الاثنين، 24 أكتوبر 2016

أهمية العلاقة بين الأسرة و المدرسة ـ محمد أبحير

عن أمفاس نت


يتجدد النقاش في كل دخول مدرسي جديد حول العلاقة بين الأسرة و المدرسة ، نظرا للوشائج القائمة بينهما ، فمن المعلوم أن تربية الناشئة عملية مركبة ومعقدة تسهم فيها العديد من المؤسسات / الأوساط ، فالبيت يعد أول "مدرسة" ينشأ فيها الطفل ويتأدب بآدابها ، والأم أول معلم له يحبه ويطيعه ويحاكيه[1] . لهذا فطنت وزارات التربية و التعليم إلى العلاقة الوطيدة بين الأسرة و المدرسة ، فمما لا شك فيه أن العملية التعليمية - التعلمية عملية تشاركية و مسؤولية جماعية بين المدرسة و الأسرة .

1 – تحديدات مفهومية :
1 . 1 – مفهوم المدرسة :
يعرف المعجم الموسوعي لعلوم التربية مفهوم " المدرسة " بقوله : " [ إن ] المعنى العام لكلمة مدرسة اليوم يطلق على المؤسسة التي أسست للاضطلاع بالتعليم الجماعي للأطفال . وتتكون المدرسة من متعلمين و معلمين و إداريين على رأسهم مدير المدرسة "[2].
كما تعتبر المدرسة مؤسسة اجتماعية تؤدي مهمة التربية و نقل التراث الثقافي إلى الأجيال ولا تقف وظيفتها في نقل المعارف و التدريب على المهارات بل تتعداها إلى اكتساب الأنماط السلوكية و المفاهيم و الأسس الايديولوجية لتراث المجتمع ، ويرتكز دور المدرسة في عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال على مجموعة من العوامل أبرزها : البناء الاجتماعي و التفاعلات الاجتماعية بداخلها[3] . 

1 . 2 – مفهوم الأسرة :
يشير المعجم الموسوعي لعلوم التربية إلى " تعدد التعاريف التي قدمها علماء الاجتماع وعلماء الأنثربولوجيا وعلماء التربية لظاهرة الأسرة . [ف]لقد ورد في المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن الأسرة هي الخلية الطبيعية و الأساسية في المجتمع ، ولها حق التمتع بحماية المجتمع و الدولة "[4] .
إضافة إلى ما ذكر" تعد الأسرة بنية اجتماعية أساسية في البناء الاجتماعي العام ، ولها وظائف متعددة داخل الجسم المجتمعي . وهي مؤسسة اجتماعية تضم على الأقل رجلا و امرأة تضم بينهما رابطة الزواج ، وإمكانية التساكن و إنجاب الأولاد "[5] .
ونظرا لأهمية الأسرة و منزلتها في المجتمع ، فإنها تعتبر من " أكثر مؤسسات التنشئة الاجتماعية أهمية ، ففيها يتم التفاعل بين النمو و التعلم "[6] ، إضافة إلى أنها " منظمة اجتماعية تتميز ببعض الصفات منها قلة الحجم و كونها تعد حجر الزاوية في إصلاح النظم الاجتماعية ولها تأثير مباشر في التنشئة الاجتماعية في مراحل الحياة "[7] .


2 – وظائف الأسرة و المدرسة :
تضطلع الأسرة و المدرسة بوظائف ومهام متعددة ، تبدأ من توفير الغذاء و الكساء و العناية الصحية للطفل ، إضافة إلى مساعدته على التحصيل الدراسي وتنمية قدراته و الرقي بخبراته وهلم جرا .

2 . 1 – وظائف الأسرة :
إن المجتمع الأول الذي يتربى فيه الطفل هو المجتمع العائلي المكون من الأم و الأب والإخوة و الأخوات .... إلا أن وظيفة هذا المجتمع ( الأسرة ) " ظلت باستمرار وظيفة بيولوجية و نفسية و اجتماعية و ثقافية "[8]  ، إلا أن الملاحظة الميدانية تقر بأن العديد من الأسر تلخص مهامها في الوظيفة البيولوجية وتوفير الحاجيات المادية للطفل لا غير .

 ويمكن تفصيل القول في وظائف الأسرة كما يأتي[9] :

- تقوم الأسرة بوظيفة الإنجاب للحفاظ على بقاء الجنس البشري و استمراره .
- تقوم الأسرة ببناء ووضع الخصائص و الصفات الإنسانية في الفرد بمجرد ولادته .
- تحقق الأسرة للفرد العديد من الحاجات الأساسية لنموه وتطوره ، وعلى رأس هذه الحاجات المحافظة على حياته وتوفير الأمن و السلامة لضمان وجوده وبقائه ... ويتعلم العديد من المهارات ليحقق أفضل تكيف مع بيئته .
بينما يحصر عبد الحميد لطفي في كتابه " علم الاجتماع " وظائف الأسرة فيما يأتي[10] :
- تعتبر الأسرة المكان الطبيعي لنشأة العقائد الدينية واستمرارها .
- تعتبر الأسرة المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الطفل لغته القومية ، كما أنها لاتزال مسؤولة إلى حد كبير عن التنشئة و التوجيه ، وتشاركها هذه المسؤولية النظم التعليمية الموجودة في المجتمع .
- تعتبر الأسرة بالنسبة للطفل مدرسته الأولى التي يتلقى فيها مبادئ التربية الاجتماعية و السلوك وآداب المحافظة على الحقوق و القيام بالواجبات .
إن التذكير بهذه الوظائف يضع حدا فاصلا بين الحق و الواجب ، من خلال تذكير الأسر ( آباء و أمهات و أولياء )  بما لها وما عليها ، إذ – غالبا -  ما يتم الإسهاب في الحديث عن الحقوق ، وفي المقابل يتم نسيان الواجبات .

2 . 2 – وظائف المدرسة :
يتمثل دور المدرسة في أنها " تسهم مع البيت في مهمة مساعدة الأطفال على النمو الذهني و البدني و الانفعالي و الاجتماعي وتزداد أهمية الدور الذي تقوم المدرسة به في نمو شخصية الطفل بازدياد تحرره من البيت "[11] .

كما تتحدد الوظيفة الأساس للمدرسة في " التربية و التعليم ، فهما عملهما ومن أجلهما وجدت "[12] ، إذ ليس عمل المدرسة مقصورا على تزويد الطفل بشتى المعلومات المختلفة وأنواع المهارة المطلوبة كما يتبادر إلى الذهن ... بل إن وظيفتها تفوق ذلك بكثير من خلال العمل على تربية الفرد كله وترقية كل مواهبه واستعداداته و إيقاظ ميوله الخاصة و العامة و تدريب سلوكه وتعديله تعديلا يجعله ملائما للحياة الاجتماعية العامة "[13] ، إذ لا تنحصر وظيفة الأستاذ في بناء المعارف داخل الفصل الدراسي ، و إنما ينظر إليه باعتباره مربيا وحارسا للأخلاق و السلوك .

ويرى بعض الباحثين التربويين أن للمدرسة ثلاث وظائف أساسية هي : الاستكمال و التصحيح و التنسيق "[14]  :
- المدرسة أداة استكمال : الوظيفة الأولى هي استكمال ما تقوم به سائر المؤسسات من الأعمال التربوية ، وأول ما يجول في الخاطر بهذا الشان أن المدرسة تستكمل ما بدأ به البيت من تربية الولد .
- المدرسة أداة تصحيح : أي تصحيح الأخطاء التربوية التي قد ترتكبها المؤسسات الأخرى ، فإن كان هناك نقص تلافته ، أو كان فراغ ملأته
- المدرسة أداة تنسيق : فهي تنسق الجهود التي تبذلها سائر المؤسسات في سبيل تربية الولد ، وتظل على اتصال دائم بتلك المؤسسات ، لترشدها إلى أفضل الأساليب التربوية ، وتتعاون معها على تنشئة الجيل الجديد أحسن تنشئة .

3 – أفق العلاقة بين الأسرة و المدرسة :
إن العلاقة بين الأسرة و المدرسة لا تقتصر على بناء جسور التواصل بينهما ، وإنما تتجاوز ذلك إلى تحمل كل مؤسسة مسؤولياتها تجاه ناشئتنا ، إذ " إن كلا من المدرسة و البيت يرمي إلى غرض واحد ويعمل لغاية واحدة هي تربية الطفل ( المتعلم ) وإعداده للحياة الناشطة السامية خير إعداد ، ولذا يجب أن يكون كل منهما على اتصال وثيق بالآخر يعاونه على القيام بعمله النبيل "[15] .

3 . 1 – واجبات الأسرة :

لكي يتحقق التضامن و التآزر بين الأسرة و المدرسة ، وجب على الآباء و الأمهات وأولياء الأمور الاعتناء بما يأتي[16] :
- الاعتناء بالبيت ونظامه و الحياة فيه .
- الاعتناء بصحة الاطفال الجسمية و العقلية ، وبأخلاقهم ، فلايتساهلون معهم ويدللونهم ، ولا يقسون عليهم .
- الاهتمام بالطفل وعاداته من الوجهة الاجتماعية ، ولاسيما في أوقات فراغه ، وعطلاته المدرسية .
- احترام المدرسة و المدرسين الاحترام الكافي ، فلا يصدر منهم من الانتقاد و اللوم ما يقلل من شأنها في عين الطفل .
- العناية بتقارير المدرسة المرسلة إليهم .
- عدم التدخل في شؤون المدرسة .

3 . 2 – واجبات المدرسة :

يمكن حصر واجبات المدرسة في المسائل الآتية[17] : 
- أن تبدل جهدها في تعليم الآباء أنفسهم وتوقيفهم على ما يجب عليهم نحو أبنائهم ونحو المدارس ( دور جمعيات الآباء و أولياء التلاميذ ) .
- دعوة الآباء و الأولياء إلى حفلات خاصة بهم ، ليعقد فيها التعارف بين المدرسين و آباء التلاميذ ليتحدثوا جميعا في شؤون أبنائهم .
- بعث تقارير إلى الآباء عم مدى تقدم أبنائهم أو تأخرهم في المواد المختلفة ، وفي الأخلاق و السلوك و النشاط المدرسي .
- زيارة المتعلمين في بيوتهم إذا اقتضت الضرورة بقصد الوقوف على بيئاتهم المنزلية .

3 . 3 – علاقات التأثير و التأثر بين الأسرة و المدرسة :

* الأسرة :
يتأثر تحصيل المتعلم ومستوى طموحه وغيرهما ، بالمستوى التعليمي و الاقتصادي و الاجتماعي للاسرة ، ولمزيد من التوضيح سنسرد بعض المعوقات التي تؤثر في الصحة النفسية للمتعلم و تعرقل مساره التحصيلي داخل المؤسسة التعليمية[18] :
- التفكك الأسري : مثل إدمان أحد الوالدين للمخدرات ومدى تأثير ذلك على المتعلم في المدرسة .
- معيشة الطفل مع أحد الوالدين و افتقاره إلى عطف الآخر وحمايته .
- تعارض التيارات وتنازع الأهواء في الأسرة وتفضيل الذكر على الأنثى .
- تهديد المتعلم في المنزل بالذهاب إلى المدرسة للتشنيع عليه أمام المدرسين وأمام زملائه كلما أخطأ ، يجعله ينظر إلى المدرسة وكأنها خطر يهدد بالعقوبة و الألم يتذكرها ويحاول الهرب منها .
- الضعف العام : فضعف صحة المتعلم الجسمية كثيرا ما تعوقه عن التقدم الدراسي .

* المدرسة :
إن تاثر المدرسة بالأجواء داخل الأسرة أمر واقع ، فـ " كثيرا ما يقف المربون بين آن و آخر ليذكروا انفسهم بأن الطفل كثيرا ما يتاثر بعوامل التربية خارج جدران الفصل أكثر من داخله ، وهم دائما يسلمون بأنه يتأثر تربويا بخبرته خارج الفصل كما يتأثر بتلك الخبرات داخله ، ولكن قد تكون المؤثرات التربوية خارج جدران الفصل أكثر أهمية لمستقبل الفرد من الخبرات داخله "[19] .

ومن علامات تأثر المدرسة بالأوضاع داخل الأسرة :
- إن حسن عمل المدرسة ومدى نجاحها يتوقفان إلى حد كبير على عمل البيت ونظامه ، ونوع الحياة التي يحياها المتعلم فيه ، فعناية المدرسة بالأحوال الخلقية و الأدبية كثيرا ما يفسدها عليها حال البيت وإهماله[20] .
- لكي يكون عمل المدرسة ناجعا ، وأثرها دائما في تكوين المتعلم وجب أن توثق الصلة بينها وبين البيت ، وأن تتعرف أحوال المتعلم وسلوكه ومعيشته قبل أن يأتي إليها ، وأحواله الخارجية أثناء وجوده بها[21] ، والهدف من وراء ذلك هو محاولة التعرف على ما خفي على المدرسة من حياة المتعلم .

4 – خاتمة :

ملاك الأمر ، إن التواصل بين الأسرة و المدرسة لهو مطلب ضروري نحن في أمس الحاجة إليه ، إذ " على الرغم من قيام المدرسة كمؤسسة اختصاصية ، فإن البيت لا يفقد صفته التربوية ، بل يظل محافظا عليها ، يمد إلى المدرسة يد المعونة كلما اقتضت الحاجة ، فيكون الإثنان متكافلين متضامنين فيما يتعلق بتربية الولد "[22] .

كما أن التكامل بين الأسرة و المدرسة رهين مجموعة من المتغيرات الاقتصادية و الاجتماعية وغيرها ، فـ " التحدي الحقيقي الذي تواجهه الأسرة في العصر المعلوماتي وعصر القنوات الفضائية ... يتجلى في دورها الرئيسي في أن تظل بمثابة القلعة و القاعدة التي يحتمي بها الطفل ضمانا لتوفير الأمن و الاطمئنان و الدعم العاطفي اللازم لنموه السوي في عصر مادي متغير "[23] .
لهذا ، فالأسرة مدعوة إلى إعادة الاعتبار لدورها في التربية وتحصين الأبناء من تدخلات الأب الثالث ( الاعلام / الانترنت ) ، كما أن جمعيات الآباء و أولياء التلاميذ مطالبة بتفعيل أدوارها وتجاوز الصبغة المقاولاتية التي وسمت بها 
.

[1]  أصول التربية  وفن التدريس ، أمين مرسي قنديل ، دار الكتاب ، الدار البيضاء ، ط : 1 ، 1375 / 1955 ، 1 /  66 .
[2]  المعجم الموسوعي  لعلوم التربية ، د أحمد أوزي ، منشورات مجلة علوم التربية ، العدد : 14 ، 2006 ، ص : 227 .
[3]  مؤسسات التربية الاجتماعية  و التنشئة الاجتماعية ، ملحق تربية وتعليم ، جريدة بيان اليوم ، 2 مارس 2004 ، ص : 7 .
[4]  المعجم الموسوعي  لعلوم التربية ، ص : 40 .
[5]  نفسه ، ص : 30.
[6]  مؤسسات التربية الاجتماعية و التنشئة الاجتماعية ، ص : 7 .
[7]  نفسه ، ص : 7 .
[8]  المعجم الموسوعي  لعلوم التربية ، ص : 30 .
[9]  نفسه ، ص : 30 .
[10]  علم الاجتماع  ، عبد الحميد لطفي ، دار النهضة العربية ، بيروت ، 1981 ، ص : 126 .
[11]  المدرسة و الأسرة  و الصحة النفسية لأبنائنا ، د كلير فهيم ، كتاب الهلال ، العدد : 396 ، 1404 / 1983 ، ص : 9 .
[12]  أصول التربية و فن التدريس ، ص : 70 .
[13]  نفسه ، ص : 70 و 71 .
[14]  الوعي التربوي  ومستقبل البلاد العربية ، تأليف جماعي ، دار العلم للملايين ، ط : 4 ، بيروت ، 1978 ، ص : 304 وما بعدها .
[15]  أصول التربية و فن التدريس ، ص : 74 .
[16]  انظر المرجع السابق ، ص : 75 .
[17]  أصول التربية  وفن التدريس ، ص : 75 و 76 . 
[18]  انظر : الأسرة و المدرسة ، ص : 101 وما بعدها .
[19]  التربية الحديثة  ، ص : 42 .
[20]  انظر : أصول التربية وفن التدريس .ص : 71 .
[21]  نفسه ، ص : 74 .
[22]  الوعي التربوي ، .ص : 305 .
[23]  المعجم الموسوعي لعلوم التربية ، ص : 31 .

أنماط القيادة بالمخيم التربوي ـ مبارك منصور

عن أنفاس نت



تقديم:
        تعتبر المخيمات التربوية مجالا مفتوحا لممارسة الانشطة التربوية والثقافية  والفنية والرياضية والترويح، والاستثمار الامثل للعطل المدرسية. وهي فرصة سانحة لتبادل التجارب والافكار والرؤى بين المشاركين، ضمن منظومة التكوين والتنشئة الاجتماعية والتربية على المواطنة، لفائدة الاطفال والشباب، لما شكلته وتشكله باستمرار المخيمات من مدرسة للحياة وطريقا للطموح والامل والمنافسة بين الجماعات المخيمة. ولان كانت مجالا مفتوحا للأنشطة الترفيهية، فإنها مدرسة لزرع القيم وترسيخ المبادئ الانسانية واستنهاض الهمم وتقوية العزيمة والارادة، فقد ساهمت في تخريج الاطر الواعدة والكفاءات العلمية والقيادات ...
      ولما كان للمخيمات التربوية اهتمام بارز في تكوين النشء، فإننا سنحاول من خلال هذا البحث؛ النبش في نمط ادارة وقيادة وتدبير هذه الجماعة المخيمة انطلاقا من المحاورالتالية:

              I.            المفاهيم
            II.            نمط القيادة بالمخيمات التربوية
         III.            الحاجة للقائد بالمخيمات التربوية
         IV.            اهمية تدبير الجماعة بالمخيمات التربوية
           V.            مظاهر تشكل اللوبيات بالمخيمات التربوية
          VI.            خلاصة عامة

       I.            المفاهيم:

       تشكل المفاهيم المفاتيح الاساسية لسبر اغوار الحقول المعرفية المرتبطة بالعلوم الانسانية، ومن تم فانه لا يمكن الخروج عن هذا الاطار في معالجتنا لهذا الموضوع، حيث سنتطرق الى ماهية كل من المصطلحات التالية من النحية الاجرائية: النمط ، والقيادة، والتدبير، والمخيمات التربوية.
-         مفهوم النمط: هو مجموعة من السلوكيات والممارسات التي يقوم بها القائد في المؤسسة التي يعمل بها سواء كانت تربوية او ثقافية او اقتصادية او سياسية او عسكرية او غيرها من المؤسسات المرتبطة بالخدمات، ومن تم فهو ادا  السلوك  السائد عند القائد والغالب في تعامله مع الافراد، والذي يدفعهم لتحقيق اهداف المؤسسة التي يعملون بها.

-         مفهوم القيادة:  القيادة دور اجتماعي رئيسي  يقوم به فرد اثناء تفاعله مع غيره من افراد الجماعة ، ويتسم هذا الدور بان من يقوم به يكون له القوة والقدرة على التأثير في الاخرين وتوجيه سلوكهم في سبيل بلوغ هدف الجماعة. والقيادة شكل من اشكال التفاعل الاجتماعي بين القائد والاتباع حيث تبرز سمة القيادة – التبعية، والقيادة سلوك يقوم به القائد للمساعدة على بلوغ اهداف الجماعة وتحريك الجماعة نحو هذه الاهداف وتحسين التفاعل الاجتماعي بين الاعضاء والحفاظ على تماسك الجماعة وتيسير الموارد لها. وهكذا يمكن النظر الى القيادة كدور اجتماعي او وظيفة اجتماعية، ويمكن النظر اليها كسمة شخصية، ويمكن النظر اليها ايضا كعملية سلوكية . والقيادة دائما تفاعل اجتماعي نشط مؤثر موجه ليست مجرد مركز ومكانة وقوة. وعلى هذا الاساس فان مفهوم القيادة يرتبط بالجماعة اكثر من الافراد.

    ومن العلماء من يحدد القيادة على انها المكانة او المركز الذي يشغله الشخص في الجماعة، ومنهم من يعادل القيادة بالسلطة و القوة ، ومنهم من يحدد القيادة بذكر القدرات التي يمتلكها القائد، ومنهم من يعزوها الى شخصية القائد او الى النشاط الذي يمارسه. وهناك تعاريف تحدد القيادة على اساس الوظائف المختلفة التي يؤديها القائد. ومن خصائص القيادة  توافر السلطة. و السلطة هي الحق في القيادة وقوة تحقيق الطاعة. فالقيادة ترتبط بأساليب ممارسة السلطة داخل المنظمة او الهيئة او الدولة.

     ومن العلماء من يخلط بين مفاهيم القيادة والقائد، ومفاهيم اخرى تشترك معها؛ مثل: مفاهيم الاشراف والمكانة والهيبة ومنهم من يعرفها بانها الرئاسة والعلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين.

    ويمكن تعريف القيادة بانها نوع من العلاقة بين شخص وتابعيه، بحيث لإرادته ومشاعره وبصيرته قوة التأثير على الاخرين الذين يمثلون التابعين. وهذا التأثير القيادي يكون نتاجا لمحاولات يقوم بها القائد ويستهدف منها توجيه سلوك او مشاعر التابعين، وعرف يعض العلماء القيادة على انها القدرة على قيادة الجماعة بالأسلوب الذي يضمن غايات اهداف الجماعة...

-          مفهوم التدبير:    يقصد بالتدبير (Gestion/Management) مجموعة من التقنيات التي تستعملها مؤسسة أو منظمة أو مقاولة ما لتحقيق أهدافها العامة والخاصة. وتتمثل هذه التقنيات في: التخطيط، والتنظيم، والتنسيق، والقيادة، والمراقبة. و قد يعني التدبير مجموعة من الأشخاص الذين يديرون الإدارة أو المقاولة أو المؤسسة أو المنظمة، سواء أكانوا مديرين، أم مدبرين، أم أطرا، أم مسيرين، أم موجهين... وبصفة عامة، يعني التدبير مجمل التقنيات التي تعتمدها الإدارة لتنفيذ أعمالها وتصريفها. وغالبا ما يتخذ التدبير طابعا كميا باعتماده على المعايير الكمية القائمة على الإحصاء الرياضي و المحاسباتي.

       و من جهة أخرى،  يعني التدبير مجموعة من القواعد التي تتعلق بقيادة المقاولة الاقتصادية وتنظيمها وتسيير دفتها. أي: أن مفهوم التدبير مفهوم اقتصادي بامتياز، يرتبط كل الارتباط بتسيير الشركات و المقاولات. وأنها بمثابة إدارة شاملة لمؤسسة أو مقاولة أو منظمة ما تعمل جادة لتحقيق الجودة المطلوبة، وفق مجموعة من المبادئ المتدرجة والمتلاحقة والمتكاملة التي تتمثل في: التخطيط، والتنظيم، والتنسيق، والقيادة، والمراقبة.

       وإذا كان التخطيط تصورا نظريا استشرافيا، فإن التدبير تنفيذ وإنجاز وتطبيق لهذه الخطة النظرية التنبئية. وفي هذا الصدد، يقول الدكتور محمد أمزيان بأن التدبير "مرحلة التطبيق الفعلي للخطط والبرامج".

-         المخيمات التربوية:  يرتبط هذا المفهوم بالتربية باعتبارها عملية شمولية تطال الفرد ونموه وطبيعة علاقته بالمجتمع وتحولاته. ومن تم فالمخيم مؤسسة تربوية تساهم في التنشئة الاجتماعية اثناء العطل، كما ان لها اعتراف بأسلوبها ودورها في العديد من المجتمعات، فهي توفر فرص التعلم والتثقيف عبر الترويح والمتعة، كما انها مجال لتفتح الشخصية والتعود على المسؤولية، وترسيخ قيم التسامح والمواطنة والتعايش، وبذلك فهي فضاء يتيح فرصة حقيقية للتكيف مع حياة المجموعات.[1]


     II.            نمط القيادة بالمخيمات التربوية
      يعتبر المخيم مؤسسة تربوية تستقبل المستفيدين اثناء العطل المدرسية، بغاية تربيتهم وتكوينهم بأسلوبها الخاص المرتبط بالترويح والمتعة، ولاكتساب الجماعات المخيمة هذه الخبرات التربوية العلمية والثقافية والاجتماعية والفنية والصحية والقومية والدينية؛ تحتاج المراكز التخييمية الى نمط قيادي يليق بهذه المؤسسة التربوية ذات المدة الزمانية والمكانية المحددة.

    حيث يرتبط نمط القيادة بالمخيمات التربوية بالمنهج التربوي ( مجموع تجارب الحياة الضرورية للنمو)[2] ، فالمنهج المعتمد بالمؤسسة التربوية التي تعنى بالشرائح المخيمة  يرتكز على النوايا والافكار السابقة عن العمل التربوي، والاجراءات والاستعدادات السابقة كذلك عن العمل التربوي الفعلي، ثم اخيرا البناء المنهجي لخطة تربوية شاملة قابلة للتنفيذ.

    فالمنهج التربوي يستمد قوته من المشروع البيداغوجي الذي يتقدم به المدير باعتباره قائدا المخيم التربوي، والذي يرسم فيه الخطة التي يجب اتباعها قبل واثناء وبعد المرحلة ؛ من اجل انجاح العملية التخييمية. حيث يتبع نمطا يسهل عليه تنفيد هذه الخطة المعلنة مسبقا، والتي اجازتها الاطر التي ستسهر على خدمة المستفيدين من العملية اثناء الموسم التخييمي . ولان القائد / المدير التربوي يتعامل مع العنصر البشري، فانه مطالب باتباع نمط قيادي يسهل تحقيق التكامل بين الجوانب التنظيمية والانسانية لتحقيق الفعالية والوصول الى الاهداف، باعتبار الهدف النهائي للقائد / المدير التربوي هو تحقيق رؤيته الممثلة في المشروع البيداغوجي الذي تقدم به سلفا، بشكل واقعي من خلال نمط معين من السلوك، وفي اطار الظروف التي يواجهها زمانيا ومكانيا. وهنا لابد للمدير التربوي ان يمتلك عنصر التأثير باعتباره حجر الاساس في استمالة الاخرين وتغيير سلوكهم بالاتجاه الذي يحقق الهدف من العملية التخييمية.

   ادا فنمط القيادة بالمخيم التربوي هو ذلك السلوك الذي يستمد قوته من الديموقراطية التشاركية المبنية على انخراط الجماعة ككل في تنفيد الخطة المهيأة من طرف القائد / المدير التربوي دون اغفال الحزم واليقظة والفطنة لكل ما يمكن ان يؤثر في الاتجاه السلبي للعملية التخييمية. ومن هنا فالسلوك الذي يلزم القائد الاتصاف به؛ اهتمامه بالأداء الاداري وذلك من خلال ترتيب الادارة، من حيث الوثائق والمستندات التي تهم الجماعة المخيمة. اهتمامه كذلك بالأفراد والعلاقات الانسانية؛ من خلال مشاركته في الاحتفالات والسهرات الليلية التي تنظم بالمركز التخييمي. وخلال الاجتماعات التقييمية عليه؛ ان يبت الحماس في الاطقم الساهرة على تنفيد الخطة / المشروع البيداغوجي ، دون اغفال المدح والتقدير مع نشر المعلومات الاساسية والمهمة في تسيير العمل، وذلك لتيسير التفاعل بين الافراد داخل الجماعة.

   ان نمط القيادة بالمخيم التربوي مبني اساسا على التخطيط والتنسيق وادارة الصراع وحل المشكلات. ومن تم يحتاج الى كاريزما من نوع خاص، يتهيأ من خلالها القائد / المدير التربوي  مصاحبة الجماعة المخيمة  وهو متسلح بمجموعة من المعارف العلمية : كعلم النفس الاجتماعي وعلم النفس النمو وعلم الاجتماع ...التي  تسهل عملية تنفيد مشروعه البيداغوجي.

  III.            الحاجة للقائد بالمخيمات التربوية
     ينظر إلى القيادة بالمخيمات التربوية ، ممثلة في المدير التربوي، على انه قائد تربوي تناط به مهام حيوية بالغة الاهمية. فلم يعد يقتصر دوره على ادارة المخيم ومراقبته وترتيب السجلات والملفات وحفظ البيانات وتسطير البرامج الترفيهية رفقة الطاقم التربوي وتوزيع الاطر التربوية على فرق الجماعات المخيمة. بل ان فعالية دوره الجديد مرتبط بتجسيد كفاية العملية التخييمية الممثلة في التخطيط والتنظيم والمراقبة والقيادة والتقييم والمحاسبة. ولقد اشارت البحوث التربوية والدراسات النفس اجتماعية الى اهمية الانماط القيادية، واقتران مدى نجاح مراكز التخييم وتطورها ومدى تأثيرها المباشر على دافعية الاطر التربوية والادارية، سلبا او ايجابا. وان لرضا العاملين على السلوك القيادي لمديريهم تأثيرا مباشرا على مستويات اخلاصهم وادائهم في المركز التخييمي. اذ لا يعقل ان يعمل المربي ( المدرب ) بشكل جيد تحت توجيه او اشراف مديره التربوي الذي لا يرتاح اليه او يحس في قرارات نفسه انه غير متعاون معه ولا يتمنى له النجاح.

    فالقيادة لا يمكن ان تزدهر في فراغ، فقد اكدت جميع نظريات القيادة التي امكننا الاطلاع عليها، ان القيادة الفعالة هي نتاج تفاعل القائد / المدير التربوي مع التابعين، حيت يحتل القائد دورا رئيسيا في مسؤولياته عن انتاج معاملة الافراد العاملين معه. فعليه تقع مسؤولية تحقيق اداء يتسم بالكفاءة والفعالية، وذلك بأقصى طاقة ممكنة واقل تكلفة ممكنة. حيت ينظر للقائد على انه الشخص الذي يحدث نمط قيادته تأثيرا ايجابيا في المناخ المؤسسي بوجه عام. وفي الروح المعنوية للمرؤوسين ودافعيتهم والاداء العام بالمخيم.

    وقد ساهم التقدم العلمي، وخاصة في مجال علم النفس الاجتماعي في تسهيل عمل القياديين بسبب ما حققه هذا العلم من انجازات ساهمت في كشف خبايا النفس الانسانية، حيث يستطيع القائد فهم تابعيه والتعامل معهم بالطريقة التي تؤدي بهم الى بدل اقصى جهودهم في العمل.

     ومن هنا نستطيع ان نؤكد اهمية دراسة الانماط القيادية، باعتبارها تشكل الاسلوب والطريقة التي يتعامل بها القائد مع مرؤوسيه. ذلك ان النمط القيادي يعد العامل الرئيسي في نجاح العملية التخييمية او فشلها، لما للقائد من دور حاسم في توجيه سلوك المؤطرين والمدربين وفي ايجاد الجو الفعال في المركز التخييمي.

    اد تشير التقارير والبحوث الجامعية التي اجريت على المراكز التخييمية على المستوى الوطني ان الانظمة التربوية بالمخيمات غير قادرة على تحقيق الاهداف المرغوبة والمطلوبة منها بما يتناسب مع متطلبات ومستجدات عصر العولمة وثورة المعلومات. ومن حين لأخر تتكرر النداءات في الندوات العلمية ذات الصلة لتحسين عملية التخييم، وبالتالي نوعية مخرجات نظام وهياكل التخييم.

   واذ نشير هنا الى ان افراد المجتمع والمهتمون يضعون اللوم على القائمين على العملية التخييمية. ومن اهم الانتقادات ؛ هي عدم الاهتمام بموضوع المساءلة، ومتابعة جوانب القصور واسبابه ووضع العلاج اللازم لذلك. ويمكن القول انه يجري نقاش جدلي بين من يضع اللوم والمسؤولية على القائمين على عملية التخييم من اداريين وتربويين ومشرفين ومديرين مركزين. وبين القائمين انفسهم والذين لهم رؤيتهم في اسباب ضعف الاداء وتدني مستوى التخييم. ويبرزون فيما يبرزون تعدد مصادر المسؤولية وانهم ليسوا وحدهم المسؤولون عن هذا القصور. ومن تم فمفهوم الانتاجية والفاعلية في العملية التخييمية قد تغير ولا يقاس بالمدى الكمي العددي للمستفيدين وحده بل هناك عمليات لهذا التخييم لابد من اخدها بعين الاعتبار فضلا عن العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على مخرجاته.( أي العملية التخييمية).

   في ضل هذا الجدل الدائر حول مخرجات التخييم وتجويده وضبط عملياته، يركز المثيرون على تفعيل دور المساءلة في العملية التخييمية التربوية وانها صمام امان اذا تضافرت جهود القائمين على العملية والمستفيدين منها؛ من ادارة وجمعيات المجتمع المدني، بهدف تحسين العمل التربوي وتطويره ليتمكن من تحقيق اهدافه التثقيفية والترفيهية.     

  IV.            اهمية تدبير الجماعة بالمخيمات التربوية
       يعتبر الحديث عن الجماعة بالمخيمات التربوية خارج التدبير من العبت بمكان، اذ ان الادارة التربوية تنبني على آليات التخطيط و التنظيم و التوجيه والتقييم وفق منهجية محكمة في الضبط و التوثيق و توفير المعطيات الكافية لتسيير إداري فعال.فالالتزام بالنصوص التشريعية والمذكرات التنظيمية للعملية التخييمية يضع اللبنات الاساسية لأهمية التدبير الإداري للجماعات المخيمة وفق منظومة تربوية تحكمها ضوابط اجتماعية علمية وعملية تستمد شرعيتها من القانون الاساسي ، ودفتر التحملات الذي ينظم العملية التخييمية في شموليتها.

         حيت ينطلق تدبير الجماعة  بالأعداد الجيد للمشروع البيداغوجي لمؤسسة المخيم الذي يعود بالأساس الى مقاربة الاهتمام بالعمل الجماعي  فهو يرسم خطة العمل التي ستبنى عليها العملية التخييمية على ارض الواقع. ولان المخيم مؤسسة تحكمها خصوصية وطرق عمل مع الاطفال " كجماعة " يسعى الى تحقيق رغباتهم وتطلعاتهم التي يتوقعون اكتشافها، كي يحققوا المتعة المنتظرة النابعة من الرغبة في قضاء مرحلة تخييمية مليئة بالإثارة والتشويق والمغامرة. وهذا طبعا لن يتأتى لهم دون  تخطيط واعداد مسبق ومتوافق عليه بين الفرقاء؛ اطرا واداريين ومدراء ومشرفين.

     واذا كانت الجماعة بالمخيمات التربوية لها خصوصيتها فإنها تلزم اعداد عينة من الناس يتميزون بالكفاءة العلمية في مجال تدبير الجماعات. وهو ما يدخل في هذه الاهمية التي ننشد خلال تكوين علمي تصاحبه عمليات تطبيقية على ارض الواقع  في مراكز التخييم. ومن تم تدبر الجماعة المخيمة باطر تم تكوينهم وتأطيرهم في مراكز التدريب لفترة من الزمن وفي محاكاة لما يقع بمراكز التخييم. وبعد اجتيازهم للمراحل التكوينية بنجاح يسمح لهم أنداك بمرافقة افراد الجماعات المخيمة، وتحت اشراف قائد / مدير تربوي حاصل هو الاخر على شهادة تأهيل علمي  ( دبلوم مدير) التي تمنحها الجهات الادارية التابعة للوزارة الوصية.

    ان اهمية تدبير الجماعة بالمخيمات التربوية لا يخرج عن اطار اعداد الفرد / الانسان الصالح والمتزن، ضمن منظومة القيم التي تتبناها الدولة والمجتمع. الشيء الذي لا يترك مجالا للارتجال والعبث في هذا المجال الحيوي، وعلى النقيض من ذلك فانه يفتح الباب على مصراعيه امام المخربين واصحاب النزوات والمتطفلين واشباههم، مما يساهم في تشكيل اللوبيات واصحاب  المصالح الضيقة والانتهازيين...

    V.            مظاهر تشكل اللوبيات بالمخيمات التربوية
       لا يخفى على احد من المتتبعين لمسار المخيمات التربوية، انها عرفت تغيرات كبيرة مند نشأتها بعد الحرب العالمية الاولى والثانية في البدايات الاولى من القرن الماضي، فانتقلت من استضافة ابناء المحاربين في المعارك الى ابناء الاعيان، ثم اخيرا ابناء الشعب. وهذا طبعا سيؤدي الى ارتفاع المبالغ التي تصرف في هذه المخيمات التربوية على صعيد كل منطقة من مناطق العالم والتي لها اهتمام بهذا المجال الحيوي في اعداد النشء والمواطن على السواء.

      ولحيوية هذا المجال ومكانته في المجتمع، سيفتح شهية اصحاب المصالح، وتتكاثر عليه المضاربات داخل النسيج الاجتماعي، وستشكل من اجله جماعات مهتمة، اما بأمر من الدولة  بشكل نظامي او تنظيمي او بشكل عفوي بدافع الغيرة او الطمع في الحصول على جزء من هذه الخيرات التي تخصص لهذا القطاع. ومن هنا ستظهر جماعات موازية لها مصالحها الخاصة؛ اما في شكل افراد او مجموعات. وهو ما يمكن ان نصطلح عليه الجماعات الضاغطة او اللوبيات. فكيف تتشكل هذه الجماعات داخل المخيمات التربوية؟.

    تعد جماعات الضغط او اللوبيات من اهم واكثر التكتلات التي تؤثر على مسار المؤسسات والشركات بل وسياسة الدولة بأكملها. فبقوتها وانتشارها في الكثير من المجالات؛ الاقتصادية والثقافية والسياسية، وغيرها، وارتباطها بأشخاص بارزين في المجتمع، تعمل على الحفاظ على مصالحها واهدافها.

      " واللوبي "Lobby" كلمة إنجليزية تعني الرواق أو الردهة الأمامية في فندق، وتستخدم هذه الكلمة في السياسة على الجماعات أو المنظمات التي يحاول أعضاؤها التأثير على صناعة القرار في هيئة أو جهة معينة، وقد تبلور هذا المصطلح في الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام 1830 عندما بدأت مجموعات المصالح تمارس الضغوط على الكونغرس ( البرلمان الامريكي ) وحكومات الولايات.

       فاللوبي عبارة عن جماعة قانونية منظمة تدافع عن قضايا ومواقف ومصالح معينة، محددة لدى السلطات العامة في الدولة، يجمع بين أفرادها مصالح مشتركة وتنشط فى سبيل تحقيق هذه المصالح عن طريق الاتصال بمسؤولى الدولة ومؤسساتها ومحاولة إسماع صوتها مستخدمة كل ما تملك من وسائل متاحة وفى مقدمتها أسلوب الضغط، وتلعب اللوبيات دورًا محوريًا وهامًا في الحياة السياسية، حتى بات معروفًا بأن لوبيات الضغط القوية هي المُتخذ الحقيقي للقرارات وهي التي تصنع السياسة المُتبعة داخل الدولة وفي حالة وجود لوبي قوي من لوبيات الضغط في دولة معينة ينحصر دور سلطات تلك الدولة في إضفاء الصفة الرسمية على تلك السياسات والقرارات."[3]

     ولان كانت المخيمات التربوية مؤسسة كغيرها من المؤسسات التي للأفراد مصالح بها، فإنها لا تخرج عن نطاق تواجد اللوبيات التي تتحكم في مسار قراراتها، التي من شانها تغيير منظومتها التربوية وتوجهها العام الذي تتوخى منه الدولة، كراع لها، ان تساهم به في تكوين المواطن. ومن تم تتعدد الجماعات والافراد المقترنين بها في التحكم في توزيع  مقاعد المستفيدين من العملية التخييمية، بشكل يخدم مصالهم الخاصة والتي غالبا ما تقترن بأنظمتهم المالية ومراجعهم الأيديولوجية سواء على مستوى المنظمات الوطنية او الجمعيات المحلية المدفوعة من طرف السياسيين المحليين.

     وفي هذا السياق، فقد ظهرت مؤخرا مؤشرات على ان المخيمات التربوية بالمغرب اصبحت تدار بشكل مباشر من طرف الجامعة الوطنية للتخييم باعتبارها لوبي ضاغط على مجريات المخرجات في هذا الحقل التربوي الهام. وهو ما يظهر جليا من تدخلها في التوزيع الوطني لمقاعد المستفيدين من العملية التخييمية بالمغرب على الرغم من وجود وزارة للشباب والرياضة، تعنى بهذا الجانب، من تمويل وتأطير، كما انه ينظم تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة  الملك محمد السادس. الشيء الذي يستشف من خلاله ان الامر لم يعد بالإمكان ادارته بشكل اعتيادي، و انما الامر اصبح يتجاوز الوزير وغيره، دونما اغفال ان الجامعة بدورها تعاني من لوبيات داخلها؛ توجه قراراتها باعتبارها تدفع الانخراط الاكثر والمنتظم، وتهيمن على كل الجموعات العادية والاستثنائية التي تعقد من حين لآخر...

     واذا كان الامر على المستوى الوطني بهذه الشاكلة، فان الامر ذاته على مستوى مركز تخييمي. حيث انه في كل عملية تخييمية، تظهر من حين لآخر تصرفات من اطار او مجموعة ما تنم على ان هناك اندفاع مقصود لتحويل مجريات الانشطة التي تقام بالمخيم  في اتجاه أيديولوجية معينة لا علاقة لها بالتسيير العام للمخيم التربوي وتتوخى بت قيم معينة بغرض التشويش  والمضايقة للقائد العام / المدير التربوي. وبعد التحري والتخابر، يظهر ان الامر يتعلق بفلان او عيلان، المدفوع من طرف هيئة معينة سواء كان فردا او جماعة...

VI.       خلاصة عامة
           للمخيمات التربية ميزتها التي تفردها بالتثقيف والتكوين عبر الترويح والمتعة، وهي تساهم في تكوين النشء بطريقة غير التي الفناها في مؤسسات التنشئة الاجتماعية. فصقل المواهب وتعلم الحياة والاعتماد على النفس، تلكم خاصية العملية التخييمية. انها مدرسة الحياة؛ قالب لمجتمع مصغر، به كل صنوف الانشطة التي تبني الانسان في كل مظاهره. من الناحية الانفعالية والوجدانية والحركية...
           ومن تم يحتاج المخيم التربوي الى قائد / المدير التربوي، يتميز بكاريزمية تعادل اهمية هذه المؤسسة الاجتماعية داخل النسيج الاجتماعي. حيث تكون له من المعرفة ما يؤهله الى قيادة رشيدة وحنكة خاصة، يقوى بها على الوان اللوبيات التي تظهر من حين لأخر لتغيير مسار هذه المهمة النبيلة ذات الابعاد الانسانية والاجتماعية التي يعول عليها في اعداد المواطن الصالح، الى جانب المؤسسات الاخرى من الهيكلة العامة للدولة.
          اذا فنمط القيادة بالمخيم التربوي مبني اساسا على التخطيط والتنسيق وادارة الصراع وحل المشكلات، ولفت الانتباه الى كل ما من شانه افشال العملية التخييمية ومتعة المستفيدين من العطل المدرسية. وان كنا نرمز الى القائد على انه المدير التربوي فان الامر قد يتجاوزه الى الوزير ذاته باعتباره قائدا لهذه العملية ومنه الى المدراء الجهويين و الاقليميين والمحليين...
            ومهما يكن فان انماط القيادة ترتبط بنوعية الجماعات من حيت التنظيم والهيكلة، وطبيعة المشاريع والاهداف ومخططات العمل وتوزيع المهام واشكال الانجاز. ويبقى المخيم من اهم المؤسسات التربوية التي تبرز فيه اهمية النمط القيادي الذي يتلاءم ونوعية الجماعة المخيمة التي يتكون افرادها من انحاء مختلفة من المجتمع.


VII.    المراجع:
-         د. عبد السلام زهران، علم النفس التربوي، طبعة الرابعة
-         شكيب الرغاي، المخيمات التربوية، الطبعة الاولى 2010
-         سلسلة علوم التربية – الأهداف التربوية عدد 1 الطبعة التانئة 1990
-         جريدة نون بوست الالكترونية، 25 يناير2015
: شكيب الرغاي، المخيمات التربوية، الطبعة الاولى 2010[1]-
: سلسلة علوم التربية – الأهداف التربوية عدد 1 الطبعة التانئة 1990[2] -
: منقول عن مقال ثقافي، موقع: جريدة نون بوست الالكترونية، 25 يناير2015[3] -

الجمعة، 21 أكتوبر 2016

الثقوب السبع للمعرفة إدغار موران



تقديم
تعميمًا للفائدة، نقدِّم لقارئ معابر ترجمةً للنصِّ الكامل للمحاضرة التي ألقاها عالم الاجتماع الفرنسي المرموق إدغار موران في الرباط، بدعوة من وزارة التربية الوطنية والشباب، بتاريخ 6/2/2004.
إن صيغة المحاضرة عادةً ما تُلزِم الباحث بتبنِّي نظام في العرض يتوخى الوضوح والعمومية في معالجة قضايا غالبًا ما تكون معقدة وتستند إلى تفاصيل يصعب على غير المتتبِّع لعمل الباحث أو المفكر أن يحيط بها و/أو يستحضر خلفيتها.

وتشكِّل محاضرة إدغار موران نموذجًا لهذا التمرين الپيداغوجي [=التربوي] والفكري الذي يلخص مسار حياة كاملة، استغرقها النضالُ من أجل مستقبل أفضل، والبحث النظري والميداني، والتأمل الفلسفي في القضايا الكبرى للوجود الإنساني. وتأتي فائدة هذه المحاضرة من كونها تقدِّم المعالم الكبرى للمشروع التربوي الذي يدافع عنه إدغار موران، منذ سنوات، استنادًا إلى نتائج وتراكمات مسار طويل في البحث والتفكير والنضال من أجل مستقبل أفضل، يكون فيه الفهمُ والقرارُ في مستوى التعقيد الذي يحكم تداخُل المستويات والمرجعيات والآفاق.
ويوجِّه موران سهام نقده القوي إلى هندسات الإصلاح كلِّها، العاجزة عن إدراك مطالب التعقيد، المؤمنة بالنفعية، والناسية – أو المتناسية – للشرط الإنساني.
كما يظهر في هذه المحاضرة مدى أهمية – بل ضرورة – توفُّر رؤية شمولية لدى كلِّ مَن يطمح إلى إصلاح المنظومة التربوية، وكذلك مدى خطورة أصحاب النظرة التجزيئية والتقنية المحض إلى قضايا التربية والتعليم.[1]
بقي أن أشير، في الآخِر، إلى أن مضمون المحاضرة يبقى متقدمًا على الأفق المعرفي للمنظومة التربوية المغربية الحالية، والعربية عمومًا، بحيث يمثِّل نوعًا من اليوتوپيا التي لا نعرف هل سيتمكن المجتمع العربي يومًا من أن يصل إلى أحد شواطئها أو يعيش أحد أزمنتها. وهو الأمر الذي يطرح سؤال القابلية الثقافية لنقل الأرضية المعرفية التي اقترحها موران في تقرير استشارته لصالح اليونسكو[2] إلى الواقع العربي أو لملاءمتها معه – وهو سؤال نترك أمر معالجته لمناسبة أخرى.
م.ز.
***

سأركِّز في هذه المحاضرة على أحد أهم الإصلاحات التي يفرضها إشكالُ التربية والتعليم الذي يتطلب، بدوره، العديد من الإصلاحات. إن أهم تحدٍّ يواجه المسؤولين هو ذاك الذي يخص اختيار مضامين التربية ومعارفها، أو بالأصح، المعارف الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها كلُّ تربية.
وأنطلق من ملاحظة أنه يتم تعليم المواد الدراسية والاختصاصات disciplines مفصولةً بعضها عن بعض. ولهذا الفصل تاريخ طويل أدى إلى إيجاد "ثقوب معرفية سوداء" حقيقية في مجال المعرفة، مما أعاق تقدمها، وجعل إصلاح المنظومة التربوية شبه متعذر، ما لم يتم التعرف إلى هذه الثقوب المعرفية السوداء.
وقد تعرفت، شخصيًّا، إلى سبعة ثقوب سوداء في النظام التربوي الحالي. وبناءً على هذا التعرف، أحاول إيجاد روابط بين الاختصاصات لإنقاذ ما تبتلعه هذه الثقوب السوداء. وفي هذا السياق، أقترح إيجاد سبعة كراسي تعمل على تحقيق هذا الهدف، وعلى نشر المعارف السبع الضرورية التي من شأنها استرجاع ما يضيع في تلك الثقوب.
وأذكِّر، بهذه المناسبة، أن مهمة الجامعة هي مهمة جامعة للاختصاصات، مهمة تجعل منها المؤسَّسة التي تعترف بتراث الماضي وتحاول إدماج الإبداعات الثقافية للحاضر وفتحها على المستقبل؛ ويعني هذا أيضًا أنه لا يمكن للجامعة أن تكون مجرد مؤسَّسة تتكيف مع محيطها الحاضر والحالي، فتكتفي بتأهيل المتخصِّصين أو المهنيين، بل هي مطالَبة بأن تحمي الثقافة وبأن تحملها في أحشائها وتصون مطلبَها الشمولي.
وليست الثقافة هي مختلف المعارف التي تكون لنا حول مختلف المجالات وحسب، بل هي المعارف التي ندمجها في حياتنا اليومية لمواجهة رهانات الحياة الفردية والجماعية، السياسية والاجتماعية. كتب روسو في كتابه التربوي الشهير إميل أو في التربية: "أن يحيا، هذه هي المهنة التي أريد تعليمها له" – قاصدًا تلميذه. طبعًا، لا يمكن أن نعلِّم التلميذ كيف يحيا حياةً مصطنعة، بل ينبغي له أن يطور قدراتِه الخاصة التي تسمح له بإدماج ما يتعلَّمه في حياته؛ مما يعني أن علاقة المتعلِّم بمادة التعلم تتطلب دائمًا علاقة إبداعية أصيلة. ولكن لنتوقف الآن عند هذه الثقوب السوداء في مجال المعرفة ولنتبيَّن أمرها.
الثقب الأسود الأول: ما تجب معرفته وعدم نسيانه بخصوص كلِّ معرفة
نعلِّم المعارف، ولكننا لا نجيب عن السؤال الأساس: ما المعرفة؟ ولا يتم الاهتمام بهذا السؤال إلا داخل اختصاص فلسفي نخبوي يسمى الإپستمولوجيا. كما لا يتم الانتباه إلى أن هذا المشكل – مشكل تعريف المعرفة – هو مشكل الجميع، ومشكل كلِّ واحد، في الآن نفسه. لماذا؟
لأن مشكل المعرفة هو في الأساس مشكل الخطأ والوهم. هناك جملة شهيرة لماركس يقول فيها: "إن الناس لا يعرفون ما هم عليه من أحوال ولا ما يفعلون." وهي جملة لا تَصدُق على عموم الناس فقط، بل تَصدُق حتى على ماركس نفسه! فهو لم يكن يعرف ماذا كان يفعل عندما كان ينجز أعماله. ولكن هذه الملاحظة تَصدُق علينا نحن أيضًا: فعندما نفكر في الماضي ونتأمله بنوع من التباعد، نجده عبارة عن سلسلة من الأخطاء والأوهام. وعندما نفكر في الماضي القريب، نتذكر الأهوال: النازية، الفاشية، الشيوعية، الستالينية، والليبرالية الجديدة؛ نكتشف أخطاء هذه المنظومات وأوهامها، على الرغم من أنها كانت تعاش كحقائق أكيدة. إن ما كان في الماضي حقيقةً أضحى في الحاضر خطأ أو وهمًا. وهكذا نستمر في اكتشاف أخطاء الماضي دون توقف. لماذا؟
لأن المعرفة الأبسط هي معرفة ترجع، في المآل، إلى الإدراك الذي يبقى دائمًا إدراكًا محدودًا. إذ ليست المعرفة أبدًا تلك الصورة المطابقة تمامًا لموضوعها؛ فهي لا تتطابق وواقعها تمام التطابُق. إنها إدراك لبعض المنبِّهات والمثيرات الحسية التي تُعاد ترجمتُها ومعالجتُها عن طريق آلاف الخلايا البصرية التي تنقل هذه المعطيات إلى الدماغ عن طريق بالغة التعقيد، تتحول عِبْرها تلك المعطياتُ إلى إدراك. وهي عملية مازالت موضوع أبحاث جارية للكشف عن أسرارها.
فعل المعرفة هو، إذن، ترجمة معينة لواقع خارجي وإعادة بناء له. وهو فعل نقوم به تلقائيًّا من خلال ما يُسمَّى بظاهرة "الثبات الإدراكي". وهذه تعني أن الأشخاص الحاضرين والجالسين في آخر القاعة هم أصغر حجمًا في شبكية عيني من الأشخاص الجالسين بجانبي؛ ومع ذلك، فإنني لا أتصور أصدقائي الجالسين في الصفوف الأمامية عمالقة والأصدقاء الجالسين في الصفوف الخلفية أقزامًا! فأنا أعرف أن كلَّ الحاضرين لهم الحجم نفسه تقريبًا. إن سيرورة الثبات الإدراكي هي التي تضمن إمكانية إعادة البناء التي نقوم بها في عملية الإدراك.
ونعرف، من جهة ثانية، أنه لا يوجد حدٌّ فاصل بين الإدراك، من جهة أولى، والهلوسة أو التهيؤات، من جهة ثانية؛ لا يوجد أي حدٍّ فاصل يُظهِر لنا الفرق بين الإدراك والتهيؤ. إن أصدقاءنا هم عادةً مَن ينبهوننا إلى ما نقع فيه من لَبْس. في عبارة أخرى، مادام لا يوجد اختلاف جوهري بين الإدراك وبين التهيؤ والوهم، فإننا نبقى معرَّضين لاحتمال اعتبارنا ما قد يشبَّه لنا على أنه الواقع، في حين أنه مجرد توهم. إن الوهم يتربص بنا في إدراكاتنا كلِّها، بما فيها تلك الإدراكات التي نعتبرها الأكثر مباشرة والتصاقًا بالواقع الفعلي.
في هذا السياق، سأحكي لكم عن حادثة شخصية، سبق لي أن كتبت عنها في أحد كتبي. ذات يوم، وجدت نفسي في أحد مفترقات الطرق في الوضعية التالية: تغير اللون المنظِّم للمرور، وشاهدت، في تزامن مع ذلك، سيارة تصدم راكب دراجة هوائية. بالنسبة لي، لم تحترم السيارة الإشارة المنظِّمة للمرور، في حين كان لصاحب الدراجة الهوائية الحق في المرور. فسارعت إلى مساعدة راكب الدراجة وإلى توبيخ سائق السيارة، فإذا براكب الدراجة يقول لي: "إني أنا الذي لم أحترم إشارة المرور!" لماذا أخطأت؟ لأنه كان من المنطقي، بالنسبة لي، أن يصدم الكبيرُ الصغيرَ وأن يكون الصغير هو الضحية الدائمة للكبير.
تقودنا هذه الحادثة إلى طرح مشكل الشهادة، وبالتالي، إلى طرح سؤال المعرفة. إنكم تعرفون أن الشهود يجدون دائمًا صعوبة بالغة في الشهادة بخصوص الحدث نفسه، على الرغم من أنهم جميعًا شاهدوه. ولكن، هل شاهدوه بالطريقة نفسها، ومن الزاوية عينها؟ هناك كتاب هام لمؤرخ إنكليزي يدعى نورتون كرو بعنوان في الشهادة، يتناول فيه وقائع الحرب العالمية الأولى، حيث يُظهِر أن الأحداث نفسها التي كان يعيشها الجنود نفسهم كانت تُدرَك بطُرُق مختلفة. لهذا علينا أن نحترس من إدراكاتنا وأن نعي حدود منظورنا. فإذا اقتنعنا بأن الأفكار والنظريات والتصورات هي ترجمات وتأويلات، فإننا، في هذه اللحظة، نعترف بأننا نواجه مشكلاً كبيرًا، هو ميلنا "الطبيعي" إلى الوهم؛ وهو ميل يطوِّقنا من كلِّ صوب ويهددنا تهديدًا مستمرًّا، على الرغم من محاولتنا التخلص منه. لهذا ينبغي أن نربي أنفسنا على التعامل مع فخاخ المعرفة، وأن نتعلم غربلة ومراجعة التأثيرات الثقافية التي تمارسها علينا المدرسة والعائلة بخصوص أفكار تظهر بديهية، كفكرة المجتمع والطبقة والفئة والأسرة إلخ. علينا، عمومًا، أن نتعلم التحكم أيضًا في التأثير الذي تمارسه هذه الأفكار على الأذهان التي تعتقد بها اعتقادًا مطلقًا. ولحسن الحظ، توجد دائمًا، في جميع المجتمعات، عقول ترفض هذه البداهة المفروضة أو المألوفة. ولكن، على الرغم من حسن الحظ هذا، يبقى خطرُ اليقين النهائي يهدِّد، مع ذلك، سيرورة المعرفة بإيقافها أو إنهائها. وهنا، نواجه مهمة أساسية: ضرورة تنسيب relativiser معرفتنا، وتعميم تدريس هذا التنسيب.
وعلينا الانطلاق من الإقرار بأن الأفكار ليست مجرد أدوات يستخدمها الإنسان لمعرفة الواقع؛ فنحن أيضًا يمكن لنا أن نصبح أدوات لأفكارنا. نحن نجد في مختلف الديانات الآلهةَ حاضرةً في قوة حضورًا فعليًّا، على الرغم من أنها – أنثروپولوجيًّا وسوسيولوجيًّا ونفسيًّا – مجرد أفكار إنسانية. فللآلهة سلطان عظيم على البشر، يجعلها تطلب منهم الطاعة والموت والقتل من أجلها. يتعلق الأمر هنا بظاهرة التملك الفكري أو الاستحواذ. وتَصدُق الملاحظةُ نفسها على الإيديولوجيات الكبرى: فهي أيضًا تطلب الموت من أجل الأفكار الكبرى. لهذا ينبغي لنا، تربويًّا، تدريس كيفية إقامة علاقة حوار بيننا وبين أفكارنا (التأمل الانعكاسي). لا يمكن لنا أن نمنع الأفكار من أن تتملَّكنا وتستحوذ علينا، ولكن يمكن لنا، نحن أيضًا، أن نراقب هذه الأفكار التي تراقبنا. لهذا السبب ينبغي لتدريس الحذر أن يشكِّل أولوية، ليس في التدريس الجامعي وحسب، بل منذ السنوات الأولى للتعليم الأولي. نعم، ثمة ضرورة لتدريس كيفية مواجهة خطر الوهم والخطأ في كلِّ عملية إنتاج للمعرفة وتحصيلها، دون أن يعني ذلك ضمان النجاح ضمانًا مطلقًا في ذلك. ولكن يمكن لنا، مع ذلك، تكوين مناعة ضد هذا التوجه نحو الوهم – وهي مهمة يمكن لها أن تكون أساسية.
الثقب الأسود الثاني: كيفية تحول المعلومات إلى معرفة وجيهة
ليست كثرة المعلومات هي المعرفة الوجيهة؛ وليست لهذه الأخيرة أية علاقة بالمبالغة في الترميز أو التعقيد. المعرفة الوجيهة هي تلك التي نتعرف من خلالها على القدرة على تنظيم المعلومات وتأطيرها ضمن سياقها، الذي يبقى أهم من المعلومات في حدِّ ذاتها. إننا نتلقى معلومات كثيرة من التلفزة، ولكننا لا نستفيد منها إلا إذا كان عمل رئيس التحرير متقنًا ومنظمًا واستطاع تأطير تلك المعلومات التأطيرَ الوجيهالذي يحولها من مجرد معلومات متفرقة حول الحدث إلى معرفة بالحدث. فإذا أخذنا، مثلاً، حالة النزاع في كوسوفو، فمن الواضح أنه لا يمكن لِمَن لا يستطيع استحضار الخلفية التاريخية للأحداث وتاريخ كوسوفو، وليس فقط جغرافيته، وعمق تأثير الإمبراطورية العثمانية، إلخ، أن يفهم شيئًا. ففي هذه الحالة – حالة غياب التأطير – تكون المعلومات مجرد أخبار متفرقة تهطل كالمطر، وليست لديك فرصة لتنظيمها والتحكم فيها. إن المعرفة الوجيهة هي التنظيم الملائم للمعلومات: فإذا كان تنظيم المعلومات جيدًا ومفتوحًا على المتغيرات، بحيث يستطاع إدماجُها، فإنه يولِّد معرفة جديدة ويكون قابلاً لإدماج المعطيات الجديدة واستيعابها. أما إذا كان التنظيم صارمًا ومغلقًا، كما هي حال التنظيمات السياسية، فإنه يتجاهل المعطيات التي لا يستوعبها أو لا يرغب فيها، مما يشكِّل خسارة لما تمَّ تجاهلُه.
إن مشكل تنظيم المعلومات مشكل عويص. وعوض أن يواجه تدريسُنا هذا المشكل، فإنه يتبنى منهاجًا يفصل بين الاختصاصات وبين المواد الدراسية، وبذلك، يُضعِف القدرة التي تكون للإنسان على وضع الأفكار في سياقها وتأطيرها التأطير المولِّد للمعنى. كان الشاعر ت.س. إليوت يردِّد عبارة جميلة يقول فيها: "أين المعرفة التي ضيَّعناها في المعلومات؟ وأين الحكمة التي ضيَّعناها في المعرفة؟" والحكمة هنا هي فن استيعاب هذه المعارف وهضمها لتساعدنا في حياتنا الخاصة.
لنأخذ مثالاً آخر من أحد العلوم الإنسانية الأكثر دقة وتنظيمًا، وليكن علم الاقتصاد، – لأنه يقوم على الحساب، وهو علم دقيق، وتوجد جائزة نوبل للاقتصاد، إلخ، – ولنطرح السؤال التالي: لماذا يواجه هذا العلم الدقيق مشاكل في تنبؤاته وفي بناء نماذجه التفسيرية؟ لماذا لا يستطيع علماء الاقتصاد التنبؤ بما قد يحدث، فيتساوون في ذلك مع رجل الشارع، على الرغم من علمهم؟ طبعًا لأنه لا يمكن اختزال الاقتصاد إلى الحساب فقط. بل هناك الحاجات المتولدة في استمرار، وهناك الرغبات والأهواء والملذات، وهناك التخوفات والتوجسات – هذه العوامل كلها تجعل عالَم الاقتصاد عالَمًا معقدًا تتداخل فيه هذه العوامل، سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو مالية إلخ. فإذا كان علم الاقتصاد علمًا مغلقًا، لا يمكن أن تربطه علاقةٌ بباقي العلوم وبباقي مظاهر الحياة الاجتماعية؛ وبالتالي، فإنه سيجهل كلَّ ما لا يدخل في الحسبان وكلَّ ما لا يقبل الحساب. وما هذا الذي لا يُحسَب؟ طبعًا إنه الألم والعذاب والسعادة والشقاء والإنسانية والإبداع والحياة. نواجه، إذن، مشكلة حقيقية، لا يمكن أن نحلها إلا إذا تبنَّينا فكرًا علائقيًّا، فكرًا يفكر في العلاقات. إننا في حاجة إلى فكر يربط ويؤطِّر؛ إننا في حاجة إلى فكر يؤطِّر المعلومات ويضعها في سياقها، ويربط هذا السياق بأنظمته الكبرى التي تؤطِّر هذه المادة أو تلك – علمًا أن النظام العام الكبير اليوم ليس هو النظام الوطني، ولا حتى الجِهَوي، بل هو النظام الكوكبي. إن النظام العام هو النظام الأرضي بمعناه الأشمل.
إن كلَّ حدث كوكبي (عالمي) يؤثر على ما هو محلِّي تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر، كما أن الحدث المحلِّي يجد صداه على مستوى الكوكب الأرضي بأسره. إن هذا المعطى الأساس في عصرنا هو ما يعجز نظامُنا المعرفي والتربوي عن متابعته واستيعابه: فهو عاجز عن ربط المحلِّي بالكوني وبالكوكبي، وعن استخلاص النتائج التربوية لذلك. إنه لا يستطيع إدراك السياق الشمولي للمعطى المحلِّي أو الجِهَوي؛ كما أنه يعجز عن تبيُّن روابط الجزئي بالكلِّي. إن هذا العجز هو الثقب الأسود الذي يبتلع ويعدم كلَّ ما يمكن التوصل إليه بفضل هذا الربط وبفضل المعرفة الوجيهة التي تكون قادرة على تصور المشاكل الأساسية والشاملة في سياقها الكوكبي، بجميع أبعاده ودلالاته. وهذا هو أساس العمل الذي قمت به في عملي الذي أسميته المنهج La Méthode، حيث حاولت تطوير أدوات المعرفة التي تسمح بربط المعارف المفصولة بعضها عن بعض. وأكتفي هنا بمجرد الإشارة إليه لضيق الوقت.
الثقب الأسود الثالث: الشرط الإنساني، تلك القارة المنسية
يخص هذا الثقب الشرط الإنساني. وهو يستدعي الاستغراب والدهشة؛ إذ لا يوجد مكان خاص ندرِّس فيه ونعلِّم شرطنا الإنساني، أي ما نحن عليه من أحوال، باعتبارنا كائنات إنسانية. وهو موضوع مهمل، ليس فقط من طرف العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية، بل حتى من طرف العلوم الدقيقة، لأن جزءًا هامًّا من النشاط الإنساني يندرج ضمن موضوعات هذه العلوم الأخيرة، باعتبارنا حيوانات تنتمي إلى الثدييات، بل وحتى بالنسبة إلى العلوم الفيزيائية والكيميائية. فنحن نعرف اليوم أن الحياة هي تنظيم لعناصر فيزيائية–كيميائية، جزيئات تتكون من ذرات. إن جزءًا من الوضع الإنساني هو واقع فيزيائي–كيميائي. ولكن تدريس هذه العلوم مفصولةً بعضها عن بعض يجعلنا لا ندرك هذه الروابط وتشكيلها للإنسان، على الرغم من أن الواقع الفعلي لوجوده يعكس التحام هذه العوامل وانصهارها فيه. فبفضل تطور علم الفلك وآليات الرصد والتتبع، على المستويين الماكروفيزيائي والميكروفيزيائي، نعرف أننا نحمل في جسمنا جزيئات يرجع تاريخها إلى الثواني الأولى من ميلاد الكون. فكياننا المادي يحمل ذرات من الكربون تكونت في قلب نجوم سابقة على شمس منظومتنا؛ وبعد انفجارها (النجوم)، تشتتت هذه الذرات و/أو تجمعت في الكوكب الصغير الذي نسميه اليوم الأرض. كما نعرف اليوم أن العناصر الأولية تراكبت حتى توفرت شروطُ ظهور الحياة. وأقول إننا نحمل في داخلنا الخلايا الحية الأولى التي ظهرت في الثواني الأولى لظهور الحياة على الكوكب الأرضي؛ كما نحمل في داخلنا العالم الحيواني؛ ونحمل في داخلنا، أيضًا، بنية الكائنات الفقارية وكلَّ ما يرتبط بتاريخ الثدييات: فنحن نرضع الأبناء، ونحمل في داخلنا الشواهد على الحياة البدائية.
لكننا تجاوزنا هذا كلَّه لأننا كائنات تنفرد بالثقافة واللغة والوعي والبُعد الروحي، مما يجعل وضعنا الإنساني وضعًا غريبًا ومثيرًا. فنحن، على مستوى أول، ننتمي إلى هذا الكون انتماءً قويًّا، تشهد عليه خلايا أجسامنا وتركيبتنا المادية؛ ونحن، على مستوى ثانٍ، ننفصل عنه ونتعالى عليه بالوعي: إننا كالأيتام في هذا الكون، لأننا نتميز بهذه الخاصية التي تجعلنا كائنات واعية تتساءل عن مآلها وقدرها.
إن شرطنا الإنساني شرط معقد. وهذا يعني أننا لسنا فقط مجرد أفراد، بل نحن أفراد ينتمون إلى مجتمع، وفي الآن نفسه، إلى النوع البشري. وهذا معطى معقد لا ينفع معه أي حساب؛ إذ لا يمكن لنا القول إن الكائن الإنساني هو كائن بيولوجي بنسبة 33%، وثقافي بنسبة 33%، وسوسيولوجي بنسبة 33%، بل هو كائن بيولوجي 100%، وثقافي 100%، وسوسيولوجي 100%! إن هذا المعطى هو الذي يطرح علينا مشكل الفكر المعقد la pensée complexe الذي لم نتعود عليه، ولا نمتلك منهجيتَه ولا أدواتِه. ولا يمكن لنا مواجهة المشكل إلا إذا تبنَّينا القول بنوع من الارتباط المغلق والمفتوح في الآن نفسه، مفاده أن طرفي العلاقة ضروريان أحدهما للآخر ضرورةً تامة غير منقوصة، بحيث يكون الناتج ضروريًّا لمنتجه. فنحن نتاج ظاهرة توالد بيولوجي (تكاثر النوع بحسب برنامجنا الوراثي)؛ ولكننا بفضل هذه الخاصية منتجون أيضًا، فنلد الأولاد، ولا يكون كلُّ مولود عضوًا في الجماعة البشرية فقط، بل مولود يحمل في ذاته وفي كيانه النوعَ البشري ككل. وقل الشيء نفسه بخصوص العلاقة بالمجتمع: فنحن ننتمي إلى المجتمع بالقدر الذي نكوِّن به هذا المجتمع. إننا داخل المجتمع، والمجتمع داخلنا. فنحن نتعلم، منذ طفولتنا الأولى، منظومة المعايير والقيم واللغة والثقافة وقواعد السلوك. وهذا ما أسميته بـ"مبدأ الاشتمال": اشتمال الجزئي على الكلِّي، بحيث يكون الكل متضمَّنًا في الجزء. وبالتالي، تتخلَّى طريقةُ تفكيرنا عن اعتبار أن الجزء هو الوحيد الذي يكون متضمَّنًا في الكل، وأن الكلَّ لا يمكن له أن يُتضمَّن في الجزء. إن الكلَّ يكون هو أيضًا ضمن الجزء. إذا استوعبنا هذا المبدأ، أدركنا الشرط الإنساني وتعقيده.
غير أني أضيف إلى هذا المجال مجالاً آخر، لا يقل أهمية عنه لفهم واقع الشرط الإنساني: إنه مجال الأدب، والرواية بصفة خاصة. إذ تستطيع الرواية أن تُظهِر لنا ما لا تستطيع العلوم الإنسانية إظهارَه. فهذه الأخيرة تُظهِر لنا الإنسانَ من خلال خصائصه الموضوعية والخارجية؛ ولكن الرواية تنفذ إلى عمق الإنسان، وتكشف لنا عالمه الداخلي، كما تُظهِر لنا الذوات من خلال طريقة تفكيرها وتوترات أهوائها وطموحاتها وحماقتها وذكائها وعلاقاتها الاجتماعية وسياقها التاريخي. ويمكن لنا أن نأخذ رواية الحرب والسلم لتولستوي كمثال، بحيث نستطيع القول إننا بفضل الأدب نستطيع معرفة الذات الإنسانية، بل ويمكن لنا النفاذ إلى عمقها بفضل الأعمال الأدبية الرائعة لمارسيل پروست أو دوستويفسكي، مثلاً لا حصرًا؛ كما يمكن لنا الاقتناع، بفضل قراءة هذه الأعمال، بأن كلَّ واحد منَّا يحمل في داخله شخصيات عدة، لا شخصية وحيدة وواحدة. لنقل، بهذه المناسبة، إن الأدب ليس شيئًا كماليًّا، بل هو ما ننفذ به إلى أعماقنا. وهذا ما ينبغي للمدرِّسين أن يفهموه ويستوعبوه وأن يوجِّهوا التلاميذ إليه، بدلاً من إفقار هذه العلاقة بالاكتفاء بتحليل النصوص وتشريحها سيميولوجيًّا [دلاليًّا] ونحويًّا.
ولا تتجلَّى ضرورة الأدب في ضرورة الرواية فقط، بل أيضًا في ضرورة الشعر، الذي لا نرى فيه مجرد ذاك الشيء الجميل في حدٍّ ذاته، بموسيقاه المتفردة، لأن الشعر هو تعلُّم وانفتاح على شاعرية الحياة. الشعر باب آخر نلج منه إلى عمق العالم الإنساني الشاسع.
عُرِّف بالإنسان قديمًا بأنه "حيوان عاقل". وينبغي لنا اليوم الاعتراف بأنه ليس فقط حيوانًا عاقلاً، بل هو أيضًا "حيوان مجنون"! وقد سبق للفيلسوف كورنيليوس كاستوريادس أن قال: "الإنسان حيوان مجنون، ولكن جنونه خلق العقل."
وعُرِّف بالإنسان قديمًا بأنه "صانع آلة"، وبالتالي، عُرِّف بمهارته التقنية – وهذا أمر واقع لدى البشر. ولكن ينبغي لنا التأكيد على أنه، منذ نشأة البشرية، كان هناك دائمًا لدى البشر اعتقادٌ في عالم آخر؛ كان لديهم اعتقاد في الأساطير والديانات. وهذا ما يجب التوقف عنده مطولاً، وليس عند مهارته التقنية وحسب. فنحن نعرف اليوم أن صناعة الأدوات سابقة على ظهور الإنسان العاقل؛ كما أن الأبحاث أكدت وجود هذه المهارات عند بعض أنواع الشمپانزي المسماة بونوبو، حيث يعلِّم الكبارُ الصغارَ بعض تقنيات صناعة الأدوات. ولكن الفرق الأساسي يبقى هو الاعتقاد في حياة أخرى بعد الموت. الأساطير الإنسانية جمعاء تؤكد هذا الأمر.
كما عُرِّف بالإنسان، ابتداءً من القرن الثامن العاشر، كـ"كائن اقتصادي"، تحرِّكه مصلحتُه الاقتصادية؛ ولكن هذا التعريف ينسى كلَّ ما يستطيع الإنسان فعلَه بعيدًا عن مصلحته الاقتصادية، وأحيانًا ضدها، كاللعب والعطاء والممارسات المجانية إلخ.
لهذه الاعتبارات جميعًا، يجب أن نحذر بعض الشيء عندما نطرح موضوع "الشرط الإنساني". فعندما ننظر إلى الإنسان من زاوية مظهره الاقتصادي أو التقني أو العقلي فقط، فإننا لا نرى من هذا الإنسان إلا جانبًا واحدًا. والحال أن المظاهر الشاعرية للحياة هي تلك التي نتعرف إليها في اللعب، وفي الاتحاد والالتحام، وفي التعاطف مع الآخرين، وفي العطاء، وفي الحب. إنها مظاهر شاعرية الحياة. كان الشاعر هولدرلِن يقول: "الإنسان يسكن الأرض شعريًّا." نجد هذا التصريح متفائلاً جدًّا. لهذا قيل: "الإنسان يسكن الأرض شعريًّا وعاديًّا." ولكن من الأهمية القصوى أن نعلِّم كيف نحيا الحياة شعريًّا وكيف نستضيف الشعر في حياتنا.
وأسجِّل، على مستوى آخر، ودائمًا بخصوص الشرط الإنساني، أنه يتم تصور العقل الإنساني في نشاطاته مفصولاً عن النشاط الإنساني، بأبعاده الكبرى، وعن الأهواء. وهي فكرة خاطئة اليوم؛ ويمكن رفضها كليًّا بناءً على نتائج أبحاث أنطونيو داماسيو وجان ديدييه فَنسان ودراسات أخرى للدماغ البشري، أظهرتْ أن النشاطات العقلانية للدماغ تشغِّل مناطق دماغية انفعالية وتنشِّطها. فعالِم الرياضيات، عندما يقوم بحلِّ مشكلة رياضية، لا يكون بصدد إنجاز عمل تقني صرف وخالص وحسب، بل إنه يقوم أيضًا بنشاط انفعالي. لا يمكن لنا اليوم فصلُ الأهواء عن النفعية ولا عن العقل؛ فالكل يشكِّل تركيبة معقدة. ولهذا المعطى الأساس نتائج مهمة في مجال التربية. وإحدى الخلاصات الهامة هي أن النشاط الانفعالي يبقى حاضرًا، بكيفية ما، حتى في النشاط العقلاني المجرَّد، كما يبقى البُعد العقلاني حاضرًا، بكيفية ما، حتى في الأنشطة الانفعالية.
إن معرفة الشرط الإنساني والهوية الإنسانية يستدعيان الربط بين الاختصاصات التي تُدرَّس اليوم منفصلةً بعضها عن بعض. ولهذا أرى أنه، إلى جانب كرسي يخصَّص للمعرفة كما حددناها، لا بدَّ من تخصيص كرسيٍّ للهوية الإنسانية، يكون من مهامه توجيه عقول المتعلِّمين نحو الربط بين المواد والاختصاصات من أجل بناء هوية تقترب أكثر من التعقيد الذي يطبعها.
الثقب الأسود الرابع: ضرورة السير على طُرُق الفهم والتفاهم
يتعلق الأمر، هاهنا، بكيفية فهم بعضنا بعضًا. فنحن نلاحظ، من جهة أولى، الانتشار الواسع لوسائل الاتصال وتعقد شبكة المواصلات السلكية واللاسلكية التي لم تعرف البشرية من قبل مثيلاً لها (الهواتف المحمولة، الإنترنت، إلخ)؛ ونلاحظ، من جهة ثانية، عدم فهمنا بعضنا بعضًا، وعدم التفاهم بين الأمم والقارات والثقافات، مما يعني أن التواصل لا يأتي بالضرورة بالفهم ولا بالتفاهم. نجد نقل المعارف والمعلومات، ولكننا لا نجد الفهم ولا التفاهم.
كما نجد، على مستوى آخر، أن القرب لا يضمن بالضرورة الفهم والتفاهم، سواء داخل الأسرة نفسها، بين الآباء والبنين، بين الإخوة والأخوات، أو حتى داخل مكان العمل نفسه، أو الجامعة نفسها. إن عدم التفاهم ليس ذاك الشر الذي يجعل العلاقة صعبة بين الشعوب والديانات وحسب، ولكنه ذاك الشر الذي يمس الحياة اليومية لكلِّ واحد منا. كيف يمكن لنا تحقيق التقدم والرقي بالعلاقات الإنسانية إذا كنَّا عاجزين عن التفاهم فيما بيننا؟ ما هي هذه العوائق التي تمنع التفاهم في العالم المعاصر؟
نجد دائمًا أن الشرَّ يأتي من علاقة محددة، هي تطور النزعة الفردية individualisme تطورًا أعطى الفرد مزيدًا من الاستقلالية. وينبغي الإسراع في القول إن هذه الخاصية تُعتبَر معطى حضاريًّا أساسيًّا وإيجابيًّا. ولكن عندما يتم هذا التطور (تطور النزعة الفردية) على حساب روابط التضامن التقليدية، فإنه لا يخلق العزلة وحسب، بل يصنع الأنانية والتبرير الذاتي وتجريم الآخرين وتحميلهم مسؤولية جميع الأخطاء.
مثلاً، لا أعرف هل تعرف مدينة الرباط أو الدار البيضاء الاكتظاظ السكاني نفسه الذي تعرفه مدينة باريس في حركة السير في ساعات الذروة، ولكنه مشهد مفيد. فعندما يشاهد المرء ما يقع بسبب هذا الازدحام من انفعال وسبٍّ وشتم، فإنه يقتنع في سهولة بصعوبة التحكم في الانفعالات وبضرورة الانتباه إلى الآخرين ومحاولة فهمهم.
إضافة إلى هذا المعطى، هناك شيء آخر ركَّز عليه الفيلسوف هيغل، ألا وهو اختزال الغير إلى أحد خصائصه، أي عزل عنصر واحد من عناصر هويته والتركيز عليه واختزاله إليه – وهذه هي الفعلة الأسوأ. يقول هيغل: إذا وصفتُ رجلاً ارتكب جريمة واحدة في حياته بالمجرم، فإني أنزع عنه مظاهرَ حياته وأفعالَه كلَّها، لأسجنه في هذا المظهر الوحيد ولأرجعه إليه. إن هذه الآلية التي تكلَّم عليها هيغل هي إحدى آليات سوء الفهم والتفاهم. وهي لا تَصدُق على الحالات الفردية وحسب، بل حتى على الجماعات. فحرب كوسوفو التي وقعت بين مكوِّنات كانت، حتى عهد قريب، تشكِّل "أمَّة واحدة" أظهرت كيف أن آلية اختزال الغير إلى عنصر واحد فقط من عناصر هويته وتاريخه هي تنكُّر لتاريخ مشترك يسَّر التجاوزات كلَّها باختزال العدو إلى صفة واحدة. إن عدم التفاهم هو الخميرة التي تنمِّي أسوأ مظاهر العداوة والحقد التي يمكن لها أن تستشري بين الناس وبين المجتمعات.
ويهمنا هنا جانبٌ آخر في التفاهم، ألا وهو تجاوُز اللامبالاة حيال الغير. فالتفاهم لا يعني فقط التعرف إلى الغير موضوعيًّا: طوله، لونه، ملامحه، لغته، مهنته، إلخ، بل التعرف إليه عن طريق الإحساس والتعاطف. فإذا رأيت طفلاً يبكي فإني أتفهم حالته وأنفذ إليها بإحساسي المتعاطف، لأني كنت طفلاً وأحسست بما يحس به وأعرف ماذا يعني البكاء. فإذا لم يكن هذا التعاطف، لن يكون هناك أيُّ شكل من أشكال التفاهم.
ولتفسير هذا الأمر، أسوق مثلاً آخر، وليكن ما يجري في قاعة العرض السينمائي. هناك من الناس مَن يقول إنها مكان للاستلاب، حيث يتم تخدير المتفرِّج وفصله عن الواقع وإفقاده جزءًا كبيرًا من استقلاليته. ربما كان هذا صحيحًا؛ ولكن هناك مظهرًا آخر يكتسي بأهمية بالغة، ألا وهو التماهي identification: فمن خلال التماهي مع شخصيات الفيلم، نربِّي فينا الانفتاح على الآخرين والانتباه إليهم كما هم، وبالتالي، نفهم حتى أنفسنا.
ولا تَصدُق هذه الملاحظة على الشخصيات الطيبة أو المحبوبة فقط، بل تَصدُق حتى على الشخصيات التي تجسِّد القوة والبأس والقهر. فإذا تذكَّرنا، مثلاً، فيلم العرَّاب لفرانسيس كوپولا، وانتبهنا إلى رأس الأسرة أو ربِّ الجماعة، كما أدى دوره كلٌّ من الممثلين مارلون براندو وآل پاتشينو، فإننا نجد أنه يقدر على ارتكاب أفعال بالغة القسوة والبأس وعلى القتل ببرودة أعصاب تامة، ولكننا نعرف أنه يقدر على الحبِّ والوفاء والإخلاص أيضًا، وأنه يتألم ويبكي، كباقي البشر؛ فنحن بذلك نفهمه في شموليته وكلِّيته.
يحدث الشيء نفسه عندما نشاهد تشارلي تشاپلن في دور المتشرد المتسكع، فنتعاطف معه تعاطفًا لا يصدَّق؛ ومع ذلك، بمجرد أن نخرج من قاعة السينما ونصادف متشردًا، فإننا نبدي نفورًا منه ولا نبالي به! إننا ننفذ إلى أعماق هذه الشخصيات ونفهمها بفضل التماهي. والشيء نفسه يَصدُق على الشخصيات الروائية أو المسرحية، كشخصيات وليم شكسپير مثلاً.
في الواقع، هناك مفارقة: نستطيع، عِبْر الفن والأدب، التعاطف مع هذه الشخصيات وفهمها؛ ولكننا في الواقع اليومي لحياتنا لا نستطيع ذلك، فنكون كالنائمين. وهو ما يضفي معنى على عبارة هيراقليطس، – الفيلسوف الذي تكلَّم كثيرًا بالمجاز، – تلك العبارة الرائعة التي يقول فيها: "أيقاظ، لكنهم نائمون" – وهي عبارة تستحق أن نتأملها تأملاً مستمرًّا.
إن ضرورة فهم الغير تخلق ضرورة فهم الذات وتفادي التبرير الذاتي وتجريم الغير والكذب على الذات – وهي تجارة رائجة بيننا اليوم. فهناك العديد من الشروط التي يمكن لها أن تساعد على تربية ملَكة الفهم وتطويرها. ويمكن تدريسُها منذ الفصول الدراسية الأولى، وليس انتظار الوصول إلى مرحلة التعليم الجامعي للقيام بذلك.
إن اللاتفاهم يسود العالم ويهدِّده. ومن المؤكد أن ضرورة التفاهم هي المطلب الملح للرقيِّ بمستوى العلاقات بين البشر.
الثقب الأسود الخامس: ندرِّس اليقين ولا ندرِّس اللايقين والمحتمَل والمفاجئ
لا نؤهَّل لمواجهة مفاجآت الحياة. والواقع أن البشرية طورت أساليب لمواجهة هذه الأحوال بالتنجيم والفراسة والسحر والعبادة والدعاء. ولكن أعتقد أنه ينبغي علينا الذهاب بعيدًا في البحث، من دون تجاهُل هذه الكيفيات في المواجهة والتحكم التي طوَّرتْها البشرية. نفهم كيف أن اللايقين والمحتمَل يشكلان جزءًا صميميًّا من حياة كلِّ واحد منَّا منذ ولادته. لا أحد يعرف مسبقًا الأمراض التي ستصيبه أو مصيره في الحياة؛ ولكن بقدر ما يتقدم المرء في الحياة يكتشف، وبالقدر نفسه يتفاجأ. إنه لا يعرف هل سيكون زواجُه سعيدًا أم شقيًّا؛ إنه يعرف فقط أنه سيموت، ولكنه لا يعرف تاريخ موته. هذه بعض الملاحظات عن علاقة اليقين باللايقين على المستوى الفردي.
أما على مستوى العلوم، فإن هذه قد حقَّقت، منذ فجر القرن العشرين، تقدمها باختراق مجال اللايقين والمحتمَل. فعلوم القرن التاسع عشر، بما فيها علوم الفيزياء، كانت علوم الحتميات المطلقة، وكانت تتبنَّى الدعوة القائلة: إذا عرفنا الشروط كلَّها توصَّلنا إلى النتائج كلَّها كما هي محددة. كان مناخها الإيديولوجي والفكري هو مناخ دعاوى التقدم. في القرن العشرين، لم تعد فيزياء القُسَيْمات (الفيزياء الكوانتية) هي وحدها التي تقول باللاحتمية indéterminisme، بل حتى فيزياء الشواش chaos. لقد توصلت هذه العلوم كلها إلى أن السيرورات المحدَّدة في الأصل، بمجرد أن تصير موضوع تفاعلات، فإنه لا يمكن التنبؤ بنتائجها إلا على وجه الاحتمال. ويقودنا هذا إلى مجموعة من النتائج الهامة، أهمها الشك في كلِّ نتيجة قد تُعتبَر نهائية ومطلقة: فما يظهر أنه ظاهرة محكومة بحتمية تعكسها معادلةٌ رياضية صارمة، كحركة دوران الأرض حول الشمس مثلاً، يبقى كذلك في حدود معينة – وهو أمر صحيح. ولكن الأبحاث والحسابات الرياضية تؤكد أن الأرض نفسها التي تدور بهذه السرعة المحسوبة بدقة رياضية كانت هي نفسها تدور حول الشمس بسرعة أكبر في ما مضى، ولا نعرف بأية سرعة ستدور في غضون ملايين السنين القادمة. وبالتالي، فإن العديد من الظواهر التي تظهر حتميةً اليوم لا تكون كذلك إلا في حدود زمنية قصيرة نسبيًّا.
ولكنْ – حتى لا أطيل عليكم في مجال النظرية الفيزيائية – فلآخذ مثالاً آخر من البيولوجيا والتطور البيولوجي. إننا نعرف أن كوارث كونية كانت في أصل ظهور الحياة على الأرض. كما نعرف أن كوارث طبيعية أُخَر عرفها العصر الجيولوجي الأول أبادت العديد من الكائنات الحية؛ وهي الإبادة نفسها التي سمحت بظهور أنواع أخرى. وهناك أيضًا الكارثة الثانية التي عرفتْها الأرض في نهاية العصر الجيولوجي الثاني، ربما بفعل ارتطام نيزك قادم من الفضاء بالأرض، وما تولَّد عن هذا الارتطام من دمار شامل وتغيُّر في المناخ والتضاريس، مما قضى نهائيًّا على الديناصورات وسهَّل نموَّ حيوانات صغيرة آكلة للحوم (لحوم الديناصورات) وتكاثرَها – وهو التطور نفسه الذي سمح بظهور النوع البشري. إن الدرس الذي يمكن لنا استخلاصُه من تاريخ الحياة هو أنه تاريخ الشواش والمصادفة واللامؤكَّد والمفاجئ.
وتَصدُق الملاحظةُ نفسها على التاريخ البشري الذي حاولنا دائمًا جعلَه تاريخًا متصلاً وعقلانيًّا، وكأن له غايةً محددة سلفًا. إنه تاريخ انهيار الإمبراطوريات وتلاشيها: الإمبراطوريات الآشورية، البابلية، الفرعونية، الصينية، الرومانية، بل وحتى الإمبراطوريات الحديثة والمعاصرة: الإمبراطورية العثمانية، والإمبراطورية السوفييتية. في اختصار، إن تاريخ البشرية هو نفسه تاريخ لا يحكمه قانونٌ صارم وحتمي؛ فهو تاريخ الأحداث والوقائع العظمى، تاريخ الحروب العالمية، مع نتائجها غير المحسوبة وغير المرتقَبة والمفاجئة.
ينبغي لنا، إذن، تدريس اللايقين والمحتمَل لمواجهتهما. وأود، بهذه المناسبة، أن أقف عند شيء هام على هذا المستوى، غالبًا ما يُغفَل، وأسميه بـ"إيكولوجية الفعل"، ويعني أنه عندما يبدأ فعلٌ ما، سواء في وسط اجتماعي أو طبيعي، فإن ذلك الفعل يفلت تدريجيًّا من إرادة الفاعل الأول، ليدخل في سيرورة تفاعُل قد تغيِّر اتجاهه أو مساره. وتقدِّم الثورة الفرنسية مثالاً تاريخيًّا هامًّا.
نعرف أن الثورة الفرنسية جاءت كردِّ فعل للطبقة الأرستقراطية التي حاولت استغلال ضعف السلطة الملكية وانعدام كفاءتها لاسترجاع امتيازات فقدتْها بعد قيام الملكية المطلقة للملك لويس الرابع عشر. فطلبت اجتماع المجلس الأعلى États généraux، حيث كانت الكنيسة ممثَّلة ومعها طبقة النبلاء، وعموم الناس Tiers-état. وكان التصويت في هذه الهيئة يتم على أساس الفئة أو الهيئة المنتمى إليها، بحيث كانت الأغلبية للكنيسة وللنبلاء. ولكن في بداية الاجتماع تم فرضُ التصويت الفردي، فكانت النتيجة (1849) إلغاء الامتيازات. مثال آخر، حاول غورباتشوف إصلاح الاتحاد السوفييتي، فعجَّل في انهياره وتفككه.
نرى، مرارًا، أن الفعل لا ينتهي إلى قصده الأول، بل غالبًا ما ينحرف عنه ويخون هدفه الأول. وهذا أيضًا درس هام يعلِّمنا، أولاً، أن كلَّ قرار هو نوع من المراهنة، هو شيء لا نضمن نجاحه سلفًا؛ ويعلِّمنا، ثانيًا، ضرورة معرفة كيفية بلورة الاستراتيجية. وأميِّز، هاهنا، بين الاستراتيجية والتخطيط.
البرنامج نحدِّده مرة واحدة، وبصفة نهائية، ليطبَّق بحذافيره. يتعلق الأمر بآليات يتم حصرُها في مجال نتحكم فيه. أما عندما يتعلق الأمر بمجال متحرك للفعل، فإنه ينبغي جعل خطة العمل مرنة لإدماج المعلومات والمعطيات بحسب الشروط والمفاجئات والطوارئ.
علينا أن نستحضر هذا الشيء، وأن نتذكر ما قاله المؤلِّف التراجيدي الإغريقي إفريپيدس، الذي قال إن مدار تراجيدياته كلِّها فكرةُ أن الذي يحصل عادةً ليس المتوقَّع أو المرتقَب، بل اللامتوقَّع والمفاجئ. فلنتوقع اللامتوقَّع، ولاسيما أننا نعرف أن معاهد المستقبليات futurologie كلَّها لن تسعفنا في جعل المستقبل أمرًا أكيدًا، على الرغم من السيناريوهات الجاهزة كلِّها.
إن مغامرة البشرية تسير دائمًا في اتجاه المجهول، وليس لنا سوى المراهنة أو الاستراتيجية.
الثقب الأسود السادس: تدريس الكوكبي
على مستوى أوروبا، ينبغي تدريس التاريخ الوطني؛ وينبغي إدماج هذا التاريخ في تاريخ أوروبا: مثلاً، إدماج تاريخ فرنسا ضمن تاريخ أوروبا، وليس تدريس تاريخ أوروبا من زاوية تاريخ فرنسا. فنحن لا نعرف تاريخ أوروبا الشرقية أو الإمبراطورية العثمانية. ينبغي إدماج هذا التاريخ ضمن هذه التواريخ، وهذه الأخيرة ضمن تاريخ كوني.
كانت هناك في تاريخ البشرية مرحلة أولى هي مرحلة التشتت والانتشار (الإمبراطوريات العظيمة القديمة)؛ وكانت هناك مرحلة ثانية، بدأت مع الاكتشافات الجغرافية الكبرى، بمظاهرها الأسوأ والأفضل – الأسوأ: العبودية والاستعمار، والأفضل: الاكتشافات والمعرفة والعيش. تلتهما المرحلة الحالية، التي نسميها اليوم "الكوكبية الشمولية"، حيث يتم إرساء البنيات التحتية لمجتمع–عالَم لا يوجد بعد؛ وهي مرحلة تقودنا إلى حالة فوضى كاملة. ولكن هذا المعطى يفتح عيوننا على المشكل الحقيقي: صعوبة فهم الحاضر. يردِّد الفيلسوف الإسباني أورتيغا لوكاثيت: "لا نعرف ما يجري. وهذا ما يجري." إنه جهلنا بحقيقة حاضرنا. إننا في حاجة ماسَّة إلى معرفة حاضرنا معرفةً أحسن، لا لكي نعرف مستقبلنا معرفة أفضل، بل لمحاولة إدراك ما يحدث – علمًا بأننا نعرف أن ما يحدث لا يكون مرتقَبًا، بل غالبًا ما يكون غير متوقَّع. والمفارقة تكمن في أن هذا الوضع يفتح باب الأمل بلامتوقَّعه؛ أما المستقبل المنظور، فإنه يخيف بتوتراته وأسلحته.
الثقب الأسود الأخير – أخلاقيات المركَّب الثلاثي: الفرد والمجتمع والنوع البشري
هناك أخلاقيات تتعلق بالفرد، بأقاربه وبذاته؛ وهناك أخلاقيات لتطوير الفرد؛ وهناك أخلاقيات المجتمع، حيث الدمقرطة هي المطلب، وحيث يمكن للمواطنين أن يراقبوا مراقبيهم. وهنا نجد الدائرة المغلقة بين المواطنين والحكومة.
وهناك أخلاقيات النوع البشري؛ وهي ليست بيولوجية فقط، بل هي أخلاقية وحدة القَدَر والمصير التي تجمع بين جميع البشر على الكوكب الأرضي حيال المشاكل الأساسية وأمام الأخطار نفسها.
ويقودنا هذا التحليل إلى طرح سؤال: كيف نفكر في الإصلاح؟
إذا خلقنا هذه الكراسي السبعة للمعارف الضرورية، مع ضرورة إعادة تأهيل المدرِّسين، بحيث يكون في مقدورهم القيام بتدريس يتطلب تأهيلاً متينًا وقدرة على الجمع والتركيب، فإن الإصلاح يكون ممكنًا ويمكن لنا التقدم ومواجهة قدرنا. وأضيف أنه سيكون من المستحب أن تخصِّص كلُّ جامعة وكلُّ كلية نسبة 10% من برنامجها لجميع الاختصاصات؛ وهذا ما أسمِّيه "الذمة الإپستمولوجية"، التي ينبغي أن تجيب، بالضرورة، عن أسئلة أربعة أساسية:
السؤال الأول: ما العقلانية؟ – علمًا بأنه لا توجد عقلانية خالصة من الأهواء.
السؤال الثاني: ما العلم، وما المعرفة العلمية؟ كثير من الفلاسفة يفكرون في مفهوم العلم، أما العلماء فلا يفكرون في العلم.
السؤال الثالث: ما التعقيد؟ ما حقيقة هذا البناء المعقَّد للظواهر؟ وكيف يمكن للفكر البشري أن يستوعبها في تعقيدها، لا أن يشوِّهها بتبسيطها؟ إن المعرفة المطلوبة تتعدى معرفة المكوِّنات والأجزاء، بل هي معرفةٌ بما يعطى للإدراك ككل.
السؤال الرابع: ما الحضارة؟
هذه بعض الآفاق التي قدَّمتُها هنا، في اختصار شديد، علمًا بأنه يمكن لنا إيجاد كلِّيات جديدة، ككلِّية الإنسان، حيث يتم جمع كلِّ يتعلق به من علوم؛ كما يمكن إيجاد كلِّية للكون، إلخ.
يمكن لنا، إذن، إعادة تنظيم المعارف والاختصاصات. ولا يكمن المشكل في حذف الاختصاصات، بل يكمن في عدم تحاوُرها وفي عدم انفتاحها بعضها على بعض، مما يجعلها لا تتحول إلى تراث حي وإلى ثقافة. إن الثقافة الإنسانية اليوم معطوبة بانشطارها إلى ثقافة علمية، مغرِقة في التخصص، منغلقة على ذاتها، ولا تتفكر فيما يقوم به العلم، من جهة، وثقافة إنسانية، قوامها الفلسفة والأدب والفن، لا تتفكر فيما يقوم به العلم؛ وهي نفسها لا تستند إلى مكتسبات المعرفة العلمية التي تمنحنا فرصة للتفكير في قدرتنا.
إن التواصل بجمع المكوِّنين هو الذي سيسمح بإحياء الثقافة على مستوى تلبية حاجات الإنسان والعالم المعاصرين.