها مرتبطة بأزمة ثقة المجتمع البرجوازي بنجوع مؤسساته الرأسمالية، ليس تصوراً عديم الجدوى ولا خطأً محضاً. وربما كان انبعاث المذهب الحيوي تعبيراً عن حذر الحياة الدائم تجاه مكننتها.
     وهذا يعني أن الأيديولوجية تقوم بتوجيه النظر العلمي في اتجاه ما، فتتحول إلى محرض لحركة العلم.
وليس هذا فحسب، فإن الأيديولوجية قد تقوم بدور الكابح لتطور بعض العلوم. إذا ما ناقضت نتائج هذه العلوم الترسيمات الأيديولوجية المغلقة. فتأخر علم البيولوجية في الاتحاد السوفييتي سابقاً لم يكن إلا ثمرة التعارض بين القول الأيديولوجي بدور الحياة الاجتماعية والقول العلمي بدور الوراثة.
     ويبقى السؤال مطروحاً: هل يفقد العلم موضوعيته مادام متسماً بسمة أيديولوجية، ومادامت الأيديولوجية عامل إفساد للموضوعية؟
     أن يجد العلم بدايته في وسط أوسع، أي في سياق اجتماعي وأيديولوجي، ووجود علوم سابقة عليه، فذلك لايحكم على شيء من حقيقته أو بطلانه حكماً مسبقاً. كما أن استناد العلم إلى إيحاءات أيديولوجية توجه مساره لايقود إلى عدم الثقة بحقيقته.
     وهذا يعني أنه يجب التفريق بين شروط نشوء العلم وتطوره، ومشكلة الحقيقة في العلوم.
    إن المسائل التي ذكرت. والتي تعالجها الإبستيمولوجية، تجعل القول صحيحاً بأن هناك إبستيمولوجية عامة. موضوعها العلم من دون تمييز العلوم الطبيعية من العلوم الإنسانية.
     واستناداً إلى ذلك، فإن الإبستيمولوجية مع كونه مبحثاً حاز على استقلاله النسبي في السنوات الأخيرة، تظل مبحثاً فلسفياً. خاصة لأنها تسعى إلى صوغ نظرية عامة في المعرفة العلمية. ولا أدل على ذلك من محاولة جان بياجيه إشادة نظرية في التكوين النفسي للعلم.
     ومما يؤكد انتماء الإبستيمولوجية إلى الفلسفة، تحولها إلى علم معياري، وهي تعالج مسائل العلم. لأن السؤال الأساسي الذي يكون خلف معالجاتها هو: ماذا يجب أن يكون عليه العلم؟
     غير أن الإبستيمولوجية العامة لاتنفي وجود مشكلات إبستيمولوجية لزمرة من العلوم أو لعلم جزئي. ومن ثم فإن هناك إبستيمولوجية خاصة وإبستيمولوجية جزئية، إلى جانب الإبستيمولوجية العامة.
فإبستيمولوجية العلوم الطبيعية، تتساءل: ما طبيعة القانون في هذه العلوم؟ ما دور مقولات الحتمية والمصادفة والاحتمال والغائية؟
     كما أن هناك مشكلات خاصة بالعلوم الإنسانية: كالموضوعية والفهم والتفسير والجانب الأيديولوجي لأحكامها. والعلاقة بين المنطقي والتاريخي في المعرفة الإنسانية، وإمكانية قيام نظرية اجتماعية، وهل هناك ملامح قانونية عامة في السيرورة الاجتماعية أم أن الواقعة الاجتماعية واقعة فذة؟
إن هذه المشكلات وغيرها هي موضع الإبستيمولوجية الخاصة بالعلوم الإنسانية.
لكن العلوم الجزئية تواجه هي الأخرى مشكلات خاصة بها، بسبب استقلالها النسبي.
     فإبستيمولوجية العلوم الحيوية تطرح جملة مسائل إبستيمولوجية من قبيل: هل هناك غائية في التطور الحي؟ وما العلاقة بين مفهوم الطفرة والتطور التدريجي في العالم الحي؟ وما الدور الذي يقوم به، منهجياً، مفهوم البيئة في تفسير الظواهر الحية؟
     وهناك مشكلات إبستيمولوجية خاصة بعلم التاريخ [ر]: كتحديد معنى الواقعة التاريخية الموضوعية في علم التاريخ، وهل التاريخ قابل للتفسير أو للفهم. هل هناك حتمية تاريخية؟
ولاشك في أن الإبستيمولوجية العامة، وهي تسعى إلى صوغ نظرية عامة في المعرفة العلمية، تستفيد من الإبستيمولوجية الخاصة والإبستيمولوجية الجزئية. والعكس صحيح أيضاً. انطلاقاً من واقعة انفصال العلوم وتكاملها في الوقت نفسه.
     لكن السؤال الذي يطرحه العقل الناقد هو: إذا كانت الإبستيمولوجية علماً للعلم ذاته ألا تحتاج الإبستيمولوجية نفسها إلى إبستيمولوجية تكشف عن مشكلاتها وعن الصعوبات التي تصادفها؟
والحق أن الإبستيمولوجيين أنفسهم يمارسون هذا الدور حين يختلفون في تناول المشكلات العلمية ويقدمون إجابات متعددة، ومتناقضة أحياناً منتقدين بعضهم بعضاً.
     وقد برز مثل هذا الاختلاف في مسائل تاريخ العلم وتصنيف العلوم.
    ومن ثم يصح القول: إن الشروط الداخلية والخارجية التي يخضع لها العلم هي ذاتها التي تخضع لها الإبستيمولوجية. كذلك فإن نزوعها العلمي لن ينجيها من طابعها الأيديولوجي.

الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

المجتمع العربي بين الثابت المعرفي والمتغير السياسي ـ مهند ديب

أنفاس نت


تؤكد لنا حركة التاريخ، أنه لا يمكن لنا النظر إلى مشاهد التحولات السياسية التي تطرأ على أي مجتمع من المجتمعات، بمعزل عن التحولات الاجتماعية_المعرفية التي تحدث بداخلها، فالثورة البلشفية _على سبيل المثال لا الحصر_ لم تكن لتنجح في سياق الواقع لو لم يؤسس لها كل من "ديستويفسكي" و"بوشين"، كما هو حال الثورة الفرنسية التي جاءت انعكاساً لأقلام كل من "فولتير" و"مونتسكيو" و"جان جاك روسو"، كما ينسحب ذلك على مجمل التحول التطوري الذي طرأ على أوروبا منذ الثورة الصناعية إلى اليوم، وهذا إن كان يدلل على شيء، فهو يدلل على أن التحول الاجتماعي_المعرفي، يغدو لزاماً بل شرطاً لكل تحول سياسي، يشكله، وينتجه، ويشير إليه، وهذا يذكرنا بمفهوم "الحرية" في فلسفة "كانت"، كما هو مفهوم "الثورة" في فلسفة "هيجل"، أي أن كليهما مجاله الفكر، وما أن يصطدما بالواقع، حتى يحكمهما عالم الضرورة..
 من جانب آخر، وبرؤية معاكسة، ومن خلال عرض الاجتماعي على ضوء مشهد الصراع السياسي، نقف أمام واقع مجتمعنا العربي، ونتأمل، فنجد أنه ثمة إرثا ثقافيا ساهم في فرز وعي مؤطر وجامد، لا يزال يعيد إنتاج ذات مشهد الخنوع والرضوخ السياسي العربي، وذلك منذ القرن الثامن الهجري تقريباً، مروراً بما فعله المغول والتتار، والعثمانيون، ثم الاستعمار الغربي، والصهيونية العالمية، انتهاء بما نعيشه اليوم من أحداث ما يسمّى "ثورات الربيع العربي" التي لعبت دور حصان طروادة، وذلك بما حملته من ملفات العدوان والتآمر الغربي على وطننا العربي..

هذا الأمر يدفعنا للتساؤل، لماذا بقي هذا التكلّس مرافقاً للوعاء الثقافي الخاص بالمجتمع العربي طيلة هذه القرون، علماً أن أشخاصاً مرّوا على ذهنية ووعي وثقافة هذا المجتمع، كان لهم الدور الحضاري الأبرز على مشهد تطوّر الحضارة الإنسانية، أمثال "ابن رشد" الفيلسوف العربيّ الذي مدّ الحضارة الغربية بمصل الحياة الأول، وهل لنا أن نلتمس دوراً وظيفيّاً لهذا التكلّس والتحجّر، في تشكيل وإنتاج فئات اجتماعيّة تحاكي من مشاهد شذوذ فعل، ما تجاوزته الإنسانيّة منذ قرون؟!!.. 
تدفعنا الإجابة لإماطة اللثام عن إحدى أهم العوامل التي تساهم في بناء المجتمعات أو هدمها، ونقصد هنا المنظومة الفاعلة التي من خلالها يمكن النظر إلى خصوصيات المجتمعات، والدخول إلى مكوناتها، واستعراض تشكيلات أنظمتها وقيمها، وهي منظومة (النسق المعرفي)، وهو النسق المسؤول مباشرة عن استمرارية وجود المجتمع وتفاعله ضمن اللوحة الحضارية للإنسانية، ولأن كان (النسق المعرفي) الخاص بالمجتمع العربي، قد تشكّل ونضج داخل عصر الحضارة العربية الإسلامية، نرى أنه لا بدّ لنا بداية، من التفريق والتمييز بين مفهومين تاريخيين لتلك الحضارة، وهما (إسلام الدين) و (إسلام الحضارة)، حيث أنّ الإسلام كمصطلح تاريخي يحتوي على العنصرين، وقد تعايش النمطان من خلال الصراع وكان لكل منهما بصماته على مجمل الصيرورة التاريخية لذلك العصر، ونتيجة للصراع، ومع حلول القرن الثامن الهجري تقريباً، توقفت بشكل عام كل الفعالية الحضارية، وانفرد الدين بالعالم الإسلامي، وبين هذا وذاك يكمن الفارق الجوهري الثقافي في تحديدنا (للنسق المعرفي).. 
من خلال هذا الخلط المشوّه المتعمّد بين هذين النمطين، تم تقييد (النسق المعرفي) للحضارة العربية الإسلامية، حرصاً على إبقائه داخل حدود إنتاج الوعي الديني، الوعي الذي يدفع باتجاه تأمين مشروعية السلطة السياسيّة دون أن يتجاوزها، فالقطيعة التي أقامها الدين مع الحضارة في الإسلام، جاءت مدمرة لفعالية الشخصية الحضارية للأمة العربية، فهي إمّا توقفت بها عند حدود "المطلق" المحايث للتاريخ، من أجل التحكم في مسارها بحيث يقف بها عند الماضي، فيبتر الزمان من آنيته الأساسية وهي المستقبل، وهو ما يعبّر عنه "التيار الأصولي"، وإمّا تجاوزتها بوعي كوني، ينفي التقليدي والتاريخي معاً، لينشد كل مجالات المعرفة خارج خصوصيتها ونسقها المعرفي، وهو ما يعبّر عنه "التيار العلماني"، ونتيجة لذلك بقي المجتمع العربي إلى اليوم غارقاً في الصراع القائم بين الماضي والحاضر، والقديم والحديث، وبعبارة أخرى بين "الأصولية الدينية" ومجمل النماذج المستعارة من الغرب.. 
ولكن مثلما أنّ الدين لا ينفرد بإنشاء حضارة، كما أنّه لا يكون سببا في انهيارها، حيث نرى أن هنالك عاملاً آخر، ساهم وبشكل كبير في اقتناص هذه الحالة وتثبيتها، من ثم استثمارها بما يخدم مصالحه التي لم تنفك عن منطقتنا العربية، وهو العامل الخارجي، الذي لا يخفى إلّا على المتجاهل والمتغافل منّا، إذ أن الأهداف السياسية للاستعمار الغربي جاءت متكاملة مع حالة الصراع التي أشرنا لها آنفاً _ولدينا من الأمثلة التاريخية ما لا يسعنا ذكره هنا، حيث كان مطلوباً أن يبقى هذا المجتمع متشرذماً بين هوة الاغتراب الواعي الحديث، والمكوث اللاواعي التقليدي.. 
وأخيراً ولأن كان ولا زال الفعل على مستوى الفضاء السياسي، محكوماً بفعل منتج الصيرورة الاجتماعية الداخلية، نرى أننا مطالبون اليوم وبحاجة ملحة، إلى مراجعة وإعادة تكوين وإنتاج (النسق المعرفي) داخل التراث الثقافي الخاص بحضارتنا العربية الإسلامية، وتفكيك أغلاله التاريخية، من ثم إطلاقه على أفق يجعله مرناً قابلاً للتفاعل مع مجمل ما أُنتج وما قد ينتجه التطور الحضاري الإنساني، الأمر الذي قد يتطلّب هدماً أنطولوجياً وفق تعبير "داريوش شايغان"، فهو يرى أنه عوضاً من أن ينفتح أفق الإنسان عمودياً على الدوائر السماوية، وعلى ((العلويات)) من حيث تنزل الرسالات الإلهية، فإنه يصطدم بالوقت الحاضر بالمستوى الأفقي لصيرورة خطية، مما يجعلنا مطالبون بإعادة تشكيل وتكييف، ولا نقول نفي أو مقاطعة، لمجمل منظومة (النسق المعرفي)، وذلك بما ينسجم بداية مع الصدمات الأولى الثلاث للعالم الحديث، وهي: (الصدمة الكوبرنيكية) و(الصدمة السوكيولوجية) و(الصدمة البيولوجية)، (فالنسق المعرفي) كما أشرنا له آنفاً، هو المسؤول مباشرة عن مرونة أي حضارة وتفاعلها مع مجمل ما قدّمه العلم الحديث، وبذلك نخلص أنه لا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن ينشد فعلاً حضارياً حقيقيّاً، أو أن يتحرر من وطأة التآمر والاستغلال والاستثمار والاستعمار الخارجي، خارج منظومة (النسق المعرفي) التي تحفظ له شخصيته الحضارية، وتحول دون أي محاولة عبث سياسي تسلب وعيه وتفتك مصيره.!..

المراجع:

ـ داريوش شيغان، ما الثورة الدينية؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة، ترجمة د. محمد الرحموني، ط1، بيروت، دار الساقي بالاشتراك مع المؤسسة العرية للتحديث الفكري، 2004م
ـ هادي العلوي، هادي العلوي حوار الحاضر والمستقبل، ط1، دمشق، دار الطليعة الجديدة، 1999م
ـ خالد العبود، حوار على أرض محايدة، ط1، دمشق، الأهالي للتوزيع والنشر، 1997م

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

في التربية على التنمية المستدامة ـ د. علي أسعد وطفة

أنفاس نت



غدا مفهوم التربية على التنمية المستدامة عنوانا حضاريا يفرض نفسه بقوة في مختلف المؤتمرات العلمية والتربوية الدولية التي ما انفكت تدعو بإلحاح جميع البلدان في العالم إلى توظيف التربية والتعليم كأداة لبناء مستقبل أكثر أمنا واستدامة لزمن تتناقص فيه الموارد وتهدر فيه الإمكانيات. فالتربية كما يُنظر إليها اليوم هي الوسيلة الأنجع في تحقيق التنمية المستدامة وإنجاز التقدم الإنساني والاقتصادي في مختلف وجوه الحياة والوجود والعمل. وقد أجمعت التجارب التنموية في العالم بمختلف أصقاعه على ضرورة توظيف الأنساق التربوية من أجل إحداث التغيير المطلوب في الاتجاهات والعادات والقيم للنهوض بالعملية التنموية الشاملة، وذلك لأن التربية معنية أيضا بتمكين الأفراد من التعرف على المشكلات التنموية والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها، كما أنها ضرورية أيضا لزيادة الوعي بالقضايا البيئية والأخلاقية، فضلا عن القيم والمواقف والمهارات والسلوكات التي تتفق مع مسارات التنمية المستدامة، وتضمن المشاركة الفعالة للجمهور في عملية صنع القرارات الاجتماعية المتعلقة بالتنمية. 
فالتعليم من أجل التنمية المستدامة يعاني اليوم، كما هو الحال في الماضي القريب، من غموض في النظرية والمفاهيم كما هو الحال في مجال التطبيقات العملية والميدانية ، وهو في صورته المتجددة يهدف إلى بناء المستقبل والإعداد للأجيال القادمة، وضمن هذا المنظور يجب على الأنظمة التربوية في بلداننا أن تعيد النظر في تجربة هذا التعليم وممارساته ومفاهيمه ولاسيما في مجال القيم والممارسات اليومية التي تأخذ طابعا تنمويا مثل : (الاستهلاك، والتلوث، والهدر، والتوفير، والمحافظة على البيئة إلخ.) ، وهذا الأمر لن يحدث دون مواجهة صعبة تتخللها أنساق من والتحديات والرهانات .
فالرهان التربوي على المستقبل يتطلب اتخاذ قرارات حاسمة قادة على تثوير العقليات وتغيير الذهنيات التقليدية القديمة واستبدالها برؤية جديدة وعقليات أخرى متجددة تتناسب مع متطلبات المرحلة التاريخية الجديدة ضمن مطالبها المتجددة ، ومثل هذه القرارات المصيرية قد تبدو لنا غير مرضية أو مقبولة اليوم، لأنها تتعارض مع قيمنا وعاداتنا، ومع ذلك فمثل هذه القرارات ستكون مناسبة وضرورية ومرغوبة بالنسبة للأجيال المقبلة. فالتعليم من أجل التنمية المستدامة يهدف في واقع الأمر إلى تعزيز القيم الأخلاقية التنموية وبناء نسق من العادات والتصورات والمفاهيم الجديدة عن طريق التعليم في مختلف المستويات والاتجاهات ليكون لها تأثير كبير في نمط الحياة والسلوك ولتكون قادرة على المساركة  في بناء مستقبل يتميز بالاستمرارية والديمومة.
فالغاية من التربية على التنمية الدائمة والمستدامة تهدف إلى تغيير الاتجاهات وأنماط التفكير والسلوك الاجتماعي السائد في المجتمع، وهي تشكل نمطا من التربية الجديدة التي تمكن التلاميذ والطلاب من الوصول إلى المعرفة الحقيقية والخبرات التي تساعدهم في تفهم الإشكالية التنموية في أبعادها الشمولية والكلية.
وإذا كنا في حقيقة الأمر نسعى إلى إحداث التغيير في القيم لدى المتعلمين فإنه من الضرورة بمكان إحداث ما يماثل هذا التغيير لدى المعلمين. فالمعلمين الذين يعكسون التوجهات القيمية التقليدية لمجتمعاتهم، لن يستطيعوا التكيف مع متطلبات التغيير الجديد في مجال القيم الباعثة على التغيير باتجاه التنمية المستدامة، ومع متطلبات السلوكيات الجديدة نحو البيئة ما لم يحققوا التغير في أنفسهم وفي توجاتهخم التقليدية وما لم يغيروا في عقلياتهم ، إذ لا يمكن لهم تغيير العالم ما لم يغيروا في أنفسهم بداية . وتكمن الصعوبة في إشكالية الدور التربوي المتناقض للمعلمين حراس التقاليد الذين لا يمكنهم أبدا أن يقوموا بحضّ الطلاب وإقناعهم على رفض السلوكيات السلبية إزاء التنمية في الوقت الذي يمارسون فيه أنفسهم القيم السوكية نفسها، وذلك على مبدأ قول الشاعر لا تنه عن خلق وتأي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم. فالمعلم مطالب دائما أن يطابق بين السلوك والعمل وبين النظرية والتطبيق وألا يسمح للتناقض بين هذين الجانبين أن يؤثر سلبا في ممارساته التربوية.
ومن الضرورة بمكان تعزيز أهداف التعليم من أجل التنمية المستدامة عبر فعالية المساءلة والإحساس بالمسؤولية، ومثل هذه المساءلة يجب أن تأخذ في الاعتبار الركائز الثلاث للتنمية المستدامة كي تكون فعالة كاملة وذات مصداقية ضمن مساراتها الثلاثة: المسؤولية الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإحساس بالمسؤولية يجب أن يأخذ طابعا عمليا، وألا يبقى سجين الوعي الخالص. ومن هذا المنطلق فإن المسؤولية الاجتماعية تفرض ضرورتها وحضورها في هذا المجال، وذلك لأن المسؤولية الفردية لها حدود واضحة، ولا يمكن الاعتماد عليها وحدها في عملية تحقيق الوعي المسؤول بضرورة تحقيق التربية المستدامة.
وهناك العديد من التعريفات لما ينبغي أن يكون التعليم من أجل التنمية المستدامة. التي يمكن تعريفها بأنها عملية دائمة للتعلم تسهم في تكوين المواطنين واكسابهم المعارف، والمهارات العملية، وطرق العيش المشترك لتمكنهم من الانخراط في الأعمال الفردية والجماعية على أساس مبادئ التكافل والتضامن التي من شأنها تعزيز التناغم والتوازن بين المجتمع والفرد والبيئة . وينشد هذا التعليم تحقيق مجتمعات مستدامة إيكولوجيا وعادلة في مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وذلك كله من أجل الأجيال القادمة.
لماذا التربية على التنمية المستدامة في المدرسة:
ينبغي علينا أن نتساءل في البداية حول مشروعية إدخال التربية على التنمية المستدامة داخل المدارس والبرامج التعلمية: هل يحظى هذا النمط من التعليم بمشروعيته كمادة للتعليم في المدرسة؟ أليس لدينا لدينا ما يكفي ويزيد من المواد والمقررات في المدرسة؟ وهنا يجب علينا أن ندرك بأن ادماج التعليم المتصل بالبيئة (وعلى نطاق أوسع التنمية المستدامة) في المدرسة يستجيب إلى حاجات أساسية ملحة جدا، وأهمها يتمثل في الوضعية البيئية المأساوية التي نعيشها اليوم والتي تشكل حافزا حيويا للاهتمام بالتربية البيئية وجعلها واحدة من القضايا الاستراتيجية المركزية في مجتمعاتنا المعاصرة.
 ومن الطبيعي جدا أن يكون موضوع التربية على التنمية مهما في المدرسة لأنها تشكل العمق الوجودي لمجتمعاتنا المعاصرة . وعلينا أن نلاحظ في هذا السياق أن التعليم يأخذ طابعا تقليديا جدا في مدارسنا، ويتجلى ذلك في وجود متعاظم لحدود وحواجز بين التخصصات العلمية، وفي حضور انفصام كبير ما بين المدرسة والواقع، وما بين النظرية والتطبيق. وهنا يأتي دول التعليم على البيئة والتنمية المستدامة كأداة لتغيير المدرسة وكسر الحواجز القائمة بين الاختصاصات من جهة وبين المدرسة والواقع الحي من جهة أخرى، وهذا يعني أن التعليم على التربية المستدامة يشكل وسيلة تغيير جوهرية في عالم المدرسة من الداخل والخارج، كما يشكل في الوقت نفسه عامل تغيير في منظورنا للمدرسة بوصفها مكانا عاجيا ينفصل عن الواقع ويعاني من شجونه وتصدعاته الداخلية. ويضاف إلى ذلك أن ضعف المعرفة والوعي بقضايا البيئة والحياة يجعل الناس غرباء عن الطبيعة لأنهم يعيشون في عالم تحكمه التكنولوجيا التي يعرفونها قليلا ويسيئون استخدامها كثيرا.
وفي هذا السياق يجب علينا التأكيد على أهمية الأخذ بمنهاج التربية على التنمية المستدامة ودمجها في العملية التربوية، كما يترتب علينا في هذا السياق أن نحدد ما الذي يجب معرفته في كل مادة ندخلها في المنهاج المدرسي؟ وما الذي يجب القيام به؟ وكيف يجب علينا أن نفكر؟ وأخيرا ما الذي يجب أن نقاومه ونرفضه ؟ وما الأمور التي يجب أن نلح عليها ونجعلها ضمن بؤرة اهتمامنا في هذه التربية؟
 وهناك اليوم عدة نماذج تربوية لإدماج التربية على التنمية في مجال المؤسسات التعليمية،  فهناك النموذج الموسوعي le paradigme encyclopédiste الذي يعتمد على مصادر المعلومات في عملية التربية على التنمية، وقد اصبح هذا النموذج التقليدية مرفوضا إلى حد كبير لأن أنظمة المعلومات المدرسية ليست جامدة بل تتغير في مجرى الزمن ومن المعروف أن التعليم الموسوعي يتصف بجموده واستقراره وعدم قدرته على التجاوب مع عمليات التجدد المستمر في المعرفة والحياة.
 ويمكن في هذا السياق الحديث عن النموذج السلوكي (paradigm béhavioriste) وهو المنهج الذي يؤكد على أهمية إحداث تغيرات في السلوك التربوي للطفل والمتعلمين، حيث يمنح هذا النموذج الأطفال والمتعلمين حرية التعبير عن مشاعرهم ومعارفهم سلوكيا، ومهما يكن فإن هذه المعارف العملية ضرورية من أجل المحافظة على البيئة وحمايتها وتطويرها. وهذا المنهج كما يتضح يركز على الجانب السلوكي ولا يأخذ بعين الاعتبار الرؤية الكلية الشمولية لقضية البيئة في مستواها الكوني.
ويمكن استحضار النموذج النظمي (Le paradigme systémique) الذي يستدمج طرقا جديدة في التفكير وفق الرؤية النظمية في داخل المدرسة وفي ذهنية الطالب، حيث يكون العالم نظاما يتكون من عدة أجزاء متفاعلة، وهنا يجب على الطفل أن يأخذ مكانه ضمن هذا النظام الكوني، ويمكن أن يساهم فيه ويؤثر في معطياته سلبا أو إيجابا. وهذا النموذج يؤكد كما هو واضح على انه يجب على كل فرد في المجتمع أن يدرك علاقته التضامنية التفاعلية مع كون أشمل، حيث يمارس الكل تأثيره في الكل ولا أحد أبدا يمكن أن يكون عاجزا أبدا عن التأثير في هذا العالم الذي يعيش فيه.
أما النموذج النقدي، فيركز كما يتضح من اسمه على توليد النزعة النقدية في التفكير عند الطلاب والتلاميذ في قضايا التنمية المستدامة ومفاهيمها، حيث يتوجب على الطالب أن يكون نقديا وأن يمتلك ناصية التفكير ويكون قادرا على التجاوب والتفاعل سلوكيا على نحو نقدي. ومن البداهة القول في هذا المقام إن اعتماد مثل هذه التربية النقدية في المدرسة وتبنيها ضمن المناهج سيواجه بالتأكيد صعوبات جمة أبرزها ضعف المستوى النقدي عند المعلمين، والحاجة إلى بناء مناهج متخصصة في هذا المستوى.
فالتربية على التنمية المستدامة سيكون لها تأثير على بنية الجدول الزمني للدروس ويمتد هذا التأثير ليشمل البنية العامة للمدرسة ووظيفتها. ويرى بعض الباحثين في هذا الخصوص أن استدخال التربية على التنمية المستدامة يعني في جوهر الأمر تغيير المدرسة وتثويرها في جوهر الأمر .
على سبيل المثال، يتجاوز التداخل العلمي ما بين الاختصاصات مختلف المضامين البيداغوجية المرتبطة بالتربية على التنمية المستدامة، وهذا يعني أنه يتوجب على التربية التنموية أن تتخطى الحواجز القائمة بين الاختصاصات العلمية، وأن تعمل على هدمها من أجل أن تعطي المعنى والدلالة للعملية التربوية برمتها.
إن تضمين التربية على التنمية المستدامة ليس في واقع الأمر مجرد عملية حسابية نضيف فيها مادة أو مقرر دراسي إلى المنهج المدرسي، بل هي عملية جوهرية تتمثل في مقاربة قضايا حيوية من أجل إحداث تغيير حقيقي في سلوك الأطفال، وتشكيل وعيهم على نحو إيجابي، فيما يتعلق بنظرتهم إلى الطبيعية والبيئة والحياة. فالتربية على التنمية يجب أن تقدم في هذا المجال بوصفها بنية معرفية كلية تضيء على كل المواد وتتجاوزها في الآن الواحد. ولهذا يبدو لنا ضروريا أن تحظى هذه التربية بالمشروعية الكلية وأن تحتل مكانها ضمن وبين وفي مختلف المقررات والمستويات المدرسية.
ففي المرحلة الابتدائية يمكن تحقيق التكامل المطلوب بين المقررات على أرومة التربية على التنمية المستدامة بسهولة، وذلك لأن المعلم الواحد يستطيع أن يستجمع في ذاته القدرة على تحقيق هذا التكامل بين مختلف المقررات التي يدرسها. ولكن هذا الدمح والاستحضار يحتاج في المرحلة الثانوية إلى تكامل الجهود الواعية بين المعلمين والإداريين والمدرسين من مختلف الاختصاصات في عملية دمج معطيات هذه التربية في مضامين التعليم.
منهجية التربية على التنمية المستدامة:
 لا بد في حقيقية الأمر من توفير المناهج التربوية للتنمية المستدامة لإحداث التغييرات الفعالة في المواقف والسلوك لدى المعلمين المتعلمين. ويلاحظ في هذا السياق أن الأنظمة التربوية العالمية وضعت مناهج وطرائق متعددة من أجل تكريس قيم التنمية المستدامة والحفاظ على البيئة. وغني عن البيان أن تكريس مثل هذه التربية لا يقف عن حدود التثقيف والتوعية البسيطة في هذا المجال، فالتثقيف العادي لا يمكنه أن يحدث تغييرا ملموسا وجوهريا في السلوك الإنساني ولاسيما في مجال العقليات والذهنيات.
 ونظرا لأهمية البعد الاستراتيجي للتربية على التنمية، ظهرت عدة اتجاهات تربوية معاصرة تحاول تحقيق أهداف التربية على التنمية المستدامة، وهذه الاتجاهات المتنوعة تشكل جزءا من تصور بيداغوجي بنيوي وشامل في مجال التربية والتربية على التنمية. والجدير بالذكر هنا أنه لا يمكن لاتجاه واحد أن يحتكر التربية على التنمية المستدامة وأن يزعم كفايته وأوليته ليكون قادرا على الوفاء بمتطلباتها، وذلك لأن هذا النوع من التربية يتصف بدرجة كبيرة من الدقة والصعوبة والتعقيد.
فكل من هذه الاتجاهات يمتلك رؤيته التربوية ويضع مناهج وتصورات وطرائق في مجال التربية على التنمية، ومن الضروري تقييم الفعالية التي تؤديها هذه المناهج والاتجاهات وأن نقارن بينها في مستوى التأثير الذي تمارسه في عقول المتعلمين وفي مستويات قدرتهم على استيفاء قيم وسلوكيات التنمية المستدامة.
 وعلى الرغم من تنوع هذه الاتجهات التربوية وتناميها فإن هذه الاتجاهات تأخذ مسارين أساسيين:
مسار التخصصات، ومسار المشروعات.
 فمسار التخصصات يركز على الموضوعات المحددة الخاصة للتربية على التنمية، ويقتضي هذا المسار وضع ثوابت علمية واضحة على شكل موضوعات تتعلق بالبيئة والتنمية،  ويلاحظ بصورة عامة وجود اتفاق على أنه يجب استخدام الموضوعات التي تتعلق بالماء، والطاقة، والنمو السكاني الديمغرافي ، والإنتاج والاستهلاك...الخ. وهذا يسمح للأطفال والناشئة بالتعرف على مختلف جوانب هذه القضايا التنموية وان يمارسوا السلوك الصحيح إزاءها.
ويبدو لنا أن التربية بالمشاريع هي التربية الأكثر ملاءمة لتحقيق أهداف التربية على التنمية المستدامة، وذلك ضمن حالات واقعية مجسدة، ويعني ذلك بناء المعرفة وتشكيل وعي التلاميذ من خلال عملية إيجاد الحلول للمشكلات القائمة. على سبيل المثال مشكلة الوجبات السريعة، وإدارة الوقت، ومسألة النفايات، ونافورات المياه في المدرسة...الخ.  وتهدف هذه المشاريع إلى تحقيق مبدأ المشاركة بين الطلاب وتكوين الحس النقدي فيما يتعلق بالتنمية المستدامة وذلك ضمن العمل الجماعي المشترك. وهذه الخطوة يمن اعتمادها في داخل الصف، وفي عدة صفوف أو على مستوى المدرسة.
فالتربية بالمشكلات مهمة جدا في ترسيخ الوعي التنموي عبر التفاعل الحي مع الواقع ومعطياته. فالطلاب يتفاعلون مع الوضعيات الحقيقية التي تدفعم إلى طرح تساؤلات والقيام بتجارب والمشاركة الفعلية في الحوار من أجل الوصول إلى قرارات جماعية. فالوضعيات الإشكالية في هذا المسار تتمحور حول عقبات وتحديات يواجهها الطلاب ويعملون على حلها.
ومن المؤكد أن هذين الاتجاهين التربويين ( سواء أكانت عبر التربية بالمشروع أو التربية بالموضوع)  يتكاملان ضمن ما يمكن أن نسميه بالاتجاه النظمي. حيث يتم الاهتمام في البداية بقضايا جزئية منفصلة ، ومن ثم الانتقال لاحقا إلى رؤية كلية شمولية،  تمكن من النظر إلى المشهد التربوي بكليته دون الانشغال بتفاصيله الجزئية. وهذا التوجه الكلي يسمح ببناء علاقات معقدة بين مختلف العناصر التي تكوّن النظام برمته. فالتغيرات السوكية المحتملة تؤدي في نهاية الأمر إلى عملية بناء المعرفة، كما تؤدي إلى تغيير القيم وتأصيلها أيضا. والقيم هنا لا تظهر على طريقة الصح والخطأ بل تتجلى كمبادئ إنسانية تنموية فعالة في بناء الوعي وتشكيل السلوك على حدّ سواء.
 وتتم عملية تشكيل الوعي التنموي المتكامل في مرحلتين أساسيتين : تتمثل المرحلة الأولى فيما نسميه مرحة التوعية، وتحقيق هذه المرحلة يتم بسهولة وببساطة، والعمليات التي تعتمد في هذه المرحلة متعددة كما هو الحال في مجال توليد الأمثلة الواقعية. وهذه المرحلة تشكل بداية البرنامج التربوي حول موضوع ما. وهذه المرحلة هي التي يمكنها أن تعطي معنى ودلالة لعملية التدريب والتعليم، حيث يتم تعزيز الشعور بأهمية التنمية المستدامة والتحفيز على الفعل والممارسة التنموية. وعلينا أن نأخذ هنا بعين الاعتبار أن التوعية في هذه المرحلة غير كافية لوحدها من أجل إحداث تغيير في السلوك إذ لا بد من الانتقال إلى مستويات أكثر أهمية تتعلق بتكوين الاتجاهات والميول وتشكيل العقليات التنموية.
وفي المرحلة الثانية  تأتي  عملية تنمية هذا الوعي التنموي وتكوين الاتجاهات التنموية وبناء عقليات جديدة بأهمية السلوك التنموي عبر الموضوعات المتخصصة بقضايا التربية على التنمية وهي كثيرة جدا ، ويمكن توظيفها بشكل جيد في داخل الصفوف والقاعات، وهذا ممكن في جميع المواد والمقررات المدرسية. ويمكن القول في هذا السياق بأن هذه المرحلة كما هو الحال في سابقتها سهلة التنفيذ والتطبيق. فالنشاط المدرسي يسمح للتلاميذ في التعليم عبر التدريب والمحكاة التعلم كيفية التوفير والاقتصاد في الموارد والطاقة، ولا سيما فيما يتعلق بالتوفير والاقتصاد في مختلف أشكال الموارد المائية والكهربائية والغذائية وغيرها.
خاتمة
وباختصار يمكن القول بأن التربية على التربية المستدامة تعد اليوم من أولويات التربية والتعليم في عالمنا المعاصر، وتقتضي الضرورة اليوم العناية بهذا النوع من التربية وإدماجها كليا أو جزئيا في مناهجنا المدرسية كي يتسنى لمجتمعاتنا أن تنهض بمواردها وأن تقلص مستويات الهدر والتبذير والإسراف المدمر في مختلف جوانب حياتنا الإنسانية والاقتصادية. ومما يؤسف له أن التربية على التنمية لم تأخذ دورها ومكانتها التي تليق بها في المدرسة العربية المعاصرة التي ما زالت حتى اليوم بعيدة جدا عن مقاصد هذه التربية ومناهجها . وما أحوجنا اليوم إلى تغيير تربوي يأخذ بعين الاعتبار أهمية البعد الإنساني والحضاري للتربية على التنمية التي تفرض نفسها اليوم ضمن الضرورات الحضارية المستجدة لعالم يفرض فيه المستقبل تحدياته المصيرية .