السبت، 14 يناير 2017

علوم التربية الزمن التربوي بين التبذير و التدبير - د. محمد الصفاح

انفاس نت



يعد الزمان من المعضلات الكبرى التي شغلت بال الإنسان مسببة له الحيرة ، والقلق٬ بسبب طبيعته المبنية على بنيتين متضادتين :
1-    بنية الليل : حيث الظلام و الخوف و السكون.....
2-    بنية النهار: حيث انتشار الضوء وتبدد الخوف و عودة الحركة٬ و الانتشار عبر أنحاء الكون. و هوتضاد أدهش الإنسان القديم ٬فلم يجد له تفسيرا منطقيا ، يخرجه من الحيرة العقلية والقلق الوجودي ٬ و الاضطراب النفسي. فظل يشعر بقوته وجبروته ٬ خاضعا خانعا لسلطته و سطوته ، مستسلما للعيش على السجية والعفوية ٬  يتحرك بالنهار ويسكن بالليل ٬ دون معرفة أوعلم بما يجري حوله.
لكن مع تطور البنية الذهنية الإدراكية للإنسان وفي ظل التقدم الحضاري٬ ظهرت حقيقة الزمن وانكشفت هويته ٬ عبر قراءات متعددة أجمعت على أن الزمن ليس فقط ظاهرة كونية يحكمها التعاقب المنظم لحركة الكون ٬ بل هو قيمة كبرى تتحكم في وجود الإنسان ، مركز الكون، وبناء مصيره الفكري ٬ و الثقافي والاجتماعي و الحضاري..... ولعل أجمل ما قيل في شأنه "انه طاقة غير متجددة". وبما انه كذلك ٬ فإما أن يستهلك على الوجه الأمثل، فيكون زمنا ايجابيا، نافعا، مثمرا .(الزمن الفعال الايجابي....أو ما يسمى بزمن ولوج الحضارة ). و إما أن يستهلك بكيفية مناقضة، فيكون عامل تدمير، وهدم. أي زمن عقيم ٬ سلبي٬ أو ما يسمى بالزمن العائق. وعلى هذا الأساس يمكن القول ٬أنه إذا كان الإنسان قديما قد عانى أزمة / معضلة التفسير ٬ فان إنسان حديثا، يعيش شرنقة أو أزمة التدبير والتقدير . بمعنى ٬ أن الإنسان في ظل السياق الحضاري المعيش ذي الخصوصيات المركبة والمعقدة ٬ يجد صعوبة جمة في تدبير زمانه . والموضوعية تقتضي الجزم أن الزمن أصبح خارج السيطرة٬ بفعل سوء التدبير ٬ لا سيما الزمن التربوي . وهنا يطرح السؤال الملح ٬كيف ينفق الزمن التربوي داخل المؤسسات التربوية؟
من خلال ملاحظة وقراءة بنية الأحداث الناظمة للمشهد التربوي داخل المؤسسات التربوية ٬٬ يمكن القول ٬ أن الظلم واقع على الزمن٬ إذ لا ينفق بكيفية تربوية مرضي عنها .وذلك لما يصدر في حقه من هدر وتضييع  قويين.. ويتعلق الأمر في هذا الصدد بالمتمدرسين الشاهرين سيوف التمرد على الزمن٬ محاولين اغتياله كلما سنحت لهم الفرصة . و عملية التأهب للقتل عبر شحذ سنان العبث ٬ تبدأ من خارج أسوار المؤسسة ٬ إلى عقر الفصل. فالمتمدرس يخاصم الزمن ويلاحقه بالإساءة والاعتداء في كل زاوية من زوايا المؤسسة. فيلاحظ ،وهو يتلكأ ٬ ساعيا لضياع الوقت بطرائق مختلفة منها :
-    عدم الرغبة في دخول الفصل. 
-    اختلاق الاعذار للخروج من الفصل. 
-    عدم الالتحاق بسرعة إلى الفصول فور سماع رنين الجرس.
-    السرعة في الخروج من الفصول عند رنين الجرس.
-    الاختباء في أماكن غير مكشوفة.
-    الإحساس بالسعادة والانتشاء عند غياب الأستاذ لسبب ما.
وهي بعض المظاهر الصادرة عند المتمدرسين المعبرة وبوضوح عن علاقاتهم المتوترة / المتنافرة بالزمن ٬ الشيء الذي يجسد صورته العكرة داخل المؤسسات التربوية ٬ ويعكس بجلاء وضعه الاعتباري المشوش داخل البنية الذهنية . ومن هذا المنطلق يمكن القول أن التدبير الزمني لا يسير وفق المنطق التربوي ٬ الذي يلح على ضرورة التحكم في الزمن المدرسي ٬ لخدمة الأغراض التربوية ، وفق خريطة زمنية مضبوطة ورؤية إستراتجية واضحة ٬ بعيدا عما يسمى "فوضى التدبير الزمني". وهو وصف يصدق على مؤسساتنا التربوية٬ مع العلم أن السلطات الإدارية الوصية على القطاع ٬ ومن باب الحرص على الزمن ٬ والحفاظ عليه ٬ سطرت خريطة زمنية ٬  وزعت بمقتضاها المواد الدراسية٬ وذلك وفق وعاء زمني محدد . إلا أن سوء التدبير الذي تتقاسم مسؤوليته ٬ يجعل الزمن المدرسي لا  يسثتمر بالكيفية التربوية المتوخاة ، مما يؤثر سلبا على عملية التحصيل والمردودية لدى المتلقين . وهي نتيجة مباشرة لجملة من الأسباب النسقية٬ وعلى رأسها انعدام الإحساس بالزمن كقيمة فاعلة في الحياة ٬ يقتضي الحال التحكم فيها ، بما يحقق المنفعة على المستوى الفردي والجماعي.وذلك بالتفاعل الايجابي والبناء معها . وللخروج من معضلة سوء التدبير الزمني في بعده التربوي الفاعل العميق ، ينبغي اعادة بناء علاقة جديدة مع الزمن اللربوي ، وفق رؤية تصالحية مقنعة٬ تؤكد على أن نجاح القطاع التربوي رهين بالقدرة على التحكم في الزمن واستثماره بكيفية عقلانية ٬ ووفق معايير تدبيرية تعيد الثقة المفقودة بين المتمدرسين و الزمن و ذلك بتضافر و تكاتف جهود الفاعلين المباشرين ، و غير المباشرين، القادرين على الثاتير ايجابا في هذا الشأن. و هم : 
1- الأسرة: وينبغي القيام بواجبها كاملا ٬ باعتبارها الخلية الساهرة على التربية والتنشئة الاجتماعية٬ وذلك من  خلال آليتي :  
ا. التحسيس بأهمية الوقت وقيمته في صنع الإنسان . فكريا ٬وثقافيا ٬ واجتماعيا ...... اعتمادا على أسلوبي : 
- الترغيب : القاضي بالمكافأة  أثناء المحافظة على الوقت واحترام المواعيد.
- الترغيب : والرامي إلى الحرمان أو العقاب ٬ أثناء تضييع الوقت والتهاون في تقدير الزمن.
ب. والمراقبة المواكبة للتمثلات الذهنية الإدراكية حول الزمن . لمعرفة الخاطئة منها ٬ والمبادرة إلى معالجتها وتصحيحها لتصبح بذلك قناعة تربوية ٬ ترقى إلى مستوى المعرفة اليقينية العلمية ٬ فتتحول على إثرها بطريقة واعية أو لاواعية إلى سلوك عملي ممارس. بينا قد يؤدي عدم الوعي بها حتما إلى ترسيخها في البنية الذهنية ٬ وغرسها في البنية النفسية فتغدو بذلك قناعة فكرية ٬ تترجم على مستوى السلوكات والمواقف والوضعيات.
2-الإعلام: ودوره قوي التأثير  ، جم الفائدة ، حينما توجه مادته إلى توضيح أهمية الزمن وقيمته ونفعه ومردوديته على مستوى الفرد والجماعة .وذلك بتسخير الوسائط الإعلامية السمعية والبصرية بهدف التوجيه و الإرشاد.
3-السلطات الإدراية الوصية: الموكول إليها استصدار نصوص جديدة ٬ يقنن على ضوئها، التدبير الأمثل للزمن التربوي، والعمل على تحيين النصوص الموجودة والسهر على تفعيلها بقوة القانون. دون إغفال إدراج نصوص تعالج الزمن ، وقيمه، وذلك في سياق المواد المقررة .حتى يصبح مفهوم الزمن لدى المتعلم تابعا تبعية عضوية ونسقية واستعمالية لمجالات الحياة كافة.
4- الفاعلون التربويون: ويتمثل دورهم في التحسيس الدائم والمستمر والمتواصل بقيمة الوقت ٬ والاجتهاد الدؤوب لتطهير البنيات الإدراكية والذهنية للنشء من التمثلات الخاطئة٬ حول الزمن.واستبدالها بتمثالات مقدرة للزمن مع إبداء الحزم والصرامة تجاه العابثين به والمضيعين له .
5-الإدارة التربوية : ويتأسس دورها بشكل كبير على التحسيس الدائم للمتعلمين بقيمة الزمن ٬ وذلك عبر تنظيم حملات أسبوعية أو شهرية.... لتنبيه الغافلين عديمي الإحساس بأهمية الزمن ٬ مع إبداء ما يلزم من الصرامة تجاه الهدر الزمني . كما ينبغي ربط الاتصال كلما دعت الضرورة ، بأولياء أمور التلاميذ لاطلاعهم على علاقة أبنائهم بالزمن.
ليست هذه إلا بعض الاقتراحات التصحيحية لصورة الزمن العكرة داخل المؤسسات ٬ الذي يبدو وضعه الاعتباري داخلها أسفل سلم اهتمامات المتمدرسي. رغم المجهودات المبذولة من لدن الوطنيين المخلصين . الذين يدركون حقيقة الزمن وأهميته في بناء نهضة تربوية متينة الأسس. وما من شك أن بناء نهضة تربوية يرتبط بتغيير الرؤية حول حقيقة  الزمن ٬ وتصحيح العلاقة معه ٬ بغية استثماره على النحو الأفضل والأمثل . وذلك عبر اكتساب ثقافة التدبير العقلاني للزمن . كل مدبر من موقع مسؤوليته . وهو سلوك نهجته الأمم المتقدمة وجعلته أساس حياته العملية . فحققت بذاك نجاحا عاد عليها وعلى الآخرين بالنفع والخير. وباحترام الزمن وتقديره ٬ كسبت احترام الآخر، وفرضت عليه احترامها . وأصبح بذلك معيارا يقاس به تقدم وتحضر الأمم . فيقال على سبيل المثال :"الزمن الحضاري بين الولايات المتحدة وفرنسا يقدر بعشرات السنين " . مع العلم أن كليهما متقدمان. ومن هذا المنطلق ٬ يمكن القول ٬ أن مقياس التقدم الحديث، هو الزمن . وبمعنى أدق ٬ فبقدر ما تحكمت الأمم في زمنها ٬ مستثمرة إياه على الوجه الأمثل ٬ إلا وحققت النجاح المنشود وارتقت وتقدمت على سلم التحضر . و كلما عبتت بالزمن، إلا وعبث بها ٬ وقذف بها على هامش الصفوف الخلفية للأمم . وعليه ، فالزمن، إما أن يكون عامل بناء ، حينما يتم التحكم فيه والسيطرة عليه وقهره. وإما أن يكون عامل هدم، حينما تستعصي السيطرة عليه وتدبيره . 
 فبالتدبير الجيد إذن للزمن داخل المؤسسات التربوية، تصنع الأجيال الناجحة ، المرتبط اسمها ، بمدرسة النجاح ، التي تحمل على كاهلها هذه المهمة التربوية الثقيلة ٬ ثقل الزمن المستقبلي ، الذي لن يلين جانبه و عضده إلا للعقول الوطنية المتشبعة بثقافة القدرة على تدبير الزمن ، والتحكم فيه . كآلية لبناء وطن تسوده قيم البناء البانية لعقول متفتحة كانفتاح فيافيه، وهمم شامخة شموخ جبال أطلسه وريفه . وذلك قصد بناء نهضة الوطن والدفع به إلى مصاف الأوطان القوية على الخريطة الكونية .
أليس جديرا بأمة قامت على تقدير الزمن وتدبيره ٬ وبفضل ذلك ،ملأ صيتها الأفاق و الأمصال ماضيا  ٬ أن تتبنى ثقافة التدبير الزمني ،وتحارب ثقافة التبذير . وتتمسك بها باعتبارها أساس النجاح وشرطه الضروري في المجالات كافة ٬ لاسيما المجال التربوي ، الذي هو في حاجة ماسة وملحة إلى بناء ثقافة التدبير الزمني وترسيخها في البنية الذهنية والإدراكية  للمتعلمين ، و غرسها في نفوسهم . والسهر على مواكبتها لتصبح سلوكا عمليا  في واقعهم المعيش.

في بيداغوجيا المدنيّة ـ عبدالله عطيّة

أنفاس نت



في المفهوم:
التّربية المدنيّة مادّة قيم بدرجة أولى، التّسمية في حدّ ذاتها تُغني عن كلّ تشكيك في ماهيّتها من ناحية، وتؤكّد هذه الحقيقة البيّنة من ناحية ثانية. ولعلّ الانتقال في مستوى التّسمية من "التربية الوطنيّة" إلى "التربية المدنيّة" له أكثر من دلالة، هي استجابة طبيعيّة مجتمعيًّا لمرور الدّولة من طور البناء إلى طور ما بعد البناء ،أو لِنَقُل من طور بقاء الكيان السياسيّ إلى طور حسن البقاء التنشيئيّ لهذا الكيان .أعني كيف يستشعر النّشء معنى الوطنيّة حين يمارسها أفقيّا وعموديّا، الممارسة العموديّة تأخذ شكل "التعرّف على: - الهياكل الإداريّة التي يتعامل معها وتراتيب عملها / ودور المؤسّسات العموميّة وكيفيّة تنظيمها/ والعلاقات القائمة بين المؤسّسات الوطنيّة والمؤسّسات العالميّة.." ثمّ "المشاركة في نشاط المؤسّسات والمنظّمات الجهويّة والوطنيّة / والاقتناع بضرورة صيانة المكاسب الوطنيّة والإنسانيّة (1)"..هي أهداف عامّة بطبيعة الحال ضَبَطَها المقرّر الدراسيّ للمادّة وتحكمها فلسفة سياسيّة جوهرها "أنّه في كلّ بلدان العالم يُدرَّسُ الأطفالُ أنّ بلادهم هي الأحسن"(2)..أمّا الممارسة الأفقيّة فهي ذات أهميّة قصوى، هي ممارسة تنبع أوّلاً من وعْي حادّ ودقيق بالتلازم بين الحقّ والواجب...ذلك أنّ ثنائيّة الحقّ والواجب تختزل تقريبا مُجمل مضامين مدارات المادّة في مختلف المستويات التعليميّة. فطالما أنّ "المدنيّة هي مجموع الصّفات الوديعة والرّقيقة التي يحملها الإنسان أثناء تصرّفه وفي علاقاته بالآخرين" (3) فليس بالإمكان الحديث عن ممارسة أفقيّة سليمة وإيجابيّة حين لا يكون الفرد "مواطنا"...ولا يكون الفرد مواطنا في دولته إن لم يكن "واعيا بحقوقه وقائما بواجباته".

في أُسس المدنيّة:
إنّ قيم المادّة تنشيئيّة أساسا، والمدرسة فضاء للكِبَر، أمّا مستويات التنشئة المنشودة فهي ثلاث تشترك جميعها في إنتاج:
-    الوعي بالفرديّة.
-    الوعي بالوطنيّة.
-    الوعي بالإنسانيّة.
القيمة ومنها القيم، هي الأهميّة المناسبة التي يخصّ بها فرد فكرةً أو توجّهًا ما أو سلوكًا معيّنًا على ضوء تصوّر مخصوص...ومُدرّسُ التّربية المدنيّة هو بدرجة أولى "مدرّسُ قيم ومبادئ"، فالأدبيّات التّربويّة والبيداغوجيّة حديثا تنزع نحو التأكيد على أنّ الدّيمقراطيّة  مثلا ،كمفهوم حاملٍ لعديد القيم ،لا معنى له كمادّة دراسيّة إن لم يكن مصحوبا بتصرّف ديمقراطيّ يتجلّى ممارسةً أثناء أنشطة التعلّم والتّعليم. فكفاية المدرّس المهنيّة لا تتحدّد حصْريّا بما هو ديداكتيكيّ وتقنيّ، أي بدرجة وعيه بما يدرّس وكيف يدرّس – وإن كان ذلك مطلوبا بطبيعة الحال – بل إنّ الأساس الآخر لهذه الكفاية إيتيقيّ وأخلاقيّ...إنّه تمثُّلٌ للتّرابط الوثيق بين المفاهيم التّالية: المعرفة le savoir والأنْسَنَة l’humanisme والنّجاعة l’efficacité و النّجاح la réussite ...أمّا عن المعرفة فهي دون أدنى شكّ تمثُّلُ ما به يكون المتعلّم "واعيا ومقتنعا ومدركا ومستعدّا..."  فالأهداف المعرفيّة لا تتحقّق إلاّ استنادا إلى مضامين تُلامِس جوانب حياتيّة ومعيشة، وتفتح أُفُقَ المتعلّم عمّا يختلج بداخله وعمّا يحدث في مختلف دوائر انتمائه...أمّا عن الأنْسَنَةِ فهي موصولة بالمستوى العلائقيّ أي بما هو إنسانيٌّ في المتعلّم- الإنسان، فالمدرسة تنقل المتعلّم من مجال حَميميّ تحتكم العلاقات فيه إلى العواطف والمشاعر (أي العائلة) إلى فضاءات ينظّمها القانون (المدرسة ،المجتمع) من خلال الانفتاح على مفاهيم تبدو شكلانيّة (الدّور، المكانة، الوظيفة، القانون، الدّولة، الحريّة ،المسؤوليّة....)وعلى هذا الأساس فاشتغال المدرّس وتلاميذه على مثل هذه المفاهيم لا ينبغي أن يكون اشتغالا تقنيّا جافّا وخاليا من كلّ معنى إنسانيّ...فحين يباشرون مقولة المواطنة مثلاً شرْحًا وتحليلا وتعمّقا، يُنتظر أن لا يُختزل منطق التعلّمات في منطق المعارف، أي أن تكون غاية الممارسة البيداغوجيّة مجرّد حفظ معارف وترديدها للاستظهار بها عند الضّرورة التقييميّة، والمطلوب حينئذ هو استحضار ما يلي: أنّ التّربية المدنيّة –وسائر المواد الدّراسيّة في الواقع- تستدعي الوعي بأنّ التّعليم/التّعلّم موقفٌ إنسانيّ ومدنيّ أوّلُ مقوّماته استهداف شخصيّة المتعلّم بما هو إنسان...فالأنْسَنَةُ موصولة بالبُعد المتّصل بالممارسات أي بآليّات التّبليغ وبكيفيّاته، وموقع المتعلّم فيها لأنّ هذا الأخير للأسف الشّديد مازال "موضوع إعلام وليس ذاتَ تواصل" على حدّ عبارة ميشيل فوكو   l’élève est objet d’une information mais jamais un sujet d’une communication  .
إنّ الأساس الإيبستيمولوجيّ للاشتغال على المفاهيم والقيم الواردة في برامج المادّة يتمثّل في كيفيّة إكساب المعارف المتّصلة بها المعنى، أي أن يكون لها امتداد عمليّ في حياة المتعلّم: كيف يقدر المتعلّم ،في تواصل مع هذه المفاهيم ومع مدرّسه ،على تحويل هذه القيم والمعارف إلى ممارسات ، فالتّربية المدنيّة ،وهي التي تُتيح للمتعلّم الانفتاح على عديد القيم، تنشُد تعديل عديد التصوّرات ما قبل العلميّة لديه وإعانته على بناء مفاهيم جديدة يكون ناجعا في بنائها وواعيا بمضامينها وحقولها المعرفيّة.

في أبعاد المدنيّة:
إنّ المنظومة المفاهيميّة والقيميّة التي تستند إليها المادّة لها في تقديرنا أربعة أبعاد: بُعْد تحسيسيّ تنشيئيّ وبُعْد معياريّ وبُعْد معرفيّ وبُعْد إجرائيّ.
-    البُعْد التحسيسيّ التنشيئيّ: التّحسيس والتّوعية مُكوِّنان أساسيّان للحياة المدنيّة والأخلاقيّة، هُما يَسْمحان بمراجعة المتعلّم للأحاسيس والمشاعر الأوّليّة التي تَسْكُنه، يسمح له هذا البُعد باكتساب مشاعر متجدّدة تتّصل بذاته في جانبيها الفرديّ والجمعيّ من حيث خصوصيّاتها وميزاتها وجوهرها.
 أمّا عن الكفايات المناسبة لهذا البُعد فهي عديدة نذكر منها: *أن يُقَدِّر المتعلّمُ ذاتَه وفرديّتَه بحيث يجنّبها كلّ سوء وكلّ سلوكيّات لاَسَوِيّة،  *أن يُراقب اندفاعيّته وفَيض مشاعره – بحكم مرحلته العمريّة- فيوظّفها إيجابيّا في النّفع الخاصّ والعامّ. *أن يستحضر وجدانيّا الآخر فيُنْجِدُه ويتضامن معه ويُعينه.
إنّ هذه الثّقافة التّحسيسيّة تُبنَى انطلاقا من وضعيّات متنوّعة من محيط المتعلّم ،ومن محامل بيداغوجيّة تستميله وتشدّه إليها فيتفاعل معها بما يمكّنه من تصويب اتّجاهاته ومواقفه.
-    البُعْد المعياريّ (ثقافة القانون والحقّ ): إنّ ثقافة الحقّ والواجب والقانون التي توجّه السّلوكيّات داخل القسم وفي المؤسّسة التّربويّة وفي المجتمع تجعل المتعلّم يدرك كيف أنّ القيم المشتركة في مجتمع ديمقراطيّ تحكمها قواعد ومعايير مشتركة ،فالحياة الجماعيّة منظَّمة بالقانون، والمجتمع ذلك "الكائن الأعظم" على حدّ تعبير دوركهايم لا يستقيم وجوده دون الوازع أي القانون ،القانون كقواعد ومؤسّسات وآليّات رقابة ومحاسبة...
إنّ الكفايات المتّصلة بهذا البُعد عديدة نذكر منها على وجه التّخصيص ما يلي: *اقتناع المتعلّم باستحقاقات العيش المشترك المتمثّلة في منظومة القواعد والضوابط القانونيّة ،*إدراك معنى احترام هذه القواعد القانونيّة بل وحتميّة احترامها، فهي بقدر ما تَسْمَحُ وتَضْمَنُ فإنّها كذلك تَمْنَعُ وتُعاقب...
-    البُعْد المعرفيّ (ثقافة الحُكْم) :المعرفة غاية ووسيلة، هي غاية الفعل التّربويّ وهي إحدى رسائل المدرسة ،ولكنّها مع ذلك هي وسيلة هامّة لإنضاج المواقف وللمُحاجّة والمساءلة النّقديّة الواعية...فالقيم والمفاهيم المدرّسَة تظلّ حول المتعلّم ما لم تبعث فيه الحيرة المعرفيّة ولم تُدرّبه على اتّخاذ مسافة نقديّة منها، النّقدُ إجراءٌ واعٍ ومسؤول يَنِمُّ عن قدرة المتعلّم على أن يمارس سلطته ...إجرائيّا يتّخذ هذا السّلوك عدّة أشكال نذكر منها طرح السّؤال والتّعليق والدّحض والدّعم متى كان ذلك ضروريّا.
إنّ الكفايات المستهدفة من هذا البُعد تتعلّق أساسا بمدى قدرة المتعلّم على *التّفاعل مع محتويات ما يَدْرُسُ، أي بمدى أهليّته لبناء موقف مُستنِد إلى حُجج منطقيّة تناسب مستواه وتُثري تحصيله العلميّ بعيدا عن كلّ استيعاب أعمَى أو رفضٍ أصَمّ، * الارتقاء ذاتيّا من وضع اللاّمبالاة إلى موقف واعٍ يُسنِد خياراته فكرًا وسلوكًا ،ويَحمله على الإبداع و يَقِيهِ شَرَّ التّسطيح الفكريّ والوجدانيّ والاستسلام إلى المجهود الأدنى...إنّ جوهر هذه الكفاية يتمثّل في تحويل الفكرة إلى موقف.
-    البُعد الإجرائيّ (ثقافة الالتزام): التّربية المدنيّة هي تربية على القيم المدنيّة، ومنظومةُ مقرّراتها المفاهيميّة تُحاجِج كلّ تصوّر خاطئ أو ممارسة منحرفة عن ذلك، وعلى هذا الأساس فإنّ ما يتعيّن استحضاره والاشتغال عليه هو المتعلّم ذاته: المتعلّم فاعلا في محيطه المدرسيّ والعائليّ والمجتمعيّ. تتّخذ هذه الفاعليّة عدّة أشكال لعلّ أهمّها أن ينخرط المتعلّم في الشأن الخاصّ والعامّ انخراطا واعيا ومسؤولا...بل أن تتوفّر له كلّ عوامل الانخراط وأن تَضمن له كلُّ الأطراف هذا الالتزام المواطنيّ فَتُثَمِّنَ مساهماته وتُصوّب عثراته .
أمّا عن الكفايات المتعلّقة بهذا البُعد الهامّ فنذكر منها ما يلي: *أن يُجسِّم المتعلّم  تمثُّله لفكرة القانون والنّظام الدّاخلي لمدرسته *أن تتولّد لديه قناعة بأنّ المحيط المدرسيّ هو بنفس أهميّة ومكانة محيطه الأسريّ لديه  فيُخرج هذه القناعة من مستوى الاعْتِمَالِ الوجْدانيّ إلى مستوى الإجراء والتّنفيذ ويكون ذلك بالحفاظ على مكوّناته وأشيائه *أن ينخرط داخل فضائه المدرسيّ في مشاريع خاصّة وجمعيّة بدافعِ الوعي المواطنيّ والبيئيّ...

 في ضمانات بيداغوجيا المدنيّة:
إنّ بيداغوجيا المدنيّة  la pédagogie du civisme)) دقيقةٌ وحسّاسةٌ، ولا نبالغ حين نُقرّ بأنّ السّلوك والعلاقة القائمة على الممارسة أهمُّ بكثير من المعرفة المحضة، فعناوين التّربية المدنيّة والمفاهيم المتّصلة بها بقدْر ما تؤثّث المتعلّمَ بشروط المواطنة الفاعلة من خلال المعرفيّ le cognitif باعتباره أفكارا تنتظر التّجسيم ،فإنّ السّلوك والممارسة والانخراط الطّوعي فرديًّا أو جماعيًّا، من خلال المواقف أو الأفعال، تَظَلّ  كلُّها من أهمّ متطلّبات تدريس التّربية المدنيّة...فالمدنيّة علاقة، هي علاقة ناتجة عن وعْي، والوعْيُ له امتدادٌ في مَتْنٍ معرفيّ استساغه المتعلّمون وساهموا في إنتاجه وبنائه، وهذا الوعْي يستحيل على المدى الحينيّ العاجل أو الآجل ممارسة مواطنيّة مسؤولة.
إنّ تطوير بيداغوجيا مدنيّة في مقاربة القيم والمفاهيم الواردة في مقرّرات المادّة متأكّد، فليس مُمكنًا الحديثُ عن التّربية على المدنيّة والمواطنة دون إحالة مشروطة على إيتيقا وأخلاقيّات معيّنة...فالمدرّس الموكول له ذلك ،باعتباره رسولَ هذه المنظومة القيميّة، مَدعُوٌّ إلى أن يستحضر في كلّ مرّة المتعلّمَ ذاتًا وكيانًا وإنسانًا: أن يُربّي المدرّسُ يعني ذلك أن يتعامل مع المتعلّم باعتباره غاية في حدّ ذاته وليس مجرّد وسيلة...فالتّكوين المدنيّ بِناءٌ يَتمّ من خلال شبَكة من العلاقات المتفاعلة ،ولعلّ أهمّ علاقة هي التي تَصِلُ المعلّمَ بالمتعلّمِ والمتعلّمَ بالمعلّمِ ...و إنّ القيم التي يستهدفها هذا التّكوين تميّز الأفراد المتعلّمين باعتبارهم مواطنين ينتمون إلى وطن وإلى عالم وإلى ثقافة وحضارة.

الإحالات:
(1)    البرامج الرّسميّة للتّربية المدنيّة، وزارة التّربية والتّكوين ، تونس.
(2)    التّربية والنّظام الاجتماعيّ، برتراند رسل، ترجمة سمير عبده، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت ص133.
(3)    معجم علم الاجتماع.

الفلسفة الأولى مع المرحلة الأرسطية ـ محمد بلصفار

انفاس نت



الفلسفة الأولى التي سميت بأشراف العلوم والمعارف لكونها النظر  في العلل الأولى إذ تبحث عن الحقيقة السامية التي تشغل بال الفيلسوف طيلة مسيرة سؤاله حتى انتقاله إلى جوارها فهي  كما اخبرنا الكندي " :  أنها أشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى: أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق. ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشراف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف: لأن علم العلة أشرف من علم المعلول[1] " ، فالفلسفة الأولى أو المتافزيقا كما سماها تلميذ أرسطو " اندرونيقوس الرودسي " في القرن الأول قبل الميلاد عندما صنف مؤلفات أرسطو فجاءت تلك النصوص بالتصنيف بعد البحوث الطبيعية ، وفيما بعد أخذ الفلاسفة في العصور الوسطى هذا العنوان ليشيروا به إلى الموضوعات التي ناقشها أرسطو في الميتافيزيقا بوصفها موضوعات تأتى بعد الموجودات الطبيعية ولا تعرف بالإدراك الحسي لأنها تناقش بالعقل المجرد الخالي من الشوائب الحسية لأن الحواس مخادعة وواهمة إذ لا تصل بنا إلى الحقيقة التام والكلية عكس النظر العقلي الذي هو السبيل إلى عالم المثل[i] وقد اختص أرسطو علم ما وراء الطبعة بدراسة الوجود بما هو الموجود والبحت عن العلل الأولى لهدا الوجود .
ويطلق أرسطو أيضا على هذه الفلسفة اسم الحكمة أو العلم الإلهي ،لأنها تبحث في الموجود الأولى أو العلة الأولى ،وتبحث في أكثر الموضوعات الألوهية وهى ذات الله وصفاته وأفعاله باعتبار أنه- المحرك الأول  - هو المبدأ الأول للوجود ، ويذهب أرسطو كذلك إلى أن الفلسفة الأولى التي تبحث في الوجود كما هو موجود، أي أنها تبحث في الوجود من ناحية المبادئ الأولية الكلية التي تعم جميع الموجودات والتي تجعل الوجود موجودا[2] فاستطرد أرسطو بعد دلك إلى إبراز العلل و العناصر المكونة لهدا الوجود من خلال ربط ما توصل إليه الأولون من الفلاسفة ومحاولة الجمع بينها ، فالعناصر المكونة للوجود حسب أرسطو هي الماء ، التراب النار ، الهواء . [ii] وتبقى العلة الأولى للوجود هي المحرك الأول أو الإله ، وقد خص أرسطو كل الأشياء بمعادلة أساسية ، والتي تنطبق على كل الموجودات بما فيها المحرك الأول وهي مسألة العلل فكل الموجودات و الأشياء خاضعة لهده العلل وهي أربع:  العلة الصورية و العلة الفاعلة و العلة المادية و العلة الغائية فمثلا الكرسي لا بد له من تلك العلل :

-       العلة الصورية : فكرة الكرسي
-       العلة المادية : الخشب
-       العلة الفاعلة: النجار أو الصانع
-       العلة الغائية : الجلوس

ويبقى النظر الأساسي للفلسفة الأولى هو النظر في العلة الأولى لهدا الوجود من اجل الوصول إلى الحقيقة و بلوغ الحكمة وقد تناول أرسطو في هدا المبحث : على أن الإله هو  الموجود الواحد الأول غير المتغير ، وحضوره هو الذي يجعل العالم يقوم بعملية النمو الكونية كلها ، وهو  المصدر الأعلى الذي يجعل سلسة ( الصور ) الكامنة في المادة في العالم تخرج إلى التحقق الفعلي ، والإله يقف خارج مجمل عمليات العالم التي يؤدي حضوره إلى استثارتها لتقوم الطبيعة ، وهو ليس مكونا هو نفسه من مادة وصورة شأن ما ينتج في العالم ، إنما هو صورة خالصة مفردة وفعل خالص ، وليس وراءه مراحل مرّ بها تدريجيا حتى وصل إلى ما هو عليه ، فإنه موجود غير مادي على وجه الإطلاق ، وهو ضرورة لازمة لوجود العالم ، ولكنه يعلو على العالم ويقف خارجه [3] وعلى أن المحرك الأول لا تنطبق عليه تلك العلل لأن وجوده هو وجود بالقوة ولقد حدد ارسطوا للمحرك الأول صفات وهي :
الصفة الأولى :أنه لا يتحرك فهو ثابت ويحرك فقط ومعني هذا أن هذا المحرك يتحرك بذاته لأنه لو تحركبغيره فمعني هذا أنه يوجد شيء آخر يحركه فهو لا يمكن أن يكون محركا بغيره بل محركا بذاته .
الصفة الثانية:أنه أبدي لا ينقسم لأنه إذا انقسم تعدد ولو تعدد لأصبح له أجزاء وعندها لا نستطيع أن نعرف الحركة من أي جزء ، وهو لا ينقسم لأنه خالي من المادة
الصفة الثالثة : انه لا يعلم بجزئيات الموجودات مثل : أفعال الإنسان وإنما هو يعلم فقط الكليات . فالفلسفة في النظر الأرسطي قد تناولت النظر في علم الإلهيات كما سماه ابن سينا لأنها تهدف إلى  البحت والنظر في المحرك الأول للوجود ، ولكن السؤال الذي يطرح هنا  هل ستستمر هده النظرة بواسطة الفلسفة الأولى عبر التسلسل الفلسفي في الزمان ؟ أم أن موضوعات أشرف الصنع ستتغير ؟

المراجع

o        الكتب :
1.       مدخل إلى متافزيقا إمام عبد الفتاح
2.       رسائل الكندي : كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى
3.       فلسفة أرسطوج1/ 73  لـ( ألفرد إدوارد تايلور ) ترجمة : د. عزت قرني / دار الطليعة ـ بيروت ـالطبعة الأولى
o        المقالات
1.       ميتافيزيقيا أرسطو ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
2.       ولاء رشدى فوزى /الحوار المتمدن-العدد: 3119 - 2010 / 9 / 8 - 08:43 -http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=22844


[1]  رسائل الكندي : كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى
[2]ميتافيزيقيا أرسطو ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
[3] فلسفة أرسطوج1/ 73  لـ( ألفرد إدوارد تايلور ) ترجمة : د. عزت قرني / دار الطليعة ـ بيروت ـالطبعة الأولى
 النظر الأفلطوني للحقيقة ودلك من خلال الفلسفة التي توصلنا الى عالم المثل الدي هو عالم الحقيقة الكاملة [i]
[ii] وهي العلل التي توصل إليها الفلاسفة قبل سقراط لتحديد أصل الوجود فكما هو معلوم حدد طاليس أصل الوجود بالماء و بارمندس بالهواء وهرقلطس بالنار ....،

الخميس، 12 يناير 2017

بيولوجيا لون الجلد - لماذا لون البشرة مختلف ؟


أساليب كشف التعثر الدراسي : بحث في الأسباب ، واستراتيجية المعالجة ـ جمال بوليفة



انفاس نت


سنعالج في هذا الموضوع ، مشكل التعثر الدراسي ، انطلاقا من بعض الدراسات و المقاربات التي عالجت الموضوع ، حسب نوعية العوامل ، التي تفسر الظاهرة ،من بينها : دراسات تقارب الظاهرة على ضوء العوامل الفردية ، وما يرتبط بها من خصائص ، وصفات تميز المتعلم(ة) ، وقدراته العقلية (كالذكاء ،التذكر ، المقارنة ، التحليل ، الحكم ...)،و الخصائص الوجدانية ، الانفعالية . فقد يتعرض المتعلم(ة) لمصاعب متعددة ، عند مجابهة المواقف التعليمية - التعلمية ، مما يؤذي إلى تأخره ، كما ركزت بعض الدراسات على المعطى الاقتصادي ، و الوضع السوسيوثقافي ، حيث كشفت ، عن علاقته بتعثر ، أو فشل فئة من التلاميذ ،و اهتم بعضها الآخر بتأثير القيم  على نتائج التحصيل الدراسي ، أي المعايير القيمية التي تحكم سلوك المتعلم(ة)، وتحدد تصوره عن ذاته وعن الآخرين .
 كما انصب اهتمام الباحثين ، حول بحث الدور الذي تلعبه اللغة في الحياة الدراسية  للتلميذ (ة) ، واعتبروها متغيرا هاما ، يمكن أن يؤثر سلبا ، و إيجابا على المسار الدراسي لديه . فبتعبير "بير بورديو" و" باسرون" :"إن المدرسة تساهم في تدعيم الأفضلية الاجتماعية الممنوحة لأبناء الفئات المحظوظة، و هذه مسألة يمكن ردها في  كون جذور الإرث المدرسي ترجع إلى إرث الأوساط الاجتماعية الراقية ".
فالمدرسة كي تحقق هدفها الوظيفي ، نجدها تفرض معايير ثقافية ، ولسانية، تربطها روابط عضوية بالمقومات الثقافية ، واللغوية السائدة داخل الفئات الاجتماعية الميسورة ، المختلفة و البعيدة كل البعد عن الفئات الاجتماعية المحرومة . كما أن المدرسة أيضا منتجة للتعثر الدراسي ، إذ أن المناخ الاجتماعي داخل الفصل الدراسي يحظى بأهمية كبيرة ، خصوصا في عملية التعليم و التعلم ، وتأثير بعض عناصره في أداء المتعلمين ، و ما يسود بين التلاميذ من علاقات ، و كذا الطابع الهيكلي ، التنظيمي الجامد للمدرسة ، و الذي يميز الحياة المدرسية من قبيل المقررات ، الأوامر ، النواهي ، التوجيهات ...، و كذلك الخاصية الفصولية و التعاقبية ، حيث تبنى المقررات على أساس التعاقب و التتالي ، يضاف إلى ذلك الطابع الجمعي للتدريس حيث يتم تجميع أعداد من التلاميذ في قسم واحد.
عامل مهم آخر قد يتم إهماله أو تجاوزه ، من طرف البعض و هو على درجة كبيرة من الأهمية أيضا، و هو "الآثر البيجمالوني"،حين يتعلق الأمر بالنظرة المسبقة و الحكم القبلي ، الذي يبديه، ويتمثله المدرس على مجموع التلاميذ ، أنهم غير قابلين للاستعداد و استدماج و تعبئة مجموعة من الموارد،و استحالة تعليمهم و بالتالي يعلن عن فشلهم ، مبدئيا و بدون أدنى تحفظ أو تقييم حقيقي لمستواهم، مما ينتج عن ذلك نتائج كارثية رغم المحاولات التي قد يبدلها مستقبلا .

و هناك تصورات أخرى للتقييم ، تقودنا إلى تبني مفهوم آخر للتعثر الدراسي ، قد تجد أسسها في التقييم التكويني ، بمعنى أن التعثر الدراسي ظاهرة مرحلية.
و من تلك التصورات أيضا نجد الأطروحات ، التي حاولت البحث عن صيغ تربوية ملائمة لدعم مجهود التلميذ (ة) ، و تعزيزه ، و تغطية مواطن ضعفه ...

فالدعم التربوي في مواجهة ظاهرة الفشل أو التعثر الدراسي ، يكتسي أهمية كبرى ، في كونه يعالج إشكالية كبرى تؤرق كافة العاملين بالأنظمة التربوية. يتحقق ذلك بالقيام بعملية تشخيص دقيق لمستوى القدرات المعرفية و الوجدانية و الحس–حركية ، و هذا الأمر لا يتأتى إلا بالاعتماد على وسائل دقيقة و على درجة كبيرة من الأهمية تتلخص في : القيام بتقويم تشخيصي في بداية السنة الدراسية أو في بداية الحصة ، والقيام بعملية التقويم التكويني خلال تقديم الوضعيات(الوسطية) و بناء المفاهيم ، ثم في النهاية تقويم مدى تحقق الأهداف و استدماج الموارد و تطبيقها و قابليتها للاستبقاء ، من أجل إعطاء التعلمات معنى ، وجعلها قابلة للتطبيق في وضعيات حياتية جديدة ، وبالتالي تحقيق الكفايات الأساسية .

و في اعتقادنا ، لو كان موضوع التعثر الدراسي و الدعم التربوي ، الموضوع الوحيد لعلم التدريس برمته ، لكان كافيا ، ولا ستغني به عن جميع المواضيع الأخرى ، لأنه يصيب نشاط المدرسين في عمقه النوعي .
فما هي إذن أسباب التعثر الدراسي ؟ ثم كيف يمكن الكشف عنها ؟ و ماهي الأساليب المعتمدة في ذلك ؟ ثم كيف ، يمكن التعامل معها من خلال أساليب الدعم التربوي ، أو برامج العلاج ؟

هذه ، إذن أهم الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في هذه الدراسة، حسب المحاور التالية :
المحور الأول: الأسباب و العوامل المؤثرة في التعثر الدراسي
المحور الثاني: تشخيص عوامل و أسباب التعثر الدراسي.

مدخل :
     ليس الفشل الدراسي مجرد حدث شخصي يهم التلميذ الفاشل وحده ، بل إنه مؤشر على وجود خلل ما ، قد يكون في التلميذ ذاته ، وقد يكون في المدرسة نفسها بطرقها و أساليبها التربوية و مناهجها ، وقد يكون في المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه التلميذ ، و من تم تعددت الاطروحات و المقاربات التي تطرقت لمشكل الفشل الدراسي .

  عندما نتأمل مجمل المفاهيم و التعاريف المتعلقة بظاهرة التعثر و الفشل الدراسي فإننا نلاحظ تسميات متعددة لوصف الظاهرة،مثل :التأخر الدراسي ، التخلف الدراسي ، اللاتكيف الدراسي ..  ، ويعرفه عبدا لكريم غريب : "بأنه هو الفارق السلبي بين الأهداف" المتوخاة من الفعل "التعليمي" والنتائج المحققة فعليا، ويتجلى في مجال عقلي\معرفي أو وجداني أو حسي حركي. وترجع أسبابه إلى معطيات متفاعلة مثل مواصفات التلميذ أو عوامل المحيط أو سيرورة ونتائج الفعل "التعليمي"، ويتطلب هذا الفارق إجراءات تصحيحية لتقليصه بأساليب قد تكون بيداغوجية أو غير بيداغوجية.[1]

    ينبغي التمييز بين الفشل والتعثر الدراسي (أو ما يسمى بصعوبات التعلم خاصة النوع البسيط منها)، على أساس أن التعثر الدراسي حالة مؤقتة تكاد تكون عادية تصيب معظم التلاميذ إن لم تقل كلهم، وتعني أنه أثناء التحصيل يجد التلميذ صعوبة في فهم واستيعاب مسألة أو فكرة لسبب من الأسباب ولكن بمجهود إضافي أو تدخل المدرس في إطار حصص الدعم أو المراجعة يتدارك التلميذ المسألة، لكن التعثر قد يتحول إلى رسوب إذا لم يتدارك الأمر في الوقت المناسب.

   تتعدد الأطروحات إذن و المشكل واحد ، ومن تم تتعدد الوصفات العلاجية و الاستراتيجيات المقترحة لتجاوز الفشل الدراسي او اتقائه ، و يجد هذا التعدد تفسيره في الامتداد الزمني الذي طرح من خلاله مشكل التعثر الدراسي ، فهناك عوامل ساعدت على طرح هذا المشكل بحدة ، رغم قدم وجوده كظاهرة ، كما يجد هذا التعدد تفسيره في الفضاءات التي طرح فيها هذا المشكل ، إذ قد يختلف من مجتمع الى اخر ، و من نظام تربوي الى اخر ، على اعتبار ان لكل مجتمع غايات و مبادئ توجه سياسته التربوية ، و التي على ضوئها تتحدد المواقف من مسالة النجاح او الفشل الدراسي ، و اخيرا فان ذلك التعدد يجد تفسيره على ضوء الاطروحات المختلفة التي قدمت حلولا لظاهرة الفشل الدراسي ، بإقصاء الضعيف و الابقاء على المتفوق ، اعتمادا على مبدا ’’البقاء للأصلح‘‘ و منها من عزل التلميذ عن محيط القسم ، و اخضاعه لوصفة علاجية خاصة،ومنها من حاكم المدرسة ككل باعتبارها مؤسسة اجتماعية تخدم مصالح الاقلية ، و تنبني على منطق الانتقاء والانتخاب،فدعا الى تغيير جدري في وظيفتها و دورها . و من تلك الاطروحات ايضا ، من حاول البحث عن صيغ تربوية ملائمة لدعم مجهود التلميذ و تعزيزه ، و تغطية مواطن ضعفه..

  فهناك أطفال يتمتعون بذكاء عادي و لا يشتكون من أية إعاقات و مع هذا يعانون من مشكلات تعلمية تجعلهم يعانون في التحصيل الدراسي من صعوبات واضحة في اكتساب و استخدام مهارات الاستماع و الكلام أو الكتابة أو التهجئة ، أو أداء العمليات الحسابية الاساسية

   عندما نريد الكشف التعثر الدراسي ، فإنه من اللازم اللجوء إلى عملية التقييم ، باعتبارها جملة من الاجراءات التي نقوم بها بواسطة اساليب و ادوات تمكن من الكشف عن موطن التعثر الدراسي لدى المتعلمين ، ذلك أنه يصعب أن نضع أنشطة للدعم و التصحيح ، إذا لم نقم بمجموعة من الاجراءات تتعلق بعملية التقييم .

   لذلك فإن عملية الكشف هي جملة الاجراءات المنهجية و العملية الهادفة إلى تحديد طبيعة التعثر الدراسي و كثافته ، و قياس مدى اتساعه ، و الكشف عن تجلياته.
   كما أنه يمكن تقسيم  صعوبات التعلم إلى ثلاثة مستويات : البسيط، المتوسط، الشديد ،تقترح بخصوص الدعم التربوي أن يتم التعامل مع أفراد هذه الفئة كل حسب مستوى الصعوبة.
   وبشكل عام فإن مختلف التصنيفات التي من المفروض ان يطلع عليها المدرسون والتي تدرس هذه المشكلة، وكل من سينخرط في حطة الدعم، عادة ما تصنف إلى ثلاث عوامل : ذاتية، وخارجية تؤثر في إداء التلميذ وأخرى تعود للمدرسة والنظام التعليمي، وهذا ما سيتم التطرق اليه في الفقرات المخصصة لاستعراض بعض الدراسات التب عالجت مشكلة التعثر الدراسي.

    ان عملية تصحيح التعثر، هي كل الاجراءات الموالية لعمليتي التقييم والتشخيص، والتي تستهدف دعم التلاميذ من اجل تصحيح تعثرهم ومن أجل تقليص الفارق بين مستوى تعلم التلاميذ الفعلي والاهداف المنشودة.

   فالدعم التربوي في مواجهة ظاهرة الفشل والتعثر الدراسي وبناء استراتيجية تمكن من بلوغ الاهداف المتوخاة أي من الانتقال من مستوى التطور الى مستوى التنفيذ ارتكاز على جملة من الاجراءات العملية التي تنتقي بعناية بالغة وتتجلى في اختيار المحتويات التي تقدم للفئة المتعثرة والطرائق والاساليب التعليمية التي تكون متمحورة حول التلميذ واختيار الوسائل التعليمية والمعينات ووضعيات تنفيذ بيداغوجيا التقييم والدعم والعناصر في تنفيذ عمليات التقييم والدعم والمكان التي تنجز فيه عمليات الدعم

  هذه هي الإشكاليات التي سننطلق منها في هذه الدراسة، بعد التطرف لتحديد المفاهيم والتعاريف المتعلقة بظاهرة الفشل والتعثر الدراسي وبحث الأسباب والعوامل المساهمة في هذه الظاهرة.

  إن الدراسات التي أنجزت في هذا الشأن كثيرة ومتشعبة، وانتشارها في جميع الأنظمة التعليمية وخطورة ما تسببه من آثار سلبية سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي مثل التكرار والتسرب الدراسي ..
والحقيقة أن هذا الموضوع يكتسي أهمية كبرى في الأنظمة التعليمية ويشكل أعظم هاجس يؤرق كافة العاملين بها ..  ،كما تكمن أهميته في  كونه يصيب العملية التعليمية التعلمية والمناهج الدراسية في عمقها التربوي وبعدها الكيفي.
و في اعتقادنا، لو كان موضوع الفشل والتعثر الدراسي والدعم التربوي الموضوع الوحيد لعلم التدريس برمته، لكان كافيا ولا ستغنى به عن جميع المواضيع الأخرى لأنه يصيب نشاط المدرسين في عمقه النوعي.

الفصل الأول : التعثر الدراسي ، مقاربات لتفسير المشكل
إن مختلف التصنيفات التي من المفروض أن يطلع عليها المدرسون وكل من  سينخرط في خطة الدعم، عادة ما تصنف إلى ثلاث عوامل:
·       ذاتية مرتبطة بالتلميذ: بنيته الجسمية، النفسية، النفور من المدرسة، التغيب، الحلم بالسفر إلى الخارج
·       خارجية: تؤثر في أداءه من الخارج كالمحيط الاجتماعي والحالة المادية للعائلة، وعدم جاذبية المقررات، والمقاربات البيداغوجية، وجاذبية المدرسة دون التقليل من أهمية وخطورة العوامل الأخرى، كتكدس الفصول وظروف العمل في العالم القروي...

وفي الفقرات التالية سنتعرض لبعض الدراسات التي تم على ضوءها تشخيص التعثر الدراسي والعوامل المساهمة فيه، وقد ميزنا فيها بين:
الدراسات التي تقارب الظاهرة على ضوء العوامل الفردية (المبحث الأول) ثم السوسيو-اقتصادية والثقافية( المبحث الثاني) ثم العوامل التربوية والبيداغوجية (المبحث الثالث)،

المبحث الأول: مقاربة التعثر الدراسي على ضوء العوامل الفردية
المقصود بالعوامل الفردية: مجموع الخصائص والصفات التي تميز التلميذ كفرد، وتشمل كل ما يتعلق بالقدرات العقلية كالتخلف العقلي للتلميذ (المطلب الأول) وخصائصه الوجدانية ومميزاته العضوي (المطلب الثاني)

المطلب الأول: التعثر الدراسي والتخلف العقلي
" التخلف العقلي هو عدم اكتمال أو قصور في مستوى الارتقاء العام للوضع العقلي" [2] كما يعني مستوى الإدراك العقلي العام دون المتوسط، ينشأ أثناء الارتقاء ويصبحه خلل في جانب أو أكثر من الجوانب التالية: النضج، التعلم، التوافق الإجتماعي.
ويفيد أيضا: " نقصا أو عدم اكتمال النمو العقلي وانحطاطا واضحا في الذكاء، وفي الأداء العقلي الوظيفي العام، يجعل الشخص عاجزا عن التعلم والتوافق مع البيئة أو الحياة دون إشراف ورعاية وحماية."[3]
فحسب هذه التعاريف، يتجلى إذن التخلف العقلي في انخفاض مستوى الذكاء العام، وعدم القدرة على التكيف مع المحيط المدرسي والإجتماعي وأخيرا العجز عن التعلم في حين أظهرت بعض البحوث التي تتطرق لعلاقة التخلف العقلي بالقدرة أو القابلية للتعلم أن:
75% من الأطفال المتخلفين عقليا يمكن تعليمهم
25% من الأطفال المتخلفين عقليا يمكن تدريبهم فقط
تشكل نسبة 5% غير القابلين منهم للتدريب أو التعلم.[4]

يبدو أن تفسير الظاهرة بإرجاعها إلى التخلف العقلي، من حيث هو قصور في الأداء العقلي العام، يؤدي إلى معالجة الظاهرة على أنها حالة باتولوجية، والاعتقاد بالتالي في عدم امكانية تجاوزها.
فالعمليات التي لها علاقة مباشرة بالتحصيل الدراسي والتي لها بعد معرفي، عقلي (paramètre cognitif) أي جميع أشكال النشاط الفكري لدى الإنسان وخاصة العمليات العقلية من حفظ وفهم وتحليل وتركيب وتقويم تستلزم دراستها حتى يتم تشخيص وفهم التعثر الدراسي كالتذكر الذي يتجلى في استرجاع الصور الذهنية والبصرية والسمعية. والتفكير للشعور بالمشكلة والبحث عن الفروض المناسبة، وترجيحها كلها وأخيرا التخيل، كإبداع وإنشاء علاقات جديدة منبثقة عن الخبرات السابقة وهي عملية عقلية تستعين بالتذكر في استرجاع الصور العقلية المختلفة لتأليف تنظيمات جديدة تصل الفرد بماضيه وتمتد به إلى حاضره، تتطلع إلى مستقبلة لمد دعائم قوية للابداع الفني والابتكار العقلي

المطلب الثاني: الذكاء والتعثر الدراسي

يعتبر الذكاء قدرة عامة تشترك في جميع العمليات العقلية تبدأ بالادراك الحسي وتنتهي بالتفكير المجرد، وفهم واكتشاف العلاقات المعنوية.
إن الانطلاق من متغير الذكاء لفهم وتفسير التعثر الدراسي يقوم على افتراض ضمني مفاده ان التلميذ المتعثر دراسيا هو ذاك الذي يتوفر على مستوى من الذكاء أذنى من المتوسط، مما يعني أن انخفاض ذكاء التلميذ هو سبب تعثره أو فشله.
لقد درجت التربية الحديثة على مراعاة القدرات اللغوية، و الرياضية و الموسيقية، أي كل ما يستطيع الفرد أداءه في اللحظة الراهنة من أعمال عقلية، والتي قد توجد بتدريب أو بدون تدريب، على معرفة مستوى ذكاء الأطفال وطبيعة قدراتهم وذلك بمراعاة الفروق الفردية وتوجيه التلاميذ في مسارهم التعليمي بما يساير قدراتهم العقلية ومستويات ذكائهم، وتحليل أسباب التأخر الدراسي ومحاولة تبين المؤثرات المختلفة المتصلة به والعمل على علاجها.

فنجاح الفرد في تحصيله الدراسي وتفوقه المهني، بصفة عامة، يعتمد على نسبة ذكائه ومستوى قدراته، لذلك تبنى الميول على القدرات العقلية، وتقوى هذه الميول بمدى استعداد الفرد لتحقيق مأربا من المآرب. فالاستعدادات هي أيضا قدرات أو مهارات كامنة في مجال معين، يحقق الفرد بفضلها مستوى معين من الكفاية.

إن الاختلاف حاصل بين الباحثين في تعريفهم للذكاء، وتحديدهم لخصائصه ومظاهره، ومستوياته وعملياته ... كالتركيز على البعد النظري (التجريد مثلا) والتركيز على البعد العلمي (مثل قدرة الفرد على تطبيق ما يتعلمه)، واختزال الذكاء في بعد واحد يؤدي إلى انعكاسات على بحث الذكاء بالتعلم المدرسي. كما أن هناك صعوبات ترتبط بالأداة المعتمدة للكشف عما إذا كان ذكاء التلميذ مرتفعا أم منخفضا.

خلاصة القول، إذا كان للذكاء مسؤولية في التعثر الدراسي، فإن حدود هذه المسؤولية وطبيعتها غير واضحة بما فيه الكفاية، كما أن القدرة التفسيرية لهذا المتغير لا يمكنها أن تغطي جميع حالات التعثر الدراسي.
ومن هنا ضرورة الرجوع في فهم هذه الظاهرة إلى متغيرات أخرى مثل الخصائص الوجدانية للتلميذ.

المطلب الثالث التعثر الدراسي و الخصائص الوجدانية

ان التعثر الدراسي قد ينتج مثلا عن اضطرابات انفعالية تبدو في قلق التلميذ وعدم استقرار حالته النفسية أو فقدان الثقة في النفس و الاجساس بمشاعر النقص والتي ترجع لطبيعة نمو الفرد والعالم الخارجي فيتاثر وجدان الفرد بمستوى دكائه واستعداداته العقلية فأثر الوجدان يظهر في مواقفه وميوله بالنسبة لمادة دون مما يساهم في التعثر
مثل هذه الاضطرابات الانفعالية تعرض التلميذ لمصاعب متعددة عند مابهة المواقف التعليمية التعلمية مما يؤدي الى تأخره الدراسي[5]
 فالاتحهات النفسية والاستعدادات التي تعد الفرد وتهيئه وتثير عنده الدافع للاستحابة  لها دور أساسي في التربية لهذا فالثعثر قدقد يكون ناتج في بعض الحالات عن الاتجهات السلبية عن موضوعات معينة وهي ليست سلوكا فطريا
اذ عادة ما يميل التلميذ الى الأنشطة الدراسية التي سبق له أن تفوق فيها أو التي يعتقد إمكانية تفوقه فيها اذ يرى بلوم bloom في هذا السياق أيضا '' أن تشكل ادراك التلميذ لنجاحه أو فشله في مهام التعلم الدراسيواستحسان أو عدم استحسان المدرسين لعمله وكذلك الأباء و الأقران  يثير لديه مواقف إيجابية أو سلية تجاه المدرسة و التعلم الدراسي
إن حوافز التلميذ على التعلم تقوم بدور إيجابي في تعلمه إذا كانت قوية وتقوم بدور سلبي إذا كانت ضعيفة إن أي نشاط تعليمي تعلمي في غياب التحفيز أو عامل الدافعية فان مآل ذلك النشاط لن يتوصل مطلقا الى نتيجة المرجوة منه وهذا ماكشفت عنه دراسة H.J HERMANS إذ بينت طموح التلميذ في أن يكون متفوقا دراسيا أمام الآخرين وأمام نفسه قد يشكل حافزا قويا على التعلم motivation de prestation  وهذا الحافز يشير إلى ميل داخلي دائم لدى التلميذ يدفعه لأن يحقق مستوى من الانجاز حدده بنفسه.

فالمتعلم كائن معرفي، عاطفي، سوسيولوجي حركي لا يمكن أن نقزمه، ونختزل وجوده وكينونته في عقله الذي يختزل المعلومات في الذاكرة، التي ما تنفك تنسى لأنها لم تكن مصحوبة بانفعالات وجدانية، وحوافز تعليمية، وتفاعلات وحوارات بين شخصية يسودها الاحترام المتبادل، وقبول الاختلاف في الرأي" غذ أن " شخصية الفرد يتمفصل فيها ما هو وجداني مع ما هو ذهني أو عقلي أو حسحركي، وتكون هيمنة أحد هذه المكونات الثلاثة وفق الوضعية التي يواجهها الفرد"[6].

هكذا يبدوا واضحا أن للحوافز على التعلم من حيث هي عامل من العوامل الوجدانية تأثير قوي على التحصيل الدراسي للتلميذ. و يمكننا أن نستنتج أن التعثر الدراسي قد يحدث نتيجة ضعف أو غياب الحوافز على التعلم.

المبحث الثالث: مقاربة التعثر الدراسي على ضوء العوامل السوسيو ثقافية
ركز البعض على المعطى الاقتصادي محاولا كشف علاقته بتعثر أو فشل فئة من التلاميذ (المطلب الأول )، بالإضافة إلى المعطى الثقافي الذي سنتطرق إليه في المطلب الثاني، واهتم بعضها الأخر بتأثير القيم على نتائج التحصيل الدراسي، أو بإبراز الدور السلبي لأسلوب استعمال اللغة (المطلب الثالث).

المطلب الأول: المعطى السوسيو- اقتصادي
من أبرز البحوث التي اهتمت بذلك نجد دراسات [7]P. Bourdieu  Passerons  التي أكدت أن التعثر أو الفشل الدراسي ينتج عن تفاعل عوامل عديدة من أكثرها حسما الوضعية الاقتصادية والاجتماعية  للأسرة، فالأسر غير المحظوظة ذات الإمكانيات المادية الجد محدودة لا يمكنها أن توفر لأطفالها حدا أدنى من الشروط الضرورية- مادية- تسمح لهم بالمتابعة العادية لدراستهم.
ومن جهة أخرى فالتفاعلات بين الذكور و الإناث في ما يتعلق بالصعوبات الدراسية والمستوى السوسيو-اقتصادي ليست بالبسيطة, وهكذا يصرح المجلس الأعلى للتربية[8] بكندا على سبيل المثال أن " في حال تكافؤ الأصل الاجتماعي تحقق الإناث نجاحا أفضل نسبيا من الذكور على كافة المستويات التعليمية، وتتجلى هذه الظاهرة بصفة خاصة عندما ينحدر التلاميذ من وسط سوسيو- اقتصادي مهمش".
يجمع كافة الباحثين في مجال علم النفس الاجتماعي على أن درجة تأثر نموذج الشخصية الذي يحتد به الطفل داخل أسرته يختلف تبعا لاختلاف المستوى الاقتصادي والاجتماعي لهذه الأخيرة. إن التنشئة الاجتماعية للطفل تتأثر بدرجة كبرى بالمستوى الاقتصادي و الاجتماعي للأسرة

المطلب الثاني: المعطى الثقافي[9]
بتعبير بورديو و باسرون "إن المدرسة تساهم في تدعيم الأفضلية الاجتماعية الممنوحة لأبناء الفئات المحظوظة.

وهذه المسالة يمكن تلمسها في كون جذور الارث المدرسي ترجع الى ارث الاوساط الاجتماعية الراقية"، فلكي تحقق المدرسة هدفها الوظيفي ،نجدها تفرض معايير ثقافية و لسانية تربطها روابط عضوية بالمقومات الثقافية و اللغوية السائدة داخل الفئات الاجتماعية الميسورة و البعيدة كل البعد عن المكونات الثقافية و اللغوية للفئات الاجتماعية المحرومة ، وعليه ، فإذا كان السبب الرئيسي في التوافق الدراسي لابناء الفئات الاولى يكمن في الاستمرار ية الواضحة بين ثقافتهم الاسروية و ثقافتهم المدرسية ، فإن الفشل الدراسي لابناء الفئات الثانية يرجع الى نوع من اللا ستمرارية بين هاتين الثقافتين ، إذ ان توافقهم يشترط تعلم طرق جديدة في التفكير و الكلام و الجلوس ايضا.

كيف تساهم المدرسة في انتاج تلاميذ متعثرين او فاشلين دراسيا؟
سؤال اجاب عنه" Establet et  Boudlet" من خلال بحثهما للوظيفة الايديولوجية التي تؤديها المؤسسة المدرسة في المجتمع الفرنسي ، وتنبني الاطروحة النظرية على اساس افتراض مفاده ان الخطاب الايديولوجي للمدرسة يدعي ان وظيفة المؤسسة هي توحيد المجتمع ، بينما تؤدي وظيفة اخرى مغايرة تتمثل في تقسيم المجتمع  و هكذا بحكم وظيفتها تعمل على استغلال التفاوتات عالى استغلال التفاوتات بين التلاميذ، و حين تدعي أن تقدم نفس التعليم ،فهي في الواقع ، تدعم التفاوت الاجتماعي و "تصنع الفشل الدراسي "ووحدهم أطفال الفئات الاجتماعية المحظوظة ، والذين يشكلون الاقلية ، استاطعوا ، في غالبيتهم العظمى ، أن يقطعوا مسارهم الدراسي الابتدائي بطريقة عادية، و على العكس من ذلك ،فإن الدراسة الابتدائية لغالبية أطفال الطبقات الاجتماعية بالتعثر.
فهي تحرص بواسطة اليات عملها الداخلية على ان يتبع اطفال الطبقات الاجتماعية المختلفة مسارات دراسية مطابقة لانتماء اتهم الاجتماعية . فالوظيفة الاجتماعية للمؤسسة المدرسية في المجتمع الراسمالي محكومة منذ البداية بالتقسيم الاجتماعي للعمل ، و بمتطلبات سوق العمل الاجتماعي من أطر و قياديين و عمال يدويين .و هذا مايفسر كون المدرسة الابتدائية تكون 20% من المفكرين و 80% من الافراد القليلي الخبرة .

المطلب الثالث :المعطى القيمي[10]

أي المعايير القيمية التي تحكم سلوك التلميذ ، و تحدد تصوره عن ذاته و عن الاخرين ، قد تشكل سببا من اسباب تعثر او تفوق التلميذ دراسيا . فإذا كانت مماثلة لمعايير النمذج القيمي الذي تتبناه المدرسة ، فإنها تسهل على التلميذ و التكيف مع متطلبات التعلم المدرسي ، اما إذا كانت مخالفة لذلك النموذج فإنها تعمل كسبب من اسباب اللا تكيف مع هذا التعلم.
إن القيم التي تسود اوساط الطبقات الاجتماعية الشعبية هي قيم الصحبة و التعاون و القوة الجسدية . و هذه القيم تتعارض مع قيم الثقافة المدرسية ، و التي اساسها التنافس والفردانية . لذا يجد اطفال الاوساط الاجتماعية الفقيرة انفسهم غرباء إزاء هذه القيم ، وغير قادرين بالتالي على التكيف معها ، مما يتسبب في تعثرهم الدراسي .

المطلب الرابع :المعطى اللغوي
لقد انصب اهتمام الباحثين حول الدور الذي يمكن ان تلعبه اللغة في الحياة الدراسية للتلميذ ،و اعتبروها متغيرا هاما يمكن ان يؤثر سلبا او ايجابا على المسار الدراسي ، و المبدا العام الذي ينطلق منه الباحثون يتلخص في ان هناك اختلافات بين الاسلوب الذي تتحدث به الفئات الاجتماعية الفقيرة اللغة ، و الاسلوب الذي تعتمده المدرسة ـوهو ذاته اسلوب الطبقات الاجتماعية المهيمنة او الفءات المثقفة منهاـو تشكل هذه الاختلافات عوائق صعبة امام اطفال الفئات الاجتماعية الفقيرة و غير المثقفة ، مما يتسبب في تعثرهم و فشلهم الدراسي .
في نفس السياق العام ، قام "كمال بكداش"بدراسة ميدانية لمشكل التداخل اللغوي بين العامية و الفصحى و علاقة ذلك بالتعليم ، فاشار الى ان الطفل ـالتلميذـيجد نفسه على عتبة ثنائية لغوية بين التعبير بالعامية و الكتابة بالفصحى ، فتشكل هذه الازدواجية عائقا امام تعلمه للغة نظرا للاختلاف بين العامي و الفصيح [11].
و من اهم الدراسات التي تناولت العلاقة بين اللغة و التعثر الدراسي دراسة B,Bernstein  فقد اكد هذا الباحث على ان طريقة او اسلوب استعمال اللغة يعتبر من اهم مسببات التعثر الدراسي . و اكد على وجود نمطين للتنشئة الاجتماعية  داخل المجتمع ، و احد تعتمده الطبقة العاملة ، والاخر تعتمده الطبقات المهيمنة . و حسب رايه اهم مظاهر هذا الختلاف ، الطريقة او الاسلوب الذي تستخدم به اللغة ، فالاوساط المثقفة تستعمل نظاما من الرموز اكثر تنويعا و تمايزا مع نظام الرموز الذي تستخدمه الطبقات الشعبية . و بما ان المدرسة تعتمد في التعليم لغة الطبقات المهيمنة فإن اطفال الطبقات الشعبية يجدون صعوبات بسبب هذا النقص اللغوي ، في مسايرة الدراسة مما يؤدي الى التعثر و الفشل الدراسي .

المبحث الرابع: التعثر الدراسي على ضوء العوامل التربوية ـالديداكتيكية
تتحدث نايفة قطامي عن اهمية المناخ الاجتاعي داخل الفصل ـحجرة الدرس ـ في عملية التعلم و تأثير بعض عناصره في أداءالمتعلمين ، و ما يسود بين التلاميذ من علاقات ودية أو عدوانية، و نوع التنظيم داخل الصف ، و سيادة جو التنافس الشديد، و التباين في أعمار التلاميذ ن و طول المقررات ، و العطل السنويةو غياب التلاميذ....

المطلب الاول :الطابع الهيكلي ـ التنظيمي للمدرسة
ما ان يلج الطفل المدرسة إلا وتتغير الامور و يتبدل العالم من حوله و تبدا المشاكل و التعقيدات ، فيبدأ التلميذ في فقدان التلقائية و الحرية التي كانت تميز حياته السابقة ت اي حياته قبل التحاقه بالمدرسة ـ فيدخل في دوامة الالزام و الخوف و ربما الهلع ، اما م هذا الطابع الهيكلي ـ التنظيمي و الجامد الذي يميز الحياة الدراسية : المقررات ، الاوامر و النواهي ، التوجيهات ، الانتظام في صفوف ، الجلوس بهدوء و الامتناع عن الكلام (و ربما عن الحركة ) لفترات طويلة و الانتباه إلى ما يقوله المدرس و ما يفعله و الالتزام بالوقت و انتظار الجرس ، و إنجاز التمارين و الواجبات و الانخراط في منافسة شرسة مع الزملاء للحصول على النقاط العالية و المراتب الاولى ، و الاعداد للامتحانات و تجنب إهانة السقوط و البحث  عن عزة النجاح ... فيدخل بالتالي في إطار يحدث له نوعا من الصدمة النفسية ـ الثقافية ، تجعله يتعلم بنوع من الضغط و الإكراه بدلا من الرغبة التلقائية و الإقبال اللغوي على التحصيل و الثتقيف الذاتي ، فتصير المعادلة السائدة في إطار هذا الطابع الهيكلي للتعليم ، هي : "في المدرسة لا يمكن لأي واحد ان يتعلم أي شيء مع أي كان و في أي وقت يشاء و بأي طريقة تحلو له " فلا بد لمن يريد أن يتعلم ، أن تتوفر فيه الشروط (السن و مكان الازدياد...) و أن يتعلم محتويات مقررة في المنهاج الرسمي العام و المشترك بين جميع المؤسسات و أن يتعلم مع مجموعة من التلاميذ المصنفين بناء على اللوائح التنظيمية المعمول بها ، و في أوقات محددة في استعمالات الزمن و بالطرق التي تفرضها التقاليد التدريسية السائدة في مدرسته و بين مدرسيه ، فلا يمكن للفرد أن يتعلم إلا في إطار ÷ذا النظام التعليمي المهيكل و الصارم من طرف الراشدين ، و فقط عندما تكون الاهداف محددة و بحضور مدرس مهيأ للقيام بالتعليم في إطار مواد و حصص و توزيع زمن مبيت سلفا .

المطلب الثاني : الطابع الفصولي ـ التتابعي
الخاصية الثانية  التي  تميز الانظمة المدرسية بشكل عام، هي الخاصية الفصولية و التعاقبية . و مؤداها أن المققررات الدراسية تبنى على اساس التعاقب و التتالي اي على اساس ان المادة الواحدة من المقرر تقسم و تجزأ إلى مجموعة من الدروس و الوحدات و داخل كل درس أو كل وحدة دراسية هناك مواضيع تكون عبارة عن حلقات متسلسلىة يؤدي الواحد منها إلى الاخر بالضرورة . فمثلا في الحساب لا يمكننا أن نتعلم القسمة قبل تعلم الضرب و لا يمكن أن نفهم و نتعلم الضرب قبل تعلم عمليات الجمع والطرح، كما لا يمكن اكتساب هذه العمليات دون اكتساب مفاهيم العدد و الزائد و الناقص... و هذا المثال ينطبق مبدئيا على اللغة و على بقية المواد الاخرى العلمية منها أو التقنية أو الادبية و نتيجة لهذه الطبيعة  التعاقبية و المتمثلة في ارتباط المواضيع داخل الدرس الواحد و بنائها بشكل متسلسل ، لا يكون امام التلاميذ من خيار سوى النجاح ، فليس أمامه من حل اخر . ذلك أن فشلهفي اكتساب الوحدة الاولى ، ينتج عنه بالضرورة فشل في اكتساب الوحدة الثانية ، ما دامت هذه الوحدة مبنية على السابقة و لا يمكن فهمها و تحصيلها ما دمنا لم نحصل بشكل ملائم الوحدة الاولى و هكذا . فإذا لم يستوعب التلميذ في مثالنا السابق، عمليات الجمع و الطرح فسيصعب عليه استيعاب الضرب و سيصعب عليه تعلم الوحدة التالية و هي القسمة. و هكذا فإن ما يحدث من تعثر بسبب الطبيعة الفصولية و التعاقبية للمواد الدراسية ، قد يؤدي إلى تاصل "ميكانيزم الفشل" لدى التلاميذ المتعثرين ، و القاعدة تقول : "إن الفشل يولد الفشل ". كما بينت العديد من الدراسات أن " النجاح  يولد النجاح"، و لو كان  النجاح كاذبا أو جزئيا و صغيرا فإنه في حد ذاته محفز على التقدم و التفوق ، في حين أنه و بمجرد ما يبدأ الفشل في الظهور كسمة في سلوك الطفل ، إلا و تنتج عنه مشاعر الخوف و القلق الذي قد يؤدي إلى تسرب ميكانيزم الفشل و الشعور بالعجز و فقدان الثقة في النفس .

المطلب الثالث:الطابع الجمعي للتدريس
 النظام التعليمي السائد حاليا في جميع الاقطار ، هو النظام الذي يغلب عليه اسلوب التعليم الجمعي .والذي يقضي تجميع اعداد من التلاميذ في قسم واحد بناء على معايير معينة ، حيث يستفيدون بشكل جماعي من نفس المنهاج و في نفس الوقت من نفس التعليم.

و لكن و أمام انتشار التعليم و دمقرطته و السعي نحو الاقتصاد (اقتصاد في الوقت و الجهد) ة ازدياد الالحاح على تعميم التعليم و الذي لم يبقى حكرا على فئة اجتماعية على أخرى و خاصة على فئة النخبة و التي كان بإمكانها توفير معلمين خصوصيين لأطفالها و توفير الظروف الملائمة لتعليمهم ... و أمام كل ذلك تضاعفت اعداد التلاميذ الطالبين للتعليم ، فأصبح من المستحيل اليوم،  اللجوء إلى التعليم الفردي كما كان يمارس في الماضي . لقد اصبح المدرس اليوم يجد نفسه و في اطار التعليم الجمعي ، امام 30 او ربما 40 تلميذا او اكثر ، فكيف يواجههم و باي اسلوب سيتعامل مع خصوصياتهم و فروقهم الفردية ، فكيف سيكون تعليمه في هذه الحالة ؟ إن المدرس في هذه الحالة يتعامل كل هؤلاء و يوجه خطابه إليهم في نفس الوقت و بشكل جماعي ، يفعل ذلك  كما لو كان أمام تلميذ افتراضي واحد . على اننا نلاحظ أن أفضل المدرسين و أكثرهم التزاما ، يجاهد في أن يتموضع خطابه و نشاطه التعليمي بشكل عام ، في الوسط، بحيث يسير بإيقاع و سرعة من يفترض أنهم متوسطون ، بناء على كون معظم التلاميذ و انطلاقا من التوزيع الطبيعي للبشر (أي التوزيع الذي يتخذ شكل الجرس )، يوجدون في الوسط . و لكن هذا الموقف الشائع كثيرا ما يكون على حساب الطرفين، أي على حساب الضعاف و الأقوياء على حد سواء .

[1] عبد الكريم غريب : المنهل التربوي، معجم موسوعي في المفاهيم السيكولوجية والديداكتيكية – منشورات عالم التربية، النجاح الجديدة، الدار البيضاء 2004
[2]  جمعة سيد يوسف : سيكولوجية اللغة والمرض العقلي، ص.184
[3]  خليل ميخائيل عوض، م. س. ص. 284 وانظر أيضا : عبدالعزيز الفقي : التأخر الدراسي ص. 84
[4] م. س. ص.286.
[5] خليل ميخائيل معوض مرجع سابق ص 270
[6]  عبدالكريم غريب : علم النفس المعاصر – المدار والتيارات، منشورات عالم المعرفة مطبعة النجاح الجديد بالدار البيضاء 2012
[7] J.C.PASSE RON, P.BOURDIEU, la reproduction, p 36.35.
[8] Conseil supérieur de l’éducation, pour une meilleure réussite des garçons et des filles, synthèse, P.1.2002.
[9] د.الغالي احرشاو –الطفل بين الاسرة و المدرسة –الفصل الرابع ،صراع القيم
[10] ع.اللطيف الفاربي – محمد ايت موحى :بيداغوجيا التقييم والدعم –اساليب كشف تعثر التلاميذ –سلسلة علوم التربية -6-
[11]  كمال بكداش : التعبير الشفهي و التعبير الكتابي ،مجلة الفكر العربي ،العددان 8-9،السنة 1979 ،بيروت

الأربعاء، 4 يناير 2017

الأخلاق و رحلة تطورها

عن موقع علومي


هل النظم الأخلاقية نظم موضوعية تميز الخير عن الشر دائماً أم أنها نتاج تطور الحضارات البشرية؟
بداية أود أن أطلب من القارئ أن يضع جميع النظريات الأخلاقية المتعارف عليها جانباً، و أن يذهب معي برحلة عبر تاريخ تطور الحضارة الإنسانية.
في هذه الرحلة سأقدم قصة قصيرة عن ظروف الإنسان التطورية، و لماذا كان مهماً أن يطور أنظمة و قوانين تضمن بقائه و تماسك مجتمعاته.
هذه محاولة متواضعة مني لوضع نظرية تفسر القوانين الأساسية التي نستقي منها التشريعات الأخلاقية.
هذه النظم الأخلاقية موجودة ليس لأننا نحب الخير أو لأننا نكره الشر، و إنما لأننا نريد و نسعى إلى البقاء.
 نعم، الخير و الشر ماهي إلا مصطلحات ترمز لأفعال تساهم في بقائنا أو أعمال قد تؤدي إلى فنائنا و هذا ما سأحلله ضمن هذه المقالة.
في أغلب الأحيان عندما تشاهد موقف ما تستطيع أن تبني استنتاج أخلاقي معين.
ترصد لصاً يسرق تقول هذا خطأ لكن قد تغفر له إذا كان بحاجة لإطعام أطفاله، تشاهد شاب يضرب عجوزاً تقول هذا عيب لكن تتعاطف مع الشاب إن تبين لك أن العجوز قد اغتصب طفلاً، تسمع أن فلان قتل فلان، تقول هذا شر ثم تتقبل إعدامه من قبل الدولة.
لماذا هذه الضبابية في تقييم الخير و الشر؟ لماذا تختلف الحضارات و الثقافات في التقييم الأخلاقي؟ ألا يوجد قانون أخلاقي عالمي كوني يميز الخير من الشر و يضع أسساً أخلاقية صالحة لكن زمان و مكان؟
هذا ما سأجيب عليه…
أنت حيٌ تُحبُ الحياة:
لنعود حوالي ٤ مليار سنة إلى الوراء و لنتخيل أنك واحد من جينات الخلية الأولى.
لديك وظيفة مهمة و هي تحليل أشعة الشمس إلى طاقة تُستَقلب ضمن الخلية لتنقسم على نفسها من جديد. نعم هي وظيفة مهمة و مسؤولية كبيرة، أيضاً من ضمن مسؤولياتك أن تنشر نفسك بدقة متناهية دون خطأ أثناء الانقسام، لأن حياة الخلايا الأخرى و استمرارها عبر الأجيال يعتمد عليك بالحصول على الطاقة. فعلاً أنت تقوم بتنفيذ مهمامك على أكمل وجه و تنشر نفسك دون أخطاء.
لديك صديق (جين آخر) مسؤوليته استقلاب الطاقة التي تحصدها أنت من الشمس و تحويلها إلى حركة و عمل ليساعد الخلية على الانقسام، مع مرور الزمن و تطور هذه الخلية تعرفت على أصدقاء جدد حتى أن عددكم أصبح بالملايين. لكل منكم مسؤوليات مختلفة، فمنكم من يعمل على بناء الألياف و منكم من يعمل في التكاثر و منكم من اختص بالجهاز العصبي و هكذا. سبب نجاحكم و تطوركم أنكم قطعتم عهداً أن تتعاونوا فيما بينكم، و أن تفعلوا كل ما بوسعكم للانتشار و الاستمرار، و هذا الاتفاق مهم بالنسبة لكم لأنكم شاهدتم ما حدث للآخرين الذين لم يتعاونوا فيما بينهم ، تلك الجينات جميعها انقرض…..
مع مرور الوقت و تطور الكائنات بقيت أنت و أصدقائك الجينات تنتشرون عبر الأحياء التي وجدت من خصائصكم فائدة، إلا أنكم في بعض الأحيان وجدتم أنفسكم في حالات تنافسية ضمن أنظمة جينية متنافسة. أيام العسل قد مضت و التنافس اشتد فتغير الاتفاق و تبدلت الأولويات. أصبحت الأولوية الآن في بقاء الكائن الذين أنتم جزء منه، هذا طبعاً لا يعني أن أحدكم يعيش في كائن واحد و إنما الأولوية لجميع الكائنات التي تحمل أكبر عدد من نسخكم. هذا يعني أنكم تساعدون بعضكم على البقاء و الانتشار بما يتناسب مع عدد الجينات القريبة منكم. مع الوقت استطعتم بناء منظومات جينية بكل الأشكال و كل الأطوار. منكم من يعيش في الماء و منكم من هو على اليابسة و البعض الآخر في السماء. احتللتم كل مكان صالح للحياة على كوكب الأرض.
لنتقل إلى المستقبل …. ٢٠٠،٠٠٠ سنة قبل الميلاد،
الجنس البشري المعاصر:
لقد قطعت أشواط و مررت بظروف قاسية إلا أنك مازلت هنا، تعرفت على الكثير من الأصدقاء و اكتسبت الكثير من الخبرات.
في هذه الفترة انخفضت أهمية مسؤوليتك بتحويل طاقة الشمس بسبب اعتماد بعض الكائنات على طرق جديدة لاستقدام الطاقة، مثلاً يوجد كائن جديد اسمه الإنسان يعتمد على افتراس كائنات أخرى. نعم تغيّر الزمن و أصبحت الحياة أصعب من قبل، اليوم أنت و جميع أصدقائك تتفهمون الحاجة للقضاء على بعضكم البعض في سبيل البقاء.
هذا الكائن “الإنسان” وجد نفسه في بيئة استوائية شحة الموارد. عليه العمل بشكل جدي و شاق لتأمين الطعام. الكثير من الأصناف الأخرى من البشر انقرضت لأنها لم تتعلم كيف تعمل بشكل ٍجماعي. أنت كواحد من هذه الجينات داخل الجسم لاحظت ارتفاع نسبة الجينات التي تساهم في تعزيز العمل الجماعي و التعاون. نعم اليوم أنت لست خائف من الانقراض لأنك ضمن جسم كائن يعلم قيمة العمل الجماعي.
إذاً الحياة هي عملية بدأت منذ مليارات السنين و مرت بالعديد من العقبات و الإنقراضات و بقي من الأحياء فقط من استطاع على التأقلم مع المتغيرات. على الرغم من صعوبة الظروف و الحاجة لقتل أحياء أخرى للبقاء إلا أن جيناتك لازالت تقدر الحياة و تعمل ما بوسعها على استمرارها مع اختلاف بسيط و هو التمييز على أساس التقارب الجيني. كل ما كانت الجينات أقرب كل ما ازداد التعاون و الدعم على البقاء…
التجمعات السكنية البشرية:
مع تطور الإنسان و اكتشافه الزراعة، تغيرت استراتجياته البقائية بشكل ثوري. لم يعد الإنسان مجبر على الانتقال كل يوم من مكان إلى آخر بحثاً عن الطعام و الموارد. بدأ الإنسان في تطوير مجتمعات صغيرة ثابتة قادرة على استدامة نفسها من خلال الزراعة و الصيد. هذا التطور الجديد وضع تحديات جديدة و عقبات مختلفة. ازدياد التعداد السكاني بين البشر يعني التضارب في المصالح فيما بينهم مما يؤدي إلى خلافات في بعض الأحيان تؤدي إلى انهيار القبيلة. انهيار القبيلة يجعل أفرادها عرضة للعديد من المخاطر التي قد تؤدي إلى موتهم جميعاً. لهذا طوّر البشر وسائل تواصل و قوانين تضمن ترابط قبائلهم و منعها من الانهيار. تخيل إنسان وحيد في الأدغال الإفريقية. هذا الإنسان لن يصمد أكثر من بضعة أيام إلى أن يموت جوعاً أو يتم افتراسه من قبل الحيوانات الأخرى.
إذاً الترابط المجتمعي من الناحية الغريزية هو بمثابة الحصول على الغذاء و الموارد. لأن انحلال الترابط الاجتماعي يعني انهيار القطيع و موت أفراده. الترابط الاجتماعي تجسّد باستقرار مجموعة من البشر في بقعة جغرافية محددة يستطيع أفرادها حماية أنفسهم و إنتاج مواردهم بشكل مستدام. الغريزة البشرية الاجتماعية هي غريزة لا يستهان بها و قد بدأت. فهم الإنسان و أنتبه لأهمية العيش ضمن مجموعات و جميع فصائل البشر الأخرى التي لم تنتبه لهذه النقطة انقرضت تاركةً البشر ذو الخبرة الاجتماعية ليبنوا و يطوروا حضاراتهم….
 BCE لننتقل نحو المستقبل إلى عام ٢٥,٠٠٠ قبل العصر الشائع :
في يوم من الأيام استيقظ أفراد قبيلة على صراخ إحدى النساء… ركض أفراد القبيلة نحو مكان سكنها و وجدوا زوجها مرمي على الأرض و قد تعرض للقتل. يوجد آثار أقدام تتجه نحو مأوى أخر لأحد أفراد القبيلة. مباشرة توجه أخو الضحية و دخل إلى منزل المشتبه به و قتل من فيه. سمع بالحادثة أقرباء القتلى الجدد، فتوجهوا بدورهم نحو قاتليهم و انتقموا منهم و هكذا دخل أفراد القبيلة بدائرة من الثأر حتى قُتل أغلب الرجال و تيتم الأطفال و أصبحت النساء دون من يحميها من سبي غزوات القبائل الأخرى.
– يجدر الذكر أن أحد الغرائز الإنسانية المهمة للبقاء هي الثأر، و التي سأتطرق إليها لاحقاً في المقال…
– عندما أقول قبيلة أعني تجمع بشري صغير الحجم قبل تطور الحضارة و نشوء المدن…
القبيلة التي ذكرتها مات ذكورها و انقطع نسلهم لأنهم لم يطوّرا أعراف و قوانين تنظم علاقاتهم و تضمن عدم تفكك مجتمعهم الصغير. بينما القبيلة التي غزتهم و اختطفت نسائهم و استعبدت أطفالهم استطاعت أن تستمر و تتطور لأنها ابتكرت بعض الأنظمة التي تحكم و تنظم تعامل الأفراد فيما بينهم.
هذا القبيلة صاحبة القوانين تعرضت لحادث شبيه سابقاً حيث قام أحد أفرادها بقتل فرد آخر، لكنهم تعاملوا مع الحادثة بشكل مختلف. هم لديهم قانون ورثوه من أجدادهم. هذا القانون ينص أن القاتل يقتل و أن هذا القانون من سنن السماء فلا يستطيع أحد أن ينتقم أو يرفض الانصياع لهذا القانون. بهذه الحالة، يشارك جميع أفراد القبيلة بمعاقبة الفرد الذي يخالف القانون السمائي و القاتل يقتل و تنتهي سلسلة القتل عند هذه الحلقة. هكذا لن يثأر أحد لمقتل القاتل لأن الجهة التي تسن القوانين ليست بين أفراد القبيلة و إنما هي في السماء تحرص على إحقاق الحق و إقامة العدل و محاربة الظلم.
من أين تأتي القوانين الأخلاقية؟
السبب الوحيد المباشر لوجودي اليوم و قدرتي على كتابة هذا المقال تعود لبرمجة جيناتي على التكاثر. ضمن هذه البرمجة أنا أعمل كل ما بوسعي للعمل على نشر حمضي النووي إلى الجيل القادم لكن هذه العملية لا تقتصر على التكاثر الجنسي بشكل حصري. بينما أنا أساهم بنشر جيناتي عبر مساعدة أخي أن ينشر جيناته أيضاً، أساعد في نشر جيناتي عبر مساعدة أولاد عمي و أساهم في نشر جيناتي عبر العناية بأحفادي و جميع أفراد أسرتي و قبيلتي و الجنس البشري عموماً. إذاً كل البشر الموجودون على كوكب الأرض اليوم هم أحفاد بشر استطاعوا أن يعيشوا ضمن مجتمعات منوّعة و ظروف مختلفة تنظمها قوانين محددة لضمان الترابط الاجتماعي.
جميع القوانين الأخلاقية التي نمارسها اليوم هي نتاج ألاف السنين من التطور و التأقلم.
يجب النظر إلى النظم الأخلاقية من ناحية تطورية بحتة و فهم أنها وسيلة مبتكرة مثلها مثل اكتشاف النار أو أكل اللحوم. الأنظمة الأخلاقية هي اختراع بشري للمرور عبر الأجيال دون انهيار التجمعات البشرية الصغيرة. هذه النظم الأخلاقية لها محركين أساسين. هذان المحركان لهما هدف واحد و هو بقاء الجنس البشري و استمراره عبر الأجيال. سأقوم بتفصيل هذه النقاط بشكل أوسع في سياق المقال. أرجو المتابعة….
الكذب، القتل، الخداع، الاغتصاب، السرقة، الخطف، التضحية، العبودية، العطاء، الكرم، الفداء، الشجاعة، التعذيب كلها أعمال و تصرفات و صفات بشرية تم تقيمها بناء على نظام موضوعي معني بضمانة استمرار الحياة و تماسك القبيلة. نحن لا نستطيع تقييم أي من هذه الأفعال على أنه خير أو شر إلا في سياق غريزة الترابط الاجتماعي و مدى تأثير هذه الأفعال على المجتمع بشكل خاص و استمرار الحياة بشكل عام.
لنأخذ بعض الأمثلة:
الكذب هو توصيف لحالة تواصل غير صادقة بين عدة أطراف. المشكلة الأخلاقية مع الكذب ليست بكونها عملية مخادعة و إنما بالأثر الذي تتركه هذه العملية على الترابط الاجتماعي.
إذا رأيت شخص تعرفه في الشارع و دعاك هذا الشخص إلى تناول كوب من القهوة و كان جوابك بالرفض لأنك “لا تستمتع بقضاء وقت معه” سيعُتبر جوابك غير لائق و غير أخلاقي مع أنك قلت الحقيقة. بينما لو أنك كذبت على هذا الشخص و قلت له “أنك متأخر و عليك الذهاب لموعد مسبق” فهذا يعتبر نوع من المجاملة المقبولة و المحبذة مع أنك قمت بخداع و الكذب.
من هنا أود أن أذكر نقطتين:
النٌظٌم الأخلاقية لم و لن تكون يوماً نظم موضوعية (دائماً صحيحة). هي نظم ابتكرها الإنسان لضمان الهيكلية الاجتماعية. محاور مثل العبودية و المثلية الجنسية و حقوق المرأة جميعها محاور تطورت ضمن النظم الأخلاقية مع الزمن. تأثير كل من هذه المحاور على المجتمع هو ما يحدد تعامل المجتمع معها و تصنيفها الأخلاقي. نُظمنا الأخلاقية لا تعتبر غريزة الكذب بشكلها الشمولي ممنوعة أو لا أخلاقية و إنما تمنع الكذب الذي يسبب أثار سلبية على ترابط المجموعة. إذا تخيلنا فريق رياضي عليه العمل بشكل جماعي ضمن استراتجيات تساعده على تمرير الكرة و إحراز الأهداف فإن النظم الأخلاقية بمثابة مدرب الفريق الذي يسعى دائماً على ضمان ترابط الفريق و حفظ حق اللاعبين في حال اعتدى أحد اللاعبين على الآخر.
الكذب ذو الأثر الإيجابي على الترابط الاجتماعي هو مجاملة.
الصدق ذو الأثر السلبي على الترابط الاجتماعي هو وقاحة.
القتل ذو الأثر السلبي على الترابط الاجتماعي هو جريمة.
القتل ذو الأثر الإيجابي على الترابط الاجتماعي هو عدالة القانون.
إذاً التقييم الأخلاقي ليس مرتبط بالفعل بحد ذاته و إنما بتأثير الفعل على الترابط الاجتماعي. لهذا نجد تفاوت في الأنظمة الأخلاقية بين المجتمعات و نشعر بعدم موضوعيتها و يتفاجئ البعض أن نظمهم الأخلاقية هي ليست لكل مكان و زمان و أنها مرفوضة ضمن مجتمعات أخرى و العكس.
المجتمعات تتطور و بالتالي تتغير الآثار المترتبة على ما يعد أخلاقيا أو غير أخلاقي. مثلاً، العبودية كانت عمل مقبول و منصوص عليه ضمن كافة الأديان في الفترات السابقة لأن المجتمعات التي كانت تستعبد كانت تجني فوائد اقتصادية و لكن مع تطور هذه المجتمعات و ازدياد أعداد العبيد فيها نتج تأثير السلبي على الترابط الاجتماعي و بالتالي تتغير المنظومة الأخلاقية و تبدأ برفض العبودية. نعم، رفض العبودية ليس ناتج عن شعور بعدالة و مساواة سماوية مع من نستعبدهم أو من يستعبدوننا و إنما بسبب الآثار السلبية التي تنجم عن هذه الأفعال على المجتمع. أي فعل يسبب تفكك في المجتمع هو فعل غير أخلاقي و العكس صحيح.
مثالاً، العنصرية كانت مقبولة بشكل عالمي سابقاً بسبب انغلاق المجتمعات على نفسها، و لكن مع عولمة المجتمعات و اختلاط الناس أصبحت العنصرية غير مقبولة و مرفوضة بشكل عام و خصيصاً ضمن المجتمعات المختلطة عرقياً. لماذا؟ لأن العنصرية في هكذا مجتمعات ستؤدي إلى انهيار هذه المجتمعات و لهذا تعتبر عمل لا أخلاقي و لكن ليس لأن العنصرية في أساسها سيئة و إنما بسبب تأثيرها السلبي على الترابط الاجتماعي.
*ملاحظة: علمياً لا يوجد شيء اسمه عرق و هي مفرزات تطورية تتعلق بالجنس البشري حصرياً. جميع البشر متطابقين بنسبة ٩٩٪ بغض النظر عن مكانهم الجغرافي. نحن لا نرصد عنصرية عند بقية الكائنات الحية. الأحصنة البيضاء لا تفضل الأحصنة البيضاء أو تتجنب الأحصنة السوداء.
إذاً ما أقدمه في هذه السطور أنه لا وجود لمفهوم أخلاقي عالمي موضوعي دائم و إنما قوانين بشرية منصوصة لتحقيق هدفين اثنين. استمرار الحياة و تماسك المجتمع. هذا يعني أننا إذا أخذنا أي مثال و أسقطناه على هذه الفرضية يجب أن لا يتعارض مع هذين الشرطين. للتأكد من صحة هذه الفرضية اختر أي فعل و مرره عبر الأسئلة التالية:
ما هو تأثير هذا الفعل على استمرار الحياة بشكل عام و استمرار الجنس البشري بشكل خاص؟
ما هو تأثير هذا الفعل على الترابط الاجتماعي ضمن مجموعتي؟
الشق الأول المتعلق باستمرار الحياة و نشر الجينات له أبواب عديدة أهمها الاستثمار الجيني. لهذا نجد أن النساء و الأطفال لهم حيز مهم جداً في تقييم أثر الأفعال عليهم. الأنثى أثمن و أغلى من الذكر من حيث قيمة الاستثمار الجيني و الطفل لديه مستقبل جيني لم يتم استثماره بعد لذلك يأخذ النساء و الأطفال مقام أعلى في تقيمنا الأخلاقي. (للمزيد من المعلومات اقرأ مقالي عن الاستثمار الجيني).
يجدر الذكر أن الشرط الأول تزداد قيمته كلما ازداد التقارب الجيني. مع هذا يجدر الذكر أنه على الرغم من أهمية الحفاظ على الحياة إلا أن الشق المتعلق بالترابط الاجتماعي هو شرط أكثر إلحاحا و أهم من حيث الأولويات. لهذا نجد أننا نتغاضى عن إزهاق الحياة في سبيل الترابط الاجتماعي. ليس لدينا مانع من قتل مئات الألوف من البشر مقابل ضمان الترابط ضمن مجتمعنا.
بعض الأمثلة:
قمت بطرح استبيان ضمن مجموعة من أصدقائي في أحد المجموعات التي أنتمي إليها على الفيس  بوك. كان السؤال هو التصويت لأكثر الأعمال اللاأخلاقية بنظر المجموعة كل مشارك يحق  له اختيار ٣ أعمال لا أخلاقية. طبعاً هذا الاستبيان ليس استبيان علمي إذ أنه يفتقر لإجراءات التحكم و الحيادية العلمية إلا أن النتائج كانت كالتالي….
٩٩ صوت الممارسة الجنسية مع الأطفال
٩١ صوت القتل
٦٨ صوت للاغتصاب بشكل عام
٤٥ صوت للتميز العنصري
١٢ صوت للحرب
الخ….
أرجو أن ينظر القارئ لهذه النتائج و يبني استنتاجه لماذا تم تقييم هذه الأفعال بهذه التسلسلية. بقية الأفعال كانت الكذب، الحكم الديكتاتوري، التعذيب، التقديس الأعمى، السرقة، الاختطاف، الثأر، الخيانة، الغدر….
لننظر إلى بعض الأمثلة و نقيمها من الناحية الأخلاقية ضمن السؤالين التالين:
– ما هو تأثير هذا الفعل على استمرار الحياة بشكل عام و استمرار الجنس البشري بشكل خاص؟
– ما هو تأثير هذا الفعل على الترابط الاجتماعي ضمن مجموعتي؟
مثال #١
السرقة: تعد عمل سلبي بسبب ثأر الضحية من السارق لكن السرقة تعد أقل وطأة من القتل إذ أنها غير مؤثرة سلباً على استمرار الحياة. أيضاً إن قلنا أن السرقة تمت من قبل شخص لا يريد المسروقات لنفسه و إنما يريد توزيعها على الفقراء و المحتاجين في المجتمع حينها يصبح لدينا روبن هود و بطل قومي عوضاً عن سارق مجرم. إذاً مرة أخرى الفعل بحد ذاته غير مهم و المهم الأثر الذي يتركه ضمن سياق الشروط الذي ذكرتها.
لتقييم هذه القصة من الناحية الأخلاقية:
مثال #٢
أنت تقود قطار مسرع خارج عن السيطرة يتجه باتجاه مجموعة من الأشخاص. هذه المجموعة تتكون من خمسة أشخاص و ستقتلهم بشكل مباشر. لديك الخيار أن تنقذ الخمس أشخاص عبر تحويل القطار إلى اتجاه أخر لكن لديك مشكلة، إذ أن تحويلة السكة الأخرى يوجد عليها شخصين واقفين أيضاً. إذاً أنت ستتسبب مقتل إما خمسة أشخاص أو شخصين، الخيار لك.
هل تنقذ خمس أشخاص مقابل الشخصين المتواجدين على السكة الأخرى؟ أم تترك الخمسة يموتون؟
أغلب الناس تجيب على هذا السؤال الافتراضي من منطق أن الفعل الأقل شراً هو إنقاذ الخمسة أشخاص مقابل الشخصين.
الآن لنغير بعض المعطيات في القصة و نفترض أنك لا تعرف الخمس أشخاص نهائياً، لكن الشخصين على السكة هما أطفالك أو والديك أو أخوتك (من أفراد عائلتك المقربين).
هل سيختلف قرارك؟
الأغلبية تختار إنقاذ أفراد عائلتهم وذلك لأن العلاقات الأسّرية هي الأهم من ناحية التقارب الجيني. كما ذكرت سابقاً فأنت مبرمج أن تفعل كل ما بوسعك لتسهيل انتشار جيناتك و بقائها. إذا أضفت لك خيار ثالث و هو سكة جديدة عليها بعض الماشية، أظنك ستختار الماشية و إذا أضفنا سكة رابعة عليها بعض النباتات فستختار النباتات و هكذا. كل ما ابتعدنا جينياً كلما انخفض مستوى تعاطفنا.
هذا المثال يوضح آليات التقييم الأخلاقية و التعاطف باستخدام الشرط الأول.
غريزة الثأر:
الثأر غريزة مهمة جداً في تطور الإنسان حيث أننا مستعدين أن ندفع ثمن أكبر من الضرر الأساسي في سبيل الانتقام. لماذا نقوم بالانتقام رغم أن العملية خاسرة في جميع الأحوال؟ الضرر الأصلي عادة يكون قد وقع و الانتقام لن يغير شيء من الواقع بل على العكس قد يزيد الوضع سوء و مع ذلك نجد أنفسنا مندفعين للانتقام.
هذه الغريزة ضرورية في إقامة ردع بين الأفراد في المجموعات. البشر الذين لا يثأرون انقرضوا بسبب عدم وجود روادع بين أفراد مجموعاتهم مما أدى إلى انهيار هذه المجموعات و انقراض أفرادها. طبعاً القوانين في يومنا هذا ما هي إلا ثأر مؤسساتي لما فيه فائدة و ضمانة في التماسك الاجتماعي. بشكل عام يوجد في علم الأحياء نظرية اسمها استراتجيات الاستقرار التطوري Evolution Stable Strategy والتي تنص أن أي تجمع حيوي فيه أفراد متفاعلة مع بعضها سيتواجد في هذا التجمع أفراد تخالف القوانين السائدة ضمن المجتمع و المجتمعات هذه ستقوم بشكل طبيعي في بناء استراتجيات انتقامية من هؤلاء الأفراد لضمان استقرارها و عدم السماح بمخالفة القوانين.
من أهم هذه الاستراتجيات و أكثرها انتشاراً بين الأحياء هي استراجية “تيت فو تات” أو Tit for Tat و التي تنص على المبدأ الشهير “العين بالعين”. لهذا لا أعتقد أن حامورابي هو من وضع هذا القانون و أنه قانون أقدم من الحضارة البشرية أصلاً.
التضحية و حب الوطن:
لماذا يقوم شخص ما بالتضحية بنفسه مقابل الآخرين و لماذا يعتبر هذا العمل إيجابيا من الناحية الأخلاقية؟
حب الوطن و الشعور الوطني يرتبط بشكل مباشر مع التقارب الجيني إذ أن المجتمعات المتواجدة ضمن مجال جغرافي محدد تكون عادة متقاربة جينياً. لذلك التضحية مقابل هذه المجموعة تكون مربحة جينياً للشخص الذي يضحي بنفسه. وجود الأفراد ضمن مساحة مشتركة يعني أن نسبة تشاركهم الجيني عبر الأجيال هي نسبة عالية جداً و خصيصاً عند الشعوب المتجانسة جينياً (محدودين جغرافياً بعوامل تمنعهم من الاختلاط).
الحرب:
الالتزام باحترام الحياة هو شرط أساسي عند جميع الأحياء، لكنه أيضاً مرتبط بعدم تأثير هذا الالتزام على حياة الشخص و المجموعة التي ينتمي إليها. هذا يعني أن جميع الأحياء تلتزم باحترام الحياة طالما أن هذا الاحترام لا يؤثر سلباً على جيناتها الشخصية (١٠٠٪ من نفسها). تماسك المجتمع أو الوطن يؤثر بشكل مباشر على جينات الشخص.
الآن الانتشار الجيني عادة يكون مرتبط جغرافياً، لهذا نجد أن التعاطف الجيني بعد العائلة يصبح مناطقياً لأن هذا يجسد تقريب منطقي لانتشار الجينات المتشابهة بين الأفراد. أنا ثم عائلتي الصغرى ثم عائلتي الكبرى ثم حارتي ثم مدينتي ثم دولتي ثم قارتي ثم عرقي (تشابه فيزولوجي) ثم الجنس البشري. في حال الحروب يتم التقييم ضمن التقارب الجيني المناطقي. لهذا نجد أن الحروب الأهلية عادة تكون حروب إما ذو طابع عرقي (عقائدي أيضاً) أو طابع مناطقي. يوجد تأثير آخر و هو تأثير الانتماء الديني لكني لن أتطرق له ضمن هذه المقالة و يمكن القراءة عن هذا التأثير في مقالة سابقة لي اسمها “غريزة الإيمان”.
المثلية الجنسية:
المثلية الجنسية هي توجه جنسي طبيعي موجود بنسبة بين ٧٪ إلى ٢٢٪ في الولايات المتحدة مثلاً بناء على إحصاء قام به جالوب في عام ٢٠٠٢. بسبب تطور الحضارة البشرية و فهم الأبعاد البيولوجية للمثلية الجنسية بدأنا نرصد تبدل في التقييم الأخلاقي لهذه الحالة الطبيعية. لنعاين ما تغيير ضمن سياق الفرضية التي طرحتها. سابقاً:
في السابق كان الفهم الشائع للمثلية أنها معدية و تتسبب في تحول الأشخاص من أشخاص مغايرين جنسياً إلى مثليين.
إذا قمنا في تقييم هذه الفهم السائد عن المثلية سنكتشف أنه يعارض الشرط الأول في بناء النظم الأخلاقية و هو أن المثلية تتعارض مع دعم انتشار الحياة و الحفاظ عليها.
العلاقات العاطفية و الجنسية بين نفس الجنس تشكل تهديداً للنسيج الاجتماعي المتعارف عليه بسبب اعتبار أن مثل هذه التصرفات ستمنع الذكور و الإناث من زواج و هذا يشكل خرق للعادات و القوانين المتعارف عليها.
إذا قمنا في تقييم هذا الشق من الفهم السابق للمثلية سنجد أنه يتعارض مع الشق المتعلق بالترابط الاجتماعي.
إذاً الفهم الخاطئ لماهية المثلية الجنسية أدى إلى رفض هذا التوجه الجنسي و اعتباره لا أخلاقي.
اليوم في القرن ٢١:
تطور وسائل الاتصال و انتشار العلوم، أسس في بناء أرضية جديدة من الحريات. اليوم نحن لم نعد مرتبطين بمجتمعاتنا الجغرافية. هذا يعني أننا لسنا مجبرين على قبول جميع الأفكار المحيطة بنا جغرافياً لأننا قادرين على التواصل و الانتماء لمجتمعات أخرى عبر شبكات التواصل الاجتماعية و الانترنت. ازدياد الوعي حول التوجهات الجنسية المختلفة و الفهم العلمي لتفاصيلها ساهم بشكل مباشر بقبول هذه التوجهات الجنسية إذا أنه تبين أنها حالة طبيعة غير معدية و لا تشكل خطراً على استمرار الجنس البشري و لا تشكل تهديداً للنسيج الاجتماعي إذ أن الأشخاص المغايرين جنسياً لن يتحولون لأشخاص مثليين لمجرد تعاطفهم مع حقوق المثليين و قبولهم كأشخاص طبيعيين. لمزيد من المعلومات حول المثلية الجنسية و ماهية التوجهات الجنسية يمكنك قراءة مقالي “المثلية الجنسية” أو “الجنس و الحب”
الأشخاص الذين يعتبرون المثلية الجنسية عمل لا أخلاقي هم بأغلب ظني ضمن سياق الفهم المغلق السابق للمثلية باعتبارها حالة معدية خطرة على بقاء الجنس البشري.
البيدوفيليا أو ممارسة الجنس مع الأطفال:
ممارسة الجنس مع الأطفال أيضاً توجه جنسي مثلها مثل التوجه المغاير (ذكر و أنثى) لكننا نعتبرها عملاً لا أخلاقياً و جريمة يعاقب عليها القانون بأشد العقوبات. لماذا؟
لنعاين هذه الحالة من خلال الفرضية التي وضعتها بين أيديكم. على الرغم من أن هذه الحالة هي حالة طبيعية إلا أن لها عدة تأثيرات سلبية على استمرار الحياة و الترابط الاجتماعي.
الاعتداء الجنسي على الطفل يتم دون موافقة الطفل لهذا يصنف هذا النوع من التفاعل “بالاعتداء” و الذي يستوجب رداً ثائراً من قبل أهل الضحية الطفل. لهذا يتوجب وضع قوانين تضمن الثأر لأهل الطفل و مؤسسة هذا الثأر بطريقة نبعد هذا النوع من الأشخاص عن الأطفال بشكل عام و التفاعل الاجتماعي بشكل خاص.
الآثار النفسية السلبية على الطفل تلازمه مدى الحياة و تؤثر على فعاليته في المجتمع. الطفل يشكل قيمة عالية جداً من حيث الاستثمار الجيني بالنسبة لأهله إذ أنه يمثل جسر العبور نحو الأجيال القادمة بالنسبة لأهلة و عندما يأتي أحدهم و يعتدي على ممر عبورهم الجيني المستقبلي فهذا يستوجب رداً على مستوى الحدث.
كما ذكرت سابقاً أن الأطفال و النساء لهم قيمة جينية عالية لذلك أي اعتداء عليهم يكون له تداعيات ثأرية عالية جداً و لذلك يتوجب وضع عقوبات قاسية تتناسب مع الجرم.
الملخص:
إذاً في النهاية أود أن أقول أن النظم الأخلاقية ما هي إلا قوانين بشرية تم ابتكارها لحماية المجتمعات البشرية من الانهيار. اليوم و مع تطور تكنولوجيا الاتصالات، سنجد ثورة أخلاقية جديدة إذ أن الكثير من المعطيات تغيرت و لم يعد تأثير تلاحم المجتمعات ملح كما كان سابقاً. اليوم أنا لدي أصدقاء من كل أنحاء الكرة الأرضية و أتكلم معهم أكثر من جيراني المقيمين بالقرب مني. اليوم أصبحت الكرة الأرضية بمثابة مجتمع كبير واحد.أتوقع في المستقبل القريب انخفاض الحروب ذو الدوافع الوطنية و ارتفاع وتيرة الحروب المبنية على الاختلافات العقائدية. الشعور الوطني مهم في توحيد السكان ضمن قوالب جغرافية، و لكن و بسبب التواصل العالمي بين الأفراد لم يعد الشعور الوطني ذو أهمية ترابطية بين الأفراد و سنشهد تطور في الصراعات من صراعات وطنية إلى صراعات فكرية.
القتل و الكذب و السرقة و الاغتصاب و الخطف و الاختلاس و الخداع و الخيانة جميعها أعمال لها تأثير سلبي معين على جودة الحياة عموماً و على ترابط المجتمعي خصوصاً و لهذا هي شريرة.
من المعلوم أن الأديان تدعي أنها مصدر الأنظمة الأخلاقية و لكني اليوم أجد نفسي مجبر أن أقول أن الأديان هي من أكثر العوامل المؤثرة سلباً على مستقبل الجنس البشري و هذا لأنها تجعل أتباعها يشعرون بوهم الوضوح الأخلاقي و لأنها تعمل على خلق “نحن” و “هم” في وجه مجتمعات تتجه نحو العالمية و التواصل المباشر. أيضاً، الأديان لا تقدم نظام مرن متغير مع التطور الحضاري و إنما أخذت عينة من الأنظمة الأخلاقية التي كانت مناسبة قبل ألاف السنين و ادعت أن هذه الأنظمة صالحة لكل زمان و مكان.
نعم نحن نشهد نوع جديد من التطور سيكُتب عنه في يومٍ من الأيام.
فهم خلفية الغرائز الأخلاقية و من أين تأتي هذه القوانين و الأنظمة سيمكننا من تعديلها بشكل يتماشى مع تطور الجنس البشري و يساهم في ارتقاء مجتمعاتنا نحو مجتمع الكوكب الواحد، كوكب الأرض. لنجعل الأرض قبيلتنا…