الاثنين، 28 مارس 2016

تحرير التعليم .. دعوة «باولو فريري» للقضاء على «التعليم البنكي»






تتردد كل مرة  الصيحة المعيارية للمعلم البرازيلي الأشهر باولو فريري (Paulo Freire ): لايوجد تعليم محايد ، بل تعليم يقهر، أو آخر يحرر. فقبل 16 عاماً ، وفي شهر مايو ، رحل فريري الذي وضع قضية التربية والتعليم في العالم الثالث على طاولة النقاش العالمي، حين نادى بالأخذ بالتعليم النقدي (الإشكالي) بدلاً عن ذلك الذي يزيد في تبعية الشعوب.
يقول «باولو فريري»: «إن قرار تعليم الشعب القراءة والكتاب هو نفسه قرار سياسي. ومهما يحدث فإنه يجب علينا أن نحذر من التلميحات التي تقال بذكاء أحياناً وخبث أحياناً لإقناعنا بأن تعليم القراءة والكتابة عمل فني محض ولا يجوز خلطه بالسياسة. ذلك أن تعليم القراءة والكتابة لا يمكن أن يكون عملاً حياديًا. فكل ضرب من التعليم يقتضي بطبيعته أن يكون له قصد سياسي».
لعل أهم ما يميز هذه النظرية أنها جاءت تعبيرًا عن أوضاع المجتمعات في العالم الثالث وقدمت تفسيرًا لما يعانونه من (الفقر والتبعية والقهر والجهل) ومن ثم استهدفت تمكين شعوب العالم الثالث من تجاوز  التخلف عن طريق التربية التي تنظر إلى التحرير وليس التبعية فهذه النظرية جعلت من «التحرير التربوي» وسيلة لتحرير المجتمع من مشاكله الاجتماعية.

من رحم المعاناة
ولد باولو فريري سنة 1921م في مدينة رصيفي في البرازيل. وهي في ذلك الوقت من أبشع مراكز الفقر في العالم الثالث. تتركز فيها خصائص النموذج البرازيلي في التنمية ومشكلاته، فهي مركز صناعي هام، وموطن حركة عمالية قوية، ومسرح اضطرابات ومصادمات دامية بين الجماهير والسلطات الدكتاتورية الحاكمة. وهو ينتمي إلى أسرة متوسطة الحال، أوقعتها الأزمة الاقتصادية في الفقر، مما جعله يعاني الجوع، ويقسم على أن يكرس حياته لمحاربة الفقر والقهر السائدين في مجتمعه. حصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة رصيفي سنة 1959م، وعمل فيها أستاذًا لتاريخ وفلسفة التربية ،حتى وفاته في الثاني من مايو عام 1997م.
نسج باولو فريري فلسفته التربوية من خيوط متنوعة: من الدراسة النظرية التي تأثرت بكتابات الثوار والراديكاليين ومن الممارسة العملية في تدريس التربية والعمل في مشروعات تعليم الكبار ومحو الأمية لمدة تزيد على خمسة عشر عامًا في المناطق الحضرية والريفية في البرازيل. ومن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة السائدة بين الجماهير، انخفاض مستوى الوعي، وسيادة الجهل. ومن الأوضاع السياسية  سيطرة الدكتاتورية في الداخل والتبعية للخارج. ثم من الأوضاع التعليمية السيئة، حيث وجد في البرازيل في الستينيات أربعة ملايين طفل في سن التعليم خارج المدارس، وستة عشر مليون أمي من البالغين.
فلسفة لم تأت نتيجة للتفكير والدراسة فقط، بل ترجع جذورها إلى مواقف محددة وهي - كما يقول - ليست فلسفة وضعت في صورة نهائية، بل هي قابلة للتعديل والإضافة مع استمرار التفكير والدراسة والممارسة العملية.
فلسفة باولو فريري ،بالتالي، لم تأت فقط من التفكير والدراسة والتنظير بقدر ما جاءت نتيجة للدراسة وللممارسة العملية والواقع الحياتي، فباولو فريري لا ينقل فلسفات الدول المتقدمة أو يخاطبها بل يفكر في بلدان العالم الثالث ويعمل من أجلها دون تجاهل لتجربة العالم المتقدمة، فأخذ منها أفضل ما فيها مما يمكن أن يناسب الوضع القائم الذي يعمل فيه.

أسس صريحة
قامت أفكار وبرامج باولو فريري التربوية على أسس فلسفية واضحة:
- الإيمان العميق بالإنسان وبجماهير الشعب وقدرتها على تغيير أوضاعها وتغيير العالم.
- النظر إلى المعرفة على أنها عملية بحث لاتلقين، وأنه لا يوجد جهل مطلق أو حكمة مطلقة.
- النظر إلى العالم على أنه عملية متجددة متغيرة وليس وضعًا ثابتًا فيزيقيًا واجتماعيًا.
- أن الوعي والنظرة الناقدة مفتاحا الطرق إلى التعليم، وفهم العالم، وتغييره.
- أن التعليم عملية تغيير وتحرير اجتماعي.
لقد كان فريري يؤكد دائمًا أن التعليم في بلد مقهور يكافح من أجل التحرر يجب أن يكون سياسيًا غير محايد، وإلا فلن ينجح في تحقيق أهدافه، وأن التعليم أداة للتغيير الاجتماعي الثوري للواقع الذي تعيشه بلدان العالم الثالث، وللتغلب على الفقر والقهر والتبعية.

تشريح القهر
نقطة الانطلاق في فلسفة باولو فريري التربوية هي تحليل عملية «القهر» التي يعانيها العالم الثالث، وإيضاح نتائجها الاجتماعية والنفسية ومحاولة اكتشاف الطريق للتغلب عليها.
لقد بين فريري في كتابه «تربية المقهورين Pedagogy of the Oppressed أن القهر أو السيطرة هو السمة الرئيسة للعصر الذي نعيشه.
ويعني فريري بالقهر في العالم الثالث: ذلك النسق من المعايير والإجراءات، والقواعد، والقوانين الذي يشكل الناس ويكيف طبيعتهم في المقام الأول، ثم يضغط بعد ذلك على عقولهم حتى يعتقدوا أن الفقر والظلم الاجتماعي حقيقتان طبيعيتان ولا يمكن تجنبهما في الوجود الإنساني ولا يتم ذلك إلا حينما يكون النفوذ والسلطة لدى قلة من الناس، والخرافة، والوهم في عقول الكل.
وقد وجه فريري فكرة إلى واقع أمريكا اللاتينية ليكشف الحقيقة التاريخية لواقع القهر، وفهم تفسير الحواجز التي تحول دون تحقيق الإنسان لآدميته ولإنسانيته الكاملة.
ويقول فريري مشخصًا هذا الواقع المعوق للتنمية والمكرس للتخلف: «إن مجتمعات أمريكا اللاتينية مجتمعات مغلقة تتميز ببنى اجتماعية صارمة الهيراركية، وبنقص السوق الداخلية لأن اقتصادياتهم تدار من الخارج، وبتصدير المواد الخام واستيراد السلع الاستهلاكية دونما أن يكون لهم أي تدخل من هاتين العمليتين، وبنظام تربوي انتقائي غير مستقر، ومدارس أداة للمحافظة على بقاء واستمرار الأمر الواقع، وبدرجة عالية من الأمية والأمراض.. كما تتميز هذه المجتمعات بتلك المعدلات الخطيرة لوفيات الأطفال. وبسوء التغذية الذي غالبًا ما يدمر الملكات العقلية للإنسان، وبالتوقعات الحياتية المتدنية وبمعدلات الجريمة العالية».
ويصدق هذا التشخيص لدول أمريكا اللاتينية وينطبق على كثير من مجتمعات العالم الثالث، وبعض جيوب التخلف في بعض الدول الصناعية الغنية.
والقهر  ليس مجرد بنية اجتماعية واقتصادية، وإنما ثقافية أيضًا ويسميها البعض «ثقافة القهر» بينما يسميها فريري «ثقافة الصمت» وهي «ثقافة مغتربة» Alienated Culture يتم فيها قبول الأمر الواقع القهري فيتأرجح الناس بين وهم التفاؤل وقهر التشاؤم غير قادرين على تغيير واقعهم وسعيهم الجاد نحو المستقبل.
ولذلك يسعى الناس في هذه المجتمعات إلى استعارة حلول لمشكلاتهم من المجتمعات الأخرى دونما فحص أو تحليل نقدي لسياقاتها التاريخية التي ظهرت وتبلورت فيها، ونتيجة ذلك أن تكون ثقافة هذه المجتمعات «ثقافة مغتربة».
إن مظاهر القهر والاغتراب التي وصفها باولو فريري أمر ملاحظ ومشاهد أينما نظر الإنسان في دول العالم الثالث وإن كان الأمر يبدو واضحًا في بعض الدول وغامضًا وغير مرئي في دول أخرى. وهو يرى أن الحل يكمن في التربية، ولكن أي نوع من التربية؟ وكيف تبدأ؟
تبدأ تربية المقهورين بإيضاح حقيقة القهر في العالم، وضرورة تغييره والسبيل إلى تحقيق ذلك. أي تبدأ بتغيير نظرة المقهورين إلى عملية القهر، وتخليصهم من الأوهام والأساطير التي صورها وصنعها النظام القديم. وبعد تغيير وضع القهر لا تصبح تربية للمقهورين فقط، بل لكل الذين يمرون بعملية التحرر الدائم.
وهنا نجد فريري يربط دائمًا بين التخلص من الجهل والتحرر من القهر وهذا لا يتم إلا بالوعي السياسي والتخلص من الأوهام والأساطير التي تصنعها وتروجها القوى المسيطرة في المجتمع.

التعليم البنكي
التعليم بصفته الحالية في بلدان العالم الثالث - بالنسبة لفريري- هو أداة للقهر يتم فيها التعامل مع المتعلمين بوصفهم أشياء أو مستودعات وهذا ما يطلق عليه فريري التعليم البنكي.
أي كم المبلغ الذي تم إيداعه بمفهوم التعليم البنكي حيث لم يعد المعلم إحدى وسائل المعرفة والاتصال بالعلم، بل مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلبة الذين تحدد دورهم في هذا النوع من التعليم كمستقبلين للمعلومات يخزنونها دون وعي لحفظها وإعادة تذكرها دون أن يعوا معانيها وفي النهاية تصبح وظيفة التعليم في هذا المجتمع تحقيق تكيف الإنسان مع المجتمع واستسلامه للقهر.

التربية الإشكالية
بدلاً من التربية «المصرفية» التقليدية التي تدعم القهر، يطرح باولو فريري مفهومًا جديدًا للتربية يدعو إلى الحرية، هو «التربية الإشكالية».
وهذا الأسلوب يعتمد على طريقة طرح المشكلات على جوهر الوعي وكشف مستمر للحقيقة والحياة.
ويمكن المقارنة بين التربية المصرفية والتربية الإشكالية على النحو التالي:
- التربية المصرفية تحاول أن تخفي الطريقة التي يعيش بها الإنسان في العالم، وذلك عن طريق وضع العالم في صورة أسطورية. أما الإشكالية فتحاول أن تنزع هالة الأسطورية عن العالم.
- التربية المصرفية تقاوم الحوار.. الإشكالية تنظر إلى الحوار على أنه وسيلة لإدراك العامل.
- التربية المصرفية تعتبر التلاميذ كائنات تستحق المساعدة، والإشكالية تصنع منهم مفكرين ناقدين.
- التربية المصرفية تحبط الإبداع، والإشكالية تقوم على أساس الإبداع والتفكير الناقد.
- التربية المصرفية لا تنظر إلى الإنسان على أنه كائن تاريخي، والإشكالية تعتبر تاريخية الإنسان نقطة الإنطلاق.
- التربية المصرفية تؤكد الثبات، وتكتسب طابعًا محافظًا، فيما تنظر الإشكالية إلى الوضع كمشكلة قابلة للتغيير.
- التربية المصرفية تؤكد القدرية. أما الإشكالية فتطرح هذا الوضع كمشكلة قابلة للتغيير.
- التربية المصرفية تهدف إلى تحقيق تكيف الإنسان مع الواقع الاجتماعي، وبقاء هذا الوضع دون تغيير. أما التربية الإشكالية فتهدف إلى تغيير الواقع الاجتماعي.

أصوات محلية من التعليم البنكي 
يمكن التعريف بسهولة على خصائص التعليم البنكي من خلال الإنصات للمقاطع التالية من أصوات المعلمات:
- «رددوا وراي بصوت واحد».
- «شوفي وشلون أنطقها وسوي مثلي بالضبط».
- «بكره يا بنات الدرس صعب جدًا وكله براهين اللي تغيب مستحيل تفهم».
- «من هي الذكية الممتازة اللي بتحفظ الأنشودة اليوم وتسمعها لي قبل ما أطلع».
- «ولا نفس، أبغي أسمع صوت القلم إذا طاح على الأرض».
- «خططوا معي - بسرعة ما وفي وقت حطي خط من أول الفقرة الثانية واكتبي هذا السؤال».
- «احفظوا الكتاب من الجلدة إلى الجلدة».
- «هذا القانون يحفظ صمتجيك المسألة في الاختبار اكتبيه وعوضي بالأرقام.. مفهوم» (المراد فهمه هنا تعليمات المعلمة وليس القانون).
- «بلاش نضيع الوقت في أسئلتكم التافهة».
- «أهم شي عندي الأخلاق».
- «بسرعة عدلي جلستك».

معلم المقهورين ـ حميد بن خيبش



Paulo Freire
يحكي الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز في مذكراته الشخصية أنه سأل جده في الصغر عن معنى كلمة "بحر"،غير أن هذا الأخير لم يعثر على صورة له في قاموسه المهترئ القديم فحاول أن يشرحها له من خلال عبارة تستحق التسجيل،قال " هناك كلمات لا يحتويها القاموس،لأن الناس جميعا تعرف معناها ".ويبدو الأمر كذلك حين نتحدث عن الاضطهاد والتحرر كما ترددا في كتابات المفكر و التربوي البرازيلي باولو فريري (1997-1921)، فللمفردتين معا دلالات خلاقة لا يمكن أن تستشفها من التعريفات المبثوثة في القواميس و المعاجم.وحده باولو فريري من خلال رؤيته الإنسانية والتناقضات التي ضج بها واقعه يمكنه أن يضعك أمام ضراوة القهر المطمور تحت ثقافة الصمت,وآلية تفجيره من الداخل لبلوغ التحرر الفعال.
لم تكن "ريسايف"،مسقط رأس باولو فريري،غير تجل آخر لأحزمة البؤس والقهر المنتشرة في البرازيل مطلع الثلاثينات من القرن الماضي.وأسهمت الأزمة الاقتصادية الشهيرة عام 1929 في تضييق الخناق على أسرة فريري ليختبر بنفسه آلام الجوع و المعاناة,وليعزز مقولاته النظرية فيما بعد بميزة الممارسة العملية والخبرة المستقاة من واقع مجرب.فكان اكتشافه لثقافة الصمت التي يلوذ بها المقهورون مدخلا لتصحيح الوضع التعليمي،لا على صعيد تعليم الكبار فحسب,بل أيضا من خلال إبداع فلسفة تربوية تضع حدا للهيمنة والغزو الثقافي،وتحرض المقهورين على الدخول في حوار ناقد مع العالم،يُسائله تمهيدا لتغييره وتجاوز مقولاته الاستعلائية.
إن ثقافة الصمت كما يعرضها فريري في الفصل الأول من كتابه "تعليم المقهورين"وليدة حالة اللا أنسنة،أي اختلال قدرة الإنسان على ممارسة وجوده على نحو متكامل.وهي ليست حتمية مصيرية بل ظاهرة تاريخية يمكن تجاوزها نحو الأنسنة عبر مسعى التحرر والنضال،مما يفرض التعرف على أسباب القهر وظروفه ليتمكن المقهور من تطوير موقف جديد تتحقق فيه إنسانيته،بمعنى أن يؤدي تفكيك القهر إلى تجسيد الحرية و التأسيس لمقومات الكرامة الإنسانية،لا إلى لعبة تبادل أدوار مقيتة:"إن بعض المقهورين،خلال مرحلة النضال،بدلا من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريتهم فإنهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين وأشباههم.وهذا المظهر في واقعه انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلوا يعيشون فيه،فقد حلم هؤلاء بأن يصبحوا رجالا ولكن صورة الرجل ظلت في مخيلتهم هي صورة القاهر" (1).غير أن استعادة الحرية و التوازن النفسي،والانتقال من حال الخضوع إلى التمرد و المجابهة يظل رهينا بتبديد عوائق ثاوية في التكوين النفسي والعقلي للمقهور. فالخوف من الحرية و الاستهانة بالذات ينجم عنهما حالة من التلاؤم و التأقلم مع الوضع السائد،وبالتالي الميل إلى التوافق وتفضيل حياة القطيع على التحرر و الإبداع.لذا حرص فريري على التأكيد بأن الأداة الفعالة التي يستهل بها المقهورون مسلسل نضالهم هي تطوير أسلوب تعليمي نقدي يكتشفون من خلاله أنفسهم.
لكن قبل المضي في عرض البدائل التي طرحها فريري لبلوغ أنسنة ممكنة لهذا الواقع غير المتحرر،لابد من الإشارة إلى أن دعوته لم تكن مجتزأة من السياق الاجتماعي والتاريخي لدول أمريكا اللاتينية ككل.فالمنطقة آنذاك كانت مسرحا لتيار لاهوتي جديد،مزج بين معطيات علم اللاهوت ومقولات التحليل الاجتماعي للتبعية و التخلف اللذين تعيشهما أمريكا اللاتينية.إنه لاهوت التحرير الذي أعلن عن ميلاده القس غوستافو غوتييريز في دولة البيرو عام 1968,واضعا بذلك الحجر الأساس للكنيسة الشعبية التي تبنت مفهوم التربية التحررية كما باشره فيما بعد باولو فريري.إذن كان المشهد يعرف نوعا من الحراك الديني والثقافي الذي استوعب آراء فريري وهيأ لها فرص النجاح قبل حدوث الانقلاب العسكري.
ينتج مجتمع القهر نظاما تربويا مكرسا لخدمته والإبقاء عليه،وبالتالي فلا صحة للمقولة السائدة لدى أغلب التربويين حول قدرة التربية على إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي وتغيير الأوضاع الراهنة.أما دور المربي أمام وضع كهذا فهو كشف الأساليب التعليمية المعتمدة في التطبيع مع القهر وإبطال مفعولها،ثم استعادة البعد الإنساني للتعليم كمدخل حيوي لاكتساب الحرية.وفي التحليل الموضوعي لعلاقة الأستاذ بالتلميذ يكشف فريري عن خصائص التعليم النابع من فلسفة القهر والعنف.فأسلوب التواصل بين الطرفين داخل فضاء الحجرة الدراسية قائم على شحن العقول بخبرات ميتة تعيد إنتاج الواقع بدل تجاوزه وتغييره،وتحض على الإذعان للهجة المتعالية وادعاء امتلاك الحقيقة و المعرفة من لدن طرف واحد سواء داخل الفصل أو حتى خارجه.إنه أسلوب يكرس الجهل عوض التصدي له،ويؤسس لتعليم قائم على إيداع المعلومات واستردادها وفق دورة لا تنتهي:"هكذا أصبح التعليم ضربا من الإيداع،تحول فيه الطلاب إلى بنوك يقوم الأساتذة فيها بدور المودعين، فلم يعد الأستاذ وسيلة من وسائل المعرفة و الاتصال،بل أصبح مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلاب في صبر ليتذكروا ما يقوله ثم يعيدوه.ذلك هو المفهوم البنكي للتعليم."(2)
في المقابل يدعو باولو فريري إلى تعليم إنساني "ثوري"يحرر التلميذ من التناقض الذي يفرزه التعليم البنكي بين المحتوى التعليمي الجامد وحركية الواقع المستمرة.
تعليم ينمي الملكة النقدية ويولد قلقا مستمرا يحفز الطلاب على التفكير و الإبداع،وحل التناقضات التي تحول دون الحرية.
تعليم لا يختزل أداء المعلم في ملء الأواني الفارغة وتعويد الطلاب السلبية والتأقلم،بل يرسم إطارا جديدا لعلاقة بين الطرفين قوامها الحوار والتعلم المستمر و المشاركة في اكتشاف حقائق العالم !
إن التعليم برأي فريري لا يمكن أن يكون محايدا مادام ضرورة إنسانية،وكل ادعاء للحياد هنا لا يخلو من زيف.فإما أن يكون عملية تحرر وتجاوز,وإما عملية أقلمة وتطويع و ملاءمة للجيل الناشئ مع الأوضاع القائمة.إننا عندما نخطط ونرسم السياسات التعليمية نكون بصدد أعمال سياسية منطوية على اختيار إيديولوجي سواء كان هذا الاختيار واضحا أو مبهما لا فرق (3).غير أن مجرد الوعي بهذه الحقيقة لن يغير من الأمر شيئا ما لم تتم إعادة الاعتبار لعلاقة الإنسان بالعالم عبر منهج تعليمي محدد وسيلته المثلى:الحوار !
يؤمن فريري بأن الحوار مواجهة سلاحها كلمة صادقة ذات بعدين:الرؤية التي تضفي على الوجود الإنساني قيمة ومعنى،والفعل المحفز على تغيير الواقع.أما الغاية منه فهي التأسيس لعلاقة تضامنية بين الطرفين (المدرس و الطالب) تحقق الأنسنة عبر التفكير المبدع،وهو ما يفرض إعادة النظر في الرؤية المتحكمة في بناء الموقف التعليمي "إن الصفة الحوارية للتعليم كمظهر للحرية لا تبدأ حين يقابل المدرس التلميذ في موقف تعليمي،بل تبدأ حين يسأل المدرس نفسه عن القضية التي سيجعلها موضوعا للحوار مع التلميذ"(4).وهذا المنهج الحواري هو قلب العملية التحررية كما تصورها فريري،والذي يُكسب الطالب وعيا نقديا يتسم بالعمق في طرح المشكلات وكشف التناقضات التي يضج بها العالم من حوله،ثم يعمل على خلق حالة حوارية دائمة تنمي ملكات الفضول المعرفي و التساؤل،و تستنهض إمكانيات التغيير و المراجعة.
ليس المنهج الحواري إذن مجرد نقل وتحويل للمعلومات والبيانات ضمن علاقة تسلطية ورأسية غير قابلة للنقاش,وإنما يتعلق الأمر بوضع تعليمي قائم على السعي المشترك بين الطرفين لمعرفة المزيد، وعلى استجاية واعية لتحقيق الحرية.إن هذا النوع من التعليم،يقول فريري،ينطلق من قناعة فحواها أن البرنامج التعليمي لا يكون تعليميا مالم يتخذ من الحوار مع الناس أساسا له.فهو يقدم أسلوب تعليم المقهورين بالطريقة التي يسهم فيها المقهورون أنفسهم وبصورة إيجابية في العملية التعليمية (5).
طور باولو فريري نظرية لتعليم الكبار وظف من خلالها مقولاته حول التربية النقدية مستلهما كلماته الدلالية وتقنياته و تصوراته من بيئة المقهورين ذاتها.وتتضمن نظريته التي أوردها بتفصيل في كتابه "التربية من أجل إثارة الوعي النقدي" الخطوات الإجرائية الآتية :
-  دراسة البيئة و رصد الموضوعات الخاصة بالمنطقة.
- حصر و انتقاء الكلمات التوليدية " أو المنتجة كما يسميها فريري" ذات البعد الانفعالي و التي تمكن من تحديد مستويات إدراكهم للواقع وللبناء الاجتماعي و السلطوي من حولهم.
- تنظيم محتوى البرنامج التعليمي انطلاقا من الموضوعات التي تثير احتياجات لدى الأفراد ،وإعداد التصنيفات و الرموز المراد استخدامها لتناول مشكلة معيشية على سبيل المثال.
- تدشين حوارات فك الرموز عبر حلقات بحث الموضوعات،والتي يشترط فريري أن تتألف من عشرين شخصا كحد أقصى،وأن تستوعب الحلقات عشرة بالمائة من سكان المنطقة موضع الدرس .
- متابعة مكملة للمستفيدين من هذه الحملة التعليمية كي لا يرتدوا مجددا إلى الأمية .
جرى لاحقا تطوير منهجية فريري لتشمل ليس فقط الكبار بل حتى الأطفال اليافعين المتسربين من المدارس. إذ تم تصميم برامج تثقيف المتسربين وفق منهجيةTCELFER،وهي اختصار ل"الفريرية المتجددة لمحو الأمية من خلال التقنيات المجتمعية".وفي مقابلة أجرتها كاترين دينيس (6)مع جواد قسوس المشرف على برنامج تعزيز ثقافة المتسربين بالأردن،يقدم هذا الأخير مثالا حيا للنتائج الإيجابية التي حققتها هذه المنهجية مع فئة من أطفال الشوارع:
" لقد استخدمنا أسلوب الحوار لتحديد المواضيع التي تهم الطلاب،فعلى سبيل المثال كان موضوع التعرض للحرارة الخارجية أثناء النهار من المواضيع التي حازت على اهتمامهم. بداية، طلبنا منهم وصف شعورهم إزاء تعرضهم لحرارة الجو ومن ثم ربطنا ملاحظاتهم ببعض المشاكل الصحية مثل الجفاف و الحروق الناجمة عن التعرض للشمس التي يمكن أن تسببها الحرارة. انتقلنا بعدها لتعلم الأجزاء المختلفة من جسم الإنسان وشرح عملية الجفاف وأهمية الماء للجسم وكيفية امتصاصه.فكنا نبدأ، على سبيل المثال، بكلمة "شمس" ومن ثم نكتب كلمات أخرى تبدأ بحرف "ش" وكلمات تبدأ بحرف "م" ثم كلمات تبدأ بحرف "س".وانطلاقا من الكلمات كنا ننتقل إلى الجمل والنصوص البسيطة.فقد أنتجنا نصا يمكن للطلاب قراءته وإعادة كتابته و التعامل معه.وبناء على ذلك تم تصميم الاختبارات،حيث شعر الطلاب لأول مرة بأن الاختبار أمر يمكن اجتيازه لأن المواضيع كانت مألوفة بالنسبة إليهم "(7).
 نجح البرنامج كذلك في إقناع المعلمين المشاركين في هذه الحملة بالتخلي عن أساليب التدريس التقليدية،واعتماد منهجية فريري في فصولهم الدراسية،مما يستدعي تبنيها كأسلوب بيداغوجي في المؤسسات التعليمية.
تطورت تربية المقهورين إلى "تربية الأمل " كما صاغ فريري مقولاتها في أواخر حياته،ملائما موقفه مرة أخرى مع لاهوت التحرر الذي تطور بدوره إلى "لاهوت الحياة".وفي الصياغة الأخيرة بدا فريري أكثر تفاؤلا وثقة بالمستقبل.لقد كان كما وصفه التربوي الأمريكي باتريك كلارك "شعلة مضيئة في ظلام الحتمية الإيديولوجية و اليأس والمنظم".
إن استحضار باولو فريري اليوم ،كرؤية إنسانية تنشد نهجا تعليميا أكثر إنصافا وعدالة،لهو أمر يستمد وجاهته من الضغط الذي تمارسه عولمة لا ترحم،ومن القهر الذي لا يكف عن ملاحقتنا وفق أكثر الصيغ تهذيبا ومراوغة.
فهل تفلح منظوماتنا التعليمية اليوم في التمسك بالتعليم كحق إنساني يتصدى للتمييز والاستبعاد, أم سيكون للمذهب النفعي و الاقتصادي الضيق كلمته الأخيرة ؟


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- باولو فريري: تعليم المقهورين.دار القلم بيروت.د.ت.ص 28
2- نفس المرجع.ص51 
3- د.سعيد إسماعيل علي: فلسفات تربوية معاصرة.المجلس الوطني للثقافة و الفنون والآداب.الكويت1995.ص 181
4- باولو فريري.مرجع سابق.ص 71   
5- نفس المرجع.ص 90
6- المديرة الإقليمية للجمعية الألمانية لتعليم الكبار في الشرق الأوسط.
7- كاترين دينيس :تعليم الكبار و التغير الاجتماعي.مؤسسة التعاون الدولي للجمعية الألمانية لتعليم الكبار.الأردن2013.ص76 

دولة الدين ودين الدولة ـ هادي معزوز

عن أنفاس نت 


الدين فكرة أوجدها الإنسان كإجابة عن غموض الطبيعة، والدولة كذلك فكرة صنعها نفس الإنسان، درءا لشره وابتعادا عن جشعه لصالح المصلحة العامة، بيد أن العلاقة بيم الإثنين تكاد تنفصل كي تتصل والعكس بالعكس، فلنتأمل مثلا أهم الحروب التي عرفتها الإنسانية، وأيضا أهم الكوارث التي بصمت تاريخ الإنسان، كي نستخلص أن من بين مسبباتها الكبرى إثنان لا ثالث لهما: الدين والدولة، وهو ما يبرز بالملموس غرابة هذا الكائن، مادامت رسالة كل من الدين والدولة، رسالة تروم إلى التسامح والعدالة والإنصاف، ومعاقبة كل من تتطاول يده على الآخر أو على ما يملك شرعا...
    الدولة تحكم باسم القانون الوضعي، والدين يحكم باسم الحد، الدولة تستمد وجودها من مؤسساتها القانونية والمدنية، بينما يستمد الدين قوته وسلطته من السماء، لحد الساعة قد تبدو الأمور عادية جدا، لكن وبأجرأتها وقراءتها على ضوء التاريخ، قد نعثر على عديد الملاحظات التي من خلالها لم يسلم التاريخ من ذلك الصراع بين الدين والدولة، أي بين الدين والسياسة، والحال أن الجمع بينهما هو كالجمع بين النار والوقود، لسبب بسيط هو أن الدين باجتماعه والسياسة يكاد يفرغها من محتواها، فتتحول هذه الأخيرة إلى مجرد تابع لا غير، ومنه نصبح أمام دولة دين وليس أمام دين دولة.
    والواقع أن الإشارة إلى هاته الثنائية الشائكة، تعيدنا إلى طرح السؤال التالي والذي بقي معلقا إلى إشعار آخر: بأي حق نُحكم، إن باسم القانون أو باسم الدين؟ لهذا كان من الأجدر الوقوف عند أكثر الأشياء إجماعا من طرف الناس، والحال أن هذا الشيء لن يكون سوى الدولة بطابعها المدني وليس بلبوسها الديني، مادام الأول تنظيم للعلاقات بين الناس والثاني تفسير للكون والعالم، ومادامت أيضا طبيعة الأول علائقية تقنية، في حين أن طبيعة الثاني روحانية صرفة، فهل يمكن للدين أن يحقق الإجماع أو شبه إجماع من طرف الناس على غرار الدولة؟
    عندما تجعل دولة ما من دين واحد دينها الأساسي، تسقط لا محالة في تناقض مريب بين كونها دولة، أي فضاءً يحوي مواطنين من مختلف المشارب، بأفكارهم واعتقاداتهم وتصوراتهم حيث لا تفضيل بين هذا وذاك، وأيضا باعتبارها نظاما يتخذ من الدين الواحد دينها الرسمي، حيث نربط في مشهد سريالي بين الذي لا يقبل الربط، إن الدولة المدنية هي الدائرة المفتوحة التي تقبل اختلافات مواطنيها، حيث تؤمن بالواجب بدل الاعتقاد، وتؤمن بالمؤسسة وأثرها الإيجابي بدل إيمانها بصحة أو خطأ دين ما، بينما تعدو الدولة الدينية دائرة منغلقة على نفسها، لا تحكم بالحق والواجب، وإنما بالحلال والحرام، وهو ما يجعلها مصنعا يقبل هذا ويرفض ذاك، كما يجعل منها أيضا بؤرة لصنع التعصب، حيث تحارب باسم الدين، وتحكم ابسم الدين، وتبيع باسم الدين أيضا.
    إن هذا الأمر لا يتوقف عند حد بعينه، بقدر ما يتلف طبيعة وجوهر الدين، إذ يتحول هذا الأخير إلى تبرير للتعصب، وإلى إحلال لما هو غير مشروع، فأنت ترفض شخصا بسبب أن له فكرة واعتقادا غير فكرتك واعتقادك، هو أمر غير مقبول تماما إن باسم القانون، أو باسم المنطق، لهذا فإذا كانت الدولة الدينية إقبارا للاختلاف العقدي، فالدولة المدنية هي الضامن الأول لحرية الاعتقاد، وحرية التعبير...
    لا شك أن هاته الثنائية بين هذين النقيضين، تضعاننا أمام علاقة منطقية، بموجبها لَزُمَ رسم حدود فاصلة بين الدين والدولة، فأن يستمد الدين مشروعيته من قانون الدولة، يعتبر إساءة للدين نفسه حيث يصبح نصا مغلقا لا يقبل الاختلاف، وهو الشأن الذي لا يستقيم ووجود الدولة، على النقيض من ذلك إذا استغلت الدولة الدين لخذمة أغراضها الضيقة، تنتفي عنها صفة الدولة بما أن هذا الأخيرة تؤمن بما هو مدني مؤسساتي، وليس بما هو عقدي روحاني، مادام الدين لله والدولة للجميع.
    والحال أن الحديث عن الدولة التي تُؤَسس على الدين الرسمي الواحد، لا يمكن لها إلا أن تعيش بعدئذ على وقع هذا الخلط غير السليم، إذ تحفر قبرها بنفسها من حيث لا تدري، وذلك عندما يتحول رعاياها إلى قنابل موقوتة ليس لها من شيء وثقافة الاختلاف، فتدمر الدولة ويتبعثر وجودها من فضاء للعيش إلى مجال لتضارب الأفكار وصراعها، والحال أنه بهذا الأمر تنتفي صفة الدولة عن الدولة، ويتحول الدين إلى مبرر للقتل بغير وجه حق.
    ليس الدين هفوة في التاريخ وإلا لما أوجده الإنسان، كما ليست الدولة ترفا وكفى، إن الإنسان أو قل بعض الإنسان في حاجة للدين، لكن ليس كمصدر حكم على الآخرين، وإنما كتفسير للعالم، وربط علاقة مباشرة بين نفس الإنسان والسماء، شريطة الإيمان أن اعتقاده ليس على خطأ كما أنه ليس على صواب، معتبرا الأشخاص من مدى عطائهم وقيامهم بالواجب، بدل الوقوف عند انتماءاتهم الدينية، والإنسان أيضا في حاجة إلى الدولة المدنية كي تضمن أمنه وسلامته، وأيضا كي يقف عند معنى وجوده عبرها ومن خلالها، لهذا قد يكون من الأجدر أن تتبنى الدولة المدنية الديمقراطية، فكرة الاختلاف بين الأديان دون الانتصار لدين بعينه، كما أنه من الأنجع أن يبتعد الدين عن كل ممارسة سياسية درءا لفقدانه خاصيته الأولى والتي ليست إلا تربية الإنسان على الأخلاق السمحة بدل التعصب، وعلى التسامح بدل الإرهاب. 

الأحد، 27 مارس 2016

شعلة خريبكة تحتفي بالصورة في جامعة لليافعين




تنظم جمعية الشعلة للتربية والثقافة فرع خريبكة الجامعة الربيعية لليافعين في نسختها الخامسة بشراكة مع وزارة الشباب و الرياضة  وبتعاون وتنسيق مع جمعية النادي السينمائي بخريبكة تحت شعار :”من أجل ترسيخ ثقافة الصورة لدى اليافع(ة)”بثانوية الخنساء الإعدادية خلال الفترة الممتدة من 3إلى10أبريل2016. 

الجمعة، 25 مارس 2016

انتفاضة 23مارس 1965: دلالاتها و انعكاساتها ـ المصطفى المصدوقي

أنفاس نت


عرف المغرب عدة حركات احتجاجية،مارس 1965،يونيو 1981،يناير 1984،دجنبر 1990،هذا دون ذكر حالات التوتر و العنف التي عرفتها عدة مناطق مغربية.
استحضارنا لانتفاضة مارس1965،نروم و نسعى من خلاله إلى تقديم أجوبة،و لو مرحلية و مؤقتة على بعض الأسئلة التي تهم المجتمع العام و قضاياه.سنحاول تقديم قراءة تركيبية،تلملم شذرات هذه الانتفاضة،و تغوص في خفاياها،و تستنطق مسكوتاتها.
و من هذا المنطلق يظهر أنه من الضروري طرح بعض الأسئلة التي تفيدنا على مستوى التحليل،من قبيل:ماهو سياق بروز انتفاضة 23مارس؟ من هم الفاعلون فيها؟ماهي شعاراتها؟كيف تعامل معها النظام السياسي؟ماهي إفرازاتها؟ما دلالاتها و آليات فعلها و انعكاساتها البعيدة المدى؟

1-    السياق التاريخي:الظرفية السياسية و ملابساتها.
إن انتفاضة 23مارس 1965 كانت وثيقة الارتباط بمختلف الأزمات و المشكلات التي واجهت المجتمع،و ما هي إلا نتيجة موضوعية لسلسة من الإخفاقات و الصراعات السياسية التي بصمت علاقة القصر بأحزاب المعارضة و جيش التحرير.
الإسقاط التدريجي لحكومة عبد الله إبراهيم
فيكفي أن نعرف أنها جاءت في أعقاب الإقالة المفاجئة لحكومة عبد الله إبراهيم(من 4 دجنبر1958 إلى 21 ماي 1960)،و هي الحكومة التي كانت ذات توجه واضح نحو التصنيع،لذا انصب اهتمامها على بناء مؤسسات وطنية قادرة على تصنيع المواد الأولية المتوفرة،و عن معادن و مصادر الطاقة،و توفير وسيلة لضمان التزود بالنفط في أفضل الشروط الممكنة.
و تمكنت الحكومة  في المجال الفلاحي من استرجاع الأراضي التي اغتصبها المعمرون و توزيعها على صغار الفلاحين.
و ستظهر إصلاحات هذه الحكومة غاية في الجدة و الابتكار في المجال المالي،إذ عملت على فصل الفرنك المغربي عن الفرنك الفرنسي،و بذلك خطت هذه الحكومة أول خطوة في طريق تحرير اقتصاد المغرب.
هذه المحاولة التحديثية الاقتصادية و الاجتماعية قوبلت باستياء شديد من أوساط رجال الأعمال الفرنسيين و المعمرين و عملاء هؤلاء و الأغنياء الاستقلاليين،و اجمعوا بمعية ولي العهد على محاربة هذه الحكومة.
بعض ممن كتبوا عن مغرب بعد الاستقلال قالوا إن اللوبي الاستقلالي حارب حكومة عبد الله إبراهيم على جميع الجبهات للإطاحة بها،و في هذا الصدد كتب صاحب كتاب "الخفايا السرية في المغرب المستقل" يقول:«في 30 دجنبر1959وأثناء زيارة وفود حزب الاستقلال إلى القصر الملكي،و كان زعماؤهم يطالبون بالحكم و ينددون بعمل إبراهيم و رفقائه في الحكومة الهادف حسب نظرهم إلى تحضير ثورة لا يمكن للمغرب أن يتحملها،و الدليل على ذلك أن عبد الرحيم بوعبيد المكلف بالاقتصاد الوطني كان يقوم بإنشاء بصفة غير إرادية "طبقة بروليتارية" قوية عبر سياسته التصنيعية و ذلك بمساعدة زميله المعطي بوعبيد المسؤول عن الشغل و الشؤون الاجتماعية،الذي لا يتوانى في تحسين أجور العمال».
إن إزاحة عبد الله إبراهيم عن رئاسة الحكومة،بعدما كان ناجحا نسبيا بمعايير تلك المرحلة التاريخية جعلته يتحول إلى "شهيد حي"،و أسطورة سياسية لأول حكومة كانت ستنقل المغرب من حال إلى حال.
الدستور الممنوح
في الوقت الذي كانت المعارضة تطالب فيه بمجلس تأسيسي  منتخب لوضع دستور للبلاد،أقدم الحكم في 27 يناير 1962 على تقديم دستور ممنوح للاستفتاء عليه.و هو الأمر الذي لم يكن محل ترحيب المعارضة الاتحادية التي قاطعت الاستفتاء عليه و وصفته في بلاغ لها ب«العملية المنافية للديمقراطية و شكل من أشكال الاختلاس السياسي» و أنه دستور«وضع لتقنين نظام الحكم الفردي المطلق».
تنامي موجة القمع ضد المعارضة
في إطار الإعداد للانتخابات البلدية و القروية ليوم 28 يونيو 1963،و حتى لا يفاجأ الحكم بنتائج الانتخابات التشريعية لشهر يناير من نفس السنة و التي عادت فيها غالبية الأصوات للمعارضة (56.6 في المائة مقابل 36.5 لجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية)، شن الحكم حملة من القمع واسعة و رهيبة على المناضلين الاتحاديين في كافة الأقاليم.
و للوقوف على شراسة القمع الذي تعرضت له المعارضة الاتحادية يكفي أن نقرأ عناوين "جريدة التحرير" الصادرة في تلك الفترة.(سبعة اغتيالات  و عشرات من الحوادث التي خلفت العديد  من الجرحى منذ يوم الانتخابات)...(اختطافات و اعتقالات  شنيعة بإقليم الرباط)...(عصابات تختطف عددا من المناضلين بسلا)..(اعتقال و محاكمة أربعة أعضاء من مجلس النواب)...(حملات الاعتقال و الاضطهاد ضد المناضلين بإقليم  ورزازات تتجاوز كل الحدود)..(سلطات الحكم الإقطاعي تلجأ إلى أساليب التعذيب و التشريد للمرشحين الاتحاديين في مختلف أنحاء البلاد).
و توجت هذه الحملة الشرسة من القمع بالإجهاز على المعارضة اليسارية،ففي 16 يوليوز 1963 تم اعتقال نحو 5 آلاف من مناضلي الاتحاد الوطني و الحزب الشيوعي المغربي.و حكم على الفقيه البصري و المهدي بنبركة  و بنسعيد أيت ايدر و حميد برادة و شيخ العرب بالإعدام .
و اتهم مائتان من المناضلين بتهمة المس بأمن الدولة.
هذه الحملة الممنهجة من القمع أدت إلى الإجهاز على حزب الاتحاد الوطني و تفككه،الأمر الذي فتح المجال لجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية للفوز في انتخابات الغرفة الثانية و الانتخابات الجماعية.
التضييق على الحريات:
في هذا الصدد يكفي أن نشير إلى ما كانت تتعرض له جريدة "التحرير" من حجز و توقيف و مراقبة  و محاصرة مقرها بالبوليس باستمرار و دعاوى و غرامات و مختلف التحكمات.
ملتمس الرقابة
يحكي د.محمد عابد الجابري في مذكراته "في غمار السياسة: فكرا و ممارسة" أنه كان لملتمس الرقابة الذي قدمه الاتحاد في ماي 1964 ضد حكومة أبا حنيني،و للبث المباشر لجلساته التي استمرت أسابيع،المفعول الواسع في الأوساط الشعبية،و بخاصة أوساط التلاميذ و الطلاب الذين تتبعوا بدقة وقائع المناقشات كما يتتبع الناس فيلما مشوقا...فارتفع وعيهم إلى مستوى لم يكن ليبلغه التكوين داخل تنظيمات أنشطة الحزب و في إطار أنشطته إلا بعد سنوات.
تجويف المخطط الخماسي (1960-1964)
إن المخطط الذي و ضعته حكومة عبد الله إبراهيم قد ثم تعديله من الأسفل إلى القمة،سعيا إلى تنمية الفلاحة على حساب الصناعة.فأعطيت الأسبقية في التخطيط المغير إلى الحاجيات الفلاحية في الوقت الذي كانت فيه حكومة إبراهيم تنوي  بناء صناعة ثقيلة.
و كان من نتيجة هذا المخطط الجديد الذي نهجته الحكومة الملكية خلال سنوات (1960- 1964)  أن أدت إلى توسيع قاعدة الملاكين العقاريين الكبار من خلال إنشاء المكتب الوطني للري.الأمر الذي أدى إلى حرمان الفلاحين من حقهم في الأرض،و تفقير العديد منهم و انتزاعهم من بيئتهم ،و رميهم إلى ضواحي المدن حيث الأفاق المظلمة.
في هذا السياق يقول جيل بيرو«كانت جموع عديدة من القرويين المنتزعين من بيئتهم تنزح مع النساء و الأطفال إلى تخوم المدن،و خاصة الدار البيضاء.لم يزد التمدن عن 5 في المائة في بداية القرن،لكنه وصل إلى 30 في المائة في العام 1965.كان النازحون ينامون في البدء على الكرتون،ثم في أكواخ حقيرة من الصفيح تنغمر شتاء في مستنقع من الوحل و تتحول صيفا إلى أفران شمسية».
انتشار الفساد
إضافة إلى ما سبق،انتشر الفساد و الغش و التزوير،و يكفي هنا أن نقف عند واقعة تسميم عشرة الآلاف مغربي عن طريق زيوت فاسدة وزعت بمدن مكناس و الدار البيضاء و المحمدية،مما خلف مئات الضحايا بقيت مشلولة و مقعدة توجبت سنين عديدة لترويض و معالجة أعضائهم الجامدة
و هكذا،إذن، فأسباب الاحتقان الاجتماعي و عوامل التوتر كانت كثيرة و متوفرة،و لا تنتظر سوى الإشارة.
الشرارة التي أشعلت الانتفاضة
في تحليله لظروف و وظائف الانتفاضة و التمرد يرى الباحث"ايف ماري بيرسي" أن سبب اندلاع الانتفاضة غالبا ما يكون بسيطا و عبثيا على الأقل على مستوى تمظهره و تجلياته الأولى.و عليه فقد تصبح شائعة أو حدثا بسيطا سببا مباشرا لانفجار العنف.
و لم يكن العامل المباشر لتفجير الوضع سوى مذكرة وزير التربية الوطنية يوسف بلعباس التي صدرت يوم 9 فبراير 1965،و نصت على أن «من الضروري ألا يتوجه إلى السنة الرابعة من الثانوي سوى التلاميذ القادرين على متابعة  الدراسة في إحدى الشعب المتخصصة من السلك الثاني،و أنه يمكن أن يتوجه إلى السنة الرابعة من الثانوي التلاميذ المزدادون عام 1948 أما الذين تبلغ أعمارهم 18 سنة أو أكثر فلا يمكنهم ولوج السلك الثاني من الثانوي و الوصول إلى البكالوريا»
و في كتابه "صديقنا الملك" يستعرض الصحافي جيل بيرو بعض التفاصيل عن سياق صدور هذه المذكرة،يقول:«في العام 1965 نفسه،و بسبب أزمة اقتصادية طارئة،أغلقت السلطات روافد مخصصات التعليم.تضمن تعميم لوزارة التربية الوطنية صرف التلاميذ الذين تجاوزوا الثامنة عشرة من المدارس الثانوية،و إلزامهم بالتوجه إلى التعليم التقني».
و في نفس السياق،يقول المؤرخ الفرنسي "غوي مارتيني" الذي كان يعمل أستاذا بالدار البيضاء«صدرت مذكرة عن وزير التربية الوطنية في9 فبراير 1965 كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل هذه الوقائع الدامية(...) و الغرض  من المذكرة تشجيع التعليم التقني و تخريج تقنيين في خدمة القطاع الصناعي عوض تخريج المحامين و الأطباء».

2-    ماذا حدث يوم 23 مارس 1965
إن الذاكرة التاريخية لا تسعفنا كثيرا  لمعرفة ما جرى يوم 23 مارس1965،و نظرا لأن مجال هذه الأحداث كان واسعا متشعبا و غير مقتصر على مكان محدد ،فإننا سنلجأ إلى شهادات من عاشوا تلك الأحداث أو كتبوا عنها،بغية تركيب رؤية شمولية عنها ،شهادات تكمل بعضها البعض و تضيء كل واحدة منها جانبا من جوانبها و تبرز كاملة ناصعة كما هي.
كيف بدأ الحدث؟ و كيف تطور؟
 في نص يبدو مصدرا غنيا و مهما في التأريخ لهذه الانتفاضة،يقول الأستاذ محمد المحجوبي «في صبيحة يوم 22 مارس،تجمعنا بالملعب الكبير لثانوية محمد الخامس، إذ حضر حوالي 20 ألفا من التلاميذ من مختلف ثانويات الدار البيضاء(محمد الخامس،مولاي عبد الله،فاطمة الزهراء لحلو،شوقي الخنساء،الخوارزمي..) و كان التنظيم رائعا و محكما.
كنا نرفع شعار المطالبة بإلغاء قرار بلعباس ،بل أكثر من ذلك،كنا قررنا أن تكون المسيرة صامتة،منظمة في صفوف متوالية يتكون كل صف من 8 تلاميذ،مع حزام أمني تنظيمي يرافق المسيرة و التواصل يتم بين مقدمة المسيرة و باقي أطرافها من خلال تلاميذ ينتقلون عبر الدراجات،و أذكر أن مقدمة المسيرة كانت قد بدأت تقترب من مقر مندوبية التعيلم بشارع الزرقطوني فيما ملعب ثانوية محمد الخامس لا يزال ممتلئا بجموع التلاميذ.
و كان الهدف أن تسجل المسيرة الاحتجاج و بعد ذلك تتفرق،و يمكن للمرء أن يشهد أن التلاميذ قد كانوا منضبطين و لم يحصل أي خلل،اللهم بعد تدخل قوات الأمن بعنف لتفريق المسيرة،فأدى ذلك إلى تفرقها لتظاهرات مستقلة بعضها عن بعض و ذات طابع عفوي و بذلك يصعب ضبطها،إذ إن المنظمين أنفسهم قد أصبحوا مشتتين...و امتد ذلك إلى الأحياء حيث التحق شباب آخرون و جموع من المواطنين بهذه المظاهرات».
يروي أحد من عاشوا تلك الأحداث امحمد تيريدة و هو من أبرز قادة أقصى اليسار في المغرب قائلا:يجب التأكيد هنا أن الإضراب نفذ يوم 22 مارس،و أن الأحداث تصاعدت يوم 23 مارس،بل إنها تجاوزتنا تماما..و لقد تحركنا كقيادة بثانوية محمد الخامس،حيث خرجنا في مسيرة سلمية،حاملين لافتات،و نزلنا باتجاه وسط المدينة،و ما إن بلغنا بقرب مقر نيابة آنفا للتعليم الآن بشارع الزرقطوني،حتى تدخلت قوات السيمي بعنف..فقررنا عوض أن ننزل باتجاه وسط المدينة، أن ننزل إلى الإحياء الشعبية،بأزقتها الضيقة،و حين نزلنا إلى الأحياء تلك انخرط معنا سكان تلك الأحياء،و كان ما كان ..و بالتالي القمع هو الذي أجج العملية.
و يحكي أحمد حرزني عن يوم 23 مارس قائلا:يمكن اعتبار يوم الاثنين حركة تسخينية  أكثر من أي شيء آخر،بحيث لم تحصل أحداث تذكر،و في يوم الثلاثاء ستأخذ الأمور مسارا أكثر جدية،إذ في ثانوية محمد الخامس انتقلنا إلى الجهة المقابلة من الشارع حيث كانت توجد الملاعب الرياضية،و انتظمنا صفوفا و سرنا بشكل منظم إلى أن وصلنا عمارة الستيام حيث كان مقر كلية الحقوق،و ذلك من أجل ضم طلبة الكلية إلينا.
ثم يضيف:و من الستيام سرنا في طريق مديونة إلى القريعة و كانت تقع صدامات و معارك مع البوليس...إذ كانت معارك قوية بين التلاميذ و الشرطة.و بعد ذلك عدنا حيث اعتقلت بشارع الزرقطوني في إحدى العمارات التي لجأت إليها بعد أن وقع هجوم علينا بالعصي،اعتقلت بعد أن تم تهديدي بالسلاح...بعد ذلك تم الإلقاء بي مع مجموعة من التلاميذ و غيرهم في الكوميسارية المركزية،في ظروف لا تصدق حيث الاكتظاظ و الأوساخ و المعاملة السيئة.
و عن مدى وجود تعاطف شعبي مع الانتفاضة،يقول حرزني:قبل اعتقالي شاهدت ما يدل على تعاطف الجماهير مع الانتفاضة.صور لا تنسى..النساء اللواتي تفتحن لك الأبواب من أجل الإفلات من المطاردة..نساء شاركن من فوق سطوح في ردع قوى البطش بإلقاء الماء المغلي،بإلقاء الأواني..
و في ذات السياق يؤكد محمد المحجوبي،من الأطر الميدانية التي أطرت ميدانيا أحداث 23 مارس 1965 بالبيضاء،أن درجة المشاركة الجماهيرية كانت قوية«بحيث كان هناك تعاطف واسع مع المتظاهرين،بل إن الأمر كان يتعلق بمظاهرات شعبية و لم يعد في حدود المظاهرات التلاميذية التي انطلقت في البداية،فإلى جانب الرشق بالحجارة،كان المواطنون يتصدون للقنابل المسيلة للدموع باستعمال المياه لإطفائها.
كانت هناك-يتابع ذات المتحدث- مشاركة جماهيرية واسعة،و الملاحظ أن هذه المشاركة كانت قوية بالأحياء التي كانت لها تجربة في مواجهة قوات الاحتلال الأجنبي.فإلى جانب ساحة السراغنة و درب السلطان،كانت المشاركة قوية بباب مراكش و المدينة القديمة و درب غلف و الحي المحمدي».
و يروي "بيير فيرموريين " و هو واحد ممن أرخوا لتاريخ المغرب في كتابه(تاريخ المغرب منذ الاستقلال) أنه في يوم 23 مارس خرج التلاميذ إلى شوارع العاصمة الاقتصادية في مظاهرة انضم إليها الآلاف من آباء التلاميذ و المعطلين الشباب و سواهم من فقراء أحياء الصفيح.ثم انقلبت المظاهرات إلى عصيان.فقد نصبت الحواجز،و أحرقت الحافلات و الأبناك،و مخافر الشرطة.و اندلعت معارك في الشوارع بين المتظاهرين و قوات الأمن.و اتسعت رقعة التمرد ليعم كبريات المدن الأخرى في المملكة.
ننتقل إلى شهادة أخرى للباحث مصطفى بوعزيز التي يقول فيها بأن مظاهرات التلاميذ و الطلبة في البيضاء و مدن أخرى واجهتها قوات الأمن بالقمع،فجاء الرد الشعبي مباشرة حيث نزل العمال و العاطلون و الآباء و الأمهات و الشباب مسلحين بالحجارة و العصي لمواجهة قوات البوليس أولا ثم الجيش فيما بعد.وكانت مدينه الدار البيضاء مسرحا لانتفاضة شعبية حقيقية نصبت خلالها المتاريس و نهبت و أحرقت المحلات و هوجم السجن..باختصار أصبحت المدينة تحت"سلطة الشارع"...
لغة القمع و الاعتقال
و يتابع بوعزيز قائلا:و عقب ذلك شنت حالة حصار،و ترك للجينرال أوفقير مطلق الحرية في التصرف،و كانت الحصيلة 1000 قتيل،و 7000 سجين،و محاكمات سريعة و جماعية،و ستتسع دائرة الأحداث لتشمل مدنا أخرى و تدوم أسبوعا كاملا.
يقول أحد الذين عايشوا الأحداث المناضل عبد الواحد سهيل في مذكراته "أوراق من الذاكرة السياسية" التي نشرت متسلسلة في جريدة بيان اليوم و هو يتحدث عن نتائج الانتفاضة:«. في البداية أعطى  الجنرال أوفقير  الأمر لرجاله  بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في الأحياء الشعبية . لكنه ما لبث أن استعان بقوات الجيش الملكي التي استعملت الدبابات والأسلحة الثقيلة.  كان أوفقير  يتتبع الأحداث عبر مروحية تجوب أجواء الدارالبيضاء ويعطي الأوامر بإطلاق  النار على المتظاهرين مما خلف سقوط العديد من القتلى ومئات من الجرحى واعتقالات واسعة في صفوف التلاميذ والطلبة وعموم المواطنين . وفي ليلة الثالث والعشرين من 23 مارس سمح أوفقير للدبابات باكتساح شوارع المدن  والفتك بالعمال والشباب والعاطلين نساء ورجال. لن أذيع سرا إذا قلت إنني رأيت جثثا متناثرة في كل الشوارع التي مررت بها . جثث لم تعرف طريقها إلى أهلها وذويها. إذ كانت قوات الأمن تحملها على ظهر العربات».
«اقتحمت الدبابات و أربعمئة شاحنة ممتلئة بالعساكر شوارع الدار البيضاء.هبط الليل على الشوارع المقفرة،وراح الجنود يجمعون الجثث و يدفنونها في حفر مجهولة مشتركة»يقول مؤلف كاتب "صديقنا الملك"،قبل أن يتساءل: كم كان عدد الضحايا؟ليجيب:«بالتأكيد عدة مئات من القتلى،بعضهم يقول إنهم ألف و معظمهم من الأولاد.لم يحدث في التاريخ الحديث إجراء قمع تظاهرات فتك فيها بمثل هذا العدد الكبير من الشبان و الفتيان.و حدها المقابر الجماعية تعرف الرقم الصحيح».
و يقول أحد الذين عاشوا تلك الأحداث،صلاح الوديع،« من ثقب الباب تناوبنا على استراق النظر إلى الخارج. عندما جاء دوري ركزت النظر جيدا. ما رأيته لن يفارقني ما حييت. كان حذاء الجندي ينزل بكل ثقله على وجه فتى في عمري بقسوة لا حدود لها.صرخ الطفل، ثم ساد الصمت».                        
و حول تفاصيل دفن شهداء 23 مارس 1965 فقد خلصت هيئة الإنصاف و المصالحة إلى أنه تم دفن الضحايا بمقبرة الشهداء ليلا وفق الشعائر الإسلامية،بما في ذلك الكفن و الصلاة على الموتى،و بحضور أحد ممثلي السلطة الإقليمية و في غياب العاملين في المقبرة.و كانت القبور التي تم حفرها موزعة على عدة أماكن مختلفة بالمقبرة.
و في ما يخص سبب الوفاة أشار تقرير الهيئة إلى الإصابة بالرصاص في الجمجمة،إصابة بالرصاص في القفص الصدري،إصابة بالرصاص في عظم الفخذ ثم اختراق بالرصاص.
و بلغ عدد القتلى 7 حسب تصريح الدولة،و استطاعت الهيئة الوصول حسب الوثائق المحصل عليها إلى 50 ضحية.في حين قال عميل المخابرات أحمد البخاري في اعترافاته التي نشرتها "أخبار الأسبوع" أنه قد أحضر من جثت القتلى 1550 بيضاوي ثم جمعهم في شاحنات النفايات حيث تم دفنهم في مقبرة جماعة بمنطقة بوسكورة.
شعارات المتظاهرين ومطالبهم
تأرجحت شعارات حركة مارس 1965 بين الصبغة التعليمية التي تركز على وزير التربية الوطنية،يوسف بلعباس،و بين الطابع الجماهيري العام المتذمر من تبعات السياسة الاقتصادية و الاجتماعية المتميزة بالتبذير و ارتفاع الأسعار.
رفع متظاهرو 23مارس شعارات من قبيل:«باركا من الويسكي.. الشعب كيبكي» و «ضربوا اولاد الحرام..زادونا في السكر» و «بلعباس سير بحالك..التعليم ماشي ديالك» و «حذار،حذار..الطوبيسات حرقوهم الدراري».كما رفعت شعارات تمس بشخص الملك مباشرة.
ما يميز هذه الشعارات، هو كونها مباشرة و لا توحي بوجود خلفية إيديولوجية واضحة،فلا حديث عن صراع الطبقات أو الثورة أو غيرها من الشعارات التي تعرفها مدرجات الجامعة المغربية.

3-    التداعيات المباشرة لانتفاضة 23مارس 1965
بعد خمسة عشر يوما أعلن الراحل الحسن الثاني عفوا شاملا عن جميع السياسيين المدانين في 1964 بمن فيهم مومن ديوري و الفقيه البصري. و دخل القصر في مشاورات مع المعارضة لتشكيل حكومة اتحاد وطني.
غير أن اختطاف بنبركة أدى إلى تجدد التوتر بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد المغربي للشغل،إذ بادر عبد الرحيم بوعبيد إلى وقف ما كان يجري من مفاوضات مع القصر.
في هذا الصدد يقول الصحافي حسن العلوي«بعد أحداث مارس 1965 سيعرف المغرب من جديد لحظة انفراج سياسي. كان من الممكن أن تنتج مغربا آخر أكثر تطورا في ظل ديمقراطية واضحة الملامح متينة الركائز»ثم يضيف:«أطلق سراح السجناء و كل المحكوم عليهم،و صدر عفو عليهم،و صدر عفو شامل حتى على المحكوم عليهم غيابيا.و ظن الكثيرون أن الغمة قد انفرجت».
ثم يتابع ذات المتحدث شهادته قائلا:«كل ذلك تبخر فجأة،بعد اختطاف الشهيد المهدي بنبركة في أكتوبر 1965.هذه الضربة الغادرة،قضت على كل الآمال،و عادت بالمغرب من جديد،إلى نفس الظروف و الشروط التي كان يعيشها قبل مارس 1965،إن لم أقل أبشع و أفظع.من جديد،إذن،عاد القمع و التضييق،وتم منع الحزب مرة أخرى من إعلامه»
شهران بعد أحداث مارس 1965 سيعلن الملك الراحل عن قراره بالإعلان عن حالة الاستثناء  وحل البرلمان ،مبررا ذلك بمناقشاته العقيمة التي كانت ستنال من الديمقراطية المغربية«..و بما نعتز به من كرامة و فكر خلاق».و هكذا خاطب الشعب بقوله:«أيها الشعب منذ وصولهم إلى البرلمان تعطلت مصلحة التشريع،و كذلك المطبعة الرسمية و الجريدة الرسمية لم يصدر فيها إلا ثلاثة قوانين،و نحن الآن في السنة الثانية،فمن المسؤول عن هذا؟هل واضع الدستور أو الموافق عليه؟أبدا بل المطبق للدستور».
و في هذا السياق يقول أحد قادة الحركة الماركسية اللينينية في المغرب علال الأزهر لقد أدت التجربة البرلمانية الأولى إلى اقتناع النظام المخزني بطاقمه العسكري،بأنه غير قادر على استيعاب الممارسة البرلمانية في شروط إبعاد الحركة التقدمية و الوطنية عن ممارسة الشأن العام،فاختار الإعلان عن حالة الاستثناء.
وكان من تداعيات هذه الانتفاضة بروز تيارات اليسار الراديكالي ذي المرجعيات الماركسية اللينينية أو الماوية،منها حركة 23مارس  و حركة إلى الإمام كحركات شبابية عمودها الفقري الطلبة و التلاميذ و مثقفون،و تدعوا إلى التغيير الشامل للنظام بدل إصلاحه.
و عن تشكل فصائل اليسار المغربي يقول الصحافي لحسن لعسيبي صاحب كتاب"أقصى اليسار في المغرب" في حوار صحفي له:«إن تشكل تلك الفصائل قد حكمته ظروف مغربية صرفه،تعود في ما أتصور إلى أن ذلك الجيل كان جيل خيبات بسبب الصدمة من عدم تحقق مطالب الدمقرطة بعد الاستقلال.فهو جيل صدمة،كان منتميا عمليا إلى ما أسميناه قوة المجتمع المغربي الناهض أمام قوة الدولة الناهضة بدورها لإعادة تنظيم ذاتها بشكل جديد.فكان أن تصادمت القوتان.و كان ذلك الجيل منتميا لزمنه الكوني،حيث وجد في أدبيات الماركسية اللينينية جوابا ممكنا لما يرنو إليه من تغيير جدري.و لكن الواقع كان أصلب من تلك الطموحات و أنها كانت حركة ثقافية أكثر منها سياسية».
و قد كتب الباحت مصطفى بوعزيز يصف الشروط الخاصة لنشأت الحركة الماركسية اللينينية قائلا:«إن عوامل داخلية "أزمة الحركة الوطنية و انتفاضات الشبيبة" و خارجية"حرب الأيام الستة في يونيو 1967،الثورة الثقافية الصينية،و انتفاضة ماي 68 بفرنسا" قد تظافرت في ميلاد و تطور حركة اجتماعية كانت ثمرة لقاء بين مناضلين قاعديين في الأحزاب السياسية المكونة للحركة الوطنية و الشبيبة المدرسية التي دشنت نشاطها السياسي انتفاضة مارس 1965».
في حين يرى الحبيب الطالب أن تجربة تنظيمات اليسار الجديد قد جاءت ردا على إسقاط حكومة عبدالله إبراهيم،و معركة دستور 1962 الذي اعتبر دستورا ممنوحا و ما تلا من اعتقالات يوليوز 1963 الشهيرة من تعذيب بدار المقري،ثم أحداث 23 مارس بالبيضاء،و تتويج ذلك باختطاف و اغتيال الشهيد المهدي بنبركة،كل هذا التلاحق للأحداث السياسية خميرة لتبلور تلك الحركة الشبابية اليسارية السرية.
و عن إفرازات هذه الأحداث فقد توصل الباحث عزيز خمليش في دراسة ميدانية حول انتفاضة مارس 1965 إلى أن جل آراء المستجوبين تلتقي في كون هذه الأحداث«قد أدت إلى تعزيز الراديكالية داخل تنظيمات المعارضة،و من جانب الدولة،أعطت الأحداث الفرصة لتقوية الجيش و تجميد المؤسسة البرلمانية،بينما على مستوى المواطنين،عم الخوف و تقوقعت فئات عديدة على ذاتها»
بعد الأحداث اقترح الراحل الحسن الثاني وصفات لخلق روح المواطنة،من خلال حث الشباب على التضحية،و العمل من أجل الوطن.و في هذا الصدد دعا إلى العمل التطوعي من أجل بناء سد واد زير ليكون رمزا للانطلاقة الوطنية.و في يونيو من سنة 1966،أعلن الرحل الحسن الثاني عن الخدمة العسكرية الإجبارية،وقرر في صيف 1968،تأسيس هيئة من الشبان للقيام بأشغال خدمة الصالح العام.و من جهة أخرى،قرر في السنة نفسها إقامة الصلوات داخل المدارس،و شرع في بناء دور الشباب لتلقين الشبيبة القيم الوطنية.
و من الإجراءات التي تم اتخاذها بعد أحداث مارس  إعادة سكان إحياء القصدير العاطلين إلى قراهم في سنة 1977،لتشتيت تجمعاتهم داخل المدن الكبرى.

4-    دلالات انتفاضة 23 مارس 1965
--- في مقاربته لهذه الأحداث،يرى الباحث عزيز خمليش أن أحداث 23 مارس 1965  شكلت لحظة تصادم واضحة بين الدولة و المجتمع،و أن الدولة كانت المستهدف الرئيسي من تلك الأحداث،و هو ما يلاحظ من  خلال الشعارات و المطالب التي رفعها المتظاهرون،و التي كانت في أغلبها إما تندد بالسياسة العامة المتبعة أو تطالب بتلبية بعض الحاجيات الملحة(كالتعليم،و الخبز).كما يلاحظ،أيضا، من خلال عنف المواجهة بين قوات الأمن و المتظاهرين و حجم الخسائر و الأضرار التي لحقت الممتلكات العمومية و ممتلكات الخواص.
--- و من المفارقات التي يمكن تسجيلها هو غياب الأحزاب و النقابات و الجمعيات عن صلب حركة 23 مارس 1965.فما وقع ليس من صنع أية قوة سياسية منظمة و مسؤولة،فالأحزاب السياسية لم تتخذ أي قرار في هذا المضمار،و لم تعمل على المساهمة،كتنظيمات،في هذه الأحداث.و النقابات لم تقم فيها بأي دور و لم تتبناها.
فبالإضافة إلى القمع الذي كان مسلطا عليه،كنت أحزاب و نقابات المعارضة منقسمة حول نفسها،مشتتة أحيانا،و عاجزة عن استثمار سخط و تذمر المواطنين لصالحها.
و هذا ما يؤكده الباحث الأمريكي"جون واتربوري" قائلا:«لم يكن للأحزاب السياسية و النقابات أي ضلع في نشوب الاضطرابات،كما أنها عجزت فيما بعد عن التحكم في انفجار العنف».
ففي الستينات لم يكن هناك احتجاج و لا فضاء عام،كان هناك قمع،و السلطة الحاكمة مهيمنة على الفضاء العام،لهذا جاءت الأحداث في شكل مواجهة مباشرة بين أجهزة الدولة القمعية و عموم المواطنين.
و من هذا المنطلق يمكن القول إن الانتفاضة تقوم،في بعض الأحيان،بسد الفراغ الناجم عن غياب قنوات الوساطة(أحزاب،و نقابات و جمعيات) عن المجتمع،و بإثارة انتباه المسؤولين حول أهم القضايا التي تهم المواطنين.
و في هذا السياق يرى عباس بوغالم،أستاذ العلوم السياسية،في حوار صحفي أن الاحتجاجات غير المؤطرة بقدر ما تحمل مؤشرات ايجابية فإنها تنطوي أيضا على مخاطر بالنظر إلى كونها تعكس وجود حالة من العجز لدى النظام السياسي المركزي أو المنظمات الفرعية في أداء أدوارها و تلبية حاجيات الموطنين في مختلف المجالات.
ومن بين المخاطر ،يضيف بوغالم،التي تثيرها الاحتجاجات غير المؤطرة أنه لا يمكن التحكم فيها حيث قد تبتدئ بمبادرة عفوية أو من قبل أطراف معينة لكن نهايتها غير متحكم فيها و هنا تكمن مخاطرها.
و هكذا،بعد أن كانت بداية الانتفاضة من صنع التلاميذ و الطلبة،تحولت هذه الأخيرة مناسبة لنشاط عناصر لا قنوات تنظيمية لها.
أما الحقوقي مصطفى المنوزي فيستخلص من تلك الأحداث العبر التالية:«أول استنتاج أن الانتفاضات غالبا ما تكون مفيدة غير إن انعدام التأطير ينعكس سلبا على صمود و نفس الحركات المطلبية،بغض النظر عن الانتهاكات الجسيمة المترتبة عن ذلك.
لهذا-يضيف- فعقلنة تدبير الصراعات الاجتماعية تقتضي الحرص على ضمان الممارسة الديمقراطية عبر الحوار و التعبير السلمي و تحرير المجال السياسي من الانغلاق و الاحتكار.و العبرة الأهم هي العمل على تكريس ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة و عدم فرض تسويات ترهن مصير الضحايا و المناضلين لحسابات مصلحية خاصة»
--- إن شراسة القمع الذي تعرض له الشباب المتمدرس له عدة دلالات من ضمنها حسم مسألة السلطة لصالح النظام الحاكم و اجتثات قوى المعارضة و ضرب مركز قوتها المتمثل في الشباب المتعلم،و الذي كانت قوى المعارضة تراهن عليه.
--- لقد استهدف المتظاهرون كل ما يرمز،في نظرهم،للاستبداد أو الكبت (كالأبناك،سيارات الأمن،السجن،كاتب البريد..) فذلك لأنه بدا لهم أن العنف يشكل ردا على المجتمع و الدولة.فهم بذلك يريدون أن يعبروا للمجتمع عن قلقهم و للدولة عن تنكرها لهم.
5-    انعكاسات انتفاضة 23 البعيدة المدى
إن ما يجري الآن،هو نتيجة أو ثمار لما غرس من قبل.إن ما نعيشه اليوم مما هو سيئ أو جيد في حياتنا الوطنية لا يفهم إلا بالنظر إليه ضمن سلسلة من الأحداث السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية ،التي خرج من جوفها الحاضر الذي نعيشه،و التي ستبقى تؤثر في مستقبلنا لفترة غير قصيرة من الزمن.
و ما يهمنا في هذا السياق هو أن أحداث 23 مارس و جميع الممارسات التي قبلها و بعدها لم تمر مر الكرام و لم تأفل من الساحة إلا لتنغرس في الذاكرات الجمعية و الجماعات و الفئات و الطبقات لتبلور فعالية الذاكرة السياسية الوطنية،و تفرز مواقف سياسية،و تموقفات وجدانية،تتحكم في الرأي إزاء الآخر و في أجرأته و تصريفه في المجال السياسي و الاجتماعي.
و حالما يبرز شأن ما أو قضية ما تبرز معها الآراء و العواطف،و تعمد إلى خزان الأطر الاجتماعية للذاكرة فتتحصل المواقف ايجابية أو سلبية تجاهها.
و يكفي  لتوضيح ذلك أن نضرب المثال التالي:فبالرغم من مباشرة السلطة لما سمته المنهجية التشاركية في صياغة الدستور،فإن أحزابا يسارية و ديمقراطية و حركة 20 فبراير قد قاطعت دستور م011،بل رفعت شعار المجلس التأسيسي.فهذا الموقف تحدد انطلاقا من المخزون السياسي للذاكرة التاريخية.
أحداث 23 مارس و جميع الممارسات التي قبلها و بعدها لازالت حاضرة في الذاكرة الجماعية للمغاربة،ففي دراسة ميدانية لعزيز خمليش قال أحد المبحوثين صراحة:«إن صدمة أحداث مارس 1965،لازالت تجثم بكل تقلها على أذهان المواطنين،و لازال العديد من الناس لا يستطيعون الحديث عنها و يتجنبون ذكر الوقائع المرتبطة بها»
و بقدر ما رفع المنتفضون في أحداث مارس 1965 سقف المطالب و الشعارات،بقدر ما رفع الحكم سقف التعذيب و القتل و الإخفاء و الاختطاف إلى أعلى يتجاوز كل التصورات و الاحتمالات،و بالفعل فإن مخلفات هاته الانتفاضة مازالت تسكن الذاكرة السياسية للمغاربة و توجه سلوكهم. و عن بقايا هذه الانتفاضة في ذاكرة أطفال تلك الفترة،يقول أحد المبحوثين في ذات الدراسة:«عشت أحداث مارس 1965 و أنا طفل.و منذ ذلك اليوم ارتبطت في ذهني كلمة إضراب بفعل ضرب».
و بعد أحداث مارس 1965-يقول علال الأزهر في حوار له- أطلق النظام العنان لجهاز المخزن الأمني-العسكري لاضطهاد المعارضة السياسية،و التضييق على العمل السياسي،حتى أصبح مجرد النطق بكلمة السياسة في البلاد يشكل شبحا مخيفا في أوساط الشعب.
لقد بقيت بعض آثار هذه الأحداث موشومة في الذاكرة المغربية،حيث يستنبطن اللاوعي الجمعي للناس و للجسم السياسي المغربي تجربة الألم و الحسرة و الرعب و المهانة.و هو الأمر الذي بقي يتحكم في السلوك السياسي للمغاربة،و يتجلى ذلك بشكل باز في عزوفهم عن التسييس و في الابتعاد عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية.

المراجع 
-    الانتفاضات الحضرية في المغرب،عبد العزيز خمليش
-    في غمار السياسة:فكرا و ممارسة،الجزء الأول و الثاني،د.محمد عابد الجابري
-    مقال "خرافة العزوف عن السياسة "بأسبوعية الأيام،العدد 562بتاريخ 14-20 مارس 2013
-    أقصى اليسار في المغرب،لحسن العبسي و الصافي الناصري