الأربعاء، 12 أبريل 2017

العنف الرقمي سعيد يقطين



أفتح بين الفينة والأخرى بعض مواقع التواصل الاجتماعي لمتابعة ما يجري فيها من نقاشات، للتعرف على الجديد، أو الاطلاع على ما يصلني من رسائل. تبين لي، من خلال المتابعة، أن ما أسميته «الإحماض» سائد في العديد من الرسائل المتوصل بها. فأضحك وأشارك. ولما كان نادرا ما تصلني معلومات جديدة ومفيدة، استنتجت أن ذلك الإحماض لا يوازيه، كما ونوعا، سوى العنف وخطابه.
وفي بعض الفترات التي يهيمن فيها حدث طارئ يثير تناقض التصورات وتعددها لا أجد نفسي إلا مكرها على عدم متابعة ما يجري. فما كان ضحكا مستحبا، مع الإحماض، يصبح حزنا وتقززا مع العنف.
بين الضحك الذي يولده الإحماض، والحزن الناجم عن العنف مسافة ضيقة، فهما دالان لمدلول واحد: رد فعل تجاه حدث، يعكس ذهنية اجتماعية ونفسية مشتركة. فعندما يكون حدث سياسي أو اجتماعي ما مثيرا لردود أفعال أجدني أمام صور وتعليقات، أو فيديوهات تعرض خطابات «غرائبية» لسياسيين أو وعاظ؟ لا يمكن سوى أن تدفع إلى الابتسام الذي يخفي سخرية، أو الضحك الذي يوصل إلى الانفجار. وبإزاء حدث آخر، أراني أتابع تعليقات طويلة هدفها الإقناع والإفحام، ويكون الصوت والصدى، فلا تشتم من وراء الخطاب إلا القذف والشتم والتحقير والتشهير.
إن نشر خطاب أو صورة من أجل إثارة «الضحك» أو السخرية، أو التعليق على حدث أو خطاب من خلال «القذف» لا يعنيان سوى شيء واحد: تفريغ شحنات مكبوتة، ننفجر عبرها في وجه ما يزدحم به واقعنا الذي نعجز عن الفعل فيه. إننا بذلك نمارس نوعا من الانتقام الذي نبحث فيه عن نوع «العزاء» مما نعاني منه من احتقار وسوء اعتبار في حياتنا المزرية، وليس السباب والشتم سوى وجه آخر للضحك والسخرية. فكما نتحدث مع إنسان، قد نتحدث عليه. وكما نضحك مع إنسان قد نضحك عليه. فإذا كانت «مع» تعني «التواصل» على قدر المساواة، ولكل بيانه في التبيين عن مواقفه؛ فإن «على» لا تدل إلا على «التنافر» الذي نسعى من خلاله التقليل من الآخر، وممارسة العنف عليه، عبر تسفيه خطابه والدعوة إلى محوه.
فعل التواصل دال على الحوار، أما التنافر فقائم على الإلغاء. وما دامت علاقاتنا غير مبنية على التواصل والحوار، فإن التنافر والإلغاء يصبحان قاعدة تعاملنا مع أنفسنا ومع الأشياء من حولنا. فلا نكون إلا أمام العنف والعنف المضاد اللذين يتخذان صورا وأشكالا لا حصر لها. وهذا العنف نمارسه في الحياة الواقعية والافتراضية أيضا، مع تأكيد أن الواقع الافتراضي يتيح مساحة أكبر مما يحتمله الواقع الآخر، الذي يفترض المواجهة المباشرة والحضور العيني، مما يجعلنا أمام بروز ظاهرة العنف الرقمي.
قبل ظهور الوسائط الجديدة، كانت النكت تُسرَد في المجالس السرية، وكان العنف اللفظي يتم في غياب المتحدث عنه، لكن الوسائط الجديدة، أتاحت للجميع إمكانية تقديم أي خطاب، على مسافة، وبكيفية غير مرئية، فأفسحت المجال على مصراعيه أمام المكبوتات لتنفجر بالأشكال التي يضيق عنها الوصف، فكان العنف الرقمي واحدا من أهم ما تحقق في الفضاء الشبكي من خلال هذه المجالس الافتراضية.
تطالعني، أمثلة كثيرة من هذا العنف الذي تستفرغ فيه، من خلال اللغة، كل ما تختزنه الذوات من احتقان يفرضه الواقع الذي نعيش فيه، وبدل التواصل مع واقعنا بالكيفية التي تمكننا من فهمه والمشاركة في تغييره، نعبر عن رفضنا له بطرق ملتوية: ممارسة الإحماض والعنف. ومن خلالهما قد نتوهم أننا نحقق نوعا من الانتقام لأنفسنا مما يجري، لكننا في واقع الأمر لا نعمل إلا على تكرسيه بصورة أشد، ونعمل على إدامته بطريقة لا تُحد.
ما أكثر الأمثلة التي تطالعنا بخصوص هذا العنف الرقمي، وهو يتسع لخطابات متعددة تتعلق بمختلف نواحي الحياة، من الرياضة إلى السياسة، مرورا بالاجتماع والثقافة والاقتصاد، حدثت ضجة إعلامية في بعض وسائل الإعلام المصرية بسبب زيارة الشيخة موزة القطرية إلى أهرام البجراوية في السودان. يبدو الحدث بسيطا. أميرة قطرية تزور أهراما في السودان. واكب الإعلام المصري الحدث بتأويلاته الخاصة، ينتقل الخبر من الإعلام السمعي البصري إلى المجالس الافتراضية محملا بالاحتقان، فينتقل الاختلاف بين نظامين إلى الخلاف بين شعبين. صارت الاختلافات بين البلدين المتجاورين في وطننا العربي مناسبات لتهريب المشاكل الداخلية إلى الخارج، ويلعب الإعلام الرسمي دورا كبيرا في تغذية هذه الخلافات. وما دمنا لا نستوعب جيدا هذه القاعدة، يجرنا «الحماس» القطري إلى تفجير مكبوتاتنا التي يفرضها علينا واقعنا في المجالس الافتراضية، فنوسع دائرة الحديث «على»، والضحك «على» الآخر، وقد صار الشعب، فنستعمل كل ما تختزنه لغتنا وذاكرتنا وتاريخنا من عنف فنقذف به، معبرين ليس على ما يدور حولنا، ولكن حول ما يقال «علينا».
من خلال متابعتي لما كتب، انتابني حزن شديد بسبب ما صار يقال «على» الشعبين المصري والسوداني من لدن السودانيين والمصريين معا. واستخلصت أن العنف ضد الآخر لا يقل عنفا عما يمارس على الشعوب.

___
*القدس العربي

الدوافع الأربعة الأساسية المحركة لسلوك البشر – برتراند راسل





خطاب جائزة نوبل العظيم لبرتنارد راسل: عن الدوافع الأربع الأساسية المُحرّكة لسلوك البشر.

ماريا بوبوفا

ترجمة: لولوة الشدوخي

 ” لا يوجد في العالم ما هو أكثر إثارة من لحظة اكتشاف مفاجئ أو لحظة ابتكار، العديد من الناس قادرون على تجربة مثل هذه اللحظات أكثر مما نظن أحيانا “

يعد برتنارد راسل (18 مايو 1872_ 2 فبراير 1970) من أكثر العقول البشرية اللامعة المشرقة. إنه المبشر للحكمة الخالدة في كل المجالات. له مؤلفات عدة في الرياضيات والفلسفة والمنطق والهندسة والتاريخ والعلوم الانسانية. في عام 1950 تم منحه جائزة نوبل للآداب نظير كتاباته المتنوعة والجليلة والتي دافع فيها عن المثل الانسانية وحرية الفكر.

في الحادي عشر من ديسمبر من ذلك العام، اعتلى راسل المنصة في الثامنة والسبعين من عمره لتلقّي الجائزة الكبرى، وليلقي خطابا هو من أحسن الرسائل الي تم إلقاؤها في الفكر الانساني على الاطلاق.

يستهل بذكر الدافع الرئيسي المحرك للسلوك البشري فيقول راسل: “جل النشاط البشري مدفوع بالرغبة. هناك نظرية زائفة كلّيا يطرحها بعض الأخلاقيون المخلصون مفادها أن من الممكن مقاومة الرغبات عن طريق تنمية الإحساس بالواجب والمبادئ الاخلاقية، وأنا اقول أن هذه مغالطة. ليس لأنه لم يتصرف أحد قط من منطلق احساسه بالواجب بل لأنه لم يكن للواجب عليه أي سلطة سوى أنه “رغب” بأن يكون كذلك. إذا أردت أن تعرف كيف سيتصرف البشر، يجب أن تنظر ليس فقط إلى ظروفهم المادية، بل إلى منظومة رغباتهم برمتها، إلى جانب قواهم النسبية.

[….]

  ” يختلف الانسان عن الحيوانات الأخرى من ناحية مهمة جدا، وهي أن الانسان لديه رغبات-  لنقل أنها غير محدودة – ولا يمكن إشباعها بالكامل، إنها تبقيه قلقا حتى لو تواجد في الجنة. إن الأفعى العاصرة على سبيل المثال تخلد إلى النوم عندما يتوفر لها الغذاء الكافي ولا تستيقظ حتى تكون بحاجة إليه مرة أخرى، بينما البشر في أغلب الأحيان ليسوا كذلك!! “

  يحدد راسل أربعا من تلك الرغبات اللامحدودة وهي حب التملك، التنافس، حب الظهور وحب السلطة، ويفصلها بالترتيب:

 ” حب التملك؛ وهي الرغبة في أن يمتلك الإنسان أكثر ما يمكن من المتاع أو طلب الحق في التملك. هذه الرغبة كما أفترض أصلها نابع من الخوف، إلى جانب الحاجة إلى الضروريات. ذات مرة، قمت برعاية فتاتين من إستونيا. هربتا من الموت بأعجوبة بسبب المجاعة. عاشت الفتاتان مع عائلتي، وبالطبع كان هناك الكثير ليأكلانه. إلا انهما كانتا تقضيان وقت فراغهما بزيارة مزارع الجيران وسرقة محصولهم من البطاطس. روك فيلر والذي عانى في طفولته من فقر مدقع، قضى حياته في كِبره بطريقة مشابهة!!  “

” بغض النظر عن كثرة ما تمتلك، ستكون متطلعا دائما لامتلاك المزيد. الاكتفاء هو حلم سيستعصي عليك دائما “.

تكلم عن هذا الدافع الاساسي بوضوح هنري ميلر 1938 في تأملاته الرائعة عن المال وكيف أنه قد يتحول الى هوس بشري. وهذا ما اصطلح عليه علماء النفس المتأخرين بعد عقود عدة تحت مسمى (الحلقة المفرغة للسعادة). بالنسبة لراسل يتلاشى هذا المحرك الاساسي (حب التملك) بدافع اقوى منه ألا وهو ميلنا للمنافسة:

سيصبح العالم هذا أكثر سعادة لو أن الرغبة في التملك كانت أقوى من المنافسة. لكن الواقع أن كثيرا من الناس سيواجهون الافتقار بسرور لو أنهم استطاعوا بالمقابل تأمين دمار شامل لمنافسيهم؛ ما يفسر المستوى الحالي من الضرائب.

هذا التنافس كما يزعم راسل مدفوع بالنرجسية البشرية. وفي إحساس عميق منه بما يحدث اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي، لاحظ:

إن حب الظهور دافع ذو قوة هائلة. أي أحد تعامل مع الاطفال كثيرا سيلاحظ أنهم دائما ما يمارسون تصرفات غريبة ليقولوا “انظر إلي”.

 “انظر إلي ” هي واحدة من أكثر الرغبات الجوهرية للقلب البشري، والتي تأخذ أشكالا لا حصر لها، ابتداء من تعمد التهريج إلى السعي وراء الشهرة بعد الموت.

” من الممكن المبالغة في تأثير حب الظهور على جميع مراحل حياة الإنسان. من الطفل ذي السنوات الثلاث وحتى الزعيم الذي يرتجف العالم لغضبه”

  لكن الباعث الاقوى من هذه الأربع كما يزعم راسل هو حب القوة: “قد يكون حب القوة والرغبة في السيطرة قريبا أو  مشابها لحب الظهور، لكنهما ليسا الشيء نفسه على الإطلاق. ما يحتاجه حب الظهور ليتحقق هو المجد.  ويمكن تحقيق المجد من دون قوة. يفضّل كثير من الناس المجد على القوة، إلا أن هؤلاء الناس هم في الغالب أقل تأثيرا على مسرح الأحداث من أولئك اللذين يفضلون القوة على المجد. إن القوة مثل الغرور؛ لا يمكن اشباعها. قليل من النفوذ التام لا يرضيها بالكامل. ولأنها رذيلة الرجال النشطاء، فان الفاعلية المسببة لحب السلطة تتعدى بكثير تأثير تداولها. إنها بالفعل أقوى الدوافع في حياة الرجال المهمين.”

حب السلطة يزداد بممارستها. وينطبق هذا على القوى البسيطة كما ينطبق على قوى الملوك.”

ويضيف قائلا: “في أي نظام استبدادي، يتحول أصحاب السلطة بازدياد إلى طغاة بفضل الشعور بالمتعة التي تمنحهم  إياها ممارسة السلطة. ولأن السلطة على البشر تجعلهم يفعلون مالا يرغبون بفعله، يصبح الرجل المولع بحب القوة أكثر عرضة لإلحاق الألم بالناس من أن يسمح بالمتعة.”

لكن راسل- وهو المفكر ذو الحساسية الاستثنائية للفروق الدقيقة والازدواجية التي حُبكت منها الحياة- يحذر من اعتبار حب القوة دافعا سلبيا كلّيا.  ويشير إلى أنه من ذلك الدافع للسيطرة على المجهول، تزهر تلك المحبوبات، كالسعي نحو المعرفة والتقدم العلمي. يستعرض بعض هذه المظاهر المثمرة فيقول:” سيكون خطأ فادحا أن ندين كلّيًا حب السلطة كدافع.

“عندما يقودك هذا الدافع لأفعال خيّرة أو أفعال ضارة، ن هذا يعتمد على الوضع الاجتماعي وعلى مؤهلاتك. فلو كانت مؤهلاتك نظرية أو تقنية، فإنك ستساهم في المعرفة أو التقنية. بناء على هذا ستكون أفعالك نافعة. أما لو كنت سياسيا فلربما كنت مدفوعا بحبك للسلطة، غير أن هذا الدافع سيتمخض عادة عن رغبة في تحقيق بعض الشؤون- أنت ولبعض الأسباب- تفضلها على الوضع الراهن. “

يتحول راسل بعدها الى مجموعة ثانوية من الدوافع البشرية، ويبدأ بفكرة حب الإثارة:

” يُظهر البشر تفوقهم على سائر الحيوانات بقدرتهم على الملل. غير أنّي اعتقدت أحيانا- عن طريق ملاحظتي لبعض الثدييات في حدائق الحيوان – أنها قد تبدي ربما مقدمات لهذا الشعور بالضجر. إلا إنه بالتجربة؛ يتضح أن الهرب من الملل يعتبر واحد من أقوى الرغبات عند جميع البشر تقريبا.”

ويزعم راسل أن هذا الهوس بحب الأثارة قد تعاظم بسبب الطبيعة الخاملة للحياة المعاصرة، والتي مزقت الرابطة الطبيعية بين العقل والبدن. ويقول: ” إن تركيبة عقولنا تتناسب مع حياة شديدة العمل البدني. اعتدت في صغري على أن  أقضي وقت فراغي بالمشي، كنت أقطع ما يقارب الخمس وعشرين ميلا كل يوم، وفي المساء لم أكن بحاجة لما يبعدني عن الملل، كانت بهجتي بالجلوس تغنيني بشدة. لكن لا يمكن لهذه الحياة الحديثة أن تسير وفق هذه المبادئ الجسمية النشطة. جزء كبير من الأعمال هي أعمال ساكنة، ومعظم الأعمال المكتبية تمرّن عضلات قليلة ومحدودة. عندما اجتمعت الحشود في ساحة الطرف الأغر مبتهجين بقرار الحكومة بالحرب، لم يكونوا ليفعلوا ذلك لو أنهم مشوا خمسا وعشرين ميلا في ذلك اليوم. إنه وقبل كل شيء حب الأثارة الذي يجعل من الحشود تصفق لاندلاع الحرب، إنه بالضبط نفس الحماس أثناء متابعة كرة القدم. إلا إن هذا العلاج للعدوانية غير قابل للتطبيق، وإن أراد البشر البقاء على قيد الحياة، فلابد من تأمين منافذ بريئة لتلك الطاقة الجسدية المُعطّلة التي تنتج هذا الحماس. لم أسمع يوما بحرب سبقها رقصٌ في الصالات.”

 “صارت الحياة المتحضّرة وديعة جدا. وإن كان لها أن تستقر، فلابد من توفير متنّفس غير ضار لتلك الدوافع التي كان أسلافنا يروّضونها بالصيد… أعتقد أنه يجب أن تحتوي كل مدينة كبرى على شلالات اصطناعية يستطيع الناس النزول اليها عبر قوارب صغيرة، ويجب أن تحتوي أيضا على أحواض سباحة مليئة بأسماك القرش الميكانيكية. وأي شخص يؤيد حربا احترازية، فيجب إدانته بأن يبقى مع هذه الوحوش الاصطناعية لمدة ساعتين في اليوم. وأكثر جدية من ذلك، يجب إضافة عنصر الألم لنوفر متنفسا هادفا لحب الإثارة هذا، لا يوجد في العالم ما هو أكثر اثارة من لحظة اكتشاف مفاجئ أو لحظة ابتكار، العديد من الناس قادرون على تجربة مثل هذه اللحظات أكثر مما نظن أحيانا. “

المصدر: موقع حكمة

لماذا أدرّس الطلبة المسلمين نظرية التطوّر د. رنا الدجاني


 عن الاسلام و العلم 



إن تشجيع الطلبة على تحدي الأفكار أمر حاسم في محاولة إخراج جيل من العلماء المسلمين الذين يتمتّعون بحرية في الفكر
إن بعض المواقف الإشكالية التي تتّسم بها المجتمعات الإسلامية اليوم تجاه العلم الحديث قد تم تبنّيها من جراء عمليّتي العولمة والتحديث السريعين، ومن ذلك ما يتمثّل في رفض نظرية التطوّر. ولكنّ الأمر ذاته ينطوي على فرصة يمكن استثمارها.
أنا أدرّس نظرية التطوّر لطلاب الجامعات في الأردن. وأجد جميعهم تقريبا رافضين للفكرة في البداية. ففي الغالب يكون معلموهم في المدارس قد تجاهلوا النظرية أو تجاوزوا عنها. ومع ذلك، فإن لدى معظم الطلاب استعداداً لمناقشة نظرية التطور، ومع نهاية الفصل الدراسي، تكون الغالبية قد تقبّلت الفكرة.
وإذا كان بإمكان الطلاب المسلمين تحدي الأفكار التي تلقّوها حول مثل هذا الموضوع الأكاديمي المثير للجدل، فإنه يمكنهم أيضا مقاربة جوانب أخرى من حياتهم من خلال التفكير والتساؤل – وليس فقط القبول الأعمى للوضع الراهن. وهذه الأدوات والاتجاهات التفكيرية ذات أهمية حاسمة لتطوير شخصياتهم ولجعلهم مواطنين مسؤولين.
عودة الى تدريسي، يشعرالطلاب في صفوفي بالصدمة في كثير من الأحيان! أنا أرتدي الحجاب، ما يعني أنني ملتزمة دينياً، ولكنهم يسمعونني أؤيد نظرية التطور باعتبارها آلية تشرح تنوّع وتطوّر الأنواع، وأشير إلى تشارلز داروين بصفته عالماً ساهم في فهمنا لظهور الحياة وتنوّعها على الأرض. وأنا في أغلب الأحيان أول شخص مسلم التقوه يقول مثل هذه الأشياء.
وقد اشتكى بعض الطلاب لمسؤولي الجامعة أنني أدعو بما يعارض الإسلام، ولكنّ المسؤولين أبدوا رضاهم تجاهي عندما كنت أثبتت لهم أن نظرية التطوّر هي في الكتب الدراسية المعتمدة في الجامعة، وأن ما أدرّسه في محاضرتي يأتي مباشرة من هذه النصوص. أنا أثني على الطلاب الذين اشتكوا، وذلك لشجاعتهم في الدفاع عما يعتقدون، وقد دعوتهم للجلوس ومناقشة ما يجول في خواطرهم.
وفي تدريسي، أقدم شرحا مفصلا للتطوّر الطبيعي للنبات والاستنبات الاصطناعي. وفي وقت لاحق، نناقش المقاومة التي تكتسبها بعض البكتيريا للمضادات الحيوية، ولقاحات الأنفلونزا وتطوير عقاقير فيروس نقص المناعة البشرية. بعد هذه المناقشات، فإنّ معظم الطلاب يكونون على استعداد لقبول التطوّر باعتباره آلية لظهور جميع الأنواع باستثناء البشر. فهنا يستشهد كثير منهم بآيات قرآنية يتم تفسيرها على أنّ آدم – وبالتالي كل البشر – قد تم خلقهم بشكل فوري. فتبقى مسألة التطوّر البشري من التابوهات، لأن الطلاب ليسوا على استعداد للتخلّي عن فكرة خلق البشر بشكل مختلف. ولكنني أذكّرهم أنّ المسلمين يجب أن يحذُروا من أن يكونوا متغطرسين، وأنّ البشر في الواقع هم فقط جزء من الخلق.
لقد قدّم علماء دين مسلمون، مثل حسين الجسر وأحمد مدحت في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كتابات تدعم التطوّر. بل وحتى قبل داروين، كان الجاحظ وغيره قد اقترحوا نظريات تطوّرية بدائية في القرن التاسع. وأشير لطلبتي أنّ هذا التناقض الظاهري ما بين قبول نظرية التطوّر والالتزام بالإسلام لم ينشأ إلا في القرن العشرين، عندما أصبحت أفكار داروين مرتبطة في الأذهان بحقبة
الاستعمار والإمبريالية، والغرب، والإلحاد، والمادية، والعنصرية. وقد اتخذ علماء الدين المسلمون تدريجيا موقفا ضد نظرية التطوّر، وبالتالي تبنّى الجمهور موقفهم. بل وقد اعتمد علماء الدين المسلمون حجج المسيحيين الداعين بالخلق المباشر، ناقلين بذلك الحرب الغربية بين العلم والدين إلى ساحة الإسلام.
ويجادل بعض من طلابي بأن قبول نظرية التطوّر يعني إنكار وجود الله. ولكن ما أقوله هو أنّ نظرية التطوّر لا تناقش أصول الكون. لا أحد يفهم بعد هذه البداية. بالنسبة لي، الله هو البداية. بعد ذلك، فإنّ قواعد المنطق والعلم وما أودع من سنن كونية هي ما قادت تطوّر الكون وما تزال.
ومن خلال تجربتي، أجد أن كثيراً من المسلمين سعداء بهذا الطرح. ولقد التقيت العديد من العلماء المسلمين المتّفقين مع رؤيتي، ولكن لا يصرّحون بذلك علنا خشية أن يتّهموا بإثارة المشاكل. وبعض علماء الدين يبدون تأييدا أيضا، ولكنهم يرغبون بالتدرّج في تغيير الآراء، حتى لا يتّخذ الجمهور مواقف دفاعية وبالتالي يكون التقدم بطيئاً.
وكعالمة مسلمة، فإنّ رؤيتي هي أنّ القرآن الكريم يدعو البشر للنظر والتدبّر في العالم وطلب المعرفة. لكنّ دور القرآن ليس إثبات المكتشفات والنتائج العلمية. فالعلم هو الذي يسمح لنا بالبحث والكشف عن الطرق التي يعمل بها العالم، بينما يوفر القرآن الكريم المبادئ التوجيهية الأخلاقية للقيام بذلك. وفي حالة حدوث تناقض ظاهري بين الحقائق العلمية وتفسيرنا للقرآن الكريم، فعلينا بالعودة إلى كلّ من العلم نفسه (الذي يتطور) وتفسيرنا للقرآن الكريم (وهو عملية ليست محايدة، إذ هي ممارسة إنسانية) للفصل في هذا التناقض. إن هذا النهج لهو عملية مستمرة وانسيابية، ويشكل جزءا لا يتجزأ من منهج الحياة لدى المسلمين.
وسواء قبل الطالب نظرية التطوّر البشري أم رفضها، فإنّ ذلك لا يشكّل فارقاً لدي في كيفية التعامل مع ورقة امتحانه من حيث الدرجات التقييمية. فنحن كمدرسين، هدفنا هو دفع الطلاب ليصبحوا مفكرين مستقلين. فأنا لا أريد لطلابي أن يكتبوا أنهم يتقبّلون نظرية التطوّر فقط لاجتياز الامتحان. بل إنّ ما أريده هو إظهارهم الحجة التي استخدموها للوصول إلى نتيجتهم، حتى لو كان هذا الاستنتاج يؤدي الى رفض التطوّر البشري. أما إذا فعلت خلاف ذلك، فأكون كالذين ينتقدون التطوّر: يفرضون رأيا معيّنا على الآخرين.
إنّ هدفي هو تعليم الطلاب كيفية تطوير منهجية عقلانية لتقييم العالم الطبيعي وللتوصل إلى آرائهم وفرضياتهم ونظرياتهم الخاصة، وليس النقل والنسخ عن الآخرين. إنها دعوة لطرق جديدة للتفكير: رحلة إلى السعي وراء المعرفة، والتي تعدّ واحدا من مبادئ الإسلام الأساسية. وإذا نجحنا في هذا المسعى، فإننا سوف نساهم في خلق جيل من العلماء المسلمين الذين يتمتّعون بحرية التفكير.