الأربعاء، 4 يناير 2017

الأخلاق و رحلة تطورها

عن موقع علومي


هل النظم الأخلاقية نظم موضوعية تميز الخير عن الشر دائماً أم أنها نتاج تطور الحضارات البشرية؟
بداية أود أن أطلب من القارئ أن يضع جميع النظريات الأخلاقية المتعارف عليها جانباً، و أن يذهب معي برحلة عبر تاريخ تطور الحضارة الإنسانية.
في هذه الرحلة سأقدم قصة قصيرة عن ظروف الإنسان التطورية، و لماذا كان مهماً أن يطور أنظمة و قوانين تضمن بقائه و تماسك مجتمعاته.
هذه محاولة متواضعة مني لوضع نظرية تفسر القوانين الأساسية التي نستقي منها التشريعات الأخلاقية.
هذه النظم الأخلاقية موجودة ليس لأننا نحب الخير أو لأننا نكره الشر، و إنما لأننا نريد و نسعى إلى البقاء.
 نعم، الخير و الشر ماهي إلا مصطلحات ترمز لأفعال تساهم في بقائنا أو أعمال قد تؤدي إلى فنائنا و هذا ما سأحلله ضمن هذه المقالة.
في أغلب الأحيان عندما تشاهد موقف ما تستطيع أن تبني استنتاج أخلاقي معين.
ترصد لصاً يسرق تقول هذا خطأ لكن قد تغفر له إذا كان بحاجة لإطعام أطفاله، تشاهد شاب يضرب عجوزاً تقول هذا عيب لكن تتعاطف مع الشاب إن تبين لك أن العجوز قد اغتصب طفلاً، تسمع أن فلان قتل فلان، تقول هذا شر ثم تتقبل إعدامه من قبل الدولة.
لماذا هذه الضبابية في تقييم الخير و الشر؟ لماذا تختلف الحضارات و الثقافات في التقييم الأخلاقي؟ ألا يوجد قانون أخلاقي عالمي كوني يميز الخير من الشر و يضع أسساً أخلاقية صالحة لكن زمان و مكان؟
هذا ما سأجيب عليه…
أنت حيٌ تُحبُ الحياة:
لنعود حوالي ٤ مليار سنة إلى الوراء و لنتخيل أنك واحد من جينات الخلية الأولى.
لديك وظيفة مهمة و هي تحليل أشعة الشمس إلى طاقة تُستَقلب ضمن الخلية لتنقسم على نفسها من جديد. نعم هي وظيفة مهمة و مسؤولية كبيرة، أيضاً من ضمن مسؤولياتك أن تنشر نفسك بدقة متناهية دون خطأ أثناء الانقسام، لأن حياة الخلايا الأخرى و استمرارها عبر الأجيال يعتمد عليك بالحصول على الطاقة. فعلاً أنت تقوم بتنفيذ مهمامك على أكمل وجه و تنشر نفسك دون أخطاء.
لديك صديق (جين آخر) مسؤوليته استقلاب الطاقة التي تحصدها أنت من الشمس و تحويلها إلى حركة و عمل ليساعد الخلية على الانقسام، مع مرور الزمن و تطور هذه الخلية تعرفت على أصدقاء جدد حتى أن عددكم أصبح بالملايين. لكل منكم مسؤوليات مختلفة، فمنكم من يعمل على بناء الألياف و منكم من يعمل في التكاثر و منكم من اختص بالجهاز العصبي و هكذا. سبب نجاحكم و تطوركم أنكم قطعتم عهداً أن تتعاونوا فيما بينكم، و أن تفعلوا كل ما بوسعكم للانتشار و الاستمرار، و هذا الاتفاق مهم بالنسبة لكم لأنكم شاهدتم ما حدث للآخرين الذين لم يتعاونوا فيما بينهم ، تلك الجينات جميعها انقرض…..
مع مرور الوقت و تطور الكائنات بقيت أنت و أصدقائك الجينات تنتشرون عبر الأحياء التي وجدت من خصائصكم فائدة، إلا أنكم في بعض الأحيان وجدتم أنفسكم في حالات تنافسية ضمن أنظمة جينية متنافسة. أيام العسل قد مضت و التنافس اشتد فتغير الاتفاق و تبدلت الأولويات. أصبحت الأولوية الآن في بقاء الكائن الذين أنتم جزء منه، هذا طبعاً لا يعني أن أحدكم يعيش في كائن واحد و إنما الأولوية لجميع الكائنات التي تحمل أكبر عدد من نسخكم. هذا يعني أنكم تساعدون بعضكم على البقاء و الانتشار بما يتناسب مع عدد الجينات القريبة منكم. مع الوقت استطعتم بناء منظومات جينية بكل الأشكال و كل الأطوار. منكم من يعيش في الماء و منكم من هو على اليابسة و البعض الآخر في السماء. احتللتم كل مكان صالح للحياة على كوكب الأرض.
لنتقل إلى المستقبل …. ٢٠٠،٠٠٠ سنة قبل الميلاد،
الجنس البشري المعاصر:
لقد قطعت أشواط و مررت بظروف قاسية إلا أنك مازلت هنا، تعرفت على الكثير من الأصدقاء و اكتسبت الكثير من الخبرات.
في هذه الفترة انخفضت أهمية مسؤوليتك بتحويل طاقة الشمس بسبب اعتماد بعض الكائنات على طرق جديدة لاستقدام الطاقة، مثلاً يوجد كائن جديد اسمه الإنسان يعتمد على افتراس كائنات أخرى. نعم تغيّر الزمن و أصبحت الحياة أصعب من قبل، اليوم أنت و جميع أصدقائك تتفهمون الحاجة للقضاء على بعضكم البعض في سبيل البقاء.
هذا الكائن “الإنسان” وجد نفسه في بيئة استوائية شحة الموارد. عليه العمل بشكل جدي و شاق لتأمين الطعام. الكثير من الأصناف الأخرى من البشر انقرضت لأنها لم تتعلم كيف تعمل بشكل ٍجماعي. أنت كواحد من هذه الجينات داخل الجسم لاحظت ارتفاع نسبة الجينات التي تساهم في تعزيز العمل الجماعي و التعاون. نعم اليوم أنت لست خائف من الانقراض لأنك ضمن جسم كائن يعلم قيمة العمل الجماعي.
إذاً الحياة هي عملية بدأت منذ مليارات السنين و مرت بالعديد من العقبات و الإنقراضات و بقي من الأحياء فقط من استطاع على التأقلم مع المتغيرات. على الرغم من صعوبة الظروف و الحاجة لقتل أحياء أخرى للبقاء إلا أن جيناتك لازالت تقدر الحياة و تعمل ما بوسعها على استمرارها مع اختلاف بسيط و هو التمييز على أساس التقارب الجيني. كل ما كانت الجينات أقرب كل ما ازداد التعاون و الدعم على البقاء…
التجمعات السكنية البشرية:
مع تطور الإنسان و اكتشافه الزراعة، تغيرت استراتجياته البقائية بشكل ثوري. لم يعد الإنسان مجبر على الانتقال كل يوم من مكان إلى آخر بحثاً عن الطعام و الموارد. بدأ الإنسان في تطوير مجتمعات صغيرة ثابتة قادرة على استدامة نفسها من خلال الزراعة و الصيد. هذا التطور الجديد وضع تحديات جديدة و عقبات مختلفة. ازدياد التعداد السكاني بين البشر يعني التضارب في المصالح فيما بينهم مما يؤدي إلى خلافات في بعض الأحيان تؤدي إلى انهيار القبيلة. انهيار القبيلة يجعل أفرادها عرضة للعديد من المخاطر التي قد تؤدي إلى موتهم جميعاً. لهذا طوّر البشر وسائل تواصل و قوانين تضمن ترابط قبائلهم و منعها من الانهيار. تخيل إنسان وحيد في الأدغال الإفريقية. هذا الإنسان لن يصمد أكثر من بضعة أيام إلى أن يموت جوعاً أو يتم افتراسه من قبل الحيوانات الأخرى.
إذاً الترابط المجتمعي من الناحية الغريزية هو بمثابة الحصول على الغذاء و الموارد. لأن انحلال الترابط الاجتماعي يعني انهيار القطيع و موت أفراده. الترابط الاجتماعي تجسّد باستقرار مجموعة من البشر في بقعة جغرافية محددة يستطيع أفرادها حماية أنفسهم و إنتاج مواردهم بشكل مستدام. الغريزة البشرية الاجتماعية هي غريزة لا يستهان بها و قد بدأت. فهم الإنسان و أنتبه لأهمية العيش ضمن مجموعات و جميع فصائل البشر الأخرى التي لم تنتبه لهذه النقطة انقرضت تاركةً البشر ذو الخبرة الاجتماعية ليبنوا و يطوروا حضاراتهم….
 BCE لننتقل نحو المستقبل إلى عام ٢٥,٠٠٠ قبل العصر الشائع :
في يوم من الأيام استيقظ أفراد قبيلة على صراخ إحدى النساء… ركض أفراد القبيلة نحو مكان سكنها و وجدوا زوجها مرمي على الأرض و قد تعرض للقتل. يوجد آثار أقدام تتجه نحو مأوى أخر لأحد أفراد القبيلة. مباشرة توجه أخو الضحية و دخل إلى منزل المشتبه به و قتل من فيه. سمع بالحادثة أقرباء القتلى الجدد، فتوجهوا بدورهم نحو قاتليهم و انتقموا منهم و هكذا دخل أفراد القبيلة بدائرة من الثأر حتى قُتل أغلب الرجال و تيتم الأطفال و أصبحت النساء دون من يحميها من سبي غزوات القبائل الأخرى.
– يجدر الذكر أن أحد الغرائز الإنسانية المهمة للبقاء هي الثأر، و التي سأتطرق إليها لاحقاً في المقال…
– عندما أقول قبيلة أعني تجمع بشري صغير الحجم قبل تطور الحضارة و نشوء المدن…
القبيلة التي ذكرتها مات ذكورها و انقطع نسلهم لأنهم لم يطوّرا أعراف و قوانين تنظم علاقاتهم و تضمن عدم تفكك مجتمعهم الصغير. بينما القبيلة التي غزتهم و اختطفت نسائهم و استعبدت أطفالهم استطاعت أن تستمر و تتطور لأنها ابتكرت بعض الأنظمة التي تحكم و تنظم تعامل الأفراد فيما بينهم.
هذا القبيلة صاحبة القوانين تعرضت لحادث شبيه سابقاً حيث قام أحد أفرادها بقتل فرد آخر، لكنهم تعاملوا مع الحادثة بشكل مختلف. هم لديهم قانون ورثوه من أجدادهم. هذا القانون ينص أن القاتل يقتل و أن هذا القانون من سنن السماء فلا يستطيع أحد أن ينتقم أو يرفض الانصياع لهذا القانون. بهذه الحالة، يشارك جميع أفراد القبيلة بمعاقبة الفرد الذي يخالف القانون السمائي و القاتل يقتل و تنتهي سلسلة القتل عند هذه الحلقة. هكذا لن يثأر أحد لمقتل القاتل لأن الجهة التي تسن القوانين ليست بين أفراد القبيلة و إنما هي في السماء تحرص على إحقاق الحق و إقامة العدل و محاربة الظلم.
من أين تأتي القوانين الأخلاقية؟
السبب الوحيد المباشر لوجودي اليوم و قدرتي على كتابة هذا المقال تعود لبرمجة جيناتي على التكاثر. ضمن هذه البرمجة أنا أعمل كل ما بوسعي للعمل على نشر حمضي النووي إلى الجيل القادم لكن هذه العملية لا تقتصر على التكاثر الجنسي بشكل حصري. بينما أنا أساهم بنشر جيناتي عبر مساعدة أخي أن ينشر جيناته أيضاً، أساعد في نشر جيناتي عبر مساعدة أولاد عمي و أساهم في نشر جيناتي عبر العناية بأحفادي و جميع أفراد أسرتي و قبيلتي و الجنس البشري عموماً. إذاً كل البشر الموجودون على كوكب الأرض اليوم هم أحفاد بشر استطاعوا أن يعيشوا ضمن مجتمعات منوّعة و ظروف مختلفة تنظمها قوانين محددة لضمان الترابط الاجتماعي.
جميع القوانين الأخلاقية التي نمارسها اليوم هي نتاج ألاف السنين من التطور و التأقلم.
يجب النظر إلى النظم الأخلاقية من ناحية تطورية بحتة و فهم أنها وسيلة مبتكرة مثلها مثل اكتشاف النار أو أكل اللحوم. الأنظمة الأخلاقية هي اختراع بشري للمرور عبر الأجيال دون انهيار التجمعات البشرية الصغيرة. هذه النظم الأخلاقية لها محركين أساسين. هذان المحركان لهما هدف واحد و هو بقاء الجنس البشري و استمراره عبر الأجيال. سأقوم بتفصيل هذه النقاط بشكل أوسع في سياق المقال. أرجو المتابعة….
الكذب، القتل، الخداع، الاغتصاب، السرقة، الخطف، التضحية، العبودية، العطاء، الكرم، الفداء، الشجاعة، التعذيب كلها أعمال و تصرفات و صفات بشرية تم تقيمها بناء على نظام موضوعي معني بضمانة استمرار الحياة و تماسك القبيلة. نحن لا نستطيع تقييم أي من هذه الأفعال على أنه خير أو شر إلا في سياق غريزة الترابط الاجتماعي و مدى تأثير هذه الأفعال على المجتمع بشكل خاص و استمرار الحياة بشكل عام.
لنأخذ بعض الأمثلة:
الكذب هو توصيف لحالة تواصل غير صادقة بين عدة أطراف. المشكلة الأخلاقية مع الكذب ليست بكونها عملية مخادعة و إنما بالأثر الذي تتركه هذه العملية على الترابط الاجتماعي.
إذا رأيت شخص تعرفه في الشارع و دعاك هذا الشخص إلى تناول كوب من القهوة و كان جوابك بالرفض لأنك “لا تستمتع بقضاء وقت معه” سيعُتبر جوابك غير لائق و غير أخلاقي مع أنك قلت الحقيقة. بينما لو أنك كذبت على هذا الشخص و قلت له “أنك متأخر و عليك الذهاب لموعد مسبق” فهذا يعتبر نوع من المجاملة المقبولة و المحبذة مع أنك قمت بخداع و الكذب.
من هنا أود أن أذكر نقطتين:
النٌظٌم الأخلاقية لم و لن تكون يوماً نظم موضوعية (دائماً صحيحة). هي نظم ابتكرها الإنسان لضمان الهيكلية الاجتماعية. محاور مثل العبودية و المثلية الجنسية و حقوق المرأة جميعها محاور تطورت ضمن النظم الأخلاقية مع الزمن. تأثير كل من هذه المحاور على المجتمع هو ما يحدد تعامل المجتمع معها و تصنيفها الأخلاقي. نُظمنا الأخلاقية لا تعتبر غريزة الكذب بشكلها الشمولي ممنوعة أو لا أخلاقية و إنما تمنع الكذب الذي يسبب أثار سلبية على ترابط المجموعة. إذا تخيلنا فريق رياضي عليه العمل بشكل جماعي ضمن استراتجيات تساعده على تمرير الكرة و إحراز الأهداف فإن النظم الأخلاقية بمثابة مدرب الفريق الذي يسعى دائماً على ضمان ترابط الفريق و حفظ حق اللاعبين في حال اعتدى أحد اللاعبين على الآخر.
الكذب ذو الأثر الإيجابي على الترابط الاجتماعي هو مجاملة.
الصدق ذو الأثر السلبي على الترابط الاجتماعي هو وقاحة.
القتل ذو الأثر السلبي على الترابط الاجتماعي هو جريمة.
القتل ذو الأثر الإيجابي على الترابط الاجتماعي هو عدالة القانون.
إذاً التقييم الأخلاقي ليس مرتبط بالفعل بحد ذاته و إنما بتأثير الفعل على الترابط الاجتماعي. لهذا نجد تفاوت في الأنظمة الأخلاقية بين المجتمعات و نشعر بعدم موضوعيتها و يتفاجئ البعض أن نظمهم الأخلاقية هي ليست لكل مكان و زمان و أنها مرفوضة ضمن مجتمعات أخرى و العكس.
المجتمعات تتطور و بالتالي تتغير الآثار المترتبة على ما يعد أخلاقيا أو غير أخلاقي. مثلاً، العبودية كانت عمل مقبول و منصوص عليه ضمن كافة الأديان في الفترات السابقة لأن المجتمعات التي كانت تستعبد كانت تجني فوائد اقتصادية و لكن مع تطور هذه المجتمعات و ازدياد أعداد العبيد فيها نتج تأثير السلبي على الترابط الاجتماعي و بالتالي تتغير المنظومة الأخلاقية و تبدأ برفض العبودية. نعم، رفض العبودية ليس ناتج عن شعور بعدالة و مساواة سماوية مع من نستعبدهم أو من يستعبدوننا و إنما بسبب الآثار السلبية التي تنجم عن هذه الأفعال على المجتمع. أي فعل يسبب تفكك في المجتمع هو فعل غير أخلاقي و العكس صحيح.
مثالاً، العنصرية كانت مقبولة بشكل عالمي سابقاً بسبب انغلاق المجتمعات على نفسها، و لكن مع عولمة المجتمعات و اختلاط الناس أصبحت العنصرية غير مقبولة و مرفوضة بشكل عام و خصيصاً ضمن المجتمعات المختلطة عرقياً. لماذا؟ لأن العنصرية في هكذا مجتمعات ستؤدي إلى انهيار هذه المجتمعات و لهذا تعتبر عمل لا أخلاقي و لكن ليس لأن العنصرية في أساسها سيئة و إنما بسبب تأثيرها السلبي على الترابط الاجتماعي.
*ملاحظة: علمياً لا يوجد شيء اسمه عرق و هي مفرزات تطورية تتعلق بالجنس البشري حصرياً. جميع البشر متطابقين بنسبة ٩٩٪ بغض النظر عن مكانهم الجغرافي. نحن لا نرصد عنصرية عند بقية الكائنات الحية. الأحصنة البيضاء لا تفضل الأحصنة البيضاء أو تتجنب الأحصنة السوداء.
إذاً ما أقدمه في هذه السطور أنه لا وجود لمفهوم أخلاقي عالمي موضوعي دائم و إنما قوانين بشرية منصوصة لتحقيق هدفين اثنين. استمرار الحياة و تماسك المجتمع. هذا يعني أننا إذا أخذنا أي مثال و أسقطناه على هذه الفرضية يجب أن لا يتعارض مع هذين الشرطين. للتأكد من صحة هذه الفرضية اختر أي فعل و مرره عبر الأسئلة التالية:
ما هو تأثير هذا الفعل على استمرار الحياة بشكل عام و استمرار الجنس البشري بشكل خاص؟
ما هو تأثير هذا الفعل على الترابط الاجتماعي ضمن مجموعتي؟
الشق الأول المتعلق باستمرار الحياة و نشر الجينات له أبواب عديدة أهمها الاستثمار الجيني. لهذا نجد أن النساء و الأطفال لهم حيز مهم جداً في تقييم أثر الأفعال عليهم. الأنثى أثمن و أغلى من الذكر من حيث قيمة الاستثمار الجيني و الطفل لديه مستقبل جيني لم يتم استثماره بعد لذلك يأخذ النساء و الأطفال مقام أعلى في تقيمنا الأخلاقي. (للمزيد من المعلومات اقرأ مقالي عن الاستثمار الجيني).
يجدر الذكر أن الشرط الأول تزداد قيمته كلما ازداد التقارب الجيني. مع هذا يجدر الذكر أنه على الرغم من أهمية الحفاظ على الحياة إلا أن الشق المتعلق بالترابط الاجتماعي هو شرط أكثر إلحاحا و أهم من حيث الأولويات. لهذا نجد أننا نتغاضى عن إزهاق الحياة في سبيل الترابط الاجتماعي. ليس لدينا مانع من قتل مئات الألوف من البشر مقابل ضمان الترابط ضمن مجتمعنا.
بعض الأمثلة:
قمت بطرح استبيان ضمن مجموعة من أصدقائي في أحد المجموعات التي أنتمي إليها على الفيس  بوك. كان السؤال هو التصويت لأكثر الأعمال اللاأخلاقية بنظر المجموعة كل مشارك يحق  له اختيار ٣ أعمال لا أخلاقية. طبعاً هذا الاستبيان ليس استبيان علمي إذ أنه يفتقر لإجراءات التحكم و الحيادية العلمية إلا أن النتائج كانت كالتالي….
٩٩ صوت الممارسة الجنسية مع الأطفال
٩١ صوت القتل
٦٨ صوت للاغتصاب بشكل عام
٤٥ صوت للتميز العنصري
١٢ صوت للحرب
الخ….
أرجو أن ينظر القارئ لهذه النتائج و يبني استنتاجه لماذا تم تقييم هذه الأفعال بهذه التسلسلية. بقية الأفعال كانت الكذب، الحكم الديكتاتوري، التعذيب، التقديس الأعمى، السرقة، الاختطاف، الثأر، الخيانة، الغدر….
لننظر إلى بعض الأمثلة و نقيمها من الناحية الأخلاقية ضمن السؤالين التالين:
– ما هو تأثير هذا الفعل على استمرار الحياة بشكل عام و استمرار الجنس البشري بشكل خاص؟
– ما هو تأثير هذا الفعل على الترابط الاجتماعي ضمن مجموعتي؟
مثال #١
السرقة: تعد عمل سلبي بسبب ثأر الضحية من السارق لكن السرقة تعد أقل وطأة من القتل إذ أنها غير مؤثرة سلباً على استمرار الحياة. أيضاً إن قلنا أن السرقة تمت من قبل شخص لا يريد المسروقات لنفسه و إنما يريد توزيعها على الفقراء و المحتاجين في المجتمع حينها يصبح لدينا روبن هود و بطل قومي عوضاً عن سارق مجرم. إذاً مرة أخرى الفعل بحد ذاته غير مهم و المهم الأثر الذي يتركه ضمن سياق الشروط الذي ذكرتها.
لتقييم هذه القصة من الناحية الأخلاقية:
مثال #٢
أنت تقود قطار مسرع خارج عن السيطرة يتجه باتجاه مجموعة من الأشخاص. هذه المجموعة تتكون من خمسة أشخاص و ستقتلهم بشكل مباشر. لديك الخيار أن تنقذ الخمس أشخاص عبر تحويل القطار إلى اتجاه أخر لكن لديك مشكلة، إذ أن تحويلة السكة الأخرى يوجد عليها شخصين واقفين أيضاً. إذاً أنت ستتسبب مقتل إما خمسة أشخاص أو شخصين، الخيار لك.
هل تنقذ خمس أشخاص مقابل الشخصين المتواجدين على السكة الأخرى؟ أم تترك الخمسة يموتون؟
أغلب الناس تجيب على هذا السؤال الافتراضي من منطق أن الفعل الأقل شراً هو إنقاذ الخمسة أشخاص مقابل الشخصين.
الآن لنغير بعض المعطيات في القصة و نفترض أنك لا تعرف الخمس أشخاص نهائياً، لكن الشخصين على السكة هما أطفالك أو والديك أو أخوتك (من أفراد عائلتك المقربين).
هل سيختلف قرارك؟
الأغلبية تختار إنقاذ أفراد عائلتهم وذلك لأن العلاقات الأسّرية هي الأهم من ناحية التقارب الجيني. كما ذكرت سابقاً فأنت مبرمج أن تفعل كل ما بوسعك لتسهيل انتشار جيناتك و بقائها. إذا أضفت لك خيار ثالث و هو سكة جديدة عليها بعض الماشية، أظنك ستختار الماشية و إذا أضفنا سكة رابعة عليها بعض النباتات فستختار النباتات و هكذا. كل ما ابتعدنا جينياً كلما انخفض مستوى تعاطفنا.
هذا المثال يوضح آليات التقييم الأخلاقية و التعاطف باستخدام الشرط الأول.
غريزة الثأر:
الثأر غريزة مهمة جداً في تطور الإنسان حيث أننا مستعدين أن ندفع ثمن أكبر من الضرر الأساسي في سبيل الانتقام. لماذا نقوم بالانتقام رغم أن العملية خاسرة في جميع الأحوال؟ الضرر الأصلي عادة يكون قد وقع و الانتقام لن يغير شيء من الواقع بل على العكس قد يزيد الوضع سوء و مع ذلك نجد أنفسنا مندفعين للانتقام.
هذه الغريزة ضرورية في إقامة ردع بين الأفراد في المجموعات. البشر الذين لا يثأرون انقرضوا بسبب عدم وجود روادع بين أفراد مجموعاتهم مما أدى إلى انهيار هذه المجموعات و انقراض أفرادها. طبعاً القوانين في يومنا هذا ما هي إلا ثأر مؤسساتي لما فيه فائدة و ضمانة في التماسك الاجتماعي. بشكل عام يوجد في علم الأحياء نظرية اسمها استراتجيات الاستقرار التطوري Evolution Stable Strategy والتي تنص أن أي تجمع حيوي فيه أفراد متفاعلة مع بعضها سيتواجد في هذا التجمع أفراد تخالف القوانين السائدة ضمن المجتمع و المجتمعات هذه ستقوم بشكل طبيعي في بناء استراتجيات انتقامية من هؤلاء الأفراد لضمان استقرارها و عدم السماح بمخالفة القوانين.
من أهم هذه الاستراتجيات و أكثرها انتشاراً بين الأحياء هي استراجية “تيت فو تات” أو Tit for Tat و التي تنص على المبدأ الشهير “العين بالعين”. لهذا لا أعتقد أن حامورابي هو من وضع هذا القانون و أنه قانون أقدم من الحضارة البشرية أصلاً.
التضحية و حب الوطن:
لماذا يقوم شخص ما بالتضحية بنفسه مقابل الآخرين و لماذا يعتبر هذا العمل إيجابيا من الناحية الأخلاقية؟
حب الوطن و الشعور الوطني يرتبط بشكل مباشر مع التقارب الجيني إذ أن المجتمعات المتواجدة ضمن مجال جغرافي محدد تكون عادة متقاربة جينياً. لذلك التضحية مقابل هذه المجموعة تكون مربحة جينياً للشخص الذي يضحي بنفسه. وجود الأفراد ضمن مساحة مشتركة يعني أن نسبة تشاركهم الجيني عبر الأجيال هي نسبة عالية جداً و خصيصاً عند الشعوب المتجانسة جينياً (محدودين جغرافياً بعوامل تمنعهم من الاختلاط).
الحرب:
الالتزام باحترام الحياة هو شرط أساسي عند جميع الأحياء، لكنه أيضاً مرتبط بعدم تأثير هذا الالتزام على حياة الشخص و المجموعة التي ينتمي إليها. هذا يعني أن جميع الأحياء تلتزم باحترام الحياة طالما أن هذا الاحترام لا يؤثر سلباً على جيناتها الشخصية (١٠٠٪ من نفسها). تماسك المجتمع أو الوطن يؤثر بشكل مباشر على جينات الشخص.
الآن الانتشار الجيني عادة يكون مرتبط جغرافياً، لهذا نجد أن التعاطف الجيني بعد العائلة يصبح مناطقياً لأن هذا يجسد تقريب منطقي لانتشار الجينات المتشابهة بين الأفراد. أنا ثم عائلتي الصغرى ثم عائلتي الكبرى ثم حارتي ثم مدينتي ثم دولتي ثم قارتي ثم عرقي (تشابه فيزولوجي) ثم الجنس البشري. في حال الحروب يتم التقييم ضمن التقارب الجيني المناطقي. لهذا نجد أن الحروب الأهلية عادة تكون حروب إما ذو طابع عرقي (عقائدي أيضاً) أو طابع مناطقي. يوجد تأثير آخر و هو تأثير الانتماء الديني لكني لن أتطرق له ضمن هذه المقالة و يمكن القراءة عن هذا التأثير في مقالة سابقة لي اسمها “غريزة الإيمان”.
المثلية الجنسية:
المثلية الجنسية هي توجه جنسي طبيعي موجود بنسبة بين ٧٪ إلى ٢٢٪ في الولايات المتحدة مثلاً بناء على إحصاء قام به جالوب في عام ٢٠٠٢. بسبب تطور الحضارة البشرية و فهم الأبعاد البيولوجية للمثلية الجنسية بدأنا نرصد تبدل في التقييم الأخلاقي لهذه الحالة الطبيعية. لنعاين ما تغيير ضمن سياق الفرضية التي طرحتها. سابقاً:
في السابق كان الفهم الشائع للمثلية أنها معدية و تتسبب في تحول الأشخاص من أشخاص مغايرين جنسياً إلى مثليين.
إذا قمنا في تقييم هذه الفهم السائد عن المثلية سنكتشف أنه يعارض الشرط الأول في بناء النظم الأخلاقية و هو أن المثلية تتعارض مع دعم انتشار الحياة و الحفاظ عليها.
العلاقات العاطفية و الجنسية بين نفس الجنس تشكل تهديداً للنسيج الاجتماعي المتعارف عليه بسبب اعتبار أن مثل هذه التصرفات ستمنع الذكور و الإناث من زواج و هذا يشكل خرق للعادات و القوانين المتعارف عليها.
إذا قمنا في تقييم هذا الشق من الفهم السابق للمثلية سنجد أنه يتعارض مع الشق المتعلق بالترابط الاجتماعي.
إذاً الفهم الخاطئ لماهية المثلية الجنسية أدى إلى رفض هذا التوجه الجنسي و اعتباره لا أخلاقي.
اليوم في القرن ٢١:
تطور وسائل الاتصال و انتشار العلوم، أسس في بناء أرضية جديدة من الحريات. اليوم نحن لم نعد مرتبطين بمجتمعاتنا الجغرافية. هذا يعني أننا لسنا مجبرين على قبول جميع الأفكار المحيطة بنا جغرافياً لأننا قادرين على التواصل و الانتماء لمجتمعات أخرى عبر شبكات التواصل الاجتماعية و الانترنت. ازدياد الوعي حول التوجهات الجنسية المختلفة و الفهم العلمي لتفاصيلها ساهم بشكل مباشر بقبول هذه التوجهات الجنسية إذا أنه تبين أنها حالة طبيعة غير معدية و لا تشكل خطراً على استمرار الجنس البشري و لا تشكل تهديداً للنسيج الاجتماعي إذ أن الأشخاص المغايرين جنسياً لن يتحولون لأشخاص مثليين لمجرد تعاطفهم مع حقوق المثليين و قبولهم كأشخاص طبيعيين. لمزيد من المعلومات حول المثلية الجنسية و ماهية التوجهات الجنسية يمكنك قراءة مقالي “المثلية الجنسية” أو “الجنس و الحب”
الأشخاص الذين يعتبرون المثلية الجنسية عمل لا أخلاقي هم بأغلب ظني ضمن سياق الفهم المغلق السابق للمثلية باعتبارها حالة معدية خطرة على بقاء الجنس البشري.
البيدوفيليا أو ممارسة الجنس مع الأطفال:
ممارسة الجنس مع الأطفال أيضاً توجه جنسي مثلها مثل التوجه المغاير (ذكر و أنثى) لكننا نعتبرها عملاً لا أخلاقياً و جريمة يعاقب عليها القانون بأشد العقوبات. لماذا؟
لنعاين هذه الحالة من خلال الفرضية التي وضعتها بين أيديكم. على الرغم من أن هذه الحالة هي حالة طبيعية إلا أن لها عدة تأثيرات سلبية على استمرار الحياة و الترابط الاجتماعي.
الاعتداء الجنسي على الطفل يتم دون موافقة الطفل لهذا يصنف هذا النوع من التفاعل “بالاعتداء” و الذي يستوجب رداً ثائراً من قبل أهل الضحية الطفل. لهذا يتوجب وضع قوانين تضمن الثأر لأهل الطفل و مؤسسة هذا الثأر بطريقة نبعد هذا النوع من الأشخاص عن الأطفال بشكل عام و التفاعل الاجتماعي بشكل خاص.
الآثار النفسية السلبية على الطفل تلازمه مدى الحياة و تؤثر على فعاليته في المجتمع. الطفل يشكل قيمة عالية جداً من حيث الاستثمار الجيني بالنسبة لأهله إذ أنه يمثل جسر العبور نحو الأجيال القادمة بالنسبة لأهلة و عندما يأتي أحدهم و يعتدي على ممر عبورهم الجيني المستقبلي فهذا يستوجب رداً على مستوى الحدث.
كما ذكرت سابقاً أن الأطفال و النساء لهم قيمة جينية عالية لذلك أي اعتداء عليهم يكون له تداعيات ثأرية عالية جداً و لذلك يتوجب وضع عقوبات قاسية تتناسب مع الجرم.
الملخص:
إذاً في النهاية أود أن أقول أن النظم الأخلاقية ما هي إلا قوانين بشرية تم ابتكارها لحماية المجتمعات البشرية من الانهيار. اليوم و مع تطور تكنولوجيا الاتصالات، سنجد ثورة أخلاقية جديدة إذ أن الكثير من المعطيات تغيرت و لم يعد تأثير تلاحم المجتمعات ملح كما كان سابقاً. اليوم أنا لدي أصدقاء من كل أنحاء الكرة الأرضية و أتكلم معهم أكثر من جيراني المقيمين بالقرب مني. اليوم أصبحت الكرة الأرضية بمثابة مجتمع كبير واحد.أتوقع في المستقبل القريب انخفاض الحروب ذو الدوافع الوطنية و ارتفاع وتيرة الحروب المبنية على الاختلافات العقائدية. الشعور الوطني مهم في توحيد السكان ضمن قوالب جغرافية، و لكن و بسبب التواصل العالمي بين الأفراد لم يعد الشعور الوطني ذو أهمية ترابطية بين الأفراد و سنشهد تطور في الصراعات من صراعات وطنية إلى صراعات فكرية.
القتل و الكذب و السرقة و الاغتصاب و الخطف و الاختلاس و الخداع و الخيانة جميعها أعمال لها تأثير سلبي معين على جودة الحياة عموماً و على ترابط المجتمعي خصوصاً و لهذا هي شريرة.
من المعلوم أن الأديان تدعي أنها مصدر الأنظمة الأخلاقية و لكني اليوم أجد نفسي مجبر أن أقول أن الأديان هي من أكثر العوامل المؤثرة سلباً على مستقبل الجنس البشري و هذا لأنها تجعل أتباعها يشعرون بوهم الوضوح الأخلاقي و لأنها تعمل على خلق “نحن” و “هم” في وجه مجتمعات تتجه نحو العالمية و التواصل المباشر. أيضاً، الأديان لا تقدم نظام مرن متغير مع التطور الحضاري و إنما أخذت عينة من الأنظمة الأخلاقية التي كانت مناسبة قبل ألاف السنين و ادعت أن هذه الأنظمة صالحة لكل زمان و مكان.
نعم نحن نشهد نوع جديد من التطور سيكُتب عنه في يومٍ من الأيام.
فهم خلفية الغرائز الأخلاقية و من أين تأتي هذه القوانين و الأنظمة سيمكننا من تعديلها بشكل يتماشى مع تطور الجنس البشري و يساهم في ارتقاء مجتمعاتنا نحو مجتمع الكوكب الواحد، كوكب الأرض. لنجعل الأرض قبيلتنا…

السبت، 31 ديسمبر 2016

الفلسفة الأولى مع المرحلة الأرسطية ـ محمد بلصفار

أنفاس نت



الفلسفة الأولى التي سميت بأشراف العلوم والمعارف لكونها النظر  في العلل الأولى إذ تبحث عن الحقيقة السامية التي تشغل بال الفيلسوف طيلة مسيرة سؤاله حتى انتقاله إلى جوارها فهي  كما اخبرنا الكندي " :  أنها أشرف الفلسفة وأعلاها مرتبة الفلسفة الأولى: أعني علم الحق الأول الذي هو علة كل حق. ولذلك يجب أن يكون الفيلسوف التام الأشراف هو المرء المحيط بهذا العلم الأشرف: لأن علم العلة أشرف من علم المعلول[1] " ، فالفلسفة الأولى أو المتافزيقا كما سماها تلميذ أرسطو " اندرونيقوس الرودسي " في القرن الأول قبل الميلاد عندما صنف مؤلفات أرسطو فجاءت تلك النصوص بالتصنيف بعد البحوث الطبيعية ، وفيما بعد أخذ الفلاسفة في العصور الوسطى هذا العنوان ليشيروا به إلى الموضوعات التي ناقشها أرسطو في الميتافيزيقا بوصفها موضوعات تأتى بعد الموجودات الطبيعية ولا تعرف بالإدراك الحسي لأنها تناقش بالعقل المجرد الخالي من الشوائب الحسية لأن الحواس مخادعة وواهمة إذ لا تصل بنا إلى الحقيقة التام والكلية عكس النظر العقلي الذي هو السبيل إلى عالم المثل[i] وقد اختص أرسطو علم ما وراء الطبعة بدراسة الوجود بما هو الموجود والبحت عن العلل الأولى لهدا الوجود .
ويطلق أرسطو أيضا على هذه الفلسفة اسم الحكمة أو العلم الإلهي ،لأنها تبحث في الموجود الأولى أو العلة الأولى ،وتبحث في أكثر الموضوعات الألوهية وهى ذات الله وصفاته وأفعاله باعتبار أنه- المحرك الأول  - هو المبدأ الأول للوجود ، ويذهب أرسطو كذلك إلى أن الفلسفة الأولى التي تبحث في الوجود كما هو موجود، أي أنها تبحث في الوجود من ناحية المبادئ الأولية الكلية التي تعم جميع الموجودات والتي تجعل الوجود موجودا[2] فاستطرد أرسطو بعد دلك إلى إبراز العلل و العناصر المكونة لهدا الوجود من خلال ربط ما توصل إليه الأولون من الفلاسفة ومحاولة الجمع بينها ، فالعناصر المكونة للوجود حسب أرسطو هي الماء ، التراب النار ، الهواء . [ii] وتبقى العلة الأولى للوجود هي المحرك الأول أو الإله ، وقد خص أرسطو كل الأشياء بمعادلة أساسية ، والتي تنطبق على كل الموجودات بما فيها المحرك الأول وهي مسألة العلل فكل الموجودات و الأشياء خاضعة لهده العلل وهي أربع:  العلة الصورية و العلة الفاعلة و العلة المادية و العلة الغائية فمثلا الكرسي لا بد له من تلك العلل :

-       العلة الصورية : فكرة الكرسي
-       العلة المادية : الخشب
-       العلة الفاعلة: النجار أو الصانع
-       العلة الغائية : الجلوس

ويبقى النظر الأساسي للفلسفة الأولى هو النظر في العلة الأولى لهدا الوجود من اجل الوصول إلى الحقيقة و بلوغ الحكمة وقد تناول أرسطو في هدا المبحث : على أن الإله هو  الموجود الواحد الأول غير المتغير ، وحضوره هو الذي يجعل العالم يقوم بعملية النمو الكونية كلها ، وهو  المصدر الأعلى الذي يجعل سلسة ( الصور ) الكامنة في المادة في العالم تخرج إلى التحقق الفعلي ، والإله يقف خارج مجمل عمليات العالم التي يؤدي حضوره إلى استثارتها لتقوم الطبيعة ، وهو ليس مكونا هو نفسه من مادة وصورة شأن ما ينتج في العالم ، إنما هو صورة خالصة مفردة وفعل خالص ، وليس وراءه مراحل مرّ بها تدريجيا حتى وصل إلى ما هو عليه ، فإنه موجود غير مادي على وجه الإطلاق ، وهو ضرورة لازمة لوجود العالم ، ولكنه يعلو على العالم ويقف خارجه [3] وعلى أن المحرك الأول لا تنطبق عليه تلك العلل لأن وجوده هو وجود بالقوة ولقد حدد ارسطوا للمحرك الأول صفات وهي :
الصفة الأولى :أنه لا يتحرك فهو ثابت ويحرك فقط ومعني هذا أن هذا المحرك يتحرك بذاته لأنه لو تحركبغيره فمعني هذا أنه يوجد شيء آخر يحركه فهو لا يمكن أن يكون محركا بغيره بل محركا بذاته .
الصفة الثانية:أنه أبدي لا ينقسم لأنه إذا انقسم تعدد ولو تعدد لأصبح له أجزاء وعندها لا نستطيع أن نعرف الحركة من أي جزء ، وهو لا ينقسم لأنه خالي من المادة
الصفة الثالثة : انه لا يعلم بجزئيات الموجودات مثل : أفعال الإنسان وإنما هو يعلم فقط الكليات . فالفلسفة في النظر الأرسطي قد تناولت النظر في علم الإلهيات كما سماه ابن سينا لأنها تهدف إلى  البحت والنظر في المحرك الأول للوجود ، ولكن السؤال الذي يطرح هنا  هل ستستمر هده النظرة بواسطة الفلسفة الأولى عبر التسلسل الفلسفي في الزمان ؟ أم أن موضوعات أشرف الصنع ستتغير ؟

المراجع

o        الكتب :
1.       مدخل إلى متافزيقا إمام عبد الفتاح
2.       رسائل الكندي : كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى
3.       فلسفة أرسطوج1/ 73  لـ( ألفرد إدوارد تايلور ) ترجمة : د. عزت قرني / دار الطليعة ـ بيروت ـالطبعة الأولى
o        المقالات
1.       ميتافيزيقيا أرسطو ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
2.       ولاء رشدى فوزى /الحوار المتمدن-العدد: 3119 - 2010 / 9 / 8 - 08:43 -http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=22844


[1]  رسائل الكندي : كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى
[2]ميتافيزيقيا أرسطو ـ ويكيبيديا الموسوعة الحرة
[3] فلسفة أرسطوج1/ 73  لـ( ألفرد إدوارد تايلور ) ترجمة : د. عزت قرني / دار الطليعة ـ بيروت ـالطبعة الأولى
 النظر الأفلطوني للحقيقة ودلك من خلال الفلسفة التي توصلنا الى عالم المثل الدي هو عالم الحقيقة الكاملة [i]
[ii] وهي العلل التي توصل إليها الفلاسفة قبل سقراط لتحديد أصل الوجود فكما هو معلوم حدد طاليس أصل الوجود بالماء و بارمندس بالهواء وهرقلطس بالنار ....،

التنسيقيات أو البديل النقابي بالمغرب : نحو محاولة للفهم ـ احمد اولاد عيسى

أنفاس نت





من العادي جدا أن ينتمي الفرد لتنظيم ما, كيفما كانت طبيعة اشتغاله, سواء أكان في المجال الحقوقي أو السياسي أو النقابي....على أن يتم الانخراط على أساس البرامج أو المشاريع المعتمدة من قبل هذا التنظيم المختار.
غير أن الواقع  يعج بالكثير من المتناقضات بخصوص محددات الانتماء إلى  هذه التنظيمات واخص بالذكر التنظيمات النقابية، إذ لم يعد البرنامج أو المشروع النقابي محددا مركزيا  في تحديد الانتماء ،بل هيمنت محددات أخرى ليس لها طبيعة معينة ،غير أنها تظل هي المحدد الأساسي و الغالب في الانتماء هذه الأخيرة لها تمظهرات عدة اغلبها  تطبعها السمة النفعية و البرغماتية  بشكل صرف، سواء تعلق الأمر بعلاقة الفرد بالقيادة التنظيمية أو القيادة بالفرد.
 فعن هذه الجدلية في الارتباط والتي أملتها سياقات تاريخية اجتمعت فيها عوامل عدة، سياسية و اقتصادية وثقافية،ساهمت بشكل مباشر بتفكيك و انقسام الجسم النقابي بالمغرب، وإيصاله إلى وضعية الترهل والوهن البنيوي .
ولمحاولة فهم هده الأنساق والمسببات، يتطلب الأمر منا طرح مجموعة من الفرضيات من قبيل: هل الانتماء إلى النقابة مسألة ظرفية أم قناعة وجدانية ؟ هل بنية التنظيم قادرة على الاستمرار في فرض هذه المحددات أم أن الضرورة فرضت ذلك ؟
 فمن خلال طرح هذه الفرضيات كمدخل سنحاول مقاربة الموضوع بالتحليل من خلال الإجابة على الإشكالية المحورية والتي فحواها: إلى إي حد يمكن اعتبار النقابة في المغرب قادرة على تجديد ذاتها على ضوء التحولات الراهنة ؟؟
أولا: محددات الانتماء النقابي بالمغرب
من اليسير جدا تحديد موقع التنظيمات النقابية إذا ما نظرنا إليها من زاوية الإيديولوجية وهو ما ينسجم مع الحالة المغربية،  فالأمر لا يخرج عن توجهين، إما نقابة يسارية التوجه أو نقابة ليبرالية.
لكن من الصعب جدا حصر آليات الاشتغال التي تعتمدها الإطارات النقابية و تحديد  المعايير  المحددة للانتماء إليها .
بالرجوع إلى حقبة  ما بعد استقلال المغرب ،إبان  الدينامكية التي همت كل المجالات الحيوية في البلاد ،خصوصا في الشق الإداري (بناء الإدارة مغربية ) والشق الصناعي والحرفي... وما واكب ذلك من  تشكل الوعي النقابي الوطني،  بالتزامن  مع مطالب الأحزاب الوطنية  (حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ) بضرورة وجود النقابة العمالية قصد تأطير الطبقة العاملة، واعتماد ذلك  كمدخل لتقوية الجبهة العمالية داخل الحزب، هذا الوضع اذكي الصراع حول مسألة الاستحواذ على القرار النقابي، من قبل القيادات السياسية في الأحزاب ،  الشيء الذي ترتب عنه  خروج النقابة العمالية(الاتحاد المغربي للشغل ) عن دائرة الصراع والناي بنفسها خارج هذه البوتقة و إعلان نفسها نقابة مستقلة عن التبعية الحزبية  .
هذا الوضع المحتدم والمتسم بالرغبة في الهيمنة على القرار النقابي،  افرز مجموعة من الممارسات استمرت  طوال الحقبة التاريخية التي أعقبت هذه الإحداث،  وهو ما أفرز تعددية نقابية ضعيفة ،يغلب عليها الطابع الأحادي في اتخاذ القرارات و الرغبة في  جعل التنظيم يخدم القضايا السياسوية الحزبية، فأي تنظيم  نقابي بالمغرب كيفما كان موقعه ضمن بنية الصراع، يخضع  في تدبيره وتسييره لتلك الأنماط التي سبق وان اشرنا إلى معالمها ، ويمكن تحديدها في سبعة محددات .
-     التركيز على الاستقطاب المفتوح دون التفكير في  البناء التنظيمي والفعل النضالي (منطق الكم وليس الكيف ).
-    التركيز على الو لاءات لفائدة الزعيم على حساب الدينامكية النضالية والفعل والاقتراح والتواجد.
-    البحث عن الإطار النقابي الأكثر تواجدا بغض النظر عن البرنامج أو المشروع النضالي.
-    البحث عن الإطار النقابي الذي يعتمد الاشتغال على الملفات ذات الصبغة الفردية عن الإطار الذي يتبنى التدافع والكفاحية والشمولية .
-    اللجوء إلى وسائل بديلة (استجداء الحوارت، التوطئات ...)  عن النضال والتدافع النقابي عكس الأعراف النقابية العريقة.
-    البيروقراطية والانفراد بالقرار النقابي وعدم إنتاج القرارات انطلاقا من القاعدة .
-     تعطيل آليات التأطير والتعبئة والتواصل الدائم مع القواعد مقابل  التواجد المناسباتي والشكلي

ثانيا : مداخل تصحيح وتمتين الفعل النقابي بالمغرب
لقد أضحى الوضع النقابي في المغرب انقساميا إلى حد بعيد، ويعزا الأمر بنسبة كبيرة لما ذكرناه أنفا ، الشيء الذي أدى إلى  تفاقم الوضع بوثيرة  مطردة، هذه الوضعية لها أبعادها و  ترخي بضلالها على المشهد النقابي و تؤثر بشكل سلبي على الطبقة العاملة في مجملها، حيث أصبحت هذه الأخيرة  في وضع ارتيابي لا يمكن معه الشعور بالثقة داخل التنظيمات المنتسبة إليها ، والانسجام و التماهي مع توجهات التنظيم  وهو ما اضعف تماسك البنية الداخلية  للنقابة المغربية .
هذه الصورة التي ألت إليها النقابة المغربية بذكر ما سبق من الأسباب، قد  تجد لها مدخلات يمكن  أن تشكل محاولة نحو تصحيح الوضع  و إعادة بناء التنظيم النقابي إذا ما تم  احترام الشرط الديمقراطي, ولو في حدوده الدنيا،  وهو ما يحتم  وضع صيغ تتناغم  مع الأهداف والبرامج وطموح وانتظارات الطبقة العاملة ، وذلك في توافق مع الرؤية التأسيسية التي يتبناها التنظيم ،مما سينعكس إيجابا على الوضع النقابي، وسيسهم  في بروز  النموذج النقابي الديمقراطي الفاعل،  والمؤمن بقيم  الكفاح العمالي والتدافع والوحدة .
إن صيغ الإصلاح تفرض الالتزام بمجموعة من الشروط والضوابط ،ليس من السهل التقييد بها ، يأتي في مقدمتها استحضار البعد الأخلاقي في النضال، والابتعاد عن كل ماهو مصلحي نفعي وظرفي أني،   فطغيان البرغماتية في النضال يعني تكريس الإقصاء والتهميش داخل التنظيم بشكل غير مباشر، أضف إلى هذا العنصر عنصر أخر لا يقل أهمية عن الأول ، ويتجلى في تذويب الفروق ما بين القيادات والقواعد والسهر على الانفتاح والقرب والاستماع وليس التجدر والغطرسة والاستعلاء, فهكذا ممارسات لم يعد هناك حيز للاستمرار في نهجها ، فالجسم النقابي يلزمه البناء والتمدد والتجدد والاستمرارية .
أما فيما يخص الشرط الثاني فيكمن في هيمنة الأساليب البيروقراطية  في التدبير، هذه الأخيرة من الممارسات القاتلة داخل التنظيم ،حيث تؤدي إلى فقدان الثقة وعدم الإحساس بالمسؤولية اتجاه الإطار النقابي  من قبل القواعد، فبدل الاحتكام للكفاءة والحضور الوازن والاقتراح والفعل ... في تقلد المسؤولية, يستغنى عن ذلك على حساب عوامل الانتماء والقبيلة والقرابة أو الولاء، فهذه الصيغ أضحت هي السمة المهيمنة داخل التنظيمات النقابية، أدت بها إلى وضع هش وضعيف ،غير قادر على الاستمرار ، فالأمر يتطلب الوقوف عند هذا الحد ،والقطع مع كل هده الممارسات وإشاعة الممارسات الديمقراطية ,خصوصا  في تقلد المسؤوليات التنظيمية .
وبخصوص الشرط الثالث وهو الشرط  الرئيسي فيكمن في الضمير،  فلا يمكن القول بالإصلاح في غياب هذا المكون، فالانسجام مع الذات المناضلة في تبني أفكار وتوجهات التنظيم، والدفاع عنها دون الالتفات إلى ماهو فرداني نفعي ، فالارتماء في أحضان أي تنظيم في غياب الحس الأخلاقي والتجرد والوضوح في التعاطي مع مشاريعه، هو تكريس للوضع الراهن لا غير، كذلك الأمر بالنسبة لطبيعة العلاقة التي تحكم  القيادة مع القواعد أو العكس ،فلا بد من القطع مع منطق الولاء للشخص والتقرب وتحقيق المأرب الخاصة ،على حساب مصلحة الطبقة العاملة بانشغالاتها وهمومها وقضاياها، والتي هي جوهر العملية النقابة  ومرتكزها  .
لقد أضحى الوضع  النقابي في ترد لا يمكن معه الاستمرار وفق المنطق الراهن حيث أوصلت الطبقة العاملة  إلى درجة السخط العام، و الإحساس بانعدام الثقة ن فكان البحث عن البديل الأفضل   لذا كانت التنسيقيات  كإجابة  عملية ظرفية  على الوضع  بما يعج به من تناقضاته،  ويعود ذلك ليس إلى صلابة بنية التنسيقية وقوة تنظيمها، ولكن لانسجامها مع قضايا ومطالب أفرادها والثقة السائدة التي توفرها, سواء مابين القواعد والقيادات أو في علاقتها  بالرأي العام نوما أثبتته التجارب الميدانية كفيل بالإجابة عن كل هذا.
لكن السؤال يظل مطروحا هل التنسيقية بديل عن النقابة أم هي إفراز لاختلال طال مسار التنظيم النقابي بالمغرب  ؟؟؟؟



الاثنين، 26 ديسمبر 2016

لو كان لي مزمار


حب الشجرة


اجمل نشيد مغربي نريد السلام في عالمنا اناشيد تربوية


الحداثة المعرفية‏: مركزية العقل الإنساني المكتبة العامة



تفهم الحداثة بالمعني الأوسع علي أنها تنوير العقل‏.‏ فالعقل هنا يحتل سلطة مركزية‏,‏ لا في الفكر فقط‏,‏ وإنما في تأسيس نظم المجتمع‏.‏

ولذلك يمكن القول ببساطة أن مشروع الحداثة هو مشروع عقلي, لا يستقيم نظام, ولا ينتظم أداء أو ممارسة, إلا وكان العقل هو الأداة المحركة. وفضلا عن ذلك فقد قام العقل بدور في نقل المجتمع من حالة الجمود والاستكانة, حيث التقاليد الجامدة تعمي البصائر وتطمس العقول, إلي حالة الانطلاق نحو الآفاق الرحبة لعقل يبدع ويتأمل وينتج أفكارا تسهم في تأسيس تعاقد اجتماعي يقوم علي إرادة الإنسان الجمعية, وعلي مركزية الفرد الحر الطليق القادر علي الفعل المختلف, وعلي بلورة ثقافة للحرية والمساواة والمواطنة, وعلي تكوين نسيج للحياة مغزول حول العقل.

ولم تكن هناك عملية أصعب من بناء هذا النسيج الحياتي. فقد استغرق الأمر أكثر من ثلاثة قرون لكي يضيء نور العقل ليهزم الخرافة واستلاب القدرة الحقيقة علي الفعل. ولقد كانت نقطة الانطلاق إلي ذلك جملة مفيدة; أصبحت تعبر رمزيا عن حضور العقل: أنا أفكر فأنا أذن موجودcogitoergosum. لقد نسج ديكارت(1596-1650) حول هذه الجملة منهجا جديدا, لا للفكر فقط بل للحياة أيضا. فلم يعد العقل في المنهج الديكارتي أداه للبحث المطلق عن الحقيقة فقط, بل أصبح أيضا أداة للوجود; فالوجود يكون منقوصا إذا لم يرتبط بالقدرة علي التفكير. يبدو العقل هنا وكأنه القادر علي بعث الوعي الوجودي من مكمنه, فيصبح للوجود معني, طالما هناك ذات مفكرة تحرس هذا الوعي الوجودي وتزيده انبعاثا. وإذ يبزغ العقل الديكارتي في فرنسا, يبزغ عقل من نوع آخر في انجلترا. هنا ينحو العقل في بلد الثورة الصناعية إلي فهم الواقع علي قواعد علمية وتجريبية. فيدعونا فرانسيس بيكون(1561-1626) بقوة إلي أن نطرح خلف ظهورنا الأوهام التي تعوق الفكر وتعطله( والتي أطلق عليها أوهام الجنس والكهف والسوق والمسرح) وتحوله إلي فكر بعيد عن موضوعية العقل وحياده. فإذا كان المجتمع يتحول إلي مجتمع جديد, فإنه بحاجة إلي’ أورجانون جديد’, إلي قواعد جديدة للتفكير تسمو بالعقل وتجعله قادرا علي الترفع عن التعلق بالجنس أو المكان أو الأقوال السائرة الدائرة غير الموثوق بصحتها أو الأقوال المأثورة التي لا تقبل الجدل. وأكاد أفهم هذا المنحي الفكري الجديد لا علي أنه دعوة إلي تدقيق التجريب والبحث فحسب, بل أنه دعوة إلي عمومية العقل ومن ثم عمومية القيم الإنسانية أيضا. فالعقل الباحث عن الحقيقة لا يحده مكان ولا زمان, ولا أطر ثقافية خاصة, بل هو عقل لا يحده إلا قواعد المنطق وقوانين التجربة.

وإذ ينتشر المنهج الديكارتي ومبادئ الأورجانون الجديد في أنحاء المجتمعات الغربية, التي تصبوا إلي الفكاك من ربقة التقليد والتقديس والجمود, فإنه ينتج نماذج فكرية هنا وهناك تعمل في النهاية علي أن يصبح العقل سند الحداثة الأول الذي يضعها علي جادة الحق والصواب. وقد كان كانط(1724-1804) من أهم الفلاسفة الذين ساهموا في هذا المسعي الفكري النبيل. فالعقل قادر علي بناء مفاهيم خالصة يمكن من خلالها أن ينظم الواقع الحسي وأن يخضعه للتجربة; إنه المنظم الأول للحياة المادية المحسوسة ولخبرات التجربة. وهو إذ يعارك الحياة يتحول إلي عقل عملي ينتج القيم الأخلاقية والأخلاق المهنية, وإذ يعارك الذات الفردية فإنه ينتج أحكاما جمالية تستقيم ومنطق العقل والأخلاق. يتحول العقل عبر تجلياته المختلفة العقل الخالص والعقل العملي وملكات الحكم الجمالي إلي عقل حاكم منظم للحياة والخبرة.

وإذا كان كانط قد حول العقل إلي سلطة حاكمة تتدرج عبر سلم, يبدأ من المنطلقات الكلية وينتهي بالأحكام الجمالية مرورا بالمنطلقات العملية, فإن هيجل قد منح العقل سلطة النفي. فالفكرة تعاند الفكرة, وتدخل في تناقض معها, بحثا عن تآلف فكري جديد, في سعي دائم نحو الكمال المطلق. دعوة جديدة لأن يشمر العقل عن ساعديه, فلا يركن إلي الخمول والكسل, بل يجادل ويرفض وينتقد ويشك ويعاند, لا من أجل الجدل والرفض والنقد والشك والعناد, بل من أجل السعي نحو غاية مطلقة, نحو قيم عليا, نحو الروح الكلية أو قل العقل الكلي الذي يلم وشائج المجتمع ويصبوا به إلي الكمال. وفضلا عن هذا فإن النقد( النقض) يولد قدرة انعكاسية للعقل, تجعله يمتلك المكنة لكي يتأمل ويراجع, ولا يركن أبدا إلي صيغ جاهزة وأطر مستكينة, ولا شك أن هذا التأمل الانعكاسي يصب في النهاية في العملية الكبري للعقل: أعني البحث عن الكمال والاكتمال.

ومن نافلة القول أن نؤكد علي أن الارتفاع بالعقل والعقلانية في الفكر الحداثي الأوروبي قد ساهم مساهمة كبيرة في تحويل المجتمع لينفك عن ربقة الجمود والتخلف إلي الأفق الرحب للحداثة. فمن الناحية السياسية كان هذا الاتجاه إلي مركزية العقل دافعا إلي بناء النظريات السياسية للعقد الاجتماعي. إن فكرة التعاقد الاجتماعي علي مختلف تجلياتها عند توماس هوبز(16791588) وجون لوك(17041632) وجان جاك روسو(17781712) ما هي إلا دعوة لكي يتأسس النظام السياسي علي سلطة مستقلة وحيادية; الدولة المهيمنة أو السلطة المطلقة( هوبز) أو القانون( لوك) أو الإرادة العامة( روسو). وأكاد أفهم هذه السلطة السياسية المستقلة علي أنها سلطة تناظر سلطة العقل المستقل الحيادي. وأحسب أن هذا الفكر هو الذي قاد إلي الثورة الفرنسية التي كانت رمزا للتحرر السياسي في أوروبا, بل وفي العالم. ومن الناحية الاقتصادية فقد ساهمت الفلسفة العقلية في بلورة الاسهامات السوسيولوجية التي أعلت من شأن التفكير العقلاني والرشد, واعتبرت الفعل الرشيد القائم علي حساب الوسائل والغايات نموذجا مثاليا للفعل. قد نسترجع هنا اسهامات ماكس فيبر عن العقلانية ودورها في بناء المشروع الرأسمالي, وعن الفعل الرشيد مقارنة بالأفعال التقليدية وغير الرشيدة, وعن السلطة القانونية مقارنة بالسلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية. كما قد نسترجع أراء باريتو(19231848) حول الفعل المنطقي والفعل غير المنطقي. وهي أراء استدمجت في علم الاجتماع المعاصر وأصبحت جزءا لا يتجزأ من المشروع الحداثي الرأسمالي.

ورغم أن العقل والعقلانية قد شكلا معا أساسا قويا لبناء المشروع الحداثي الأوروبي, الذي أصبح المشروع الأكثر سيطرة في عالمنا المعاصر, نقول رغم هذا, إلا أنه ينبغي علينا أن نستدعي ونحن نختتم هذه المقالة ما آل إليه المشروع الحداثي الغربي من مشكلات نجمت عن طموحه المادي غير الملجم, ونزعته الاستهلاكية الفجة, وميله إلي التمركز حول العقل الأوروبي; الأمر الذي أفرز انتقادات عديدة للنزعة العقلانية المفرطة ربما نعود إلي الكتابة عنها فيما بعد.