الثلاثاء، 12 أبريل 2016

تكييف الطفل مع محيطه: خدعة إيديولوجية قديمة - المصطفى شباك




لتقديم فكرة عن التعدد الجهوي والاجتماعي الموجود في مغرب نهاية القرن XVII، يورد اليوسي، في محاضراته، قول قصاص شعبي يحاول وصف هذا التعدد انطلاقا من العادات الغذائية الخاصة بكل مجموعة، على النحو التالي: "ودخلت في أعوام الستين وألف مدينة مراكش عند رحلتي في طلب العلم وأنا إذ ذاك صغير السن، فخرجت يوما إلى الرحبة أنظر إلى المداحين، فوقفت على رجل مسن عليه حلقة عظيمة، وإذا هو مشتغل بحكاية الأمور المضحكة للناس. فكان أول ما قرع سمعي منه أن قال: اجتماع الفاسي والمراكشي والعربي والبربري والدراوي، فقالوا: تعالوا فليذكر كل منا ما يشتهي من الطعام، ثم ذكر ما تمناه كل واحد بلغة بلده، وما يناسب بلده، ولا أدري أكان ذلك في الوجود أم شيء قدره، وهو كذلك يكون، وحاصله أن الفاسي تمنى مرق الحمام، ولا يبغي الزحام، والمراكشي تمنى الخالص واللحم الغنمي، والعربي تمنى البركوكش بالحليب والزبد، والبربري تمنى عصيدة أنلي وهو صنف من الذرة بالزيت، والدراوي تمنى تمر الفقوس في تجمادرت وهو موضع بدرعة يكون فيه تمر فاخر، مع حريرة أمه زهراء، وحاصله تمر جيد وحريرة"(1).
قد يتساءل القارئ: أهي مجرد محاولة لتصنيف الأشخاص المذكورين؟ أم هي طريقة خاصة بعلامة القرن XVII الكبير في تقديم الشاهد على حكمة ثبات نظام على نحو ما أراده له الله؟ سيما وأنه يضيف: "ولو عرضت هذه الحريرة على العربي لم يشربها إلا من فاقة، إذ لا يعتادها مع الاختيار، ولو عرضت العصيدة على الفاسي لارتعدت فرائصه من رؤيتها، وهكذا"(2).
مضى وقت طويل على هذا الوصف، غير أن مسألة التراتب الاجتماعي والفروق الطبقية لا زالت قائمة. مع استثناء واحد تقريبا لم يعد مدار الأمر غذاء أرضيا فحسب، بل تجاوزه هذه المرة إلى طعان من نوع آخر، إنه غذاء الفكر(3)… بتعبير آخر، بعد مضي ثلاثة قرون على اليوسي، نحن اليوم إزاء إرادة لإعادة تأهيل بيداغوجي للتراتبات الاجتماعية والجهوية والثقافية. ذلك أن بعضهم ينادي اليوم، عن طيب خاطر، بإخضاع الطفل لتكييف بيداغوجي صارم مع محيطه المباشر. ومع أن الفكرة بالية ومهملة، سخيفة وسيئة النوايا، فهي تمرر باعتبارها صيغة بيداغوجية إعجازية جديدة اكتشفها أخيرا عبقري قلما تجود بمثله السنون. هكذا، تبشرنا النبوءة، مرفوقة بدقات الطبول، بأن هذه الصيغة وحدها هي ما سيتيح للمدرسة أن تخرج من المأزق الذي تقوقعت فيه منذ وقت طويل وتنطلق، بالتالي، كي تستجيب أخيرا لتطلعات سائر "المجموعات" المدرسية.
- II -
تكييف الطفل مع محيطه هو "الابتكار" الأخير الذي يقدمه مدبرو الشأن المدرسي عندنا، وهو يحظى بمريدين يتزايدون يوما عن يوم، ويبشر –ككل ديانة جديدة- بمستقبل زاهر وعظيم. أكثر من ذلك، يؤكد أصحاب القرار ووسائل الإعلام السياسي أن المكتشف النفيس لهو من الفرادة والإجرائية والفعالية بحيث لا يترددون في أن يقترحوا علينا هذه العقيدة الشهيرة للتكييف البيداغوجي باعتبارها منتوجا نهائيا، نوعا من البيداغوجيا الجاهزة التي يكفي المرء أن يمسك مفاتيحها بيديه فلا يبقى له سوى أن يطبقها حرفيا دون أن يخضعها لأي نقد أو مساءلة. وبذلك يحق لعباقرتنا أن يسجلوا ماركة ابتكارهم ويحفظوا حقوق ملكية الاختراع وحق التصرف فيه!
سأجازف بركوب خطر إقلاق مريدي العقيدة الجديدة وتعكير جو الاحتفال، مقترحا بهذه الصفحات الوصول إلى هدفين:
ـ الأول: محاولة القيام بجينيالوجيا لهذا الاتجاه البيداغوجي الذي يرتكز على ضرورة تكييف الطفل مع محيطه، وذلك بأن أثبت –جهد المستطاع- أن هذا الاتجاه قديم قدم القرن وأنه، بالتالي، ليس ابتكارا ولا اكتشافا حديثا بقدر ما هو مجرد تكرار ما لم يكن انتحالا مخجلا. بتعابير أوضح، إن الخطاب الذي ينشر اليوم حول تكييف الطفل مع محيطه ليس سوى صدى أخرص لنظيره الذي كان يتمسك به المستعمر من قبل.
ـ أما الهدف الثاني، فيتمثل في مناقشة شرعية قسط من الأفكار التي يزينها المذهب التكييفي، وذلك بتقصي هذه الأفكار عبر تحليلها النقدي، للوقوف على طبيعتها الحقيقية وهي أنها مجموعة من الإيديولوجيمات الخادعة والرجعية. بفعل المقاربة السطحية التي يجريها مذهب التكييف للمسألة التربوية وبفعل رؤيته الخطية لقضايا العصر، فإنه يسقط في خطيئة النسيان، إذ ينسى العالم والبشر على حد سواء. لكن، أيمكن أن ننسى بسهولة أن المحيط المباشر لأغلبية طفولة البلد ليس شيئا آخر عدا هذه الحياة الموحلة، المظلمة، والشاقة التي يواجهها الطفل في كل لحظة منذ خروجه من الكوخ أو المنزل؟ أسيرا عاجزا بين يدي وسط يتعالاه ويستوعبه، فهو يستسلم تلقائيا، وبسهولة، كما يفعل آخرون قبله، لإضفاء الديمومة على وجود رتيب وتكراري، فاقد لكل رونق. أهذا هو التكيف مع المحيط؟
ما القول وما العمل عندما يكون المحيط وضيعا، غير محظوظ، معدما؟ لا يحتاج المرء أن يكون عالم اجتماع في أيامنا هذه كي يلاحظ بمرارة أن الفقر والإقصاء والبطالة والهجرة القروية والتحضر العشوائي، كل ذلك يشكل تربة خصبة لنمو أشكال العنف المفرط والفظيع الذي يمزق مجتمعنا: الانحراف، إدمان الكحول والمخدرات، السطو والسرقة، تشرد الأحداث، بالإضافة إلى ظاهرة أخرى مخيفة، لكنها ليست مستبعدة، ونعني بها ظاهرة التطرف الإيديولوجي.
يجب بذل مجهود كبير، وعلى أكثر من صعيد، لقلب علاقة التكيف. فبدلا من تكييف الطفل مع محيط عدائي، يجب بالأحرى تكييف هذا المحيط مع طفولة إنسانية الوجه، أي ملزمة وواعدة.. بيد أن الطفل باعتباره كائنا بشريا في صيرورة، يأبى أن يحصر في محيط محدد نلزمه بالإقامة فيه كما تقيم البهيمة في حظيرتها. إن محيط الطفل لا تحيط به أي حدود، لأن محيطه هو العالم باعتباره أفقا للإمكانية. ليس من باب الصدفة أن تعلم اللغات، مثلا، يتطلب سنا مبكرة.
- III -
فلنعد إلى النقطة الأولى للقيام بنوع من الجينيالوجيا لهذه الفكرة التي تفرض تكييف الطفل بيداغوجيا مع محيطه. ولهذا الغرض سنختار فضاء محددا، هو المغرب الاستعماري، وحقبة زمنية محددة كذلك، من 1912 إلى 1956، وسندا وثائقيا، هو بعض كتابات جورج هاردي باعتباره منظرا موهوبا للبيداغوجيا الاستعمارية بالمغرب.
لقد عبر ج.هاردي منذ 1917، أي قبل أن يصير مديرا للتعليم العمومي بالمغرب، عن فلسفته التربوية الاستعمارية بهذه الكلمات: "لكي ننجح في تحويل بدائيي مستعمراتنا وجعلهم متفانين في خدمة قضيتنا، صالحين لمشروعنا (…)، فإن الوسيلة الوحيدة المضمونة هي أن نأخذ طفلهم، ونفتح له مدارس يهذب فيها عقله طبقا لمقاصدنا"(4).
في سنة 1921، وفي مقالة واضحة بشكل مدهش، نجد المؤلف نفسه (وقد صار يومئذ مديرا للتعليم العمومي بالمغرب، أي ما يعادل وزير التربية) يعرض تصورا شخصيا للتربية الفرنسية بالمغرب(5)، هو عبارة عن تخطيط للبنية التحتية المدرسية(المدرسة، الإعدادية، الجامعة…) وتنظيم لها بحسب المعايير نفسها التي تقسم وتجزئ مختلف أحياء المدينة المغربية. أما طبقية التمدرس، فستعيد إنتاج تقسيم الإثنيات والطبقات الاجتماعية.
فهو يقول: "المدينة المغربية فعلا تجميع عرقي عجيب. والأعراق التي تعمرها توجد بدون شك في باقي إفريقيا الشمالية، ليست في أي مكان آخر بهذا التوزيع الجيد، وتعدد العادات والنزعات. في القلب، في المركز التاريخي للمدينة حيث تربض آثار المدينة، توجد الحاضرة الإسلامية: هناك، في الأزقة الضيقة، في الأسواق الصاخبة، في الإقامات الجميلة السرية وتحت قباب المساجد، تحتمي روح البلد. في ظل المدينة، في الملاح، يتكدس الحي اليهودي بحيوية رهيبة. خارج الأسوار، تنتشر المدينة الفرنسية، تخترقها شوارع واسعة، مزدانة بحدائق وساحات واسعة بشكل فريد، مسكونة بإقامات جذابة يلمع بياضها بين الأشجار والزهور. أخيرا، في حواشي هذه المدينة الجديدة، تمتد عموما أزقة عمالية، يزدحم فيها العمال، إيطاليون، يونانيون، مالطيون(…)، وإسبانيون بالخصوص"(6).
وهذه الاختلافات يجب أن يطابقها تعامل تربوي ملائم. يواصل هاردي: "لا يحتاج المرء إلا الإقامة طويلا في المغرب كي يفهم أنه من المستحيل –مؤقتا على الأقل- تطبيق تعامل واحد مع تجمعات عرقية بهذا الاختلاف. من الواضح أن النظام والأمن في المغرب يتوقفان قبل كل شيء على مهارتنا في استعمال كل عرق من هذه الأعراق في اتجاه ومقدار أذواقه وموارده"(7).
يرى هاردي أن المدرسة وحدها هي القادرة على السهر فعليا على ما يسميه "توزيع العمل الجماعي"(8. يضيف: "بعد إجراء تجارب عديدة، وفي جميع المناطق، تعرف [ المدرسة] اليوم أي مقاومات يقوى على إبدائها دم الأعراق تجاه أفضل المحاولات التربوية(…): في الواقع، ثمة من المشاكل الدراسية مقدار ما هناك من المدارس أو –على الأقل- مقدار ما هناك من أعراق دراسية. وليس من باب اللعب بالكلمات الدعوة إلى بحث عن حل خاص لكل واحد من هذه المشاكل"(9).
حقا، قد يصعب مناقشة الرأي القائل بأنه يوجد من المشاكل التربوية مقدار ما يوجد من المدارس. لكن الحديث عن مقاومات ذات أصول عرقية، وبالتالي عن مقاربات بيداغوجية خاصة بكل عرق على حدة، معناه المجازفة بالمعنى العصري للكلمة: نفي الاختلافات لتحقيق تكافؤ حقيقي للفرص. إلا أن مقاربة هاردي تفترض أنه وإن كانت هناك مدرسة للجميع تفتح أبوابها لكل فرد، فإن هذا الأخير بحكم أصله "العرقي" سيجد نفسه إما متكيفا داخلها بالطبيعة أو مقصيا منها سلفا، بموجب قانون "التصالح مع الوضع أو التعرض للنبذ".
ليس جميع التلاميذ سواسية أمام المدرسة. ودورها يتلخص في شيء واحد: ترسيخ ما ميزته على نحو جيد الطبيعة والحياة الاجتماعية.
ولذا، فنحن بعيدون عن المبدأ القائل بضرورة التقاء المدرسة مع الاختلاف لتضفي عليه قيمة وتوسع دائرة التعلم باسم مبدإ تساوي الجميع أمام التربية. سنكون إزاء جماعات تعتبر مختلفة (استنادا إلى الدراسات الإثنوغرافية)، وبالتالي يجب بالضرورة ألا تتساوى أمام التربية. كل مجموعة ستتلقى "تربية مناسبة"، يمكن تحديدها بكيفية مسبقة.
ليوضح هاردي أطروحته، فإنه ينطلق من تأمل في حالة الأهالي أو من يسميهم "العرب-البربر"، ليقف على ازدواجية أصلهم وطبعهم –على حد تعبيره-، وذلك بعد عرض مسهب لإيجابيات حضارتهم: "أرى أن المشكل العربي-البربري يتلخص في ما يلي: تزويد الأهالي بوسيلة مواصلة الحياة في فضاء العالم العصري، تطوير نشاطهم وإمداده بصيغ وأدوات تتيح لهم المردودية الضرورية، مع الاحتفاظ بأفكارهم وعاداتهم الخارجية"(10).
بهذا المعنى، سيكون التعليم المقترح "ذا نزعة عملية صارمة"، إذ سيرمي إلى تحقيق هدف مباشر هو تعليم كل فرد من الأهالي مهنة خاصة. بيد أنه في إطار التراتبية التي تحكم المجتمع التقليدي المغربي وفي إطار حتى تقسيم العمل الجماعي نفسه، الذي تنحو نحوه الحماية الفرنسية، يجب الحرص كثيرا على عدم إلحاق تشويش كبير بالحياة الاجتماعية. لذا يرى هاردي أنه يجب "الفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية وتعليم يشمل الشعب برمته"(11).
وضرورة الحفاظ على التراتبية الاجتماعية في مزاولة كل طبقة لوظائف خاصة مناسبة لها، تقود إلى إقامة نوعين من التعليم متمايزين:
أ ـ تعليم للنخبة: يستفيد منه أبناء الأرستقراطية، ويتلقون فيه تعليما عمليا، يرمي إلى استيعاب قواعد التدبير الإداري والتجاري استيعابا منهجيا: "المهن التقليدية للمغاربة الأعيان"، حسب ج.هاردي(12).
ب ـ تعليم خاص بالشعب: يتنوع بتنوع معطيات الوسط الجغرافي والاقتصادي، ويشمل –على الأقل- المظاهر الثلاثة الآتية:
ـ في المدن، سيهدف إلى تعليم مهن يدوية أوروبية أو الصناعات الحرفية التقليدية كالنحاس، والدباغة، والحياكة، الخ…
ـ في الوسط القروي، سيفسح المجال لتعلم الفلاحة، والغراسة وتربية المواشي،
ـ في المناطق الشاطئية، سيتمحور حول الصيد والملاحة.
ماذا يمكن أن نستنتج مما سبق؟ هل نحن إزاء بوادر تعليم يقوم على التنوع وقبول جميع الاختلافات بشكل متنور أم أننا –بخلاف ذلك- أمام محاولة مخططة لإرساء تعليم تمييزي يرمي إلى ترسيخ وشرعنة تفاوتات مرتبطة بتقسيم العمل (أرستقراطية حضرية أو قروية من جهة، ويد عاملة حضرية أو قروية من جهة ثانية)، وبعلاقات قوى بين مستعمرين (فرنسيين، أوروبيين) ومستعمرين (أهالي عرب-برابرة)؟
يتحاشى ج.هاردي كل اعتراض، ويعبر عن تصوره على النحو التالي: "لن نجبر تعليمنا منذ البداية على نهج توجهات عملية صارمة؛ سنجعله يخدم تعلم مهنة ما وتشبيب النشاط المحلي؛ لكن تفاديا لأن تسبب هذه الصحوة تصدعا في قلب مجموع الحياة الاجتماعية، فإننا لن نخرج الطفل من محيطه. سنكونه في عين المكان، ولن نطلب منه أي شيء آخر عدا إنتاج الفواكه التي كان سينتجها في غيابنا، لكن بجودة أكبر وبغزارة. لذا، لجأنا إلى التمييز بين تعليم للنخبة وتعليم للشعب"(13).
لا يخفى ما ينطوي عليه هذا النمط التعليمي من طبيعة نفعية وبراغماتية علنية. ويمكن الاعتراض بكونه من التخصص الضيق بحيث لا يمكن أن يولد، عاجلا أم آجلا، إلا أطفالا منغلقين داخل التعليم الذي تلقوه، ومن ثمة محدودين؛ جاهلين جهلا تاما كل ما لا يعنيهم، وبعيدين عن كل فكر تجريدي وكل معرفة نظرية ولو كان من شأنها أن تدعم مجال تخصصهم؛ متجذرين في وسطهم الأصلي، لكن مغتربين بشكل فظيع في الأوساط الأخرى التي قد تتاح لهم فرصة زيارتها أو مواجهتها. يبعد ج.هاردي هذا النقد بصياغة الأمنية التالية: "صحيح، لكي يكون هذا التعليم مثمرا حقا، فإنه يفترض تعليما عاما، يرمي إلى تفتيح ذهن الأهالي الشباب أكثر مما يكتفي بملئه"(14).
إلا أن هذا التعليم الذي يقترحه هاردي يتميز بنزعة وضعية خالصة. لنطلع على اقتراحه: "سنربط جميع أنواع تعليمنا بالأشياء والناس المحيطين بالطفل. سنجعل هذا الطفل على صلة بالأفكار التي يأتي بها من المنزل، وذلك بجعل دروس اللغة والأشياء يقتصران على الحياة المحلية، وتمارين الحساب لا تخرج عن حدود الحاجيات اليومية(…)، تنطبق على الميزانيات الصغيرة للبيت المغربي، وهي بيع الخرفان، وحصاد الشعير وقطف الزيتون، الخ.."(15).
لا شك أن مثل هذا التعليم لا يخشى مواجهة السؤال: "لماذا يصلح؟"، إذ سيقال على الفور: "إنه مصدر خيرات مادية". الظاهر أن هذا النظام التعليمي يلزم المتعلم على الارتباط الوثيق بالبعد الاقتصادي، إذ يلخص حياة الفرد في مدى تحقيقه لمجموعة محدودة من القيم النفعية: إنتاج، مردودية…
إنه تعليم يقوم على مبدأ العزل الجسدي والحجر النفسي. فمن الناحية الجسدية، ليس للطفل أن يغادر وسطه، ومن الناحية النفسية ليس لهذا الطفل ذاته أن يتخيل عوالم أخرى أو أشكال أخرى للوجود ولو داخل اللغة لا غير. بعبارة أوضح، إنه تعليم بدون أفق لأن اللغة المعتمدة في تلقينه نفسها هي لغة اعتيادية وليست نصية. وبذلك، فهو موجه كليا –داخل إطار نفعي- إلى تسمية الكائنات والأشياء التي تؤثت الفضاء الاعتيادي لدى الطفل.
يكتب ج.هاردي بمنتهى الوضوح: "الفرنسية التي ندرسها مألوفة كليا؛ لا تستدعي إلا كلمات عملية مباشرة، لا تحشو ذهن الأهالي المختلف كثيرا عن ذهننا بدينامية من الأفكار الغرائبية"(16).
أكثر من ذلك، إن هذه الفرنسية ليس لها أية علاقة بنصوص لافونتين، فلوبير وبروست: "فهي تمد الصغار بمعجم الحياة المنزلية والمهنية؛ وتتيح للكبار أن يحرروا تقارير ورسائل إدارية وتجارية:(17).
يبدو الآن واضحا أن ظلالا من الميز العنصري تخيم على مشروع هاردي. وهل الميز العنصري –كما كتب فانكيلكراوت- شيء آخر غير: "حجز الفرد داخل انتمائه، ومعاملته باعتباره "مستهجن الصفات…"، وإنكار قدرته على الاقتلاع من وضعه، سواء تحدد هذا الوضع بشكل بيولوجي أو تاريخي"(18).
بيد أن حصر الآخر داخل مجال طوبوغرافي ونظام معياري محددين، هو ضرب من الحفاظ على نظام الإغلاق عبر إجراء تجريد مزدوج: تجريد الأنا، أو الهوية، من إمكانية الانفتاح، وتجريد الآخر، أو الغيرية، من قابليته للتحول. وباختصار، سيرسي ذلك الحصر عنف الثبات. أسوأ من ذلك، إن هذه الطريقة في التصرف هي بوضوح مضادة للتربية. نحن أبعد ما نكون عن الفعل البيداغوجي الرامي إلى إعطاء المتعلم فرصة تجاوز نفسه واقتلاعها من تربتها المعرفية التي ظلت تراها عادية إلى حين ولوج التمدرس، وذلك للانفتاح على استيعاب معارف أخرى غير مألوفة لأنها تتعالى على شروط المكان والزمان، المحيط والتاريخ…
- VI -
من المعترف به أن للمدرسة غاية مزدوجة تستهدف المجتمع والفرد. وما ترمي إليه هو خدمة مصلحة القطبين معا، ولو أن البعض يركز على الفرد دون المجتمع، أو العكس، فيما يحاول آخرون رفع التناقض الذي يبديهما متعارضين في الظاهر.
اعتبار الشخص هو المراهنة على طاقاته. أما القيام برهان موجب للتفاضل، يرتكز على انتماء الفرد لهذه المجموعة الاجتماعية التي يعلى من شأنها أو يحط منه مسبقا، فهو زرع إجحاف تربوي مناهض للديمقراطية أساسا؛ هو تبني موقف إيديولوجي معاكس لنظيره القائل بمساواة الجميع أمام التربية؛ هو رفض للعمل بكيفية تتيح للفرد أن يتفتح إلى أقصى حد بتشغيله لموارد اختلافاته؛ إنه نوع من الميز العنصري يشكل قاعدة ينهض عليها التوزيع الجهوي لأنواع المدارس؛ إنه حكم سيكولوجي قبلي، لأن الانتماء الاجتماعي في مختلف المناطق يوحي مسبقا بتقسيم التلاميذ، تبعا لأصولهم الاجتماعية والعرقية، داخل المدارس المتوفرة أو تلك التي يتعين بناؤها للسكان اعتمادا على هذا التقسيم.
قد تتبادر إلى الذهن ملاحظة مفادها أن هاردي يعبر، كيفما كان الحال، عن اهتمام جدي بتعليم أطفال الأهالي، وبالتالي فهذا الاهتمام وحده كاف لتسجيل نوع من التقدم بالنسبة للوضع التعليمي في المغرب قبل الحماية. وهي ملاحظة وجيهة حقا. إلا أنه من الضروري تدقيقها بالتركيز على مسألتين أساسيتين. الأولى: باعتبار هاردي منظرا ماهرا للمدرسة الاستعمارية، فإنه كان يحاول تأسيس نظرية بيداغوجية قائمة على مبدأ التمركز العرقي. والثانية: باعتبار هاردي نفسه سياسيا متشبعا بيقينيات اليمين الفرنسي التقليدي، فإنه كان يبذل قصارى جهده لزرع وترسيخ رؤية ليبرالية تخدم مصلحة النخبة المستعمرة. وعليه، يبقى أن النزعة النفعية ومشروع القوة الاستعمارية يشكلان محرك خلق المدارس المراد تكييفها مع محيطها.
وسواء أتعلق الأمر بتصور عنصري أو بهدف سياسي أو بمصلحة اقتصادية، فإن النتيجة تظل واحدة، وهي أننا إزاء ثقافة تؤكد تفوقها لأنها مقتنعة بكل وثوقية وتزمت بأنها الوحيدة الجديرة برفع شعار الحضارة والتمدن، ومن ثمة لا غرابة في أن تقرأ سلوكات شعب مغاير في اللغة والذاكرة والحساسية على ضوء قناعاتها وتصوراتها الخاصة. إنها لا تتعامل مع هذا الشعب معتبرة بعمق مغايرته وخصوصياته، وإنما تتعامل معه من خلال التمثلات التي نسجتها عنه والتي تريد إخضاعه لها قسرا. بتعبير آخر، إنها لا تحاول الالتقاء بهذا الشعب كما هو، وإنما كما تريد هي أن يكون. وهذا هو عمق المأساة.
على هذا الأساس، يعتبر هاردي أن المدرسة الاستعمارية ستكون بمثابة الصرح المتين الذي سيشيد على أسسه المجتمع الاستعماري المزمع بناؤه. وبما أن الاختلاف والفرق هما حجر البناء في هذا المشروع، فإنه لا مناص من تقسيم السكان إلى فئتين هما النخبة من جهة، والطبقات الشعبية، من جهة ثانية.
وهذا التمييز الصارم بين النخبة والطبقات الشعبية (أو العامة، بتعبير ج.هاردي المفضل) لا يجب إطلاقا أن يبقى نظريا محضا، بل يجب ترجمته على رض الواقع بإنشاء "مدارس أبناء الأعيان"، وهي عبارة عن مؤسسات للتعليم الابتدائي وإعداديات إسلامية، ومؤسسات للثانوي تفسح المجال لولوج المهن الإدارية والتجارية.
أما الطبقات الشعبية، فهي تقسم إلى ثلاث فئات منفصلة عن بعضها البعض، ليس تبعا لمواردها أو مواقعها في التراتبية الاجتماعية، وإنما بنمط الإنتاج الذي يميز مناطق إقامتها. وبذلك، سنحصل على الخريطة المدرسية التالية:
ـ بالنسبة للفئات الشعبية الحضرية، مدارس تسمى "حضرية"، متمركزة حول التعليم المهني.
ـ وفيما يخص الطبقات الشعبية القروية، اقتراح إنشاء مدارس قروية متمحورة حول التعليم في مجالي الزراعة وتربية المواشي.
ـ بالنسبة للطبقات الشعبية القاطنة بالمدن الساحلية، تنشأ مدارس "بحرية" متخصصة في تعلم تقنيات الصيد والملاحة.
ومثل هذا المشروع غير مدان في نفسه. اليوم أيضا، يقترح، في مرحلة صار ولوج الشغل أمرا متزايد الصعوبة، الأخذ بعين الاعتبار طاقات الجهات في الإعداد المهني-وهذا حتى في الأمم المصنعة العصرية. لكن هذا لا يقرن بفكرة تسمير قسم من السكان في وضعية شغل بدون أفق مستقبلي عام.
أما فيما يخص البلدان السائرة في طريق النمو،فلا شك أنها خدعت لما كونت بعض مواطنيها في التكنولوجيات التي لم يستطيعوا استيعابها ولم تفد في شيء من جهة؛ وخدعت بتعليم مواطنيها مهنا قليلة النفع، بل وحتى غير مجدية لتقدم الجهات، من جهة ثانية.
وهذا يجب وضعه موضع تساؤل. وهي النية التي يعبر عنها بوضوح ج.هاردي في قولة له يذكر فيها أن التصور التربوي –النظري والعملي على السواء- مسكون بهاجس سياسي وإيديولوجي دائم يتمثل في تجنب أن تصير المدرسة "أداة للقلاقل الاجتماعية". يكتب في هذا الصدد: "لكن هاجسنا الكبير هو ألا تصنع المدرسة أهالي صالحين لكل شيء وللاشيء(…). فقد ظهر أحيانا في مستعمرات فرنسية أخرى أو أجنبية أن تعليم الأهالي يمكن أن يتحول إلى أداة إحداث اضطرابات اجتماعية"(19).
وبذلك فالمدرسة، في رأي ج.هاردي، يجب أن تنظم كجهاز إيديولوجي تستخدمه الدولة الاستعمارية للتحكم اجتماعيا في "الأهالي" وحراستهم سياسيا. والحماية –ظل الدولة الاستعمارية- تعمل بمثابة آلة كبيرة تستهدف ثلاثة جوانب أساسية:
أ ـ إخماد فتن المناطق المعادية للهيمنة الاستعمارية عسكريا ("السيبة" الشهيرة)، وذلك بعدم التردد في استخدام جميع الإجراءات العسكرية، من إفساد، ومحاصرة، وزرع الفزع، واقتراف التقتيل الجماعي…
ب ـ ضبط (بالمعنى الذي يمنحه ب.فاليري لهذه الكلمة: "جعل الفرد مطابقا لضابط ما") الفئات الاجتماعية بجعلها، من جهة، نخبا طيعة؛ ومن جهة أخرى، طبقات كادحة نافعة؛
ج ـ استيعاب ما يسمى بالعرقين "القابلين للاحتواء"، وهما اليهود والبربر، لتجذير الظاهرة الاستعمارية أو على الأقل لضمان استمراريتها التاريخية، عاجلا أو آجلا.
في هذا الاتجاه تشتغل الآلة باعتبارها كلا متجانسا: المدير العسكري أو المدني، المخطط والمكلف بإدارة شؤون المقدس، كلهم يعملون يدا في يد لتحقيق أهداف تلتقي وتتكامل فيما بينها.
- V -
لنر الآن كيف يشيد هاردي عمليا تراتبيته البيداغوجية بناء على قراءة خاصة للتعددية الإثنوثقافية المغربية.
بعد حل مشكلة أصول المجموعة اليهودية المغربية بربطها بأصلها الشديد البعد، أي بحادث تخريب معبد القدس أو بالاضطهاد الذي تعرض له اليهود في إسبانيا خلال القرن XVIم، يقدم ج.هاردي صورة قاتمة لهذه المجموعة. فهو يرى أن التسامح المغربي أتاح لليهود أن يستقروا في المدن، لكنه أفرد لهم أحياء خاصة بهم، تسمى الملاح. و"الملاح حي تفوح منه رائحة الفقر. أزقته غير صحية، غرفه مكتظة وشديدة الرطوبة". يردد هاردي هنا –وهذا أمر طبيعي- نفس المقولات(20) المناهضة للسامية كما مررتها الاثنوغرافيا الاستعمارية (دو فوكو، جوتيه، بيكارد..).
"أي وسط خصص لعرق يا ما عانى من قبل! ثم هاهي الاتحادات الناضجة تتضافر عليه لإضعافه قبل الأوان: الإفراط في تناول الكحول، خشونة الغذاء. وكيف لا نتعجب من كوننا نجد بين جميع شباب الملاح كل هؤلاء العرجى، ومشوهي الخلقة، والنصف عميان، وكل هؤلاء التعساء الذين ليس لهم سوى جلد موبوء فوق عظام نحيفة أو مشوهة؟ الإصلاح البدني، هاهي المهمة الأولى التي تفرض نفسها لفائدة يهود المغرب"(21).
ويجب أن يواكب مشروع الإنعاش البدني، هذا، مجهود مدروس للتقويم الأخلاقي. فالمغاربة العرب-البربر جعلوا من اليهود "ضيوفا مهانين". يقول ج,هاردي: "إنهم أشباح كئيبة، مفزوعة، محنية تحت وابل الشتائم والضربات التي يتوقعون دائما تلقيها. لا يرفعون رؤوسهم قليلا إلا عندما يصلون إلى الملاح. مع ذلك، فقد تمكن بعض هؤلاء المنبوذين، المحبوين بقدرة استثنائية على الصبر، من الاغتناء واحتلال مكانة متفوقة في الحياة الاقتصادية بالبلاد بشكل سري. هذا، وقد وضعت إدارتنا حدا لعمليات النهب التي كان يتعرض لها الملاح دوريا، ووفرت لليهود المغاربة، كما لسائر باقي الأهالي، ضمانات ضد تجاوزات السلطة، والتصفيات المشينة. وبذلك، هاهي الفراشة تخرج فجأة من كوخها الحقير المظلم، يباغثها النور المفاجئ، ونظرا لأنها لم تهيأ لهذا الانعتاق السعيد، فإنها قد تتحول بسرعة إلى فراشة جديدة-ثرية ويهودية جديدة. بكلمة واحدة، قد تصير ضارة وجد مقلقة. بيد أنه يبدو بالإمكان التخفيف من حدة هذا التحول المليء بالمخاطر عبر مشروع للتقويم الأخلاقي"(22).
اعتبارا للخلاصات التي قادته إليها تحاليله، يقترح ج.هاردي للمجموعة اليهودية تعليما "فرنسيا-يهوديا"، يرمي إلى تحقيق أهداف ثلاثة:
ـ أولا: تقديم تعليم أولي، لكن ضروري، لمبادئ الصحة العامة، لوضع حد لنقصان النظافة الذي "يطبع" الجماعة اليهودية، حسب هاردي.
ـ بعد ذلك، تقديم تربية بدنية جدية، منتظمة متواصلة، تنصب على الرياضة، أي القيام بتمارين بدنية في الهواء الطلق، وإجراء مراقبات طبية دورية، قياسات الطول والوزن…، وذلك في سبيل القضاء على العاهات البدنية، وإحلال أفراد أقوياء البنية محل "هذا الحشد من النحيفين والبدينين بشكل يرثى له"(23).
ـ أخيرا، تقديم تربية خلقية وجمالية: الأولى لإرساء أخلاق للرجولة تعلي من قيم الاعتزاز بالنفس وشرف المسؤولية، وذلك للرفع من قيم ومعنويات هذه ال"أشباح الكئيبة، المذعورة"، الخ… التربية الجمالية ستحسس الشاب اليهودي المغربي تدريجيا بقيم الشأن الجمالي مجسدة في الفن، لأن "الأذواق الجمالية –يستخلص هاردي- ضرورية للتوازن الأخلاقي؛ تثني عن البحث عن المصالح المباشرة وعن الأنانية"(24).
في مشروع هاردي ثمة اختلاف بين التعليم الذي ينادي به للعرب –البربر والتعليم الذي يقترحه لليهود المغاربة. بالنسبة للأوائل، تعطى الأولوية بالخصوص لـ ترسيخ التقليد والتعلم العملي للمهن اليدوية، على حساب الثقافة العامة والمعرفة الفكرية بمعناها الدقيق. أما بالنسبة للفئة الثانية، فتجرى محاولة للتغيير الجذري عبر تكثيف الثقافة العامة و–من ثمة- تحديث أنماط العيش في الوسط اليهودي. ومن المؤكد أن هذا الاهتمام البيداغوجي الكبير الذي أحيطت به المجموعة اليهودية يعود، في قسمه الكبير، إلى تأثير الرابطة اليهودية العالمية. يجب التذكير بأن هذه المدارس التي قامت في المغرب منذ سنة 1862، كانت لوقت طويل محمية من قبل السلطات القنصلية الفرنسية أو من قبل إدارة المقيم العام في المغرب بعد قيام الحماية.
هكذا يوظف هاردي الثقافة العامة معيارا للفصل بين الفئات الإثنوثقافية. فهي بالنسبة للعرب-البربر يمكن أن "تبعدهم عن الواقع"، أن تجعلهم "جيدين للاشيء"، أن تهيئهم لإثارة "القلاقل الاجتماعية". أما بالنسبة لليهود، فهي وسيلة لتربيتهم أخلاقيا وإبعادهم عن الاضطرابات الاجتماعية التي قد يكونوا جاهزين لها حالما يستعيدون صحتهم أو نموهم البدني. وليس هذا التناقض الظاهري هو التناقض الوحيد إذا قبلنا أن عاملا واحدا نفسه (وهو هنا نمط التعليم) يمكن أن تترتب عنه نتائج مختلفة بحسب حقل تطبيقه.
ونقف هنا على فكرة ضمنية تتمثل في اختلاف طبيعة أعضاء الجماعات السابقة من جهة، والتربية المفروض أنها مناسبة لكل جماعة من تلك الجماعات، من جهة أخرى.
بالنسبة للعرب-البربر، يتعلق الأمر بتربية تختزل في تكوين نافع، فيما يترك الباقي للحياة اليومية كما للعائلة بحسب إمكانياتها. أما بالنسبة للآخرين، وهم اليهود، فيتعلق الأمر أولا بفعل ترميمي تصحيحي، بتعويض عن العجز التربوي العائلي. وبذلك، تعتبر حاجيات العرب-البربر وحاجيات اليهود مميزتين بالنظر إلى معيش الجماعتين كما يعاينه الملاحظ.
يرى هاردي أن العنصر الأوروبي يجب أن يخضع لعملية الاستيعاب والفرنسة. إذ يقول: "معطيات مشكلة الفرنسي الجديد واضحة، إذن، بشكل كامل: كيف نلحق بالأمة الفرنسية، وكيف تبتلع ثقافتنا، مختلف العناصر الأوروبية التي جاءت للمغرب كسبا للقوت، والتي تربطها بتصوراتنا وأذواقنا قرابة أكيدة؟"(25).
وبذلك، سيدمج الأوروبيون في مدارس الفرنسيين نفسها لسببين اثنين مرتبطين بمفهومي الاختلاف والائتلاف، لأنهم على المستويين الإثني والثقافي أشد قربا من الفرنسيين بالمقارنة مع الأهالي. إنهم أكثر شفافية لاستيعاب كامل.
وبحكم انتماء الأطفال المولودين في فرنسا للنخبة (معمرون، رجال صناعة، ضباط، موظفون)، فهم على موعد مع أفضل التوجهات. وهذا التمييز الذي يخص هؤلاء الأطفال بحظوات مقصورة عليهم لا يفسر، في رأي ج.هاردي، بالمجهود ولا بامتلاك ناتج عن استحقاق طبقي، وإنما بهيمنة القيمة التي يستمدونها من امتياز كونهم محتلين. وإجمالا، يسجل هاردي، أنه: "ليس لممثلي فرنسا المباشرين في المغرب أن يكونوا أقل في أي شيء من باقي عناصر السكان. وإليهم يجب إسناد –ليس فقط بامتياز الاحتلال، ولكن أيضا بحق قانون القيمة والاستحقاق- الدور المهيمن في إدارة البلد واقتصاده؛ فهم الرؤساء، والأطر المناسبة لجميع العمليات التي تجرى هنا بصرف النظر عن طبيعتها"(26).
ومع ذلك، يجب على الروابط مع البلد الأصلي أن تظل سليمة وكاملة كي لا تنشأ لدى الأجيال الفرنسية المغربية نزعة إقليمية(27) محلية أو ينمو لديهم ميل إلى الانصهار في المستعمرات بحيث يجعلها أجيالا مقتلعة الأوطان أو مقتلعة الجذور، ناسية المسؤوليات الاستعمارية الكبرى. كما يجب اللجوء إلى ترغيب منهجي للأطفال المنحدرين من فرنسيين مغاربة في تطور المغرب، مع تمسكهم بقوة بالصلة التي تربطهم بفرنسا. وهم سيستفيدون، كباقي المواطنين المقيمين بفرنسا، من نفس البرامج ونفس الأطوار الدراسية، وما أن يحصلوا على الباكالوريا حتى تفتح أمامهم أبواب ولوج كبريات المدارس وأمجدها: البوليتيكنيك، سانت-سير، المعهد الزراعي…، الخ.
ويبقى أن ج.هاردي يتمسك بتصوره الأولي، وهو ضرورة أن يستخدم التعليم أداة للشرعنة، وبالتالي أن: "يعطي لفرنسيي المغرب أقصى ما يمكن من القيمة الأخلاقية، والفكرية، والبدنية، بكيفية تجعل مكانتهم الاجتماعية المرموقة تفرض نفسها ذاتيا وتخصص لهم الدور البارز في سائر مجالات النشاط المحلي"(28).
ونلاحظ هنا عملية مزدوجة تتمثل في إلغاء كل فرصة للتميز عن فرنسيي الميتروبول من جهة، وتقوية الاختلاف عن السكان المحليين من جهة ثانية.
وليس هذا مجرد صيانة للحظوات المشروعة بالانتماء العرقي والجنسية، ولكنه إرساء لطبيعة تأخذ مكانة داخل تراتبية باسم الجنسية. ولكنه إرساء لطبيعة تأخذ مكانة داخل تراتبية باسم الجنسية. والهدف واضح: إنه سياسي، وإذا بدا شخصيا، فلأنه تابع كذلك لخدمة القضية السياسية.
المشروع الوطني والمشروع الاستعماري موجودان معا هنا ليستخدما نقطة تتمفصل فيها المبادرات في حقل المدرسة.
- VI -
يلخص الراحل بول باسكون مجموع مسعى ج,هاردي بهذه العبارات: "ثمة إثنوغرافيا كتبها المستعمر، وانتهت إلى وضع اليد على وجود اختلافات جهوية حقيقية، لكن بنية صريحة في استغلال هذه التمايزات للتفريق تحت ذريعة ثبات إثنيات زعم أنها غير قابلة للاندماج في بعضها البعض"(29).
في مجال القضايا البشرية الهش والشديد الحساسية، يجب على المرء أن يعرف كيف يضفي طابع النسبية على وجهة نظره لتحاشي الوصول إلى استنتاجات نهائية، لكنها مغالية بالضرورة. إن الصيرورة البشرية –المنفلتة، والجسورة، والتي يحول عنصر الحرية دون توقعها- لا يمكن اختزالها ولا الإحاطة بها داخل معادلة على شاكلة ما يحاط بالظواهر الفيزيائية أو الرياضية.
ويبقى أن كل محاولة قانونية، أو تربوية سياسية تهدف إلى تسمير البشر –صغارا وكبارا- في أمكنة محصورة، محددة، بناء على انتماءات طبقية أو عرقية أو دينية، أو استنادا على معايير جغرافية أو جهوية، تظل محاولة تتضمن مزالق كليانية: إنها مثالا للتشويه القصدي للتجربة الإنسانية، اغتصابا همجيا (بالمعنى الكانطي) لإرادة المعرفة ورغبة الوجودn
الهوامش:
1 – اليوسي الحسن، المحاضرات في الأدب واللغة، تحقيق محمد حجي وأحمد الشرقاوي إقبال، بيروت دار الغرب الإسلامي، ص202-203، 1982. وانظر أيضا:
Rosenberger B., «Culture complémentaire et nourritures de substitution du Maroc (XVe-XVIIIe siècle) », in Annales, n°3-4, p477, 1980.
2 – اليوسي، م.س.، 203.
3 – لقد سبق لصاحب الفصوص أن أكد، في تأويله للآية القرآنية "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق"، بأن الرزق منه ما هو روحاني كالعلوم، وحسي كالأغذية.
ـ ابن العربي محيي الدين، فصوص الحكم، طبعة أبو العلا عفيفي، بيروت، دار الكتاب العربي، ص132، 1980.
4 – HARDY, G., Une conquête morale, Amand Colin, 1917, p9.
5 – HARDY, G., «L‘éducation française au Maroc », In La Revue de Paris, n°8, p773-788.
6 – نفسه، ص773.
7 – نفسه، ص773 (والتشديد منا).
8 – نفسه، ص774.
9 – نفسه، ص774 (والتشديد منا).
10 – نفسه، ص775.
11 – نفسه، ص776، والتشديد منا.
12 – نفسه، الصفحة ذاتها.
13 – نفسه، ص775-776، والتشديد منا.
14 – نفسه، ص776.
15 – نفسه، ص776-777.
16 – نفسه، ص777 (والتشديد منا).
17 – نفسه، ص777.
18 – Finkielkraut, A., «Sur un vers de Racine », In le Monde, 24 Octobre 1987.
19 – نفسه، ص778، راجع أيضا:
Hardy, G., 1939, «Le problème colonial », in Encyclopédie Française, vol. XV, (Education et instruction), 1934, «Le Maréchal Lyautey et l’enseignement », in l’Afrique Française, n°8, p462-468.
Rivet, D., «Ecole et colonisation au Maroc : La politique de Lyautey au début des années 20», in Cahiers d’histoire de l’université de Lyon, T.XXI. 1976.
20 – ج.مقولب (Stétéotype)، سلوك مكرر على نحو لا يتغير تعوزه الصفات الفردية المميزة(م).
21 – نفسه، ص779 (التشديد منا).
22 – نفسه، ص779.
23 – نفسه، ص780-781.
24 – نفسه، ص781.
25 – نفسه، ص784.
26 – نفسه، ص786 (والتشديد منا).
27 – نظرية الذين يريدون الاحتفاظ بحرياتهم الخاصة ضمن الدولة(م).
28 – نفسه، ص786.
29 – Pascon, P., «La formation de la société marocaine », in Bulletin Economique et social du Maroc, n°120-121,
p3, 1971.

التحليل الفيلمي ومهام الناقد السينمائي



مجالات التحليل الفيلمي
من أجل تعريف مجالات واختصاصات التحليل الفيلمي،يلزمنا التمييز بين حقول اشتغال هذا النوع من التحليل وأهدافه، من هنا نؤكد أن ما نستهدفه،هو عمليات ثلاث تخدم هذا المنطق هي:
ـ أولا هناك ما يمكن وصفه بالطابع الإخباري وأحيانا الترويجي للفيلم وفق ما تراه العين وتسمعه الأذن،ويتم ذلك غالبا من خلال تقديم مختصر عن أحداث الفيلم .
ـ ثانيا سعينا إلى تفكيك بعض مكونات الفيلم الفنية والتقنية من الداخل،ونكون بصدد التحليل الفيلمي أي بشكل مستقل عن أية نظرية معرفية خارج إطار نظرية التحليل الفيلمي.ويهدف هذا المجهود إلى فهم بعض القضايا المطروحة وتقريبها من المشاهد،مع شرح ما يعرف بمرتكزات اللغة السينمائية الخاصة بهذا الفيلم دون غيره،أو المشتركة مع أفلام تدخل في إطار نفس النوع.
ارتباطا بالتأويل الفيلمي،نقول أن هناك من ينظر إلى هذه المهمة بشكل مستقل،كما أن هناك من يربطها بالتحليل ويجعلها مرحلة نهائية.
ثالثا،إذا كان بالإمكان الحديث عن تميز الخطابات بتميز حقول اشتغالها.قد نتحدث عن الخطاب الديني،والخطاب السياسي،كما أن  ما ينطبق على السينما يستدع خطابا متميزا يشتغل على متنها وهو الخطاب الفيلمي ،وهو خطاب، وإن كان يتأسس من داخل حقل متميز هو السينما ،فإنه يستعير من أدوات وآليات ومناهج خطابات أخرى وحقول بعيدة نوعا ما عن السينما من قبيل السوسيولوجيا ،والتحليل النفسي،والمجال الحقوقي الخ …
إن مناهج وطرق تحليل الفيلم تتراوح بين ما هو نصي، سردي يحيل على أصول لسانية كما هو الحال عند كريماس وبروب، ويدخل هذا في إطار ما يعرف بالسرديات، وبين ما هو  إيقوني،وموضوعاتي،و ما هو بنيوي حيث يعتبر الفيلم كوحدة متكاملة البناء يتعاضد في رصد أجزائه من سيناريو وقصة، وحوار.
لكل من هذه العناصر المكونة للفيلم علاقة بالتأثير النفسي والفني ويدخل ضمن شروط تلقي الفيلم كجنس تعبيري،لهذا نرى أن كل تناول نقدي أو تحليلي للفيلم لا بد أن يتراوح بين نقد سينمائي عاشق،وآخر ميداني يطور من خلالها الناقد أدواته عبر تراكم كمي ومعرفي بالتجارب السينمائية.كما يمكن الإشارة إلى نوع  آخر من النقد،وهو ما يوصف بالنقد الموسمي المولع بظاهرة النجوم، أو بالسبق الإعلاني والصحفي.

مهام الناقد السينمائي

يهمنا أن نميز بين محلل الفيلم وناقده، ونستعمل ناقد الفيلم عوض الناقد السينمائي لكون المفهوم الأخير أكثر تعميما.وإذا كانت العملية النقدية تنطلق من ثلاثة أسس هي: الإخبار والتقييم،ثم الترويج للعمل،فإن العملية التحليلية للعمل الفيلمي تروم إنتاج مجموعة من المعارف حول بعض المكونات الفيلمية انطلاقا من منطلق تأويلي يصب في ما يعرف بنظرية السينما. وهكذا نجد ناقد الفيلم يسعى إلى تقديم مجموعة من المعلومات عن الفيلم بدءا بنوعيته وأسلوب مخرجه،عارضا آرائه السلبية والإيجابية، وكذا كيفية استقبال الجمهور لهذا الفيلم أو ذاك.أما المحلل فإنه يصبو إلى إنتاج معارف في مجملها تجمع بين مرتكزات نظرية وبين أخرى تطبيقية تسعى إلى تفكيك عناصر الفيلم من سيناريو،ومونتاج،وإنارة وديكور.كما يسعى في نفس الوقت إلى تقريب المشاهد المتذوق والمتعلم من مكونات الفيلم بطرق ديداكتيكية وتربوية وهو ما يجعله ينتج أفكارا وتأملات جمالية.
لا يمكن الجزم أن هناك طريقة واحدة ووحيدة وعالمية للتحليل والإخراج الفيلمي،لأن هناك طرقا متباينة ومتداخلة في غالبية الأحيان، فيها مثلا من يركز على الجانب السردي/ النصي ويدعى أصحاب هذه الطريقة بالمخرجين الأدباء،كما هناك من يركز على الجانب البصري/ المشهدي ويدعى أصحاب هذه الطريقة بمخرجي الصورة ،وهكذا يبقى على محلل الفيلم أن يختار بين مجموعة من الأساليب التي تتناول الظاهرة السينمائية ليكون أسلوبه الخاص في مقاربة مشاهد أو متتاليات فيلمية،لكن  بإمكانه الجمع بين أكثر من نظرية لاستجلاء مضامين وملامح مختلفة. “وتختلف درجة الانفعال مع الصورة طبعا من متلق باحث عن ذاته ورغباته في ما يشاهده من أفلام إلى متلق أقل انفعال،متلق عاشق للسينما يملك قدرا معينا من الثقافة السينمائية،لكنه لا يملك الأدوات القادرة على الكشف والتحليل وإدراك الأبعاد الجمالية والفكرية.وغالبا ما يغيب الفيلم المشاهد وتسقط الذات المشاهدة اهتماماتها الفكرية والثقافية المرتبطة بدائرة اختصاصها”
إن الفيلم،كمنتوج متعدد الأصوات والخلفيات، يساهم بطبيعته في إنتاج خطابات نقدية موازية من مواقع جمالية وأيديولوجية متباينة، قد تكمل بعضها البعض كما قد تتعارض فيما بينها تماما.وهذا ما يجعل بعض القراءات النقدية زائفة ومنحرفة أو ساقطة في النظرة الضيقة الناجمة عن حسابات شخصية تنطلق من نية الحط من قيمة الفيلم بعيدا عن كل تحليل موضوعي رصين.ونعلم جيدا الأهمية التي باتت تحتلها أدوات التسويق والدعاية في الترويج لأفلام ما قد تجعلها تكتسي أهمية سواء عند النقاد أو عموم المتتبعين،بالرغم من طابعها المتواضع أو مضمونها الأيديولوجي الصارخ.
من هنا وجب على النقد أن يجدد أدواته ومفاهيمه ليقارب المتن الفيلمي من مواقع ومرجعيات متباينة، وهذا من شأنه  إغناء  التجارب المؤسسة، لكن ذلك يظل رهينا  بمدى تطوير الفيلم لأدواته وتصوراته وآفاقه، إذ لا يمكن لأفلام تتحدث بنفس الأسلوب، وتخلو من التجديد النوعي والتجريبي في اشتغالها الفني والتقني أن تحفز المحلل والناقد على الإبداع والتجريب،لأن الناقد سيجد نفسه يتحدث لجمهوره عن أشياء لا وجود لها.

مكونات الفيلم

إن دراسة الفيلم تتطلب عموما المرور بمرحلة تحليل الحكي الفيلمي الخاص بكل مخرج على حدة، ولذلك نولي أهمية قصوى للبنية الدرامية وتأتيراثها،أي كيف  يعمل الفيلم على طرح الموضوع من خلال الحدث المركزي،وكيف توضع العراقيل في وجه البطل قصد الوصول لمبتغاه،كما نقف عند الطريقة التي سيتم بها إنهاء الصراع  بين القوى المتصارعة،ومن العناصر المعنية هنا نجد:
الفضاء: نقصد به أماكن الأحداث وكيفية عرضها من خلال التأطير، لذا نميز بين الفضاء الطبيعي وفضاء الأستوديو،كما نميز بين المكان الداخلي والخارجي عند النهار أو في الليل.
الزمن: نقف هنا عند المدد المحددة للقطات وللمشاهد،كما نحاول فهم إيقاع وسرعة الحركات وترتيب المتتاليات.بعدها نحدد نوعية البناء الكرونولوجي للأحداث من خلال تسلسلها المنطقي أو من خلال الحذف أو الاستباق.
الشخصيات: هنا نحاول فك المظهر الخارجي للممثلين من خلال ملابسهم وملامحهم الجسدية وكذا نبرات صوتهم، كما نولي أهمية لطريقة أدائهم لأدوارهم، وكيف يتمكنون من نسج علاقات مع بعضهم البعض ويتبادلون التأثير والتأثر.
وجهات النظر: 
تعني الأهمية التي يوليها المخرج لتمرير خطابه سواء من خلال اختيار لقطات التصوير وسلمها، أو من خلال التدخل المباشر للسارد المعلق على الحدث والعالم بخفاياه،وهو ما يعرف بالسارد الحاضر.وندرج في هذه المسألة قضية التبئير بأنواعها الثلاث وهي :التبئير بدرجة صفر.والتبئير الداخلي ثم التبئير الخارجي.
الحوار: 
نقصد به كل أشكال التعبير الكتابي من خلال ما هو منطوق أو مكتوب كملصقات وشعارات، أو عناوين.
المتتاليات المحورية:
يتشكل الفيلم من مجموعة من اللقطات التي تكون المشهد،والمشاهد ذاتها تتكون من متتاليات،والمتتاليات هي البنى الكبرى للفيلم. غير أن دور المتتاليات يختلف حسب أهميتها داخل بناء السيناريو، لذا نركز في هذه المرحلة على الجينيريك الافتتاحي  والذي له دور محوري في بسط عالم الفيلم ، ثم على متتاليات العرض والختم.ونحاول أيضا رصد لحظات ظهور الشخصيات الرئيسية  على الشاشة.

سياقات الصورة الفيلمية

لا يمكننا الحديث عن الصورة الفيلمية المتحركة طبعا وليس الثابتة ونعني هنا تحديدا الصورة الفيلمية وليس الصورة الفوتوغرافية أو الرسوم المتحركة من دون اعتبار ثلاثة سياقات تهم المبنى والمعنى على حد سواء وهي:السياق والمعنى ثم الشكل.
1 ـ بخصوص السياق  نحاول التعرف من خلال الحقل السينمائي على وضعية الشريط في هذا المجال، كأن نقول هذا الفيلم من سينما المؤلف،أو أنه فيلم تجاري أو ينتمي لأفلام المهرجانات.
ـ نقصد  بالحقل الثقافي الأهمية التي يحتلها الفيلم أو الشريط بالنظر إلى وضعيته الثقافية وأهميتها التاريخية. فشريط وثائقي مثلا عن حركة ماي  68  ليست له نفس المعاني  عن شريط ينتمي لحقبة التسعينيات.
ـ الحقل الاجتماعي والتاريخي يحددان  لنا بعض المعالم العامة  والشروط التاريخية والسياسية التي ساهمت في صياغة خطاب الفيلم وظروف إنتاجه.

2 ـ بخصوص المعنى نأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
ـ المضمون السردي الذي يتعلق أساسا بما تحمله المتتالية وتحكيه، ثم درجة أهميتها بالنسبة للشريط ككل،وكأنها تمثل فقرة داخل نص.
–  المضمون الدلالي
 يتمحور من جهة حول ما يشاهد من ديكور،وملابس،وإكسسوارات،ومن جهة أخرى حول ما يسمع من خلال المنطوق.
ـ المضمون الإيحائي
 الذي يستقي معناه مما يستنتج من خلال الخطاب كوضعية الممثل وسلطته بالنسبة لباق الممثلين.
ـ المضمون الرمزي يتجلى من خلال كيفية التعرف على بعض الرموز الثقافية والتاريخية الصومعة مثلا كمرجع ديني وعمراني والتمييز فيما بينها.

3 ـ أما بخصوص الشكل، فقد جرت العادة أن نأخذ بعين الاعتبار نقاطا أساسية منها مثلا:
ـ التقطيع المشهدي ونعني به تحديد المشاهد وترتيبها مع النظر إلى سلم اللقطات  وكيفية الربط بين الأولى وبين  والثانية.وينصب الاهتمام في هذه المرحلة على البنية الشكلية للقطات ثم عددها.
ـ تركيب الصورة وكذا وضعها داخل الكادر والذي يهتم أساسا  بتنظيم العناصر المرئية داخل إطار الشاشة،أي هل ستكون في المركز أم في الهوامش،أو خارج إطار الصورة .
ـ موضع الكاميرا وزاوية النظر يهمان مستوى التقاط اللقطة أي على مستوى النظر حسب قامة الشخص.ثم هل سيتم ذلك من زاوية موضوعية ومحايدة أم من زاوية ذاتية؟
ـ حركات كل من الممثل  والكاميرا داخل الفضاء،ونقصد بها مدى ثبات الكاميرا أم متابعتها للموضوع المستهدف،ثم مدى الأهمية والمدة الزمنية التي سيحظى بها كل من الديكور والفضاء خلال التصوير،من دون إغفال الاتجاهات التي سيتخذها الممثل بما في ذلك الأشياء المتحركة.
ـ رمزية الألوان ونوعية الإنارة وتلعبان نصيبهما الهام في خلق أجواء اللقطات..وتسترعي هاته القضايا اهتماما خاصا عندما نريد الوقوف مثلا على مصادر الإنارة ،أي هل هي بارزة أم خفية. ثم هل هي مركزة أم موزعة على أكثر من مكان لخلق تضاد بين الظل والضوء بغية تحقيق مشاعر وأحاسيس معينة.
ـ التوقيت والإيقاع ونقصد به المدد الزمنية التي ستستغرقها اللقطات وكذا الطرق التي سيعالج بها المخرج منظوره للزمن سواء من خلال أنواع الحذف،أو الفلاش باك .كما نقف عند تناوب اللقطات بين القصيرة وبين الطويلة،أو التي تنتمي لنفس المدد،ثم التناوب بين المشاهد الداخلية وبين الخارجية التي يكون الهدف منها أحيانا خلق نوع من البطء في السرد أو السرعة.
ـ الصوت ،حيث ننتبه لترتيبه وتركيبته داخل الشريط الصوتى، ومدى حضور عناصره المكونة من مؤثرات صوتية وموسيقى ثم من حوار.كما نقف عند وضعية الصوت وخلفيته.وهنا نتساءل عن مصدره، أي هل يأتي الصوت من خلال الصورة، أم هو مضاف ومسجل كصوت الراوي المعلق على الحدث من دون ظهوره على الشاشة.ومعلوم أن السينما التي أصبحت تسمى اليوم بالناطقة عوض الصامتة في الماضي لم يحض فيها جانب الصوت بالأهمية التي يستحق سواء من حيث وضعيات الملفوظ بوتيرته ونغمته وطرق آداءه ،أو من حيث التنظير لدلالات الشريط الصوتي ضمن مجموع اللقطات  والمشاهد الفيلمية.
يمكن القول أن التحليل الفيلمي يجب أن تتوفر فيه مجموعة من المواصفات من أهمها:الشمولية، الانسجام ثم الإنتاجية.
بخصوص الخاصية الأولى،والتي لا تعني أن التحليل الفيلمي يجب أن يقول كل شيء” إن هم المحلل يبقى  بالأساس هو  البحث عن الدقة من حيث جرد العناصر المضمنة لمحور بحثه، والتي ليست مجبرة على الوقوف عند كل مشهد على حدة”
أما بالنسبة للانسجام، فنعني أن التحليل الفيلمي في عمقه تمرين منهجي،فهو إما بنيوي أو سردي، أو سوسيواجتماعي، أو سميولوجي، أو شكلاني، أو تفكيكي إلخ …المهم في نهاية المطاف هو الخروج بتصور يعبر عن عناصر تنسجم فيما بينها ومنطقية.
الإنتاجية كخاصية ثالثة تتحدد من خلال تمكين المشاهد من إنتاج مجموعة من المعارف والمفاهيم بعد عملية المشاهدة.وهي من جهة إما تعمل على توليد معان تساهم في إغناء الحقل الدلالي للفيلم أو تشكل،من جهة أخرى  قراءة ميتانصية  مصاحبة وشارحة للدلالات الفيلمية كإشارات مرئية ومسموعة.

الاثنين، 11 أبريل 2016

فعاليات الجامعة الربيعية لليافعين للشعلة في نسختها الخامسة بخريبكة… محمد أوحلي


أسدل الستار على فعاليات الجامعة الربيعية لليافعين  في دورتها الخامسة التي نظمتها جمعية الشعلة للتربية والثقافة بخريبكة تحت شعار « من أجل ترسيخ ثقافة الصورة لدى اليافع(ة) » خلال الفترة الممتدة من 03 إلى 9 أبريل من الشهر الحالي.بثانوية الخنساء الإعدادية بشراكة مع وزارة الشباب والرياضة وبتنسيق وتعاون مع جمعية النادي السينمائي بخريبكة وجمعية السينما للجميع وفي كل مكان.
 عرفت الجامعة مشاركة أزيد من 110 يافعا ويافعة يمثلون مختلف قرى ومدن جهة بني ملال -خنيفرة إضافة إلى41مؤطرا وعملة وأعوان الحراسة والنظافة.تجدر الإشارة إلى أن جمعية الشعلة للتربية والثقافة بخريبكة تستغل فترة العطل المدرسية لتنظيم مثل هذه اللقاءات التي تندرج ضمن برنامج المكتب الوطني للجمعية الذي ينظم ملتقيات الربيع لهذه السنة تحت شعار:”الشباب والبعد الوطني للانتماء”.
اتسمت الجامعة الربيعية برزمة غنية من البرامج والفقرات ذات الطابع التكويني والترفيهي التي تعتمد على مواكبة حاجيات وانتظارات اليافعين ،إضافة إلى انشطة رياضية وفنية لاكتشاف المواهب والطاقات،كما استفاد المشاركون من سلسة من العروض النظرية وورشات موضوعاتية حول ثقافة الصورة(ورشة القراءة الفيلمية +ورشة النادي السينمائي+ورشة السيناريو والمونطاج)ولقاءات مفتوحة مع أعضاء النادي السينمائي بخريبكة وأبطال فيلم بولنوار،حظي المستفيدون بالجامعة مشاهدة أفلام طويلةوقصيرة ،وقد عرفت  قاعة المركب الثقافي مساء يوم الخميس 7أبريل 2016 عرض شريط بولنوار لمخرجه حميد الزوغي وذلك في إطار الإحتفاء بالعمل السينمائي المحلي الذي شارك في تشخيصه نخبة من الفنانين المحليين ،وتوجت الأنشطة المبرمجة في الجامعة الربيعية بإنتاج فيلم قصير تحت عنوان”حذاء زينب” ،ساهم في إنتاجه وإخراجه  كل من الناقدين السينمائيين حسن وهبي ومحمد بدرنة وتصوير ومونطاج سلوى لحمامي ومصطفى الصلعي وتشخيص يافعات ويافعي الجامعة الربيعية.
تم اختتام هذه الملتقى التربوي بتنظيم سهرة ختامية سهر على أداء فقراتها أطر جمعية الشعلة والمشاركين والمشاركات في الجامعة الربيعية بحضور آباء وأمهات المستفيدين والمستفيدات وممثلي وسائل الإعلام المحلية.
محمد وحلي

الأربعاء، 30 مارس 2016

نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس : قراءة في المنطلقات والأبعاد :بقلم نورالدين علوش

عن موقع مؤمنون بلا حدود



مقدمة:
يعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من رواد الفلسفة وعلم الاجتماع على مستوى العالم،كما أنه يمثل الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية.
تتنوع كتاباته بين الفلسفة والسوسيولوجيا والايتيقا، بالإضافة إلى مئات الأبحاث والمقالات المنشورة في كبريات المجلات والجرائد الدولية. من بين الكتب والدراسات المعروفة عالميا، نجد على سبيل المثال لا الحصر : "ملامح فلسفية وسياسية، الخطاب الفلسفي للحداثة، أخلاقيات المناقشة، الحق والديمقراطية، الاندماج الجمهوري، الأخلاق والتواصل ونظرية الفعل التواصلي".
ويعد كتاب نظرية الفعل التواصلي أهم كتاب في مشروعه الفلسفي؛ فهو كتاب يتوج مجهودات هابرماس في فترة الستينيات والسبعينيات، ويجمع مرجعيات فلسفية وسوسيولوجية وعلمية ولغوية مختلفة.
إذن، ما هي المنطلقات السوسيولوجية والفلسفية والعلمية لنظرية الفعل التواصلي؟ وما هي أبعادها السياسية والاجتماعية والأخلاقية؟
·لايمكن استيعاب مشروع هابرماس الفلسفي دون الرجوع إلى منطلقاته السوسيولوجية والفلسفية والعلمية.
ـ المنطلقات السوسيولوجية
أولا : ماكس فيبر
خصص هابرماس لماكس فيبر أكثر من مائة صفحة في كتابه "نظرية الفعل التواصلي"، حيث اهتم هابرماس أساسا بسوسيولوجيا فيبر،انطلاقا من طرح وتحليل مسألة وصيرورة عقلانية/عقلنة للعلم الحديث والمعاصر. فهذه العملية التاريخية والمعقدة والممتدة التي بدأت وتعمقت في الغرب، وامتدت إلى دول العالم، تحمل في طياتها عناصر الضعف والسلب وعناصر القوة والإيجاب : فهي من جهة وضعت الإنسان في مقام القدرة والسيطرة والكشف ( نزع السحرعن العالم)، ومن جهة أخرى حولت الفرد إلى أسير وأداة عقله نفسه. ومن هنا جاءت نزعة التشاؤم والسلبية إزاء مسيرة الحضارة الغربية، كما تتراءى في سوسيولوجيا فيبر مقابل تعمقها في فلسفات معاصرة، مثل نيتشه وفوكو وهيدغر وليوطار..
ولتجاوز هذه النزعة العدمية والتشاؤمية، يعيد هابرماس قراءة وتأويل سوسيلوجيا فيبر: ونقطة انطلاقه هي إبرازه لخاصية المعنى والقصد للفعل الإنساني كما يؤكدها فيبر، فليس كل فعل إنساني هو نشاط جدير بالاهتمام السوسيولوجي باستثناء ما له معنى مرتبطا بقصد الفاعل صريحا أو ضمنا. وبالرغم من وقوع هذا التحديد الفيبري للفعل الاجتماعي مقترنا بالمعنى والقصد في دائرة فلسفة الوعي، يلاحظ هابرماس تضاربا لدى فيبر فيما يخص مضمون هذا الفعل في حد ذاته: فمن جهة هو مرتبط أصلا وحصرا بفاعل معزول وبعينه، ومن جهة أخرى هو علاقة لا يمكن أن تغيب بالكامل حضور الآخر. في الحالة الأولى يحسب الفاعل أنانيا من أجل نجاحه الشخصي المحض ( فعل أداتي)، وفي الحالة الثانية يحضر الآخر ضمن حساب استراتيجي لبلوغ القصد المخطط له ( فعل استراتجي). والنتيجة واحدة، هي: البحث عن النجاح والسعي لتحقيقه. في المقابل يطرح هابرماس نوعا آخر من الفعل الاجتماعي أسماه الفعل التواصلي الذي لا يبحث عن مجرد النجاح الشخصي فقط، بل تحقيق التفاهم عن طريق الحوار.
ثانيا : هربرت ميد
تأثر هابرماس بالكثير من علماء الاجتماع الأمريكيين، ومن بينهم السوسيولوجي هربرت ميدالذي أخذ عنه فكرة دور الآخر في تشكل الأنا. إذ يعتبر ميد أن الذات تنشأ وتتطور مجتمعيا من خلال عملية التفاعل الاجتماعي؛ إذ يبدأ الفرد بالتعرف على ذاته من خلال آراء الآخرين فيه، ومنذ السنوات المبكرة من حياته وتحديدا من خلال عملية اللعب التي يقوم بها، محاولا تقمص العديد من الأدوار المختلفة؛ فمسألة القيام بدور ما لا يتطلب معرفة الدور فقط، بل ما يتوقعه الآخرون من هذا الدور أيضا. (1)
فالفرد "الذي يريد أن يقيم علاقة عملية مع ذاته يؤكد من تلقاء نفسه أنه ليس فقط كائنا مستقلا، وإنما متفرد، وأنه قادر على اتخاذ الموقف الذي يمكنه من تحقيق التوافق التذاوتي، أضف إلى ذلك إمكانية تحقيق مثل هذا التأكيد الأخلاقي للذات يكون مضمونا من خلال علاقة الاعتراف المتبادل الذي تلتقي فيه الأنا مع الآخر في أفق القيم والغايات.(2)
ثالثا: تالكوت بارسونز
استفاد هابرماس من السوسيولوجي بارسونز في معالجته لإخفاقات منهجيات التأويل، وذلك في تشخيصه للطريقة التي تفرض بها خارجيات المجتمع البنيوية كالاقتصاد والسياسية. وكيف أنها تقتحم العوالم الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين، وذلك باستعمار العالم المعيش. ولاشك بأن هذا هو المهم بالنسبة لهابرماس، إذ إنه يجب نقل الاهتمام من حيز الافتراضات المنهجية التي يجب أن تستخدم في دراسة العالم الاجتماعي إلى حيز الاهتمام بكيفية عمل العالم الاجتماعي نفسه.(3)
وتجلى ذلك عند هابرماس في فهمه لعلاقات العالم الاجتماعي على أنها متكونة من نظام وعالم حياة، ويجب أن "ينظر إلى النظام على أنه ينبع جوهريا من عالم الحياة؛ بمعنى أن المجتمع هو نتاج للتفاعل الإنساني بين الذوات والعالم الخارجي على السواء".(4)
ـ المنطلقات الفلسفية
أولا: ماركس
يعتبر ماركس من المرجعيات الفلسفية المهمة في فكر هابرماس بصفة خاصة، ولدى مدرسة فرانكفورت بصفة عامة .
لكنه تجاوزه لاحقا، وخاصة في كتابه ما بعد ماركس، حيث كان العمل الاجتماعي في نظر ماركس ليس هو ما يمنح الإنسان إنسانيته فحسب، ولكنه هو أيضا ما يخلق شروط إعادة إنتاج الواقع عبر إدراكه المعرفي ( نظرية المعرفة)، والتأثير عليه ( نظرية الممارسة). وهذا ما يمكن نعته بالشروط الترانسدتالية لموضوعات المعرفة والتجربة المؤطرة والمندرجة في سياق بناء تاريخي للإنسان والمجتمع. وعليه تحضر اللحظة الكانطية هنا بالشكل الذي لا يمكن تجاوز محدودية الذات الترنسدتالية إلا بانحلالها، ليس ضمن تركيبة كلية تتماهى فيها الذات مع الموضوع ( هيغل)، ولكن ضمن شروط العمل الإنساني المنتج للعالم المادي؛ انطلاقا من أن شروط هذا العالم المادي نفسها هي ما يحدد شروط العالم الإنساني نفسه.
وهنا يتدخل هابرماس، وهو يعيد بناء المادية التارخية سوسيولوجيا للتمييز بين العمل والتفاعل : فليست فقط القيم المادية ( الاقتصادية ) هي ما ينتجه الناس ويتبادلونه ( مجال العمل الاجتماعي )، ولكن هناك أيضا قيم معيارية رمزية تخضع لنفس فعلي الإنتاج والتبادل، هو مجال التفاعل (5)، وأخذ المجالين معا هو ما يشكل لب إعادة التأسيس الهابرماسي للمادية التاريخية في صيغتها الكلاسيكية.
ثانيا: هيغل
استطاع هابرماس الاستفادة من فلسفة هيغل خاصة محاضراته في جامعة ايينا، حيث وجد هابرماس ضالته في التحديد الهيغلي للذات التي يعتبرها "كمن يجد تعريف نفسه في الآخر"(6)، وهي بذلك اكتساب للمعنى في منطق تأملي ومتناظر. إن هذه العلاقةمن الآخر إلى الذات ومن الذات إلى الآخر ( الاعتراف المتبادل) ليست تمثلا للما بين ذاتية؛ لكن طريقة للتنشئة الاجتماعية. فهذا الاعتراف ما بين الذوات، يجد تحققه في جدلية السيد والعبد في ظاهريات الروح عند هيغل.
فالإنسان يتعرف على ذاته بالآخر، ومن خارج ذاته، لأنه لا يستقبل إحساسه بكونه مكتملا إلا بكونه يستقبل ذات الآخرين كذلك. إن الهوية تتم بالعودة إلى الموضوع انطلاقا من الذات، والاعتراف بالموضوع / الذات مرادف للاعتراف بنفسه في الموضوع أو إنكاره، ومن هنا أهمية الحوار كتفاعل يركز عليه هابرماس. (7)
ثالثا: هوسرل
وظف هابرماس فكرة العالم المعيش في نظريته التي استقاها من هوسرل رائد الفنومنلوجيا، حيث يميز هوسرل بين نوعين من الحقائق، وبين نوعين من العوالم. فهناك حقائق العالم المعيش، وهناك أيضا حقائق العالم الموضوعي: فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وخبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة. أما حقائق العلوم الموضوعية، فهي كونية غير ثقافية ولا تتعلق بمحيط ثقافي معين، ومسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان؛ بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود، مثلما في حياة الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي؛ فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان، ويتعلق بالإنسان وببيئته الثقافية والجمعية. (8)
رابعا: كانط
استفاد هابرماس كثيرا من كانط، سواء على المستوى الأخلاقي أو السياسي على المستوى الأخلاقي وظف هابرماس مفهوم الكلية الأخلاقية لتأسيس أخلاقيات المناقشة بديلا عن أخلاقيات الواجب وأخلاقيات المنفعة.لكن ذلك لم يمنعه من انتقاد كانط بتأسيسه للأخلاق على الذات وحدها، ليطرح التذاوت بديلا لفلسفة الوعي القائمة على الذات. أما على المستوى السياسي، فقد وظف هابرماس مفهوم الفضاء العمومي ( كانط) في كتاباته ( التحول البنيوي للفضاء العمومي )، ولطرح نظرية الديمقراطية التشاورية. بالإضافة إلى تأثره الواضح بمشروع كانط حول السلام الدائم، ودعوته إلى مواطنة كوسومبوليتية.
خامسا: فلسفة اللغة مع أوستين وسيرل وفيتنغشتين
أثناء بحث هابرماس عن أدوات علمية قد تساعده في عملية إعادة البناء، ستقوده الصدفة هذه المرة إلى إحدى الواحات الخضراء في صحراء الفلسفة التحليلية – الكلام هنا لهابرماس- يتعلق الأمر بالفلسفة التحليلية الأنغلوسكسونية، وبالتحديد فلسفة اللغة العادية الما بعد فيتنغشتينية، مع كل من أوستين وسيرل وستروسمان.
والحال هذه، فإن هابرماس سيعتبر نظرية أفعال الكلام في صيغتها أوستينية وسيرلية ابتكارا رائعا، ذلك أنها تركيب بين اللغة من جهة والفعل من جهة ثانية(9). وعليه، فإن هابرماس سيستعير التمييز المهم الذي وضعه أوستين بين أفعال الكلام التقريرية والإنجازية، كما سيعمل على إعادة صياغته.
وبعد قيامه بتعديلات من داخل نظرية أفعال الكلام، سينتقل هابرماس إلى إعادة بناء النظريات السوسيولوجية التي سجلها، ولنقف الآن عند النظريات الليبرالية والنفعية للعقلانية والفعل الاجتماعي.
توجه فعل / وضعية فعلموجه نحو نجاحموجه نحو تفاهم
غير اجتماعيفعل أداتي
اجتماعيفعل استراتيجيفعل تواصلي
إن الفعل الأداتي يتوجه نحو تحقيق النجاح من خلال السيطرة التقنية على العالم الموضوعي، لهذا فإنه لا يعتبر فعلا اجتماعيا، لكونه لا يتم عبر وسيط اللغة، وبالمقابل يعد الفعل الاستراتيجي هو الآخر فعلا أداتيا، على اعتبار أنه يسعى إلى تحقيق النجاح، مع فارق أنه يتم عن طريق اللغة. وبما أن الفعل الاستراتيجي فعل يتم عبر وسيط اللغة، فإن نموذج العقلانية والفعل الاجتماعي اللذين تقدمهما النظريات الليبرالية المنفعية تبقى نماذج أحادية الجانب واختزالية. ورغم أن هابرماس يقر بأن الفعل الاستراتيجي فعل اجتماعي، إلا أنه فعل يميزه عن الفعل التواصلي، لكون الأول يرتبط بتحقيق النتائج والمصالح، بينما الثاني يسعى إلى تحقق التفاهم.
ـ المنطلقات العلمية:
بياجيه وكولبرغ
شكلت الأبحات العلمية لبياجيه وكولبرغ مرجعية علمية مهمة لهابرماس، لإعادة بناء الفلسفة الماركسية قصد فهم طبيعة الصراعات والتفاعلات الاجتماعية داخل المجتمع؛ فهذه الأبحاث توضح مراحل تطور الوعي الأخلاقي التي توافق مراحل أهلية التفاعل. ففي المراحل العرفية القبلية، حيث ترك الأفعال والذوات، باعتبارها تنتمي إلى المستوى الوحيد للواقع، لا تقدر عندما يحدث نزاع إلا بنتائج الفعل. ففي المرحلة العرفية يمكن أخذ الدوافع بعين الاعتبار بمعزل عن النتائج المباشرة للفعل. فما هو محدد هو الامتثال لدور اجتماعي معين ونظام من المعايير القائمة. في المرحلة الما بعد عرفية تفتقد أنظمة المعايير صلاحيتها شبه الطبيعية، وتحتاج هذه المعايير إلى أن تبرز حسب التصورات ذات النزعة الكونية. (10)
الأبعاد:
لنظرية الفعل التوصلي لهابرماس أبعاد وامتدادات داخل الحقل الاجتماعي والسياسي والأخلاقي.
-البعد الاجتماعي: لتجاوز الفعل الأداتي، أبدع هابرماس مفهوم الفعل التواصلي لمحاولة تنمية البعد الموضوعي والإنساني للعقل. إنه فاعلية يتجاوز العقل المتمركز حول الذات والعقل الشمولي المنغلق، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع. فالعقل لم يعد جوهرا سواء أكان الجوهر ذاتا أو موضوعا، بل فاعلية ؛ فالفعل التواصلي صاغه هابرماس لمحاولة بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عمومي ينتزع فيه الفرد جانبا من ذاتيته ويدمجها في مجهود جماعي قائم على التواصل والتفاهم، وهذا التفاهم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال اتفاق مؤسس على أساس عقلاني.
كما جاء الفعل التواصلي لتجاوز العلاقات الاجتماعية القائمة على الإكراه والهيمنة ( الفعل الاستراتيجي) لبلورة علاقات اجتماعية سليمة، قائمة على الحوار والنقاش في أفق تحقيق إجماع .
-البعد الأخلاقيفبعد أفول الأخلاق الدينية والتقليدية في الغرب، جاءت أخلاقيات النقاش لتطرح البديل؛ فإخضاع الآراء والقناعات والاختيارات للنقاش شرط لتحقيق الموضوعية والنزاهة والاتفاق، وبذلك يصبح في الآن شرطا لاجتناب العنف اللفظي والمادي والحروب والاستبداد.
ليست أخلاقيات النقاش مذهبا ولا نسقا من القيم والمعايير، بل هي كما يقول ابل إجرائية تراسندنتالية تجمع شروط مناقشة أطروحات ومبادئ عملية في المجال الأخلاقي والسياسي بحثا عن امتحان مشروعيتها ومعقوليتها وصلاحيتها.
وتجدر الإشارة إلى أن لأخلاقيات المناقشة أربعة افتراضات أساسية :
أولا: ضرورة توفرها على المعقولية التي يتم إنجازها بفعل جملة مركبة تركيبا صحيحا، تحترم قواعد اللغة المستعملة.
ثانيا: يتعلق الأمر بحقيقة مضمون القول التي تضمن وظيفيا وصف حالة واقعة مجردة وغير مستوحاة من الخيال.
ثالثا: يتعلق الأمر بمصداقية التلفظ، باعتبارها وظيفة لإقامة علاقة مستقيمة ما بين الأشخاص، ويتكفل هذا الادعاء بموضوع تطابق الفعل اللغوي مع مقتضيات مخطط معياري سابق معترف به من طرف المجتمع.
رابعا: يتعلق الأمر بصدقية ما يقال بالقدر الذي يسمح به للمتحدث بالتعبير عن نوايا محددة، وبطريقة صادقة بعيدة عن الكذب والتضليل.
تنحدر هذه المبادئ الأربعة من "الحالة المثالية للكلام"، وللشروط الصافية لخطاب يتوخى احترام معايير الصدق الصارمة، أو ما يطلق عليه جماعة التواصل غير المحدودة عند هابرماس، وهي صورة المجتمع الذي يتواصل فيه أعضاؤه بطريقة سليمة. ويمكن إجمالا اعتبارها شروطا لا يستقيم من دونها تواصل عقلاني بين المتحدثين.(11)
-البعد السياسي : لتجاوز أزمات العالم المعاصر ونواقص الديمقراطية التمثيلية، يسعى هابرماس إلى " تأسيس ديمقراطية على أسس جماعية مثالية للتواصل، خالية من أية هيمنة أو سيطرة، ما عدا أفضل حجة. كما أنه يطرح مفهوم التشاور الذي يعتبره جوهريا في ديمقراطيته التشاورية، لأنه في التشاور يعطي للآخرين الحق في الكلام والنقد ورفع ادعاءات الصلاحية وتقديم اقتراحات جديدة بخصوص القضايا المطروحة للنقاش في الفضاء العمومي، وفي ظل هذه الصيرورة الخطابية المؤسسة على النقاش، يتشكل الرأي العام والإرادة السياسية للمواطنين في المجتمع الديمقراطي، لأن الهدف الأسمى للديمقراطية التشاورية ليس الدفاع عن المصالح الشخصية لأعضاء الجماعة؛ وإنما هو الدفاع عن المصالح العامة. هذه الأخيرة كل واحد مطالب بالدفاع عنها، انطلاقا من وجهة نظره الخاصة، وذلك لإقناع المواطنين برأيه بالاعتماد على وسيلة المناقشة الحجاجية.(12)
خاتمة :
بالرغم من كل الانتقادات الموجهة إلى نظرية هابرماس، فلا يزال يتربع على عرش كبار الفلاسفة في العالم المعاصر.
ونحن في العالم العربي، لا يسعنا سوى الانفتاح على مشروع هابرماس نظرا لغنى وتنوع إنتاجه من جهة، ومن جهة أخرى مواكبته للأسئلة المعقدة للإنسان المعاصر. فما أحوجنا اليوم إلى الانكباب على إنتاجات هابرماس! خاصة في تنظيره للتواصل والفضاء العمومي والحداثة والمواطنة لتبيئتها وتعميقها في المجتمعات العربية.
والآن بعد تباشير الربيع العربي:هل نحن قادرون على بناء مجتمع ديمقراطي حداثي قائم على أخلاقيات الحوار والمناقشة، لا على العنف والصراع ؟ وهل نحن قادرون على إدارة اختلافاتنا الإيديولوجية والإثنية واللغوية ؟
تلكم بعض الأسئلة التي لن تجيبنا عليها سوى الأيام القادمة؛ فهل نكون في مستوى تطلعات شعوبنا ودماء شهدائنا؟.
الهوامش:
1- كمال عويسي، دراسة في النظريات التربوية المعاصرة، معهد العلوم الإنسانية المركز الجامعي بغرداية الجزائر ص 2008-2009 ص 5
2- كمال بومنير، النظرية النقدية من هوركهايمر إلى هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف 2010 ص 152
3- علي عبود المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة، منشورات الاختلاف ودار الأمان الطبعة الأولى 201 ص 56
4- م س ص 56
5- حسن المصدق، هابرمس ومدرسة فرانكفورت، المركزالثقافي العربي الطبعة الاولى 2005 ص 109
6- م س ص 134
7- م س ص 135
8- م س ص 139
9- حمزة الخليفي، عرض حول ماكس فيبر، ماستر فلسفة التواصل بتطوان موسم 1011-1012ص 15
10- محمد الأشهب، مذهب التواصل في الفلسفة النقدية لهابرماس، أطروحة دكتوراه جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس موسم 2006- 2007 تحت إشراف الدكتور لحكيم بناني ص 316
11-حسن المصدق م س ص 146
12- محمد الأشهب، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، دفاتر سياسية مطبعة النجاحالمغرب 2006 ص 195-196