الثلاثاء، 14 مايو 2019

الخيار الآخر

السياق التاريخي للورقة 



وصل الصراع داخل دهاليز الكونفدرالية  الديموقراطية للشغل،  و خاصة داخل النقابة الوطنية للتعليم بين طرفي الاتحاد الاشتراكي، حد القطيعة التامة إبان جولات الحوار الاجتماعي سنة 2002 و انكشف بالملموس مدى لامبالات أطراف النزاع بمطالب العمال العادلة و ما تسبب فيه ذلك من يأس وإحباط لدى الشغيلة و انشغال الأطراف المتنازعة بالمصالح الحزبية ( الشخصية ) الضيقة جدا . و بدأت تلوح في الأفق بوادر تفكيك و تمزيق النقابة الوطنية للتعليم بوجه خاص و المركزية العتيدة بوجه عام. مما حدا بمجموعة من المناضلين الديموقراطيين بقلعة السراغنة إلى القيام بمجموعة من المبادرات المحلية ( عقد مجلس إقليمي بالعطاوية لتدارس الوضع المقلق لمخرجات الحوار الاجتماع و الصمت المريب للنقابات ) التواصل مع فروع ن .و. ت على المستوى الوطني من أجل الدفع بانعقاد مجلس و طني ( انظر الوثيقة المرفقة ) و ايفاد لجنة منبتقة من المجلس الاقليمي المنعقد بالعطاوية للحوار مع  المكتب الوطني ل ن.و.ت .
و بعد الوقوف على الوضع الكارتي الذي آلت إليه الأوضاع داخل الأجهزة البيروقراطية ل ن.و.ت  و قرب انفجار الوضع  بادرت مجموعة من المناضلين الديموقراطيين المستقلين عن طرفي النزاع إلى صياغة وثيقة الخيار الآخر في  ماي 2002 بقلعة السراغنة  و كان الهدف من ذلك:
- التشبت بوحدة النقابة
- دعوة المناضلين الديموقراطيين إلى عدم الاصطفاف مع أي طرف في النزاع
- العمل مع الشغيلة على قاعدة مطالبها الملموسة في أمكنة عملها
- العمل على تجميع المناضلين الديموقراطيين 

محمد أبوولي

النقابة الوطنية للتعليم
الخيـــــار الآخر

توجد النقابة الوطنية للتعليم (ن و ت) في حالة إعاقة كبرى تهدد بنهاية تجربة نقابية ظلت لعقود تؤطر نضال آلاف نساء ورجال التعليم. كيف ادن تتمظهر أزمة هذه النقابة ؟ وما هي أسباب تلاشي ديناميتها وكفاحيتها التي انبنت على مبادئ تاريخية : الديمقراطية،الاستقلالية، الجماهيرية، التقدمية؟

إن محاولة الإجابة على هذه الأسئلة تقتضي بداية، التركيز على المظاهر التالية:
1-عجز ن.و.ت عن تحقيق المكاسب الدنيا للشغيلة التعليمية وبالتالي ملفها المطلبي، نتيجة سوء تدبير المعارك النضالية .
2-احتكار حزب (الاتحاد لاشتراكي) ولمدة طويلة للأجهزة القيادية للنقابة، باعتماد أساليب لا ديمقراطية واعتماد منطق الإشراك الرمزي للقوى السياسية المتواجدة داخل النقابة،علما أن كل الفعاليات السياسية، بما فيها الاتحاد الاشتراكي ليست إلا أقليات داخل النقابة،مما ترتب عنه تبعية كلية ومكشوفة لهذا الحزب.
3-ارتباطا بالمعطى السابق، فبمجرد حدوث تفكك سياسي لهذا الحزب، أصبحت ن.و.ت ساحة حرب مفتوحة بين طرفيه: الاتحاد الاشتراكي والمؤتمر الاتحادي،وصلت إلى حد تهديد وحدة النقابة.
4-إقصاء القواعد من التقرير والتسيير والتمثيل بشتى الوسائل وتشويه جماهيرية النقابة في كل المحطات، كتجديد مكاتب الفروع وانتخاب المؤتمرين، وذلك بتقديم الزبناء الحزبيين والانتهازيين، كتجسيد مشوه للجماهيرية.
5- تحول النقابة إلى سلاح بيد لوبي نقابي له مصالحه وزبناؤه وحلفاؤه، واستهتار هذا اللوبي النقابي بمصير النقابة وذلك باتخاذه لقرارات لا تتماشى مع مطالب الشغيلة التعليمية وفرضه صيغا تنظيمية اقصائية ونخبوية من اجل ضمان السيطرة على الأجهزة القيادية، مما نتج عنه تضخم التوجه البيروقراطي في ن.و.ت.
6-العزوف المتزايد للشغيلة التعليمية عن الانخراط في النقابة كنتيجة لما سبقت الإشارة إليه.
والخلاصة هي : نقابة تسير في خط مخالف لاختيارات قواعدها، وقيادة تقايض بالمصالح الحيوية الملحة والمصيرية للشغيلة جريا وراء كسب سياسي وحزبي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن الأزمة النقابية الحالية تفرض جوابا شاملا يتجاوز حدود نقد القيادات البيروقراطية والتشهير بها. و هو الجواب الذي يشكل مهمة كل النقابيين الديمقراطيين. ومن أولى الأولويات،النضال من أجل المطالب الملحة للشغيلة والنضال ضد البيروقراطية لإحياء الديمقراطية. هذه الأخيرة أصبحت ضرورية في وقت تتجه فيه الشغيلة التعليمية خصوصا، والطبقة العاملة عموما، نحو آفاق معادية للنقابة، إما عن جهل بالطبيعة الحقيقية للبيروقراطية النقابية أو انطلاقا من التخوف من دخول معركة صعبة وطويلة، معركة النضال من أجل الديمقراطية الداخلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن المناضلين النقابيين الديمقراطيين (المراهنين على خيار الديمقراطية) مؤهلون اليوم أكثر من غيرهم للقيام بهذه المهمة التاريخية، على اعتبار أنهم لعبوا ولا زالوا يلعبون دورا حاسما في ضمان جماهيرية هذه النقابة وتوسيع قاعدتها ومحاربة اليأس المنتشر في صفوف منخرطيها والمتعاطفين معها من جراء انتظاريتها وحزبيتها وبيروقراطيتها.
 والمقصود بالمناضلين النقابيين الديمقراطيين، هم أنصار الديمقراطية داخل النقابة المعادين للبيروقراطية كيفما كانت انتماءاتهم السياسية والذين أعطوا المثال بالملموس على النضال المبدئي الذي لا يهدف إلى أي كسب مصلحي انتهازي والارتباط بالمشاكل اليومية التي تعانيها الشغيلة التعليمية داخل مؤسساتها وفي علاقتها بمحيط عملها، وذلك في أفق الإعداد المستمر للنضال من أجل تحقيق الملف المطلبي الوطني والارتباط العضوي بالنضال العام للشعب المغربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاشك أن للتوجه البيروقراطي حنكة لا تضاهى، اكتسبها من تجربة طويلة في المناورة، جعلته يبقى متنفذا في الإطار. غير أن  أخطاء المناضلين الديمقراطيين قدمت له خدمات عظمى، بحيث ظلوا يضمنون له بشكل غير واع، الجماهيرية والشرعية النضالية، ويعطونه القوة التي يفتقدها وذلك من خلال:
1-الإيمان بوهم يتمثل في إمكانية الوصول إلى القيادة كأغلبية لتفعيل الديمقراطية، وهو الوهم الذي غذته البيروقراطية بأساليب متعددة، أهمها التمثيلية السياسية داخل أجهزة النقابة (الكوطا)، وهو طعم ابتلعته، بانتهازية، بعض المكونات السياسية داخل النقابة.
2- الرهان على النضال المحلي كوسيلة لتطبيق الديمقراطية في العلاقة مع القواعد. غير أن خصوصية قطاع التعليم تجعل العمل المحلي واجهة جد ثانوية في العلاقة مع ما هو وطني، اعتبارا لكون الملف المطلبي في القطاع هو ملف وطني ويرتبط كلية بالسياسات الحكومية وبكيفية الدفاع عنه من قبل الأجهزة النقابية الوطنية.
إن أي تصور ديمقراطي، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة التوجه البيروقراطي الذي لا يمكنه التخلي عن مصالحه إلا تحت الضغط المادي والمعنوي للشغيلة، بل انه بإمكانه أن يلجأ إلى تدمير النقابة إذا أجبر يوما على التخلي عن القيادة. إن هذا المعطى الأخير، يفسر لماذا يصر طرفا التوجه البيروقراطي على إشهار خيار التدمير في وجه بعضهما، بعد أن تعارضت مصالحهما السياسية واشتد تهافتهما على الامتيازات المترتبة عن الهيمنة على إطار بحجم النقابة الوطنية للتعليم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما العمل ؟
إن الحاجة أصبحت ملحة إلى قيادة جديدة ذات مصداقية وقادرة على توحيد نضالات الشغيلة، حيث فقدان البيروقراطية لمصداقيتها وعجزها، ليس فقط عن الدفاع على المصالح المباشرة، بل الحفاظ على المكتسبات الجزئية للمرحلة السابقة. والحاجة ملحة أيضا إلى أدوات كفاحية وفعالة. وعلى العموم فقد أصبح من الضروري تجميع النقابيين الكفاحيين حول ممارسة ومشروع نقابيين جديدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 على المستوى المرحلي :
1-التشبث بإطار النقابة الوطنية للتعليم ووحدتها في إطار ك.د.ش
2-تفعيل المبادئ الأربع لـ.ن.و.ت بشكل يعطيها مضمونها الحقيقي : فالجماهيرية تتمثل في كون الجماهير هي وحدها المقررة والمسيرة، مع ما يتطلبه ذلك من وجود محطات نضالية وتنظيمية تمكن الجماهير من النقد واقتراح بدائل والإشراف على تطبيقها، وهو ما يتطابق مع الخيار الديمقراطي الذي يرى في الأجهزة القيادية أجهزة تنفيذية فعلا لا غير.
وهو الخيار الذي لا يمكن أن يتجسد عمليا إلا بـــ:
1-تمكين الجماهير من التحكم في اقتراح تغيير البنية التنظيمية حسب متطلبات الوضع بما ينسجم مع الديمقراطية.
2الحظر الكلي لهيمنة تيار أو تيارات سياسية على الأجهزة النقابية ،محليا، جهويا ووطنيا، مع الإقرار الفعلي والواضح بالتصورات النقابية العاملة داخل النقابة وحقها في التعبير عن نفسها.
3-توسيع صلاحيات المجلس الوطني والتشبث بتمثلية الفروع بشكل مباشر والالتزام بقراراته.
4-القضاء على كل أشكال الانتهازية المتجلية في تحريك الأتباع والأذناب، الذين لا علاقة لهم بالممارسة النقابية، في كل محطة انتخابية لحصد الأغلبية وتشويه الجسم النقابي بفصل قاعدته الجماهيرية عن القيادة، بالاعتماد على تمثيلية وهمية. وذلك بوضع مقاييس نضالية واضحة لفرز ممثلي القواعد في المؤتمرات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن مبدأ الاستقلالية يقتضي الاستقلالية عن النظام وإذنابه، وهو ما أصبح الآن مهددا. إذ أصبحت النقابة اليوم اقرب إلى الاندماج في بنية النظام. كما أن هيمنة التيارات السياسية على الأجهزة القيادية، تسير في اتجاه التكريس، مع الحرب الدائرة فصولها اليوم بين الاتحاد الاشتراكي والمؤتمر الاتحادي. إذ أنه من غير المقبول استبدال هيمنة حزب بهيمنة حزب آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن تحقيق المطالب الآنية والمستعجلة للشغيلة، لا يمر عبر القبول بالوعود الوهمية للحكومات المتتالية. كما أن تقديم الحقوق على أنها هبات أو صدقات، من شانه الإضرار بآفاق النضال النقابي. فمن التناقض أن تقبل نقابة تقدمية السكوت عن رفض تمكين الشغيلة من مستحقاتها المالية، في الوقت الذي يتم فيه تبذير كميات هائلة من المال العام في واضحة النهار. وأخيرا، فان تصحيح مسار النقابة الوطنية للتعليم، يفرض الابتعاد عن ردود الفعل المتشنجة، وعدم السقوط في فخ من يلبسون اليوم ثوب الإصلاح وقد كانوا بالأمس ولازالوا يكرسون يوميا أقبح الممارسات اللاديمقراطية، ويقدمون الدليل،في كل المحطات، على علو كعبهم وحنكتهم في انتهاج الأساليب البيروقراطية الأكثر ظلامية (المؤتمر لسابع لـ.ن.و.ت والمؤتمرين الثالث والرابع لـك.د.ش كنموذج).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن على رأس الأولويات اليوم، عقد المؤتمر الوطني الثامن لـ.ن.و.ت كأعلى هيئة تقريرية على أساس التغيير الجذري للطرق التي كان يتم بها التهييئ للمؤتمرات السابقة، وذلك في كل المراحل، انطلاقا من تحديد توقيت المؤتمر وانتهاء بتشكيل اللجنة التحضيرية. وفتح نقاش موسع في أوساط الشغيلة وفي التجمعات العامة، لإنتاج مشاريع الأوراق المقدمة للمؤتمر وقطع الطريق أمام الأساليب القديمة التي كانت تتحكم في مضامين هذه المشاريع تمهيدا لضمان سيادة إيديولوجية وسياسية معينة. ومن جهة أخرى، الحرص على أن يعكس المؤتمر حجم النقابة في الواقع وان يتم تمثيل القاعدة تمثيلا يسمح بالإنصات لصوتها واقتراحاتها. ولن يتأتى ذلك إلا بفك الارتباط بين تحديد عدد المؤتمرين بالنسبة لكل فرع وبين التسوية المالية لعدد البطائق ،لان هذا الربط يعطي الامتياز للفروع التي تعمل في مقرات الحزب أو في مقرات الاتحادات المحلية والجهوية لـ.ك.د.ش. بحيث ستتمكن هذه الفروع من تسوية اكبر عدد من البطائق وبالتالي الحصول على نسبة أعلى من المؤتمرين مقارنة مع الفروع التي تتحمل لوحدها، مصاريف المقرات. بالإضافة إلى ضرورة القطع مع ممارسات الإنزال، عن طريق منخرطي آخر ساعة، وإيجاد صيغ تمكن المنخرطين الفعليين من انتخاب مناضلين فعليين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن خيار الديمقراطية الداخلية خيار استراتيجي لأي نقابة تقدمية، لان الديمقراطية الفعلية وحدها تسمح للقواعد المناضلة ممارسة حقها المشروع في التقرير والتسيير، مما سيقضي تدريجيا على البيروقراطية النقابية. وهذا الخيار وحده، الكفيل بإخراج النقابة من ورطتها الحالية وتدبير اختلافات مكوناتها. وهذه مهمة كل المناضلين الديمقراطيين، الذين عليهم تحمل مسؤوليتهم التاريخية والخروج من الانتظارية والسلبية وأخذ المبادرة من التوجه البيروقراطي في أفق بناء نقابة، ديمقراطية، مستقلة، جماهيرية، تقدمية ومكافحة.


نقابيون ديمقراطيون
قلعة السراغنة 2002


الاثنين، 10 ديسمبر 2018

حراك السترات الصفراء في فرنسا: هل تشهد العولمة منعطفها الأخير؟ - عبد الحميد العلاقي


عن أنفاس نت


السبت، 27 أكتوبر 2018

مفهوم التسامح بين الفلسفة وحقوق الإنسان - أحمد رباص

أنفاس نت

راودتني فكرة الكتابة حول هذا الموضوع منذ أيام، لكن عندما أردت تصريف الفكرة عمليا عشت، أثناء صياغة العنوان، لحظة تردد بين الصيغة المختارة عاليه وبين الصيغة الأخرى التي تشير إلى مفهوم التسامح بين حقوق الإنسان والفلسفة. إن ما حملني بالأساس على اختيار الصيغة الأولى بدل الثانية هو أسبقية الفلسفة على حقوق الإنسان التي يجرى الآن التأسيس لها فلسفيا.
1 - تأملات فلسفية حول مفهوم التسامح
في البداية، أعلن أن البحث في القواميس عن دلالة ومعنى كلمة «تسامح» لأجل المقارنة بين أشكال حضوره في لغة أو أكثر لا يدخل ضمن مقاصد هذا المقال. نحن نعلم أن هذه المهمة البيداغوجية قام بها، على أحسن وجه، العديد من الدارسين نخص منهم بالذكر سمير الخليل من خلال مقاله القيم عن «التسامح في اللغة العربية» والموجود ضمن كتاب جماعي بعنوان «التسامح بين شرق وغرب». لكن الأهم من كل ذلك، بالنسبة لسياق موضوعنا، هو أن تعني الكلمة نفسها في اللغة العربية ما تعنيه كلمة» TOLERANCE» في اللغة الفرنسية.
من الناحية التاريخية، يعتبر هذا المفهوم وليد حركة الإصلاح الديني الأوربية التي اقترحته كحل لإنهاء الاقتتاال الطويل الأمد بين أتباع المسيح خلال القرن السادس عشر وكمدخل لإرساء أسس الاعتراف المتبادل بينهم. لهذا ظل المفهوم ذا حمولة دينية وعد نداء «للمحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة»؛ على حد تعبير جون لوك في رسالته في التسامح التي نقلها إلى اللغة العربية عبد الرحمن بدوي. لكن، شيئا فشيئا، أخد نطاق المفهوم يتسع ليشمل، فضلا عن الدين، السياسة والثقافة والاجتماع. وهكذا أصبح من مقتضياته الاعتراف للفرد/المواطن بحقه في الاختلاف في الاعتقاد والرأي وبحقه في التعبير عن اعتقاده ورأيه سواء كان مجالهما دينيا أو سياسيا أو فلسفيا.
في نهاية المطاف، أفضى مسار تطور المفهوم إلى اعتباره إحدى دعائم الحداثة السياسية والفكرية. قبل ذلك، ساهم فلاسفة ومفكرون أمثال سبينوزا وروسو وفولتير في إحداث نقلة نوعية على مستوى إغناء دلالته وتوسيع مجالات استعماله. في هذا الإطار، كتب سبينوزا متسائلا في الفصل الأخير من رسالته في اللاهوت والسياسة: «إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها»
من جهته، كتب روسو في «العقد الاجتماعي»: «يخطئ في نظري أولئك الذين يفصلون بين اللاتسامح المدني واللاتسامح اللاهوتي. فهذان النوعان لا انفصام بينهما. إذ من المتعذر العيش بسلام إلى جانب من نعتقد أنهم هالكون. فإذا أحببناهم وقبلناهم نكون قد غلطنا في حق الإله الذي عاقبهم. فلا بد إذن من أن يردوا أو يعذبوا. فحيث يكون اللاتسامح الديني مقبولا، يكون من المتعذر ألا تتمخض عنه نتائج مدنية. وحالما تتمخض عنه هذه الآثار تزول عن هيئة السيادة سيادتها حتى في الأمور الدنيوية، عندئذ يغدو الكهنة أرباب السيادة الحقيقية، ولا يكون الملوك إلا ضباطا لهم»
لكن على رغم هذه الهالة المضيئة التي أحاطت بمفهوم التسامح وعلى رغم اتساع نطاق دلالاته، ظل مرتبطا بمفاهيم المحبة والإحسان. لهذا السبب، حيل بينه والأجرأة الملائمة لدى أصحاب الأرض التي شهدت مولده ونماءه؛ ذلك أن الغرب المعاصر أبان عن قدر من اللاتسامح والتعصب والعنصرية من خلال علاقاته مع المستعمرات السابقة والأقليات المهمشة. وعليه، فقد أصبحت الحاجة ماسة إلى تثبيت المفهوم على دعائم فلسفية متينة تخرج به من الإطار الإلزامي الأخلاقي الضيق إلى رحابة الاعتراف به كحق مشروع. بيد أن ما يرفع من درجة صعوبة هذه المهمة الأخيرة هو أن المفهوم لم يحظ بعد بحد أدنى من الإجماع نظرا لكونه ما زال يثير اختلافات جوهرية. فإذا حصل مبدئيا اتفاق على أن التسامح هو قبول الاختلاف، فهناك في المقابل عدم اتفاق على مفهوم الاختلاف ذاته. لقد توصلت بعض الدراسات الفلسفية المهتمة بالموضوع إلى مفهومين عن الاختلاف يقابلان مفهومين عن التسامح. من جهة، هناك التسامح الذي يتقبل الآخر لأنه لا يبالي به، ويقبل الاختلاف بعدم أخذه بعين الاعتبار، وهناك، من جهة أخرى، التسامح كانفتاح عن الآخر في اختلافه، واقتراب منه في ابتعاده
بالإضافة إلى ذلك، ثمة إشكالية كلاسيكية يمكن صياغتها على شكل سؤال كما يلي: ما العمل عندما يصبح التسامح مثل حب من طرف واحد؟ تعني هذه الإشكالية أن التسامح لا يمكن ان يظل بلا حدود؛ ذلك أنه ثبت تاريخيا وجود أقليات غير مستعدة بتاتا لأن تخالف نفسها،وبالأحرى أن تقبل اختلاف غيرها. لقد سبق لكارل بوبر ان طرح على نفسه نفس المعضلة، لكنه قبل أن يحاول اتخاذ موقف إزاءها يضع بعض الشروط فيقول: «طالما ظلت هذه الأقليات اللامتسامحة تناقش وتنشر نظرياتها باعتبارها مقترحات عقلانية، يتوجب علينا أن نتركها تفعل هذا بكل حرية، بيد أن علينا أن نلفت انتباهها إلى واقع أن التسامح لا يمكنه ان يوجد إلا على أسس التبادل، وأن واجبنا الذي يقتضي منا التسامح مع أقلية من الأقليات، ينتهي حين تبدأ الأقلية أعمال العنف. وهنا يطلع سؤال جديد: ترى أين ينتهي السجال العقلي وتبدأ أعمال العنف؟
2 - مكانة مفهوم التسامح في منظومة حقوق الإنسان
يشتمل التراث الثقافي للأمم المتحدة بالعديد من الأمثلة التي تشهد على التحول والانتقال في تصور التسامح من القيمة الأخلاقية إلى مستوى الحق المنصوص عليه تشريعيا. هكذا نجد ديباجة ميثاق الأمم المتحدة تنص على اعتبار التسامح قيمة أساسية في العلاقات بين الدول والأفراد: «نحن شعوب المم المتحدة آلينا على أنفسنا أن نعيش وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاني السلام وحسن جوار. كما تنص مواد هذا الميثاق على ضرورة «تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا والتشجيع على ذلك بدون تمييز حسب العنصر أو الجنس أو الدين»
ونظرا لأن ميثاق الأمم المتحدة وثيقة توجيهية ذات طابع معنوي وأخلاقي، وبالتالي غير ملزم، أصدرت نفس المنظمة الدولية الكثير من الاتفاقيات التي وقعت عليها الدول الأعضاء ما يعني أنها ملزمة باحترامها وتضمينها في تشريعاتها المحلية. إن هذه الاتفاقيات صيغ قانونية وتشريعات تتضمن التسامح كخلفية فكرية لها وأولها وأهمها في هذا الباب «اتفاقية إلغاء العبودية والاسترقاق»، بما تعنيه من إقرار للمساواة المطلقة في الحق في الانتماء للإنسانية دون أي تمييز في اللون أو العرق وفي الحق في الكرامة. يكمن الوجه الآخر لهذه الاتفاقية في إقرار حق الآخر، المختلف عرقا ولونا، في أن يحظى بالاحترام والكرامة الملازمين لكل كائن بشري.
من بين الاتفاقيات الدولية التي عجلت بالتحول المومئ إليه قبل قليل «اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز العنصري» (1965) و «الإعلان المتعلق بالقضاء على كل أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين والمعتقد» (1981) و «اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة « (1979) وغيرها من الاتفاقيات التي تشكل ثقافة سياسية كاملة متمحورة حول مفهوم التسامح، وقد انعكست هذه الاتفاقيات على مواثيق المنظمات الإقليمية، وعلى دساتير وقوانين مختلف الدول.
إن ممارسة التسامح هي الأساس الذي يتيح للأمم والشعوب التعايش فيما بينهم في وئام وسلام ضمن أجواء من التوادد والتآخي. ومن أجل تعزيز ودعم هذا المبدأ، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1995 ك»عام الأمم المتحدة للتسامح»، وأوضحت الجمعية العامة أن التسامح هو»الاعتراف بالآخرين وحسن تقديرهم، والقدرة على التعايش سويا والاستماع للآخرين».ولكون منظمة اليونسكو هي التي بادرت بالدعوة لإعلان «عام التسامح», فقد دعيت لتولي دور المنظمة القائدة لهذا العام، وقد تغزز مبدأ التسامح بإصدار وثيقة اليونسكو بشأن «إعلان مبادئ التسامح».
هذا، وقد أكدت القمة العالمية للعام 2005 على التزام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب (الوثيقة الختامية للقمة العالمية، قرار الجمعية العامة رقم 1/60 في 24 أكتوبر 2005، الفقرة 145).
غني عن البيان أن المفهوم المعاصر للتسامح يقوم على مبادئ حقوق الإنسان العالمية. لقد ربطت وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادر في 16 شتنبر 1955 بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم وبالتالي ارتقت بالتسامح إلى صورة قيمة قانونية تتطلب الحماية من قبل المجتمع الدولي؛ حيث ورد في البند الأول من وثيقة «إعلان المبادئ حول التسامح»((Déclaration de principes sur la Tolérance الصادرة عن اليونسكو بصدد معنى التسامح أن مفهوم التسامح يتضمن العناصر التالية:
أولا: قبول تنوع واختلافات ثقافات عالمنا واحترام هذا التنوع؛
ثانيا: التسامح موقف يقوم على الاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني والحريات الأساسية للآخر؛
ثالثا: التسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية السياسية والثقافية والديمقراطية؛
رابعا: إن تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين.
المرجعان المعتمدان:
1محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي، مصطفى لعريصة: في التأسيس الفلسفي لحقوق الإنسان (نصوص مختارة)، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2013 ، الطبعة الأولى
2- عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة أداة للحوار، الدار البيضاء: دار توبقال للنشر،2011 ، الطبعة الأولى

الجمعة، 28 سبتمبر 2018

واقع العملية التعليمية التعلمية بالمغرب نموذج تدريس مادة الفلسفة - مريم المفرج

أنفاس نت
تهدف عملية التدريس إلى إحداث تغييرات في سلوك المتعلم، وإكسابه المعلومات والمهارات والمعارف والاتجاهات والقيم المرغوبة فيها، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، يجب على المعلم أن ينقل له هذه المعارف والمعلومات بطريقة مشوقة تثير اهتمامه ورغباته إلى التعلم. والمعلم الناجح هو الذي يعرف جيدا كيف يجعل حصته حصة مشوقة بعيدة عن الملل، من خلال اعتماد طرق تعليمية ملائمة لمادة الدرس، قد تكون متنوعة بحسب الظروف والمتطلبات الصفية، لأن إتباع المعلم طريقة واحدة معينة، أو التعصب لأسلوب معين، يحكم عليه في أحيان كثيرة بالجمود، يؤدي به إلى تجميد المادة الدراسية، لذلك وجب على المعلم الإلمام بطرائق التدريس المتنوعة، وامتلاك القدرة على استخدامها بالشكل الصحيح، لجعل الدرس مفيدا وممتعا في آن واحد، ومناسبا في الوقت نفسه لقدرات طلابه وميولهم.
وعليه فواقع التدريس، وتدريس مادة الفلسفة بمدارسنا خير دليل على ما سبقت الإشارة إليه أعلاه، فمن الملاحظ مثلا على مستوى تدريس مادة الفلسفة بالباكالوريا، أنها باتت تشكل عائقا معرفيا لدى المتعلمين، وذلك راجع بالأساس إلى الكيفية التي يقدم بها المعلم درسه، فلا ريب إن كانت تتسم بالجمود والتكرار القائم على طريقة التدريس التقليدية أن تجعل المتعلم ينفر من هذه المادة، فهي بالنسبة له كإشكال بحث رجل أعمى عن قط أسود داخل بيت مظلم، والحال أن المتعلم المستقبل يبني مهاراته التعليمية التعلمية من المرسل الذي يمده بالمعرفة عن طريق القناة، فإن لم تكن هذه القناة جيدة أصبح الحديث عن النخبة حديثا فارغا من كل مضمون علمي، ومما لا شك فيه وحسب واقع تدريس الفلسفة، أن هناك هوة تزداد عمقا يوما بعد يوم ما بين المطلوب والمنتظر، أي بين المعلم والمتعلم، حيث أصبحت المسافة بين المرسل والمستقبل تقاس بالسنين الضوئية، على اعتبار أن الدرس يخلو تماما من أي تمييز بين المتعلمين من جهة إيصال المعلومة، في حين نجد المتعلمين فارغين تماما من أي كفاءة تجعلهم قادرين على مواكبة درس المعلم، والذي سبق وقلنا أنه يفتقر لطرق إيصال تتناغم والمتعلم، مما يجعل الدرس الفلسفي يتميز بالرتابة والدغمائية والبؤس، إذ يصبح المتعلم بين جحيم الحصول على معدل يخول له الانتقال للمرحلة الجامعية، وبين عائق فهم المادة التي هي الجحيم بعينه بالنسبة له.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى تخبط السياسة المغربية التعليمية في استدماج مقاربات أو استيراد بيداغوجيات أجنبية ولو أنها قائمة على علم ونظريات ومقاييس، إلا أن تطبيقها على الواقع التعليمي المغربي بما يتميز به من تنوع ثقافي واجتماعي، يجعل من العملية برمتها صعبة، لأنها لا تتماشى وخصوصيات المجتمع.
ومنه كان لزاما على الدولة أن تنهج التدريس باعتماد المقاربة بالكفايات كأسلوب تعليمي ظهر في أوروبا قبيل انتهاء القرن العشرين، والتي تبنته الدولة المغربية كبديل للمقاربة بالأهداف، إذ تعتبر المعلم محورا فاعلا لأنه يبني المعرفة ذاتيا، وبتوفير شروط التعلم الذاتي، واعتبار المدرسة مسهل لعمليات التعلم الذاتي. ومن النهج الذي اتخذته هذه البيداغوجية في التخطيط للدرس أنها وفرت على المعلم عناء إيصال المعلومة بتقسيمها لمحاور الدرس على عدة كفايات تجعل المتعلم يفهم الدرس بطريقة سلسلة، نذكر منها؛ الكفايات الإستراتيجية التي تستوجب معرفة الذات والتموقع في الزمان والمكان، والتموقع بالنسبة للآخر وبالنسبة للمؤسسات الاجتماعية والتكيف معها ومع البيئة بصفة عامة، وتعديل المنتظرات والاتجاهات والسلوكات الفردية وفق ما يفرضه تطور المعرفة والعقليات والمجتمع . ثم نجد الكفايات التواصلية والتي يجب من خلالها أن تؤدي إلى إتقان اللغة العربية وتخصيص حيز مناسب للغة الأمازيغية وكذا التمكن من اللغات الأجنبية، والتمكن من مختلف أنواع التواصل داخل المؤسسة التعليمية وخارجها في مختلف مجالات تعلم المواد الدراسية، والتمكن من مختلف أنواع الخطاب الأدبي والعلمي والفني...، سواء في محيط المدرسة أو على مستوى المجتمع. ولا ننسى أيضا الكفايات الثقافية، حيث تشمل على شق رمزي يرتبط بتنمية الرصيد الثقافي للمتعلم وتوسيع دائرة إحساساته وتصوراته. ناهيك عن الكفاية المنهجية والتي تستهدف إكساب المتعلم منهجية للتفكير وتطوير مداركه العقلية ومنهجية للعمل في الفصل وخارجه، وتكوينه الشخصي كذلك. وأيضا نجد الكفاية التكنولوجية المتمثلة في القدرة على رسم وتصور وإبداع وإنتاج المنتجات التقنية، والتمكن من تقنيات التحليل والتقدير والمعايرة والقياس، بارتباط مع منظومة القيم الدينية والحضارية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان. 
إلا أن المميز في هذه البيداغوجية أنها تعتمد على عدة بيداغوجيات تتماشى ومتطلبات المتعلم يمكن التطرق إليها بإيجاز؛ فهناك البيداغوجية الفارقية مفردنة تعترف بالتلميذ كشخص فرد له تمثلاته الخاصة للوضعية التعليمية التعلمية، وتأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل تلميذ، وبهذا تكون معارضة لأسطورة القسم الموحد المتجانس، ثم بيداغوجية المشروع والتي تهدف إلى الربط بين العمل والنظر كممارسة، والفكر كتأسيس التعلم على النشاط الذاتي للمتعلمين، وتعديل السلوك واكتساب عادات وخبرات جديدة بربط التعلم بمواقف الحياة الاجتماعية. ثم نجد بيداغوجية حل المشكلات والتي تقترح وضعية مشكلة معقدة تستدعي مواجهة التلميذ لمجموعة من التعلمات المتداخلة والمتمحورة حول هذه الوضعية، من ثم تأتي بيداغوجية الخطأ إذ تصور لعملية التعليم التي تقوم على اعتبار إستراتيجية للمتعلم اعتمادا على كون الوضعية التعليمية تنظم على ضوء بنائي للمعرفة من طرف المتعلم. ناهيك عن بيداغوجية الذكاءات المتعددة التي من وجهة نظرنا تعتبر الحل الأمثل لمعضلة عدم استيعاب الدرس الفلسفي من طرف المتعلم، إذ يمكن باعتمادها الوصول ولو بنسبة ضئيلة إلى تحبيب الدرس الفلسفي أو المادة ككل اعتمادا على ذكاءات الفئة المتعلمة، وتماشيا مع ما يميل وجدانهم إليه.
فلبيداغوجية الأهداف نظرية تربوية جديدة قائمة على العلم والعقلانية والقياس والتكنولوجيا والتحقيق الموضوعي، وقد انتشرت هذه النظرية في المغرب في سنوات الثمانينات كما سبق أن أشرنا، إذ جاءت كبديل للدرس التقليدي، بغية تنظيم العملية الديداكتيكية وعقلنتها، حتى أصبحت هذه النظرية معيارا إجرائيا لقياس الحصيلة التعليمية التعلمية لدى المتعلم والمدرس معا، ومحكا موضوعيا لتشخيص مواطن قوة المنظومة التربوية على مستوى المردودية والإنتاجية والإبداعية، وأداة ناجعة لتبيان نقط ضعفها وفشلها وإخفاقها، وتعد كذلك آلية فعالة في مجال التخطيط والتقويم وبناء الدرس الهادف.
فإذا كانت بيداغوجيا الكفايات تعنى بتحديد الكفايات والقدرات الأساسية والنوعية لدى المتعلم أثناء مواجهته لمختلف الوضعيات المشكلات في سياق ما، فإن بيداغوجية الأهداف التي تبنتها مناهج التربية خلال الثمانينات كمقاربة تربوية تشتغل على المحتويات والمضامين في ضوء مجموعة من الأهداف التعليمية التعلمية ذات الطبيعة السلوكية، سواء أكانت هذه الأهداف عامة أم خاصة، ويتم ذلك التعامل أيضا في علاقة مترابطة مع الغايات والمرامي البعيدة للدولة وقطاع التربية والتعليم. وتهتم بيداغوجيا الأهداف بالدرس الهادف تخطيطا وتدبيرا وتقويما ومعالجة مما يجعل المتعلم ينصب على جمالية النص الفلسفي دون القدرة على استدماج الأفكار وتحليلها وفق فكره الخاص. فرغم تميزها إلا أنها تتسم بالنزعة السلوكية والنظرة التقنية على حساب النظرة الشمولية، كما وتغض الطرف عن الطرائق والمناهج والوسائل الديداكتيكية.
لقد تم اليوم اعتماد مفهوم الكفاية في التدريس، كاختيار بيداغوجي ديداكتيكي، ليشمل في مدلوله البيداغوجي مفهوم القدرة والمهارة بمعناها المركب الذي يحيل على قدرات ومهارات متعددة ومتصلة، في بنية عقلية أو حسية أو حركية أو وجدانية قابلة للتكيف والملاءمة والاندماج مع وضعيات جديدة، كما أن مفهوم الكفاية البيداغوجية الذي ليس مجرد تطبيق ميكانيكي للكفاية، وإنما هو استخدام ونقل إبداعي لها يخضع للقياس والملاحظة دائما، فالكفاية إذن، ذات طابع شمولي مركب ومندمج وهي استعداد يكتسبه المتعلم وينمى لديه، ليجعله قادرا على أداء نشاط تعليمي ومهام معينة.


المراجع:
- الدريج محمد، المنهاج المندمج أطروحات في الإصلاح البيداغوجي لمنظومة التربية والتكوين، منشورات مجلة علوم التربية، العدد 38، الطبعة الأولى، 2015.
- مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد الخمسون، ديسمبر 2011، مطبعة النجاح الجديدة.
- بوتكلاي لحسن، بيداغوجيا الإدماج، الإطار النظري، الوضعيات، الأنشطة، الطبعة الثانية، 2009.
- مجلة علوم التربية، دورية مغربية فصلية متخصصة، العدد السابع والثلاثون، يونيو 2008، مطبعة النجاح الجديدة.
- الدريج محمد، مدخل إلى علم التدريس: تحليل العملية التعليمية، دار الكتاب الجامعي، الإمارات، سنة 2003.
- الدريج محمد، الكفايات في التعليم من أجل تأسيس علمي للمنهاج المندمج، سلسلة المعرفة للجميع، منشورات رمسيس، العدد 16 أكتوبر 2000.
- أوزي أحمد، التعليم والتعلم بمقاربة الذكاءات المتعددة، منشورات مجلة علوم التربية العدد السادس، الشركة المغربية للطباعة والنشر.

الامتحانات وتدجين الإنسان :كيف نظر ميشيل فوكو إلى الامتحانات؟ - أنس غنايم

عن أنفاس نت


"تبدأ الامتحانات الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة؛ حتى تعلن حالة الطوارئ القصوى في البيوت، وكأن إعصارا عاتيا سيضربها، وتدق أجراس الإنذار معلنة توقف الزيارات الاجتماعية وانقطاع التواصل المرئي والمسموع وإغلاق كل قنوات الربط الخارجي مع العالم.  يغلق التلفاز نهائيا، أو يسحب إلى غرفة الأم، وتُصادر الجوّالات وتقنيات التواصل التي بأيدي الأبناء، وتمنع الزيارات وتصبح الأحاديث همسا منعا للإزعاج، وترابط الأم في المنزل كالليث الهصور الذي يحمي عرينه من غارة المعتدين، ويتحول المنزل إلى ساحة حرب". (1)
وبهذا تتحول الامتحانات من أداة لقياس مدى معرفة الإنسان لمعلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، إلى اعتبارها مسألة تمس هوية الفرد، "تهدد الوجود والكيان الإنساني وتؤثر في شخصية المرء حتى أعماقها وجذورها".(2) ولتغدو الامتحانات ليست منحصرة في إطار استدعاء للمعلومات فقط، بل "سبرا للمعلومات وغير المعلومات، حتى لكأن الامتحان وُجد لتقييم ذات الإنسان وليس لمعلوماته، يقيّم شخصه ومُثله وأخلاقه، إلخ".  
وتترسخ هذه الفكرة أكثر فأكثر من خلال الاستعارات أو العبارات المصاحبة للامتحانات: "يوم الامتحان.. يوم يكرم فيه المرء أو يُهان"، وما يقوم به بعض الآباء والأمهات من جعل تفوق ابنهم الدراسي شرط محبتهم إياه، كأن يرددوا على مسامعه: "لن أحبك إن لم تأخذ علامة جيدة في مادة الرياضيات" -مثلا-، أو يقولون له: "إن أنت أخذت الأول على المدرسة، فسوف أعطيك كذا وكذا أو أرضى عنك، إلخ". (2)
وبإزاء تلك المظاهر التي تلاصق مرحلة الامتحانات التي أشرنا إلى شيء من مظاهرها؛ تداعى التربويون والمشتغلون بالتعليم والتدريس إلى محاولة تجاوز مشاكل وآفات الامتحانات، تارة بتنويع طرق الاختبارات، وتارة بتهيئة الظروف المناسبة لتقليل حالة الخوف والقلق منها، وغير ذلك ممّا يُتداول في أبحاث وكتب "القياس والتقويم التربوي". (3)  
وبالتجاور مع التربويين، والمختصين في التعليم والتدريس، الذين حاولوا تلافي المشكلات المصاحبة للامتحانات، عمد الفلاسفة والمفكرون إلى توجيه انتقادات جذريّة إلى فكرة "الامتحانات" ذاتها. من أمثال المفكر الفلسطيني منير فاشه على الصعيد العربيّ (4)، ومن أمثال ميشيل فوكو على الصعيد الغربي، الذي أسس للإطار النظري لفهم عملية الامتحانات، وكيف يتم تفعيلها كأداة من أدوات السيطرة الناعمة التي تستخدمها السلطة؟! فكيف نظر فوكو إلى الامتحانات الدراسية، وكيف حاول تحليلها؟   
ميشيل فوكو: السلطة والمعرفة
تمثل مسألة تحليل العلاقة بين المعرفة والسلطة أهم أفكار ميشيل فوكو التي بسطها على طول مؤلفاته (5)، ويختلف مفهوم المعرفة والسلطة عند فوكو عن المفاهيم التي تناقش علاقة العلم بالسياسة، أو علاقة العلم بالهيمنة، وذلك لما يتمتع به من خصوصية وجدية. (6)
فالفلاسفة والمثقفون بشكل عام في نظر فوكو "يبررون هويتهم وخصوصيتهم وحتى نخبويتهم عن طريق إقامة حاجز منيع يفصل بين عالم المعرفة الذي يعتقد بأنه عالم الحقيقة والحرية، وبين عالم السلطة وممارساتها. غير أن الشيء الذي أدهشني عند دراستي للعلوم الإنسانية هو أنه لا يمكن أن نفصل إطلاقا بين نشأة كل هذه المعارف وبين ممارسة السلطة". (6)
يتحدد إذن مفهوم المعرفة-السلطة عند فوكو بالجمع والربط بينهما، وليس بالفصل أو التمييز كما هو الحال عند غالب المفكرين والفلاسفة. وهذا الجمع يؤدي إلى نتيجة أساسية وهي أن السلطة تنتج نوعا من المعرفة وتؤدي إلى تراكم المعلومات والمعارف، مما يقود إلى استخدام كل ذلك من أجل المزيد من ممارسة السلطة، وبالمقابل فإن المعرفة هي بحد ذاتها سلطة! (6)
ولعل المثال الواضح في هذا الشأن -كما يرى الباحث التونسي الزواوي بغورة- هو الأستاذ أو المعلم، الذي يحمل معرفة، وفي الوقت نفسه يحمل سلطة، سلطة النجاح والرسوب، أو سلطة الإجازة أو عدم الإجازة (6)، لذلك يرى فوكو أنه "حيثما توجد السلطة توجد المعرفة أو نوع من المعرفة، وحيث توجد المعرفة يوجد حد معين من السلطة، وأن مجرد ممارسة السلطة يؤدي إلى خلق المعرفة وتجميع المعلومات وبالتالي استخدامها، وأيضا فإن ممارسة المعرفة تنتج بالضرورة نوعا من السلطة". (7)
     تحليل فوكو للامتحانات على ضوء المعرفة والسلطة
عطفا على ما سبق؛ يعتقد ميشيل فوكو أنّ النظام والضبط في المجتمعات المعاصرة لا يمارس من خلال الاستعراض الفظ لقوة وسلطة الدولة: "الإعدامات في الساحات العامّة والمواكب الضخمة والاستعراضات العسكريّة، وإلخ"، ولكنه يمارس من خلال ما يسميه "نظم إنتاج المعرفة". (8)
ويعتقد فوكو أن السلطة تؤكد وجودها من خلال عدد من العمليات الصغيرة وصفها بـ "أعمال صغيرة دائمة لها قدرة كبيرة على الانتشار" (8) تلبي الحاجة إلى المعرفة التي يعتمد عليها النظام، كالسجون والمستشفيات والمدارس ونظام العدالة والطب النفسي، وإلخ.
وعليه فإن نجاح النظام وقوة الضبط في هذه الأعمال يستمد فاعليته -كما يرى فوكو- من استخدام أداتين بسيطتين:
1- الرقابة التراتبية.
2- العقوبة الضابطة. (8) 
ومن خلال دمج هاتين الفكرتين في إجراءات معينة، تنشأ الاختبارات (examinations) وتعرف هذه الأدوات بـ "تقنيات القوة" (technologies of power). (8)          
الرقابة التراتبية
ناقش فوكو الملاحظة الهرمية من منظور هندسة السجن النموذجي المسمى بـ "البانوبتية" (Panoptisme)*1، وهو السجن الذي صممه الفيلسوف وعالم الاجتماع جيرمي بنثام في عام 1785 بحيث يقف برج المراقبة بمنتصف السجن، والسجناء من حوله، ليمثل البرج نقطة مركزية في السجن قادرة على رؤية الجميع في حين أن الجميع لا يستطيعون رؤية من بداخل البرج بسبب ما يحيطه من ظلام، وهناك يدرك كل نزيل في السجن أنه يعيش تحت مراقبة دائمة ومتواصلة من قبل حارس مجهول بالنسبة إليه، "لدفع النزيل إلى الاقتناع بوجود مراقبة دائمة وبذلك تتأكد الوظيفة الآلية للسلطة". (8) ويناقش فوكو أن المعلمين يقومون بالشيء نفسه من خلال اختبار الطلاب، بحيث يذكّرون الطلاب بأنهم تابعون للبالغين الذين يستطيعون مراقبتهم من موقع السلطة. (8) إضافة إلى أن الطلاب "يستدخلون" معرفة أنهم يخضعون للمراقبة الدائمة، أي إجراء الاختبارات مما يؤدي إلى عواقب وخيمة، حيث تصبح هذه المعرفة جزءا من ذواتهم، وعليه، فإن إدراك الأفراد بأنهم خاضعون للمراقبة والملاحظة تعد وسيلة قوية للضبط والتنظيم. (8)
 العقوبة الضابطة
وتعني العقوبة الضابطة "العملية التي تقيس كميا وهرميا قيمة قدرات الأفراد، ومستوياتهم، وطبيعتهم، وكذلك اقتفاء أثر المحددات التي تحدد الاختلاف، وعلاقتها بجميع المتغيرات". (8)
وتعود فكرة العقوبة الضابطة إلى كونها أداة استُخدمت أصلا لوظيفة تصحيحية في السجون من خلال إخضاع النزلاء جميعهم لمنظور واحد، ومسطرة واحدة، تتمثل في تقليص الأبعاد المتعددة للتنوع البشري إلى متصل ثنائي القطب (موجب/سالب) ومن ثم تسمية نقاط محددة على هذا المتصل بالمدى الطبيعي والباقي غير الطبيعي أو الشاذ. (8)
وهكذا فإن الطلاب الذين يكون حاصل درجات ذكائهم أدنى من الدرجة المحددة يعدون أفرادا "دون المستوى الطبيعي" والذين يطلق عليهم تارة الحمقى، البلهاء، المعتوهين، الكسالى، الأغبياء، في مقابل الطلاب الذين تجاوزت درجات ذكائهم عتبة محددة يسمون بالموهوبين والأذكياء والمبدعين. (8)
وخطر هذا الأمر يكمن فيما يُسميه "فوكو" بـ "الغرس المنحرف"، وذلك حين يُجعل جَهْلُكَ بمعرفة معلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، "انحرافا" يتحول إلى طبيعة باطنية "ماثلة في كل مكان" (9) تذكرك دوما بأنّك فاشل وسيئ وغبي وكسول وأبله، وإلخ. (9)
وختاما، وحيث لا سبيل لتغيير طبيعة النُظم التعليميّة وأدواتها السُلطويّة على المدى القريب، يبقى الوعي الإنساني بأنّ هذه الامتحانات ليست "لذاتي بل لمعلوماتي" (10) هو الرهان الأكبر لمجابهة هذه الأحكام التي تنتجها الامتحانات، والتي يراد من خلالها تدجين الإنسان وتفصيله على مقاسات السلطة. 
  
هوامش:

*1: البانوبتية = Panoptisme من بانوتيك، وتعني مشْتَمَل: بناء مصنوع بشكل يمكن اشتمال/معرفة ما بداخله بنظرة واحدة، وربما يقابله في العربية الصرح الممرد من قوارير، والبناء البانوبتيّ بناء معروف في الفن الإسلامي كما يرى عبد العزيز العيادي، وعرف هذا البناء في المساجد الجامعة حيث كان الخطيب يطل من مكانه على كل من في الجامع، وقد كان يقال إنّ ابن الهيثم بنى للحاكم بأمر الله الفاطمي مسجدا جامعا مشرفا وموصلا للصوت دون مكبرات. (من ترجمة د. علي مقلد لكتاب "المراقبة والمعاقبة، ميشيل فوكو")

الأحد، 15 يوليو 2018

العلم و الفلسفة: أي علاقة؟ – إدغار موران / ترجمة: محمد نجيب فرطميسي


عن موقع حكمة




هتزت فكرة الحقيقة أمام وقائع أثبتها العلماء. فهل بإمكان الفلسفة مساعدة العلم على حل هذه التناقضات؟

في الوقت الذي شيد فيه قرننا هذا ( القرن العشرين) صرحا رهيبا من المعارف، يغوص و بشكل مذهل في أزمة أسس المعرفة. لقد بدأت الأزمة في الفلسفة. إذ بقدر ما ظلت الفلسفة الحديثة تعددية في موضوعاتها و مشكلاتها، بقدر ما انتعشت بفضل جدل بين البحث عن أساس يقيني للمعرفة، و العودة المستمرة لشبح اللايقين. كانت أزمة الأسس بمثابة الحدث المفتاح للقرن العشرين. فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية إدراك الأشياء في ذاتها. أعلن نيتشه، بكيفية مغايرة تماما، حتمية النزعة العدمية، و وضع هيدجر، مسألة أساس الأسس، أي طبيعة الكائن، موضع تساؤل. نذرت الفلسفة المعاصرة نفسها، من الآن فصاعدا، لتقويض معمم، و لتجذير تساؤل يضفي النسبية على كل المعارف، بدل تشييد أنساق على أسس متينة.

لم يكُف العلم، على العكس من ذلك، طيلة القرن التاسع عشر، و مع مطلع القرن العشرين، عن البرهنة على أنه عثر على الأساس التجريبي ـ المنطقي لكل حقيقة. يبدو أن نظريات العلم  هذه تجيء من الواقع ذاته، عن طريق الاستقراء الذي يقر بالتحققات / الاثباتات التجريبية بوصفها أدلة منطقية، و يرفعها الى مرتبة القوانين العامة.  يبدو في نفس الآن، أن الدعامة  المنطقية ـ الرياضية الضامنة للتماسك الداخلي للنظريات المتحقق منها، إنما تعكس بنيات الواقع ذاته. في هذه الشروط بالضبط، تعهد فريق من الفلاسفة و العلماء الراغبين في الخلاص نهائيا من الثرثرة المتكلفة و الاعتباطية للميتافيزيقا، من أجل تحويل الفلسفة الى علم، و ذلك بتأسيس كل قضاياها على منطوقات متماسكة، و قابلة للتحقق. هكذا إذن ادعت جماعة فيينا أنها أسست اليقين الفكري على الوضعية المنطقية، كما تزامن العمل الذي باشره فتجنشتاين  Wittgensteinعلى مستوى اللغة، و دافيد هيلبرت على مستوى الصياغة الأكسيومية للنظريات العلمية، مع ما قامت جماعة فيينا.

لقد بدا، و الحالة هذه، أن تنقية الفكر من كافة الشوائب، و ضروب البداءة، هو محض وهم. فعلا لقد  برهن كارل بوبرK. Popper   أن التحقق verification  laلا يكفي للتأكد من حقيقة نظرية علمية. و كشف، عندما قام بقلب فكرة الوضوح الظاهري الذي تكتسي بموجبه النظرية العلمية طابع اليقين، أن علمية نظرية ما تكمن في قابليتها للدحضla refutabilité .

و نبقى في سياق منظور كارل بوبر لنقول  إن ذلك الأمر يصح أيضا بالنسبة لفكرة كون المنطق الاستنباطي يمتلك قيمة حاسمة في البرهان و أساسا للحقيقة غير قابل للدحض. و الحال أن هذا الصرح المنطقي ذاته بدا أنه غير كاف. هناك من جهة إنجازات الميكروفيزياء ااتي لامست نموذجا من الواقع ينهار أمامه مبدأ عدم التناقض؛ و من جهة ثانية، أقامت مبرهة   Gödel غوديل اللايقين المنطقي داخل الأنظمة الصورية المركبة. آنذاك، لم يعد التحقق التجريبي، و لا التحقق المنطقي كافيين لتشييد أساس يقيني للمعرفة.

انحل، في نفس الوقت، الجوهر المحدّد و المميز للواقع في معادلات الفيزياء الكوانطية، و أخلى النظام الكوني المكان لنظام غامض و ملتبس. فبدا الكون أخيرا كما لو أنه ثمرة انشطار خارق و مثير، و كأنما خضعت صيرورته لتبديد وحيد الاتجاه. هذا بالرغم من أن كل انجازات المعرفة تقربنا من ذلك المجهول الذي يتحدى مفاهيمنا و منطقنا و ذكاءنا. فتنضاف بذلك أزمة أسس المعرفة العلمية الى أزمة المعرفة الفلسفية، حيث يلتقيان معا حول الأزمة الأنطولوجية للواقع، مما يجعلنا نواجه ” مشكلة المشاكل…أي أزمة أسس الفكر” ( بيير كورنير P. Cornaire).

في الواقع، مهما تجددت وتنوعت البحوث المتعلقة بالمعرفة العلمية، فإنها تجد نفسها أمام المشكل كما طرحه إيمانويل كانط، و من خلاله، المشكل الفلسفي الكلاسيكي حول علاقة الجسد و النفس. هكذا نجد أنفسنا على أرضية علمية من دون التخلي عن التساؤل الفلسفي. لا يتعلق الأمر بتقاسم لتلك الأرضية العلمية، أو بالمحافظة على منطقة منيعة تخص الفلسفة وحدها. إذ لا وجود لحدود طبيعية بينهما. فضلا عن ذلك فإن العصر الذهبي لازدهار الفلسفة  و ميلاد العلم، كان، بحق، هو عصر الفلاسفة العلماء أمثال جاليلي وديكارت و باسكال و ليبتنز. و مهما بدا اليوم أن العلم و الفسفة منفصلان، فإنهما يصدران عن نفس التقليد النقدي، الذي لا غنى عن استمراريته و دوامه لحياة كل منهما. زيادة على ذلك، و حتى بعد انفصالهما، فقد عبّر الفلاسفة دائما عن تلك الرغبة في أن تغدو الفلسفة ” معرفة المعرفة العلمية، وعيها بذاتها ” .(كارل بوبر)

إن مشكلة العلم، كموضوع للتفكير الفلسفي، تُطرح أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن العلم بما هو كذلك، إشكالي. إن شئت قلت، إن العلم سلطة معقدة، شكل متميز و راق من العقلانية، لكنه لا يدمج الذات المفكرة، إنه يجعل الملاحظ  هو المشيد للمفاهيم. حاول إيموند هوسرل  E. Husserl جادا تبيان كيف أن ” أزمة العلوم الاوربية ” تعبر بعمق  عن أزمة احتجاب الذات المنتجة للعلم. وحدها العودة التأملية الى وضعية العلم، تتيح، في نظره، تبيان الأزمة التي تتمظهر كذلك في المجال السياسي. تتمثل الفكرة الأساسية عند هوسرل، في عدم اكتراث العلماء أثناء مسعاهم العلمي بذاتيتهم الخاصة و تأثيرها على عملهم. بعبارة أخرى، إن من ننعتهم بالعلماء يفرغون العلم من فاعليه الحقيقيين، ومن سياقه الانساني.

إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه باستمرار، على موضوع الحقيقة العلمية، هو: هل تنفلت القوانين و الاكتشافات و الموضوعيىة التي يضمنها العلم، من الشروط التارخية و الاجتماعية و السيكولوجية الحاضرة وقت ظهورها، أم أنها تظل سجينة تلك الشروط؟ لقد بيّن  مفكرون أمثال كارل بوبر و توماس كوهن  Th. Kuhnو جيرار هولتون، و إسمير لاكاتوس، أن ثمة مسلمات غير معللة موجودة طي النظريات العلمية، بل الأدهى من ذلك، أن هناك ” تيمات” بمثابة أفكار استحواذية قبلية، تحرك ذهن العلماء، شأن الحتمية عند إنشتاين، و اللاحتمية عند نيلز بور Niels Bohrs . لقد كشف توماس كوهن عن وجود براديغمات  paradigmes، أو مبادىء خفية تتحكم في المعرفة و تسمح بتنظيمها.

إن العلم يمشي على أربعة قوائم: التجريبية، و العقلانية، و التخيل، و التحقق. هكذا يغدو بعض العلماء عقلانيين أكثر، و آخرين تجريبيين، و من هم سواهم تخيليين أو مسكونين بقابلة التحقق. إن هذه القوائم الأربعة متكاملة، بالرغم من كونها عرضيا متصارعة، و هو صراع تتغذى منه حيوية العلم. إن العلم ينتج نفسه بنفسه. و هو لا يفعل ذلك في مجال مغلق، بل ضمن شروط تاريخية مضبوطة و دقيقة؛ إن استقلالية العلم لا تنفصل عن عملية التجديد المستمرة التي يقوم بها، في الآن نفسه، في مواجهة النزعات الدوغمائية، و التخصصية المفرطة. أكيد أن العلم يفرز، في نفس الآن، العماء و الوضوح. لكن علينا أن نعرف كيفية مقاومة الاصلاح المضاد، في كل قضية شبيهة بقضية سوكال Sokal ، و الهادفة الى إقامة مرتبة رفيعة للعلم، متعلقة قطعاً بالمؤسسة الانضباطية التقليدية، جاعلة من العلم حصنا منيعا عن الجهل بأصوله.

لكل مواطن الحق في المعرفة، و بالتالي فإن المشكلات الأساسية للنظريات العلمية الكبرى، و الأفكار الثاوية طيّها، قابلة للتداول، و لا يجب أن تبقى ـ بأي حال ـ وقفا على العلماء وحدهم. إن علماء أمثال إيليا بريجوجين I. Prigogine و ريفز  H. Reevesو دي إسبانيا  و فرانسوا جاكوب … يبذلون جهذا لإشراكنا معارفهم، و وهم بعملهم هذا يشخصون دور مفكري النزعة الانسانية  إبان عصر النهضةles humanistes .

هناك إذن في الحالة الراهنة، قصورالفلسفة وحدها، و عدم كفاية العلم وحده لإقامة المعرفة. و نظرا لتعقد المشكلات التي تثيرها هذه المعرفة، فلن نعمل على صياغة ميتا ـ علم، أو ميتا ـ فلسفة، بل سنناضل بالأحرى ضد كل فلسفة مصابة بفقر الدم، و ضد كل علم بدون ضمير1. إن كان النشاط الفلسفي يمد العلم بالتفكير الضروري الذي يحتاجه، فإن النشاط العلمي يغذي الفلسفة بالمعرفة. عندئذ يكون بوسع العلم و الفلسفة الدخول في حوار كوجهيين مختلفين، و متكاملين لعُملة واحدة هي : الفكر