الخميس، 5 مايو 2016

ريم بنا في أروع تهليلة فلسطينية


بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب


كلمات الانشودة :

بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب 

لمالي ولا اولادي على حبك ما في حبيب
لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا
يا دار الاوفى دار تلبق لك الاشعار يا دار
الاوفى دار تلبق لك الاشعار تبقي ع الدايم
مضوية مزروعة بمجد و غار عالبرج العالي
ووصول خياله و سيوف تلاله و شمسك ما
تغيب لامالي ولا اولادي على حبك ما في
حبيب لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا لا
لألف الدنيا و دور و اقطع السبع بحور لألف
الدنيا و دور و اقطع السبع بحور وانده ايامك
يا بلدي ترجع على ارض النور و نعيد عيدك
كل مواعيدك بالخير تزيدك مواسم طيب لمالي
ولا اولادي على حبك ما في حبيب بكتب اسمك
يا بلادي عالشمس الما بتغيب لمالي ولا اولادي
على حبك ما في حبيب لا لا لا لا لا لا لا لا.

فكرة السعادة في المجتمع الإستهلاكي - سلمى بالحاج مبروك

أنفاس نت



من منا لا يريد أن يكون سعيدا؟ و لكن ماسبل تحقيق ذلك؟يبدو أن كل البشر تنتابهم رغبة في أن يكونوا سعداء ولكن المشكل أنهم عاجزون أن يحددوا بيقين تام ما يجعلهم سعداء بحق و يترتب عن هذا أن مشكلة تحديد الفعل الذي يجلب السعادة هي مشكلة لا حل لها فما هي أسباب ذلك؟
إن مفهوم السعادة بلغ من عدم التحديد مبلغا جعل كل إنسان يعجز عن أن يقول في ألفاظ دقيقة ما يرغب فيه لأن السعادة هي مثل أعلى للتخيل والعاطفة و ليست مطلبا عقليا أو غاية يمكن إدراكها إذ من الضروري أن يكون هناك حد أقصى ترتبط به فكرة السعادة و هذا الحد الأقصى يتغير من شخص إلى لآخر فهناك من يجعل البحث عن الحقيقة والمعرفة هي السعادة و هناك من يبحث عن كثرة الأضواء و الشهرة وفريق آخر لا يبغي من حياته سوى تجنب الشقاء و تحقيق الصحة الكاملة . لكن  رغم ذلك فإن هذه الأفعال وأهدافها لا ينتج عنها تحصيل السعادة ذلك أن تجارب الحياة تعلمنا أننا قد ننجز أهدافنا ولكن مع ذلك لا نبلغ السعادة بل تنقلب إلى نوع من السأم .  غير أن للمجتمع الإستهلاكي المعولم رأيا آخر في السعادة بل يرى أنه بامكانه تحقيق السعادة للإنسان . فهل حقا بمقدور هذا المجتمع  توفير السعادة للإنسان أم أن ما يعدنا به حول أمنية السعادة هي من قبيل  السعادة   الإيديولوجية الوهمية وهي مجرد أسطورة زائفة ؟ تستند فكرة السعادة في المجتمع الإستهلاكي إلى نقد الأنتروبولوجيا الفلسفية التي تمجد السعادة وتعتبرها خيرا أسمى وتعتبرها مجرد أنتروبولوجيا ساذجة تقوم على فكرة خاطئة عن الطبيعة البشرية إذ تعتقد أن الإنسان له ميل طبيعي للسعادة و تحصر السعادة في ما يلي : سعادة الجسم على حساب سعادة الروح وسعادة الفرد على حساب سعادة المجموعة . و مرجع هذا التصور للسعادة هو ليبيرالي إقتصادي من جهة و ديني ميتافيزيقي من جهة أخرى ز ففي المستوى الأول ترتبط السعادة بفكرة الرخاء و رغد العيش و الرفاه وفي المستوى الثاني ترتبط بالنجاة و الخلاص الفردي و تتراء لنا السعادة في المجتمع الإستهلاكي المعاصر ذات إشعاع كبير و تمتلك رونقا خاصا في النفوس تمارس تجييشا كبيرا وتؤدي وظيفة الدعاية والإستقطاب .
 فهل هذا السحر المرتبط بالسعادة ناتج عن كونها الغاية القصوى للوجود البشري بمعنى أقصى ما يطمح إليه الإنسان ؟
انطلاقا من اعتبار السعادة مثلا أعلى للإستهلاك فإن تأثيرها الذي تمارسه يرجع عند بعض من الأخلاقيين إلى كونها توق طبيعي لدى كل فرد يسعى إلى تحصيلها لأجل ذاتها و ترى هذه النظرة أن السعادة كمثل أعلى وكقيمة مطلقة لا تحتاج إلى أدلة ملموسة و حجج مقنعة لإثبات راهنيتها لأنها فرضت نفسها على الجميع كمطلب ينبغي إشباعه بشكل فوري و لم تعد ينظر إليها في حد ذاتها بل من جهة النتيجة التي سنحصل عليها فالسعادة لم تعد تتحرك ضمن نظام الغايات بل ضمن نظام الوسائل فهي إن امتلكها الإنسان تحقق له البهجة التامة و الباطنية و تجعله يشعر بالمساواة بينه وبين غيره في الإستهلاك و الشعور بالرفاه و رغد العيش و لذلك لجأ منظرو العولمة و رجال الاقتصاد إلى جعل السعادة قابلة للقياس والعد و مرتبطة بالنجاعة و البعد الكمي و بينوا أن أحد شروطها هو إشباع كل الرغبات الطبيعية والضرورية و حتى الكمالية منها و بلغ الأمر مبلغه عندما اعتبرت السعادة كحق إنساني ضمن لوائح حقوق الإنسان في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان  ونصت عليها الدساتير و عملت القوانين على صيانتها بقولهم " لكل إمرئ الحق في السعادة" فهل ينبغي تقديس فكرة السعادة اليوم ؟
يرى بودريار أن السعادة أسطورة زائفة وأنها وهم إيديولوجي خلقته الطبقات المسيطرة وبلدان المركز للهيمنة على بلدان الأطراف و الطبقات الأخرى والغاية من التبشير بجدواها ليست إلا ابعاد الإنسان عن أهدافه الحقيقية و تحييد الصراع وتحقيق المعاناة يقول بودريار" ليست الغاية من السعادة إلا إمتصاص الحتميات الإجتماعية القاهرة وتحقيق المساواة في المصير " أي أن يوجد الإنسان من أجل الموت المحتوم و أن يستمر طوال حياته في ملاحقة رغبات غير قابلة لتحقق و هكذا لاحظ بودريار أن مجتمع الوفرة و عالم الإستهلاك أحدث تحولات عميقة وجوهرية في الإنسان جعله يكون مشدودا لنظام من الرموز و الدلالات غير قادر على فك أسراره و فهم محتواه يقول بدريار "لقد أصبح العالم الآن لامعقولا و الإغراءات التي يفرضها علينا لا نهاية لها" و نتج عن ذلك أنه اصبح من الصعب تحقيق السعادة حتى بالمعنى المادي نظرا لأن المجتمع الرأسمالي قد نجح في مخادعة الإنسان وابقائه تحت وهم مطاردة السعادة دون بلوغها و كيف له أن يبلغها و الرأسماليون يعملون دون كلل على خلق حاجيات جديدة للإنسان و كلما ارضى الإنسان حاجة من حاجيات الإستهلاك إلا وخلقوا له حاجيات أخرى لتظل السعادة في عالم العولمة مجردة طريدة وهمية يلاحقها الإنسان وكلما إقترب منها ابتعدت عنه أفليس من الأجدر أن نحذر هذه السعادة الموهومة وأن نتركها فنستريح من عناء اللهاث خلفها لأن ببساطة السعادة تنتمي إلى دائرة المخيلة و التوهم فهي حلم جميل و رغبة مؤجلة فنحن سعداء إلا قبل أن نكون سعداء فعندما نسعى جاهدين لاقتناص السعادة تنأى عنا و تهرب منا وعندما لا نكترث بها يمكن أن نحصل عليها .

التواصل: التحديد والرهان - عبد المجيد العابد

أنفاس نت 



مهاد الموضوع
يعد التواصل من بين أهم الموضوعات المطروقة اليوم، لما أصبح يفرضه العالم المتنامي من  تفعيلٍ لهذه الأداة الإنسانية الفعالة في الربط بين الحضارات والثقافات، وتقريب الهوة بين الشعوب والبلاد. ولهذا لم يعد التواصل لفظا ومفهوما عاديا كباقي المفاهيم السيارة بين الحقول المعرفية المتعددة؛ بل أمسى علما مستقلا بذاته، له أصوله وقواعده ومناهجه، والأدوات التي نستند إليها في ابتغاء التواصل الفعال بعيدا عن كل المعيقات التي يمكن أن تعترضه وتشوش المبتغى الأسمى منه، أي الوصول إلى الرهانات المختلفة في جميع مناحي الحياة؛ فأن نتواصل معناه أن نصل إلى الأنا أو الغير أو الآخر جملة وتفصيلا.
تعريف التواصل
لا يمكن البتَّةَ أن نعثر على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ لمفهوم التواصل، لأنه لم يعد يستقيم على حال، ونجده في جميع الحقول المعرفية المختلفة كهندسة الطيران والرياضيات والإعلام والاقتصاد والطب والسيميائيات واللسانيات وهلم جرا، كما تتجاذبه كل مظاهر الحياة الإنسانية النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. إن التواصل موضوعة، بمعناها الفلسفي، لا تقف عند تعريف بعينه.
وبالرغم من هذه المعضلة التعريفية يمكن أن نسلم بأن التواصل لغةً هو الإيصال، والعبور، والنقل، والإفهام، والإخبار، والإبلاغ، والوصول يكون بالأساس لغويا، وقد يكون باعتماد اللغة غير اللفظية. وترجع كلمة (Communication) إلى الأصل اللاتيني (Communes) الذي يُقْصَدُ به (Common)، أي عام أو مشترك. ومنه فكلمة التواصل في اللغة العربية أو في اللغات الأجنبية تصير إلى المدلول نفسه: العلاقة الإبلاغية الناظمة بين البشر من أجل الإيصال والتشارك والتفاهم. وتميز اللغة العربية، على الخصوص، بين التواصل الذي يقتضي التفاعل بين طرفين، الأول مرسِل والثاني مستقبِل وفق وضعية تخاطبية معينة تجعل من المستقبِل، بالنظر إلى الشروط المقامية، يصبح مرسِلا ويغدو المرسِل مستقبِلا؛ وهكذا يحصل التفاعل والتخاطب بينهما؛ بينما يرتبط الاتصال باتجاه أحادي، يجعل الطرفين مختلفين: الأول مرسل بالضرورة، والثاني مستقبِل لزومًا، كما أن الاتصال فيه من السلطة والعنف الرمزي ما ليس في التواصل، والتواصل فيه من التفاعل والتأدب ما ليس في الاتصال.
أما التواصل من الناحية الاصطلاحية، بعيدا عن متاهات تعددية الحقول المعرفية، فهو مجموع الإواليات التي تجمع طرفين مختلفين مخاطَب ومخاطِب في الوصول إلى تحقيق أهداف محددة بينهما ترتبط بالقصد. ولهذا كان التواصل خاصية إنسانية، ما دام متعلقا بالثقافة التي لا يمتلكها الحيوان. إنه أساس التفاعل بين البشر وتطور العلاقات الإنسانية، يسهم بالضرورة في حيويتها وديناميتها تجاه الأفعال المنوطة بها وفق مقام مخصوص، قد تكون إدارية أو تعليمية أو رياضية أو غير ذلك؛ إذ لا يمكن للجماعة الإنسانية أن تتفاعل إلا إذا اعتمدت الشروط التداولية في التواصل الفعال. فالأستاذ في القسم، مثالا، لا يمكنه أن يصل إلى التلاميذ، إلا بخلق جَوٍّ من التعاون والتأدب بنوعيه الأدنى والأقصى، وبهذا يُنَمَّى التفاعل الصفي في الفعل التَّعَلُّمِي التعليمي، ورئيس إدراة ما لا يمكنه أن يجعل التابعين له يؤسسون جماعة دينامية إلا بالحفاظ على المبادئ التداولية نفسها في تحقيق التواصل الفعال بينه والعاملين معه، والعالَم بأسره لا يمكن أن يكون منتظما إلا بالتواصل الفعال الذي يخلو من كل تشويش؛ والأمثلة في هذا الشأن متعددة بتعدد مجالات الحياة الإنسانية سلوكا وممارسة. 
2. رهان التواصل المعرفي
تعددت رهانات التواصل بحسب التحاقل وفق كل حقل معرفي على حدة، يمكن أن نجملها وفق ما يلي:
يعتبر التواصل في علم الإعلام موضوعَه الرئيس، مادام متعلقا بالخبر ورحلة المعلومة التي تشكل أساس البحث في التواصل منذ النظرية الأولى لشانون ذات النزعة الرياضية، حيث أخذت على عاتقها رفع التشويشات التي تطول التواصل مستفيدة من التلغراف. إن التواصل هو أساس بناء الوعي الجماهيري، والتفاعل والمشاركة في بناء هذا الوعي، وفي التنمية وتبادل المعلومات، وتنميط الأفكار والذهنيات، والحوار بين الأقطار من خلال رحلة المعلومة بين الأفراد والمؤسسات. وقد أدت تعددية الوسائط المعلوماتية اليوم إلى الاهتمام المتزايد بالموضوع استنادا إلى يسر العملية الإبلاغية، من خلال الواقع الافتراضي الذي يسمح به عالم الأنترنيت عبر المواقع الاجتماعية والمنتديات والصحف الإليكترونية وغيرها من العوالم المستجدة في الإعلام المعاصر الذي غير مجموعة من القيم والمبادئ التي أصبحت من الماضي كمفهوم المجتمع والنخبة والحدود؛ حيث حل الواقع الافتراضي، بوصفه أرقى أنواع التواصل الفعال، بديلا عن الحدود والأقيسة (انظر للمزيد مقالنا المنشور في الموقع: تعددية الوسائط الإعلامية والتنمية).
أما في علم النفس فيقصِدُ التواصلُ تفاعلَ الذات مع نفسها، إنه خطاب بيشخصي يخلق لغة داخلية نستطيع بالنظر إليها الوصولَ إلى كُنْهِ الفرد، وكشف مستور حياته النفسية. ومن ثم كان الاستبطان أهم عملية في الوصول إلى الشخص، كما أن التواصل تفريج وبوح وطرح للمكبوتات، واستنطاق لللاوعي الفردي، وهلوسة في بعض الأحيان، وتداع حر وانفصام ولغة منسية وتجاوز للمعيقات النفسية الفردية التي تقف أمام بناء الشخصية المتوازي السليم. ويختلف التواصل النفسي عن باقي أنواع التواصل الأخرى لأنه لا يفترض متلقيا مشخصنا، بل ذاتا محينة فقط.
بينما يرتبط التواصل في علم الاجتماع بتبادل القيم وغيرها بين الأفراد والجماعات، والتفاعل بينهم لخلق دينامية المجتمع بأسره، كما أن التواصل أساس اندماج الأفراد في ثقافة وهوية المجتمع وتمثيلاته للعالم والأشياء، مما يساهم في توحيد الوعي الجمعي، والمشاركة الفاعلة في بناء المجتمعين السياسي والمدني. إن التواصل الاجتماعي قائم على رهانات متعددة إذن، كما أشار بيير بورديو، قد تكون رهان الهوية الفردية أو رهان الهوية الجماعية أو رهان الهوية الوطنية.
ويحتل التواصل في الأنتروبولوجيا مركزا مهما خصوصا عند كلود ليفي شتراوس الذي نادى بدراسة الأنماط التواصلية للكشف عن طبيعة انتماء العنصر البشري إلى ثقافة معينة، تحدد له نمطه في الوجود، فالأشكال الثقافية التواصلية المتعددة، كالعادات والطقوس وجميع الأشكال الرمزية المختلفة، هي ما يحدد الانتماء ويجعل الثقافات تختلف عن بعضها البعض، يمكن للأنتروبولوجي بعد دراستها وفحصها أن يكشف هذه التمايزات، ويفرد العناصر المشتركة بين الثقافات التي تلبي الحاجة الإنسانية في التواصل. 
وقد اقترن التواصل في الفلسفة بالتصور النسقي لكل فيلسوف، وفي ربط مباشر بين الأنا والغير أو بين الأنا والآخر، وهل معرفة الغير ضرورية لمعرفة الأنا؟ وإلى أي حد تُمَكِّن معرفة الغير من التواصل معه؟ فجان بول سارتر يرى أن معرفة الغير ضرورية وفقا لمبدأ التعاقد، لكن بالرغم من ذلك فالغير يُشَيِّءُ الأنا من خلال مفهوم النظرة، أما طوماس هوبس فيرى أن الآخرين هم الجحيم، بينما هيجل يمفصل التواصل دياليكتيا من خلال التعارض بين الأنا والآخر باعتبارهما ضدين متكاملين. أما هابرماس فيدعو إلى التواصل على اعتبار أن التواصل اللغوي تَبَيُّنٌ لحقيقة الوجود، فاللغة قادرة على ترجمة حالات الأشياء، مستفيدا من نظرية أفعال الكلام مع سورل وأوستين وبرتراند راسل وفيتجنشطاين؛ بينما نيتشه يرى أن الأنظمة الرمزية كلها أنشأها الإنسان بهدف التمويه، وتمرير أوهام العقل حول الحقيقة والوجود. ويذهب إرنيست كاسيرر إلى أن الإنسان حيوان تواصلي رامز، استطاع من خلال الرمز الابتعاد من ربقة الموضوعات والأشياء. ويعتقد أمبرطو إيكو أن كل أنظمة الثقافة ذات بعد تواصلي، إذ لا يمكن فصل الثقافة عن التواصل؛ بينما يرى برجسون أن اللغة عاجزة عن التعبير عن الفكر.
ويدعو المفكر المغربي المهدي المنجرة إليه كمقابل لمفهوم صراع الحضارات الذي نادى به صامويل هيتنغتون أو نهاية العالم التي نادى بها فرانسيس فوكوياما، وراهن المرحوم محمد عابد الجابري كذلك على حوار الحضارات أو حوار الثقافات كأرقى شكل من أشكال التواصل، ونبذ الصراع مع الغير والآخر، ويميز الأستاذ طه عبد الرحمن بين التواصل والاتصال في التداول الاجتماعي العربي الإسلامي، حيث إن الثقافة العربية ثقافة تواصل تحترم الشروط التخاطبية في الإنجاز والتداول، لذلك فلامناص من اعتماد المبادئ التخاطبية التعاملية في أي تواصل فعال بين الأفراد والجماعات. 
أما في الاقتصاد فالتواصل هو أساس المبادلات التجارية(الماركوتينج)، وركيزة التدبير والحَكَامَة الجيدة في الشركات والمقاولات والتفاعل بين الجماعات مدراءَ وعمال، لذلك تكثر في مجال التجارة الورشات التي تعنى بهذه الإستراتيجية، فبدون التواصل لا يمكن لهذا المجال الإنساني الحيوي أن يستمر. ويقوم هذا النوع من التواصل عل اعتماد مجموعة من الإواليات التواصلية التي تدفع المتلقي إلى الاستسلام عبر الإقناع السري، ويلعب الإشهار دورا مهما في التواصل الاقتصادي الفعال.
وفي الميدان الطبي يرتبط التواصل أساسا بجلسات التمريض، قد تكون بين الطبيب ومساعديه أو بين الطبيب والمريض أو بين الممرض والمريض، وفي تبادل المعلومات بين هذه الأطراف، تتدخل في التواصل الطبي مجموعة من الإواليات اللفظية والحركية الكينيزية والبروكسيميائية في التعرف إلى المشاعر المتبادلة، ويلعب التواصل غير اللفظي في المجال الطبي دورا أكبر من التواصل اللفظي(يعتبر الأطباء أوائل الذين نحتوا علم السيمياء كان الهدف منه الكشف عن اللغة غير اللفظية التي يُتَوَصَّل بوساطتها إلى تحديد طبيعة المرض كاللون والحركة والبكاء والزفير والحمى والتقيؤ..) كما تعمل الإواليات البروكسيميائية في التواصل الطبي من حيث ترتيب مكان الجلسة الطبية وزمانها والمسافة بين المريض والطبيب، ودراسة الحركات (الكينيزية) بين الفريق والمريض، ويضاف إلى ذلك الزي واللباقة والود والاحترام والحب والعناية وغيرها مما يساهم في تعجيل الشفاء.  
عرف التواصل في اللسانيات بدايته مع الأنموذج الذي اقترحه جاكبسون وفق الترسيمة السداسية: المرسِل، الرسالة، المرسَل إليه، القناة، السنن، السياق أو الإحالة؛ يقوم المرسل بالوظيفة التعبيرية، وتقوم الرسالة بالوظيفة الشعرية الجمالية، والمرسل إليه بالوظيفة التأثيرية، وتقوم القناة بوظيفة ضمان الاتصال، والسنن بوظيفة اللغة الواصفة أو الميتالغوية، والسياق بالوظيفة الإحالية المرجعية.
وقد استفاد جاكبسون من تصور شانون السابق الذكر، غير أن ما عِيبَ على أنموذج جاكبسون هو اعتماد أحادية الاتجاه في التواصل، مما جَرَّه إلى الاتصال عوض التواصل، وهذا ما تداركته جوليا كريستيفا، باعتماد خطاطة تفاعلية بين المرسِل والمرسَل إليه تتجاوز أحادية جاكبسون في الاتصال. وبعد هذين النموذجين تعددت النماذج اللسانية في التواصل، وقامت نظريات لسانية على هذا المفهوم كالنظريات اللسانيات الوظيفية البنيوية (مارتينيه وجاكوبسون وبينفنيست) ونظرية النحو الوظيفي بريادة سيمون ديك الذي تجعل أساسا لها الوظيفة التواصلية للغة.
واهتمت التداوليات بالتواصل في جانبه التفاعلي، ووضعت لذلك شروطا هي عبارة عن مجموعة من المبادئ التداولية المشهورة في هذا المجال، ما دام التخاطب الإنساني في صلبه بنية تفاعلية، مستفيدة من فلسفة اللغة العادية مع شارل موريس وأوستين وسورل وغيرهم، وأهم هذه المبادئ التداولية التعاملية نذكر: مبدأ التعاون ومبدأ التأدب ومبدأ التواجه ومبدأ التأدب الأقصى ومبدأ التصديق، فمبدأ التعاون يشكل المبدأ التداولي الأول للتخاطب، تعلق بالفيلسوف الأمريكي غرايس قائم على كم الخبر وكيفه والعلاقة، وقد أرادها ضوابط تحكم كل تخاطب إنساني كيفما كان؛ أما  مبدأ التأدب الأقصى فاقترن بليتش يعتبره مكملا لمبدأ التعاون، يقوم على ضابطين اثنين: قلل من الكلام غير المؤدب، أكثر من الكلام المؤدب، وتتفرع عنه قواعد اللباقة والسخاء والاستحسان والتواضع والاتفاق.
راهنت السيميائيات على مفهوم التواصل خصوصا في أعمال بويسنس وبريطو ومونان وغيرهم، أو ما يعرف باتجاه السيميائيات التواصلية الذي أخذ على عاتقه دراسة الأنساق التواصلية المتعددة، وعبر السيميائيات أخذ التواصل غير اللفظي قيمته في القناة التواصلية، حيث تم الاعتماد على دراسة أنساق تواصلية متعددة كإشارات المرور والإيماءات واستعمالات الجسد الاستعارية والرموز والأمارات وغيرها. وقد كان الرافد الأساس في دراسة هذه الأنساق التبشير السوسيري بهذا العلم العام الذي سيهتم بأنظمة العلامات في الحياة الاجتماعية، فدراسة الإشارات وعلامات المرور (بيير غيرو) والمطبخ واللباس ونسق الموضة (رولان بارت) والحركات الكينيزية (سابير)، اعتمدت جميعها مصطلحات لسانية، حيث نتحدث مع بارت وغيره عن الثنائيات اللسانية السوسيرية(الكلام/ اللسان؛ التوزيع/ الاستبدال، العام / الخاص)، ومع سابير عن الحركات الصغرى التي تقابل الفونيمات والحركات المركبة التي تقابل المونيمات، أي خلق نحو للحركة على غرار نحو اللغة.
غير أن التواصل غير اللفظي في هذا المجال يخضع للمعيار الأنتروبولوجي، فلكل ثقافة نمطها المخصوص في تداول الرموز، ولا يمكن للإنسان أن ينفي هذا الاستعمال، فالحركات تختلف بالضرورة بحسب الموقف والتحديد الجنسي والطبقة والتعامل والتنشئة الاجتماعية، لذلك فكي تؤدي الحركة دورها ينبغي أن نراعي فيها هذا الاختلاف، فاليد تبطش وتُرَبِّثُ وتسر وتهدد وتهدهد وتختزل اللغة الإشارية وتنجي من الرتابة اللفظية، وحركات الجسد تستفز وتعتدي وتتبختر وتتغنج.    
وتعتبر العين أرقى طريق في التواصل غير اللفظي، إذ تختزل البعد الإنساني بأكمله عبر النظرة، فهي تقتل وتبكي وتضحك وتستفز وتغمز وتلمز وتهين وتحتقر وتعد وتسر. ويلعب اللون كذلك دورا مهما سواء تعلق بلون الوجه وتعبيراته المختلفة بحسب المواقف، أو من خلال طبيعة الألوان المرافقة للباس والزي والمكان، فالأحمر غير الأصفر والأسود في كثير من المواقف، إذ اللون ينفر أو يثير أو يجذب أو يريح، وتقول الألبسة كلاما تعجز عنه الألفاظ، فهي تفشي الانتماء القيمي عبر مدلولاتها المتعية وطرق النظر إلى العالم والأشياء.     
وقد تجلت هذه النتائج كثيرا في دراسة الإشهار باعتباره تمثيلا واضحا للتواصل الفعال الذي يجمع بين اللغة اللفظية واللغة غير اللفظية وصولا إلى المتلقي، كما ظهرت وفق هذا التوجه السيميائي نظرية البروكسيمياء أو دراسة المسافات ودرجات القرب في التواصل(طوماس هال)، تحضر أكثر في التواصل التربوي والتواصل الإداري وفي العلاقات الإنسانية عامة، فالشخص الذي تحضنه، في ثقافتنا المغربية، يشكل له ذلك تواصلا أفضل من السلام عليه بالوجه، أو باليد فقط، أو تكتفي بالإشارة باليد. فالقرب في المسافة قرب في الحميمية والود، لذلك كان الزواج في التداول الإسلامي أكبر مثال للود، حيث عُبِّر عليه باللباس في قوله تعالى''هن لباس لكم وأنتم لباس لهن''، وهذه العبارة أكبر تعبير على هذه الحميمية، إذ لا شيء يفصل بين اللباس وصاحبه.
أما التواصل التربوي فقد استفاد من إواليات التواصل في علم النفس وعلم النفس المعرفي واللسانيات وعلم الاجتماع وغيرها، وارتبط بالعملية التعلمية التعليمية باعتبارها بنية تواصلية تجمع بين مثلث ديداكتي (المعلم والمتعلم والمادة الدراسة). ولم تَخْلُ النظريات التربوية ابتداءً من السلوكية (نظرية المثير والاستجابة) إلى المعرفية من حضور هذا المضمون، حتى إنه اليوم أصبح مقرونا ببيداغوجيات متعددة كنظرية التفاعل الصفي، ودينامية الجماعة، والإدماج، وأسلوب التغذية الراجعة، وبيداغوجيا الفوارق؛ لأن التواصل في حقيقته تبادل للمعلومات بطريقة أفقية أو عمودية.
تظهر الطريقة الأفقية في التعليم الحديث الذي يقوم على التفاعل الصفي ويجعل التلميذ محور العملية التعليمية التعلمية، عبر التعلم الذاتي والتفاعل مع الزملاء، بينما الطريقة العمودية فتشكل التقليدية منها، تنظر إلى المتعلم بوصفه صفحة بيضاء يُلَقَّن فقط. لذلك يجب في التواصل التربوي الابتعاد عن اللفظية الزائدة واعتماد الوسائل السمعية البصرية في التعلم تجاوزا للرتابة في التعليم خصوصا في المراحل الأولى منه، حيث إن طفل القرن الواحد والعشرين لم يعد مثل طفل بياجي يغتر باللفظ، بل أمسى اِبْنًا للصورة والتواصل غير اللفظي الذي يملأ مجاله وتداوله اليومي, ومنه فالتربية الحديثة لا بد من تلبي حاجة هذا المتعلم الجديد.
غير أن هذا الهدف لا يمكن أن يتحقق إلا بتجاوز العوائق التعليمية التي تخص اللغة غير اللفظية، منها ما يرتبط بالمعلم، وما يتعلق بالمتعلم، وما يستند إلى المنهاج الدراسي، وما يتعلق بالمجال أو البيئة التعليمية (يمكن الرجوع إلى مقالنا المنشور في الموقع:"الدور التربوي والتعليمي للصورة" لتفصيل القول).


الثلاثاء، 3 مايو 2016

قالوا مشت مرسيل خليفة

قالوا مَشت فالحقلُ من ولهٍ
مُتَلبكٌ.. والقمحُ يكتنزُ
بُعثَ التنَاغُمُ عَبرَ خُطْوَتِهَا
والهَيْدَبَى والوَخْدُ والرَجَزُ
تُوْمِي، فيَلتَفتُ الغُروبُ لها..
مِن لهفةٍ،
ويُتغتغُ العَنَزُ
لفَتَاتُهَا تَخِزُ.
وقَمِيصُهَا كَرزُ
وجُفونها وترٌ
وأغْنَيَّةٌ صَيفيةٌ



الاثنين، 2 مايو 2016

إلى ما يرمي إصلاح التعليم؟ ـ بوبكر بوعزة

عن أنفاس نت



إن المتأمل في السياسة الإصلاحية للمنظومة التعليمية المغربية يستنتج أن الهدف الحقيقي لهذا الإصلاح هو تكريس التفاوت الطبقي في بنية المجتمع المغربي، تفاوت تحافظ بموجبه الطبقات المحظوظة على مصالحها وعلى كل الامتيازات التي راكمتها منذ الاستعمار إلى الآن. وذلك بإعادة توسيع الهوة بين أبناء الشعب الفقراء وأبناء الطبقة الغنية. هذه السياسة إلاصلاحية تصنع من أبنائهم طبقة مؤهلة ومن أبناء الشعب أيادي عاملة تشتغل في ضيعات ومصانع ومعامل الطبقة الغنية المنتشرة علو طول ربوع الوطن. أليس هذا ما تريد أن تكرسه مدرسة اليوم وفق التصور الجديد للإصلاح؟
   إذا تمعنا في المدرسة المغربية لن نجد هناك مدرسة واحدة، بل ثلاث مدارس هي:
-المدارس الفرنسية؛
-المدرسة الخصوصية؛
-المدرسة العمومية

المدرسة الأولى تستقبل أبناء الأعيان، أبناء الطبقة المحظوظة المسيطرة اقتصاديا وسياسيا والمتحكمة في دواليب الحكم في المغرب والمستغلة لخيراته وثرواته..والثانية هجينة وتتميز بالتفاوت الصارخ بين مدرسة وأخرى، فهي ليست على نفس المقياس، فالمدرسة الخصوصية في المدينة ليست هي المدرسة الخصوصية في البادية...كما أن في المدينة الواحدة تجد تفاوتا كبيرا بين المدارس الخصوصية ليس في الأثمنة فقط، بل في جودة التعلمات كذلك، وهذا ما يؤسس لتفاوت صارخ في مستوى التلاميذ، بين من يلج مدارس خاصة راقية سواء في خدماتها وجودتها، بل حتى في أثمنتها المرتفعة جدا لهذا لا يلجها سوى أبناء الأغنياء، ومن يلج مدارس خصوصية رخيصة في تكلفتها، ومتدنية في جودتها، تنتشر في هوامش المدن وتعرف حالة من الاكتظاظ، وغياب المرافق الرياضية والترفيهية، ومدرسون لا يمتلكون الكفاءات اللازمة للتدريس، وبناية غير صالحة للتدريس لكونها مجرد مرآب أو طابق لبناية مأهولة بالسكان ...إلخ.

أما المدارس العمومية التي راكمت من التجارب الفاشلة طيلة عقود من العبث والتدبير العشوائي والإصلاحات التي تهدف إلى محاربتها، ومحاربة المجانية، فهي مدرسة لا تتوفر على شروط التحصيل العلمي، حجرات متهالكة، طاولات وسبورات وكراسي لا تحمل من تلك الصفات سوى الاسم تعود إلى العصر الحجري، تعرف حالة من الاكتظاظ، حيث قد تجد في القسم ما يقارب الخمسين تلميذا وفي بعض الاحيان تصل إلى حدود الستين تلميذا في الحجرة الواحدة...

إن دل هذا على شيء فإنه يدل على ان التعليم في المغرب تعليما طبقيا بالدرجة الأولى، تعليما يرسي أسس اللامساواة والطبقية... فَحينَ تقوم المدارس الفرنسية وبعض المدارس الخصوصية التي تستقر في الحواضر الكبرى كفاس والرباط والدار البيضاء ومراكش وأكادير بإنتاج النخب وتأهيلها لمتابعة دراستها في الخارج لتعود لتدبير الشأن العام في المغرب سياسيا واقتصاديا... تقوم باقي المدارس الأخرى العمومية منها وجل المدارس الخصوصية بإنتاج طبقة هجينة لا تستطيع إكمال دراساتها، وقد ساهمت الاصلاحات المتعاقبة في الهذر المدرسي وحكمت على التمدرس منذ السنوات الأولى بالهذر ومغادرة مقاعد الدراسة مبكرا ولأسباب موضوعية. وفي مقالنا هذا سنركز على نقطة أساسية من بين النقاط الكثيرة الذي تضمنها الإصلاح والتي تؤسس لهذا التفاوت منذ بداية المسار التعليمي التعلمي؛ إنها مسألة التعليم الأولي، كما سنبين أيضا كيف جاء هذا الاصلاح لمحاربة المدرسة العمومية ومجانية التعليم والدفع بعجلة الخوصصة لتدوس على المدرسة المغربية وذلك من خلال ملف الاساتذة المتدربين.

جاء في "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" القسم الثاني "مجالات التجديد ودعامات التغيير" المجال الأول: نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي، الدعامة الأولى: تعميم تعليم جيد في مدرسة متعددة الأساليب.

24-يشمل نظام التربية والتكوين التعليم الاولي والتعليم الابتدائي والتعليم الإعدادي والتعليم الثانوي والتعليم العالي والتعليم الاصيل. ويقصد بتعميم التعليم، تعميم تربية جيدة على ناشئة المغرب بالأولي من سن 4 إلى 6 سنوات وبالابتدائي والإعدادي من سن 6 إلى 15 سنة".[1] يتضح من خلال دعامة الميثاق الوطني للتربية والتكوين أن التعليم الأولي هو التعليم ما قبل الابتدائي، وهو تعليم يحظى بالأهمية القصوى في هذا الإصلاح بحكم كونه اللبنة الأولى في التعليم والأساس الذي سيبنى عليه التعليم برمته؛ وهذا ما تؤكده الدعامة 25 من الميثاق التي تقول:"خلال العشرية الوطنية للتربية والتكوين، المعلنة بمقتضى هذا الميثاق، سيحظى التعليم الأولي والابتدائي والإعدادي بالأولوية القصوى، وستسهر سلطات التربية والتكوين، بتعاون وثيق مع جميع الفعاليات التربوية والشركاء في إدارات الدولة والجماعات المحلية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص، على رفع تحدي التعميم السريع للتعليم الأولي والابتدائي والإعدادي في جميع أرجاء المملكة، بتحسين جودته وملاءمته لحاجات الأفراد وواقع الحياة ومتطلباتها..."[2] فهل فعلا تم تعميم التعليم الأولى على جميع أرجاء الوطن؟ وهل فعلا تم الحرص على تقديم عرض تربوي في التعليم الأولى يتصف بالجودة؟ وهل فعلا هناك توزيع متساوي وعادل للتعليم الاولي في كل ربوع المملكة؟ أليس التعليم الأولي هو أول نقطة في المنظومة التربية المغربية تخلق اللاتكافؤ واللامساواة في التعليم وتساهم في خلق الهذر المدرسي وإنتاج جيل معطوب والحكم على أبناء الشعب بمغادرة مقاعد الدراسة منذ السنوات الاولى للتعليم؟ كيف ذلك؟

إن التعليم الأولي يشكل اللبنة الأولى في التعليم والتي سيبنى عليها التعليم الابتدائي، فبرامج التعليم الابتدائي بُنيّت بشكل يراعي سنوات التعليم الأولي، وهو ما يؤكد عليه الميثاق:"تتضمن الهيكلة التربوية الجديدة كلا من التعليم الأولي والابتدائي والإعدادي والثانوي والتعليم العالي، على أساس الجذوع المشتركة والتخصص التدريجي والجسور على جميع المستويات"[3] أن هذه الدعامة تؤكد على الجسور الرابطة بين التعليم الأولي والتعليم الابتدائي، فالتعليم الأولي يشكل القنطرة الضرورية للمرور إلى التعليم الابتدائي، لهذا السبب يجب أن يكون تعليما جيدا وموزعا بشكل جيدة على كل التراب الوطني، وألا يكون فيه نوعا من التفاوت واللامساواة، فهو بمثابة أساس كل الواجبات التي ستبنى عليه، أو كما يقول كانط:" إنه الواجب الذي ستبنى عليه كل الواجبات الأخرى"[4]. فهل فعلا جعلت الدولة التعليم الأولي من أولى اهتماماتها وأولته الأهمية التي يجب أن يحظى بها أم أن ذلك ظل حبرا على ورقة وأن التعليم الأولي كان مجرد خطوة مقصودة لخلق هوة لا يمكن ردمها بين أبناء الشعب الفقراء وأبناء المحظوظين الأغنياء؟

إن واقع الحال يبين بالملموس أن الفروق واضحة فيما يتعلق بالتعليم الأولي بين المدن والبوادي من جهة، وداخل نفس المدينة من جهة أخرى. فإذا كانت المدن تمتلك رياضا لاستقبال الأطفال وتعليمهم المبادئ الأولى للقراءة والكتابة، فإن البوادي لا تمتلك رياضا مخصصة لذلك، أقصى ما يمكن أن تتوفر عليه "مسيد" يسهر فيه فقيه المسجد على تحفيظ بعض الآيات القرآنية للناشئة بالاعتماد على السمع، وعندما ينتقلون إلى التعليم الابتدائي يجدون أنفسهم لا يستطيعون تمييز الحروف، لا العربية ولا الفرنسية، في الوقت الذي يكون فيه أبناء المحظوظين يتكلمون باللغة العربية والفرنسية بشكل سلس وجيد. هذه الفروقات تحتم على أبناء القرى مغادرة أقسام الدراسة منذ السنوات الأولى بسبب عدم مجاراتهم ايقاعات التعلم وافتقادهم للمبادئ الأولية للتعلم، خصوصا وكما سبق الذكر -وهنا مربط الفرس- أن مقررات التعليم الابتدائي تبنى على أساس أن التلميذ قد درس من سن 4 إلى سن 6 في روض الأطفال. وهنا نطرح السؤال: كيف يعقل أن ينحج التلميذ في التعليم الابتدائي وهو لم يتلقى تعليمه الأولي؟ هذا الواقع الحالك الذي يتخبط فيه أبناء البوادي وبعض أبناء المدن من الطبقة المسحوقة لا يعاني منه أبناء المحظوظين. ففي المدن التي تنتشر فيها رياض الأطفال تجد التلاميذ قد أتقنوا الحروف الأبجدية العربية والفرنسية، بل منهم من يتكلم باللغة العربية والفرنسية بطريقة جيدة لا يتكلمها حتى تلاميذ التعليم الثانوي في البوادي في الوقت الذي تنعدم فيه هذه رياض الأطفال في بوادي وقرى ومدارس المغرب العميق أليست هذه هي الطريقة المثلى لصناعة التفاوت والطبقية؟ ألا يتناقض هذا مع ما يصرح به الميثاق في هذه الدعامة:"يرمي التعليم الأولي والابتدائي إلى تحقيق الأهداف العامة الآتية:

أ-ضمان أقصى حد من تكافؤ الفرص لجميع الأطفال المغاربة، منذ سن مبكرة، للنجاح في مسيرهم الدراسي وبعد ذلك في الحياة المهنية، بما في ذلك إدماج المرحلة المتقدمة من التعليم الأولي"[5] هل فعلا القول يصاحبه الفعل أم أن واقع الحال يكذب كل ما صرح به الميثاق الذي يحمل هما واحدا هو خوصصة التعليم والقطع مع المجانية حتى يتسنى له التخلص من عبء أبناء الشعب وجعلهم مجرد عمال في مصانع الأثرياء وضيعاتهم؟  أليس هذا ما يصنع الهذر المدرسي الذي يحاولون محاربته بالشعارات الرنانة؟ كيف يمكن لتلميذ لم يتلقى تعليما أوليا أن يصقل مهاراته وأن ينمي قدراته وأن ينجح في مساره الدراسي اللاحق وهو لم يتلقى التعليم السابق؟  ألا يقود هذا إلا حرمان أبناء الشعب من حقهم في تعليم يحفظ كرامتهم ويجعلهم يرتقون اجتماعيا؟ ألا يتنافى هذا مع الاتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز في التعليم التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة سنة 1960 والتي ترى أن التمييز في التعليم هو انتهاك لحقوق الإنسان، حيث تصرح الاتفاقية في المادة 1:"لأغراض هذه الاتفاقية، تعني كلمة "التمييز" أي ميز أو استبعاد أو قصر أو تفضيل على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الحالة الاقتصادية أو المولد، يقصد منه أو ينشأ عنه إلغاء المساواة في المعاملة في مجال التعليم أو الإخلال بها، وخاصة ما يلي:

أ-حرمان أي شخص أو جماعة من الأشخاص من الالتحاق بأي نوع من أنواع التعليم في أي مرحلة؛
ب-قصر فرض أي شخص أو جماعة من الأشخاص على نوع من التعليم أدنى مستوى من سائر الأنواع؛
ج-إنشاء أو إبقاء نظم أو مؤسسات تعليمية منفصلة لأشخاص معينين أو لجماعات معينة من الأشخاص، غير تلك التي تجيزها أحكام المادة 2 من هذه الاتفاقية؛
د-فرض أوضاع لا تتفق وكرامة الانسان على أي شخص أو جماعة أشخاص.

2-لأغراض هذه الاتفاقية، تشير كلمة "التعليم" إلى جميع أنواع التعليم ومراحله، وتشمل فرص الالتحاق بالتعليم، ومستواه ونوعيته، والظروف التي يوفرها فيها"[6] فأين المغرب من هذا رغم نه من المهرولين إلى التوقيع على هذه المعاهدات والاتفاقيات الأممية؟ ألا يتناقض واقع الحال مع هذه الاتفاقية؟ ألا يحمل الميثاق الوطني للتربية والتكوين في بنوده دعامات نقيضة لهذه الاتفاقية؟ ألا يبشر الميثاق الوطني بالتفاوت والقضاء على كل أشكال المساواة بل حتى على الحق في التعليم بالنسبة للأسر الهشة والمعوزة؟ أليس الاصلاح التربوي المنشود مجرد أكذوبة لخلق هذا التفاوت الطبقي خصوصا وان الدولة  قد أخلت بواجباتها اتجاه الطبقات غير المحظوظة والمهمشة والقرى والمداشر وهي التي أكدت على ضرورة اتخاذ جملة من التدابير لتعميم تعليم جيد في المناطق القروية غير المحظوظة كما جاء في الدعامة 29 من الميثاق:"تيسيرا لتعميم تعليم جيد، وسعيا لتقريب المدرسة وإدماجها في محيطها المباشر، خصوصا في الأوساط القروية وشبه الحضرية، ينبغي القيام بما يلي:

أ-إنجاز شراكة مع الجماعات المحلية، كلما أمكن، لتخصيص أمكنة ملائمة للتدريس والقيام بصيانتها، على أن تضطلع الدولة بتوفير التأطير والمعدات الضرورية؛ (فلا هي جهزت هذه الأماكن ولا هي وفرت التأطير والمعدات)

ب-اللجوء عن الحاجة للاستئجار واقتناء المحلات الجاهزة أو القابلة للإصلاح والملائمة لحاجات التدريس، في قلب المداشر والدواوير والأحياء، دون انتظار إنجاز بنايات جديدة في آجال وبتكاليف من شأنها تأخير التمدرس..."[7] ظلت هذه البنود حبرا على ورقة رغم مرور كل هذه السنوات على الميثاق الوطني للتربية والتكوين ومجيء المخطط ألاستعجالي والدخول في الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم. فلا الدولة جهزت أماكن التمدرس في القرى كما وعدت بذلك، ولا هي وفرت التأطير ولا المعدات. الوضع في البوادي لازال على حاله باستثناء بناء بعض البيوت التي يدرّس فيها معلم واحد جميع المستويات من السنة الأولى حتى السادسة ابتدائي في غياب شروط التحصيل العلمي الصحية والسليمة، أما البنايات الخاصة بالتعليم الأولى فلا وجود لها  إطلاقا في العالم القروي.

فهل هذا يعني أن المدينة محظوظة بتواجد رياض الأطفال والمدارس الخصوصية التي يتلقى فيها الأطفال تعليمهم الاولي في شروط جيدة؟ أكيد لا. إن المدينة ذاتها تعاني من التفاوت الصارخ واللامساواة، فأبناء الطبقة الميسورة يلجون إلى المدارس الخصوصية المعروفة بالجودة والخدمات الجيدة وذات التكلفة الباهظة في حين يلج أبناء الفقراء المدارس الخصوصية التي تنتشر في هوامش المدن وفي المآرب وطبقات العمارات والتي لا تتوفر على أبسط شروط التحصيل العلمي والتي تكدس التلاميذ في بيوت وليس أقساما في غياب تام للفضاءات الرياضية و الترفيهية، تستغل الطلبة العاطلين أبشع استغلال وتستنزف قدراتهم في شروط بئيسة بأثمنة رخيصة تستغلهم وتفرض عليهم أن يكونوا أسخياء في النقط الممنوحة للتلاميذ حتى يتم استقطاب المزيد من "المزاليط" الذي يستزفون جيوبهم طمعا في حصول أبنائهم على تعليم يؤهلهم للظفر بمنصب يخرجهم من خانة الفقر والبؤس والهشاشة، لكن للأسف مثل هذه المدارس الخصوصية لا تنجب سوى أشباه التلاميذ وما هم بتلاميذ إلا من رحم ربي، وهذا ما يتبين بمجرد التحاق أحد تلاميذ هذه المدارس الخصوصية بالمدرسة العمومية، فلا يستطيع النجاح حتى في الأقسام المشتركة التي تعتمد على المراقبة المستمرة كمعيار للنجاح، غير قادر على مجارات حتى تلاميذ التعليم العمومي الذي يتابعون تعليمهم في مدارس تفتقر إلى شروط التحصيل العلمي والتي يقاتل فيها الأستاذ من أجل حصول أبناء الشعب على تعليم يليق بهم وحيدا بعدما تخل الكل عنه، فأًصبح وحيدا يجابه الصعاب.. أما أبناء الطبقة المحظوظة فيلجون مدارس خصوصية مصنفة في ملكية مستثمرين كبار، مجهزة بكل ما يحتاجه التلميذ من فضاءات وأقسام ومساحات، تقدم تعليما جيدة وتستقطب أساتذة مؤهلين لممارسة التعليم، وتوزع التلاميذ على الأقسام بما يضمن لهم التحصيل الجيد مع الحرص على أن لا يتجاوز عددهم ما بين 20 و25 تلميذا أو على أقصى تقدير 30، لهذا تجدها غير مفتوحة في وجه العموم، بل غالبا ما تجد أصحاب هذه المدارس يقومون بانتقاء التلاميذ الذين يسمح لهم بمتابعة الدراسة، إنها تقتصر أبناء الميسورين فقط.

إلى ما يرمي كل هذا؟ إنه يرمي إلا خوصصة التعليم وضرب المجانية وبالتالي قطع الطريق على أبناء الشعب من أجل الرقي الاجتماعي وتحويلهم إلى أيادي عاملة فقط. وهذا ما يؤكد عليه الميثاق نفسه وبطريقة صريحة، من خلال الامتيازات التي منحها للقطاع الخاص من أجل الاستثمار في التعليم، حيث نجد في المجال السادس:الشراكة والتمويل، في الدعامة 125 مايلي:

"أ-وضع نظام جبائي ملائم ومشجع للمؤسسات الخاصة لمدة يمكن أن تصل إلى عشرين عاما، شريطة التجديد السنوي للامتيازات الضريبية، في ضوء التقويم المنتظم للنتائج التربوية للمؤسسة المستفيدة ولتدبيرها الإداري والمالي؛
ب-تشجيع إنشاء المؤسسات التعليمية ذات النفع العام التي تستثمر كل فائضها في تطوير التعليم ورفع جودته، وذلك باعفائها كليا من الضرائب. ويمنح هذا التشجيع شريطة خضوع المؤسسات المعنية للمراقبة التربوية والمالية الصارمة، كما يتم التجديد السنوي لهذا الامتياز في ضوء تقويم المؤسسة؛
ج-أداء منح مالية لدعم المؤسسات الخاصة ذات الاستحقاق، على مستوى التعليم الأولي، حسب أعداد الأطفال المتمدرسين بها، وعلى أساس احترام معايير وتحملات محددة بدقة؛
د-تكوين أطر التربية والتكوين والتسيير وجعلها رهن إشارة المؤسسات الخاصة ذات الاستحقاق بشروط تحدد بمقتضى اتفاقية للشراكة ودفتر تحملات مضبوطة؛

ه-استفادة الأطر العاملة بالقطاع الخاص من أسلاك ودورات التكوين الأساسي والمستمر المبرمجة لفائدة أطر القطاع العام، وفق شروط تحدد كذلك ضمن اتفاقيات بين السلطات الوطنية أو الجهوية المشرفة على هذه البرامج وبين المؤسسات الخاصة المستفيدة."[8] هل هناك دليل أكبر من هذا على خوصصة التعليم وخلق التفاوت الطبقي وتكريس الهوة الشاسعة بين الفقراء والأغنياء من خلال حرمان أبناء الشعب من التعليم المجاني، ومن التسلق الطبقي والرقي الاجتماعي؟ وهل ما يتعرض له الاستاذة المتدربين هذه السنة يخرج عن إطار خوصصة التعليم؟ وهل فصل التكوين عن التوظيف لا يؤكد ما ذهب إلى الميثاق من خلال الدعامة السابقة التي أقر فيها بتكوين الأطر التربوية وجعلها رهن إشارة المؤسسات الخاصة؟ إن ما أقدمت عليه الحكومة الحالية من خلال المرسومين الصادرين هذه السنة والقاضيين بفصل التكوين عن التوظيف لهو التطبيق المباشر لسياسة الدولة الهادفة إلى التخلص من مجانية التعليم ورفع يدها عنه من خلال خوصصته وتفويته إلى المستثمرين.

 
 
-الميثاق الوطني للتربية والتكوين، سلسلة التشريع التربوي، الطبعة الاولى أكتوبر 2006، دار الحرف للنشر والوزيع، مطبعة دار النجاح الجديدة الدار البيضاء. ص:16.[1]
-الميثاق الوطني، ص-ص:16-17.[2]
-الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص:35.[3]
- إيمانويل كانط: أسس ميتافيزيقا الأخلاق".....ص...[4]
-الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص:36.[5]
-الاتفاقية الخاصة بمكافحة التمييز في التعليم التي اعتمدها المؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة في 14 كانون الأول-ديسمبر1960,[6]
- الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص-ص: 20-21.[7]
-الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ص-ص: 99-100.[8]

الحداثة: الأخلاق والسياسة ـ العلمي الإدريسي رشيد

عن أنفاس نت



يمكن أن نلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين إلى نقد الحداثة وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة, انطلاقا من تجارب التاريخ. على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية في ذات الوقت (على سبيل المثال, الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا, الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا…)؛ إن صعود وتنامي الفاشيات في أوروبا ارتكز على طروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن.
إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها). ألا يجب بالأحرى أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذهب إليه هابرماس في هذا الموضوع, حيث أنه دعا إلى التفريق بين قيم الحداثة والتي لا يماري أحد في أهميتها والواقع التاريخي الذي يتحكم فيه التركيب الاجتماعي وطبيعة الطبقات السائدة.

I – أواليات مفاهيمية:
1 – الحداثة: مفاهيم متعددة.
يمكن القول بداية إن الحداثة مفهوم يصعب تحديده بدقة, زمنيا ومفهوميا.
زمنيا أولا:
هناك من تحدث عن حداثة "الديمقراطية في أثينا" في التاريخ القديم(1) وهناك من قال بحداثة السفسطائيين وماثلها بالفكر الأنواري الذي برز فيما بعد(2)، وهناك من تحدث عن الحداثة بصفتها مرحلة فكرية متميزة ظهرت مع بروز الذاتية في القرن السادس عشر وامتدت إلى أواخر القرن التاسع عشر. ثم اختفت في الفترات المتأزمة, تلك التي عرفت فيها أوربا تنامي حركات تنادي بالعدمية وبالقومية العرقية, وأفضت في آخر المطاف إلى النازية.
وطفت الحداثة على سطح الفكر, وتجلت على مستوى الواقع, بعد الحرب العالمية الثانية.
مفهوميا ثانيا:
ماذا تعني الحداثة؟ التكنولوجيا, التصنيع, الآلية, المعرفة العلمية, الزمنية, المؤسسات, الديمقراطية, الحقوق السياسية والمدنية؟
عندما يريد العرب توطين وتبيئة الحداثة ماذا يعنون بذلك؟ ألا يجب التفريق منذ البداية بين الحداثة والتحديث؟ إن مفهوم التحديث ظهر في الخمسينات, لما سعت المجتمعات الثالثية إلى نهج سياسات تنموية(3).
الحداثة, كمفهوم عام, تحيل إلى مفاهيم فرعية متعددة: الذات, العقل, التاريخ, السوق, الحقوق, الديمقراطية. ويمكن القيام بتعريف أولي للحداثة: إن الحداثة تعني الإيمان بقدرة الإنسان بفضل عقله أن يوجه مسار التاريخ وتغيير بناء المجتمع بغية تحقيق الديمقراطية وصيانة الحقوق والحريات. صحيح, إن وعي الإنسان بذاته وبقدرته على تغيير المجتمع, شكل منعطفا كبيرا في الفكر البشري.

2 – الحداثة: بنية تناقضية
على أن هذا التعريف الأولي للحداثة سيصطدم بتغييرات وتحولات في غاية من الخطورة, ستفضي إلى إعطاء الحداثة معاني ودلالات أخرى, وهذا ما سنحاول إبرازه.
لذا, نطرح هذا التساؤل الذي يتبادر إلى ذهننا منذ الوهلة الأولى: هل هناك حداثة واحدة, أم هناك حداثات مختلفة, متباينة أحيانا(4)؟
على مستوى المفاهيم أولا, العقل, الذات, الفرد, الحرية وغيرها من المفاهيم المؤسسة للحداثة لها معاني ودلالات مختلفة عند الأدباء والفلاسفة.
على مستوى الواقع ثانيا, يمكن بالفعل, القيام بتحقيب زمني لحداثات مغايرة: حداثة تأسيسية (في القرنين السادس عشر والسابع عشر), حداثة الأنوار, حداثة ما بعد الأنوار, حداثة القرن التاسع عشر, حداثة ما بعدية في مطلع القرن العشرين الخ…
ونصادف اختلافا كبيرا, إن لم نقل تعارضا, بين مستوى الفكر والقيم, ومستوى الواقع في نفس الظرفية وذات الحقبة التاريخية.
ـ حداثة التسامح والاختلاف, وهما مفهومان أنواريان أساسيان يقابلهما التوسع والاستعمار وإقبار الثقافات المغايرة(5).
ـ حداثة المشاركة السياسية, يقابلها الإقصاء والتمييز بين المواطن النشيط والمواطن السلبي (E.SIEYES) وبين المواطن المالك والمواطن غير المالك (J.Locke)(6).
ـ حداثة التعاقد السياسي يقابلها التباعد والتفارق بين مركزية الدولة وطرفية المجتمع. فالفعل التعاقدي هو فعل مؤسس للدولة الحديثة وفعل مؤسس كذلك للمجتمع المدني, مما قد يحدث تناقضا أساسيا بين مساعي الدولة ومطامح المجتمع, وهما يحظيان بنفس الشرعية السياسية(7). وكيف لا يحسم هذا التناقض على حساب المجتمع, والدولة تحتكر حق اللجوء إلى العنف الشرعي؟
ـ حداثة التقدم الاقتصادي, يقابلها الاغتراب والاستغلال والتفقير.
ـ حداثة المجتمع المدني, يقابلها المفهوم التجريدي للدولة. يرى ماركس أن الدولة "المجردة" المتعالية على الطبقات الاجتماعية, تعد من السمات المميزة للحداثة السياسية(8).
وبالتالي فالحداثة في معانيها الإيجابية والمثالية تحيل على الفكر والقيم, وفي معانيها السلبية تحيل على الواقع المعيش. انفصام المجتمع بين فكر مستنير, عقلاني, ديمقراطي وواقع إستلابي, إقصائي, مأساوي. ولعل مفهوم الحداثة يحمل في ذاته بنية تناقضية وحركية ذات اتجاهات متعارضة(9).

3 – فاوست والحداثة:
ومسرحية فاوست (FAUST) لغوته (GOETHE), كانت تعبيرا شاعريا ودراميا لهذه البنية التناقضية المحايثة للحداثة(10).
فالحداثة لكي تصل إلى أهدافها, وهي أهداف نبيلة في مبدئها, كالتنمية والتطور, قد تضحي بأعداد مهولة من البشر(11).
أسطورة فاوست تحكي قصة إنسان ممزق الوجدان, يسعى إلى تحقيق غايات حميدة, ولكن يرى نفسه مرغما على التحالف مع "قوى جهنمية"(12) والقيام بأعمال دنيئة ووضيعة. يقول برمان: "تكمن بطولة بطل غوته في تحرير طاقات بشرية هائلة كانت مكبوتة, ليس فقط في ذاته بل في جميع من يتصل بهم وبالتالي في المجتمع المحيط به ككل. غير أن التطورات التي يطلقها –على الأصعدة الفكرية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية- لا تلبث أن تتطلب أثمانا بشرية باهظة. ذلك هو معنى علاقة فاوست بالشيطان: لا يمكن تطوير القوى البشرية إلا عبر ما أطلق عليه ماركس اسم "قوى العالم السفلي" (القوى الجهنمية), تلك الطاقات الظلامية المرعبة التي قد تفلت بقواها الهائلة غير القابلة لأن تخضع لأية سيطرة إنسانية. تشكل مسرحية فاوست لغوته تراجديا التنمية الأولى ومازالت هي التراجيديا التنموية الأفضل حتى اليوم"(13) (*).

4 – الحداثة بين مكيافلي وتوماس مور:
مكيافلي وتوماس مور ينتميان إلى نفس الحقبة التاريخية, أي القرن السادس عشر, لكن اختلافهما الفكري يثير الاستغراب.
إذا كانت الواقعية السياسية لمكيافلي تكشف لنا عن فضاء سياسي رهيب ومخيف, فتوماس مور يحلق بنا في سماء اليوتوبيا ويتحدث لنا عن مدينة فاضلة, تسودها أسمى القيم الإنسانية. على أن عددا كبيرا من النقاد يجزمون بصفة قطعية أن تلك المدينة, وإن غدت الخيال السياسي, تبقى بعيدة عن الواقع, بل مفارقة له وغير قابلة للتحقيق الفعلي. هذا يسوقنا إلى تساءل آخر, مؤداه:
إذا كانت المدائن الفاضلة, كما تجلت في كتابات أفلاطون والفرابي وتوماس مور لا تعدو أن تكون تمثلات خيالية وحالمة, لا يمكنها التأثير على سيرة الإنسان, كيف يمكن تفسير تعلق الجماهير منذ أواسط القرن التاسع عشر بشعار الثورة, ومناداتها بالمجتمع الشيوعي, الذي سوف يعيد للبشرية, بمعنى من المعاني, عصرها الذهبي المفقود. لماذا يثير مكيافلي الإعجاب والانبهار ويثير توماس مور اللامبالاة والازدراء؟ هل تمثل الإنسانية ذاتها سلبا, في صور قاتمة, وترى أن عالم ميكيافلي, بقساوته ورذائله, هو أقرب إلى حقيقتها من عالم الحكمة والفضيلة لتوماس مور؟
وكلما تحدث إنسان عن عوالم أخرى, مغايرة, فاضلة, يقابل بالازدراء, إن لم يقابل بالاضطهاد والعنف؟

II – السمات الكبرى للحداثة:
1 – بروز الذاتية والرغبة في السيطرة:
إن الاكتشافات العلمية قادت إلى خلاصة مثيرة مفادها أن الحقيقة هي باطنية في الطبيعة ولم تبق تأملية ومتعالية كما كانت عليه في العصور القديمة(14).
وبفضل العقل يمكن الكشف عن القوانين الطبيعية والقوانين التاريخية والقوانين الاجتماعية, فالعقل ينفذ إلى خبايا الأشياء, ويدرك البنى الخفية. لكن, ما هي الأهداف المتوخاة من ذلك؟
إن الحقيقة التي ينشدها الإنسان في زمن الحداثة ليست عبثية أو اعتباطية, إنها حقيقة مسخرة للسيطرة على الطبيعة, وللتحكم في التاريخ ولضبط المجتمع. كان العقل عند أفلاطون يفيد الحكمة والفضيلة وكان عند الفرابي يفيد الخير والسعادة. أما العقل الحديث فصار يعني السيطرة على الأشياء ويقترن بالفعالية والذرائعية. إن العقل هو الأداة الضرورية للوصول إلى أهداف معينة. ومن ثمة, غدا العقل أداتيا وفي خدمة المصالح والمنافع(15).
والمنفعة تحول القيم السياسية إلى اختيارات استراتيجية, تتغير بتغير الأحوال والظروف. هذا التصور يأخذ في الدول النامية طابعا دراميا, حيث تبدو هذه الدول وكأنها في تأرجح دائم بين سياسات شبه ديمقراطية وسياسات سلطوية.

2 – حداثة الأخلاق: المنفعة.
ميز هنرى سيدويك في كتابه مناهج الأخلاق بين الأخلاق القديمة والأخلاق الحديثة, باعتبار أن الأولى كانت ترتكز على مفهوم الخير والثانية على مفهوم العدالة(16).
إن الفكر القيمي القديم كان يضفي على الأخلاق طابعا جذابا, أما الفكر الحديث فيضفي عليها طابعا إلزاميا وآمرا. فالخير عند القدامى يقوم على الفضيلة ويقود إلى الانسجام الروحي وإلى السعادة.

ويمكن القول أن كانط هو الذي وضع الصياغة النظرية لهذا التصور الحديث للأخلاق, لما اعتبر أن الخير والعدالة لا يمكن تحديدهما بصفة قبلية, ولكن بصفة بعدية, حسب ما ينص عليه القانون. ذلك أن السعادة في نظر كانط تحمل معاني متعددة, وتختلف باختلاف طبائع الناس, لذا, يرى أن الأخلاق يجب أن تقوم على الواجب, والواجب ينحدر من الوعي الأخلاقي المحايث للعقل البشري(17).
على أن اتجاهات أخرى في نظرية القيم أثبتت أنه لا يمكن إلزام الإنسان بالأخلاق إذا لم يكن يرى فيها منفعة أو مصلحة, لذا, يتحتم ربط الأخلاق بالمنفعة. ففي الكتابات الأخلاقية لدافيد هيوم وجريمي بنتهام, تفقد القيم قدسيتها, وتبدو وكأنها وليدة علاقات اجتماعية معينة, وتتحول إلى قيم شبه-اقتصادية(18). فالإنسان تقوده حسابات عقلانية وأنانية, ذلك أن الإنسان يبحث عن مصلحته الذاتية أساسا, ولما كانت مصلحة كل إنسان لا تتعارض بالضرورة مع مصلحة الآخرين, فتكون بالتالي في مصلحة الجميع.
فاختلاف المصالح يؤدي إلى التنافس بين الناس ويفضي في آخر المطاف إلى التقدم الاقتصادي. في خرافة النحل نصادف مادفيل (MANDEVILLE) وهو يماثل المجتمع البشري بالمجتمع الحيواني.
إن الغرائز نجدها سائدة ومتحكمة في كلا المجتمعين, فهي التي تحدد الأهداف والسلوكات. على أن هذه الغرائز هي في ترابط بينها, في انسجام تام بينها, مما يقود إلى حركية متواصلة ودائمة, نافعة ومنتجة(19).

3 – موجات الحداثة الثلاث وانحدار الفلسفة السياسية:
ذهب ليو ستووس إلى أن الحداثة الفكرية والسياسية, مرت بثلاث مراحل (= أو موجات) أساسية(20):
أ ـ الموجة الأولى تقترن باسم مكيافلي وهوبز:
سعى الفكر الإنساني في بدايات زمن الحداثة إلى تقريب الوجود من واجب الوجود, بمعنى آخر, إلى تقريب واجب الوجود (المثال), من الإنسان الواقعي بطبائعه وأهوائه.
كانت الطبيعة عند القدامى تحمل معاني ودلالات بالنسبة للإنسان, حيث أنها انسجام وتناغم وترابط, وكان الإنسان يسعى إلى محاكاة الطبيعة في حياته, في نظامه الاجتماعي والسياسي. وهذا المنحى في الفكر كان لا متناهيا, لا تحده حدود, لأن الطبيعة والكون يحيلان إلى مثال مطلق, فأفلاطون لما يتحدث عن الإنسان المطلق, فلا يعني به أوصافا معينة, بل يعني به الإنسان الواعي بأن إنسانيته ليست متناهية, ويمكن دوما تقريبها من مثال يبتعد كلما دنا منه.
كان الإنسان مقياس كل شيء, وكل تفكير في السياسة كان يوجب الانطلاق من المثال المطلق لإنسانية الإنسان ويفرض التقرب منه(21).
أما في العصر الحديث فلم تبق الطبيعة دالة على شيء بالنسبة للإنسان, وصارت تقترن بالفوضى واللامعنى, فغدا الإنسان يسعى إلى ضبطها والإمساك بها والسيطرة عليها. كانت الطبيعة قدوة يقتدى بها وأصبحت مادة مسخرة لأغراض الإنسان, ونلمس هنا مدى تأثير فلسفة هيدجر على ليوستروس الذي يرى أن الإنسان لم يعد مقياس كل شيء بل "سيد كل شيء".
وصار التاريخ يقوم بدور الوسيط بين الوجود وواجب الوجود, ذلك أن مثال الوجود قد يتحقق بالفعل عن طريق انفعالات وأهواء البشر, بدون قصد منهم, وهنا تكمن "حيلة التاريخ", إن أفعال الإنسان قد تبدو وضيعة, لكن يجب قبولها اضطرارا, وعدم التنديد بها لأنها في الواقع قد تكون في مصالح مسار التاريخ الإنساني.
هذه الرؤية التي أضفت على الأخلاق طابعا نفعيا وذرائعيا هي التي تجلت في كتابات مكيافلي وتوماس هوبز.
فمكيافلي ذهب إلى أن القضايا الإنسانية يجب إيجاد حلول لها بطرق سياسية واقعية وبراغماتية.
كان القدامى يعتبرون أن البحث عن النظام الأمثل يشكل عملا دؤوبا ومتواصلا، يصعب ضبطه والتحكم فيه, وتعترضه عوائق مختلفة, وقد تواكبه أحداث ووقائع ناتجة عن الصدفة.
أما ماكيافلي فيرى أنه لا داعي لترك مجال للصدفة, فالقوة السياسية يمكنها التحكم في كل شيء. وهذا يعني أن مكيافلي أبعد عن ذهنه الإشكال المرتبط بالنظام السياسي الأليق بالإنسان, فما يهمه هو ضبط المجتمع واحتواء الأزمات وتجاوز الانقسامية والتجزيئية في المجتمع. وصار للسياسة معنى أداتيا وتقنيا, حيث صارت تقترن بالضبط والسيطرة(22).
وذات الرؤية نصادفها عند هوبر الذي اهتم بالطرق والمسالك السياسية التي يمكن على أساسها تجاوز "حالة حرب الجميع ضد الجميع".
وأفضت هذه النظريات إلى التاريخانية, إلى نفي الفلسفة السياسية, ولم تبق الفضيلة هي غاية السياسة, بل صارت في خدمة الجمهورية.
إن الجمهورية تستوجب الفضيلة, لأن الفضيلة ضرورية لبقائها واستمرارها, ولم يعد بالتالي ممكنا التفكير في الأخلاق في ذاتها وخارج المجتمع السياسي.
إن الأخلاق شرط من شروط الجمهورية ليس إلا, وهذا يعني أن الأمير يمكنه أن يتظاهر بالفضيلة دون أن يؤمن بها.
ب ـ الموجة الثانية تقترن باسم روسو:
انتقد روسو في البداية التوجهات الفكرية لموجة الحداثة الأولى, واعتبر أنه يجب العودة إلى القدامى وإحياء التراث القديم والمناداة بالقانون الطبيعي.
وفي الواقع, أضفى روسو طابعا راديكاليا على النزعة التاريخية التي لمسناها عند مكيافلي وتوماس هوبز. فهوبز ذهب إلى أنه لا يمكن إبعاد كليا القانون الطبيعي, بل يجب استحضاره ودراسته في الطور الطبيعي للإنسان. إن القانون الطبيعي كان يحيل قديما إلى المثل العليا, ويرمز إلى غايات الإنسان المثلى بعيدا عن كل واقع متعين, وصار يعنى عند هوبر الطور البدائي, ويحيل إلى المرحلة التاريخية الأولى للإنسان
ويخلص هوبز إلى نتيجة مفادها أن القانون الطبيعي كشف عن حقيقة أساسية لدى الإنسان وهي: أن الإنسان في الحالة الطبيعية تغلب عليه الغرائز والأهواء. إن هوى الإنسان الأكثر تجدرا, بنظره, هو "خوفه من الموت العنيف بفعل الآخر".
أما روسو وإن تظاهر بمعارضته لفكر هوبز, فهو أقر بمنطلقاته الأولى واعتبر أن القانون الطبيعي يشير إلى الحالة الطبيعية السابقة على الدولة: وهذا يعني أن روسو لم يكن يؤمن بمثالية القانون الطبيعي وبماهيته الغائية.
وذهب روسو إلى أن الإنسان في طوره الأول لم يكن له وعي أخلاقي, لم يكن يميز بين الرذيلة والفضيلة, كان إنسانا "متوحشا", إنسانا يعيش بالفطرة. لذا نجد ليو ستروس يقول: "يكون الإنسان في الحالة الطبيعية أقل من الإنسان أو إنسانا ما قبل الإنسان"(23).
ذهب هوبز إلى أن الحالة الطبيعية تبين الحقوق التي كان يتمتع بها الإنسان سابقا والتي يتعين على الدولة صيانتها والحفاظ عليها, والأخلاق عند هوبز هي الواجبات التي يتعين على الإنسان احترامها, إذا رغب في السلام والطمأنينة.
سعى روسو إلى الابتعاد عن الطابع النفعي للأخلاق, كما تجلى في كتابات هوبز, فيعتبر أن الواجبات المرتبطة بالقانون تنحدر من الحقوق الأساسية, وتحديدا من الحرية, كيف ذلك؟
إن الإنسان البدائي, بما أنه أقل من الإنسان, فهو يكتسب إنسانيته, عن طريق التاريخ, بمعنى عن طريق المجتمع, فالتاريخية حلت محل طبيعانية القدامى. على أن التاريخ لا يمكن أن يكون أساسا ومعيارا لتقييم التقدم البشري. إذ, كيف يمكن القول أن الإنسان يسير في اتجاه إيجابي أو في اتجاه سلبي؟
وهذا ما دعا روسو إلى اللجوء إلى معيار خارج التاريخ, مستوحى من حالة طبيعية مفترضة, فالقانون الطبيعي الذي كان سائدا في الحالة الطبيعية السابقة على الدولة, هو المقياس الأعلى الذي يعطي معنى لمسار التاريخ.
وإن كان الإنسان يبدو "متوحشا" في طوره الطبيعي, فكان متحررا من كل القيود, كان ينعم بالاستقلال الذاتي, بالحرية, وتبعا لذلك, صارت الحرية المقياس الوحيد الذي يمكن على أساسه تقييم نظام اجتماعي أو سياسي. على أن الحرية تبقى عند روسو غير محددة وغير مضبوطة, وبالتالي, فما هي الغايات المتوخاة من الحرية, وكيف يمكن تمييزها عن الإباحية؟

يرى روسو أن الحرية قد تنبعث من جديد, وفي صورة أرقى, في مجتمع ينبني على الإرادة العامة, إن الإرادة العامة تعبر عن رغبات ومطامح الجميع, فهي تعبر عن الخير المشترك, فهي بالتالي ديمقراطية وعقلانية "ومعصومة من الخطأ"(24). ونتساءل: ما هو مقياس العقلانية عند روسو؟ إن العقلانية تقترن بنظره بالديمقراطية والمشاركة السياسية, حيث أنها تتجسد في قوانين تعبر عن الإرادة العامة, بمعنى أنها تعبر عن مصالح الجميع, بدون تمايز, وتفاضل؛ على أن العقلانية عند القدامى كانت مرتبطة بسعادة الإنسان, وكان يفكر فيها انطلاقا من المثال المطلق لإنسانية الإنسان.
إن أمثل القوانين عند روسو هي التي يشارك جميع المواطنين في وضعها, أما عند القدامى فهي القوانين التي تحاكي الطبيعة والتي تحمل أسمى القيم الإنسانية.

ويمكن القول بصفة عامة أن النظريات السياسية صارت ترتكز على تصورات أنثروبولوجية مستوحاة من طبائع الإنسان الواقعية أو المفترضة. في حين, كانت الأنثروبولوجية الفلسفية, عند القدامى, تنطلق من الإنسان المطلق المتحرر من شوائب الواقع.

ج ـ الموجة الثالثة تقترن باسم نيتشه:
إذا كان روسو يميل إلى الاعتقاد بأن الإرادة العامة ستقود المجتمع إلى التعايش في انسجام مع الطبيعة وستثير في الإنسان الإحساس بالطمأنينة والسكينة, فنيتشه يرى أن قضايا الإنسان لا يمكن حلها عن طريق السياسة. فالوجود يثير في الإنسان الإحساس بالقلق والخوف أكثر مما يثير فيه الإحساس بالطمأنينة. هذا القلق الوجداني يرتبط بمأساة الحياة. وهذا الإشكال هو لصيق بالإنسان بصفته إنسانا وليس هناك نظام سياسي كفيل بحله.
إن أغلب الفلاسفة انطلقوا من طبيعة الإنسان كما بدت لهم في عصرهم وسعوا إلى صياغة نظريات سياسية تتوخى العالمية والكونية, وفي الواقع, لم يدرك هؤلاء الفلاسفة أهمية التاريخ. على أن مائة سنة فصلت روسو عن نيتشه. وخلال هذه السنوات برز التاريخ بكل ما يحمله من معاني ودلالات في كتابات هيجل.

بالفعل, اعتبر هذا الأخير أن الصيرورة التاريخية تسير بصفة تكاد تكون حتمية نحو تقدم متواصل, ونحو "الدولة المطلقة", التي تمثل في ذات الوقت نهاية التاريخ. إن الحداثة لدى هيجل أضفت طابعا زمنيا على المسيحية. على أن الفكر الذي ظهر بعد هيجل لم يقبل تصوراته؛ فنيتشه ذهب إلى أن التاريخ يبقى بدون معنى ولا يمكن في كل الأحوال التنبؤ بمساره. إن التاريخ لا يتقدم بصفة حتمية, إنه قد يتقدم بالفعل, ولكن انطلاقا من أفعال الإنسان ومن إرادته الواعية والحرة ومن إبداعاته ومشاريعه ومن المثل التي يؤمن بها. هذه المثل تبقى مرتبطة بثقافة الشعوب وبهويتها. وتاليا, لا يمكن الحديث عن مثل عالمية تنطبق على كافة الشعوب.
إن الحداثة بنظر نيتشه أضفت طابعا تجريديا على القيم الأخلاقية. إن القيم هي في الواقع لصيقة بحياة الإنسان وبوجدانه وهي وليدة المجتمع في لحظات من تاريخه, وهي مرتبطة بثقافته ومعتقداته؛ وبالتالي, فالقيم تتغير وتتبدل حسب ظروف الزمان والمكان. هذه الرؤية النسبية حيال القيم هي التي انتهت بنظر ليو ستروس إلى العدمية وقادت تاريخيا إلى إفراز الحركة النازية في ألمانيا(25).
وفي الختام يمكن القول أن طروحات ليو ستروس وإن كانت قابلة للنقد في بعض جوانبها(26), فهي تلتقي مع خلاصات فيلسوف ينتمي إلى اتجاه فكري مغاير تماما وهو يورغن هابرمس(27).

4 – الفصل بين السياسة والفلسفة:
في القرن العشرين وامتدادا "للفيزياء الاجتماعية" (AUGUSTE COMTE) التي ظهرت في القرن التاسع عشر, برزت نظريات تنادي بفصل السياسة عن الفلسفة وتنادي بربط المعرفة السياسية بمعايير في غاية من الصرامة العلمية, مستوحاة في غالبيتها من العلوم الطبيعية, وكتاب كارل بوبر المجتمع المفتوح ضد أعدائه يمثل هذا الاتجاه. كانت السياسة عند القدامى (أفلاطون, أرسطو, الفارابي, على سبيل المثال…) تعد امتدادا طبيعيا للفلسفة, بل ترتبط بها ارتباطا حميميا. بيد أن حداثة القرن العشرين دعت إلى التفريق بين السياسة والفلسفة وغدت السياسة مختزلة في الدولة والمؤسسات والأحزاب السياسية, وتم عزلها عن قضايا إنسانية في غاية من الأهمية. وصارت السياسة تحيل إلى مجتمع قائم بذاته (ما يسمى بالمجتمع السياسي), يختلف عن مجتمع آخر, لا سياسي (ما يسمى بالمجتمع المدني). مجتمعان إذن في مجتمع واحد. نسيان الوجود الذي تحدث عنه هيدجر لا يخص الفلسفة فقط بل يطال الفكر السياسي في أغلب مناحيه الحديثة.
ولما غدا الفكر السياسي يطمح إلى المعرفة الثابتة والعلمية ويسعى إلى محاكاة مناهج العلوم الطبيعية, صار يبحث عن المجالات القابلة للإختبارية, للبرهانية, والقابلة للإحصاءات والنماذج الرياضية, فابتعد عن العقل العملي. وصار البحث السياسي له طابع تجزيئي وقطاعي.

5 – انحسار السياسة وغيابها:
على مستوى الفكر أولا:
مما يلفت النظر أن عددا كبيرا من الفلاسفة في زمن الحداثة سعوا إلى التفكير في السياسة بطرق هندسية ورياضية. وهذا برز بكل وضوح وجلاء في نظريات هوبز ولا يبنز (LEIBNIZ) وكوندرسي (CONDORCET), ولم يكن هؤلاء واعين, على ما يبدو, بأن في هذا نسفا وتدميرا للسياسة. هذا التوجه ترسخ في النظريات التحليلية المعاصرة التي تعتمد على مناهج مستوحاة من "السبرنتيقا" (LA CYBERNETIQUE), كنظريات إستون (EASTON) وألموند (ALMOND) وبارسون (PARSONS).

على مستوى الواقع ثانيا:
إن السياسة التي تعني في عمقها التحاور والتداول والتواصل, ظهرت في أثينا الديمقراطية وفي روما الجمهورية ثم اختفت هذه السياسة, ولم تنجل ثانية إلا في المراحل الثورية وفي اللحظات التاريخية التي تعقبها. إن كتابات حنا أرنت في هذا المجال تعد في غاية من الأهمية. ذلك أنها ذهبت إلى أن جدلية الخفاء والتجلي صارت تحكم السياسة(28). إن نظام أثينا الذي افرز سياسة تواصلية وتفاعلية, لا تقيم تمييزا بين الحاكم والمحكوم, غدى المخيال السياسي لفلاسفة ينتمون إلى اتجاهات فكرية متباينة؛ كماركس وحنا أرنت وهابرماس.

إن تطور السياسة بمعناها المكيافلي (الدهاء والحيلة والعنف…) وامتداداتها المعاصرة عند كارل سميث وجليان فروند (الزعامة, القيادة, الطاعة, العنف…)(29), يعبر عن أزمة الفكر واختناقه وأزمة القيم واضطرابها, ويدل كذلك على اختفاء السياسة في ماهيتها الحقيقية.
فلما طغت الذاتية وهيمن العقل الأداتي, وسادت إرادة القوة, تحولت السياسة إلى تقنية, إلى تكنولوجيا للضبط الاجتماعي. مما أفضى إلى بروز مظاهر عنيفة في غاية من الخطورة فظهر ما أسمته حنا أرنت "بالشر المحض" أو "بالشر الراديكالي" (LE MAL RADICAL), والذي ترتب على النازية(30). إن حداثة العنف تتمثل في هذا الشر السياسي الذي لا مثيل له عبر التاريخ, حيث كان مخططا بشكل رهيب من طرف بروقراطية متحكمة وكليانية وتدعي "العلمية".
إن الدولة النازية اعتمدت بهدف تبرير سياساتها إلى النظريات التطورية المستوحاة من كتابات داروين, والتي تنادي بالحفاظ على تفاوت الأجناس وعلى نقائها. إن "الإبادة العلمية" لليهود, بدت وكأنها طبيعية وعادية, بل مبتذلة, ولم تثر أي قلق وجداني عند القادة النازيين والمتواطئين معهم(31).
إن أسطورة فاوست تبدو متجاوزة في القرن العشرين لما امتزج العلم بالإيديولوجية وتجسد الحكم في بيوقراطيات تتنامى باضطراد, واغترب الإنسان واختفت السياسة.
في رواية "صمت عروسات البحر" (LE SILENCE DES SIRENES) لكافكا(32) نرى أوليس (ULYSSE) الذي يرمز إلى السياسة, حائرا وتائها بين أمواج البحر وعروسات البحر صامتة, لا ترغب في النشيد, غير مكثرتة به, ويتيه أوليس عن طريقه نهائيا ولا يتمكن من العودة إلى بلده. هذا هو مآل السياسة في زمن الحداثة عند كافكا إذ تحولت السياسة إلى طيف يحوم حول مجتمعات لا ترغب في وجوده. فهل صارت السياسة بدون وطن, بدون مكان, بدون فضاء؟
وإذا كان الأدباء والفلاسفة في أوربا يتحدثون عن اغتراب السياسة وعن غيابها في مجتمعاتهم الديمقراطية فما عسانا أن نقوله نحن عن السياسة في مجتمعاتنا العربية التي تعرف في معظمها أنظمة تسلطية؟

6 – العودة إلى أصول الحداثة؟
هل يجب نقض الحداثة وإبعادها كليا عن كل المجتمعات التي تطمح إلى التحرر والانعتاق, بعيدا عن زيف الإيديولوجيات المخادعة؟
يمكن أن نلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين إلى نقد الحداثة(33) وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة, انطلاقا من تجارب التاريخ. على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية في ذات الوقت (على سبيل المثال, الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا, الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا…)؛ إن صعود وتنامي الفاشيات في أوروبا ارتكز على طروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن.

إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها(34). ألا يجب بالأحرى أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذهب إليه هابرماس في هذا الموضوع, حيث أنه دعا إلى التفريق بين قيم الحداثة والتي لا يماري أحد في أهميتها والواقع التاريخي الذي يتحكم فيه التركيب الاجتماعي وطبيعة الطبقات السائدة(35)؟  n

المراجع:
1 – ARENDT, HANNAH, Eichman à Jerusalem. Rapport sur la banalité au mal , Gallimard, 1966
2 – ARENDT, HANNAH, La crise de la culture , Gallimard, 1972.
3 – BERLIN, ISAIAH, Le bois tordu de l’humanité Albin Michel, 1992.
4 – BERMAN, MARSHALL, All that is solid melts into air. The experience of modernity, Verso, 1983.
ترجم إلى اللغة العربية بهذا العنوان: حداثة التخلق. تجربة الحداثة, الترجمة لفاضل جتكر, مؤسسة عيبال, 1993.
5 – BIDET, JACQUES, Théorie de la modernité, PUF, 1990.
6 – BORELLA, FRANCOIS, Critique du savoir politique, PUF, 1990.
7 – DABEZIES, ANDRE, Le mythe de faust, Armand collin, 1990.
8 – CASTORIADIS, C., Les carrefours du Labyrinthe II, Seuil, 1989.

9 – CASSIRER, ERNST, La philosophie des lumières. FAYARD, 1986.
10 – DUCHET, MICHELE, Anthropologie et histoire au siècle des lumières, Albin Michel, 1995.
11 – FERRY, LUC, Philosophie politique, PUF, 1984, (Tome 1).
12 – FERRY, LUC, RENAUT ANDRE, Système et critique, Ousia, 1992.
13 – FREUND, JULIEN,  L’essence du politique, Sirey, 1965.
14 – GAUTIER, CLAUDE, L’invention de la société civile, PUF, 1993.
14 – GUTHRIE, W.C.K., Les sophistes, Payot, 1997.
15 – HABERMAS, JURGEN, Discours philosophique de la modernité, Gallimard, 1988.
16 – HABERMAS, JURGEN, La modernité un projet inachevé, Critique, 413, oct.1981.
17 – HABERMAS, JURGEN, Théorie et pratique, Payot, 1975 (Tome 1).
18 – HORKHEIMER MAX, THEODOR, W.ADORNO, La dialectique de la raison, Gallimard, 1974.
19 – KAFKA FRANZ, Oeuvres complétés, bibliothèque de la pleiade, 1980 (Tome 2)
20 – KERVEGAN, JEAN-FRANCOIS, Hegel et Carl Schmitt. La politique entre spéculation et positivité, PUF, 1993.
21 – LARMORE, CHARLES, Modernité et morale , PUF, 1993.
22 – LEFEBVRE, HENRI, Introduction à la modernité , Minuit, 1962.
23 – MACPHERSON, C.B, Théorie politique de l’individualisme possessif , Gallimard, 1971.
24 – MESHONNIC, HENRI,  Modernité, modernité, Verdier, 1988.
25 – ROSANVALLON, PIERRE, Le sacre du citoyen , Gallimard, 1992.
26 – ROVIELLO, ANNE MARIE, Sens commun et modernité chez Hannah Arendt, Ousia, 1987.
27 – SALA-MOLINS, LOUIS, Les misères des lumières, R.LAFFONT, 1992.
28 – STERNHELL, ZEEV, L’eternel retoure, Presses de la F.N.S.P., 1194.
29 – STRAUSS, LEO, Political philosophy, The Bobbsmeril company, indianapolis, New York, 1975.
30 – TOURAINE, ALAIN, Critique de la modernité, FAYARD, 1992.
31 – WEBER, MAX, Economie et société, Presses Pocket, Tome II, 1995.
32 – WIGGERSHAUS, ROLF, L’Ecole de Francfort, PUF, 1993.


(1) C.CASTORIADIS, Les carrefours du labyrinthe II, Seuil, 1989, pp261 et s (La polis Grecque et la création de la démocratie).
(2) W.C.K. GUTHRIE, Les sophistes, Payot, 1971, pp9 et s.. Sur les rapports entre la sophistique et le siècle des lumières, cf.ERNST CASSIRER,  La philosophie des lumières, Fayard, 1996, pp306 et s.
(3)  HABERMAS, JURGEN, Le discours philosophique de la modernité, Gallimard, 1988, pp2 et s.
(4) « Semblable à Homere, la modernité, de nombreuses villes se disputent sa naissance. Et les naissances sont nombreuses, et ne peut pas être finie ».
HENRI MESHONNIC,  Modernité, Modernité, Verdier, 1988, p31.
(5) Louis SALA-MOLINS, Les misères des lumières, Robert LAFFONT, 1992, pp74 et s. cf, aussi, Michèle DUCHET, Anthropologie et histoire au siècle des lumières, Albin Michel, 1995, pp194 et s.
(6) Sur les liens entre la propriété et le droit de vote dans la pensée anglaise (Hobbes-J.HARRINTON, Les Nivellers-J.Locke..) cf.C.B.MACPHERSON, Théorie politique de l’individualisme possessif, Gallimard, 1971, cf.18, p120, p177 et p214.
-Sur les mêmes liens dans la pensée et la pratique française, cf.Pierre Rosanvallon, La sacre du citoyen, Gallimard, 1992, pp45 et s.
(7) JACQUES BUDET, Théorie de la modernité, PUF, 1990, pp18 et s.
(8) HENRI LE FEBVRE, Introduction à la modernité, Minuit, 1962, pp169 et s.
(9) HENRI MESHONNIC, op.cit., pp67 et s.
(10) اعتبر الأديب الروسي بوشكين (POUCHKINE) أن مسرحية فاوست تمثل "إليادة الحياة الحديثة".
انظر: مارشال برمان, حداثة التخلف, ترجمة فاضل جتكر, مؤسسة عيبال للدراسات والنشر, 1993, ص31.
(11) مارشال برمان, فنس المرجع, ص31.
(12) مارشال برمان, نفس المرجع, ص34.

انظر كذلك:

ANDRE DABEZIES, Le mythe de faust, Armand collin, 1990, voir en particulier le chapitre : « Génèse et structure du drame de Goethe», pp61 et s.
(13) مارشال برمان, نفس المرجع, ص32 – 33 – 34.
(*) إن أول تحليل لتوجهات العقل الحديث نصادفه في كتابات ماكس فيبر, وتحديدا في كتاب الاقتصاد والمجتمع.
انظر:MAX WEBER, Economie et société (tome 1), Presses Pocket, 1995, pp55 et s.

على أن أهم تقييم نقدي للعقل والحداثة نجده في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت, في كتابات هوركايمر وأدورنو وماركوز وهابرماس الخ…
انظر: ROLF WIGGERSHAUS, L'école de francfort  PUF, 1993, pp249 et s.
انظر: MAX HORKHEIMER, THEODOR ADRNO, La dialectique de la raison Gallimard, 1974.
JURGEN HABERMAS, Theorie et pratique, Payot, 1975, (tome 1), pp70 et s.
(14)  FRANCOIS BORELLA, Critique du savoir politique,  PUF, 1990, pp19 et s.
(15)  LUC FERRY et ANDRE RENAUT, Système et critique, Ousia, 1992, p121.
(16) HENRY SIDGWICK « The methods of ethics, » in Charles Larmore, Modernité et morale, PUF, 1993, pp45 et s.
(17)  CAHRLES LARMORE, op.cit, pp52 et s.
(18)  CLAUDE GAUTIER, L’invention de la société civile, PUF, 1993, pp34 et s.
(19) CLAUDE GAUTIER, op.cit, pp161 et s.
(20) LEO STRAUSS, « The three waves of modernity » in Political philosophy The Bobbs-Meril Compagny, Indianapolis, New York, 1975, p81.
(21) Ibidem, p85.
(22) «The characteristics of the first wave of modernity were the reduction of the moral and politique problem to a thechnical problem (…) », Leo Strauss, op. cit, p89.
(23)«Man in the state of nature is subhuman or prehuman, his humanity or rationality have been aquierd in a long process », Leo Strauss, op.cit, p90.
(24)  Leo Strauss, op.cit, p91.
(25) Leo Strauss, op.cit, p98.
(26) LUC FERRY, Philosophie politique Tome 1, PUF 1984, cf. en particulier le chapitre « Les limites de la critique straussienne », p78.
(27) J.HABERMAS, Théorie et pratique, tome 1, pp80 et s.
(28) ANNE – Marie ROVIELLO, Sens Commun et modernité chez Hannah ARENDT, Ousia, 1987, pp13 et s.
cf. aussi, HANNAH ARENDT, La crise de la culture, op.cit, p121.
(29) JEAN–FRANCOIS, KERVEGAN, Hegel et Carl Shmitt. La politique entre la spéculation et la positivité , PUF, 1992, p83 et p183.
Cf. aussi, JULIEN FREUND, L’essence de la politique, SIREY, 1965, p101.
(30) HANNAH ARENDT, La crise de la culture, Gallimard, 1972, p121.
(31) HANNAH ARENDT, Eichman à Jérusalem. Rapport sur la banalité du mal , Gallimard, 1966, pp40 et s.
(32) FRANZ  KAFKA, « Le silence des sirenes », Oeuvres complètes, bibliothèque de la pleiade, 1980, tome 2, « Récits et fragments narratifs », pp542 et s.
(33) ALAIN TOURAINE, Critique de la modernité, Fayard, 1992, cf. en particulier le chapitre, « Les intellectuels contre la modernité », p175.
(34) ZEEV STERNHELL, L’Eternel retour, contre la démocratie, l’idéologie de la décadence, Presses de la F.N.S.P, 1994, p9, p73 et p131.
Cf. aussi, ISAIAH BERLIN, Le bois tordu de l’humanité, Albin Michel, 1992, p100.
(35)  J.HABERMAS, « La modernité, un projet inachevé », Critique, 413, oct. 1981.